الكتاب: نتائج الأفكار ، الأول
المؤلف: السيد الگلپايگاني
الجزء:
الوفاة: ١٤١٤
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: محرم الحرام ١٤١٣
المطبعة: أمير
الناشر: دار القرآن الكريم - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني (وفاة ١٤١٤)

نتائج الأفكار
في نجاسة الكفار
تقرير أبحاث
سماحة آية الله العظمى زعيم الحوزة العلمية
الحاج السيد محمد رضا الگلپايگاني
مد ظله
بقلم
سماحة الحجة الشيخ علي الكريمي الجهرمي
1

دار القرآن الكريم
الطبعة الأولى
التاريخ: غره محرم الحرام 1413 ه‍. ق
2

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المؤلف
الحمد لله الذي من علينا أن هدانا للاسلام - وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله
- وطهرنا من أدناس الكفر وعبادة الأوثان والأصنام التي هي أكبر الجرائم والآثام و
أعظم المعاصي العظام. وأفضل الصلاة والسلام على المبعوث إلى كافة الأنام الذي
علمنا معالم الحلال، وعلى آله الأئمة الأبرار الكرام ماكر الليالي والأيام و
من الآن إلى يوم القيام.
وبعد فإن أعظم خطر كان يهدد الانسانية منذ بدء الحياة ونشئ الانسان هو
خطر الكفر والالحاد، وأكبر داء يقضي على سعادة البشر وكيانه هو الشرك،
والانحراف عن مبدأ حياته، وأخطر فساد يعتري الكون وهذا النوع، الغفلة
عن الخالق، وانكاره، واصطناع آلهة دون الله يعبدون.
وأي خطر أعظم من سقوط الانسان عن سماء عظمة الانسانية إلى حضيض
أحط من عالم البهائم التي لا تعقل شيئا وأي خسارة أعظم من ابتعاده
عن الخالق العظيم والتحاقه بالشياطين ودخوله أبواب الشقاء نار جهنم خالدا فيها؟
وعلى هذا الأساس قال الله تبارك وتعالى: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا
3

فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " 1.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام؟ فمن يبتغ غير الاسلام دينا تتحقق شقوته
وتنفصم عروته وتعظم كبوته ويكن مآبه إلى الحزن الطويل والعذاب الوبيل. 2
وقد تصدى المكاتب السماوية لمحاربة الأديان الباطلة
والمذاهب المفتعلة الواهية التي تجمعها كلمة الكفر، كي يتخلص الانسان من
أنياب العقائد السخيفة الهدامة، ويتشرف بشرف التوحيد، والاقبال إلى الله تعالى،
الذي ليس له مثيل ولا عنه بديل، ومن طالع ما جاء به مكتب الوحي حول الكفار
وقرره الدين في المنحرفين عن التوحيد، يرى أن صفة الكفر الخبيثة تستتبع آثارا
خطيرة سيئة في الدنيا والآخرة:
أما في الآخرة فهو ما وعد الله تعالى لهم من العقوبات العظيمة
والعذاب الدائم، وقد أقسم الله سبحانه أن يملأ جهنم من الكافرين من الجنة والناس
أجمعين، ويحبسهم في أطباق النار ويعذبهم أشد العذاب. وإليك نبذا
من الآيات الكريمة القرآنية الواردة في هذا الشأن:
قال الله تعالى: " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين. " 3
وقال: " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملؤ الأرض ذهبا
ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم. " 4
وقال: " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من
عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم، يريدون أن يخرجوا من النار وما هم
بخارجين منها ولهم عذاب مقيم. " 5

1. سورة آل عمران الآية 85
2. نهج البلاغة الخطبة 161
3. سورة البقرة الآية 161
4. سورة آل عمران الآية 91
5. سورة المائدة الآيات 37 - 36.
4

وقال: " وويل للكافرين من عذاب شديد. " 1
وقال: " إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا. " 2
وقال: " الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا. " 3
وقال: " إنا اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا. " 4
إلى غير ذلك من الآيات القارعة النازلة في شأن الكافرين في الآخرة و
شدة عذابهم وعقوباتهم.
وأما في الحياة فقد خذل الله الكفار والملحدين، وحرمهم
من الكرامات، وشرع أحكاما للتعامل معهم والوقاية من شرهم وشقائهم،
كتحريم التناكح بينهم وبين المسلمين، ومنع دفنهم في مقابر المسلمين، إلى غير
ذلك.
ومن تلك الأحكام، الحكم بنجاستهم الذي حمل حكما بالغة، وأسرارا و
مصالح ظاهرة وفوائد مهمة قيمة قال الله الحكيم: " إنما المشركون نجس " 5
وأنت تعرف مدى تأثير هذا الحكم في الجوانب المختلفة: السياسية
والثقافية والاجتماعية.
ولا يزال المسلمون في ظلال تعاليم الاسلام السامية يرون الكفار أنجاسا
يجتنبون مجالستهم ومزاولتهم - إلا في حدود ما سمح به الحكم الشرعي -
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: امنعوا اليهود والنصارى من
دخول مساجد المسلمين واتبع نهيه قول الله تعالى: " إنما المشركون نجس " الآية 6
وأما أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم أجمعين الذين كانوا ممثلي
جوهر الاسلام - فقد دأبوا على تطبيق هذا الحكم الشرعي المقدس طوال القرون

1. سورة إبراهيم الآية 3
2. سورة الكهف الآية 102
3. سورة الفرقان الآية 26
4. سورة الدهر - الانسان - الآية 4
5. سورة التوبة الآية 28
6. مجمع البيان ج 3 ص 20.
5

والأعصار، بيد أنه وقع نوع اختلاف فني من بعض العلماء بالنسبة إلى بعض الكفار
وهم الكتابيون كما نسب القول بطهارتهم إلى بعض آخرين وإن لم يتحقق ذلك.
ونحن لم نعثر على من صرح بطهارة هذه الفرقة منهم، جزما 1
إلا المرجع الكبير الراحل السيد الحكيم قدس الله روحه الطاهرة ونور الله
مرقده الشريف فورد في مجلة عربية تحت عنوان: فتاوى تهمك:
س 3 - سمعت أن سماحتكم ترون طهارة أهل الكتاب فهل صحيح
ذلك؟ وفي أية حدود؟
ج - نعم الذي أراه طهارة أهل الكتاب طهارة ذاتية وإن كانت أبدانهم
تنجس عرضا بملاقاة النجاسة كالبول والدم والمني وغيرها من النجاسات فلو طهر
بدنه في الماء طهر وجازت مساورته ولا يتنجس 2
إلا أن هذا الرأي مهما كان مستدلا فهو خلاف ما هو المشهور بين الأصحاب
قديما وحديثا بل لعله خلاف المجمع عليه بينهم في الأعصار والأمصار.
وقد أسهبوا البحث واستقصوا الكلام في نجاسة الكافر مطلقا سواء أكان
كتابيا أو غير كتابي واستدلوا عليه وشيدوا بنيانه بأدلة عديدة وبراهين سديدة، بل
وقد ألفوا وصنفوا في خصوص الموضوع رسائل مستقلة.

1. وإلا فقد مال إليها بعض آخر أيضا ومنهم المحقق الكبير الآخوند الخراساني قدس سره قال
في اللمعات النيرة عند ذكر النجاسات: ثامنها الكافر بأي سبب من أسبابه وقد استدل على النجاسة
بأخبار كثيرة واردة في أهل الكتاب وغيرهم.
لكنه بعد ذلك قد قوى هو بنفسه أخبار الطهارة إلا أنه قال أخيرا: ومع ذلك كان الفتوى على
خلافهم جسارة وجرأة، والاحتياط طريق النجاة انتهى.
2. رسالة الاسلام عدد 201
3. منها: (فصل الخطاب وكنه الصواب) في نجاسة أهل الكتاب والنصاب لشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني م 1121، الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج 16 ص 233
ومنها رسالة في نجاسة ذبائح الكفار وصنايعهم، للبهائي م 1031، الذريعة ج 24 ص 65
ومنها رسالة في نجاسة الكافر فارسية مطبوعة لسيد بنده حسن بن سلطان العلماء محمد النقوي م
1295 ألفها في جواب سؤال ورد من لندن فأجاب عنه، الذريعة... ص 66
ومنها رسالة في نجاسة الكافر فارسية مطبوعة لممتاز العلماء... وهي أيضا في الجواب
عن السؤال المذكور، الذريعة... ص 66
ومنها رسالة في نجاسة الكافر لتاج العلماء... م 1311 فارسية مطبوعة، الذريعة... ص 66
ومنها رسالة في نجاسة الكافر، فارسية لميرزا محمد على صاحب الهندي وهي جواب استفتاء،
ط 1286 الذريعة... ص 66
ومنها رسالة في نجاسة الكافر لناصر حسين الجنفوري م 1313 الذريعة... ص 66
ومنها رسالة في نجاسة الكافر للقاضي نور الله المرعشي.... الذريعة.... ص 66
ومنها رسالة في نجاسة المشركين بالذات والصفة ليوسف الفقيه العاملي.. الذريعة... ص 66
6

واقتداءا بهم قدس الله أسرارهم كتبت هذه الرسالة التي بيدك
أيها القارئ الكريم.
وهي نبذة من محاضرات علمية ودراسات فقهية لسيد الفقهاء
والمجتهدين الذي لم يأل جهدا في خدمة الاسلام وكيان المسلمين،
سماحة المرجع الأعلى وأستاذنا الأكبر، آية الله العظمى، السيد محمد رضا الموسوي
الگلپايگاني مد ظله العالي، وقد ألقاها على جم غفير وجماعة كثيرة من رواد العلم
وعشاق الفضيلة الذين كانوا يجتمعون حوله ويحضرون مباحثه ودروسه العالية
في الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة، في سنة 1388 من الهجرة النبوية، وهي درر
لامعة، وجواهر ثمينة، التقطتها من بحر علم فقيه كبير قل ما يأتي الزمان له من
نظير، صانه الله عن المخاطر والحوادث وأدام ظله ذخرا لحوزة الاسلام ودفاعا
عن القرآن الكريم.
وقد سميت كتابي هذا ب‍ (نتائج الأفكار) في نجاسة الكفار، وأرجو من الله
تعالى - الذي لا يرجى إلا هو - أن يجعله واحسانه خدمة علمية تستتبع
رضوانه وقبول القارئ المحترم.
قال الله تعالى: " ورضوان من الله أكبر. " 1
وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ألا وإن اللسان الصالح يجعله الله
تعالى للمرء في الناس خير له من المال يورثه من لا يحمده 2
أكرمنا الله بالاهتداء بهداه وحرية النفس والتحرير من مكائد الأجانب

1. سورة التوبة الآية 72
2. نهج البلاغة الخطبة 118.
7

والكفار، عملة الأبالسة والشياطين، وأبادهم عن وجه الأرض وجعلهم
عبرة للناظرين.
جمادى الأولى سنة 1412 ه‍
علي الكريمي الجهرمي
8

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي رفع منازل العلماء وفضل مدادهم على دماء الشهداء
ونالوا بذلك نيابة خاتم الأوصياء والصلاة والسلام على خير خلقه
وأشرف بريته محمد خاتم الأنبياء وعلى آله الأمناء الكرماء واللعن
الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم ما دامت
الأرض والسماء وبعد فإن قرة عيني الفاضل المهذب العلامة
الحجة الحاج الشيخ علي الكريمي الجهرمي دام الله أيام إفاضاته
ممن سلك سبيل السلف الصالح وصرف عمره الشريف في تحصيل
العلوم الدينية والمعارف الحقة الاسلامية وتهذيب الملكات
النفسانية وحضر أبحاثنا العالية في الفقه حضور
تفهم وتحقيق وتعمق وتدقيق فدون ما ألقيناه وكتب ما
بيناه وعرض علينا كتابه المسمى به (نتائج الأفكار في نجاسة
الكفار) وقرأه علينا من المبد وإلى الختام فوجدناه حاويا
لما قررناه ببيان حسن وأسلوب بديع وتحقيق رائع فاستجازنا
في طبعه فأجزنا له فلله دره وعليه سبحانه أجره وكثر في العلماء
العاملين أمثاله والله تبارك وتعالى أسأل وإياه أرجو أن يزيد
في توفيقاته ويديم تأييداته والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
23 / شعبان المعظم ه‍ 1412
9

" بسم الله الرحمن الرحيم "
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته
أبي القاسم محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين ولعنة الله على
أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين 1
من جملة النجاسات التي بحث عنها الفقهاء، الكافر، فإنهم قدس الله
أسرارهم قالوا: النجاسات عشرة أنواع: الأول والثاني: البول والغائط مما لا يؤكل
لحمه إذا كان له نفس سائلة. الثالث: المني من كل حيوان ذي نفس سائلة. الرابع:
الميتة كذلك. الخامس: الدم، السادس والسابع: الكلب والخنزير. الثامن:
المسكرات، التاسع: الفقاع العاشر: الكافر.
قال المحقق في الشرايع: وضابطه كل من خرج عن الاسلام أو من انتحله و
جحد ما يعلم من الدين ضرورة كالخوارج والغلاة 2

1. نلفت أنظار القراء الكرام إلى أن سماحة سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله الشريف لا يزال يفتتح
دراساته وأبحاثه العالية بهذه الخطبة الشريفة نصا
2. راجع الشرايع طبع طهران ج 1 ص 53 - 51.
11

وقد استدل على نجاسة الكافر بأمور: الكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فبآيات كريمة منه.
منها قول الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا
يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله
إن شاء إن الله عليم حكيم. " 1
هذه الآية الكريمة من سورة التوبة المعروفة بالبراءة أيضا لأنها افتتحت بها
ونزلت باظهار البراءة من الكفار سنة تسع من الهجرة النبوية صلى الله عليه وآله و
كانت سنة ذات حركات مهمة ونهضات عظيمة تجاه الكفار، وكانت لها
ذكريات خالدة.
ومن جملة تلك الذكريات التي لها أهمية كبيرة في تاريخ الاسلام أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفع هذه السورة إلى أبي بكر أو لا كي يقرأها
على الناس بمكة ثم بعث عليا عليه السلام خلفه 2 ليأخذها منه ويقرأها بنفسه
على الناس بها فجاء وقرأها عليهم ونادى بالبراءة من المشركين، وقطع العصمة
والموالاة، بينهم، كما أن الله تعالى في هذه السنة وفي نفس السورة منع الكفار عن
عمارة المساجد أو المسجد الحرام، وأمر أن يكون ذلك بأيدي المسلمين 3 ثم قال
سبحانه بعد ذلك: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس. "
وجه الاستدلال بها إن الله تعالى نص فيها على نجاسة المشركين. وهم
جميع أصناف الكفار من الملحد وعابد صنم ويهودي ونصراني ومجوسي و

1. سورة التوبة الآية 28
2. ففي فصول المهمة لابن صباغ المالكي ص 24: روى الترمذي أنه صلى الله عليه وآله بعث ببراءة، أو قال:
سورة التوبة، مع أبي بكر ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي أو قال:
لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه فدعا عليا فأعطاه إياها.
3. قال الله تعالى: " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك
حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله. "
12

زنديق وغيرهم. 1
وقد أورد عليه بأن الآية تدل على نجاسة صنف خاص من الكفار و
هو المشرك، أي القائل بالشريك لله سبحانه، لا جميع أصنافهم، كمن أنكر
وجود الواجب وجحد مبدأ العالم أساسا أو من أنكر النبوة والرسالة، لعدم كون
انكار المبدء أو الرسالة من قبيل الاشراك لله تعالى، فإن المتبادر من معنى المشرك
هو من اعتقد مع الله إلها آخر أو عبده، والحاصل أن الدليل أخص من المدعى لأن
المدعى نجاسة كل كافر والدليل لا يثبت إلا نجاسة خصوص المشرك منهم.
قال صاحب المدارك قدس سره موردا على المحقق - في استدلاله بالآية
الكريمة: اللازم من ذلك نجاسة المشرك خاصة وهو أخص من المدعى، إذ
من المعلوم أن من أفراد الكافر ما ليس بمشرك قطعا فلا يصلح لاثبات الحكم على
وجه العموم. 2
وفيه أن المفهوم من لفظ المشرك هو من جعل لله سبحانه ندا ونظيرا و

1. يقول المقرر: وقد استدل بها على نجاسة مطلق الكافر كثير من الأعلام والأساطين كالسيد ابن
زهرة والعلامة وغيرهما قال السيد في الغنية: والكافر نجس بدليله - الاجماع - وبقوله تعالى
" إنما المشركون نجس " وهذا نص وكل من قال بذلك في المشرك قال به فيمن عداه من الكفار
والتفرقة بين الأمرين خلاف الاجماع انتهى كلامه
وقال العلامة في التذكرة ص 8: الكافر عندنا نجس لقوله تعالى: " إنما المشركون نجس..... "
لا فرق بين أن يكون الكافر أصليا أو مرتدا ولا بين أن يتدين بملة أولا ولا بين المسلم إذا أنكر ما
يعلم ثبوته من الدين ضرورة وبينه، وكذا لو اعتقد المسلم ما يعلم نفيه من الدين ضرورة انتهى
وقال المحقق القمي في جامع الشتات ج 1 ص 12: المعروف من مذهب الأصحاب نجاسة
أهل الكتاب والمجوس أيضا والأقوى عندي ذلك وادعى جمع من علمائنا اجماع الشيعة على
نجاستهم والآية الشريفة يعني قوله تعالى: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام "
والأحاديث الكثيرة تدلان على ذلك انتهى
2. مدارك الأحكام في شرح شرائع الاسلام الطبع القديم ص 101 والطبع الجديد ج 2 ص 295 -
294 يقول المقرر: وقد يجاب عن هذا الايراد بعدم القول بالفصل كما أشير إليه في عبارة الغنية
التي نقلناها في التذييلات السابقة إلا أنه أورد عليه بعض بأنه خروج عن التمسك بالآية.
13

اتخذ له مثلا وشريكا، وهذا مفهوم واسع له جوانب مختلفة وأبعاد متعددة
فالشرك غير مختص بمقام الذات بل يجري في ناحية الصفات، وكذا في الأفعال
كالخلق والرزق، وفي العبادة، حيث إنه على وزان التوحيد الذي ينقسم على
أربعة أقسام، وله أربعة معان: توحيد الذات وتوحيد الصفات، وتوحيد العبادة، و
توحيد الخلق.
فالمشرك تارة يعتقد الشريك له تعالى في ناحية الذات الذي هو
واجب الوجود ويقول بأصلين قديمين بالذات.
وأخرى يقول به في مقام الصفات بأن كان يرى صفات الله تعالى زائدة
على ذاته.
وثالثة في مقام العبادة بأن يجعل العابد في عبادته نصيبا لغير الله ولو بأن
يعبد غير الله لزعمه أنه واسطة بينه وبين الله تعالى ومقربه إليه كعبدة الأصنام
والأوثان الذين كانوا يجعلونها وسائل وذرائع إلى الخالق وقد بينهم الله تعالى
في القرآن الكريم بقوله: " والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبد هم إلا ليقربونا
إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون. " 1
ورابعة بالنسبة إلى مقام الصنع وتدبير النظام وفي مقام الخلق والرزق بأن
يسند الخلق أو الأفعال الخاصة بالله تعالى إلى غيره، فإذا أنكر كون الله خالقا
لكل المخلوقات فلا بد من أن يسند الخلق إلى غيره سبحانه لعدم امكان تحقق
الممكن ووجوده بدون علته، واسناد الخلق إلى غيره تعالى هو اشراك الغير مع الله
تعالى في الخلق واقعا، ونسبة عمل خاص بالله إلى غيره شرك حقيقة سواء أثبته لله
تعالى أيضا أم لا، بل وإن أنكر أصل وجوده تعالى فيجرى عليه حكم المشرك، و
من المعلوم أن هذا المفهوم الواسع العام الذي ذكرناه للمشرك شامل لجميع الكفار

1. سورة زمر الآية 3.
14

أو أكثرهم فيدخل في هذا العنوان: الدهرية والمجوس واليهود والنصارى و
غيرهم بواحد من معانيه ونواحيه.
وإن شئت فقل إنه وإن أطلق المشرك لكنه أريد منه الكافر مطلقا وإن لم
يطلق عليه المشرك اصطلاحا.
ويؤيد ذلك قوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك
لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " 1 فقد صرح بأنه لا يغفر
كبيرة الشرك، فهل ترى من نفسك أن لا يغفر الله لمن أشرك به وجعل له ندا و
نظيرا ولكنه سبحانه يغفر من أنكر أصل وجوده تعالى ولم يعتقد بالصانع
والخالق كالدهرية الذين يقولون: " ما هي إلا حياتنا الدنيا " 2؟ فهو أيضا كمن
أشرك بالله ولذا لا نتمسك هنا بالأولوية على ما تمسك به البعض، فلعلها مستهجنة
بل نقول: إن المراد من الشرك هو مطلق الكفر ويكون هو اسما واصطلاحا لجميع
أصنافه، وعنوانا مشيرا إليها، كما يظهر ذلك من التأمل في سياق الآية الكريمة
حيث وقعت في ذيل الخطاب بأهل الكتاب، قال الله تعالى: " يا أيها الذين
أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها
على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر
أن يشرك به... "
والحاصل: أن الكفر ذنب لا يغفر أي صنف من أصنافه كان، ومطلق الكفر
على اختلاف اشكاله ومجرد التدين بغير دين الله شرك، ويترتب عليه أحكامه
فتارة يحكم على المتصف به بالنجاسة وأخرى بمنع دخول المساجد وثالثة

1. سورة النساء الآية 48
2. سورة الجاثية الآية 24 ومثلها قوله تعالى حكاية عن قولهم: " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت و
نحيا وما نحن بمبعوثين، سورة المؤمنون الآية 37 ".
15

بوجوب مقاتلته، فترى أنه تعالى يقول: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا
باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين
أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " 1 فإنه قد حكم بقتال
جميع هذه الأصناف ومن له هذه الأوصاف، فالأوصاف المذكورة كفر وهي
أيضا شرك. والحكم بالنجاسة، والمنع من دخول المسجد، ووجوب المقاتلة، و
غيرها أحكام مترتبة على الكفر.
وإن شئت زيادة توضيح وتأييد في المقام الفكر في ساير آيات
هذه السورة وأمعن النظر في قوله تعالى فيها: " ما كان للمشركين أن يعمروا
مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر... " 2 فقد ابتدأ بذكر المشركين ووصفهم
بقوله: " شاهدين على أنفسهم بالكفر " فلو لم يكن المراد من المشرك هو الكافر
لكان اللازم أن يقول: شاهدين على أنفسهم بالشرك، وعلى هذا فيستفاد منه
إن السبب الوحيد في منع المشركين عن عمارة مساجد الله هو الكفر.
وانظر إلى قوله تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله و
قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا
قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن
مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون " 3
فإن من المعلوم أن هؤلاء الذين ذمهم الله تعالى وعيرهم باتخاذ الأحبار
والرهبان أربابا ولا مهم على ذلك لم يتخذوا الأحبار والرهبان شركاء لله في ذاته أو
في خلقه بل اتخذوهم أربابا في العبادة نظير ما صدر عنهم في مورد المسيح و

1. سورة التوبة الآية 29
2. سورة التوبة الآية 17
3. سورة التوبة الآية 31 - 30.
16

تشريع الأحكام وتحريم الحلال وتحليل الحرام وقد سمى الله تعالى عملهم شركا
وقال: " سبحانه عما يشركون. "
والحاصل: أن اليهود والنصارى مشركون في صريح القرآن 1 ولذا
قال العلامة في التذكرة ج 1 ص 442 في ضمن شرائط الذمة: ولا يظهروا
شركهم في عيسى وعزير انتهى.
وعلى هذا الجملة فاتخاذ غير الله في قباله معبودا ومطاعا أيضا شرك، كما أن اتخاذ الشريك له في ذاته وجعل الابن والأنداد والأمثال له تعالى شرك.

1. قال الفاضل المقداد رضوان الله عليه عند الحكم بتحريم نكاح الكتابية والاستدلال عليه: إنهن
مشركات وكل مشركات نكاحهن حرام فنكاح اليهوديات والنصرانيات حرام أما الصغرى فلقوله
تعالى: " وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله إلى قوله سبحانه: عما
يشركون " وأما الكبرى فلقوله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " (سورة البقرة الآية
220) والجمع المعرف بلام الجنس للعموم.
إن قلت: الصغرى ممنوعة إذ لا قائل اليوم من اليهود بذلك بل كان شرذمة وانقرضوا فلا
يتناول الحكم الموجودين اليوم.
قلت: الحجة في قوله تعالى لا في قولهم وقد أخبر الله تعالى عنهم بذلك إذا الجمع المحلى باللام
للعموم كما تقرر في الأصول إلى آخر كلامه فراجع التنقيح الرائع ج 3 ص 97
أقول: هذا مضافا إلى أن قولهم بالتثليث: الأب والابن وروح القدس، معروف.
وحكى الشيخ محمد عبده عن كتاب اظهار الحق: نقل إنه تنصر ثلاثة أشخاص وعلمهم
بعض القسيسين العقائد الضرورية سيما عقيدة التثليث وكانوا في خدمته فجاء محب من أحباء
هذا القسيس وسأله عمن تنصر، فقال: ثلاثة أشخاص تنصروا فسأل هذا المحب: هل تعلموا شيئا
من العقائد الضرورية؟ فقال: نعم، وطلب واحدا منهم ليرى محبه فسأله عن عقيدة التثليث فقال:
إنك علمتني أن الآلهة ثلاثة: أحدهم الذي هو في السماء، والثاني الذي تولد من بطن
مريم العذراء، والثالث الذي نزل في صورة الحمامة على الآلة الثاني بعد ما صار ابن ثلاثين سنة
فغضب القسيس وطرده وقال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم وسأله فقال: إنك علمتني أن
الآلهة كانوا ثلاثة وصلب واحد منهم فالباقي الاهان فغضب عليه القسيس أيضا وطرده،
ثم الثالث وكان ذكيا بالنسبة إلى الأولين وحريصا في حفظ العقائد فسأله فقال: يا مولاي حفظت
ما علمتني حفظا جيدا وفهمت فهما كاملا بفضل السيد المسيح: إن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد و
صلب واحد منهم ومات فمات الكل لأجل الاتحاد ولا إله الآن وإلا يلزم نفي الاتحاد انتهى
راجع المنار، ج 6 ص 458.
17

وبعبارة أخرى كما أن المجوس القائلين بفاعلين فاعل الخير المسمى
عندهم ب‍ (يزدان) وفاعل الشر المسمى عندهم ب‍ (اهريمن) والمعتقدين بالنور
والظلمة مشركون، كذلك من اتخذ إلها ومعبودا آخر سوى الله يكون مشركا، و
كما يتحقق الشرك بالقول بتعدد واجب الوجود، كذلك يتحقق بانكار الله تعالى و
جعل ما كان له سبحانه لغيره.
وإن أبيت مع ذلك كله عن قبول كون الثاني من الشرك والتزمت بكونه
كفرا في الحقيقة لا شركا فالذي يسهل الخطب هو استعمال الشرك في الكفر
والكفر في الشرك في القرآن الكريم، والتعبير عن كل واحد منهما بالآخر 1 من
باب استعمال اللفظ الموضوع للخاص في العام، وبالعكس، وفيما نحن فيه
استعمل الشرك في الكفر، والقرينة القطعية قائمة على إرادة الكفر من الشرك، و
هي عدم مناسبة منع المشرك المصطلح أعني من اتخذ شريكا لله سبحانه عن
دخول المسجد مع تجويز ذلك لمن أنكر الله تعالى ونفاه من أصله وجحد مبدأ
الكون رأسا.
وبعبارة أخرى لا ملائمة بين منع المشرك، وبين إباحته بالنسبة
إلى المنكر.
ومما يشهد لاطلاق الشرك على الكفر ما روي عن الفضل: دخل على أبي

1. فترى أن الله تعالى يقول: " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار "
سورة المائدة الآية 75، فقد أطلق الشرك على ما هو كفر اصطلاحا وعبر عنه بالكفر أولا في نفس
الآية، وقال تعالى: " لقد كفر قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا
عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " سورة المائدة الآية 76. ترى أنه أطلق الكفر
على القول بأن الله ثالث ثلاثة الذي هو شرك صريح، وهذه الآية مشعرة بأن الله عند اليهود ثاني
اثنين، قال في الجواهر: ولا خفاء في أن القول بكون الله ثاني اثنين أو ثالث شرك محض و
مع ذلك يقول الله تعالى: " ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " انتهى.
18

جعفر عليه السلام رجل محصور عظيم البطن فجلس معه على سريره فحياه و
رحب به فلما قام قال: هذا من الخوارج كما هو قال: قلت: مشرك فقال: مشرك
والله مشرك. 1
ترى أن الإمام أبا جعفر عليه السلام أطلق المشرك على هذا الذي كان
من الخوارج مع أنهم مؤمنون بالله يوحدونه ولا يشركون به شيئا بظاهر حالهم و
مقالاتهم ولا يعتقدون في الله شيئا يخالف عقيدتنا بل شعار هم الخاص بهم الذي
قالوا تجاه أمير المؤمنين علي عليه السلام مخاطبين له: لا حكم إلا لله، هذا.
ولكن الانصاف أنه على فرض كون الشرك والكفر شيئين وإن الأول
أخص من الثاني فمجرد اطلاق المشرك على الكافر في بعض الموارد لا يوجب
ولا يقتضي ظهور الآية الكريمة أيضا في ذلك.
اللهم إلا أن يقال باستفادة ذلك بمناسبة الحكم والموضوع، فإن العرف إذا
سمع قول الله تعالى: إنما المشركون نجس، وقوله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة،
يفهم بارتكازه إن ما هو المناط في نجاستهم هو الكفر وإن الملاك في وجوب
مقاتلهم ذلك أيضا فحيثما وجد وتحقق هذا المعيار أعني الكفر يترتب عليه
حكم النجاسة ووجوب المقاتلة، ولا يفهم أن هذين الحكمين اختصا بالمشرك
بمعناه الخاص وإلا لكان منكر المبدأ خارجا عنه، وعلى الجملة فالعرف لا يرى
له خصوصية أصلا بل يفهم إن الكافر نجس ويجب مقاتلته وإن هذين الحكمين
وكذا غيرهما من الأحكام تجري على كل فرد من أفراد الكافر.
نعم قد يحكم الشارع بحكم خاص على صنف خاص من الكفار دون
غيره لمصالح خاصة نظير وجوب القتل المختص بالكافر الحربي دون غيره لأن
حفظ المملكة الاسلامية وكيان المسلمين واعلاء كلمتهم وسياسة النظام وتدبير

1. ذكرى الشيعة للشيخ الشهيد ص 13، وضبط اسم الراوي فضيلا.
19

الأمور وجريانها تقتضي قتل الحربي دون المتسالم الذي يعطي الجزية، و
من المعلوم أن هذه الأحكام معدودة مضبوطة مستفادة من أدلة خاصة وإلا فلا
فرق بين أصناف الكفار، هذا، وقد فسرت الآية في كلمات المفسرين على نحو
ما ذكرناه.
إن قلت: فإذا كان المشركون نجسا لا لخصوصية شركهم بل بملاك
كفرهم كما ذكر فما وجه العدول عما هو الملاك التام إلى غيره؟ ولماذا لم يقل الله
تعالى: إنما الكافرون نجس؟
نقول: لعل ذلك لأن الكافر الذي يدخل المسجد الحرام وكان بينه و
بين المسلمين ارتباط ومواصلة ويتكاتفون معه في التجارات وترويج الأسواق
والذي ابتلى به المسلمون كان كافرا خاصا وهو المشرك وأما الآخرون فلم يكن
لهم اهتمام بالمسجد بل كانوا - كما تعلم - يأتون بالفيل لهدم أساسه وتخريب
بنيانه قال الله سبحانه: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل. " 1
والحاصل: أن الآية نازلة حسب حوائجهم وابتلائاتهم ومطابقة لشؤونهم و
حالاتهم وإلا فالكفر بواقعه ملة واحدة في أي صورة وحالة وعلى اختلاف شعبه
وتشتت مناهجه وأغصانه ومهما تغير شكله وتبدلت ألوانه.
وأما ما ترى من قبول الجزية من اليهود والنصارى دون غيرهما من
أصناف الكفار فهو لمكان اعترافهم بالله وقبول الأنبياء والكتب السماوية
خصوصا بلحاظ احتوائها لأخبار خاتم النبوات فهم لا محالة في معرض الانتباه
والاستبصار، وينتظر منهم الرجوع، واقبالهم إلى الاسلام واعتناقهم به بخلاف
المشركين والملحدين فإنه لا يظن بهم ولا يرتجى منهم ذلك غالبا. فالجزية و
غيرها من الأحكام الخاصة الأخرى الجارية في خصوص اليهود والنصارى لا

1. سورة الفيل الآية 1.
20

تقتضي خروجهم عن المشركين والكفار، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك أيضا.
إن قلت: إن في بعض الآيات الكريمة اشعارا بالاختصاص، وإن
المشركين هم عبدة الأصنام والأوثان مثلا، ولا يعم غيرهم.
منها قوله تعالى: " ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن
ينزل عليكم من خير من ربكم ". 1
ومنها قوله تعالى: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن
الذين أشركوا أذى كثيرا ". 2
ومنها قوله تعالى: " ولتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين
أشركوا..... ". 3
ومنها قوله سبحانه: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى
والمجوس والذين أشركوا ". 4
ومنها قوله عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين
منفكين حتى تأتيهم البينة ". 5
فإن عطف المشركين على أهل الكتاب بالواو في الآية الأولى والخامسة، و
عطف " الذين أشركوا " على " الذين أوتوا الكتاب " في الثانية، و " على اليهود "
في الثالثة، و " على الذين هادوا في الرابعة مشعر بالتغاير والتقابل.
نقول: إنه كلما ذكرا معا فهو كذلك إلا أن الكلام في ذكر المشرك وحده
فإن المراد منه حينئذ مطلق الكافر. 6

1. سورة البقرة الآية 105
2. سورة آل عمران الآية 186
3. سورة المائدة الآية 82
4. سورة الحج الآية 17
5. سورة البينة الآية 1
6. قال السيد في المدارك الطبع الجديد ج 2 ص 296: وربما كان في الآيات المتضمنة
لعطف المشركين على أهل الكتاب وبالعكس بالواو اشعار بالمغايرة.
21

ثم إن كلمة (إنما) الدالة على الحصر، المذكورة في صدر الآية لا تضر
بالاستدلال بالآية فإن الحصر هنا إضافي بالنسبة إلى الطهارة، ومن باب
قصر الموصوف على الصفة مثل: إنما زيد قائم حيث يفيد أن القيام فقط ثابت
لزيد لا القعود ونحوه فهو لاثبات خصوص القيام لزيد ونفي ما سواه عنه، وهذا
بخلاف قولنا: إنما القائم زيد حيث يثبت القيام لزيد، وينفى عمن سواه، كعمرو
وبكر، فمفاد الآية إن المشركين نجس فقط لا طاهر، فلا يكون لهم من الصفتين
إلا النجاسة.
والعجب من الفخر الرازي حيث إنه فسرها بعكس ذلك وإن النجس من
أصناف الانسان هو المشرك وحده، وغير المشرك منه يكون طاهرا، وبما أن أبا
حنيفة كان يقول بطهارة المشركين ويفتي بنجاسة أعضاء المحدث وعليه بنى
نجاسة الماء المستعمل في الحدث الأكبر والأصغر فقد طعن عليه الفخر في
تفسيره بأن كلامه في الموضعين مخالف للآية الكريمة 1 حيث إن المستفاد منها
إن المشرك نجس، والمؤمن لا ينجس، والحال أن أبا حنيفة ومن سلك مسلكه
يقولون: المشرك طاهر والمؤمن في حال الحدث نجس فقلبوا الأمر.
والحاصل أن الرازي قال: معنى الآية إن المشرك وحده نجس لا غيره.

1. أقول هذه عبارته في تفسيره ج 4 ص 614: المسألة الرابعة قال أبو حنيفة وأصحابه: أعضاء
المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه إن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس ثم روى
أبو يوسف أنه نجس نجاسة خفيفة وروى الحسن بن زياد أنه نجس نجاسة غليظة وروى محمد بن
الحسن إن ذلك الماء طاهر. واعلم أن قوله تعالى: " إنما المشركون نجس " يدل على فساد
هذا القول لأن كلمة إنما للحصر وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك فالقول بأن أعضاء
المحدث نجسة مخالف لهذا النص والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن
المؤمن ليس ينجس ثم إن قوما قلبوا القضية وقالوا: المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثا أو
جنبا نجس وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة و
المياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجاسة غليظة وهذا من العجائب.
22

ولكن قد اشتبه عليه الأمر، واستفاد من الآية خلاف ما كانت الآية
بصدده، فإنها تفيد عدم حصول الطهارة لهم في آن من الآنات ما دام الوصف
العنواني ثابتا لهم، أي ما داموا مشركين ومتصفين بهذا الوصف، وكلامه صحيح لو
كانت العبارة: إنما النجس المشركون، فكم فرق بين قولنا: إنما زيد شاعر وبين
قولنا: إنما الشاعر زيد، فالأول يقال لمن أراد مثلا تعلم الفقه أو الأصول من زيد
فيقال له: إنما زيد شاعر يعني أنه ليس فقيها ولا أصوليا كي تتعلم منه ذلك، فليس
هو إلا شاعرا وأما الثاني فإنه يقال لمن أراد استماع الشعر وتعلمه من زيد وعمرو
وبكر فيقال له: إنما الشاعر زيد، أي إن غير زيد ليس شاعرا بل الشاعر زيد فقط.
وما نحن فيه ليس من هذا القبيل بل هو من قبيل الأول لأنه قال: " إنما المشركون
نجس " ولم يقل: إنما النجس المشركون، والحاصل أنه لا اشكال أصلا من ناحية
الحصر.
ما هو المراد من النجس؟
النجس والنجاسة بحسب اللغة مطلق القذارة، وبحسب الشرع قذارة
خاصة تترتب عليها أحكام معينة، وهذا لا كلام فيه، وإنما الكلام في أن
اطلاق النجاسة على هذا المعنى هل هو بعنوان الحقيقة الشرعية وأنه كان يتبادر
منه المعنى المزبور عند نزول الآية الكريمة، أو لم يكن كذلك بل الشارع أفاد
هذا المعنى بمعونة القرائن ولا يزال هو كذلك، كي لا يمكن الحمل على
هذا المعنى إلا مع ثبوت القرينة.
ادعى كثير من الأعلام أن استعمال النجاسة في هذا المعنى كان منذ
زمن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بنحو الحقائق الشرعية، كما أن الطهارة
23

أيضا كذلك فمتى ورد حكم من الأحكام المربوطة بها استفيد منها هذا المعنى
أعني الطهارة الشرعية وهي إحدى الطهارات الثلاث: الوضوء، والغسل، والتيمم،
أو الحالة الحاصلة للمتطهر عقيب إحدى تلك الثلاث مثلا، فكان المسلمون عند
سماع قول الله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماءا طهورا " 1 أو قوله تعالى: " وإن كنتم
جنبا فاطهروا " يستفيدون - بأعمال الشارع وتصرفه من أول الأمر - الطهارة
الشرعية من الحدث أو الخبث وكما أن الصحابة كانوا يتبعون نبيهم الموحى إليه
في أحكام الكتاب والسنة وغيرها، كذلك كانوا يتبعونه في حقائق هذه الألفاظ،
وممن ادعى الحقيقة الشرعية وبالغ عليه كثيرا هو صاحب الحدائق قدس سره. 3
وأورد بعضهم بأن دلالة الآية على نجاسة الكفار وإن كانت تامة غير قابلة
للانكار إلا أن المراد من النجاسة هو القذارة أي المعنى اللغوي فلا حقيقة شرعية
في البين.
وفيه أن الظاهر منها هو النجاسة المصطلحة أي العينية الذاتية.
هذا مضافا إلى أنه منقوض أولا في خصوص بعض بل وكثير من الكفار
حيث إنه في غاية النظافة الظاهرية بحيث لا يرى في ظاهره قذارة أصلا.
وثانيا بأن بعض المسلمين أيضا غير نظيف وبالجملة فالنجاسة اللغوية
والعرفية لا تختص بالمشركين بل يشاركهم فيها غيرهم من المسلمين. 4
وقد ظهر مما ذكرنا إن ما أصر عليه الفقيه الهمداني قدس سره من الايراد
على صاحب الحدائق مدعيا أن المراد من النجاسة هو المعنى اللغوي، في غير

1. سورة الفرقان الآية 48
2. سورة المائدة الآية 6
3. راجع الحدائق الناضرة ج 5 ص 165
4. يقول المقرر: وهنا وجه آخر في الجواب عنه وهو أن بيان النجس العرفي أي القذارة خلاف
وظيفة الشارع أو أنه ليس من وظيفته.
24

محله.
والتحقيق أن يقال: إنه لا حاجة في اثبات المطلوب إلى اثبات
الحقيقة الشرعية، فإن ظهور النجس في النجاسة الشرعية مما لا يقبل الانكار، و
هذا يكفينا في اثبات ما نحن بصدده سواء كان ذلك من باب المجاز الشايع أو من
قبيل استعمال المشترك المعنوي في أحد أفراده.
ويمكن أن يقال هنا أيضا تثبيتا للمرام وتتميما للكلام أنه رتب النهى
عن قربهم من المسجد الحرام - في الآية الكريمة - على نجاستهم حيث قال: " إنما
المشركون نجس فلا يقربوا..... " والنهي في الحقيقة متوجه إلى المؤمنين وهم
مأمورون بمنع المشركين عن قربهم من المسجد، والعلة في ذلك بمقتضى فاء
التفريع هو شركهم فنضم هذا إلى الاجماع القائم على عدم جواز ادخال النجس
في المسجد وننتج منهما أن المشرك نجس بالمعنى المصطلح حيث إنه هو الذي
منع عن ادخاله في المسجد.
إن قلت: إن كلمة (نجس) مصدر ولا يمكن حمل المصدر على الذات ولا
يصح وصف الجثة بالمصدر فحينئذ لا بد من أن يقدر معه (ذو) تصحيحا للحمل
وفرارا عن الاشكال فالتقدير إنما المشركون ذو نجس وقد صرح الزمخشري
بذلك قائلا: نجس مصدر... ومعناه ذوو نجس لأن معهم الشرك الذي هو
بمنزلة النجس ولأنهم لا يتطهرون الخ 1 وهذا يساعد النجاسة العرضية ويناسبها و
من المعلوم أنهم لا يجتنبون عن النجاسات كالخمر والخنزير وغير ذلك وأين هذا
من اثبات نجاستهم بذواتهم وأعيانهم التي هي المدعى؟
نقول: إن بلاغة الكلام ولطافة التعبير في المقام تقتضي كونه مصدرا
محمولا على الذات من غير تقدير ولا تأويل، نظرا إلى المبالغة المطلوبة، فهم

1. الكشاف ج 2 ص 146.
25

متجسمون بالنجاسة كما في كل مورد أريد المبالغة من المصدر المحمول
على الذات نظير زيد عدل، فلو قدر (ذو) في تركيب زيد عدل مثلا، فهناك لا
تأكيد ولا مبالغة أصلا وهو خلاف المقصود ونقض للغرض المسوق له الكلام، و
على الجملة فعلى تقدير كون النجس مصدرا فهو دال على المقصود جدا بلا حاجة
إلى تأويل أو تقدير شئ أصلا هذا.
مضافا إلى امكان كون النجس صفة مشبهة 1 وعلى هذا فهي كسائر
الصفات تحمل على الذوات بلا حاجة إلى تقدير أو أعمال نكتة، ولا مجال
للاشكال المذكور آنفا.
نعم يرد اشكال آخر وهو أنه كيف أخبر عن الجمع بالمفرد؟ فالموضوع
أي المشركون جمع، والمحمول أعني لفظ نجس مفرد، ولا يصح حمل المفرد
على الجمع.
ويدفع بإرادة الجنس من الجنس والجنس يساعد معنى الجمع فهو وإن
كان مفردا بحسب اللفظ لكنه جمع بحسب المعنى 2.
والانصاف أنه لا حاجة أصلا إلى التمسك بتلك الوجوه فإن المقام شبيه
قولهم: الكلب نجس والخنزير نجس، وهو من أصرح التعبيرات عن النجاسة يعني
أنه من الأعيان النجسة وعليه فالمشركون ذوات نجسة وأعيان كذلك.
وقد يقال: إن حكم القرآن الشريف بنجاستهم وعدم جواز دخولهم

1. أقول: فإن فعل على وزن حسن من أوزانها قال في القاموس: النجس بالفتح وبالكسر و
بالتحريك وككتف وعضد ضد الطاهر. انتهى.
2. قال علم التحقيق والتقى الشيخ المرتضى في طهارته: النجس بفتح الجيم إما مصدر... وإما صفة
مرادفة للنجس بالكسر...... ويكون أفراد الخبر مع كونه وصفا على تأويل أنهم نوع أو صنف نجس
انتهى أقول: ويمكن أن يكون من قبيل الوصف الذي يستوي فيه الأفراد والجمع والذكورة
والأنوثة كما نقل ذلك في اللغة أيضا فراجع ويستفاد من عبارة المجمع أنه يحمل عليه مع كونه
وصفا باعتبار أصله الذي هو المصدر.
26

المسجد كان لأجل جنابتهم وعدم اغتسالهم منها، فإن الجنب ممنوع عن الدخول
فيه 1.
وفيه: أولا: إن هذا تساعده نسبة النجاسة إليهم الظاهرة في كونهم كذلك
بالذات.
وثانيا: لو كان المراد عدم دخولهم المسجد للجنابة فهذا غير مختص
بالكفار.
وثالثا: أنه ربما يفرض كافر لا يكون جنبا كمن كان قد بلغ بالانبات أو
السن، حد التكليف جديدا ولم يمض من بلوغه كثير زمان وتأخر احتلامه مع أنه
في هذه الفترة أيضا لا يجوز له دخول المسجد ولم يصدر منه لا قبل التكليف ولا
بعده ما يوجب الجنابة وضعا.
وعلى هذا فالآية الكريمة تدل بظاهرها على أنهم أعيان نجسة 2 وذوات
قذرة شرعية بلا فرق بين أفرادهم بحيث لو فرض مورد على خلاف ذلك فهو
استثناء من الحكم الكلي العام، ولو كان المراد من النجس هو القذارة أو الخباثة

1. ممن قال بذلك وجنح إليه هو قتادة فإنه على ما حكاه الطبرسي قال: سماهم نجسا لأنهم
يجنبون ولا يغتسلون ويحدثون ولا يتوضؤن فمنعوا من دخوله المسجد لأن الجنب لا يجوز له
دخول المسجد.
2. أقول: لا يقال: إن المراد من النجس النجاسة المعنوية الموجبة للمنع عن دخول المسجد الحرام
مثل القذارة المعنوية الحاصلة من الجنابة أو الحيض المانعة من الدخول فيه فالنجاسة هنا هي
القذارة القائمة بالنفس أعني الكفر وهي كناية عن خبث اعتقادهم فإن الكفر قذارة باطنية و
نجاسة معنوية ودخول الكافر في المسجد لهتك حرمته.
لأنا نقول: ظاهر الآية نجاسة البدن أعني الهيكل الخاص لا نجاسة روحه ونفسه وصرفها إلى
المنقصة في النفس والقذارة الباطنة تأويل لا دليل عليه قال ابن زهرة في الغنية: وقول المخالف:
المراد بذلك نجاسة الحكم، غير معتمد لأن اطلاق لفظ النجاسة في الشريعة تقتضي كظاهره
نجاسة العين حقيقة وحمله على الحكم مجاز واللفظ بالحقيقة أولى من المجاز ولأنا نحمل اللفظ
على الأمرين جميعا لأنه لا تنافي بينهما.
27

لكان معنى الآية إن المشركين خبيثة قذرة وعلى ذلك كان يحتاج الحكم
بالنجاسة الشرعية في الكفار حتى المشركين منهم إلى دليل خاص غير هذا العموم
وهذا خلاف الظاهر جدا فإنهم كانوا يحكمون بنجاسة الكفار بمجرد هذا الآية
الكريمة ولا جل هذا العموم المذكور على لسان المولى سبحانه وتعالى، فانظر
إلى كلام الطبرسي في مجمع البيان، قال:
واختلف في نجاسة الكافر فقال قوم من الفقهاء إن الكافر نجس العين، و
ظاهر الآية يدل على ذلك وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب: امنعوا اليهود
والنصارى من دخول مساجد المسلمين واتبع نهيه قول الله تعالى: " إنما المشركون
نجس " الآية وعن الحسن قال: لا تصافحوا المشركين فمن صافحهم فليتوضأ
انتهى.
والمراد من التوضئ هو غسل اليد ولا بد من أن يراد منه لزوم الغسل إذا
تصافحا مع نداوة في يد أحدهما فإذا صافح المسلم المشرك " الكافر " مع رطوبة
سارية فلا بد من غسل اليد لتنجسها بالمساس والملاقاة. إلى غير ذلك مما ورد
في الأخبار أو التواريخ، الظاهر في أن استنادهم في الأحكام المقررة كان إلى الآية
الكريمة.
وأما قوله تعالى: " فلا يقربوا المسجد الحرام... " فهذا في الحقيقة نهي
متوجه إلى المؤمنين لا إليهم، لعدم ايمانهم بالله كي ينتهوا عما نهوا عنه، وإلا
فالأجدر بهم أن يؤمنوا بالله ويتركوا الأصنام والأوثان، ويخرجوا من عبادتهم إلى
عبادة الله سبحانه، وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة أنه يجب على المؤمنين أن
يمنعوا المشركين عن دخولهم المسجد الحرام. 1

1. أقول: ولا ينافي هذا ما ذكروه من أن الكفار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون بالأصول، وذلك
لأن ما أفاده دام ظله متعلق باجراء الحكم وتحقيقه وانفاذه.
28

وهنا اشكال ينبغي التعرض له وهو أنه سلمنا دلالة الآية على نجاسة
الكفار وعدم جواز دخولهم المسجد لكن كيف يمكن التوفيق بين هذا وبين ما
ثبت وتحقق من أن عدم جواز ادخال النجس في المسجد مشروط بكونه ذا رطوبة
متعدية وأما النجاسة الجافة غير المتعدية فادخالها فيه غير ممنوع.
والجواب عنه أولا: أنه يمكن أن يكون هذا تعبدا محضا لا مستندا إلى
نجاستهم المقطوع بها، وإن كان الحكم ذا أسرار كثيرة وحكم بالغة عظيمة، لكنها
خافية علينا مستترة عن أفهامنا منا الضئيلة، وعقولنا الضعيفة، ولا يعلمها إلا الله
تعالى.
وعلى الجملة فمن الممكن حرمة ادخال كل نجس في المسجد إذا كان
رطبا ساريا إلا الكافر فإنه يجب منعه عنه مطلقا تعبدا في خصوص المورد وفي
هذا النجس الخاص.
وثانيا: أنه يمكن أن يكون هذا لأجل دفع التوهين عن المسجد، الذي هو
أشرف مكان معد لتعبد المتعبدين، وصلاة المصلين، يتقرب العباد فيه إلى
خالقهم، ويذكرون فيه اسم الله تعالى آناء الليل وأطراف النهار، وتعظيمه و
تكريمه فرض على جميع المسلمين، ودخول الكافر فيه مناف لتعظيمه واجلاله.
وثالثا: أنه يمكن أن يكون وجه هذا التشديد في أمر الكفار هو كونهم غير
مأمونين عليه من التلويث فلربما ينجسون المسجد أو يتنجس المسجد بهم قهرا
بالقاء النخامة والنخاعة، وتأثره وتنجسه برطوباتهم لعدم مبالاتهم بالطهارة
والنجاسة، وعدم اعتنائهم بشأن المسجد الرفيع واحترامه المخصوص. 1

1. قال الشهيد في الذكرى ص 157 - لا يجوز لأحد من المشركين دخول المساجد على الاطلاق و
لا عبرة بإذن مسلم له لأن المانع نجاسته للآية، فإن قلت: لا تلويث هنا قلت: معرض له غالبا و
جاز اختصاص هذا التغليظ بالكافر. انتهى.
29

نكتة شريفة
ثم إن في الآية الشريفة نكتة لطيفة ينبغي التعرض لها فنقول: إنه يستظهر
منها بدوا بحسب الفقاهة إن السر الوحيد والعلة التامة في منع المشركين عن
دخول المسجد هو كونهم نجسا فيصطاد ويستفاد منها - بمقتضى كون العلة معممة
- عموم وهو عدم جواز قرب أي نجس من النجاسات من المسجد مطلقا ولكن
الظاهر من جملة (فلا يقربوا المسجد الحرام) بعد التأمل فيها إنه حكم مختص
بالمشركين وإن نجاستهم ليست علة حتى يعم الحكم جميع النجاسات بل هي
حكمة لذلك.
وذلك لأن النهي فيها عن قربهم من مسجد الحرام لا عن دخولهم فيه مع أن
مجرد قرب النجاسة لا يوجب السراية وليس هو سببا للنجاسة بل هي موقوفة
على المماسة والملاقاة وتأثر الملاقي بها فهذا التعبير حاك عن كمال اهتمام
الشارع بعدم حصول أي صلة وترابط بين المسلمين والكفار وعزلهم عن إطار
عيشهم وعشرتهم وعلى هذا فلا عموم أصلا.
وبعبارة أخرى لما كان الناس يستبعدون عدم جواز قرب المشركين
من المسجد ويكبر عليهم هذا الحكم لا سيما بلحاظ إناطة منافعهم
بالتبادل التجاري معهم، واختلافهم، وترددهم إلى مكة المعظمة، فلذا بين حكمة
هذا الحكم أعني لزوم طرد الكفار فقال: إنما المشركون نجس. وهذه الحكمة
تكشف عن عظمة تعاليم النبي الكريم وسمو دعوته، وتقوى روح المؤمن و
تشجعه وتجعله عزيزا شديدا على الكفار، غير مكترث بهم في جنب الله، لا
يخاف في الله لومة لائم، وتعلو في ظلها همته، فلا يودهم ولا يتولاهم ولا
30

يتخذهم أولياء وبطانة ويكون صلب العود، في مواجهة الكفار، ولا
يكون الدين عنده ألعوبة يعبث به فقد أراد الله تعالى أن يكون المسلم متصلبا
خشنا في ذات الله، وأن يجعل من الأمة الاسلامية رجالا شجعانا ابطالا يكون
الكافر في أعينهم أصغر من ذبابة وأن يكونوا بحيث لو أجمع العالم كله
على الكفر والعناد واتفق أهله على الضلال والالحاد ولم يكن من ينتحل
الاسلام إلا واحدا فهذا المسلم الواحد يكون معتزا بالاسلام معتدا بشرفه لا يخاف
ولا يستوحش بل يقوم وحده حذاء العالم المجمع على الكفر ويقول مخاطبا لهم
لا تمسوني ولا تقربوا مني فإنكم بأجمعكم - أيتها الأمة المجتمعة على الكفر
والضلال - نجس وأنا وحدي - في ظلال التوحيد والاسلام - طاهر وفيه من رقى
الاسلام وكيان المسلم واعلاء كلمة الدين وتحرير الانسان من الخضوع لغير الله
ونفخ روح الرجولة والجلادة فيه ما لا يخفى.
والحاصل أن الله تعالى يريد بذلك أن يلهم الأمة الاسلامية الحماسة
والاعتماد على النفس والتحفظ على استقلالهم وسؤددهم.
ثم إنه لما كان بين المسلمين والمشركين ارتباط تجاري وكان اقتصادهم
بزعمهم منوطا بالمعاشرة معهم والمخالطة والألفة بهم فكانوا يجدون في أنفسهم
ضيقا من طرد المشركين على أثر حكم الله تعالى المزبور، وكان يقرء في صفحة
وجوههم وجبينهم خطوطا خوف الاملاق والنكبات المالية
والخسارات التجارية، فلذا وجه حكمه السابق وعقبه بقوله: " وإن خفتم عيلة
فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء " يعني وإن خفتم في اجراء هذا الحكم و
انفاذه الفقر والحاجة وانقطاع المتاجر وتعطل الأسواق وذهاب التجارات بسبب
منع المشركين عن دخولهم المسجد، فإنه لا موجب لهذا الخوف، فلا تخالفوا
فسوف يغنيكم الله من فضله، وقد وفى الله بوعده هذا، وأنجز وأصلح أمورهم و
31

أغناهم من فضله العميم ولطفه الجسيم، ومن أوفى بعهده من الله؟
ما هو المراد من المسجد الحرام؟
ثم إن هنا بحثا في تعيين المراد من المسجد الحرام المذكور في الآية، فهل
هو مجموع مساحة الحرم أو خصوص المسجد الشريف المحيط بالكعبة زادها الله
شرفا واجلالا؟
أقول: المناسب لقوله تعالى: " وإن خفتم عيلة... " والمساعد لخوف الفقر
والحاجة، وضنك المعيشة، والعوز المالي، هو الأول فإنه لا مجال
لخوف المؤمنين من العسرة والعيلة إذا كان المشركون ممنوعين عن
دخول المسجد فقط مع جواز دخولهم في مكة وعدم المانع لهم عن ذلك، وإنما
يصح هذا الخوف وله مورد عرفا إذا كانوا ممنوعين عن دخول مكة مطلقا، حيث
إنه بذلك تنقطع التجارات ويسد أبواب المعاملات. ويؤيد ذلك ما ورد
في الروايات من أنه فتحت للمؤمنين أبواب الأرزاق بعد منعهم المشركين عن
دخول مكة. 1
هذا كله مضافا إلى ما ورد من أن الحرم كله مسجد. 2
فتحصل مما ذكرناه حول الآية الكريمة أنها تدل بالوضوح على المطلوب
أي نجاسة مطلق الكفار حتى أهل الكتاب ومن البعيد أن لا يكون تسالم
الأصحاب وكذا عدة من أهل السنة على نجاسة غير أهل الكتاب من الكفار، و

1. راجع تفسير الصافي ج 1 ص 693
2. ففي الكشاف ج 2 ص 147: وعن عطا: إن المراد بالمسجد الحرام الحرم، وإن على المسلمين
أن لا يمكنوهم من دخوله الخ وفي مجمع البيان ج 3 ص 20 عند شرح المسجد الحرام: قيل:
المراد به منعهم عن دخول الحرم، عن عطا قال: والحرم كله مسجد وقبلة.
32

هكذا حكم الأصحاب - إلا شاذ منهم - بنجاسة أهل الكتاب أيضا مستندا
إلى الكتاب ومستفادا من الآية الشريفة.
ولذا ترى أن المحقق قدس سره يقول في باب الأسئار من المعتبر ما
حاصله أن الكفار قسمان: أحدهما أهل الكتاب ثانيهما غيره، مثل النواصب
والخوارج والغلاة والمشركين وغيرهم. 1 وادعى عدم الخلاف في نجاسة الثاني،
ولم يعترض عليه أحد، مع أن مخالفة الخوارج لأهل الحق ليست إلا في الولاية
والخلافة، وهم لا يدعون في ناحية المبدء أو المعاد أو النبوة شيئا جديدا غير
معهود من المسلمين، ولا أظن أن أحدا قال بطهارتهم بل ولا مال إليها فهل ترى
ذلك إلا لأجل أن العلماء استفادوا واستظهروا من الآية نجاسة الكفار مطلقا
نجاسة عينية ذاتية واعتمدوا في افتائهم هذا على الآية الشريفة.
وأما مخالفة شاذ منهم في نجاسة أهل الكتاب فهي لأجل أمور و
استدلالات نذكرها فيما سيأتي ونجيب عنها إن شاء الله تعالى وقد ذكرنا أنهم أيضا
مشركون حقيقة ولا أقل من كونهم كذلك تنزيلا وبعبارة أخرى إن منشأ حكم
العلماء بنجاستهم بل ومنشأ كلمات الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين
وحكمهم بها هو القرآن الكريم، وهذه الآية الكريمة التي تنادي بنجاسة
المشركين بأعيانهم، كما أن أقدم المفسرين ابن عباس يقول إن نجاستهم
كنجاسة الكلب والخنزير 2 واعتقد بذلك الشيعة.

1. المعتبر الطبع الجديد ج 1 ص 95 وعبارته كذا: وأما الكفار فقسمان يهود ونصارى ومن
عداهما أما القسم الثاني فالأصحاب متفقون على نجاستهم...
2. وفي التواريخ أنه قد مر أبو موسى الأشعري على عمر بحساب فدفعه إلى عمر فأعجبه فقال لأبي
موسى: أين كاتبك يقرء هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد فقال: لم أجنب هو؟
قال: إنه نصراني فانتهره وقال: لا تدنهم وقد أقصاهم الله ولا تكرمهم وقد أهانهم الله ولا تأمنهم
وقد خونهم الله. أوثق عرى الايمان ص 92.
33

نعم خالف جمع منهم مستدلين بما رووه باسنادهم من استعمال النبي
الأعظم صلى الله عليه وآله أواني المشركين والكفار وأجاب عنه القائلون
بالنجاسة منهم بأن هذا كان قبل نزول الآية الكريمة الناطقة بنجاستهم، والحاصل
أنه لا غبار على الاستدلال بالآية، وانكار ذلك ليس في مورده.
حول معارضة آية الطعام
نعم يوجد هنا اشكال وحاصله: سلمنا دلالة الآية على نجاسة الكفار حتى
أهل الكتاب منهم، إلا أنها معارضة بآية الطعام في مورد أهل الكتاب وهي قوله
تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم
حل لهم " 1 فإن لازم حل طعام أهل الكتاب للمسلمين هو طهارة أبدانهم، فإذا
كان طعامهم الذي صنعوه وعالجوه بأيديهم حلالا للمسلمين فكيف يحكم
بنجاستهم؟ وعلى الجملة فمفاد الآية الأولى نجاسة مطلق الكفار حتى اليهود
والنصارى، ومفاد هذه الآية طهارة خصوص أهل الكتاب فتخصص الأولى بهذه
لأنها أعم وهذه أخص.
والجواب عن ذلك أن آية الطعام ليست في هذا المقام، وليس المراد منها
ذلك، بل لما أمر الله تعالى المسلمين بالاجتناب عن الكفار ومنع عن ترددهم إلى
مكة، وقربهم من المسجد الحرام، وكان هذا معرضا لتوهم المؤمنين
وجوب الانقطاع عن الكفار بكل وجه، وحرمة البيع منهم، والاشتراء عنهم، و
مظنة لأن يتخيلوا عدم جواز المعاشرة معهم، وحظر طعام كل من الطائفتين
على الأخرى على حسب ما تقرره آية النجاسة فلذا نص القرآن الكريم - دفعا

1. سورة المائدة الآية 7.
34

لهذا التوهم وابطالا لهذا الخيال - على أن طعام أهل الكتاب حل لكم، وطعامكم
أيها المسلمون حل لهم، فلا تعطل الأسواق لنجاسة الكفار ولا تسد
أبواب المعاملات والمبادلات لذلك على حسب ما تشير إليه آية الطعام.
إذا تلونا عليك هذا فاعلم أنه قد فسر الطعام في كلام بعض اللغويين بالبر،
أي الحنطة، وفي كلام بعض آخر منهم بالحبوب، فقال الفيومي في مصباحه: إذا
أطلق أهل الحجاز لفظ الطعام عنوا به البر خاصة انتهى.
وعن المغرب: إن الطعام اسم لما يؤكل وقد غلب على البر وحكي عن
ابن الأثير عن الخليل أن الغالب في كلام العرب أنه البر خاصة.
وقال الطريحي في مجمع البحرين: الطعام ما يؤكل وربما خص بالبر. إلى
غير ذلك ما كلمات اللغويين وقد وردت روايات أيضا تفسر الطعام المذكور
في الآية بالبر أو الحبوب مطلقا وفسرها المفسرون أيضا كذلك، ومعلوم أن البر و
الحبوب يابسة لا تتنجس بملاقاة أبدانهم، فأجاز الشارع بيع الحبوب لهم واشترائه
منهم لا لخصوصية فيها، بل لكونها يابسة لم تتنجس، ويترتب عليه بالطبع أنه لو
كان لهم شئ غير نجس مما يؤكل فهو أيضا يجوز شرائه منهم وأكله، وعلى ذلك
فلا دلالة فيها على طهارة أهل الكتاب أصلا.
بل يمكن أن يقال - بلحاظ ما ورد في التفاسير مؤيدا بقول أهل اللغة و
مستندا إلى روايات أهل البيت عليهم السلام من كون الطعام بمعنى البر أو الحبوب
- إن في الآية اشعارا بنجاسة الكفار من أهل الكتاب أو الدلالة على ذلك.
ثم لو فرض عموم الطعام وشموله لكل ما يطعم، فلا دلالة أيضا في آية
الطعام على مراد الخصم، ولا معارضة بينها وبين الآية الأولى أصلا، لأن اطلاق
هذه الآية الكريمة حيثي، فهي في مقام بيان حكم طعام أهل الكتاب بعنوان كونه
طعاما لهم وبلحاظ هذه الحيثية فقط ولا اطلاق لها حتى يكون طعامهم حلا
35

للمؤمنين كيفما كان وفى أي شرط من الشرائط وحال من الحالات، ولا
يشمل العناوين المتعددة والحيثيات المتكثرة فإذا قيل: لحم الغنم حلال. فهل
ترى من نفسك أن معناه هو حلية لحم الغنم مطلقا وإن كان مغصوبا أو مأخوذا
بالسرقة وبغير رضا صاحبه؟ وكذا لو كان جلالا وغير مذكى؟ أو تقول إن معناه أن
لحم الغنم في نفسه وفي حد ذاته مباح وهذا لا ينافي أن يكون حراما من الجهات
الطارئة وبالعناوين العارضة.
ولهذا لا يرى العرف تعارضا أصلا بين قولنا لحم الغنم حلال، وبين قولنا
اللحم المغصوب حرام، وليس إلا لعدم اطلاق للأول يشمل الحيثيات و
التطورات الحادثة.
فطعام أهل الكتاب في إطار كونه طعاما لهم حل للمؤمنين وليس محرما
من المحرمات، أو نجسا من النجاسات، نعم يمكن أن يحرم بالطوارئ والعوارض
كما إذا لاقاه صاحبه مع الرطوبة وكما إذا لاقى هذا الطعام نجسا آخر معها.
هذا بالنسبة إلى حل طعام أهل الكتاب للمؤمنين المستفاد من قوله تعالى:
" وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم. "
وأما بالنسبة إلى حل طعام المؤمنين لهم المستفاد من قوله تعالى " و
طعامكم حل لهم " فلا اشكال فيه أصلا مضافا إلى أنه أيضا حيثي.
والحاصل: أنه ليس في هذه الآية أقل مرتبة من الدلالة على الطهارة فضلا
عن ظهور أو صراحة فيها وإن أغمضنا النظر عن تفسير الطعام بالبر والحبوب، و
قلنا بشموله لهما ولغيرهما مما يساغ ويؤكل، ولا مخالفة ولا تهافت بين هذه
الآية والآية المبحوث عنها الدالة على النجاسة، وسيوافيك الكلام في
هذا الموضوع عند الجواب عن استدلال القائلين بالطهارة إن شاء الله تعالى.
فالانصاف أن الآية الكريمة تدل على نجاسة الكفار مطلقا بلا أي نقص
36

في دلالتها أو معارض يعارضها وبلا فرق بين أقسام الكفار بل ليس هنا ايضاح
أبلغ من هذا الايضاح.
الاستدلال بآية الرجس
ومن الآيات التي قد يستدل بها لاثبات نجاسة الكفار قوله تعالى:
" كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ". 1
فنقول في تقريب الاستدلال بها: إن مفادها: إن كل من لا يؤمن بالله -
سواء كان مشركا اصطلاحيا أو كان منكرا لله تعالى أو غيرهما من أصناف الكفار
فقد كتب الله وجعل عليه الرجس. والرجس هو النجاسة. 2
ولكن الانصاف أن هذه الآية ليست كالسابقة في - نهوضها لاثبات ما

1. سورة الأنعام الآية 125. أقول: وقد استدل بها العلامة أعلى الله مقامه في التذكرة ج 1 ص 8 و
في نهاية الإحكام ج 1 ص 273 والشهيد في الدروس ص 13 وفي الذكرى ص 13 على نجاسة
الكافر مطلقا والمحقق في المعتبر ص 24 على نجاسة من عدا اليهود والنصارى من الكفار، وابن
إدريس على نجاسة كل من لم يعتقد الحق إلا المستضعف، على ما حكاه العلامة.
2. قال السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية: معنى الرجز والرجس والنجس واحد بدلالة قوله
تعالى: " والرجز فاهجر " " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " انتهى.
وقال الشيخ في التهذيب الطبع الجديد ج 1 ص 278: إن الرجس هو النجس بلا خلاف.
وفي مجمع البحرين بعد نقل هذا: وظاهره أنه لا خلاف بين علمائنا في أنه في الآية بمعنى
النجس انتهى.
وقال في المختلف ص 58 في ضمن البحث عن نجاسة الخمر والتعرض لآية " إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس " الخ -: إن الرجس هو النجس.
وقال الشيخ البهائي قدس سره في الحبل المتين ص 102 في ذيل آية الخمر: والرجس وإن كان
يطلق على غير النجس أيضا إلا أن الشيخ في التهذيب نقل الاجماع على أنه هنا بمعنى النجس...
وحينئذ فإما أن يكون خبر بقية المتعاطفات في الآية محذوفا أو يكون رجس هو الخبر عن
الكلام من قبيل عموم المشترك أو عموم المجاز ومثله غير عزيز في الكلام انتهى كلامه.
37

نحن بصدده أي نجاسة الكفار - فإن كلمة (نجس) في الآية الأولى كانت ظاهرة
في النجاسة الشرعية قطعا، بخلاف لفظ (الرجس) فإنه وإن أمكن أن يكون
المراد منه النجس، إلا أنه لا يكون ظاهرا فيه 1 كما ترى أنه أريد به غير النجاسة
المصطلحة في قول الله تعالى: " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس. " 2 فإن الرجس هنا بقرينة المتعاطفات هو الخبيث والعمل القبيح.
وعلى الجملة فإن ثبت أن المراد من الرجس في الآية المبحوث عنها
هي النجاسة الشرعية فهي أيضا من أدلة المطلب وإلا فهي أجنبية عن المقام، ولا
يصح الاستدلال بها في اثبات المطلوب.

1. أقول: خصوصا بلحاظ صدر الآية وهو قوله تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك... "
2. سورة المائدة الآية 92.
38

الأخبار الدالة على نجاسة الكفار
وقد استدل القائلون بالنجاسة أيضا بالأخبار المروية عن الأئمة عليهم
السلام ونحن نورد منها ما يلي:
منها: موثقة سعيد الأعرج فعلى نقل التهذيب والكافي قال: سئلت
أبا عبد الله عليه السلام عن سؤر اليهودي والنصراني فقال: لا. وعلى نقل الفقيه:
سئل الصادق (ع) سعيد الأعرج عن سؤر اليهودي والنصراني أيؤكل أو يشرب؟
فقال لا. 1
وجه الاستدلال إن ظاهر السؤال فيها هو السؤال عن الأكل أو الشرب من
حيث الطهارة والنجاسة، وقد علمت أن الإمام عليه السلام نهاه عن أكل سؤره و

1. جامع أحاديث الشيعة الطبع القديم ج 1 ص 21، وفي مرآة العقول ج 13 ص 40: حسن، و
في المستمسك ج 1 ص 369 مصحح سعيد الأعرج.
39

شربة، وظاهر النهي الحرمة.
والقول بأن نهيه عليه السلام وحكمه بالتحريم تعبد محض ولا يستلزم
نجاسة سؤرهما فكأنه قد حرم الأكل والشرب من سؤرهما مع طهارته توهم لأن
الظاهر أن تحريمه كان للنجاسة وليس هذا الظهور في مورد الانكار.
ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن
رجل صافح مجوسيا قال: يغسل يده ولا يتوضأ. هكذا نقل في التهذيب، ولكن
في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجل صافح
موجسيا... 1
وجه الاستدلال بها إن الإمام عليه السلام قال في شأن من صافح مجوسيا:
يغسل يده. وهذه الجملة خبر يفيد الانشاء، بل هو آكد منه حيث إن المتكلم إذا
أخبر في مقام الانشاء فهو يرى الأمر واقعا محققا مفروغا عنه، ولا يفرض ولا
يحتمل صورة عدمه بل يرى تركه غير محقق، وعلى هذا فقد أوجب عليه السلام
غسل اليد على هذا المصافح لأجل مصافحته المجوسي ومن العيان المغني
عن البيان إن وجوب الغسل دليل النجاسة وكاشف عنها.
نعم يمكن المناقشة فيها بأن ملاقاة النجس مطلقا لا تكون سببا للنجاسة و
وجوب الغسل بل هي مشروطة بالرطوبة المتعدية بحيث يتأثر الملاقي
بالنجاسة، ومعلوم أن مجرد مصافحة المجوسي لا يوجب سراية النجاسة من يده
إلى يد المسلم، وإنما تسري إذا كانت يد أحدهما أعني يد المجوسي أو يد المسلم
المصافح رطبة والحال أن مقتضى هذه الرواية وجوب غسل يده مطلقا بلا تقييد
بما إذا كانت المصافحة وتلاقي اليدين مع رطوبة سارية في إحديهما.
ويمكن الجواب عنها والتخلص منها بوجوه:

1. جامع أحاديث الشيعة الطبع القديم ج 1 ص 43، والطبع الجديد ج 2 ص 113.
40

الأول: إن الغالب في البلاد الحارة و - منها الحجاز التي هي أرض النبوة و
مهبط الوحي ومحل صدور تلك الرواية الشريفة - وهو عدم خلو يد واحد
من المصافحين عن الرطوبة السارية، كما أن هذا أمر مجرب محسوس فيها بل و
في غيرها من البلدان أيضا عند اشتداد الحر، فلذا اكتفى الإمام عليه السلام بالغلبة
التي هي قرينة واضحة مغنية عن ذكر الرطوبة.
والثاني: إن مراد الإمام عليه السلام هو المصافحة المقيدة برطوبة في يد
أحدهما، إلا أن القيد مذكور في الأخبار الأخر، أو هو معلوم غير محتاج إلى ذكره،
وعلى الجملة فلا يلزم ذكر المقيد عند القاء المطلق وذكره مطلقا ولا يستلزم ترك
ذكره الاغراء بالجهل كما أنه لا بأس بذكر المطلق بلا قيد مع إرادة المقيد اعتمادا
على كون القيد معلوما.
ألا ترى أن المولى إذا طلب من عبده الماء وأمره باتيانه بلا تقييد بكونه
باردا مع كون الهواء حارا جدا فإن العبد يعلم بمقتضى الحال أن المولى لم يطلب
ولم يرد منه إلا الماء البارد أو المثلج، وإن كان أمره مطلقا، فإنه قد اعتمد على
علم العبد بذلك ولم ير حاجة إلى ذكره.
وهنا وجه ثالث في الجواب عن المناقشة المذكورة، ودفعها عن الرواية، إلا
أنه على ذلك لا دلالة لها على النجاسة، وهو أن يقال: إنه ليس ظاهر الأمر - الذي
هو الوجوب - مرادا هنا بل المراد منه الاستحباب لكن هذا الاحتمال خلاف
الظاهر، والظاهر حملها على أحد الاحتمالين الأولين.
بقي الكلام هنا في قوله عليه السلام: ولا يتوضأ. فنقول: المراد منه إن
مصافحة المجوسي مع الرطوبة في اليد وإن كانت موجبة لتنجس يد المسلم الذي
صافحه إلا أنها لا توجب الحدث كي يحتاج في رفعه إلى الوضوء.
وربما يشعر هذا أو يظهر منه إن المؤمنين وأصحاب الأئمة عليهم السلام
41

كانوا يتوهمون أن مصافحة الكفار توجب الحدث لشدة خباثتهم عندهم و
تبريهم عنهم وعن طريقتهم فلذا صرح الإمام بعدم ايجابها الوضوء ولعله كانت
بين الإمام وصاحبه خصوصية أورثت واقتضت ذلك من عدم المخالطة معهم و
أمرهم عليهم السلام إياهم بقطع المراودة عنهم - على خلاف العامة القائلين
بطهارة أهل الكتاب والمعاشرين لهم - فنشأ من الخصوصية المذكورة التوهم
المزبور فردهم عليه السلام عن توهمهم، وأخبرهم بأنه لا يتوضأ المسلم المصافح
معهم.
ومنها رواية أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام في مصافحة المسلم
اليهودي والنصراني قال: من وراء الثياب صافحك بيده فاغسل يدك. 1
تقريب الاستدلال بها أنه عليه السلام أمر بغسل اليد لمصافحة اليهودي
والنصراني، وليس ذلك إلا لنجاستهما وتنجس يد المصافح بمصافحتهما.
ويمكن أن يورد عليها ما أورد على الرواية السابقة، والجواب هو الجواب.
نعم هنا اشكال يختص بالمقام وهو أنه كيف لم يأمر الإمام عليه السلام
بغسل الثياب التي صافحهما المسلم من ورائها والحال أنه لو كانت يدهما
تؤثر النجاسة فلا فرق فيه بين يد المصافح وثيابه؟
ويمكن الجواب عنه بوجوه:
أحدها: إن الإمام عليه السلام يريد أن لا تتنجس يد المسلم ولا تتلوث و
لذا يرشده إلى ما يحتفظ به على طهارة يده وهو المصافحة من وراء الثياب أي
بقطعة من الثوب أو خرقة تكون حائلة بين يده وبين يد الكتابي وإن كان ذلك بأن
يأخذ المسلم شيئا من ثوب الكتابي نفسه ويصافحه من ورائه وبيده المغطاة بثوبه
لا بثوب نفسه كي لا يتنجس، وعلى الجملة فلا يستفاد من قوله عليه السلام (من

1. جامع أحاديث الشيعة الطبع القديم ج 1 ص 42، والطبع الجديد ج 2 ص 133.
42

وراء الثياب) أن يأخذ الحائل من ثوب نفسه الملبوس بل اللازم هو الحيلولة بين
يده ويد الكتابي حفظا ليده عن النجاسة.
ثانيها: سلمنا شمول قوله عليه السلام، لثياب المسلم الملبوسة أيضا التي
يصلي فيها لكن من المعلوم، الفرق بين تنجس اليد والثوب فإن تنجس اليد
يحصل بمجرد رطوبة يسيرة وبلة قليلة في يد أحدهما ولا يحتاج إلى كثير مؤنة
بخلاف تنجس الثوب فإنه يحتاج إلى أكثر من هذا ولا يتحقق إلا برطوبة جلية
بينة ونداوة ظاهرة سارية كي يتأثر بها غاية الأمر أنه بعد المصافحة من ورائه
يصير الثوب مشكوك النجاسة فربما تكون الرطوبة سارية في شئ ولا تكون
كذلك في غيره، ومن المعلوم أن مشكوك الطهارة والنجاسة محكوم بالطهارة،
كما أن الاستصحاب أيضا يقتضي الطهارة في المقام، حيث إن الثوب كان
مسبوقا بها.
ثالثها: أن قوله عليه السلام بعد ذلك (فاغسل يدك) قرينة ظاهرة على لزوم
غسل الثوب أيضا لو صافحه من وراء الثوب إذا أراد الصلاة فيه لأن غاية ما يقال
في الأول هو عدم البيان حيث إنه عليه السلام لم يقل: إن صافحت مع الثوب فلا
بأس أصلا، حتى يقال إنه صريح أو ظاهر في طهارة الثوب، ويلزم الاشكال، بل
هو اللابيانية المحضة وحينئذ فالجملة الثانية بيان صريح ولا يصح رفع اليد عن
الدليل الصريح ولا البيان الظاهر لأجل عدم البيان بل اللازم بمقتضى الصناعة
هو الأخذ بالبيان ورفع الاشكال والاجمال به في مورد عدم البيان، فإذا قال: فإن
صافحك بيده فاغسل يدك. يعلم منه أنه إن صافح من وراء الثياب - ثياب المسلم
- يجب غسله وتطهيره إذا أراد أن يصلي فيه وبعبارة أخرى يفهم منه أن الثياب
أيضا نجسة. 1

1. أقول: وهنا وجه رابع وهو أن شأن الناس بالنسبة إلى أثوابهم وأبدانهم مختلف فترى أن لهم
الألبسة الصيفية، والشتوية، والسفرية، والحضرية، وثياب التجمل، والعمل، والعبادة، فربما
يتعرى من ثيابه التي قد تنجست ولا يلبسها بعد ذلك مطلقا وربما لا يصلى في هذا الثوب أبدا بل
هو ثوب خاص لحالة خاصة وإن لم تكن متنجسة بخلاف اليد فإنه عضو من أعضاء الانسان
متصل به ولذا ذكر الإمام وجوب الغسل في اليد دون الثياب.
43

ومنها: عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن آنية أهل
الذمة والمجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في
آنيتهم التي يشربون فيها الخمر. 1
تقريب الاستدلال بها إن المقصود من طعامهم المطبوخ الذي نهى عن
أكله على ما هو الظاهر، الطعام الرطب الذي باشروه بأبدانهم حين صنعه وطبعه
فقلما يتفق طبخ غذاء مع عدم مباشرة يد الطابخ له بخلاف غير المطبوخ أو
الفواكه، فلو أخذ المسلم من بيت الكتابي تفاحا أو بطيخا مثلا وشقه بسكين طاهر
فلا اشكال فيه من ناحية الطهارة لعدم مباشرة بدنه له وأما ما طبخه الذمي فهل
يكون المسلم على وثوق واطمئنان من ذلك؟ لا بل الاطمينان حاصل بملاقاته و
نجاسته وكذا آنيتهم نجسة لأجل مباشرتهم لها.
وأما ما ترى من تقييدها في الرواية بقوله: التي يشربون فيهما الخمر. فهذا
لنكتة خاصة راعاها الإمام (ع) وهي أن فقهاء العامة كانوا يقولون بطهارتهم، و
سواد الناس وعوامهم يقلدونهم طبعا في ذلك كما في ساير الأمور فكانوا هم
أيضا يقولون بطهارتهم. وكان أئمة أهل البيت بصدد تحذير الناس عن مخالطة
الكفار، والحكم بنجاستهم وكانوا صلوات الله عليهم أجمعين يهتمون بمعايش
العباد وصلاح الأمة والاحتفاظ على نفوس الشيعة والدماء الزاكية وحيث إنه لم
يمكن لهم مخالفة العامة بالصراحة فلذا يحتالون في ذلك، وكان ذكر قيد (التي

1. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 1 أقول: ومن العجب أنه استدل بها للقول
بطهارة أهل الكتاب أيضا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
44

يشربون فيها الخمر) من هذا الباب، فهو نحو احتيال في مخالفة العامة ونوع فرار
من شرهم وأذاهم، لأن الشيعة كانوا يجتنبون عن مطلق أوانيهم، وعلى الجملة
فإن الإمام عليه السلام يظهر أن الاجتناب عنها لأجل أنهم يشربون فيها الخمر
لا لكونها أواني لهم وأنهم نجس. 1
فانقدح بذلك أن دلالة هذه الرواية على نجاستهم تامة جدا وليس فيها أي
نقصان وذلك للملازمة بين وجوب الاجتناب المستفاد من النهي وبين النجاسة.
ومنها: ما عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال:
سألته عن فراش اليهودي والنصراني ينام عليه؟ قال: لا بأس ولا يصلى في
ثيابهما، وقال: لا يأكل المسلم مع المجوسي في قصعة واحدة ولا يقعده على
فراشه ولا مسجده ولا يصافحه قال: وسألته عن رجل اشترى ثوبا من السوق للبس
لا يدري لمن كان هل تصلح الصلاة فيه؟ قال: إن اشتراه من مسلم فليصل فيه و
إن اشتراه من نصراني فلا يصلي فيه حتى يغسله. 2
تقريب الاستدلال أنه عليه السلام جوز النوم على فراشهم ومنع عن
الصلاة في ثيابهم، ومقتضى الاطلاق المنع عن ذلك سواء كانت لها نجاسة
عرضية أولا، ومن المعلوم أن النهي عن اتيان الصلاة فيها ليس إلا لغلبة المماسة
الحاصلة بينها وبين أبدانهم مع الرطوبة، ولو علم عدم المماسة فلا بأس بالصلاة
فيه، إلا أن الغالب هو الأول، والالحاق منزل على الغالب، وهذه الغلبة كانت
بحيث أوجبت الملازمة بين كون الثوب ثوبا لليهود والنصارى ومنتحلا إليهم و
بين كونه نجسا مع أن ثوبهما ليس نظير السؤر في عدم انفكاكه عن مماسة بدنه

1. يمكن أن يقال: إن حكمه عليه السلام في الجملة الأولى والثانية خلاف التقية وهذا يبعد حمل
الثالثة عليها فتأمل.
2. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 10.
45

مع الرطوبة.
ترى أن الشارع قد وسع في باب الطهارة، بحيث لم يعتبر الشك
في النجاسة بل ولا الظن بها وقال: كل شئ لك طاهر حتى تعلم أنه قذر 1 ومع
تلك التوسعة والنظر الوسيع في أمر الطهارة والنجاسة فقد نهى عن الصلاة
في الثوب المزبور، وأما الثوب المتعلق بالمسلم الذي يستعيره الذمي ثم يرده إليه
فيجوز الصلاة فيه من دون غسله، لأنه ليس مثل ثياب الذمي نفسه في مظنة
النجاسة.
ثم إنه عليه السلام نهى بعد ذلك عن أكل المسلم مع المجوسي في قصعة
واحدة أي في إناء واحد، ووجه ذلك أن الأكل معه في صحفة 2 واحدة يلازم
النجاسة فإنه إما أن يأكل بيده فالأمر ظاهر حيث إنه بمجرد ادخال اليد فيها
يتنجس الطعام وإما بالملعقة فإذا أدخلها في فمه وأخرجها فلا محالة هي متنجسة
لمباشرتها لفمه وشفتيه فإذا أدخل الملعقة في الصحفة أو وضعها فيها يتنجس
الطعام طبعا كما يتنجس الإناء أيضا، فعلى أي حال يلازم أكل المسلم معه الأكل
من النجس، ولذا نهى الإمام عن ذلك.
وأما النهي عن اقعاده على فراشه في قوله عليه السلام: (ولا يقعده على
فراشه) فهو نهي تنزيهي، ارشادا إلى أنه يمكن أن تكون لواحد من أعضائه
وأطرافه رطوبة ويتنجس الفراش بجلوسه عليه، وليس المراد منه أنه يتنجس
تحقيقا وعلى أي حال بمجرد جلوسه عليه.
ويمكن أن يكون النهي لأجل عدم كرامة في جلوسه على فراش المسلم.

1. وسائل الشيعة ج 2 ب 37 من أبواب النجاسات ح 4 عن أبي عبد الله عليه السلام: كل شئ نظيف
حتى تعلم أنه قذر...
2. الصحفة إناء كالقصعة والجمع صحاف مثل كلبة وكلاب، وقال الزمخشري: الصحفة قطعة
مستطيلة، راجع المصباح المنير ص 403.
46

وعلى هذين الوجهين أيضا يحمل نهيه عليه السلام عن اقعاده على
مسجده ومحل عبادته وسجوده.
وأما قوله على السلام: (ولا يصافحه) فقد علم وجهه مما ذكرناه، فراجع.
وأما تجويزه عليه السلام الصلاة في الثوب الذي اشتراه من مسلم، دون ما
اشتراه من نصراني، فإنه لا يصلى فيه، فالوجه في ذلك أن كونه مسلما أمارة
على الطهارة، وكونه نصرانيا أمارة على النجاسة، لا أن يكون النجاسة قطعية و
من المعلوم أن الثوب المشترى من النصراني في السوق تارة يكون
من الجلود المحتاجة التي التذكية، فحكمه واضح، وأخرى يكون متخذا من غيرها
كالقطن مثلا فالنجاسة هنا وإن لم تكن قطعية، إلا أن يد الكفار أمارة على
نجاسته.
وعلى الجملة فهذه المطالب ليست من باب التعبد المحض بل الكافر
نجس فلذا يتنجس ثوبه الذي مسه بيده وبدنه مع الرطوبة يقينا، فإذا علمنا أن
الثوب الخاص هو ثوبه، ولكن لم تعلم مسه له كذلك، فمجرد كون الثوب له وهو
مالكه أمارة على ذلك، ولذا يحكم بنجاسته كما لو كنا نعلم نجاسته بالقطع
والوجدان.
ومنها عن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى عليه السلام قال: سألته
عن مؤاكلة المجوسي في قصعة واحدة وأرقد معه على فراش واحد وأصافحه؟
قال: لا 1
هذه أيضا ظاهرة في عدم جواز مؤاكلة المسلم المجوسي في قصعة
واحدة، ومنع الرقود معه على فراش واحد، والاجتناب عن مصافحته، و
هذه الأمور كلها كاشفة عن كون نجسا.

1. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 6.
47

ومنها عن هارون بن خارجة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إني
أخالط المجوس فآكل من طعامهم؟ فقال: لا 1
ودلالتها أيضا على المراد ظاهرة.
ومنها: عن سماعة قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن طعام أهل الذمة ما
يحل منه؟ قال: الحبوب. 2
معلوم أن الحبوب لا يباشرها الكافر بجزء من بدنه مع الرطوبة، فلذا حكم
الإمام بحليتها لطهارتها، وعلى الجملة فقد رخص استعمال الحبوب وأكلها وكذا
ما أشبهها مما لا يقبل النجاسة، وإن باشروها بأيديهم بخلاف الغداء المطبوخ فإنه
لا محالة يباشره بيده رطبة فلذا لا يحل لكونه نجسا.
ومنها: عن علي بن جعفر أنه سأل أخاه موسى بن جعفر عليه السلام
عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام قال: إذا علم أنه نصراني اغتسل بغير ماء
الحمام إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل. وسأله عن اليهودي
والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا إلا أن يضطر إليه. 3
والظاهر منها أن علي بن جعفر سأل أخاه الإمام عن الحياض الصغار التي
تكون تحت مضخة يدفع بها الماء ويصب منها في هذه الحياض ولم تكن كرا و
كان الناس يقومون على جنبها ويغتسلون من الجنابة مثلا، ولو كانت كرا لم يكن
اغتسال النصراني منها موجبا للنجاسة، ولذا قال الإمام عليه السلام: إذا علم أن
هذا الذي يغتسل معه نصراني فليغتسل هذا المسلم بغير ماء الحمام يعني لا يغتسل
بهذا الماء.

1. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 7
2. وسائل الشيعة ج 16 ب 51 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1
3. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 9.
48

وأما قوله عليه السلام: (إلا أن يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم
يغتسل) فالمقصود أنه لو كان النصراني في الحمام وفرغ من تنظيفه وذهب
وأراد المسلم أن يغتسل في الحمام وحده فهنا يطهر أطراف الحوض ونواحيه فإن
نفس الحوض وماءه يتطهران بفتح المضخة الممتصة من البئر أو المتصلة بالمادة
فإذا صب الماء منها في الحوض يتطهر الحوض وماءه فلا حاجة إلى أكثر من
تطهير جوانب الحوض بخلاف ما إذا كان يغتسل مع النصراني فإنه لا محالة
يتنجس الحوض وكذا يتقاطر من بدن النصراني ويترشح إلى بدنه وإلى نواحي
الحوض وجوانبه ولا يتيسر الاغتسال في تلك الظروف والأحوال، وعلى
الجملة فهذه الفقرات كلها تدل على نجاسة النصراني " فتأمل ".
نعم ذيل الرواية أعني قوله (وسأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده
في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا إلا أن يضطر إليه) فهو محل البحث والكلام
حيث إن الظاهر منه جواز الوضوء من الماء الذي أدخل النصراني يده فيه عند
الاضطرار إلى الوضوء منه في حين أنه لو كان قد تنجس الماء بذلك فلا يصح
الوضوء منه، لعدم جواز الوضوء بالماء النجس، فتجويز الإمام الوضوء بهذا الماء
لا يساعد نجاسة النصراني وبعبارة أخرى أنه كاشف عن طهارته.
لكن حملها الشيخ الطوسي رضوان الله عليه على التقية 1 بيان ذلك أن التقية

1. هكذا أفاد سيدنا الأستاذ الأكبر مد ظله العالي كما أنه المحكى في كلام شيخنا الأنصاري في
طهارته والفقيه الهمداني في طهارته أيضا.
لكني لم أجد ذلك في كتب الشيخ رغم الفحص البالغ وقد روى هذا الخبر في التهذيب ج 1 الطبع
الجديد ص 223 ولم يقل في ذيله كلمة أصلا نعم روى بعده خبر عمار الساباطي قائلا: وأما
الخبر الذي رواه سعد... عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل هل
يتوضأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب على أنه يهودي؟ فقال: نعم قلت فمن ذاك الماء الذي
يشرب منه؟ قال: نعم. ثم قال الشيخ: فهذا محمول على أنه إذا شرب منه من يظنه يهوديا ولم
يتحققه فيجب أن لا يحكم عليه بالنجاسة إلا مع اليقين أو أراد به من كان يهوديا ثم أسلم فأما في
حال كونه يهوديا فلا يجوز التوضؤ بسؤره انتهى ولم يذكر هنا أيضا اسما من التقية أصلا. ولعله
قدس سره ذكره في موضع آخر لم أصادفه.
49

قسمان:
أحدهما: تقية الإمام عليه السلام بنفسه لكنه ليس هذه مراد الشيخ ولا
يمكن القول بها فإن الإمام صرح بنجاستهم قبل هذه الجملة بقوله: (إذا علم أنه
نصراني اغتسل بغير ماء الحمام) وأنت ترى أن هذه الجملة نص في مخالفة العامة
القائلين بطهارة النصارى فلو كان الإمام عليه السلام بنفسه في مقام التقية لما
تفوه بهذه الجملة الناطقة بخلاف مذهبهم ومذاقهم.
ثانيها: تقية الشيعة وأصحاب الأئمة عليهم السلام فأجاز الإمام لهم
عند الاضطرار، الوضوء من هذا الماء النجس حتى يعملوا بهذا الدستور، ولا
يتظاهروا بخلاف مذهب العامة، فإنهم لو اجتنبوا عن النصارى حتى في حال
الاضطرار معتنين وملتزمين بذلك كيفما كانوا فلا محالة يراهم أهل السنة كذلك
ويعرفون عند العامة بالمخالفة لهم، ويكون هذا سببا هاما لابتلائهم و
إصابة السوء والأذى منهم، ولذا استثنى صورة الاضطرار، وقال: إلا أن يضطر إليه.
يعني إذا اضطر إلى استعماله والتوضئ منه فلا بأس به ويجوز هناك الوضوء
من الماء الذي قد تنجس بادخال النصراني يده فيه فيوافق حكمه بذلك قوله:
عليه السلام التقية من ديني ودين آبائي. 1
وعلى هذا فوظيفة المسلم التوضئ من الماء المزبور ما دامت التقية، فما
دام مضطرا كان حكمه ذلك، والوضوء من هذا الماء للمضطر إليه لأجل التقية
كالوضوء من الماء الطاهر للمختار ومن ليس له اضطرار، وواجد لتمام المصالح
التي كانت في الوضوء من الماء الطاهر، وقد أتى هذا المتوضئ بما هو وظيفته، و

1.... عن معمر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن القيام للولاة فقال: قال أبو جعفر
عليه السلام: التقية من ديني ودين آبائي ولا ايمان لمن لا تقية له. الوسائل ج 11 ص 460 ح 3.
50

ما كان في عهدته، وما قرره الله عليه، وطلب منه.
والحاصل: أن هذا الوضوء ووضوء المختار بالماء الطاهر على حد سواء،
ولا نقصان في الأول بالنسبة إلى الآخر أصلا حتى في ترتب الآثار الوضعية
كالطهارة والنجاسة مضافا إلى ترتب الآثار التكليفية فهذا الماء طاهر الآن أي في
حال التقية كماء لم يصبه الكافر أصلا بالنسبة إلى الآخرين.
اشكال الهمداني والجواب عنه
ثم إن الفقيه الهمداني رضوان الله عليه بعد تقريره حمل الأخبار الظاهرة
في الطهارة على التقية في مقام العمل - بأن يعمل السائلون وغيرهم من الشيعة
على ما يوافق مذهب العامة اتقاء شرهم وكيدهم - استشكل في خصوص الآثار
الوضعية قال:.... فالذي يحتمل قويا كونها صادرة لأجل التقية في مقام العمل
بمعنى أنه قصد بها أن يعمل السائلون على ما يوافق مذهب العامة كيلا يصيبهم
منهم سوء، ولا مبعد لهذا الاحتمال عدا الآثار الوضعية الثابتة للنجاسات فإنه لو لم
يكن لها إلا الأحكام التكليفية التي يرفعها دليل نفي الحرج ونحوه لكان الأمر
فيها هينا لكن على تقدير نجاسة الكتابي وتنجس من خالطه واستلزام تنجسه
بطلان وضوئه وغسله المتوقف عليهما صلاته وصومه وساير عباداته المتوقفة
على الطهور لدى قدرته من تطهير بدنه واستعمال الماء الطاهر أو التيمم بدلا
منهما لدى العجز عن التطهير فمن المستبعد جدا أن يأمر الإمام بمخالطتهم و
مساورتهم من غير أن يبين لهم نجاستهم حتى يتحفظوا عنها في طهورهم و
صلاتهم ولو بالتيمم بدلا من الوضوء والغسل مع أن العادة قاضية بقدرتهم
51

على التيمم غالبا من غير أن يترتب عليه مفسدة هذا. 1
لكن لا وقع لهذا الاشكال بعد ما قررناه من أن مقتضى كون التقية دين
الإمام ودين آبائه عليهم السلام هو أن يكون الوضوء بهذا الماء النجس من الدين
ووظيفة شرعية إلهية لمن كان في معرض التقية فيترتب على وضوئه كل الآثار
المختلفة المترتبة على الوضوء بالماء الطاهر الواقعي للمختار سواء في ذلك
الأحكام التكليفية والوضعية، لا التكليفية وحدها، وعلى هذا فلا اشكال أصلا.
ويؤيد ما ذكرناه من ترتب مطلق الأحكام والآثار، حكمهم بكفاية
الصلاة مع الوضوء نكسا عند التقية وأنه لا حاجة إلى قضاءها بعد ذلك، فإن هذا
كاشف عن حصول الطهارة به التي هي حكم من الأحكام الوضعية، وإلا فلا
صلاة بلا طهور.
وبهذا البيان يجمع بين نجاسة الماء، وجواز الوضوء منه، وعدم لزوم تنبيه
الإمام الشيعة أو السائلين على كونه متنجسا بالملاقات، ومحصل الكلام أن أمره
عليه السلام بالوضوء منه كان للتقية هذا.
لكن مع ذلك كله فهنا احتمال آخر أيضا غير الحمل على التقية وهو العفو
عن النجاسة عند الضرورة فيكون قوله عليه السلام: (إلا أن يضطر إليه) يراد به إن
الوضوء من هذا الماء النجس لدى الاضطرار وعند الابتلاء به جائز، وقد عفى عن
هذه النجاسة في هذه الحالة، وقد مال المحقق الهمداني أيضا إليه في آخر كلامه
فراجع.
وعلى الجملة فهذه الأخبار الشريفة وغيرها مما لم نتعرض لها 2 تدل على

1. مصابح الفقيه كتاب الطهارة ص 561
2. أقول مثل ما رواه العلامة في التذكرة ص 8 والشهيد في الذكرى ص 13 عن النبي صلى الله عليه و
آله وقد سئل أنا بأرض قوم أهل كتاب نأكل من آنيتهم: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها
فاغسلوها ثم كلوا فيها. وقال العلامة أعلى الله مقامه في نهاية الإحكام ج 1 ص 273 عند ذكر
النجاسات: العاشر: الكافر نجس العين عند علمائنا كافة لقوله تعالى: " إنما المشركون نجس " و
" كذلك يجعل الله "... ولأن أبا ثعلبة قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب أفنأكل في
آنيتهم؟ قال عليه السلام: إن وجدتهم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها و
كلوا فيها، وقال عليه السلام: المؤمن ليس ينجس، والتعليق على الوصف المناسب يشعر بالعلية
الخ.
52

نجاسة الكفار. ولو فرض عدم وضوح دلالة كل واحد منها على ذلك فهي مشتملة
على روايات صحيحة السند واضحة الدلالة ناطقة بنجاسة اليهود والنصارى و
المجوس وهذه تكفينا، نعم لنا أخبار ربما تستظهر منها طهارتهم ونحن نتعرض
لها عند ذكر أدلة القائلين بها ونجيب عنها إن شاء الله تعالى فانتظر.
53

الكلام حول الاجماع على النجاسة
ومن الوجوه التي تمسك بها القائلون بنجاسة اليهود والنصارى - مضافا
إلى المشركين والملاحدة - هو الاجماع، فنقول: ذهب علماء الأصحاب وفقهاء
الشيعة خلفا عن سلف إلى القول بنجاسة أهل الكتاب، ولم يظهر بينهم خلاف
في ذلك، بحيث ادعى الاجماع على نجاستهم 1 وعدم الخلاف في المسألة، بعد

1. أقول وممن ادعى الاجماع هو السيد وكثير من أعلام الشيعة فقال السيد المرتضى على الهدى
في كتاب الطهارة من الانتصار: ومما انفردت به الإمامية القول بنجاسة سؤر اليهودي والنصراني
وكل كافر... ويدل على صحة ذلك مضافا إلى اجماع الشيعة عليه قوله تعالى إنما المشركون
نجس الخ. وقال في الناصريات: عندنا أن سؤر كل كافر بأي ضرب من الكفر كان كافرا، نجس
... دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد اجماع الفرقة المحقة قوله تعالى: إنما المشركون نجس الخ.
وقال الشيخ في التهذيب ج 1 ص 223: أجمع المسلمون على نجاسة المشركين والكفار اطلاقا
وذلك أيضا يوجب نجاسة أسئارهم الخ. وقال العلامة في المنتهى ج 1 ص 168: الكفار
أنجاس وهو مذهب علمائنا أجمع سواء كانوا أهل كتاب أو حربيين أو مرتدين وعلى صنف
كانوا.
وقال علم التحقيق شيخنا الأنصاري قدس سره في طهارته بعد ادعاءه الاجماعات المستفيضة:
بل يمكن دعوى الاجماع المحقق.
55

أنه لا خلاف قطعا في نجاسة المشركين ومنكري الصانع وأمثالهم، وعلى الجملة
فهذا هو مذهب علمائنا الأخيار المتفرقين في البلدان والأمصار، طيلة قرون و
أعصار، فهم أجمعوا على نجاسة الكفار ولم يخالفوا في ذلك، نعم نسب الخلاف
إلى شاذ منهم وهو الشيخان - المفيد والطوسي - والقديمان - العماني
والإسكافي -
ولكن الظاهر عدم خلافهم أيضا فيما هو المقصود، فإن السبب في عد
الشيخ من المخالفين أنه قال في النهاية 1: ويكره أن يدعو الانسان أحدا من الكفار
إلى طعامه فيما كل معه فإن دعاه فليأمره بغسل يديه ثم يأكل معه إن شاء انتهى.
حيث إنه عبر بالكراهة ولم يقل يحرم ومفاد كلامه أن المؤاكلة مع الكفار
للمسلم مكروه، وكذا قال بأنه لو دعاه إلى طعامه فليأمره بأن يغسل يده ثم يأكل
هذا المسلم مع الكافر الذي غسل يديه، فلو كان نجسا ذاتيا فكيف يؤمر بغسل
يديه؟ وهل غسل اليد يرفع النجاسة العينية ويزيلها؟.
وعلى الجملة فكراهة الأكل معه وأمره بغسل اليدين ينافيان النجاسة
العينية الذاتية.
وفيه أنه قدس سره قال في النهاية قبل العبارة المذكورة بأسطر قليلة: لا
يجوز مؤاكلة الكفار على اختلاف مللهم ولا استعمال أوانيهم إلا بعد غسلها
بالماء، وكل طعام تولاه بعض الكفار بأيديهم وباشروه بنفوسهم لم يجز أكله
لأنهم أنجاس ينجس الطعام بمباشرتهم إياه وقد رخص في جواز استعمال
الحبوب وما أشبهها مما لا يقبل النجاسة وإن باشروها بأيديهم، انتهى كلامه رفع

1. كتاب الأطعمة والأشربة باب الأطعمة المحظورة والمباحة ص 589.
56

مقامه. 1
وهذه العبائر كما ترى صريحة جدا في نجاستهم بحيث لا تنالها
أيدي الاحتمالات وهي نصوص قاطعة منه قدس سره على موافقته للمشهور في
نجاسة الكفار، وأنهم من النجاسات، فهل يمكن أن يقال إنه نسي تلك العبارات
الناطقة بالمطلوب، وغفل عنها أو أنه رجع عن الحكم في هذه المسافة القصيرة
والأسطر القليلة، وأفتى بخلافه؟. فحينئذ لا بد من رد اللاحق إلى السابق وحمل
عبارته الأخيرة على ما لا تخالف كلامه الصريح 2. وهذا بمكان من السهولة، و
حمل الظاهر على النص أمر رائج عند الفقهاء.
ويؤيد ذلك أن إرادة الحرمة من الكراهة واستعمال الكراهة في الحرمة في
كلمات أصحابنا السابقين وأساطير أعلامنا الماضين غير عزيز، وإرادة المعنى
اللغوي من الكراهة في عرف القدماء شايعة 3.
وإن أبيت عن ذلك فنقول: سلمنا إرادة الكراهة المصطلحة من لفظ
الكراهة، إلا أن المراد من المؤاكلة هنا المؤاكلة في اليابس.
وأما الأمر بغسل يده ثم الأكل معه فلا يستلزم جواز الأكل معه بعد ذلك
مطلقا حتى في إناء واحد كي يستلزم ذلك كونه طاهرا بالذات بل المقصود من
غسلها نظافتها ورفع القذارة عنها كيلا يتنفر الجلساء 4 فيأكل هذا من إناء وذاك

1. نفس الصفحة المذكورة
2. بتنزيل الطعام على ما ليس برطب، وما لا سراية فيه كطبخ الأرز، يأكل من جانب، وغسل
اليدين لا زالة ما عساه يعلق بأيديهم من أقذارهم ثم ينتظر حتى يجف، كذا في وسائل الشيعة
للفقيه الكاظمي ص 145
3. أقول: وقد صرح في المبسوط بنجاسة أواني المشركين وأهل الكتاب وساير الكفار إذا
باشروها بأجسامهم فراجع ج 1 ص 14
4. أقول: وقد تعرض لهذا، المحقق في نكت النهاية وأجاب ببعض ما أفاده سيدنا الأستاذ،
دام ظله العالي وإليك عين العبارة: قوله ويكره أن يدعو الانسان واحدا من الكفار إلى طعامه
فيأكل معه فإن دعاه فليأمره بغسل يده ثم يأكل معه إن شاء. ما الفائدة في الغسل وهو لا يطهر
به؟ الجواب الكفار لا يتورعون عن كثير من النجاسات، فإذا غسل يده فقد زالت تلك النجاسة و
هذا يحمل على حال الضرورة أو على مؤاكلة اليابس، وغسل اليد لزوال الاستقذار النفساني
الذي يعرض من ملاقاة النجاسات العينية وإن لم يفد طهارة اليد. ثم استشهد المحقق برواية
عيص بن قاسم فراجع الجوامع الفقهية ص 437.
57

من آخر والمؤاكلة مع لا يستلزم وحدة الإناء أيضا.
هذا بالنسبة إلى شيخ الطائفة أعلى الله مقامه.
وأما الشيخ المفيد قدس الله أسراره فقد عبر في الرسالة الغرية بالكراهة في
أسئارهم وصار هذا التعبير منه سببا في عده أيضا من المخالفين.
لكن الظاهر عدم دلالته على كونه قائلا بطهارتهم، لامكان إرادة الحرمة
من الكراهة كما ذكرناه آنفا.
ويؤيد ذلك أنه في غير هذه الرسالة من كتبه أفتى بالنجاسة.
هذا مضافا إلى أن أتباعه وتلاميذه الذين هم أعرف بمذهبه وفتاواه من
غيرهم ادعوا الاجماع على النجاسة، ولم ينقلوا عنه خلافا، ولا القول بكراهة
أسئار الكفار - اليهود والنصارى - وهو بمكانه الخاص به من كونه رئيس الفرقة،
وعماد الأمة، بل نقله عنه بعد ذلك المتوسطون، فهو لم يحسب مخالفا
في المسألة عند أصحابه وأتباعه، وعلى ذلك فلا بد إما من حمل الكراهة في
كلامه على الحرمة، كما احتملنا ذلك في كلام شيخ الطائفة، وإما من القول بأنه قد
عدل عن قوله كما يشهد بذلك شأن سائر كتبه، وما ذكرنا من حال أصحابه و
تلاميذه.
وعلى هذا فكيف يعد ويحسب المفيد مخالفا في المسألة والحال هذه؟ و
هل يمكن نسبة المخالفة إليه مع تلك القرائن الظاهرة والأمارات الدالة على قوله
بالنجاسة؟.
58

وأما ابن أبي عقيل فهو وإن كان يقول بطهارة سؤر الذمي، إلا أنه ليس
ذلك لأجل كونه قائلا بالطهارة، بل إن فتواه بذلك ناشئة عما تحقق عنده من عدم
انفعال الماء القليل بملاقات النجس، ومن نسب الخلاف إليه استفاد ذلك من
تصريحه بطهارة سؤر الذمي، والحال أن افتاءه بطهارة سؤره مبني على اجتهاد
خاص به في الماء القليل حيث إنه على خلاف كافة العلماء والأصحاب -
القائلين بأن الماء القليل ينجس بملاقات النجاسة، وأن الكر لا يتنجس إلا إذا
تغير أحد أوصافه الثلاثة بها - يقول إن الماء القليل أيضا مثل الكثير لا يتنجس
بمجرد الملاقاة، وبعبارة أخرى أنه قائل بعدم انفعال القليل بالنجاسة، و
سؤر الذمي طاهر عنده لذلك - بعد تخصيص السؤر بالماء 1 - فلا يدل افتاءه بذلك
على طهارتهم أصلا.
بقي من هؤلاء الذين قد يدعي مخالفتهم للأصحاب ابن الجنيد
الإسكافي. 2
والذي يسهل الخطب ويهون الأمر أنه مرمي بشذوذ القول والميل إلى
القياس والافتاء غالبا على طبق مذهب العامة وقد شنعوا عليه في ذلك وصار

1. أقول: كما عليه جملة من الأصحاب على ما صرح به في المدارك. وقال في كشف الغطاء:
الأسئار جمع سؤر وهو فضلة الشرب من قليل الماء من حيوان ناطق أو صامت وإن اشتهر
في الثاني أو ما أصاب أو أصابه فم حيوان أو جسم حيوان كذلك والأظهر الأول.
2. فإن له كلامين ظاهرين في مخالفته للأصحاب وذهابه إلى طهارة أهل الكتاب وقد نقلهما علم
التقى الشيخ المرتضى قدس سره الشريف في طهارته.
قال في أحد كلاميه: التجنب من سؤر من يستحل المحرمات من ملي أو ذمي أحب إليه إذا كان
الماء قليلا.
وفي الآخر: إن التجنب مما صنعه أهل الكتاب من ذبائحهم وفي آنيتهم ومما صنع في أواني
مستحلي الميتة ومؤاكلتهم ما لم تيقن طهارة آنيتهم وأيديهم أحوط، انتهى.
فتارة عبر، بأن التجنب أحب وأخرى بأنه أحوط فتأمل.
59

هذا سببا لرفض أقواله عند الأصحاب وعدم اعتنائهم بفتاويه 1 وعلى هذا فافتاءه
بطهارة أهل الكتاب غير ضائر بالاجماع بعد أن كان رأيه متروكا.
ولذا لم يوافقه في هذه الفتوى أحد من المتقدمين ولم يسلك سبيله في
هذا الرأي من عرف بدقة النظر وجودة الرأي من المتأخرين.
نعم مال إليه المحقق السبزواري 2 والمحدث الفيض الكاشاني رضوان الله
عليهما إلا أنهما أيضا معروفان بشذوذ القول ومرميان بالفتاوى الغريبة والآراء
النادرة حتى أنه قد يقال في حق الأول منهما أنه في المتأخرين كابن الجنيد
في المتقدمين.
فتحصل مما ذكرنا في هذا المضمار إن الاجماع قائم على نجاستهم
بلا خلاف قادح في المسألة.
نعم يمكن أن يقال: إن الاجماع لا يعتد به في المقام لعدم كونه دليلا
مستقلا ممتازا عن الأدلة اللفظية الواردة. والاجماع حجة إذا لم يكن في المسألة
دليل صالح للاستناد إليه، فإنه يحدس هناك وجود دليل معتبر عند المجمعين و

1. أقول يؤيد ما أفاده سيدنا الأستاذ دام ظله ما ذكره التستري في المقابيس. فإنه بعد أن
مدح الإسكافي بألفاظ شريفة وأطراه الاطراء الجميل الفائق كقوله العزيز النظير البالغ في الفقه و
ساير فنون العلم أقصى المراتب. قال: وصنف كتبا كثيرة جيدة حسنة بديعة وإن كان بعضها مما
يتعلق بالقياس والاجتهاد فاسد الوضع كما بيناه في موضع آخر وقد نقلوا عنه أنه كان يرى القول
بالقياس فتركت لذلك كتبه ولم يعول عليها. انتهى.
وفي مقدمة كتاب المقنع: وحكى بعض إن الشيخ المفيد قدس سره صرح في بعض أجوبة
المسائل الواردة عليه أنه نسب إليه - ابن الجنيد - العمل بالقياس واتهم بالسلوك مسالك العامة
في الفقه.
2. قال في الكفاية: ولا خلاف بين الأصحاب في نجاسة غير أهل الكتاب من أصناف الكفار، و
في نجاسة أهل الكتاب خلاف والمشهور بين الأصحاب نجاستهم وذهب المفيد في أحد قوليه و
ابن الجنيد إلى الطهارة وأدلة النجاسة محل بحث والأخبار المعتبرة دالة على الطهارة لكن لا
ينبغي الجرأة على مخالفة المشهور المدعى عليه الاجماع.
60

عثورهم عليه، حيث إن بناء هم كان على أن لا يتكلموا من عند أنفسهم وبدون
دليل معتبر موثوق به وأما إذا كان في المسألة دليل صالح لأن يستند إليه
المجمعون فالاعتماد هناك عليه والاستناد إليه، وليس الاجماع شيئا ورائه، و
اللازم حينئذ الاقبال والتوجه إلى هذا الدليل الذي يصلح للاستناد إليه ولو
بالنسبة إلى بعض دون الآخرين.
والظاهر عندي أن مسئلتنا كذلك فإن الدليل على نجاستهم هو الآية الكريمة
الظاهرة في نجاستهم، والروايات الشريفة الدالة على ذلك، غاية الأمر أن الخاصة
وأصحاب الأئمة أخذوا بظاهر الآية وحكموا بالنجاسة العينية الذاتية كما أن
الأئمة عليهم السلام أخذوا هذا المعنى من القرآن الشريف والآية الكريمة و
نشروه وروجوه بأخبارهم فاتخذ الشيعة سبيلهم وسلكوا طريقهم وعلى منهاجهم.
وأما العامة فهم قالوا بالنجاسة الحكمية مؤولين الآية الكريمة عليها وهذا
أيضا أثر سيئ من آثار انحرافهم عن معاهد أهل البيت وثمة تباعدهم عن ولاية
أسرة رسول الله خزان علم الله ومهابط وحيه وتراجمة كتابه وينابيع أحكامه. أجل
انحرفوا عنهم فصاروا يتيهون في كل واد ويسيرون خلف كل ناعق. وعلى الجملة
فهذا كما ذكرنا تأويل منهم في الآية حيث إنها ظاهرة في النجاسة الذاتية، وفيما
ذكره الشيخ الطوسي قدس سره: (إن الكفار نجس في الجملة) إشارة إلى ما
ذكرناه فإن قوله: (في الجملة يعني إما ذاتا كما يقوله الشيعة وإما حكما كما
جنح إليه العامة هذا وقد علمت مما ذكرنا أن استناد الأصحاب في الحكم
بالنجاسة مطلقا إلى الآية الكريمة والروايات، فهم قد فهموا واستظهروا
النجاسة، وأفتوا بها، وأجمعوا عليها، ولم يظهر بينهم طوال الأعصار الكثيرة
والسنوات المتمادية خلاف يعبأ به، فالا عراض عن هذا النظر وغمض العين عن
فتوى الأعلام والأجلة، والرغبة عن الحكم بالنجاسة في غاية الاشكال.
61

لا يقال إن الحكم بنجاسة البئر كان مجمعا عليه بن المتقدمين فكانوا
يفتون بوجوب نزح المقدارت عند تنجسه، قاطعين به، ثم بعد مضي قرون
متوالية على هذا أعرض العلماء عن ذلك وأفتوا بعدم تنجسه بالملاقات وقالوا
باستحباب المنزوحات واشتهر هذا القول حتى اتفقت كلمة المتأخرين على
ذلك، بلا قيل وقال، فأي اشكال أو بعد في كون مسئلتنا أيضا كذلك وأن يفتي
المتأخرون بطهارة أهل الكتاب ويوافقوا المحقق السبزواري مثلا وزملاءه
في الافتاء بذلك بعد أن كان السابقون مجمعين على النجاسة؟
فإنا نقول: بين المسألتين بون بعيد وفرق ظاهر، فإن مسألة البئر ونزحه
حكم لم يكن له عرق قرآني بل مأخذه أخبار واردة في الباب فقط، وهذه الأخبار
وإن كانت مسلمة الصدور عنهم عليهم السلام ولم يكن صدورها للتقية لكنها مع
ذلك لم تكن بنحو يوجب حكم الفقهاء جزما بنجاسة البئر لا جلها.
فترى الشيخ الصدوق قدس سره قال في الهداية: ماء البئر واسع لا يفسده
شئ، 1 ثم ذكر مقادير النزح من دون تصريح بالنجاسة وهذا سواء كان عين فتواه و
نظره أو أنه كانت رواية نقلها بصورة الفتوى لا يدل على أكثر من حسن النزح و
استحبابه، أو على الوجوب تعبدا، ولا دلالة فيه على النجاسة، ولا تصريح فيه
بذلك.
وذهب شيخ الطائفة أيضا إلى القول بعدم الانفعال والتنجس على ما نسب
إليه العلامة في المختلف، ومال إليه جماعة ذكر أسمائهم في مفتاح الكرامة 2 وآل
الأمر إلى أن قال بعض العلماء 3: إن الاجماع القائم على انفعال البئر بالملاقات

1. الهداية ص 14، لكن في النسخة الموجودة عندي: ماء النهر... فراجع
2. ج 1 ص 79
3. هو المحقق الهمداني على ما يستفاد من كلامه قدس سره.
62

اجماع اجتهادي، أي إن البحث في الدلالة، فهم قد فهموا من تلك الأخبار
نجاسته، وبحذائهم قوم لم يفهموا ذلك ولم يستظهروه منها بل استفادوا و
استظهروا منها الطهارة، لكنهم يرون أنفسهم في معرض الاتهام لو أفتوا بما تحقق
عندهم أو أنهم كانوا يراعون الأدب بالنسبة إلى الأعاظم ورؤساء المذهب
القائلين بالنجاسة فلم يبدون ما علموا واستمروا على ذلك، إلى أن تجرأ بعض وفتح
باب المخالفة وأفتى فرقة ضئيلة بالطهارة نظرا إلى كون رواياتها أقوى عندهم و
بمجرد افتتاح هذا الطريق الصعب أقبل المتأخرون إليه واتبعوا هذه الجماعة
القليلة فرحين بذلك فأفتوا بالطهارة مع كونهم بحيث نعرفهم بعدم بناء هم على
مخالفة الأخبار أو الخروج عن مقتضى الأدب بالنسبة إلى ساحة الأكابر، والقدماء
الأخيار، والسلف الأبرار، بل كان لهم كمال الاهتمام بالأدب إلى مقامهم العظيم
وشأنهم الرفيع وهذا هو الديل على كونه اجتهاديا وعدم وجود عرق أصيل
للمسألة حيث إنهم مع غاية اهتمامهم بكلمات الأعلام السابقين اتفقوا على
خلافهم حتى أن الفقيه الهمداني رضوان الله عليه دعا لهم وشكر مساعي من أبدى
المخالفة وهون الخطب 1 هذا حال تلك المسألة.
وأما مسئلتنا هذه فقد خالف المحقق السبزواري مثلا رأي القدماء، وأفتى
بطهارتهم، ولكنهم لم يتبعوا بل كل من قال بالطهارة تركه العلماء وحيدا و
رفضوا كلامه، وأعرضوا عن طريقه جدا فكم فرق بين مسئلتنا التي تدل عليها
الآية الكريمة، وظاهر الروايات تبعيتها - غاية الأمر أنه وردت أخبار في طهارة
أهل الكتاب المعلوم صدورها تقية من أهل السنة والحكام الظالمين - وبين مسألة
البئر التي هي اجتهادية محضة، وافتاء القدماء فيها بخلاف أخبار الطهارة لا
يوجب طرحها.

1. راجع مصباح الفقيه الطهارة ص 35.
63

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا حجة لي فيما بيني وبين الله في القول بطهارتهم
ولا في الاعتماد على أخبار الطهارة مع اعراض المشهور 1 وأعاظم العلماء بل
كلهم عنها، وذلك لعدم الوثوق بها والحال هذه.
إن قيل إن بعض المتأخرين قال بأنه لا يلزم في الأخذ بالخبر والاعتماد
عليه والعمل به كون الرواية بنفسها موثوقا بها بل يكفي في ذلك كون الراوي
محل الوثوق فمجرد الاطمينان براوي الخبر كاف في العمل به وإن لم يكن الخبر
بنفسه كذلك، وما نحن فيه من هذا الباب فإن الأخبار الدالة على الطهارة أخبار
رواها العدول والموثقون، وهذا يوجب الاطمينان بها والوثوق بصدورها و
صحتها فكيف تطرحونها وتفتون بخلافها؟.
نقول: اللازم هو الوثوق بنفس الرواية، غاية الأمر أن لاثبات وثاقة الخبر
طرقا من جملتها وثاقة الراوي، فإذا لم يكن شأن الخبر معلوما فوثاقة الرواة أمارة
توجب الوثوق بالرواية، لا أن يكون وثاقة الراوي كافية مطلقا حتى وإن ظهرت
علامات الكذب ولاحت أمارات بطلان الرواية اتفاقا، فليس معنى قول الراوي:
أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني 2 إن ما رواه الثقة يؤخذ به وإن

1. أقول: خصوصا بلحاظ ما قاله الوحيد البهبهاني قدس سره الشريف في تعليقاته على المدارك و
هو قوله: في ص 85: الظاهر أن الحكم بالنجاسة شعار الشيعة يعرفه علماء العامة منهم بل و
ينسبونهم إليه بلا تأمل بل وعوامهم أيضا يعرفون أن هذا مذهب الشيعة بل ربما كان نساؤهم و
صبيانهم أيضا يعرفون ذلك بل اليهود والنصارى والمجوس والصابئون وغيرهم من الكفار أيضا
يعرفون أن ذلك مذهب الشيعة ومسلكهم في العمل وأما الشيعة فهم أيضا يعرفون أن مذهبهم
كذلك ومسلكهم في الأعصار والأمصار كان كذلك حتى نساؤهم وصبيانهم فلا يضر خروج مثل
ابن جنيد سيما وهو أنكر حرمة القياس مع أنها من ضروريات مذهبنا فلا مانع من خروج ابن أبي عقيل أيضا لما ذكرت ولما مر في نجاسة الخمر.
2.... محمد بن نصير قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: جعلت فداك أني لا أكاد أصل إليك
أسئلك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه
من معالم ديني؟ فقال نعم. جامع أحاديث الشيعة الطبع الجديد ج 1 ص 226.
64

قامت القرائن الخارجية على خلافه، وكذا قول الإمام عليه السلام في زكريا بن
آدم: المأمون على الدين والدنيا 1 ليس معناه كفاية ناقل الخبر وكونه أمينا
في الالتزام بالخبر وإن كانت أمارات الخلاف قائمة بحيث حصل الاطمينان بأنه
لا أصل له ولا حقيقة بل اللازم هو الاطمينان بالخبر وإن كان بقرينة الوثوق بالراوي
وناشئا منه، والخبران المذكوران آنفا وكذا أشباههما لا تفيد أكثر من أنه إذا
وردت رواية ولم تقم القرائن على خلافها يعمل بها للوثوق بها بسبب الوثوق
براويها الذي هو مثل يونس بن عبد الرحمن وزكريا بن آدم القمي.
وعلى هذا فلو كان الراوي ثقة أمينا لكن وجدت قرائن على عدم صحة
الرواية فهنا لا يتمسك بها، وما نحن فيه كذلك، حيث إن الرواة موثوق بهم لكن
الروايات بنفسها معرض عنها ونحن نفهم من اعراض الأصحاب - المهتمين جدا
بالتعبد بما وصل إليهم من الأئمة عليهم السلام - عنها عدم كونها منهم، ولو فرض
كونها منهم وصادرة عنهم فهي مصداق لقول بعض الأصحاب لآخر منهم في
بعض الأحيان: أعطاك من جراب النورة 2 فلم تصدر إلا لخصوصيات وجهات لا

1... عن علي بن مسيب قال قلت للرضا عليه السلام شقتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت
فعمن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا قال علي بن
مسيب فلما انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عما احتجت إليه، المصدر السابق بعينه.
2. أقول: قال الطريحي في مجمع البحرين - باب نور - قول عليه السلام: أعطاك من جراب النورة
لا من العين الصافية على الاستعارة، والأصل فيه أنه سئل سائل محتاج من حاكم قسي القلب
شيئا فعلق على رأسه جراب نورة عند فمه وأنفه كلما تنفس دخل في أنفه منها شئ فصار مثلا
يضرب لكل مكروه غير مرضي. وفي الوسائل ج 17 ص 541 ب 1 من أبواب ميراث ولاء
العتق ح 16 عن سلمة بن محرز قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل مات وله عندي مال و
له ابنة وله موالي قال: فقال لي: اذهب فاعط البنت النصف وامسك عن الباقي فلما جئت
أخبرت أصحابنا بذلك فقالوا أعطاك من جراب النورة فرجعت إليه فقلت: إن أصحابنا قالوا لي:
أعطاك من جراب النورة قال: فقال: ما أعطيتك من جراب النورة علم بها أحد؟ قلت: لا قال:
فاعط البنت الباقي.
وفي رواية سلمة بن محرز المنقولة في ج 9 من الوسائل ب 10 من أبواب كفارات الاستمتاع:
فيمن واقع امرأته قبل طواف النساء فقال الصادق عليه السلام: ليس عليك شئ فأخبر هو
الأصحاب بذلك فقالوا له: اتقاك وأعطاك من عين كدرة راجع ح 5.
وقال المولى الوحيد البهبهاني قدس سره في فوائده (ص 314 ملاحظات): قد ورد في الأخبار
أن الشيعة كانوا يقولون في الحديث الذي وافق التقية: أعطاك من جراب النورة قيل: مرادهم
تشبيه المعصوم عليه السلام بالعطار وكانوا يبيعون أجناس العطارين بجربان وكان النورة أيضا
يبيعون من جرابها - بجراب - فإذا أعطى التقية قالوا أعطاك من جرابها: أي ما لا يؤكل ولو أكل
لقتل، والفائدة فيه دفع القاذورات وأمثالها وقيل: إن النقباء لما خرجوا في أواخر زمن بني أمية
في الخراسان وأظهروا الدعوة لبني العباس بعثوا إلى إبراهيم الإمام منهم بقبول الخلافة فقبل و
هو في المدينة وكانت هي وسائر البلدان في تحت سلطنة بني أمية وحكمهم سوى خراسان إذ
ظهر فيها النقباء وكانوا يقاتلون ويحاربون ولما اطلع بنو أمية بقبول إبراهيم الخليفة أخذوه و
حبسوه وقتلوه خفية ووضعوا جراب النورة في حلقه فحنقوه به فصار ضرب المثل إشارة
بالنسبة إلى من ترك التقية وتاركها وكان هذا الكلام من الشيعة إلى هذه الحكاية ومثلا مأخوذا
منها.
65

اعتناءا بمضامينها وبينا لحكم الله الواقعي.
ويؤيد ما ذكرنا - من أن المعيار هو الوثوق بالخبر نفسه - أنه لو لم يكن
الراوي لرواية خاصة موثوقا به لكن رأينا العلماء - الذين هم خبرة الروايات
والعارفون بصحيحها وسقيمها وغثها وسمينها - قد عملوا بها وجب الأخذ بها و
كلما ازدادت ضعفا من حيث السند ازدادت قوة من حيث الدلالة.
تذنيب البحث
قد استظهرنا سابقا من الأخبار الشريفة نجاسة أهل الكتاب ومن لحق بهم،
لكونها ظاهرة بل صريحة في ذلك، لكنها لم تكن متعرضة لغير هم ولم تذكر
غير اليهود والنصارى والمجوس فما حكم غيرهم؟ وبعبارة أخرى لو فرض
تعرض الآية لخصوص المشركين وهذه الروايات لا هل الكتاب فأي دليل يدل
على نجاسة غيرهم من الكفار؟
66

نقول: مذهب الشيعة نجاستهم أيضا والمستند في ذلك وإن أمكن أن
يكون هو الاجماع إلا أن الظاهر عدم استنادهم إليه، بل تمام المستند
هو الآية الشريفة فلم يروا خصوصية للمشرك المذكور فيها كما أنهم لم يستظهروا
من الأخبار المذكورة الواردة في نجاسة أهل الكتاب دخل خصوصية كونهم
كتابيين في الحكم بنجاستهم فإن كون الانسان كتابيا بنفسه غير مقتض للنجاسة و
ليس هو عنوانا من العناوين المقتضية لها فالحكم دائر مدار الصفة الخاصة و
هي الكفر فهو صفة خبيثة تكفي وحدها لترتب هذا الأثر عليها ويدور مدارها.
كما ترى رعاية هذه النكتة في بعض الأخبار الشريفة مثل مرسلة
الوشا عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كره سؤر ولد الزنا وسؤر اليهودي و
النصراني والمشرك وكل من خالف الاسلام وكان أشد ذلك عنده سؤر
الناصب. 1
فإن المستفاد منها إن المقتضى للنجاسة هو المخالفة للاسلام بأي نحو
كانت وبأي صورة اتفقت وعلى كثرة ألوانها وتفرق أغصانها غاية الأمر أن
الناصب شر مخالفي الاسلام.
وقد استدل المحقق 2 رضوان الله عليه على نجاستهم بقوله تعالى: " كذلك
يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. " فتمسك باطلاق عدم الايمان وظهور
الرجس في النجاسة وقد مر البحث حول هذه الآية الكريمة عند الاستدلال
بالآيات فراجع.

1. وسائل الشيعة ج 1 ب 3 من أبواب الأسئار 2
2. أقول: قال في المعتبر ص 24 أما الكفار فقسمان يهود ونصارى ومن عداهما أما القسم الثاني
فالأصحاب متفقون على نجاستهم سواء كان كفرهم أصليا أو ارتداديا لقوله تعالى: إنما المشركون
نجس ولقوله تعالى: كذلك يجعل الله على الذين لا يؤمنون...
67

أدلة القائلين بطهارة أهل الكتاب
استدل القائلون بطهارة أهل الكتاب بوجوه ثلاثة: الأصل والكتاب
والسنة.
أما الأصل: فتقريره إنا نشك في كونهم محكومين بالنجاسة ومقتضى
الأصل عند الشك في الطهارة والنجاسة هو الطهارة فنحكم بها.
وفيه أنه معلوم غير خاف على أحد إن الحكم عند الشك في الطهارة
والنجاسة هو الطهارة عقلا ونقلا، فالعقل يحكم بطهارة كل شئ لم يرد دليل
من الشارع بنجاسته كما أن الشارع قد صرح أيضا بطهارة كل شئ حتى يعلم أنه
قذر، إلا أن الأصل دليل حيث لا دليل ويؤخذ به ويصار إليه عند الشك وحين
فقد الدليل على المطلب أما إذا كان هناك دليل يمكن التمسك به على واحد من
الجانبين فلا مجال للتمسك بالأصل والاستدلال به، وما نحن فيه كذلك لوجود
69

الدليل على النجاسة وهو الكتاب والأخبار.
وبعبارة أخرى أن الأصل منقطع بالآية الكريمة والروايات الدالة
على النجاسة، وانقطاعه بالدليل مانع عن التمسك به.
ال
استدلال بالكتاب على طهارتهم.
واستدلوا أيضا بقوله تعالى: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و
طعامكم حل لهم ". 1
تقرير الاستدلال إن الله تعالى صرح بحل طعام أهل الكتاب للمسلمين، و
طعام المسلمين لأهل الكتاب، وإذا حل طعامهم - الذي صنعوه بأيديهم وعالجوه
بمباشرتهم - للمسلمين فكيف يحكم بنجاستهم والحال إن حل طعامهم مستلزم
لطهارة طعامهم وطهارة طعامهم مستلزم لطهارة أنفسهم، وهذا - أي
طهارة الكتابي بذاته - هو المطلوب.
وفيه أن الطعام وإن كان بحسب الوضع اللغوي هو كل ما يطعم،
نظير الشراب الذي هو اسم لما يشرب، فالموضوع له أولا هو المطلق لكنه
استعمل في البر 2 أو مطلق الحبوب كثيرا وأئمة أهل اللغة أيضا قد صرحوا بذلك و
قد نقلنا سابقا كلام بعضهم كالفيومي في المصباح المنير وكذا صاحب المغرب و
غيرهما من اللغويين وقد ورد هذا الاطلاق في كلام النبي الكريم صلى الله عليه و
آله وسلم وأصحابه في حديث أبي سعيد: كنا نخرج صدقة الفطرة على عهد

1. سورة المائدة الآية 7.
2. أقول: قال في القاموس: البر بالضم الحنطة. وقال الراغب في مفردات القرآن ص 41: البر
معروف وتسميته بذلك لكونه أوسع ما يحتاج إليه في الغذاء انتهى.
70

رسول الله صاعا من طعام أو صاعا من شعير 1 فإنه ذكر الطعام مقابل الشعير وهذا
قرينة على أن المراد من الطعام هو الحنطة وكأنه قال: صاعا من البر أو من الحنطة.
ويمكن أن يكون السر في غلبة الطعام في البر واطلاقه عليه بالخصوص
هو كثرة الحاجة في محيط اطلاقه فكون الناس أشد حاجة إلى البر هو السبب
في اطلاق العام والمطلق عليه وصيرورته اسما له بخصوصه، ويمكن أن يكون
ذلك لجهات أخرى ولا يهمنا البحث عن ذلك.
وإذا تحقق أن الطعام اسم للحبوب مطلقا أو البر فقط أو غلب استعماله
فيهما فأي اشكال في حمل الآية الكريمة على هذا المعنى؟ وإذا حملناها عليه
فلا يثبت بها مراد المستدل فإن حل الطعام المطبوخ أو المصنوع الذي باشروه و
عالجوه بأيديهم وإن كان مستلزما لطهارة طعامهم، وهي مستلزمة
لطهارة أنفسهم، وأما حل البر أو مطلق الحبوب فلا يستلزم ذلك أصلا.
مع صاحب المنار
وقد ظهر مما ذكرنا حول الآية الكريمة إن ما أورده صاحب المنار
على الشيعة - في تفسير الطعام بالحبوب أو الحنطة - في غير محله قال في ذيل
الآية الشريفة:
وفسر الجمهور الطعام هنا بالذبائح، أو اللحوم، لأن غيرها حلال بقاعدة
أصل الحل، ولم تحرم من المشركين، وإلا فالظاهر أنه عام يشملها، ومذهب
الشيعة إن المراد بالطعام، الحبوب، أو البر، لأنه الغالب فيه وقد سئلت عن هذا

1. نقله في الجواهر ج 6 ص 44 وقال الراغب في المفردات مادة طعم: وقد اختص بالبر فيما
روى أبو سعيد أن النبي أمر بصدقة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير.
71

في مجلس كان أكثره منهم وذكرت الآية فقلت ليس هذا هو الغالب في لغة
القرآن فقد قال الله تعالى في هذه السورة أي المائدة: " أحل لكم صيد البحر و
طعامه متاعا لكم وللسيارة " 1 ولا يقول أحد، إن الطعام من صيد البحر هو البر أو
الحبوب. وقال: " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه
من قبل أن تنزل التوراة " 2 ولم يقل أحد إن المراد بالطعام هنا البر أو الحب
مطلقا إذ لم يحرم شئ منه علي بني إسرائيل لا قبل التوراة ولا بعدها فالطعام
في الأصل كل ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن
طالوت: " فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني " 3 وقال: " فإذا
طعمتم فانتشروا " 4 أي أكلتم، وليس الحب مظنة التحليل والتحريم وإنما اللحم
هو الذي يعرض له ذلك لوصف حسي كموت الحيوان حتف أنفه وما في معناه،
أو معنوي كالتقرب به إلى غير الله... 5
فهو بذكر هذه الآيات واستشهاده بها صار بصدد ابطال ما قال به الشيعة و
أثبت بزعمه أن تفسير الطعام بالحبوب أو البر خلاف آيات القرآن نفسها.
وفيه أن الاطلاق المذكور على ما ذكرنا مؤيد عند أهل اللغة، فلو أنكر
كون هذا المعنى موضوعا له فلا يمكن انكار أصل الاستعمال كما في كل مورد
يطلق المطلق ويراد منه قسم خاص منه مع قرينة تدل عليه حالية أو مقالية أو
غير هما ككون هذا القسم الخاص أغلب من ساير الأقسام الموجودة في المطلق،
أو كونه مظنة للحاجة كثيرا، كما أن الحبوب أو البر فيما نحن فيه كذلك، ولينظر

1. سورة المائدة الآية 96
2. سورة آل عمران، الآية 93
3. سورة البقرة الآية 249
4. سورة الأحزاب الآية 53
5. المنار، ج 6 ص 178.
72

صاحب المنار إلى أقوال اللغويين وقد مر قسم منها.
ولا يخفى أن هذا البحث غير مختص بالشيعة في هذه الآية الكريمة كما
أنه غير مختص بهذه المسألة بل هو بعينه جار بين أهل السنة أيضا في بعض
المسائل الفقهية فإن أبا حنيفة والشافعي الذين هما من أئمة العامة قد اختلفا
فيمن وكل وكيلا على أن يبتاع له طعاما فقال الشافعي: لا يجوز أن يبتاع إلا
الحنطة وقال أبو حنيفة: يكفي أن يشتري الدقيق أيضا 1 وهكذا لو قال المولى
لعبده ادخل السوق واشتر الطعام. فإن بعضهم قال بأن المراد من السوق هنا هو
سوق البر لأن الطعام هو البر.
وهذه المسألة نظير المسألة المعروفة بين فقهاء الشيعة في فدية المساكين
فإنهم اتفقوا على عدم الاجتزاء بقيمة الطعام واختلفوا في أنه يجب اعطاء
خصوص البر كما قاله بعض أو يكفي اعطاء الشعير أيضا كما قاله الآخرون.
وعلى الجملة فلا مجال أصلا للاشكال في استعمال الطعام في البر ولا يلزم
من قولنا هذا استعماله فيه مطلقا وفي كل الموارد حتى يستشكل صاحب المنار
وينقض بتلك الآيات الكريمة، بل الغرض هو خصوص آية حل الطعام.
الطعام في السنة
ثم إن الذي يحملنا على الاصرار على هذا المطلب واثبات اطلاق الطعام

1. أقول: ذكر ذلك السيد ابن زهرة في الغنية وقال بعد ذلك: ذكر ذلك المحاملي في آخر كتاب
البيوع من كتابه الأوسط في الخلاف، وذكره الأقطع في آخر كتاب الوكالة من شرح القدوري، و
قال في الشرح: والأصل في ذلك أن الطعام اسم للحنطة ودقيقها وإنما أحوجنا إلى ذكر مذهب
المخالف في ذلك والإحالة على كتبهم انكار من أنكره من جهالهم إلى آخر كلامه زيد في علو
مقامه.
73

في اللغة والاصطلاح على الحبوب أو البر إنما هو الجواب عن صاحب المنار و
زملائه ممن أنكروا على الأصحاب في ذلك، وصاروا بصدد الطعن والوقيعة فيهم.
وأما الشيعة فيكفيهم جملة واحدة وهي تفسير الطعام بالحبوب في لسان
الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين وهم بما وهبهم الله تعالى من العلم
الغزير والفهم البالغ وبما أنهم أهل بيت الوحي والتنزيل ومهابط نور الله و
عندهم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته، والعلم بما أراد الله تعالى من الآيات
الكريمة، قالوا بأن المراد من الطعام في الآية الشريفة المبحوث عنها هو الحبوب
مثلا لا كل ما يساغ ويبتلع، وبها ينقطع الكلام ويثبت المقصود والمرام، فإن
الشيعة تعتقد في الأئمة الطاهرين عليهم السلام العلم والعصمة وأنهم مستودع
علوم رسول الله الذي: " لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى " 1 فما قاله
الإمام هو الصحيح العاري عن كل ريب وشائبة، وهو الحق، وعين الحق، وليس
في خلافه حق، وإن كان على خلاف الظواهر أو مخالفا لقول أهل اللغة.
فهو نظير ما إذا علمنا عقلا أن الظاهر ليس بمراد كما في قوله تعالى:
" الرحمن على العرش استوى " 2 حيث إن ظاهره أن الله تعالى متحيز وله مكان و
الحال إنا نعلم عقلا أن الله تعالى ليس جسما حتى يستوي ويستقر على العرش،
والعقل ينكر ذلك جدا فلذا نقول إن المراد منه استواءه بقدرته، واستيلائه و
سلطانه على عالم الوجود.
وعلى الجملة فلا بعد أصلا في أن يطلق الله تعالى لفظا عاما ويقول الإمام
عليه السلام الذي هو المفسر لكلام الله وترجمان آياته والشارح لمراده أنه أريد
منه كذا، كما فيما نحن فيه حيث إن الروايات الصحيحة وأخبار العترة الطاهرة

1. سورة والنجم الآية 3
2. سورة طه الآية 5.
74

تصرح بأن المراد من الطعام في الآية الحبوب. 1 فكيف يمكن أن يقال إن المراد
منه هو مطلق الطعام مع ورود هذه الروايات الشريفة الصريحة، ووجودها؟
لا يقال: إنه يلزم من ذلك تخصيص الأكثر حيث إن الطعام موضوع لكل ما
يؤكل ويبتلع وأين هذا من تخصيصه بالحبوب.
لأنا نقول: ليس هذا من باب التخصيص أصلا كي يرد عليه الاشكال بلزوم
تخصيص الأكثر، بل هو من باب التفسير، حيث إن الإمام عليه السلام الذي هو
ترجمان وحي الله وأعلم الناس بأحكامه وشرائعه والمرادات من كتابه يخبرنا
بأن الله تعالى أراد من الطعام كذا، وأين هذا من التخصيص؟
أضف إلى ما ذكر من الجوابين: - أحدهما كون المراد من الطعام هو البر و

1. وإليك بعض هذه الأخبار الناطقة بذلك:
عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: وطعام الذين أوتوا الكتاب
حل لكم وطعامكم حل لهم، قال: الحبوب والبقول. (1)
وعن قتيبة الأعشى عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنه سئل عن قوله تعالى: وطعام الذين
أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، قال: كان أبي يقول: إنما هي الحبوب وأشباها (2)
وعن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: وطعامهم حل لكم، فقال:
العدس والحمص وغير ذلك (3)
وعن محمد بن علي بن الحسين قال: سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عز وجل: وطعام الذين
أوتوا الكتاب حل لكم، قال: يعني الحبوب (4)
وبإسناده عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام قال: العدس والحمص وغير ذلك (5)
العياشي في تفسيره عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: و
طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، قال: العدس والحبوب وأشباه ذلك يعني من
أهل الكتاب (6)
وعن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن طعام أهل الذمة ما يحل منه؟ قال:
الحبوب (7)
عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن طعام أهل الذمة ما يحل منه؟ قال: الحبوب
(8)
راجع وسائل الشيعة ج 16 ح 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8 و 1 و 2.
75

اطلاقه عليه في اللغة والاصطلاح، ثانيهما ورود الروايات بذلك عن تراجمة
كتاب الله - جوابا ثالثا وهو إنا نقول: سلمنا كون الطعام مطلقا يشمل غير الحبوب
أيضا إلا إنا نقول إن الآية ناظرة إلى حكم ذات الطعام بعنوانه الأولى فكون الطعام
طعاما لهم ليس بنفسه علة للحرمة فإن إضافة الطعام إلى (الذين أوتوا الكتاب)
ظاهرة في خصوصية انتسابه إليهم، وتعلقه بهم، وكونه لهم، وهذه الإضافة
بمجردها لا توجب الحرمة، فالطعام المملوك لهم حلال على المؤمنين من حيث
ذاته، لكن يمكن عروض عوارض توجب الحرمة، فإن الحلية الذاتية لا اطلاق لها
يشمل الحالات العارضة والعناوين الطارية فلو صار هذا الطعام سؤرا له وكان
فضل غذائه وبقية طعامه وأدخل يده فيه أو باشره بشفتيه فلا يكون حلالا كما أنه
إذا قيل إن طعام أهل الكتاب حل لكم فهذا لا يشمل الخنزير المذبوح عندهم
حتى يحتاج اخراجه إلى التخصيص وقد أمضينا في ذلك كلاما أيضا فراجع
ولاحظ.
نعم لما كان بعض أطعمتهم ملازما للنجاسة ولا ينفك عنها
نظير المطبوخات التي يعالجونها بأجسامهم ويباشرونها بأيديهم فلذا يقول الإمام
بأن المراد من الطعام الحبوب مثلا، يعني أن غيرها وإن كان متصفا بالحلية
الذاتية إلا أنه محرم لعروض العارض وطرو حالة أو جبت النجاسة.
ألا ترى أنه لو قيل لمن يريد دخول قرية: إن طعام أهل هذه القرية حلال،
ثم بعد ذلك قال انسان مطلع على شأن القرية وحال أهلها: إن مراد هذا القائل هو
غير ذبائحهم فإن ذبحهم ليس شرعيا، فهذا لا ينافي الحكم الأول بالحلية، لأن
الحل ذاتي والحرمة عرضية.
ولا يخفى أنه يجري في قول الإمام عليه السلام وتفسيره احتمال آخر و
هو كنه في مقام بيان الحلية الفعلية فإنها محققة في الحبوب غير محققة في
76

غيرها.
وما قيل من أن المراد من حل الطعام هو حل ذبائحهم فقط على المسلمين
لأنهم سئلوا عن ذلك وليس المراد هو الحبوب لعدم كونها في معرض الحاجة
والسؤال.
ففيه أن الله تعالى بين وأوضح حكم الذبيحة غير الشرعية قبل نزول سورة
المائدة المدنية في سورة الأنعام التي هي مكية وصرح بكونها فسقا، ونهي
صريحا عن أكلها، وحرم ذلك، فقال: " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته
مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم...
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق. " 1 فكيف تكون آية الحل متعلقة
بذبائحهم مع هذه التعابير القارعة التي نزلت قبل ذلك؟
اللهم إلا أن تكون آية الحل ناسخة لآيات الحرمة من سورة الأنعام وهو
بعيد غايته، فإن تلك الآيات الشريفة بلسانها الجازم وبيانها القاطع وتعابيرها
الخاصة والخصوصيات الملحوظة فيها آبية عن النسخ 2 فلا وجه لحملها
عليه، ولا لتفسير حل طعامهم بحل ذبائحهم، ولا دليل على ذلك أصلا، وإن قاله
أكثر المفسرين 3 فإنهم لم يأخذوه من عين صافية بل أخذوه من مثل قتادة ومن

1. سورة الأنعام الآيات 121 - 118
2. أقول: بل يظهر من بعض الأعاظم عكس ذلك أي نسخ آية الحل بآية الحل الحرمة فهذا هو السيد
محمد كاظم الطباطبائي اليزدي يقول: وطعام الكفار الذي باشروه بالرطوبة نجس يجب
الاجتناب عنه مطلقا وإن عملوا بشرائط الذمة وكانوا في بلاد المسلمين والآية الشريفة " وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم " منسوخة أو المراد من الطعام فيها كما يستفاد من الأخبار هو الحنطة
والشعير والأرز من الحبوب اليابسة. راجع السؤال والجواب منه ص 125
3. أقول: قال الأردبيلي في آيات الأحكام ص 361: قيل المراد بالطعام ذبائحهم قال في ن قاله
أكثر المفسرين وأكثر الفقهاء وجماعة من اصحبنا ولا يخفى بعده إذ ليس معنى الطعام الذبيحة
لا لغة ولا عرفا ولا شرعا...
77

يحذو حذوه، وأما لو كان المراد من الطعام مطلقه الشامل للذبيحة أيضا فليس
الاطلاق بنحو يمنع عن جريان الشروط كلها بعد العلم باعتبارها حتى لا يلزم مثلا
ذكر اسم الله عليها.
وبعبارة أخرى اطلاق الحل لا يوجب اسقاط الشروط التي نعلم شرطيتها،
والحكم بعدم لزوم ذكر اسم الله عليها مع العلم بكونه شرطا تمسكا باطلاق الحل،
في غاية الفساد، وبمكان من البطلان، بلا أي خفاء فيه، فهل ترى من نفسك إذا
سمعت قول الله تعالى (فكلوا مما أمسكن...) 1 أن تقول إنه مطلق واطلاقه
يقتضي الأكل منه بلا أي شرط وقيد حتى يحكم بعدم لزوم التطهير بالنسبة إلى
محل ملاقاة فم الكلب منه؟ وهل ترى منافاة بين قوله تعالى: " أحلت لكم
بهيمة الأنعام " 2 وقوله تعالى: " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه "؟ 3 كلا فلا
يتفوه بذلك فقيه، ولا يمكن المصير إليه أبدا، فالأمر فيما نحن فيه أيضا كذلك
حيث إنه دلت الأدلة الشرعية على نجاسة سؤر الكافر أعني الفضلة من شرابه أو
البقية من طعامه وما لاقاه بيده أو بدنه رطبا وهذه الأدلة هي ما ذكرناها فراجع.
فحينئذ فإذا سمعنا أن الله حلل لنا طعام الكافر فلا بد وأن نشعر من
هذا التحليل المستفاد من الآية الكريمة، الحلية من حيث كونه طعاما ولا منافاة
بينها وبين نجاستها لأجل كونه سؤرا له، أو لمسه الطعام مع الرطوبة.
فتحصل أن الآية الكريمة بصدد اثبات مطلب آخر، حيث إن الله تعالى
حرض المؤمنين وحثهم على أن يكونوا أشداء وأعزة قبال الكفار وشوقهم على
أن ينقطعوا عنهم ولا يعتمدوا عليهم ولا يتخذهم أولياء وبطانة فقال:

1. سورة المائدة الآية 5
2. سورة المائدة الآية 1
3. سورة الأنعام الآية 121.
78

" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " 1 وقال أيضا:
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض
ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين " 2 إلى غيرها من
الآيات الشريفة، فالمسلمون تخيلوا حرمة أي ارتباط وعلقة بينهم وبين اليهود و
النصارى حتى الاقتصادي منها وتوهموا أن اشتراء أمتعتهم أيضا حرام ممنوع عنه
بحيث لو حملت يهود خيبر مثلا الحنطة والشعير والحبوب إلى المدينة لكان
يحرم عليهم شراؤها منهم وكذا استشعروا حرمة أي عنوان من عناوين المعاملات
الرائجة الناقلة إذا حدث بينهم وبين اليهود والنصارى فلذا نبههم الله على خطأهم
وأعلن إباحة هذه الوجوه بقوله الكريم: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و
طعامكم حل لهم " فأجاز التصرف فيما انتقل عنهم إلى المؤمنين بوجه شرعي و
من المؤمنين إليهم كذلك وأحل المعاشرة معهم ولم يعلن اليأس البات منهم بل
أبرز التسامح الاسلامي.
هل الطعام بمعنى الاطعام؟
بقي في المقام أنه ذكر بعض إن الطعام في الآية الكريمة بمعنى الاطعام
فمعناها إن اطعام أهل الكتاب لكم جائز واطعامكم لهم جائز.
وفيه أنه وإن أمكن ذلك على حسب القواعد الأدبية بل وله شواهد أيضا
من الآيات الكريمة 3 إلا أنه خلاف الظاهر فإن الظاهر من الطعام والمفهوم منه

1. سورة البقرة الآية 120
2. سورة المائدة الآية 51
3. أقول: فمنها قوله تعالى في سورة البقرة الآية 180 وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، و
منها قوله تعالى في سورة الحاقة الآية 34 وسورة الماعون الآية 3: ولا يحض على
طعام المسكين ومنها قوله في سورة والفجر الآية 19: ولا تحاضون على طعام المسكين.
79

لغة كونه اسما للشئ الذي يطعم ويؤكل لا لما هو عمل وفعل للانسان مثلا
فإرادة المعنى المصدري وعنوان كونه فعلا من الأفعال خلاف الظاهر.
هذا مضافا إلى أنه تعالى يقول: " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " و
معناه على ما ذكره هذا القائل إن اطعام أهل الكتاب لكم حلال وجائز لكم ويلزم
من ذلك حلية فعل غير المسلمين - أهل الكتاب - للمسلمين فالفعل فعل أهل
الكتاب ومع ذلك يحل ويباح للمؤمنين وهذا من البعد بمكان. ولو كان المراد
هذا المعنى فالأنسب بل اللازم أن يقول: يحل لكم أن تكونوا ضيوفا لأهل
الكتاب أو: يجوز ويباح لكم الحضور في ضيافتهم، وأمثال ذلك من التعابير
الظاهرة في المعنى المزبور.
هذا تمام الكلام في هذا المقام حول قول الملك العلام. وصفوة البحث
أنه لا دلالة لهذه الآية الكريمة على مراد من استدل بها على طهارة أهل الكتاب.
الأخبار التي تمسك بها القائلون بالطهارة
واستدل القائلون بطهارة أهل الكتاب أيضا بأخبار نقلها الأعلام و
أصحاب الحديث.
منها رواية عيص بن القاسم الصحيحة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن مؤاكلة اليهودي والنصراني فقال: لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن
مؤاكلة المجوسي فقال: إذا توضأ فلا بأس. 1
وجه الاستدلال بها إن الإمام عليه السلام جوز مؤاكلة اليهودي والنصراني

1. وسائل الشيعة ج 16 ب 53 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 1.
80

مطلقا بشرط كون الطعام من المسلم واطلاق تجويز مؤاكلتهم يقتضي الطهارة،
والكلام في المجوسي هو الكلام فيهما.
وفيه أن المراد من مؤاكلتهم الجلوس معهم على المائدة والأكل منها معا و
نحن لا ننكر جواز ذلك أبدا لكنه لا يثبت به المطلوب ولا يدل هذا على طهارتهم
أصلا. ألا ترى أنه ربما يجلس جماعة كثيرة على مائدة، وخوان طعام، ولا يدخل
أحد منهم يده في إناء الآخرين، بل كل منهم يأكل من إنائه الخاص به، ومن بين
يديه، ولا يقرب يده من إناء سائر الضيوف والجالسين على المائدة، فضلا عن أن
يمس طعامه بيده وبدنه، فالرواية لا تدل على أكلهم من إناء واحد مشترك فيه و
أن الكتابي مس الطعام بيده، كي يكون تجويز الإمام عليه السلام المؤاكلة الخاصة
دليلا على طهارة أهل الكتاب.
بل يمكن أن يقال: إن هذا الخبر أدل على النجاسة من الطهارة حيث إن
الإمام قيد الجواز بما إذا كان من طعامه لا من طعام الكتابي فإن المفهوم من
الجملة الشرطية المذكورة في كلام الإمام عليه السلام البأس والاشكال
في المؤاكلة إذا كان الطعام منهم، لا من المسلمين، وعدم جواز مؤاكلتهم على
هذا الطعام. والسر في ذلك ووجهه عدم كونه مأمونا عليه من النجاسة، فهذا بنفسه
قرينه على أن جواز مؤاكلة المسلم أهل الكتاب مشروط بعدم تنجيسهم للطعام و
عدم تنجسه برطوبتهم مثلا، وإلا فلا يجوز مؤاكلتهم حتى على طعام المسلم.
وعلى الجملة فالحق أنه لو وضعنا هذه الرواية في جنب الروايات الناطقة
بنجاسة أسئارهم لما رأينا بينهما معارضة أصلا، فأي معارضة توجد بين حلية
مؤاكلتهم وبين حرمة سؤرهم؟ فهذا شئ وذلك شئ لا تعلق لا حدهما بالآخر، و
بينهما كمال الملائمة والمساعدة. هذا بالنسبة إلى صدر الرواية الشريفة.
وأما ذيلها أعني قضية مؤاكلة المجوسي وتجويز الإمام ذلك مشروطا بما
81

إذا توضأ، - يعني إذا غسل يده فلا اشكال بها - فلا دلالة فيه أيضا على
مراد المستدل لأن غاية ما يمكن أن يقرر هو أن قول الإمام عليه السلام دليل على
أنه إذا غسل يده يأكل مع المسلم، وغسل اليد لأجل إزالة النجاسة الظاهرية،
حيث إن النجاسة الذاتية غير قابلة للرفع بالماء وإزالته به.
وفيه أن غسل اليد لم يكن لا زالة النجاسة بل لرفع الدرن والقذارة وزوال
الاستقذار والاستنفار النفساني خصوصا بلحاظ أن المجوسي لا يبالي بالأوساخ
والقذارات، وكون القذارة بمرأى الآكل يوجب أن لا يسيغ عليه الطعام وربما
يأكل - والحال هذه - مع كره وملال ونفرة، بل ربما يتهوع منه، فغسل المجوسي
يده لأجل أن لا يستكره المسلم الطعام من قذارة يده، وكما أن الانسان يأمر
ابنه الصغير غير المبالي أن يغسل يده عند جلوسه على المائدة والحال أنه لا يأكل
من إنائه - بل كل يأكل من إناءه الخاص به - هكذا يأمر المسلم المجوسي بغسل
يده، فيأكل من إنائه، ولا ملازمة بين غسل يده والأكل من إناء يأكل منه المسلم.
ومنها صحيحة إبراهيم بن أبي محمود قال: قلت للرضا عليه السلام:
الجارية النصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانية لا تتوضأ ولا تغتسل من
جنابة قال: لا بأس تغسل يديها. 1
وجه الاستدلال أنه يظهر منها إن غسل النصرانية يديها كاف في توليها
أمور البيت التي تتعلق بالخادمة كطبخ الطعام وغير ذلك وهذا يدل على أن
نجاستها ليست ذاتية.
ونحن نقول قبل الجواب عنه إن من المحتمل أنه كانت للإمام عليه السلام جارية
نصرانية وكان إبراهيم بصدد الايراد والاشكال عليه في القضية الخارجية و
خصوص الجارية المعينة التي كانت تخدم الرضا عليه السلام أو استفهام وجه

1. وسائل الشيعة ج 3 ب 54 من أبواب النجاسات ح 2.
82

ذلك فأجابه الإمام بما أجابه به.
ويحتمل كون السؤال عن القضية الكلية الحقيقية وجريه على نحو الأسئلة
الدائرة بين الناس حيث إنهم عند السؤال عن حكم شئ يضربون المثل على
أنفسهم أو على مخاطبهم أو على غائب على سبيل الفرض والتقدير، وغرضهم
هو تصوير المسألة واحضارها، وترسيم صورة السؤال وتجسيمها في
نظر المخاطب، لا أنه وقعت هذه الواقعة للسائل أو للمخاطب أو غيرهما وابتلى
بها خارجا، وبناءا على هذا لا يلزم كون الجارية المذكورة للإمام عليه السلام وأيا
ما كان فلا يهمنا ذلك وإنما تعرضنا له لأنه نكتة لا يخلو التنبيه عليها عن الفائدة
وإنما المهم في المقام الجواب عنه فنقول:
إنه وإن كان من المحتمل كون السؤال عن وجه استخدام المسلم جارية
نصرانية غير مبالية بالطهارة والنجاسة، وهي تجنب ولا تغتسل - ولا يصح غسلها
لو اغتسلت - ولازم هو تنجس أثاث البيت مثلا فأجاب الإمام بجواز ذلك
معللا بأنها تغسل يديها أي لا تتنجس الأثاث لغسلها يديها، وعلى هذا الاحتمال
تكون الرواية دليلا لهم وناطقة بما حاولوا اثباته واستدلوا بها عليه أعني طهارة
أهل الكتاب ذاتا.
إلا أن فيها احتمالا آخر أظهر وأقوى من الاحتمال المزبور وهو أن يكون
السؤال عن أصل جواز الاستخدام وعدمه، وكان السائل يستبعد جواز استخدام
المسلم النصرانية خصوصا بملاحظة أنها لا تغتسل ولا تتوضأ، فذكر هذه الأمور و
الجهات لم يكن لأجل كونها مدارا للسؤال بل تمام المدار في السؤال هو
استخدام النصرانية بلحاظ كونها نصرانية، وكان ذكر الجهات المذكورة لأجل
اظهار مزيد التنفر منها، واستبعاد جواز أن تكون خادمة للمسلم، وبعبارة أخرى
كان لتقريب عدم الجواز، وقد أجاب الإمام بالجواز، وعدم البأس لأنها بغسل.
83

يديها تزيل الأوساخ المنفرة.
ولا منافاة بين جواز أصل الاستخدام بين ونجاسة الأسئار وما لمسته
بيدها وبدنها المستفادة من الأدلة السابقة ولا معارضة بينهما أصلا فإن المعارضة
هي كون الدليلين بحيث لو ألقاهما المتكلم معا صدق عليه أنه يتناقض في أقواله
وأنه يقول أولا شيئا ويتكلم بما يخالفه ثانيا وما نحن فيه ليس كذلك فإن بين
الدليلين كمال الملائمة ولا يصدق على المتكلم بهما أنه يتناقض ويتكلم بما
يخالف ما قاله أولا.
وعلى الجملة فلا بأس باستخدام الجارية النصرانية من حيث كونها
كذلك ولو مست شيئا مع نداوة في البين يتأثر ويتنجس بذلك ويلزم غسله، وأما
قذارات يدها فأمرها سهل، لأنه يأمرها بغسل يدها وإزالتها عنها.
هذا مضافا إلى أن أمر الاستخدام بمكان من السهولة حيث يمكن أن
يستخدمها لأمور غير مستلزمة للنجاسة ككنس الدار وطحن الحنطة والشعير و
أشباه ذلك لا في طبخ الطعام وأمثاله.
ومنها صحيحة إبراهيم بن أبي محمود أيضا قال: قلت للرضا عليه السلام:
الخياط أو القصار يكون يهوديا أو نصرانيا وأنت تعلم أنه يبول ولا يتوضأ ما
تقول في عمله؟ قال: لا بأس. 1
وجه الاستدلال بها أن الإمام عليه السلام أجاز كون اليهودي أو النصراني
خياطا للمسلم أو قصارا له يخيط أو يبيض ثيابه والحال أن نجاسة الخياط أو
القصار تلازم نجاسة الثوب الذي خاطه أو حوره وبيضه ملازمة عادية فهذا

1. التهذيب ج 6 ص 385 الوافي ج 1 ص 32 من أبواب الطهارة قال المحدث الفيض رحمه الله:
لا يتوضأ أي لا يستنجي والمراد بعمله معموله وهو الثوب يخيطه أو يقصره انتهى ثم لا يخفى أن
لقب إبراهيم بن أبي محمود هو الخراساني.
84

يكشف عن طهارتهم.
وفيه أن هذه لا تدل على أزيد من جواز استيجارهم للعمل ولا دلالة فيها
على جواز مباشرة ما باشروه مع الرطوبة ولو صحت الملازمة المذكورة للزم
طهارة بولهما أيضا لأن الفرض بحسب تصريح الرواية أنه يبول ولا يغسل ومن
المعلوم أنه يتلوث بدنه أو يده أو كلاهما، فهذا يكشف عن أن السؤال لم يكن عن
الطهارة والنجاسة، بل عن مجرد استيجارهما للخياطة أو القصارة، وعن
الاستفادة من عملهم، وقد جوز الإمام ذلك، فلا بأس أن يخيط اليهودي مثلا ثوب
المسلم، غاية الأمر أنه لو علم أنه نجسه فلا بد له من أن يطهره ولو لم يعلم فلا
يحتاج إلى الغسل والتطهير أصلا وكذا لا يلزم في القصار أن يكون طاهر العين
كما في باب كلب الصيد حيث إنه مع نجاسته عينا يحل صيده.
ومنها صحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام ما
تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله ثم سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله ثم
سكت هنيئة ثم قال: لا تأكله ولا تتركه تقول إنه حرام ولكن تتركه تنزها عنه إن
في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير.
تقرير الاستدلال أن الإمام عليه السلام علل النهي عن أكل طعام أهل
الكتاب بمباشرتهم النجاسات حيث قال: إن في آنيتهم الخمر ولحم الخنزير. و
هذا كاشف عن عدم نجاستهم الذاتية وإلا لكانت أولى وأنسب بالتعليل بها، ولم
يحسن التعليل بالنجاسة العرضية مع تحقق النجاسة الذاتية 1.

1. قال صاحب المعالم في معالم الدين ص 255 في ذيل هده الرواية: قال والدي رحمه الله: تعليل
النهي في هذه الرواية بمباشرتهم للنجاسات تدل على عدم نجاسة ذواتهم إذ لو كانت نجسة لم
يحسن التعليل بالنجاسة العرضية التي قد تتفق وقد لا تتفق انتهى.
وقال المحدث الكاشاني في الوافي ج 2 باب طعام أهل الذمة: والمستفاد من كثير من أخبار
هذا الباب عدم نجاسة أهل الذمة أو عدم تعدي نجاستهم لأن الأمر باجتنابهم فيها معلل
باستعمالهم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر ونحو ذلك ولا ينافي هذا النهي عن مؤاكلتهم في
بعضها أو مصافحتهم لاحتمال أن يكون ذلك لشركهم وخبثهم الباطني وأن يكون اطلاق
النجس عليهم حيث وقع بهذا المعنى دون وجوب غسل الملاقي.
85

ونحن نقول: لا خفاء في صدر الرواية حيث إن إسماعيل سئل الإمام عن
أكل طعام أهل الكتاب ونهاه الإمام في الجواب عن أكله وسكت قليلا ثم نهاه
ثانيا عنه وسكت قليلا أيضا فنهاه ثالثا عنه إلا أنه أضاف هنا شيئا وهو قوله: ولا
تتركه تقول الخ ومعنى هذه الفقرة: احذر من أن تقول إنه حرام بل اترك طعامهم
تنزها عن الخمر ولحم الخنزير وكأنه عليه السلام يقول: إني نهيتك عن أكله
لهذه الجهة وقلت لك لا تأكله وفي هذه الفقرة نوع خفاء حيث يحتمل فيها
وجهان:
أحدهما: كونها لبيان حكم الله الواقعي المكتوب في اللوح المحفوظ،
عاريا عن كل شائبة ولا شك على ذلك في أن دلالة الرواية على مطلوبهم و
مرادهم ظاهرة لأنه أسند النهي عن ترك طعامهم إلى التنزه عن الخمر والخنزير.
ثانيها: أنه عليه السلام بين حكم الله بقوله: لا تأكله فنهاه عن أكل طعامهم
لنجاستهم عينا وذاتا لكنه أتى بالفقرة الأخيرة رعاية للتقية، حيث إنه بعد ذكر
حكم الله الحقيقي لاحظ شأن المجلس وحضور رجال الأمن ومأموري الدولة
الظالمة والجواسيس الأشرار والعملاء الأقذار ورآى لزوم رعاية أهل الخلاف
اتقاء شرهم فذكر هذه الجملة أو أنه رآى ابتلاء الراوي بهم ولذا قال له: لا تتركه
الخ يعني لا يصدر منك القول بالحرمة فإني نهيتك عن أكل لأجل أن أوانيهم
متلطخة وملوثة بالخمر ولحم الخنزير - الذين يجتنب عنهما أهل الخلاف
أيضا -.
ولا يخفى أن الظاهر من هذين الاحتمالين - بلحاظ افتاء أهل السنة
86

بطهارة أهل الكتاب وأن القول بنجاستهم من متفردات الإمامية ومن شعار
الشيعة - هو الثاني بل لا يدع لحاظ هذه الأمور للأول مجالا.
ويؤيد ذلك نهيه عليه السلام عن التفوه بأنه حرام.
والذي يظهر لي من الرواية أن الإمام بالغ في اثبات الرحمة وأكد عليه إلى
أن كرر النهي عن الأكل ثلاث مرات، وهو يدل على مزيد الاهتمام به، وأنه حكم
قطعي أصدره التفاتا، وعن عناية به، كي يقطع المخاطب به، ويطمئن إليه، ولكن
نهاه في الآخر عن اظهار ذلك تقية كيلا يصيبه منهم سوء. 1

1. أقول: إن لشيخنا البهائي قدس سره جوابا آخر عن هذه الرواية بعد أن اعترف باشعار التعليل
فيها بأن نجاستهم عرضية لا لذواتهم وأعيانهم فإنه قال: ولا يذهب عليك أن نهية عليه السلام عن
طعامهم ثم سكوته هنية ثم نهيه ثم سكوته هنية أخرى ثم أمره في المرة الثالثة بالتنزه عنه لا
تحريمه مما يؤذن بالتردد في حكمه وحاشاهم سلام الله عليهم من التردد فيما يصدر عنهم من
الأحكام فإن أحكامهم ليست صادرة عن الظن بل هو صلوات الله عليهم قاطعون في كل ما
يحكمون به وقد لاح لي على ذلك دليل أوردته في شرحي على الصحيفة الكاملة فهذا الحديث
من هذه الجهة معلول المتن وذلك بوجب ضعفه.
ثم قال في الحاشية: إن قلت يمكن حمل التردد المذكور على وقوع السؤال في مجلس كان مظنة
للتقية بحضور بعض المخالفين فيه فتردد عليه السلام في أنه هل يفتي أم لا.
قلت هذا الحمل أيضا يقتضي ضعف التعويل على هذا الحديث لجواز ترجيحه عليه السلام التقية
بل هذا هو الواقع لأنه عليه السلام قد أجاب بما يوافق العامة من عدم نجاستهم. راجع حبل المتين
ص 99.
وقال في مشرق الشمسين ص 360: ما تضمنه هذا الحديث من نهيه عليه السلام عن أكل
طعامهم أولا ثم سكوته هنيئة ثانيا ثم سكوته ثم أمره أخيرا بالتنزه عنه يوجب الطعن في متنه
لاشعاره بتردده عليه السلام في هذا الحكم وأن قوله هذا عن ظن وحاشاهم عليهم السلام أن يكون أحكامهم صادرة عن ظن كأحكام المجتهدين بل كلما يحكمون به فهو قطعي لهم لا
يجوزون نقيضه.
ويخطر بالبال في الاستدلال على أن كل أحكامهم عليهم السلام صادرة عن قطع وأنه لا يجوز
صدور شئ منها عن ظن أننا إذا سمعنا من أحدهم عليهم السلام حكما فإنا لا نجوز احتمال كونه
خطأ لأن اعتقادنا عصمتهم على أنفسهم الخطأ عليهم وكما أنا لا نجوز عليهم الخطأ في أحكامهم
فهم أيضا لا يجوزون على أنفسهم الخطأ لعلمهم بعصمة أنفسهم سلام الله عليهم. ومن هذا يعلم أنهم قاطعون بجمع الأحكام التي تصدر عنهم ولا يجوزون نقيضها كما يجوزه المجتهدون في
أحكامهم المستندة إلى ظنونهم ولعل ظنونهم ولعل نهيه عليه السلام عن أكل طعامهم محمول على الكراهة إن أريد الحبوب ونحوها.
ويمكن جعل قوله: لا تأكله مرتين للاشعار بالتحريم كما هو ظاهر التأكيد ويكون قوله بعد ذلك:
لا تأكله ولا تتركه محمولا على التقية بعد حصول التنبيه والاشعار بالتحريم، هذا إن أريد بطعامهم
اللحوم وما باشروه برطوبة، ويمكن تخصيص الطعام بما عدا اللحوم ونحوها ويؤيد تعليله
عليه السلام باشتمال آنيتهم على الخمر ولحم الخنزير. انتهى كلامه رفع مقامه.
87

وعلى هذا فلا دلالة فيها على طهارة أهل الكتاب التي هي مراد
المستدلين بها بل لعل الأمر بالعكس.
ومنها حسنة الكاهلي قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام وأنا عنده عن
قوم مسلمين حضرهم رجل مجوسي أيدعونه إلى طعامهم؟ قال: أما أنا فلا أدعوه
ولا اؤاكله وإني لأكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم. 1
فإن الظاهر منها هو جواز دعوة المسلم المجوسي إلى طعامه وإن كان
يكره ذلك وإذا جاز ذلك فاللازم هو طهارة المجوسي.
وفيه أنه لا يصح التمسك بها أيضا فإن فيها شائبة التقية بشهادة نفس
الرواية وقرينة قوله عليه السلام في آخرها: شيئا تصنعونه في بلادكم فإنه بمنزلة
أن يقول: لو أقول إنه حرام يصير سببا لا ذاك وانجر إلى بروز الحوادث و
توجه المكاره إليك لأنه شئ دائر بينكم ورائج في بلادكم تصنعونه كثيرا وأنكم
تضطرون إلى المعاشرة معهم وإلا فالحكم الواقعي هو الحرمة.
ومنها رواية زكريا بن إبراهيم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام
فقلت: إني رجل من أهل الكتاب وإني أسلمت وبقي أهلي كلهم على النصرانية
وأنا معهم في بيت واحد لم أفارقهم فآكل من طعامهم؟ فقال لي: يأكلون لحم

1. الحدائق ج 5 ص 170، وفي الوسائل ج 16 ب 53 من الأطعمة المحرمة: الكاهلي قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوم مسلمين يأكلون وحضرهم مجوسي أيدعونه إلى طعامهم؟
فقال أما أنا فلا أو أكل المجوسي وأكره أن أحرم عليكم شيئا تصنعونه في بلادكم.
88

الخنزير؟ فقلت: لا ولكنهم يشربون الخمر فقال لي كل معهم واشرب. 1
فإن الإمام عليه السلام جوز لزكريا الأكل والشرب مع أهله النصرانيين و
كان مبتلى بمعاشرتهم والأكل من طعامهم ومماسة آنيتهم ومباشرتها بمجرد
أنهم لا يأكلون لحم الخنزير وهذا يدل على طهارة النصارى وإلا لما كان يجوز
الإمام مؤاكلتهم.
وفيه أنه وإن كانت الرواية تدل بحسب الظاهر على طهارة النصارى،
حيث إن زكريا وحده كان قد أسلم من بين أهله وأسرته وبقي أهله على
نصرانيتهم، ولما صرح هو بأنهم لا يأكلون لحم الخنزير أجاز الإمام الأكل و
الشرب معهم. إلا أن في الرواية احتمالات أخرى:
أحدها: أن يكون تجويز الإمام لأجل اضطرار زكريا إلى معاشرتهم و
مزاولتهم والأكل معهم ومن آنيتهم كما لعله يظهر ذلك من شرائط حاله وشأنه
الخاص به حيث إنه كان قد نشأ في رهط نصرانيين وأسلم وحده وبنفسه فهو
عرفا في ظروف خاصة وشرائط استثنائية واضطرارية.
ويؤيد ذلك، الخبر الذي رواه علي بن جعفر عن أخيه وسيأتي ذكره
إن شاء الله تعالى فانتظر.
ثانيها: أن يكون تجويز الإمام لأجل مصلحة أهم مثل مصلحة ائتلاف
قلوب أهله وعائلته وتوجيههم إلى الاسلام كما يؤيد هذا الاحتمال ما نقل من أن
أمه قد أسلمت لما رأت من ابنها ما حيرها وأعجبها واستحسنته من محامد
الأخلاق والسيرة المحمودة والمواقف المشكورة ومناهج الصلاح والسداد و
المداراة معها وأنه يبالغ في الاحسان إليها ويخدمها خدمة صادقة، تلك الصفات
الكريمة التي اكتسبها في ظلال الاسلام.

1. وسائل الشيعة ج 16 ب 54 من أبواب الأطعمة المحرمة ح 5.
89

ثالثها: أن يكون حكم الإمام بذلك لأجل أنه عليه السلام كان عالما بأنه لا
يبتلى بأكل النجس ولا يصادف له ذلك لانتحال أهله الاسلام واقبالهم إلى
دين الله قبل مصادفة الأكل معهم. فمع وجود هذه الاحتمالات كيف يمكن
الحكم بطهارتهم بمجرد تجويزه الأكل معهم؟ وإذا جاء الاحتمال بطل
الاستدلال.
ثم إن في هذه الرواية كلاما من جهة أخرى وإن لم تكن مرتبطة بمسئلتنا،
وهي أن الراوي صرح بأن أهله يشربون الخمر، ومع ذلك أجاز الإمام الأكل و
الشرب معهم بعد أن قال زكريا بأنهم لا يأكلون لحم الخنزير وقد فرق بين الخمر
والخنزير وهذا يدل على طهارة الخمر.
ويمكن دفع هذا الاشكال بأن آنية الخمر غير آنية الطعام فإن للشراب إناءا
خاصا به وللطعام إناءا آخر، هذا بالنسبة إلى الإناء.
وأما بالنسبة إلى الشفة ونجاستها ففيها أنه لا ملازمة بين نجاسة الخمر و
نجاسة الشفة فمن الممكن شرب الخمر بنحو لا يتنجس خارج الفم وظاهره.
وإن أبيت إلا عن دلالة هذه الجملة على طهارته فنقول: إنه قد جوز ذلك
للاضطرار إليه، أو نقول: إن هذه الرواية من الروايات الدالة على طهارة الخمر و
عند معارضتها للأخبار الدالة على النجاسة تقدم الثانية وتطرح ما دلت
على الطهارة.
ثم لا يخفى عليك إن هذه الرواية منقولة في الكافي بتفصيل غير مذكور
في هذا النقل فراجع. 1

1. في أصول الكافي ج 2 ص 160 عن زكريا بن إبراهيم قال: كنت نصرانيا فأسلمت وحججت و
دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: إني كنت على النصرانية وإني أسلمت، فقال: وأي شئ
رأيت في الاسلام؟ قلت: قول الله عز وجل: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه
نورا نهدي به من نشاء " فقال: لقد هداك الله، ثم قال: اللهم اهده - ثلاثا - سل عما شئت يا بني فقلت: إن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل في
آنيتهم؟ فقال يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت: لا ولا يمسونه، فقال: لا بأس فانظر أمك فبرها، فإذا
ماتت فلا تكلها إلى غيرك، كن أنت الذي تقوم بشأنها ولا تخبرن أحدا أنك أتيتني حتى تأتيني
بمنى إن شاء الله قال: فأتيته بمنى والناس حوله كأنه معلم صبيان هذا يسأله وهذا يسأله فلما
قدمت الكوفة ألطفت لأمي وكنت أطعمها وأفلي ثوبها ورأسها وأخدمها فقالت لي: يا بني ما
كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني فما الذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟
فقلت: رجل من ولد نبينا أمرني بهذا فقالت: هذا الرجل هو نبي؟ فقلت: لا ولكنه ابن نبي فقالت:
يا بني هذا نبي إن هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أمه إنه ليس يكون بعد نبينا نبي ولكنه ابنه
فقالت: يا بني دينك خير دين، اعرضه علي فعرضته عليها فدخلت في الاسلام وعلمتها فصلت
الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثم عرض لها عارض في الليل، فقالت: يا بني أعد على
ما علمتني فأعدته عليها، فأقرت به وماتت، فلما أصبحت كان المسلمون الذين غسلوها وكنت
أنا الذي صليت عليها ونزلت في قبرها.
90

ومنها صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن آنية
أهل الذمة والمجوس فقال: لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا
في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر. 1
تقريب الاستدلال إن الإمام لم ينه عن مطلق طعامهم بل عن المطبوخ منه
ولا عن استعمال مطلق أوانيهم بل عن التي يشربون فيها الخمر.
والسر في النهي عن طعامهم المطبوخ عدم تجنبهم لحم الخنزير فإنهم
يستحلونه ويأكلونه كثيرا وهذا بنفسه أمارة على أن طعامهم المطبوخ من لحم
الخنزير ولا أقل من كونه خليطه ومزيجه وأما النهي عن آنيتهم التي يشربون فيها
الخمر فهو واضح لا يحتاج إلى توجيه وبيان فيعلم أن مطلق طعامهم وأواينهم
ليس نجسا وحينئذ فلا وجه للحكم بنجاستهم.
وبعبارة أخرى أن لازم الحكم بنجاستهم الحكم بالتجنب عن جميع
أوانيهم سواء اشربوا فيها الخمر أو الماء كما أن لازم ذلك التجنب عن مطلق
طعامهم دون خصوص ما يطبخونه فتقييد أوانيهم بالتي يشربون فيها الخمر و

1. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 1.
91

طعامهم بالذي يطبخونه لا وجه له وحينئذ فالتقييد كاشف عن عدم نجاستهم.
وقد ظهر جوابه مما قدمناه حول هذه الرواية في تقريب الاستدلال بها
على النجاسة فراجع وتأمل فإن في ما ذكر هناك غنى وكفاية عن إعادته في
هذا المقام.
ومنها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام وقد سأله عن
اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء أيتوضأ منه للصلاة؟ قال: لا إلا أن
يضطر إليه. 1
وجه الاستدلال بها أن الإمام عليه السلام أجاز الوضوء بالماء الذي أدخل
النصراني يده فيه، فيعلم أن الماء كان طاهرا، وطهارة الماء تدل على طهارة
النصراني، وهذا هو المطلوب.
وأما قيد الاضطرار فهو لعدم الداعي للمسلم في التوضي من هذا الماء
اختيارا وإن لم يكن نجسا بل لأجل استقذاره، وأما في حال الاضطرار فلا يبالي
بذلك، وإلا فالاضطرار لا يصير النجس طاهرا صالحا للوضوء منه.
وفيه أولا: من أين ثبت كون المفروض الماء القليل؟ فمن الممكن كون
المفروض ومورد السؤال ادخال اليهودي أو النصراني يده في الماء الكثير، ومن
المعلوم أن الماء إذا بلغ قدر كر لا ينجسه شئ.
إن قلت إن الرواية مطلقة شاملة للماء القليل أيضا وهذا كاف في اثبات
طهارتهم.
نقول: يجب تقييد الاطلاق - لو كان اطلاق - بنجاسة سؤر الكافر أو ما
بشروه بالرطوبة التي استفدناها من الأدلة.
وثانيا: سلمنا إن الرواية متعرضة للماء القليل إما اختصاصا وإما اطلاقا

1. وسائل الشيعة ج 2 ب 14 من أبواب النجاسات ح 9.
92

لكن مع ذلك فالحكم بطهارة هذا الماء مع أن اليهودي مثلا أدخل يده فيه لا يدل
على طهارته حيث إنه يمكن أن يكون هو نجسا ومع ذلك يكون الماء المزبور
طاهرا بأن يقال بعدم انفعال الماء القليل كما هو مذهب ابن الجنيد نعم هو
خلاف نظرنا ومبنانا.
إن قلت: إن هذا لا يساعده اشتراط جواز الوضوء منه بالاضطرار فإنه لو
كان الماء طاهرا - لعدم انفعاله بملاقات يد الكافر فاللازم هو الحكم بجواز
الوضوء منه اختيارا.
نقول: لا منافاة أصلا فإن هذا الماء قذر بسبب ادخال اليهودي يده فيه وإن
لم يكن نجسا - لكن في حال الضرورة لا بأس أصلا - كما أنه لا يجوز التوضؤ بماء
الاستنجاء والحال أنه طاهر مع الشرائط.
وثالثا: أنه يمكن حمل هذا الخبر أيضا كسابقه على التقية 1 فعلى
هذا لا دلالة فيه على طهارة أهل الكتاب.
ويضاف إلى ذلك كله أن القائلين بالنجاسة أيضا يتمسكون بهذه الرواية
ويستدلون بها ويقولون إنها تدل على النجاسة حيث إنه لم يجوز الإمام استعمال
هذا الماء غاية الأمر اختصاص لزوم الاجتناب بحال الاختيار وأما في حال

1. أقول: وقد حمله كذلك شيخنا البهائي قدس سره في الحبل المتين ص 99 فإنه بعد أن اعترف
بأن جواز الوضوء بسؤر هم إذا اضطر إليه دليل على طهارتهم قال: وظني أنه لا يبعد أن يقال إن
الاضطرار يجوز أن يكون كناية عن التقية فإن المخالفين من العامة على طهارتهم انتهى وقال في
مشرق الشمسين في ذيل الخبر: قوله عليه السلام في آخر الحديث: إلا أن يضطر إليه مما يتأيد به
القول بعدم نجاسة اليهود والنصارى وبعض الأصحاب حمل الوضوء في الحديث على إزالة
الوسخ. ولا يخفى أن ذكر الصلاة ينافيه وبعضهم حمل على تسويغ الاستعمال عند الضرورة
على الاستعمال في غير الطهارة فالمعنى إلا أن يضطر إليه في غير الطهارة وهو بعيد. ثم قال: و
الأولى حمل الاضطرار على ما إذا دعت التقية إلى استعماله وعدم التحرز عنه كما يقع كثيرا
لأصحابنا الإمامية في بلاد المخالفين فإنهم قائلون بطهارة أهل الكتاب انتهى كلامه.
93

الاضطرار فلا يلزم الاجتناب عنه، إلى غير ذلك من الروايات. 1
كلمة حول الرأي المختار
قد علمت أن الأخبار التي استدل بها على طهارة أهل الكتاب حملناها إما
على التقية، وإما على الاضطرار، وإما على غير ذلك، والسبب في ذلك الذي هو
حجة لي بيني وبين الله وقد حملني على أن ادع هذه الروايات واتركها هو أنها مع
صحة اسناد قسم منها غير معمول بها، فترى أنها إما صحيحة وإما موثقة، و
قد رواها الفحول وجهابذة العلماء الأكابر مثل الكليني والصدوق والشيخ الطوسي
رضوان الله عليهم أجمعين الذين هم في الحقيقة حلقات الترابط بين لاحق الأمة
الاسلامية وسابقها والوسائط بين الشيعة وأئمتهم المعصومين عليه السلام وقد
أودعوا هذه الأخبار في كتبهم ووصلت إلينا بواسطتهم، ومع تمام هذه الجهات و
شدة اهتمامهم بالتعبد بما وصل إليهم، ووقع بأيديهم، من الأئمة الطاهرين، فهم

1. أقول: كرواية عيص بن القاسم عن الصادق عليه السلام قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
مؤاكلة اليهودي والنصراني فقال: لا بأس إذا كان من طعامك. وسألته عن مؤاكلة المجوسي فقال:
إذا توضأ فلا بأس. التهذيب ج 9 ص 88
قال الفاضل المقداد رضوان الله عليه: وليس فيها حجة على الطهارة وإلا لم يحتج إلى قوله: (إذا
كان من طعامك) ويمكن حملها على طعام جامد.
والمراد بالتوضؤ كما قال هو أيضا هو غسل يده راجع التقيح الرائح الرائع ج 4 ص 53 وقال المحقق
في المختصر النافع: وفي رواية إذا اضطر إلى مواكلته - أي الذمي - أمره بغسل يده، وهي متروكة
انتهى.
وقال الفاضل السيوري في شرحه: لم نقف على رواية بطهارة الذمي، فإن وجد شئ فهو محمول
على التقية، وأما روايات النجاسة فكثيرة ولذلك جعلها هي الأشهر خصوصا مع موافقتها للكتاب
في قوله تعالى: (إنما المشركون نجس) وأهل الذمة مشركون لما تقدم في النكاح انتهى راجع
التنقيح ج 4 ص 53.
94

بأنفسهم تركوا هذه الرويات، وأعرضوا عنها، ولم يعملوا بها، وهذا بنفسه أمارة
اجمالية كاشفة عن خلل فيها، وهو العلة الوحيدة في ضعف تلك الأخبار وأقوى
حجة عليه، فإن الخبر كلما كان صريحا من حيث الدلالة وصحيح من حيث
السند فهو يضعف ويسقط بسبب الاعراض عنه، لا سيما هذا الاعراض، أي
اعراض ناقليه ورواته عنه، فإنه يوجب الوهن فيه جدا، وما نحن فيه كذلك، فإنها
مع كونها صريحة الدلالة، صحيحة السند، لم يعمل ناقلوها بها ونحن نفهم أن
عدم اعتنائهم بها وافتاءهم بالطهارة كان لأجل نكتة ثابتة وجهة محققة عندهم،
حملتهم على الافتاء بخلافها كعلمهم بصدورها تقية، أو وجود قرينة في مقام
الدلالة أو غير ذلك من الأمور والنكات.
والحاصل: أنها صدرت عنهم عليهم السلام لمصلحة من المصالح فهي
ساقطة عن الحجية وحينئذ تبقى أخبار النجاسة سالمة بلا معارض، فيعمل بها، و
قد ثبت أن أدلة القائل بالطهارة أصلا وآية ورواية لم تنفع شيئا ولا دلالة أصلا و
إن كل هذه الآثار لا تثبت المقصود الذي يحاوله هذا القائل.
كلمة من بعض الأجلاء
بقي الكلام هنا في ما أورده بعض المعاصرين - عند التعرض للروايات
التي يستظهر منها الطهارة وإلا يراد عليها - بقوله: نعم تشكل موثقة عمار
المتضمنة تغسيل النصراني للمسلم إذا لم يوجد مسلم أو مسلمة ذات رحم و
تغسيل النصرانية للمسلمة كذلك فإن البناء على وجوب التغسيل بالماء النجس
بعيد جدا لأنه يزيد الميت نجاسة، وحمله على التغسيل بالكثير أبعد، ولأجل
ذلك رد الموثقة المذكورة بعضهم لمخالفتها للقواعد لكن المشهور بين القدماء
95

والمتأخرين العمل بها. 1
وفيه أن عدم تمشي قصد القربة من النصراني الذي يغسل المسلم لكونه
نصرانيا غير معتقد بالله وبما أوجب الله على المسلمين. وكذا عدم حصول قرب
إلى الله للميت المسلم الذي غسله النصراني بل وعدم امكان حصول القربة لكون
ماء الغسل نجسا، كاشف عن عدم كون هذا الغسل غسلا حقيقيا واقعيا، بل هو
صورة الغسل، والمأمور به هو الغسل (بالفتح) والغمس في الماء مثلا دفعا
للسموم الخارجة من بدن الميت ولأن ينظف ويبرأ من أدناس أمراضه، وما
أصابه من صنوف علله، تحفظا من سراية الأذى والأمراض إلى الناس. 2
ثم إن له اشكالا آخر أيضا نتعرض له قال: إن الأقوى ما عليه الأصحاب
من النجاسة لولا ما يقتضيه النظر في روايات نكاح الكتابية متعة أو مطلقا فإنها
على كثرتها واشتهارها وعمل الأصحاب بها لم تتعرض للتنبيه على نجاستها فإن
الملابسات والملامسات التي تكون بين الزوج والزوجة لا تمكن مع نجاسة
الزوجة ولم يتعرض في تلك النصوص للإشارة إلى ذلك. 3
ويرد عليه أولا: إن تحفظ الزوج نفسه من تأثره بنجاستها أمر ممكن.
وثانيا: إن مباشرة الرجل المسلم زوجته المسلمة أيضا ربما تكون ملازمة
للنجاسة عرفا ومع ذلك لم تتعرض أخبار النكاح والمضاجعة لذكر ذلك، وللزوم
التطهير، فهل هذا دليل على عدم حصول النجاسة أو عدم لزوم التطهير؟
والجواب في المقامين إن اللزوم تطهير الثوب والبدن إذا تأثرا بالنجاسة

1. مستمسك العروة الوثقى ج 1 ص 374، وأما موثقة عمار فراجع الوسائل ج 2 ب 19 من
أبواب غسل الميت ح 1 وجامع أحاديث الشيعة ب 18 من أبواب التغسيل ح 49
2. هكذا أفاد دام ظله هنا لكنه قد ذكر في بحث غسل الأموات وجوها أخر كما قررناها في كتابنا:
مناهل الحياة في أحكام الأموات ولعله يطبع إن شاء الله تعالى.
3. مستمسك العروة الوثقى ج 1 ص 377.
96

مذكور في موضعه وموكول إلى محله.
97

الكلام حول نجاسة أولاد الكفار وعدمها
قد عرفت من أبحاثنا الماضية أنه لا مناص عن القول بنجاسة الكفار مطلقا
وإن كانوا كتابيين فحينئذ يتوجه السؤال عن أنه هل يلحق بهم أولادهم قبل أن
يبلغوا أو يتوقف الحكم بنجاستهم على كفرهم المتوقف على البلوغ وتوجه
التكليف؟ وبعبارة أخرى هل الحكم في أولاد الكفار تبعية الآباء في النجاسة أم
لا؟
قال الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني رضوان الله عليهما: ظاهر كلام
جماعة من الأصحاب إن ولد الكافرين يتبعهما في النجاسة الذاتية بغير خلاف
لأنهم ذكروا الحكم جازمين به غير متعرضين لبيان دليله كما هو الشأن
في المسائل التي لا مجال للاحتمال فيها وممن ذكر الحكم كذلك، العلامة
في التذكرة ولكنه في النهاية أشار إلى نوع خلاف أو احتمال فيه، فقال: الأقرب
99

في أولاد الكفار التبعية لهم. 1
أقول: إن تعبير النهاية بلفظ: (الأقرب) مشعر بوجود الخلاف، ويستفاد
منه أنه بنفسه احتمل عدم الالحاق، فحينئذ لو ثبت كون المسألة اجماعية وأنه لم
يكن الاجماع مستندا إلى ما يصلح أن يكون مستندا له ودليلا عليه فالحكم
قطعي لا يبقى معه مجال للبحث، وأما لو لم يكن اجماع أصلا أو كان ولكنه كان
مستندا إلى ما يستدل به في المقام فهناك لا بد من التمسك بأدلة أخرى في اثبات
المطلوب إما على فرض عدم الاجماع فالأمر واضح وإما على الفرض الأخير
فلان الاجماع على ذلك ليس دليلا مستقلا في قبال مستنده فاللازم فعلا ذكر ما
يقال ويستدل به للحكم بالتبعية والالحاق وإن ولد الكافرين نجس كأبويه وهي
أمور:
الأول: أنه قد تولد ونشأ من النجس والمتولد من النجس والمتكون منه
نجس وبتقريب آخر ذكره بعض العلماء: أنه حيوان متولد من حيوانين نجسين
فيثبت له حكمهما كالمتولد من الكلب والخنزير.
وفيه أن مجرد نش ء شئ من النجس والتولد منه لا يوجب كونه نجسا ولا
دليل على ذلك ما لم يصدق عليه عنوان من العناوين النجسة، ولذا لا يحكمون
على الدودة المتولدة من النجاسة والمتكونة منها بالنجاسة، بل النجاسة دائرة
مدار صدق عنوان من عناوين النجسات - على المتولد أو المتكون - عرفا فالمتولد
من الكلب والشاة أو من الخنزير والشاة ليس نجسا لو لم يصدق عليه الكلب أو
الخنزير، ومجرد عدم صدق عنوان الكلب أو الخنزير كاف في الحكم، بالطهارة،
وعلى هذا فالحكم بالنجاسة فيما نحن فيه موقوف على صدق عنوان الكافر عليه
وهو غير معلوم لو لم يكن معلوم العدم.

1. معالم الدين في الفقه ص 259.
100

الثاني: وهو الذي تمسك به بعض العلماء 1 واعتمد عليه - أن نجاسة أولاد
الكفار ارتكازي عند أهل الشرع، حيث إنهم يتعدون من نجاسة الأبوين ذاتا إلى
المتولد منهما، فهو شئ مركوز في أذهانهم مثل حكمهم بنجاسة المتولد من
الكلبين ارتكازا.
وفيه أنه لو سلم ذلك فإنما هو فيما إذا كانت النجاسة ذاتية في الأصل غير
قابلة الانفكاك عنه، كالكلب فإن النجاسة لا تنفك عنه أبدا وفي أي شرط من
الشرائط وحال من الأحوال، فإذا المتولد من كلبين محكوم بالنجاسة لارتكاز
أهل الشرع بكونه نجسا، وأما إذا لم يكن الأمر كذلك بل كانت النجاسة
في الأصل لجهة عارضة تدور معها نفيا واثباتا كالكفر القابل للتغير والتبدل - وما
دامت هذه الصفة الخبيثة موجودة يحكم بالنجاسة وتزول بزوال الوصف
العنواني فهنا لا ارتكاز على نجاسة المتولد منه، لعدم كونه واجدا للصفة، وعدم
صدق الكافر عليه، بل وعدم صلاحيته لذلك.
والحاصل: أن الكفر علة تقييدية لا تعليلية ولذا لا يمكن ادعاء الارتكاز
في نجاسة المتولد من الكافر كما لا يصح أيضا في كل مورد كانت النجاسة
في الأصل لأجل فعل من الأفعال وصفة من الصفات.
الثالث: قول الله عز وجل: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم
ذريتهم... 2 فإن الظاهر منه الحاق ذرية كل به.

1. أقول: قال علم التحقيق والتقى الشيخ المرتضى في طهارته ص 306:... بل هذا الوجه
هو العمدة...
2. سورة الطور الآية 31 أقول: وفي الكافي باب الأطفال من كتاب الجنائز: وفي حديث آخر أما
أطفال المؤمنين فيلحقون بآبائهم وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم وهو قول الله عز وجل والذين
آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمانهم ألحقنا بهم ذريتهم.
ثم لا يخفى أن الشيخ قدس سره استدل بالآية الكريمة في المبسوط ج 3 ص 341 قال: اعتبار
اسلام الطفل بشيئين أحدهما يعتبر بنفسه والثاني يعتبر بغيره... وأما اعتباره بغيره فعلى ثلاثة
اضرب أحدها الأبوان فاعتباره بالوالدين إذا كان أبواه مسلمين فإنه يحكم باسلامه لقوله تعالى
" الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم " فأخبر تعالى أن ايمان الذرية يلحق
بايمان أبويه وهكذا إن كان أبواه كافرين فإنه يحكم بكفر الأولاد والأطفال تبعا لهما انتهى
كلامه.
101

وفيه أن الظاهر كون الآية الكريمة أجنبية عما نحن بصدده، فإنها ناظرة
إلى النشأة الآخرة وما بعد الموت، وأما الحاق أولاد الكافرين لهم ما داموا في دار
الدنيا في جميع الأحكام ومنها النجاسة فهو مشكل جدا ولا يستفاد من الآية. 1
الرابع: خبر حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب وظهر عليهم المسلمون بعد ذلك قال:
اسلامه اسلام لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار وماله ومتاعه ورقيقه له. 2
وهذا الخبر يدل بمنطوقه على أن الصغار يحكم عليهم بحكم الاسلام
بمجرد حدوث الاسلام وتحققه لوالدهم، ولازم ذلك بمقتضى المفهوم كون
الأولاد الصغار محكوما عليهم بالكفر أيضا بسبب كفر والدهم لأنه لا واسطة بين
الاسلام والكفر فإذا انتفى الاسلام فلا بد وأن يثبت الكفر.
ويرد عليه أنه لا دلالة لهذا الخبر أيضا على نجاسة أطفالهم،
فإن المستفاد منه إن كفر الوالد مسوغ لاسترقاق الأطفال أيضا مضافا إلى جواز
استرقاق الوالد بنفسه وأما النجاسة فهي أمر آخر غير مرتبط بذلك فإنها مترتبة
على الكفر. والطفل المتولد من كافرين ليس بكافر بل لا يصلح لذلك.
وما ذكره المستدل من أنه إذا انتفى حكم الاسلام في الولد يثبت عليه
حكم الكفر وأن مجرد عدم كونه مسلما كاف في الحكم بكفره.

1. أقول: وقد يستدل بقوله تعالى حكاية عن نوح: " ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا "، وإن لم يتعرض له
سيدنا الأستاذ الأعظم مد ظله. والجواب عنه هو ما ذكره العلامة أعلى الله مقامه في شرحه
على التجريد بقوله: إنه مجاز والتقدير أنهم يصيرون كذلك لا حال طفوليتهم.
2. وسائل الشيعة كتاب الجهاد ب 43 ح 1.
102

ففيه أنه غير قابل للاسلام والكفر لعدم شأنيته وصلوحه لذلك مع كونه
صغيرا - كعدم صلاحية الجدار لهما ولذا لا يصح اطلاق الكافر عليه أيضا وإن
أمكن أن يقال إنه يصلح للاسلام لمكان محبوبيته الذاتية.
الخامس: صحيح عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
أولاد المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث؟ قال: كفار والله أعلم بما كانوا
عامين يدخلون مداخل آبائهم. 1
والجواب: أن من المعلوم كما ذكرنا آنفا عدم صدق الكافر بالمعنى
الحقيقي على هذا الولد المتكون من الكافر، فإن معناه هو المنكر لله ولرسوله مثلا،
والصبي غير صالح لذلك، إلى أن يبلغ، ولا أقل من أن يصير مميزا، فالمراد
بالكفر آثاره. والظاهر أنه لا دلالة له على الحاقهم بآبائهم في النجاسة وإنما هو
في مقام بيان حالهم بعد الموت ولحوقهم بهم في النشأة الآخرة فيعامل مع أولاد
المشركين فيها معاملة المشركين أنفسهم، باعتبار أنهم لو بقوا في الدنيا لصاروا
كفارا فيدخلون مداخل آبائهم.
ويمكن أن يقال: إن السؤال مطلق يشمل الدنيا والآخرة، ولا وجه
لاختصاصه بها فيكون الولد في حكم الكافر في جميع الأحكام ومنها النجاسة.
والجواب عن ذلك أن للسؤال - بلحاظ قول السائل: (يموتون قبل البلوغ)
وبلحاظ قول الإمام: (الله أعلم بما كانوا عاملين) الذي معناه إن الله يعلم أنهم
لو عاشوا في الدنيا ماذا يصنعون - قدرا متيقنا وهو السؤال عن الآخرة فإذا كان
كذلك فينصرف إليها.

1. من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 491 باب حال من يموت من أطفال المشركين ح 2 (أقول: قال
صاحب الحدائق: يمكن الاستدلال للقول المشهور من تبعية ولد الكافر لأبويه في الكفر بما رواه
الصدوق في الفقيه في الصحيح عن جعفر بن بشير عن عبد الله بن سنان...
103

السادس: ما رواه وهب بن وهب عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما
السلام قال: قال علي عليه السلام: أولاد المشركين مع آبائهم في النار وأولاد
المسلمين مع آبائهم في الجنة. 1
وفيه أنه وإن كان دالا على دخوله النار إلا أنه لا دلالة له على نجاستهم ولا
ملازمة بينهما عقلا كما أنه لم يرد دليل يدل على أن كل من دخل النار فهو نجس
ومن المعلوم أن الفساق يدخلون جهنم ويعذبون على ما فعلوه من المعاصي مع
أنهم ليسوا نجسا، وترى أن الله تعالى يقول في المنافقين: " إن المنافقين
في الدرك الأسفل من النار " مع أن لا يحكم بنجاسة المنافقين بل يعاملون معاملة
الطهارة.
السابع النبوي المشهور: كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه و
ينصرانه ويمجسانه حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكر وإما كفورا. 2
تقريب الاستدلال أن الود - بمقتضى هذا الخبر - بحسب أصل خلقته و
سذاجة فطرته عار عن شوائب الشرك والكفر فهو من هذه الحيثية موحد و
محكوم عليه بحكم الاسلام، وإنما يلحقه حكم الكفر تبعا لوالديه اليهوديين أو
النصرانيين أو المجوسيين فالا بوان صارا سببا لكون الطفل يهوديا مثلا أي
مشمولا لحكمه، والمراد من قوله: حتى يعرب الخ إن هذه التبعية باقية ثابتة إلى

1. من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 491.. ح 1
2. تذكره الفقهاء ج 2 كتاب اللقطة ص 274. ورواه الشهيد في لقطة الدروس ص 299 إلا أنه
ضبط كذا: حتى يكون أبواه... والمجلسي التقي في روضه المتقين ج 1 ص 60 وضبطه: ولكن
أبواه اللذان الخ كما أنه في الكافي اقتصر على نقل: كل مولود يولد على الفطرة، فراجع ج 2 ص
13 من طبعة طهران وفي الوسائل ج 11 ص 96 ح 3 ب 48 من جهاد العدو عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه قال: ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه.
وفي السفينة ج 2 ص 373 قال النبي صلى الله عليه وآله كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون
أبواه يهودانه وينصرانه.
104

أن يبلغ فيظهر الاسلام أو الكفر.
أقول: لا يخفى أنه كما تمسك به القائل بالالحاق كذلك تمسك به من
يقول بطهارة ولد الكافر وعدم تبعيته له في النجاسة - غاية الأمر أن الأول تمسك
بذيله والثاني بصدره - مقررا أنه ولد على فطرة الاسلام فهو محكوم عليه بحكمه،
هذا.
والحق أنه لا يصح ولا يتم الاستدلال بالحديث الشريف مطلقا - لا للتبعية
ولا لعدمها - ولا دلالة فيه على أي واحد من الأمرين فإنه غير مرتبط بالمقام.
ولتوضيح الكلام واثبات ما ذكرناه في المقام ينبغي البحث في معناه
فنقول: اختلفوا في معنى الحديث فقال علم الهدى الشريف المرتضى قدس
سره: الفطرة ههنا الدين وتكون (على) بمعنى اللام فكأنه قال: كل مولود يولد
للدين ومن أجل الدين لأن الله تعالى لم يخلق من يبلغه مبلغ المكلفين إلا ليعبده
فينتفع بعبادته، يشهد بذلك قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون... 1
ولكن الذي أفاده قدس سره خلاف الظاهر فإن الظاهر من معناه إن الله
جعل في كل مولود استعداد التوجه إلى الله الذي لا يزول ولا يزال واقتضاء اقباله
وتوجهه إلى المبدء المتعال فالانسان يتولد والحال أنه جعل بحسب التكوين
بحيث لولا الموانع والحواجز الخارجية يتوجه في القابل من حياته والمستقبل
القريب من عمره إلى ربه الذي فطره وأنشأه ويهتدي بنور هداه وفطرته إلى الله

1. أمالي المرتضى ج 2 ص 83 ثم لا يخفى عليك أنه ذكر في معنى الحديث واحدا من
الوجهين ولم يذكر سيدنا الأستاذ دام ظله الأخير منهما وهذه عبارة السيد: والوجه الآخر في
تأويل الفطرة أن يكون المراد بها الخلقة وتكون لفظة (على) على ظاهرها لم يرد به غيرها و
يكون المعنى كل مولود يولد على الخلقة الدالة على وحدانية الله تعالى وعبادته والايمان به، إلى أن قال: فكأنه عليه السلام قال: كل مخلوق ومولود فهو يدل بخلقه وصورته على عبادة الله تعالى
وإن عدل بعضهم فصار يهوديا أو نصرانيا وهذا الوجه يحتم له أيضا قوله تعالى فطرة الله التي فطر
الناس عليها.
105

سبحانه لما يراه من الآيات والبينات قال الله تعالى: فطرة الله التي فطر الناس عليها
لا تبديل لخلق الله 1 إلا أنه يوجد صوارف وموانع ومنها البيئة الفاسدة ومنها
الأبوان المنحرفان عن الله السالكان سبيل الشيطان المعتنقان لليهودية أو
النصرانية. فيتهود أو يتنصر لنشئه في بيئة يهودية أو نصرانية فإن الأولاد ينشئون
في الغالب على مذاهب آبائهم ويألفون أديانهم وعقائدهم صحيحة كانت أم
فاسدة فيختارون الضلالة بدلا من الحق في ما إذا كانت الآباء والأمهات من أهل
الضلال.
وعلى الجملة فكلام النبي الأمين صلى الله عليه وآله أخبار في الحقيقة
عن كون الانسان ذا استعداد قوي والقابلية العميقة وإن فيه شأنية التوحيد، لا أن
يكون في مقام الالحاق والتنزيل، ومن الممكن عدم ترتب حكم على هذه
القابلية والاستعداد نعم إذا صار مكلفا ورجع عما هو مقتضى فطرته واعتنق
اليهودية أو النصرانية مثلا فهناك يكون كافرا نجسا لأنه يصدق عليه اليهودي أو
النصراني جدا.
الأخبار المعارضة
قد علمت أن الروايات التي استدل بها على تبعية أولاد الكفار لهم لم تكن
دالة على ذلك فهنا نقول: أضف إلى ذلك أنها معارضة بأخبار أخر.
ومنها: قال أبو عبد الله عليه السلام: ثلاثة يحتج عليهم إلا بكم والطفل ومن
مات في الفترة فترفع لهم نار فيقال لهم: ادخلوها فمن دخلها كانت عليه بردا و

1. سورة الروم الآية 30.
106

سلاما ومن أبى قال تبارك وتعالى هذا قد أمرتكم فعصيتموني. 1
تدل على أخبار الأطفال يوم القيامة بالنار، والطفل مطلق شامل
لولد المسلم والكافر، وعلى هذا فأولاد الكفار أيضا يختبرون، رغما لما ذكروه
من لحوقهم بآبائهم.
ومنها عن سهل عن غير واحد رفعوه أنه سئل عن الأطفال فقال إذا كان
يوم القيامة جمعهم الله وأجج لهم نارا وأمرهم أن يطرحوا أنفسهم فيها فمن كان
في علم الله عز وجل أنه سعيد رمى بنفسه فيها وكانت عليه بردا وسلاما ومن كان
في علمه أنه شقي امتنع فيأمر الله بهم إلى النار فيقولون يا رب تأمر بنا إلى النار و
لم يجر علينا القلم؟ فيقول الجبار قد أمرتكم مشافهة فلم تطيعوني فكيف ولو
أرسلت رسلي بالغيب إليكم؟ 2
ودلالة هذه أيضا ظاهرة، ومجرد امتناع الأطفال عن دخول النار بأمر الله
تعالى يوجب - بمقتضى هذه الرواية - دخولهم في النار.
لا يقال: كيف يصح دخولهم في جهنم وخلودهم في النار أبدا لامتناع أمر
واحد ومخالفة واحدة له سبحانه؟.
لأنا نقول: هذا هو عين الاشكال الذي يذكر في الكافرين أنفسهم فيقال
كيف يمكن خلودهم في النار أبد الآبدين لعصيان سبعين سنة أو أقل أو أكثر من
ذلك؟
والجواب في المقامين واحد، وهو أن الله تعالى يعلم أنه لو بقي أبد الآباد
لكان مصرا على معاصي الله ومقيما على مخالفته متوغلا في الفواحش

1. الكافي ج 3 باب الأطفال ص 249 الوافي ج 3 أبواب ما بعد الموت ص 100
2. الكافي ج 3 ب الأطفال ح 2 ص 248 الوافي ح 3 ص 100 من أبواب ما بعد الموت. إلى
غيرهما من الروايات الواردة في التأجيج لكن الأستاذ الأكبر مد ظله اكتفى بذكر هذين الخبرين
فراجع الوافي ج 3 أبواب ما بعد الموت ب 112 وكذا الخصال باب السبعة.
107

والمنكرات. 1 وتمام البحث في علم الكلام.
ثم إن الأخبار الواردة في الأطفال من مشكلات الأخبار ومعضلاتها فترى
أن بعضا منها صريحة في كونهم تابعين لآبائهم وقسما منها المذكور آنفا صريحة
في الامتحان والتأجيج وعرض النار عليهم فمن رمى بنفسه فيها فهو من أهل
الجنة ومن أبى عن ذلك فهو من أهل النار. وبين القسمين بحسب الظاهر
كمال المنافرة والمخالفة ولذا تصدى العلماء للجمع بينهما.
فقال المحدث الكاشاني رضوان الله عليه: دخول الأطفال مداخل آبائهم
غير مستلزم لأن يكونوا معذبين بعذاب الآباء وكذلك نقول في أطفال المؤمنين و
هذا في البرزخ وأما في القيامة فيمتحن بالنار... انتهى.
وحاصل كلامه أن أخبار اللحوق متعرضة لحالهم في البرزخ بخلاف أخبار
التأجيج فإنها متعرضة لحالهم في يوم القيامة.
وفيه أن هذا الحمل خلاف ظاهر قوله عليه السلام في رواية عبد الله بن
سنان في شأن أطفال المشركين: (كفار يدخلون مداخل آبائهم) حيث صرح
بكونهم كفارا.. 2
وقال المحدث البحراني قدس سره: والجمع بينهما - يعني خبري عبد الله
بن سنان ووهب بن وهب - وبين ما ذكر من أخبار تأجيج النار ممكن بأحد
وجهين: إما بحمل أخبار تأجيج النار على أن الذين يدخلون النار ويطيعون هم
أولاد المؤمنين والذين يمتنعون هم أولاد الكفار والمشركين وحينئذ فيلحق كل
من الفريقين بالآباء في الجنة أو النار بعد الامتحان المذكور وإما بحمل أخبار

1. أقول: يؤيد ذلك ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله من أنه إذا التقى المسلمان بسيفهما على
غير سنة القاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله القاتل فما بال المقتول؟ قال لأنه أراد قتلا.
التهذيب ج 6 ص 174 ح 25.
2. الوافي ج 3 أبواب ما بعد الموت ص 101.
108

تأجيج النار على غير أطفال المؤمنين والكفار بناء على ما ثبت بالأخبار
الصحيحة من تقسيم الناس إلى مؤمن ومسلم وكافر فأهل الوعدين و
هم المؤمنون والكفار لا يقفون في الحساب ولا تنشر لهم الدواوين ولا تنصب
لهم الموازين وإنما يساقون بعد البعث إلى الجنة إن كانوا مؤمنين والنار إن
كانوا كافرين وهذان الفريقان يلحق بهم أولاهم في الجنة والنار كما
صرحت به تلك الأخبار وأما المسلمون وهم أهل المحشر الذين يقفون
في الحساب وتنشر لهم الدواوين وتنصب لهم لموازين فهؤلاء الذين
تأجج لأولاد هم النار. 1
ونحن نقول: إن هذه المطالب متعلقة بالآخرة وعالم الغيب الذي له
أسرار عظيمة وجريانات خافية علينا ولا علم لنا بمعاملة الله خلقه ولا ما يقع
في تلك النشأة قال الله تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا 2 " نسئل الله أن يجعل
عواقب أمورنا خيرا، ونعم ما قاله بعض الفقهاء - بل هو حق الكلام - من أن
البحث في هذه الأمور ليس من شأن الفقيه من حيث إنه فقيه، بل هو مربوط
بالمتكلمين، لأنهم يبحثون - في علم الكلام - في كيفية العقوبة والمثوبة وأشباه
ذلك فعدم تعرضنا لذلك أنسب وايكال هذه المطالب إليهم أولى.
وقد تلخص مما ذكرنا أنه لا يمكن اثبات الحكم الظاهري كالنجاسة
بهذه الأخبار.

1. الحدائق الناظرة ج 5 ص 199 أقول: الأولى ما ذكره السيد الشبر من حمل الأخبار الدالة على
تعذيب الأطفال والحاقهم بآبائهم على التقية لذهاب جماعة من حشوية العامة إلى أنهم يلحقون
بآبائهم كما أن المشهورين بين أصحابنا المتكلمين أنهم لا يدخلون النار. راجع مصابيح الأنوار، ج
1 ص 286.
2. سورة الإسراء الآية 85.
109

الكلام في استصحاب النجاسة
استدل بعضهم لاثبات نجاسة أولاد الكفار والحاقهم بهم بالاستصحاب،
فإن الولد كان في السابق في وقت نجسا فهو في الحال أيضا كذلك.
والجواب أنه ما هو الوقت الذي كان نجسا؟ فهل هو قبل ولوج الروح فيه
أو غير ذلك؟
فإن كان المراد هو الأول بأن نقول: إنه قبل ولوج الروح فيه كان نجسا،
ففيه:
أولا: إنه ليس النجس نجسا في الباطن. 1
وثانيا: إنه بعد صيرورته ولدا وطفلا فقد استحال من كونه نطفة وعلقة و
مضغة وانقلب الموضوع ولم يبق الهاذهية ولا يصدق إن هذا ذلك حتى يجري
الاستصحاب فإنه مشروط بانحفاظ الموضوع وبقائه وصدق الهاذوية في الزمن
اللاحق.

1. لعله يرد عليه أنه وإن كان يتم أن النجس ليس نجسا في الباطن إلا أن ذلك في مورد المسلم وأما
الكافر الذي هو بكامله وبتمام وجوده نجس فلا وذلك لأن مما حوته الأم هو الولد وهو من
اجرائها.
اللهم إلا أن يكون مراده دام ظله إن كون الولد جزءا من أجزاء أمه بحث يكون نجسا كسائر
أعضائها الباطنة مشكل وعلى فرض كونه كذلك فالاستصحاب لا يخلو من اشكال للشك في
بقاء الموضوع بعد الولادة والانفصال، كما وإن بعض الأعلام قد استشكل في الاستصحاب
بهذين الوجهين بل واستشكل فيه الشيخ الأعظم في طهارته فإنه صرح بأن بالعمدة في الحكم
بالنجاسة هو أن تعدي نجاسة الأبوين ذاتا إلى المتولد منهما شئ مركوز في أذهانهم ثم قال: وإلا
فيمكن منع الاستصحاب بمنع جزئية الجنين في بطن أمه للأم عند صيرورته مضغة فلا دليل
على نجاسته في ذلك الوقت ضرورة عدم صحة استصحاب نجاسته حال كونها علقة لأنها من
حيث كونها دما انتهى.
110

أما لو كان المراد غير ذلك كان يقال إن الكافر بنفسه نجس ورطوباته
مطلقا - دما أو غيره - أيضا نجسة وعلى ذلك فهذا الولد عند توله كان متلطخا
برطوبات نجسة فكان نجسا بلا شك في ذلك فحينئذ نشك في أن نجاسته هل
كانت عرضية حتى تطهر وتزول بالغسل أو ذاتية لا ترتفع به فتستصحب
النجاسة.
وهذا هو القسم الثاني من استصحاب الكلي الذي وجد الكلي في ضمن
فرد مردد بين قصير العمر وطويله كالبق والفيل، فإذا شك في بقاء الحيوان يقال
لو كان الحيوان الموجود طويل العمر فالحيوان أي الجامع والكلي باق بعد ولو
كان هو قصيره كالبق، فلا محالة لم يبق إلى الآن فهنا يصح استصحاب الكلي
أعني الحيوان ويترتب عليه آثاره الشرعية، دون آثار خصوص الفيل مثلا، و
كذلك فيما نحن فيه نقول: إنا علمنا بوجود النجاسة لكنها مرددة بين كونها ذاتية
طويل المدة، وثابتة باقية لا ترتفع إلا باظهار الشهادتين بعد البلوغ وبين قصيرها
التي ترتفع بمجرد الغسل وهي النجاسة العرضية، ومن المعلوم أن الشك هو
الشك في الرافع حيث إن النجاسة من الأمور المقتضية للبقاء إلى الأبد لولا الرافع،
فلو كانت في الواقع عرضية فإذا غسلها فقد جاء الرافع وتحقق وأزالها وإن كانت
ذاتية فهي باقية لا تزول ولا ترتفع به فيستصحب أصل النجاسة ويترتب آثارها
فإنها الجامع المشترك بينهما.
وإن شئت فقل إن هذا نظير الرطوبة المترددة بين المني والبول فإنه وإن
لم يجز ترتيب آثار خصوص الجنابة حتى لا يجوز للواجد التوقف في المسجد
باستصحاب الجامع، إلا أن استصحاب الجامع أعني الحدث وترتيب آثاره جائز،
وثمرة ذلك عدم جواز الصلاة، حيث إن الحدث مطلقا مانع عنها سواء كان هو
الحدث الأكبر أو الأصغر، فهذا الشخص قبل التوضئ كان على يقين من الحدث و
111

بعده يشك في زواله وبقاءه فيستصحب أصل الحدث فلا يجوز له الدخول في
الصلاة مثلا لأن هذا الأثر أثر الجامع. هذا.
لا يقال: إن مقتضى أصالة عدم كون النجاسة ذاتية ترتب آثار الطهارة، كما
أن مقتضى الأصل في مثال الطويل والقصير من المعمر هو أصالة عدم كونه طويلا.
لأنا نقول: ليست الطهارة من آثار عدم كون النجاسة ذاتية، بلا اللازم بعد
جريان هذا الأصل أن يقال: فكانت عرضية، ثم يترتب عليها طهارتها بالغسل،
لأن الطهارة من آثار النجاسة العرضية فيؤول الأمر إلى الأصل المثبت وهو باطل
كما حقق في محله. وعلى الجملة فمقتضى استصحاب أصل النجاسة بعنوانها
الجامع وترتيب آثارها هو الحكم بنجاسة ولد الكافر.
ولنا عن هذا الاستصحاب جوابان نقضي وحلي:
أما الأول: فهو أنه لو صح هذا الاستصحاب لوجب الحكم بنجاسة الحديد
أبدا إذا تنجس بالعرض حيث إن نجاسة الحديد الذاتية محتملة لورود بعض
الروايات بذلك. 1
ومن الواضح المعلوم أن من قال بطهارته يقول بها عند عدم تنجسه
بالعرض فعلى هذا لو تنجس بالعارض فهناك يقطع بنجاسته وإذا غسل بالماء و
شك في طهارته ونجاسته يحكم بنجاسته، لأنه لو كانت النجاسة عرضية فقد
زالت ولو كانت ذاتية فهي باقية بعد، ولو جرى الاستصحاب فيما نحن فيه للزم
جريانه في هذا المورد أيضا وأن لا يحكم بطهارته بعد الغسل بل اللازم هو الحكم
بالنجاسة لعدم فرق بين المقامين أصلا مع أنهم لا يقولون بنجاسته.

1. راجع وسائل الشيعة ج 1 ص 203 ب 14 من أبواب نواقض الوضوء ح 4 و 5، و ج 3 ب 32
من أبواب لباس المصلي ح 6، لكن في الحدائق ج 5 ص 233: لم أقف على قائل بنجاسته، و
في الجواهر ج 6 ص 84 دعوى الاجماع محصلا ومنقولا على الطهارة.
112

وأما الثاني: فنقول: إن الاستصحاب كما ذكره علم التحقيق والتقى الشيخ
المرتضى والمحققون، على قسمين: الاستصحاب الموضوعي والاستصحاب
الحكمي لأنه تارة يجري في الموضوعات، وأخرى في الأحكام، وثمرة
استصحاب الموضوع جعل حكم الموضوع وترتيبه عليه في الآن اللاحق، مثلا
لو شك في أن الخمر الكذائي صار خلا أم لا فيجري استصحاب الخمرية، وفائدته
جعل الحرمة - التي كانت متعلقة بالخمر المعلوم - لهذا المشكوك وأما استصحاب
الحكم فإنه جعل حكم كالحكم السابق إلا أن الحكم السابق كان حكما واقعيا و
هذا الحكم الفعلي حكم ظاهري، فلو شك في وجوب صلاة الجمعة في زمن
الغيبة بعد أن كانت واجبة في زمن الإمام عليه السلام فيستصحب وجوبها ومعنى
استصحابه جعل (صل) فعلا نظير " صل " في زمن الحضور مع تفاوت أن الأول
واقعي والأخير ظاهري.
ثم إن بين الموضوعات والأحكام فرقا وهو أنه يمكن في الموضوعات
جعل الحكم للفرد ويمكن جعله للجامع فإذا قيل: إن جاءك زيد فاعطه درهما،
فقد حكم بالاعطاء بشخص زيد وخصوصية الزيدية ملحوظة عند المتكلم أما إذا
قيل: إن جاءك انسان أو فقير مثلا فاعطه درهما، فهنا قد تعلق بالجامع ولو حظ
القدر المشترك والكلي بين زيد وغيره.
وأما الأحكام فلا يمكن فيها جعل القدر الجامع بل لا بد من جعل شخص
الحكم ولا يزال المجعول في الأحكام يكون شخصيا وليس جامع الحكم مجعولا
أبدا فإن الجامع أمر انتزاعي لا يكون بحذائه في الخارج شئ بل ما كان بحياله
هو الافراد فقط.
إذا تحقق هذا فلا يصح أن يقال: النجاسة الجامعة كانت موجودة سابقا و
الآن شك في بقاءها فهي في الحال أيضا موجودة لأنها بلحاظ كونها جامعة بين
113

الذاتية والعرضية ليست مجعولة حتى تستصحب وإنما المجعول هو شخص
النجاسة الذاتية وشخص النجاسة العرضية فلا يمكن اسراء الاستصحاب -
الجاري في البق والفيل أو في البول والمني - فيما حيث إنهما من قبيل
الموضوعات وما نحن فيه من استصحاب الأحكام.
ويمكن أن يقال: سلمنا عدم امكان استصحاب الجامع فيما نحن فيه لكنا
تمسك باستصحاب أحكام الجامع وآثاره نظير عدم جواز الدخول في الصلاة
المترتب على الجامع بين الحدثين - الأكبر والأصغر - في الرطوبة المرددة بين
البول والمني.
والجواب عنه أنه: بعد عدم امكان استصحاب الجامع هنا يتردد أمر الولد
بين كونه نجسا أو طاهرا وهذا بعينه مصب أصالة الطهارة ومجراها ولا مجال
لجريان استصحاب حكم الجامع وأثره مع كونه بنفسه غير قابل للجعل ولا تصل
النوبة إلى ترتب آثار النجاسة بعد شمول (كل شئ لك طاهر حتى تعلم أنه قذر)
له، هذا، وقد تحصل مما ذكرنا أن التمسك بالاستصحاب أيضا لا ينفع المستدل،
لعدم جريانه.
الكلام في السيرة
وقد يستدل لاثبات نجاسة أولاد الكفار بالسيرة القطعية المستمرة من
زمن المعصوم إلى زماننا في معاملتهم معاملة آبائهم والاحتراز عنهم والحاقهم
بآبائهم، وعدم الافتراق بينهم.
ونحن نقول: لو ثبت ذلك وتحقق اتصال السيرة بزمن المعصوم وعصر
الأئمة عليهم السلام فنعم المراد ويثبت بها المطلوب. ولو لم يكن في الأدلة
114

الماضية ما تطمئن إليه النفس فهذه بنفسها كافية إلا أن اثبات ذلك مشكل، فلم
يثبت بحسب الظاهرة سيرة متصلة إلى عصر الأئمة لعدم ابتلائهم بهذا في ذلك
الزمان.
فتحصل من جميع هذه الأبحاث أنه لم يبق في المقام شئ يستند إليه
في الحكم بالالحاق إلا أن يكون الحكم اجماعيا كما قد يدعى ذلك، وعلى هذا
فيحكم بتبعيتهم لهم في النجاسة بالاجماع، ويتم الأمر، أما لو لم يكن اجماع أو
شك في قيامه وتحققه أو في تحقق السيرة ولم يمكن اثبات الحكم من هذين
الطريقين فالحكم لا محالة هو الطهارة بعد الشك في ذلك، لترتب النجاسة
على الكفر وهو لم يتحقق بعد والمرجع عند الشك هو الطهارة.
لكن لا يخفى عليك أنه على هذا لا يجري غيرها من الأحكام الاسلامية
على هذا الطفل قبل أن يبلغ الحلم لكونها مترتبة على البالغ بخلاف الحكم
بالطهارة فإنه مقتضى كل شئ لك طاهر حتى تعلم أنه قذر. 1
ولكن الانصاف أنه يمكن القول بالنجاسة لذهاب العلماء والأصحاب إلى
ذلك واستقرارا عملهم عليه على ما نعرف من حالهم وعدم وقوع مورد كان
عملهم على خلاف ذلك وإلا فلو كان لبان وبعبارة أخرى إن الحكم بالحاقهم
بآبائهم ومعاملتهم معاملة النجس مشهور من كبار العلماء الأتقياء، حفاظ
الشريعة، وحملة الكتاب، الذين نعرفهم بكثرة الاهتمام بأمر الدين ولم ينقل في
طول التاريخ حتى من عظيم من عظماء الدين وواحد من علماءنا الأجلة
الماضين ولا من غيرهم من الطائفة المحقة أنه أنكر ذلك وخرج عن هذه السيرة
وإلا لذكر ونقل إلينا لكونه مما يقضى العادة بنقله، والترديد في الابتلاء في غير
محله.

1. تقدم مصدر ذلك آنفا فراجع.
115

إن قلت: من المحتمل إن هذه السيرة حدثت في الأعصار المتأخرة عن
زمن الأئمة عليه السلام ولم تكن متصلة إلى زمن المعصوم عليه السلام.
نقول: إن الأصل عدم التبديل وإلا لنقل لنا خلاف عن واحد من العلماء. 1
ثم لا يخفى أن البحث في نجاسة أطفال الكفار وطهارتهم يختص بما إذا
كان أبواه كافرين، وأما إذا كان أحدهما مسلما فلا اشكال أصلا في كونه ملحقا به
لأنه الأشرف من بين الأبوين.
مسألة في أولادهم من السفاح
بعد التسالم على تبعية ولد الكافر له في النجاسة فهل أن ولده المتولد
سفاحا أيضا كذلك لو يحكم عليه بالطهارة ويقتصر في الحكم بالنجاسة على
ولده نكاحا؟
قال صاحب الجواهر رضوان الله عليه بعد تحقيقه في أصل المطلب: نعم
قد يمنع الاجماع المزبور في المولد منهما بغير النكاح الصحيح في حقه اقتصارا
على المتيقن منه في قطع الأصول والعمومات، وإن كان لا يخلو عن اشكال، كما
يمنع فيما لو كان أحد أبويه مسلما لتبعيته للأشرف حينئذ بل في شرح الأستاذ أنه
الظاهر منهم للأصل وغيره من الاجماع والأخبار انتهى.
وعلى هذا البيان فالمتيقن - من أولاد الكفار المحكوم عليهم بنجاستهم
التبعية - المتولدون منهم بالنكاح والذين يصدق عليه معرفا أنهم أولاد لهم

1. ففي الجواهر كتاب الجهاد ص 134: الطفل ذكر أو أنثى تابع لأبويه في الاسلام والكفر وما
يتبعهما من الأحكام كالطهارة والنجاسة وغيرهما بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه
عليه مضافا إلى امكان القطع به من السنة.
116

فالمتولد منهم زنى وسفاحا ليس بنجس لعدم دليل على ذلك.
لكن الانصاف أن هذا لا يخلو من نظر واشكال - كما استشكل صاحب
الجواهر نفسه أيضا على ما رأيت في عبارته -
لأنه لو كان الدليل على طهارة ولد الكافر سفاحا الاجماع القائم على
نجاسة الولد الصحيح دون غيره.
ففيه أنه ليس معقد الاجماع هو الولد الصحيح العرفي كي يحكم بالطهارة
على ولده المتكون من غير نكاح، بل الاجماع قائم على نجاسة ولد الكافر، كما
أنه ليس للاجماع قدر متيقن ليختص بالمتولد من النكاح بعد أن كان مراد
المجمعين هو الأعم بحسب الظاهر.
أما لو كان الدليل على طهارته الأخبار الواردة في عدم إرث ولد الزنا و
اختصاصه بمن تولد من النكاح حيث يستظهر منها أنه كما لا يرث من أبيه الكافر
الزاني كذلك لا يلحق به في النجاسة أيضا.
ففيه أن من الممكن التفصيل في الأحكام بين ما كان فيه اكرام للولد
كالإرث وأمثاله وما لم يكن كذلك كالحكم بالنجاسة التي هي نوع مهانة و
استقذار للوالد ويسري إلى الولد لكونه منه، فيقال في الأول باختصاصه بما إذا
كان الولد شرعيا فلا يرث منه ولد من الزنا شيئا وفي الثاني - أعني ما إذا كان
الحكم لأجل المهانة - يسري من الآباء إلى الأبناء مطلقا أعم من الولد الصحيح
الشرعي وغيره. فسريان النجاسة والخباثة من الآباء إلى الأبناء غير مختص بالولد
الحقيقي، بل كما أنها تسري إلى الولد الصحيح كذلك تسري إلى غيره لأنها
مستندة إلى التبعية وإلا فلا يصدق عليه الكافر، كما أمضيناه في الأبحاث السابقة
ولا فرق في التبعية بين القسمين من الولد.
117

كلمة حول التبعية
ثم لا يخفى أن التبعية على قسمين وكل منهما أغلبية بحسب واقعيتها:
أحدهما: التبعية في الولادة وهذه من الأمور الارتكازية يدل عليها قوله
تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ". 1
وقد أفصح عنها الشاعر بالفارسية بقوله:
زمين شوره سنبل بر نيارد * در آن تخم وعلم ضايع مگردان
ومعروف بين الناس كالمثل السائر بالعربية. وكل إناء بالذي فيه ينضح. و
بالفارسية: از كوزه همان برون تراود كه در اوست
فالكافر رجس وخبيث لكفره ولا يخرج ولا يتولد من الخبيث غالبا إلا
الخبيث فهذا هو مقتضى خباثة المنشأ، ودنائة المولد، ولؤم الأصل، وسوء
المنبت، كما أن الأصل الطيب والمنشأ الطاهر لا ينتج إلا ثمرات طيبة وأولادا
أمجادا صلحاء، فإن الطهارة والكرامة موروثتان من معدن أصيل في الأسرة ومن
البيوت العريقة في الدين.
ثانيهما: التبعية في التربية التي أشار إليها النبي الأقدس صلى الله عليه وآله
وسلم في الحديث الشريف الذي أمضيناه: (إنما أبواه يهودانه وينصرانه و
يمجسانه) فالفطرة الاسلامية ثابتة مودعة في كل مولود مدخرة في زوايا قلبه و
أعماق نفسه حتى من ولد في بيئة الكفر وتكون من والدين كافرين ونشأ في
أجواء الضلال ومواطن الشرك والالحاد فقد أودع الله في قلبه حب المبدأ والرغبة
إلى الحق والتوحيد والدين الحنيف والصراط المستقيم لكن التربية المغلوطة

1. سورة الأعراف الآية 58.
118

تهوده وتنصره فإن البيئة مؤثرة جدا وشؤون البيت وساكنيه نافذة قطعا و
اعتقادات المربي تسري إلى المربى " بالفتح " بلا ارتياب وعلى الجملة فنجاسة
الأولاد تبعية لا تعبدية محضة ومن المعلوم جريان كل قسم منهما في ولد الكافر
سفاحا أيضا مع ضميمة أخرى وهي كونه من السفاح فيزداد به خبثا، وقد تحصل
أن اخراج ولد الزنا من حكم الأولاد غير صحيح وأنه لا فرق في نجاستهم بين ما
إذا ولدوا من نكاح صحيح أو من سفاح.
مسألة بالنسبة إلى ولد الكافر، المجنون
بعد ثبوت نجاسة ولد الكافر فلو بلغ وجن فهل هو يطهر أو يبقى على
نجاسته؟ في المسألة أربعة صور:
الأولى: أن يبلغ مجنونا سواء كان الجنون قبل البلوغ أو مقارنا له.
الثانية: أن يبلغ أولا ثم يكفر ثم يجن.
الثالثة: أن يبلغ أولا ثم يسلم ثم يجن.
الرابعة: أن يبلغ عاقلا ثم يجن في الفترة وفسحة النظر، وهذا هو الفرض
الذي قد تعرض له صاحب الجواهر رضوان الله عليه.
أما الفرض الأول: وهو ما إذا بلغ مجنونا فالحكم هنا النجاسة 1 والدليل
على ذلك الاستصحاب لأن الكفر والتبعية منتفيان، أما الكفر فلأنه فرع العقل فلا
يتحقق في حال الجنون وهذا بحسب الفرض مجنون وكان بلوغه عن الجنون
فلا يتم الحكم بالنجاسة مستندا إلى الكفر، وأما التبعية فلاختصاصها بالطفل فإنه

1. كما أن الشيخ المرتضى نور الله مرقده بعد أن حكم بنجاسة أولاد الكفار وأن العمدة في ذلك أنه
شئ مركوز في أذهان أهل الشرع، قال: والظاهر أن من بلغ مجنونا حاله حال الطفل انتهى.
119

تابع ولذا يحكم بنجاسة بالذات للتبعية ومفروض البحث هو البالغ الكبير فلا
يكون تابعا والنتيجة أنه لا يمكن اثبات نجاسته إلا بالاستصحاب لثبوت
الموضوع وصدق بقاءه وعدم تغيره عرفا فيقال هذا كان نجسا قبل البلوغ أو
بالأمس واليوم قد بلغ ونشك في بقاء نجاسته فهو نجس بعد بمقتضى
الاستصحاب.
اللهم إلا أن تقيد نجاسة الطفل في موضوع الدليل بما أنه طفل وصغير
فعلى هذا تنتفي النجاسة بعد البلوغ بلسان نفس الدليل فإنه ليس بصغير فعلا كما
في كل مورد أخذ عنوان في دليل ثم انتفى ذلك العنوان فإنه لا يجري
الاستصحاب حينئذ بل ينفي الحكم بنفس الدليل، مثلا لو قيل يجوز الاقتداء
بالعادل وفرضنا أن زيدا مثلا كان عادلا ثم علمنا أنه أصبح فاسقا فنفس دليل
جواز الاقتداء بالعادل يكفي في عدم جواز الاقتداء به وهو ناطق بذلك، كما أنه
لو أصبح عادلا ثانيا لدل نفس الدليل الأول على جواز الاقتداء به بلا حاجة إلى
الاستصحاب أصلا.
والحاصل: أنه لو كان ما نحن فيه كذلك بأن كان الدليل ناطقا بأن أولاد
الكفار في حال الصغر تابعون لهم فبعد الكبر لا مورد لاستصحاب تبعيتهم أصلا
فإن الدليل يطرد الحكم ويرفعه عن هذا المورد وحينئذ يحكم بطهارته لخروجه
عن محور الموضوع.
نعم قد يؤخذ العنوان في نفس الدليل لكنه لأجل اثبات الحكم فعلا وأن
الحكم ثابت ما دام العنوان ثابتا ولكنه ساكت بالنسبة إلى ما بعده ولا تعرض له
أصلا لا نفيا ولا اثباتا مثل قيام الاجماع على نجاسة ولد الكافر فيما قبل بلوغه و
حال صغره (لا قيدا بل ظرفا) بلا تعرض أصلا لما بعد البلوغ فإذا بلغ وجن وشك
في طهارته ونجاسته جرى استصحاب النجاسة إن كانت له حالة سابقة كما إذا
120

جن حين البلوغ فإنه كان نجسا سابقا وموضوع الدليل وهو الصغر قد انتفى و
ارتفع - لأنه كبير فعلا - ولكن الموضوع باق وثابت عرفا ألا ترى أن الحكم
بنجاسته الآن ابقاء لنجاسة هذا عرفا، فلا يقال إنه شخص آخر حكم عليه
بالنجاسة، وعلى الجملة فيجري استصحاب النجاسة.
وهنا اشكال وهو: أنه بعد الشك في طهارته ونجاسته يجري أصل
الطهارة لا استصحاب النجاسة.
والجواب عنه: أن الاستصحاب مقدم على أصل الطهارة حيث إنه ناظر
إلى الواقع بخلاف أصالة الطهارة التي هي مجرد وظيفة للشاك والمتحير ولو
فرض عدم حالة سابقة وشك في الطهارة والنجاسة مع عدم تعرض الدليل لما بعد
البلوغ فهناك تجري أصالة الطهارة.
وأما الفرض الثاني: وهو ما إذا بلغ ثم كفر ثم جن فهنا يحكم بنجاسته
قطعا وإن لم يشمله دليل الكفر لعدم اجتماعه مع الجنون على ما أمضيناه آنفا كما
أن دليل التبعية أيضا لا يشمله لانقطاع التبعية بالبلوغ، والمفروض أن هذا بالغ
فيشك في طهارته ونجاسته ويحكم عليه بالنجاسة بمقتضى الاستصحاب، لأن
جنونه حسب الفرض كان مسبوقا بالكفر، فقد كفر بعد بلوغه، ثم جن، فيكون
نجسا.
نعم لو كانت النجاسة مترتبة على الكفر أو الشرك بحيث لو لم تتحقق
الصفة لحكم عليه بالطهارة وإن لم يكن مسلما، وبعبارة أخرى: لو كانت
النجاسة والطهارة دائرتين مدار صدق الكفر وعدمه بلا أي دخل لغير صفة الكفر
وجودا وعدما بحيث يكون الكفر وحده علة تامة للنجاسة كما استفاده بعض من
الآية الكريمة: (إنما المشركون نجس) قائلا: إن النجس من بين أفراد الانسان
هو المشترك فقط أو هو ومن كان بحكمه كالساب، حسب ما تعرضنا في مفتتح
121

الأبحاث وأوائل الكتاب فهناك يحكم على المجنون في فرض بحثنا بالطهارة
فإنه انسان غير الكافر والحكم بالنجاسة مختص بالكافر.
أما لو لم يكن الأمر كذلك ولم تكن الآية متعرضة لغير المشرك أو الكافر و
لم تكن بصدد الحكم بطهارة من عداه بل كانت متعرضة له وحده ساكتة عما عداه
وغير متعرضة بالنسبة إلى ما وراء ذلك فلا دليل على نجاسة المورد المفروض ولا
على طهارته فيشك، ولا محالة يجري الاستصحاب فيحكم ببقاء الحالة السابقة
على الجنون.
وأما الفرض الثالث: وهو أن يبلغ ثم يسلم ثم يجن فلا اشكال هنا في
طهارته وإن فرضنا عدم صدق المسلم عليه وعدم وتحقق الاسلام في هذه الحالة
وبعبارة أخرى أنه محكوم بالطهارة وإن قلنا بطهارة المسلم بما هو مسلم وبما
هو متصف بصفة الاسلام، والمجنون حال جنونه ليس بمسلم ولا متصفا
بالاسلام وعلى الجملة فنقول بطهارته حيث لم يدل على نجاسته دليل ولا شك
في كونه طاهرا ذاتا قبل جنونه فيستصحب طهارته.
وأما الفرض الرابع: وهو ما إذا جن في فسحة النظر، وبعبارة أخرى كان
من ابتداء بلوغه وتكليفه بصدد التحقيق في الأديان والتنقيب في الشرايع
لتشخيص ما هو الحق منها فشرع في التفكر والدقة والنظر فصار مجنونا فلا
تشمله أدلة التبعية لكونه بالغا ولا الكفر حيث إنه مجنون ولكن يحكم عليه بعين
الحكم الذي كان يترتب عليه في حال صحة عقله من النجاسة والطهارة و
الظاهر أنه كان طاهرا وبحكم المسلم في تلك الحال لعدم تبعيته لهم أو اعتناقه
لعقيدتهم، هذا كاف في الحكم بالطهارة بناءا على أن المستفاد من الآية الشريفة
هو حصر النجس من أفراد الانسان في من ثبت كفره، وعلى الجملة فهنا
يستصحب حكم حال صحوه ولا تصل النوبة إلى التمسك بأصالة الطهارة كما
122

زعمه صاحب الجواهر رضوان الله عليه. 1
بحث في المسبي:
بعد الحكم بنجاسة ولد الكافر فلو سباه مسلم واسترقه فهل يكون كذلك
أيضا أو يحكم بطهارته حيث إنه في يد المسلم تابع له؟
للمسألة صور لأن المسبي لا يخلو إما أن يكون كبيرا أو صغيرا وعلى كلا
التقديرين فإما أن يسبى مع أبويه أو مع أحدهما وإما أن يسبى منفردا فهو وحده
مسبي.
فنقول: لا نزاع في الصورة الأولى وهي ما إذا سبي كبيرا مع والديه أو مع
أحدهما فإنه باق على نجاسته.
وكذلك في الصورة الثانية وهي ما إذا سبي كبيرا منفردا فإن النجاسة لا
ترتفع إلا بالاسلام ولا يكفي مجرد السبي.
الثالث ما إذا سبي صغيرا مع والديه أو مع أحدهما والحكم هنا أيضا
النجاسة للتبعية.
: وأما الصورة الرابعة وهو ما إذا سبي منفردا صغيرا فهذا هو محل النزاع و
الكلام في أنه طاهر أو نجس؟
ويمكن أن يستدل على طهارته بأمرين:
أحدهما: إن سبب الحكم بنجاسته قبل سبيه هو تبعيته لأبويه الكافرين و
قد زال وارتفع هذا السبب بسبي المسلم له وحده وتبعيته له وكما أن مقتضى ما

1. راجع الجزء 6 منه ص 46 أقول: لكن المبنى الذي ذكره دام ظله العالي هنا قد رده سابقا وعليه
فلا بد من أن يؤخذ بما ذكره في الجواهر.
123

ذكر تفسيرا لقول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: إنما أبواه يهودانه و
ينصرانه ويمجسانه أنه يتربى على عادات اليهودية والنصرانية مثلا وينحرف
في البيئة المنحطة الملوثة الظالم أهلها فيعتنق العقائد الباطلة كذلك إذا دخل
تحت ولاية المسلم فيرث العقائد الحقة وتنفذ الحقائق الإلهية في أعماق روحه
وزوايا نفسه وإن كان بحسب الذات مشمولا لقوله تعالى: " والذي خبث لا
يخرج إلا نكدا. " 1 إلا أنه ببركة ولاية المسلم عليه وكونه في ظلال الاسلام فهو
في معرض الخروج عن هذه القاعدة وصيرورته من الطيبين ومن عباد الله
الصالحين.
وإن شئت فقل إن كفر ولد الكافر إما للتبعية التوالدية والتناسلية أو
التربوية وفيما نحن فيه تكون تبعية الولادة ثابتة محققة غير قابلة للتغيير
والتبديل ولكنه خرج بتبعية المسلم عن التبعية التربوية فلا تصدق الأخيرة نظير
المتولد من الكافر حديثا وحينئذ لا يصدق عليه أنه تابع لأبويه الكافرين
في التربية وعلى الجملة فالصغير المسبي ليس بكافر وتابعا له لما ذكرناه من
الاعتبار فيكون طاهرا لخروجه عن التبعية التربوية:
وهنا بيان آخر وهو أن نقول إن الولادة موجية للنجاسة إلى أوان التمييز و
من أوان التميز يحكم عليه بالنجاسة لأجل التبعية فإذا سبي مميزا وكان السابي
مسلما فلا يكون نجسا لأن العلة إذا انتفت انتفى المعلول.
وفيه أن هذه الأمور ليست إلا مقربات للمطلب، واستحسانات لتوجيه
المقصد، ولا تنهض دليلا لاثبات طهارة ولد الكافر بعد ثبوت نجاسته بالدليل
القوي.
ثانيهما: قول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله: الاسلام يعلو ولا

1. قد تقدم قريبا موضعه فراجع إن شئت.
124

يعلى عليه. 1
تقريب الاستدلال به أن مقتضى اعتلاء الاسلام ومجده، وكيانه وسلطانه
صيرورة هذا المسبي تابعا للمسلم ومحكوما عليه بحكم الاسلام، وهو الطهارة
فإن الحكم بنجاسته وتبعيته للكافر مع كونه تحت ولاية المسلم لا يناسب
علو الاسلام وغالبيته.
وفيه أن قوله الشريف غير مرتبط بالمقام بل هو متعلق بما إذا تولد صبي
من أبوين أحدهما مسلم والآخر كافر، وتردد الأمر في دفعه إلى المسلم أو الكافر
منهما فهناك يدفع هذا الولد إلى المسلم منهما دون الكافر ويتبع الطفل الأشرف
منهما ويلحق به ويحكم بطهارته، وهذا هو مقتضى مجد الاسلام وعلوه، و
كيانه، وشرفه، وغلبته، على الكفر.
وحينئذ فلم يبق في المقام شئ يثبت طهارته ويقتضيها.
اللهم إلا أن يكون المسألة اجماعيا وقام الاجماع على الحكم تعبدا 2 و
على ذلك فنفس تبعية المسلم مطهرة له كالاقرار بالشهادتين حين البلوغ، و
عندئذ لا يمكن التخلف عنه، وأما لو لم يكن اجماع على طهارته فاستصحاب
نجاسته السابقة جار بلا أي ترديد أو ابهام.

1. من لا يحضره الفقيه الطبعة الحديثة ج 4 ص 334. وسائل الشيعة ج 17 الباب 1 من الإرث ح
11 ص 376 أقول: أورد بعض الأكابر على الاستدلال بهذا الخبر - في المكاسب - بأنه يحتمل
معان أحدها بيان كون الاسلام أشرف المذاهب ثانيها بيان أنه أقوى حجة ثالثها أنه يغلب على ما
عداه من الأديان رابعها أنه لا ينسخ خامسها ما أراده الفقهاء من بيان الحكم الشرعي الجعلي بعدم
علو غيره عليه وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال انتهى.
وقد أورد بعض الأجلة اشكالا آخر على الاستدلال لا به فراجع بلغة الطالب للشيخ محمد كاظم
الشيرازي ج 1 ص 218.
2. كما ادعاه بعض الأعلام في قواعده قائلا: فالظاهر هو اتفاق الأصحاب وتسالمهم على الحاقه
بالسابي والطهارة الخ.
125

فرعان يكثر الابتلاء بهما
الأول: إنه قد يتفق أن أطفال اليهود أو النصارى أو غيرهما من الكفار
يدرسون في مدارس المسلمين ويتوجهون في خلال ذلك إلى الدين ويعتقدون
بما اعتقده المسلمون ويعتنقون الاسلام، بما يتلقونه من معلميهم المتدينين أو
من منظم المدرسة أو مديرها أو من أطفال المسلمين وشركاء درسهم الذين
يجتمعون معهم في ساحة المدرسة وحلقات الدرس، ولما يسمعون من
المعارف العالية الإلهية والحقائق الخالدة الاسلامية ويشعرون بأن الاسلام ضامن
لسعادة الانسان ومتكفل لحل مشكلاتهم فيتنور قلوبهم بمعالم الدين ويؤمنون
بالله والرسول فحينئذ هل يخرجون بذلك عن تبعية آبائهم الكافرين أم لا؟
الثاني: عكس هذا فقد يتفق أنه يدرس أطفال المسلمين في مدارس
الكفار والمعاهد الثقافية أو التعليمية التي أسسها الأوروبيون، ويعلمهم معلم ضال
مضل، ينشر بين جدران تلك المدارس أفكاره ويبث سمومه ضد القرآن،
فيشكك في مناهج الاسلام وعقائد المسلمين، ويكثر من الايحائات الباطلة
اغواءا لهم، فيؤثر ذلك في هؤلاء التلاميذ الصغار 1 إلى أن ترى أن بعضا منهم قد
انحرف وترك الاسلام ورغب عنه مقبلا بقلبه إلى تلك المعتقدات الواهية
والأوهام الباطلة الكافرة التي أشرب في قلبه بها وعلى الجملة فإن هذا المعلم

1. أقول قد شاع هذا البلاء في عصرنا هذا بل المدارس من أقوى أجهزة الاستعمار الكافر الهدامة
التي تبث روح الاستهتار والانحراف والسفور في نفوس النشء الجديد من الطلاب والطالبات.
والحق هو ما قاله الكاتب السوري الغيور: محمد سعيد العرفي: وفي الحقيقة إن المدارس
الأجنبية قضت على كل آمال المسلمين لأنها موضوعة لنشر التربية الأوروبية النصرانية التي
يقصد منها اضمحلال الاسلام انتهى.
126

المضل وعميل الأجانب قد أضله وأغواه، فهل يحكم بنجاسته حينئذ أو هو بعد
طاهر تبعا لأبويه المسلمين؟.
أقول: أما الفرض الأول: فالظاهر شمول الأدلة الشارحة لحقيقة الاسلام له،
فإن مفادها إن كل انسان أعلن الشهادتين: الشهادة لله تعالى بالتوحيد وللنبي
محمد صلى الله عليه وآله بالرسالة - واعتقد بالله، وبالنبوات، والمعاد، و
غيرها من المعتقدات الاسلامية، فهو مسلم، وليس البلوغ شرطا في الاسلام، و
ربما يكون غير البالغ أكثر تميزا وأشد اعتقادا وأقوى ايمانا من كثير من البالغين و
قد يكون الصبي رشيدا كامل العقل متمكنا من الاستدلال على مبادئه ومعتقداته
بنحو لا يتمكن منه إلا الخواص.
ويدل على عدم اشتراط الاسلام بالبلوغ اسلام الإمام علي عليه السلام فإنه
كان أقدم الصحابة اسلاما، وأسبقهم ايمانا، وكان له من العمر حين نزول الوحي
على النبي صلى الله عليه وآله أحد عشر سنة أو اثنا عشر أو ثلاثة عشر سنة فأسلم ولم يبلغ
الحلم على ما قيل - وإن كان ذلك لا يخلو عن المناقشة -
وبالجملة فهذا الصبي قد أقر بالشهادتين، واعتنق الاسلام، واتخذه دينا
له ونبراسا لحياته، فلماذا لم يحكم عليه بحكم الاسلام بعد عدم اشتراط البلوغ، و
أي نقص يتصور في اسلامه؟
وأما الفرض الثاني: أعني ولد المسلم الذي انحرف وتأثر بعقائد أهل
الضلال، ونفذت فيه الأفكار العليلة، التي ركزها فيه تزريق السفسطيين أو
الملحدين، حتى أنكر وجود الصانع تعالى، أو وحدانيته، أو رسالة محمد رسول
الاسلام صلى الله عليه وآله، أو المعاد، وأشباه ذلك، من ضروريات الاسلام، عن
عقل وادراك، وشعور وتميز، فهذا يصدق عليه أنه كافر، ويحكم عليه بالنجاسة.
127

وما ورد من أن أولاد المسلمين مسلمون، وأن أولاد الكفار كفار 1 فهو
مختص بما إذا لم يكونوا مستقلين في العقيدة والاعتقاد، أما الطفل المستقل في
ذلك فهو لا يتبع والديه لا في الاسلام ولا في الكفر وكذا ما ورد من الروايات في
أولاد المشركين من أنهم يدخلون مداخل آبائهم 2 فهو أيضا لا يشمل المستقل
في الاعتماد المنقطع عن أبويه وعن أهل نحلته هذا.
مضافا إلى ما ذكرناه سابقا من كون هذا الأمر أخرويا ولا مساس له بالدنيا.
وربما يقال: إن مقتضى رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم 3 عدم اعتبار
اسلام الصبي أو كفره إلى أن يبلغ الحلم، وعلى هذا فلا يحكم باسلام الطفل في
الفرض الأول ولا يحكم عليه بالكفر في الفرض الثاني.
والجواب: أن الظاهر من رفع القلم عنه هو رفع قلم المؤاخذة لا عدم
ترتب حكم عليه أصلا ولذا لو أجنب الصبي وجب عليه الغسل بعد البلوغ فدليل
رفع القلم لا يرفع هذا وأمثاله من الأحكام وإن أمكن للشارع رفعها إلا أن لسان
الدليل لا يقتضي ذلك والحاصل أن مقتضاه رفع المؤاخذة فقط وعدم جريانه
في الأحكام الوضعية.
نعم مقتضى اطلاق رواية حفص المذكورة سابقا الواردة في رجل أسلم
في دار الحرب، وقول الإمام عليه السلام: اسلامه اسلام لنفسه ولولده الصغار هو
التبعية مطلقا سواء كان الطفل سالكا سبيل أبويه أو سبيلا يخالفه ويضاده أو لم
يتخذ سبيلا أصلا وعلى هذا فمجرد اسلام المرء يكفي في اسلام الولد، وكفره

1. راجع البحار ج 5 ص 292 ح 9 و ص 294 ح 21.
2. من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 491 وهو صحيح عبد الله بن سنان.
3.... عن ابن ظبيان قال: أتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها فقال علي عليه السلام: أما
علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى
يستيقظ وسائل الشيعة ج 1 الباب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 11.
128

أيضا كاف في كفره.
ولا يخفى أن هذا يتم لو كان الصغر عنوانا اصطلاحا لما قبل البلوغ و
معرفا له فإنه على هذا تدل الرواية على أن ولد المسلم الذي لم يبلغ الحلم يكون
مسلما، أي يترتب عليه آثار الاسلام وأحكامه، وولد الكافر كذلك يكون كافرا،
أي يترتب عليه أحكام الكفر، أما لو لم يكن الأمر كذلك بل كان للفظ الصغير
معنى عرفي ولغوي، وهو الطفل غير المستقل والولد التابع (لا عنوانا لعدم البلوغ
أو عبارة أخرى عن تعبير بعض الروايات أعني الذي لم يبلغ الحلم) فعلى
هذا يكون الصغير منصرفا عن الطفل الذي استقل في الرأي والعقيدة، والظاهر
هو الوجه الثاني لا الأول ولذا أفتى كثير من العلماء بمشروعية عبادات الصبي و
صحتها.
نعم ربما يخطر ببالي ويبدو في نظري في هذا المقام وجه لم أجد من
تمسك به وهو أن العلماء رضوان الله عليهم أجمعين يتمسكون لاثبات عدم أثر
على بيع الصبي بما ورد من أن عمد الصبي خطأ 1 والأخذ بظاهر هذا الدليل
في المقام يقتضي عدم الاعتناء باسلام الصبي أو كفره، وعدم ترتيب آثارهما
أصلا فإن اسلامه أو كفره الذي نشأ عن عمد فهو كالخطأ ويكون هذا الصبي كمن
أسلم بلا اختيار، أو كفر بلا إرادة وكما أنهم قالوا لا يعبأ ببيعه وسائر عقوده وأفتوا
بأن الصبي لو وكل في إنشاء العقد لا يكون عقده منشأ للآثار، بل عمده في اجراء
العقد كالخطأ، وكأنه فعله بلا اختيار، وهكذا يقولون في سائر الأمور والموارد،
فليكن ما نحن فيه أيضا كذلك.

1. وسائل الشيعة الجزء 19 الباب 11 من أبواب العاقلة ح 2 عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: عمد الصبي وخطأه واحد. والباب 36 من أبواب القصاص في النفس ح 2 عن
علي عليه السلام أنه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق والصبي الذي لم يبلغ: عمدهما
خطأ تحمله العاقلة...
129

إلا أنه يرد عليه أن الظاهر من (عمد الصبي خطأ) كونه في مقام الامتنان و
مقتضاه رفع خصوص ما كان في رفعه امتنان دون ما لا يكون كذلك، فكل ما
كان في رفعه منة فهو مرفوع فأخذ الصبي بقوله وبيعه، والزامه على ذلك، خلاف
الامتنان، ويأتي في تلك الموارد عمد الصبي خطأ، ويحكم مثلا بعدم صحة
عقده، ويقال إن قول الصبي: (بعت) كقول الساهي، فإن هذا هو مقتضى الارفاق
والامتنان من الله تعالى عليه، حيث إن نوع أفعاله وتصرفاته على خلاف
المصلحة، وهكذا لا تترتب عليه أحكام الحدود، والقصاص، فلا تكليف ولا
الزام عليه، لأن لسان رفع القلم رفع المؤاخذة امتنانا.
وهذا هو السبب في انصرافه عما إذا أقر بالشهادتين، فإنه يترتب عليه
الأحكام ويؤثر اقراره واعترافه، ويخرج به عن تبعية الأبوين الكافرين ويكون
طاهرا.
نعم قصارى ما يكن أن يقال هنا أنه يشمل ما إذا أقر بالكفر، أو قال بكلمة
الردة، فيقال إن عمده في ذلك كالخطأ فيه، فلا يعبأ بقوله هذا، وهو بعد باق على
تبعيته للوالد المسلم على ما هو مقتضى الامتنان.
وأما عدم قبول الاقرار بالشهادتين من الصبي فلا يقتضيه الامتنان بل هو
خلافه.
لوضوح البحث نمثل مثالا فنقول: لو شتمنا صبي فمقتضى الامتنان وإن
عمد الصبي خطأ هو عدم الاعتناء بشتمه، وأن لا نرتب عليه أثرا، وأما لو سلم
علينا فلا يصح أن يقال إنه لا يجب رد سلامه، تمسكا بعمد الصبي خطأ، بل يجب
علينا بمقتضى قول الله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) 1
رد سلامه، فهو كغيره وإن لم يكن عليه التسليم بل ولا يجب عليه رد السلام إذا

1. سورة النساء الآية 86.
130

سلم غيره عليه، إلا أنه لو سلم يجب رد سلامه عليه.
وعلى ذلك فلا بعد أصلا في كون الصبي المتميز المقر بالشهادتين و
سائر اللوازم محكوما عليه بالاسلام والطهارة، وخارجا بذلك عن تبعية والديه
في الكفر.
أما طفل المسلم والصبي المتولد منه فلو قال بالردة فيمكن التمسك
هناك بعمد الصبي خطأ، والقول بعدم ترتب الأثر عليه، وأنه باق على تبعية
المسلم فتكون ردته نظير ردة من قال بها بمجرد لقلقة اللسان فهي غير مؤثرة،
كما أنه لو قتل أحدا لا يقتل به وعلى الجملة فالآثار الوضعية مترتبة ما لم تكن
خلاف الامتنان.
تنبيه:
ثم إنه لا يتوهم مما ذكرنا مثالا - من تعلم أولاد الكفار في مدارس
المسلمين ومعاهدهم العلمية - عدم جواز ذلك، فإنه جائز قطعا وبلا اشكال، و
كان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ينهى 1 عن أن يكون لأهل الكتاب مدارس
مستقلة في البلاد الاسلامية، ويمنع عن تأسيسها فيها لأنفسهم، وكان أولاد أهل
الكتاب يتعلمون ويدرسون في مدارس المسلمين مع أطفالهم.
وكان هذا لأجل نكتة شريفة اجتماعية وهي أنهم إذا كانوا في
مدارس المسلمين - مع أن مناهجها التعليمية وبرامجها ونظاماتها بيد المسلمين و
تحت مديريتهم وأن هذه الأطفال يعاشرون المسلمين وأطفالهم - فمن الممكن
جدا أن يتسرب إليهم شئ من سيرتهم الحسنة أو قبس من أقوالهم القيمة المضيئة
ويهتدوا إلى الله ويتوجهون إلى الاسلام في ظلال معاشرتهم هذه، وببركة

1. كلما تفحصت لم أعثر على مصدر المطلب.
131

مساورتهم لأطفال المسلمين، فإن المجالسة مؤثرة، والعقائد والصفات تتغير
بالمعاشرة والمخالطة.
كلمة أخرى حول التبعية
ولما كان الدليل على نجاسة أولاد الكفار وعمدة ما يعتمد عليه في الحكم
بالتبعية، الاجماع فاللازم في الحكم المزبور الاقتصار على القدر المتيقن، وهو ما
إذا كانت التبعية محققة عرفا. فلو استدل الولد وخرج عن عنوانها، قبل أن يبلغ
فلا دليل على تبعيته ونجاسته سواء كان استقلاله بنحو ما ذكرناه آنفا وهو
اختياره الاسلام، واعتناقه العقائد الاسلامية المقدسة، أو بنحو ذكره الفقيه
الهمداني رضوان الله عليه بقوله:
فلو استقل الولد وانفرد ولحق بدار الاسلام وخالط المسلمين وخرج عن
حد التبعية العرفية خصوصا مع تدينه في الظاهر بدين الاسلام ولا سيما
على القول بشرعية عبادة الصبي فلا ينبغي الاشكال في طهارته انتهى. 1
غاية الأمر أن مثالنا مشمول للأدلة الشارحة لمفهوم الاسلام، وما ورد من
أنه يتحقق بالاقرار بالشهادتين، فالطفل المزبور طاهر بالدليل بخلاف المثال
الذي فرضه قدس سره، فإنه لا تشمله هذه الأدلة لأن مجرد لحوقه بدار الاسلام و
مخالطته للمسلمين لا يوجب صيرورته مسلما ما لم يقر بالشهادتين فالدليل على
طهارته - على ما يستفاد من كلامه - أن المتيقن من نجاسة أولاد الكفار هو ما إذا
لم يستقلوا والمفروض أن هذا قد خرج عن دار الكفر واستقل بنفسه. وحيث إنه
ليس تابعا لأبويه فلذا لا يحكم عليه بالنجاسة.

1. كتاب الطهارة مصباح الفقيه ص 563.
132

وأما استصحاب النجاسة فلا مجال له بعد تبين الموضوع وعدم تحققه
عرفا فإن موضوع النجاسة واضح معلوم، وهو واحد من أمرين:
أحدهما: الكفر فقد دلت الآية الكريمة على أنه علة تامة في الحكم
بنجاسة الانسان.
ثانيهما: التبعية فقد قام الاجماع على أنها العلة في نجاسة أولاد الكفار و
هما - أي الكفر والتبعية - معا منفيان لأن الطفل المزبور ليس كافر وهو معلوم،
لكونه صبيا، ولا تابعا للكافر، لخروجه عن دار الكفر، ودخوله في دار الاسلام،
فالموضوع وهو التابع قد تبدل، وهذا بعينه نظير ما إذا علمنا أن المدار في جواز
الايتمام وعدمه هو العدالة وجودا وعدما، وفرضنا إن زيدا كان عادلا ثم صدر
منه الفسق فإنه لا مجال حينئذ للاستصحاب لتبدل الموضوع.
كما أنه لو شك في المراد من التعبية وأنها هي التبعية في الولادة كي يكون
نجسا إلى أن يبلغ الحلم ويتضح هناك أنه كافر فينجس كما كان، أو مسلم فيكون
طاهرا، أو التبعية التربوية وكونه تحت تربية الكفار، فهنا يتردد الموضوع حيث
لم يدل على حدوده وقيوده دليل لفظي بل الموضع مأخوذ من الاجماع وهو
دليل لبي غير ناطق لا لسان له فيشك في بقاء التبعية في الفرض ويكون الموضوع
مشكوك التحقق الآن، وهنا أيضا لا يجري الاستصحاب كما لا يجري عند القطع
بتبدله. هذا.
ولكن الظاهر مع ذلك كله جريان الاستصحاب لوجود الموضوع العرفي و
بقائه عرفا وحيث إن المعتمد هو الموضوع العرفي فيجري الاستصحاب كما
احتمله علم التحقيق والتقى الشيخ المرتضى رضوان الله عليه 1 وإن لم يقوه، فإنه

1. قال في طهارته ص 306 بعد كلام له: والنجاسة الثابتة بالاجماع لم يعلم ثبوتها لنفس الطفل أو
الطفل المصاحب للأبوين فلعل لوصف المصاحبة مدخلا في الموضوع الذي يعتبر القطع ببقائه
في جريان الاستصحاب ولا يتوهم جريان مثل ذلك في سائر موارد الاستصحاب ولأن النجاسة
من الأمور التي إذا تحققت لا يرتفع إلا بالمزيل فلا بد من اثباته لاندفاع الأول بأن ذلك من
خصائص المستصحب الثابت بالاجماع فإن الموضوع فيه مشتبه غالبا إلا أن يرجع في تشخيصه
إلى العرف أو كلمات المجمعين وأما إذا ثبت المستصحب بالأدلة اللفظية فالموضوع فيه معلوم
غالبا واندفاع الثاني بأن النجاسة إنما تحتاج إلى المزيل في ارتفاعها عن محلها الخ.
133

من القائلين بالطهارة وعلى الجملة فالموضوع فيما نحن فيه محقق وباق عرفا، و
لذا تستصحب نجاسة هذا الصبي الثابتة له قبل استقلاله ودخوله في دار الاسلام.
هذا بالإضافة إلى أن النجاسة - كما في كلمات شيخنا المرتضى قدس سره
- مقتضية للبقاء ويحتاج رفعها إلى رافع فما لم يتحقق ولم يثبت قطعا يحكم
بالنجاسة ولذا لو لم يقم الاجماع على تبعية المسبي للسابي وكونه محكوما عليه
بحكمه لما قلنا بذلك بل الحكم لولاه هو النجاسة بمقتضى الاستصحاب.
الكلام في حكم اللقيط
اللقيط هو الصبي الضايع الذي لا كافل له، ولا يستقل بنفسه على السعي
فيما يصلحه ودفع ما يضره.
فلو وجد في دار الاسلام لقيط فهو ملحق بالمسلمين وحكم باسلامه تبعا
للدار، كما أنه لو وجد في دار الكفر الحق بالكفار، حكى ذلك عن شيخ الطائفة
رضوان الله عليه 1 ولا فرق في دار الاسلام بين كونها مبنية في الاسلام أولا وبين

1. أقول: قال في المبسوط ج 3 ص 343: وأما الدار فداران دار الاسلام ودار الحرب فدار
الاسلام على ثلاثة أضرب بلد بني في الاسلام ولم يقربها المشركون مثل بغداد والبصرة فإن
وجد لقيط ههنا فإنه يحكم باسلامه لأنه يجوز أن يكون ابنا لمسلم ويجوز أن يكون لذمي
فيغلب حكم الاسلام لقوله عليه السلام: الاسلام يعلو ولا يعلى عليه إلى آخر كلامه قدس سره
فراجع.
وقال الشهيد في الدروس ص 299 المراد بدار الاسلام ما ينفذ فيه حكم الاسلام فلا يكون بها
كافر إلا معاهدا فلقيطها حر مسلم... وأما دار الكفر فهي التي ينفذ فيها أحكام الكفار فلا يكن
فيها مسلم إلا مسالما فلقيطها محكوم عليه بكفره ورقه الخ كلامه.
134

كونها دار الكفر أولا ثم بعد ذلك انتقلت - بالحرب أو الصلح - إلى المسلمين، أو
أنها دار الاسلام باعتبار كونها في الحال معسكر الاسلام ومركز تجمع
جنود المسلمين وجيوشهم وقواتهم لكن بشرط كون الأطفال معهم كي يحتمل
كون هذا اللقيط منهم، فلو لم يصحبوا أطفالهم فلا يحكم على هذا اللقيط
بالاسلام، وكذا في كل مورد لم يحتمل كون اللقيط من المسلمين.
وتحقيق البحث إن هنا مقامان:
أحدهما: في الحكم عليه بالطهارة
ثانيهما: في الحكم عليه بالاسلام ليترتب عليه جميع أحكامه كوجوب
غسله وتكفينه ودفنه وغير ذلك.
أما الثاني: فيدل عليه الغلبة التي هي أمارة عقلائية لم يردع عنها الشارع
فإن الغلبة في دار الاسلام للمسلمين ومعهم وإن كان قد يوجد فيها كافر أيضا و
حيث إن الغلبة فيها معهم فيحمل الفرد المشكوك فيه على الغالب الكثير، لا على
الشاذ النادر، واللقيط - في الفرض - وإن احتمل كونه من الكفار لكنه محكوم
عليه بالاسلام بمقتضى الغلبة المذكورة
وليعلم أن الأخذ بالغلبة غير مختص بباب الأطفال، بل يجري في الكبير
أيضا، كما أنك لو كنت جالسا في ناد من أندية بلدة كبيرة مثل طهران التي قد
يوجد فيها المشرك ويأوى إليها الكافر ويقطنها الطوائف المختلفة وكان بجنبك
من يأكل ويشرب معك وأنت لا تعرفه فهناك لا ينبغي أن تشك في اسلامه حيث
إن الغلبة تقتضي كونه مسلما بل الحاقه فطري طبيعي فربما لا يحتمل خلافه إلا
الأذهان المشوشة، واحتمال الخلاف لا يأتي إلا بمنبه خارجي وتوجيه من
135

الغير. كما أن الغلبة في البلاد الخارجة ومدن الأجانب - التي قد يوجد فيها مسلم
أو مسلمون أيضا - للكفار فلو شككت في أن من جلس إلى جنبك في تلك البلاد
هل هو مسلم أو كافر فلا محالة يحكم عليه بالكفر إلى أن يثبت خلافه وإن
احتمل كونه مسلما. والعلة الوحيدة في ذلك غلبة الكفر هناك.
هذا كله بالنسبة إلى المقام الثاني وقد تحصل أنه يلحق الطفل بالأغلب.
وأما الأول أعني كونه محكوما عليه بالطهارة فلا يفتقر إلى التمسك
بالغلبة بل يكفي احتمال الطهارة أو الاسلام في الحكم بطهارته.
وبعبارة أخرى لا يتوقف الحكم بالطهارة على وجود أمارة على اسلام
اللقيط بل يكفي عدم وجود أمارة على كفره فبمجرد احتمال كونه مسلما يحكم
بطهارته إلى أن يدل دليل على الخلاف.
وعلى هذا فاللقيط في ساحة الحرب وإن كان بدار الكفر - كما إذا وجد
فيها بعد تفرق عسكر الطرفين - محكوم عليه بالطهارة لاحتمال كونه من
المسلمين.
وإن شئت فقل إن الكفار نجس وأما هذا اللقيط فهو من الشبهة
المصداقية، وعلى هذا يشمله دليل الطهارة أعني كل شئ لك طاهر حتى تعلم أنه
قذر، هذا.
ولكن لا يخفى أنه لا يترتب عليه سائرا أحكام المسلم كوجوب دفنه وغير
ذلك، كما أنه لا يجوز سبيه أيضا بمجرد احتمال كونه من الكفار لكون السبي
مترتبا على الكفر، والمفروض عدم ثبوته. ثم إن هذا كله في الطفل الذي لم يعلم
له سابقة في الكفر.
136

حكم أجزاء الكافر التي لا تحله الحياة
المنسبق إلى الأذهان ابتداءا من نجاسة الكافر أنه كالكلب والخنزير في
كون هذا العين بكافته نجسا فكما أن مفاد قولنا إن الكلب نجس، نجاسة مجموع
هذا العين حتى الظفر والشعر منه كذلك إذا قيل: إن الكافر نجس، فالمتبادر منه
إن هذا العين كله نجس بلا فرق في أجزائه بين ما تحله الحياة وما لا تحله، بل
الحكم والكلام في الكافر أتم وأوضح منه في باب الكلب والخنزير، لأنه وردت
في باب الخنزير روايتان - صحيحة زرارة 1 وموثقة حسين بن زرارة 2 - توهمان

1. عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يستقى به الماء من البئر
هل يتوضأ من ذلك الماء؟ قال: لا بأس. وسائل الشيعة ج 1 ص 125 ح 2 ب 14 من أبواب
الماء المطلق.
2. عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: قلت له: شعر الخنزير يعمل حبلا ويستق به من
البئر التي يشرب منها أو يتوضأ منها؟ قال: لا بأس " وسائل الشيعة ج 1 ص 126 ح 3.
137

طهارة شعره - وإن حملهما الأصحاب على ما لا ينافي نجاسته وذكروا في ذلك
وجوها ليس هنا مقام ذكرها - وحيث إنه لا فرق بين الكلب والخنزير عندهم
فيمكن القول بطهارة شعرهما بخلاف ما نحن فيه فإنه لم تنقل رواية تدل على
طهارة مثل تلك الأجزاء من الكافر.
وعلى هذا فيمكن أن يكون منشأ البحث في نجاسة ما لا تحله الحياة من
الكافر هو التردد في أنه إذا قيل: الكافر نجس فهل معناه إن هذا العين بتمام أجزائه
من الرأس إلى القدم كذلك بلا استثناء شئ منه أو أن معناه نجاسة ما تحله الحياة
وحده، لأنها هي المدار في الحكم بالنجاسة وموضوعه، والشك في غيره، نظير
الميتة حيث لا ينجس ما لا تحله الحياة منه لعدم صدق الميتة عليها والظاهر هو
الأول، والنتيجة إن هذه الجثة بكافة أجزاءها نجس مثل الكلب الذي دلت
الروايات على نجاسة عينه مطلقا. 1
وخالف في ذلك الشيخ حسن بن زين الدين الشهيد الثاني قدس سرهما
ذاهبا إلى طهارة ما لا تحله الحياة من أجزاء الكافر للاشكال بزعمه في دلالة
الآيتين - آية إنما المشركون، وآية الرجس، - على نجاسة الكافر ولخلو الأخبار
عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم قال:
نص جمع من الأصحاب على عدم الفرق في نجاسة الكفار بين ما تحله
الحياة منه وما لا تحله وظاهر كلام العلامة في المختلف عدم العلم بمخالف في
ذلك سوى المرتضى فإنه حكم بطهارة ما لا تحله الحياة من نجس العين وقد
مرت حكاية خلافه آنفا وبينا أن الحجة المحكية عنه في ذلك ضعيفة ولكن

1. ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الكلب يصيب شيئا من
جسد الرجل قال: يغسل المكان الذي أصابه.
فترى أنه حكم بغسل موضع الإصابة مع أن الماس للجسد هو شعر الكلب، وظاهر قوله: يغسل
الخ هو الوجوب. منه دام ظله العالي.
138

الدليل المذكور هناك للحكم بالتسوية بين جميع الأجزاء لا يتأتى هنا لخلو
الأخبار عن تعليق الحكم بالتنجيس على الاسم كما وقع هناك وقد نبهنا على ما
في التمسك بالآيتين من الاشكال فلا يتم التعليق بهما في هذا الحكم حيث وقع
التعليق فيهما بالاسم وحينئذ يكون حكم ما لا تحله الحياة من الكافر خاليا من
الدليل فيتجه التمسك فيه بالأصل إلى أن يثبت المخرج عنه. 1
وقد تصدى المحدث البحراني قدس سره للجواب عنه والرد عليه فأجابه بثلاثة
وجوه فإنه بعد أن ذكر كلام صاحب المعالم قال:
وفيه أولا: إن الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة اليهود والنصارى قد
علق الحكم فيها على العنوان اليهودي والنصراني الذي هو عبارة عن الشخص أو
الرجل والمنسوب إلى هاتين الذمتين ولا ريب أن الشخص والرجل عبارة عن
هذا المجموع الذي حصل به الشخص في الوجود الخارجي ولا ريب في صدق
هذا العنوان على جميع أجزاء البدن وجملته كصدق الكلب على أجزائه ومتى
ثبت الحكم بالعموم في أهل الكتاب ثبت في غيرهم ممن يوافق على نجاستهم
بطريق أولى.
وثانيا: إنه روى الكليني في الحسن عن الوشا عمن ذكره عن أبي عبد الله
عليه السلام: إنه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكل من
خالف الاسلام وكان أشد ذلك عنده سؤر الناصب 2 ولا اشكال ولا خلاف في أن
المراد بالكراهة هنا التحريم والنجاسة وقد وقع ذلك معلقا على هذه العناوين
المذكورة ومنها المشرك ومن خالف الاسلام. وكل من هذه العنوانات أوصاف
لموصوفات محذوفة وقد شاع التعبير بها عنها من لفظ الرجل أو الشخص أو

1. معالم الدين في الفقه ص 261
2. وسائل الشيعة ج 1 ص 165 الباب 3 من أبواب الأسئار ح 2.
139

الذات أو نحو ذلك ولا ريب في صدق هذه الموصوفات على جملة البدن و
جميع أجزائه كصدق الكلب على جملته كما اعترف به فكما أن الكلب اسم لهذه
الجملة فالرجل أيضا كذلك ونحوه الشخص.
وثالثا: إنا قد أوضحنا سابقا دلالة إحدى الآيتين المشار إليهما في كلامه
(آية: إنما المشركون) على النجاسة في المقام وبينا ضعف ما أورد عليها من
الالزام وبه يتم المطلوب والمرام انتهى كلامه رفع مقامه. 1
لكن أورد علم التقى الشيخ المرتضى على المحدث البحراني قدس
سرهما بقوله: لا يخفى أن كلام صاحب المعالم على فرض عدم دلالة الآيات
كما هو المتضح عنده وكلامه في الأخبار ولا يخفى أن مرسلة الوشاء على فرض
دلالتها لا تدل إلا على نجاسة سؤرهم ولا ريب في ظهور السؤر فيما باشره جسم
حيوان لا كشعره بل ولا كظفره المجرد بل عن ظاهره عرفا كما تقدم في باب
الأسئار بقية الشراب فلا دلالة فيها على نجاسة مثل الشعر أصلا، وأما الأخبار
الدالة على نجاسة اليهود والنصارى فليس فيها إلا الاجتناب عن مساورتهم و
مخالطتهم ومؤاكلتهم.
ثم قال: فما ذكره في مقابل صاحب المعالم لم يصب موقعه، فالأولى
المتسك في ذلك باطلاق معاقد الاجماعات المستفيضة بل المتواترة في
نجاسة الكفار. انتهى كلامه الشريف. 2
أقول: التحقيق إن دلالة الروايات على نجاسة الكفار تامة ظاهرة على ما
أوضحناه سابقا، فلو كانت الأخبار الواردة في مؤاكلتهم ومساورتهم ومصافحتهم
واردة للتعبد المحض بتلك الأمور لصح أن لا يجزم بنجاسة الشعر مثلا منهم كما

1. راجع الحدائق الناضرة ج 5 ص 175
2. كتاب الطهارة ص 306.
140

أفاده شيخنا المرتضى رضوان الله عليه، لكن ليس الأمر كذلك، بل الظاهر كونها
في مقام بيان نجاستهم فالسؤر نجس لكونه سؤرا من اليهودي أو النصراني وكذا
يجب غسل اليد وتطهيرها لو صافح المسلم مع نداوة في يد أحدهما أو إذا
حصلت المماسة مع الرطوبة، فيستفاد منها أن اليهودي أو النصراني مثلا نجس و
إذا كان نجسا فلا فرق في ذلك بين أجزائه لاقتضاء نجاسة العين والشخص ذلك،
فإن الظاهر منه أنه بجملة بدنه ووجوده وجميع أجزائه كان نجسا سواء كانت مما
تحله الحياة أو لا تحله كصدق عنوان الكلب على الموجود المعين الخاص
بشراشر وجوده.
هذا كله مع تسليم ما ذهب إليه صاحب المعالم من خلو الأخبار عن تعليق
الحكم بالتنجيس على الاسم والحال أن تسليم ذلك وتصديقه في قوله هذا
مشكل فراجع الأخبار تجد صدق ذلك فيها. 1

1. الظاهر أن الحق في المقام مع صاحب المعالم رضوان الله عليه وذلك لأنا تفحصنا كثيرا مظان
المطلب في الكتب كالوسائل وجامع أحاديث الشيعة ومستدرك الوسائل وغيرها ولم نعثر على
ذلك.
اللهم إلا أن يكون نظره الشريف دام ظله العالي إلى ما أفاده صاحب الحدائق في الوجه الثالث من
الوجوه الذي ذكرها، وقد تقدم ذلك آنفا أو أنه كان تعبير الآية الكريمة: (إنما المشركون نجس)
في ذهنه الشريف فأورد بأن تعليق النجس على الأعيان محقق موجود والحال أن البحث فعلا في
الأخبار بعد أن صاحب العلم أنكر دلالة الآيات.
141

حول معنى الكفر والاسلام
الكفر في اللغة: التغطية والستر، يقال: كفرت الشئ، أي سترته، ولذا يطلق
الكافر على الزارع، لأنه إذا ألقى البذر في الأرض فقد ستره وغطاه، وقد ورد
هذا الاطلاق في القرآن الكريم قال الله تعالى: " كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم
يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما... " 1 وفي اصطلاح الشارع وعرف المتشرعة
هو الجحد، فمن نفى الصانع أو جحد توحيده أو أنكر النبوة مثلا فهو كافر بلا فرق
بين كون الجاحد مقرا ومعتقدا في الواقع ومذعنا وقلبه وبين كونه
جاحدا في قلبه أيضا.
وهنا بحث وهو أنه هل التقابل بين الكفر والاسلام تقابل العدم والملكة
كالعمى والبصر حيث إن العمى عدم البصر لمن من شأنه البصر، فمن كان من

1. سورة الحديد الآية 20 أقول: وقال لبيد الشاعر: في ليلة كفر النجوم غمامها. أي ستر.
143

شأنه أن يكون مسلما ومع ذلك لم يسلم فهو كافر إلا في موارد خاصة خرجت
بالدليل كأولاد المسلمين الملحقين يهم أو أن التقابل بينهما تقابل التضاد فالكفر
ضد الاسلام مع وجود ثالث لهما كالشاك مثل تضاد السواد والبياض حيث إنه
يمكن أن لا يتحقق شئ منهما بل كان شئ آخر كالحمرة مثلا؟
وبعبارة أخرى وبيان أوضح، هل الكفر هو الانكار فلو كان شاكا بلا انكار
أصلا لم يكن كافرا؟ أو أن الكفر بمعنى عدم الايمان فبمجرد عدم الاقرار يكون
كافرا سواء كان مذعنا بالخلاف بنحو الجهل المركب أو كان شاكا؟
ذهب الفقيه الهمداني رضوان الله عليه إلى أنهما من قبل العدم والملكة
فلا يعتبر جحده في الحكم عليه بالكفر عند الشارع بل الشاك أيضا محكوم
بالكفر شرعا، والمسلم هو المقر بالشهادتين مع اعتقاده بذلك وإليك عين
عبارته:
الكفر لغة هو الجحد والانكار، ضد الايمان فالشاك في الله تعالى أو في
وحدانيته أو في رسالة الرسول صلى الله عليه وآله ما لم يجحد شيئا منها لا يكون
كافرا ولغة ولكن الظاهر صدقه عليه في عرف الشارع والمتشرعة كما يظهر ذلك
بالتدبر في النصوص والفتاوى.
وما يظهر من بعض الروايات من إناطة الكفر بالجحود مثل رواية محمد
بن مسلم قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله قال: ما تقول فيمن شك في الله تعالى قال:
كافر يا أبا محمد قال: فشك في رسول الله قال: كافر ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما
يكفر إذا جحد. وفي رواية أخرى لو أن الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم
يكفروا.
فلا يبعد أن يكون المراد به إن الناس المعروفين بالاسلام المعترفين
بالشهادتين الملتزمين بشرائع الاسلام في الظاهر إذا طرأ في قلوبهم الشكوك و
144

الشبهات الناشئة من جهالتهم لا يخرجون بذلك من زمرة المسلمين ما لم
يجحدوا ذلك الشئ الذي شكوا فيه ولو بترتيب آثار عدمه في مقام العمل كترك
الصلاة والصوم ونحوهما فليس المراد بمثل هذه الروايات إن من لم يتدين
بدين الاسلام ولم يلتزم بشئ من شرائعه متعذرا بجهله بالحال ليس بكافر انتهى.
أقول: التحقيق في المقام التفصيل بأن يقال: إن الاسلام على قسمين:
ظاهري وواقعي.
والأول: يوجب صيرورة الانسان كسائر المسلمين وداخلا في زمرتهم
يجرى عليه أحكام الاسلام، من طهارة البدن، وحل المناكحة، وحقن الدم، و
احترام ماله وعرضه، فلا فرق في جريان هذه الأحكام وترتب هذه الآثار عليه
بينه وبين سائر المسلمين، وهو يدور مدار الاقرار بالشهادتين فقط، فإذا أقر بهما
تترتب تلك الأحكام.
وإليه يشير قوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا
أسلمنا " 1 وتدل عليه أيضا روايات عديدة كما أن كلمات العلماء وعبائر هم
صريحة في ذلك، ولا يزال المسلمون على مضي الأعصار ومختلف الأمصار
يعاملون المقر لسانا معاملة المسلمين.
أضف إلى ذلك كله إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقول للناس:
قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ولم يقل اعتقدوا بلا إله إلا الله.
والحاصل: أن الكافر هو من لم يقر بالشهادتين مع صلوحه لذلك، سواء
كان شاكا أو قاطعا بالخلاف، غاية الأمر أن عذاب القاطع بالخلاف أشد من
الشاك، ولا بأس به، فإن المعذبين في النار ليسوا على حد سواء من العذاب،

1. سورة الحجرات الآية 14.
145

ألا ترى أن الله تعالى يقول: " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " 1
وعلى هذا فلا حاجة في ترتب الأحكام المذكورة إلى أزيد من الاقرار
بتوحيد الله تعالى ورسالة محمد صلى الله عليه وآله، سواء كان مذعنا بذلك أم
شاكا بل وإن كان معتقدا بخلاف ذلك كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله
كان يعامل منافقي أصحابه معاملة المسلم المسلم، مع أنهم منافقون لم يؤمنوا
بالله ولا برسوله، وكان شأنهم الحط من كرامة رسول الله، بنسبه ما لا يليق به إليه،
والصاق أي نقيصة به، عند كل فرصة تسمح لهم، قال الله تعالى فيهم: " إذا جاءك
المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن
المنافقين لكاذبون " 2
فإذا حكم على من أقر بالشهادتين بطهارة البدن وجواز المناكحة وغير
ذلك من الأحكام مع العلم بكذبه في اقراره فكيف بمن كان شاكا لم يحصل له
يقين بعد.
نعم هذا الاسلام الذي لم يتجاوز عن إطار الاقرار لا ينفع في الآخرة شيئا
ولا يوجب أجرا ولا ثوابا ولا يعتبر زادا للعبد ليوم معاده وحاجزا له عن عذاب الله
تعالى، وللآخرة حساب آخر.
ولو لم يقر بالشهادتين لم يترتب ولم يجر عليه شئ من تلك الأحكام
سواء كان معاندا أخذت العصبية العمياء بعنانه وقياده، أو كان مستضعفا لا يستطيع
التحقيق، غاية الأمر أن الثاني لا يعاقب عند الله تعالى، بينا يستحق الأول العذاب
الأليم والعقوبة الدائمة.
وأما القسم الثاني: أي الايمان الواقعي فهو الدين الذي ارتضاه الله للناس

1. سورة النساء الآية 145
2. سورة المنافقون الآية 1.
146

وقال: " إن الدين عند الله الاسلام " 1 وقال: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل
منه وهو في الآخرة من الخاسرين " 2 وهو ملاك الأجر، ومناط المثوبات
الأخروية، والحصن الذي يلجأ إليه في التخلص من النار، وهو عبارة عن لا قرار
المتعاضد بالاعتقاد الجازم والشهادة المقرونة بعقد القلب لا يفترق ولا يتخلف
أحدهما عن الآخر، ويزول الايمان بزوال كل واحد من الأمرين، سواء اعتقد
بالقلب ولم يقر بذلك لسانا بل أنكره باللسان أو تظاهر بالدين وأقرت باللسان و
لم يعتقد بقلبه فيعاقب على عدم اليقين إن لم يكن قاصرا أما لو كان قاصرا أو لم
تسمح له الوسائل الكافلة للقطع واليقين، فيمكن أن لا يكون معاقبا ومعذبا
عند الله تعالى.
والحاصل أن هذا القسم لا يجامع الشك فضلا عن الانكار القلبي بخلاف
القسم الأول الذي كان تمام المعيار فيه هو الاقرار باللسان حيث إنه كان يجامع
الانكار القلبي فضلا عن الشك.
ثم إن بين ما مضى من كلام المحقق الهمداني وما أتى به بعده نوع تهافت
وتنافر حيث أنه قال بعد العبارات التي نقلناها آنفا: وهل يكفي الاقرار والتدين
الصوري في ترتيب أثر الاسلام من جواز المخالطة والمناكحة والتوارث أم يعتبر
مطابقته للاعتقاد فلو علم نفاقه وعدم اعتقاده حكم بكفره وأما لو لم يعلم بذلك
حكم باسلامه نظرا إلى ظاهر القول؟ وجهان لا يخلو ولهما عن قوة كما يشهد
بذلك معاشرة النبي مع المنافقين المظهرين للاسلام مع علمه بنفاقهم مضافا إلى
جملة من الأخبار بكفاية اظهار الشهادتين في الاسلام الذي به يحقن الدماء و
يجرى عليه المواريث من غير أناطته بكونه ناشئا من القلب وإنما يعتبر ذلك في

1. سورة آل عمران الآية 19.
2. سورة آل عمران الآية 85.
147

الايمان الذي به يفوز الفائزون وهو أخص من الاسلام الذي عليه عامة الأمة كما
نطق بذلك الأخبار الكثيرة وشهد له قول الله عز وجل: " قالت الأعراب... " 1
ونحن نتسائل ونقول: إن الشاك الذي حكم قدس سره في أول بحثه
بكفره لظاهر الشرع هل هو الشاك المقر بالشهادتين أو غير المقر.
فإن كان المراد هو الأول فكيف قوى في العبارة الأخيرة كفاية الاقرار و
التدين الصور في ترتيب أثر الاسلام.
وإن كان المراد هو الشاك غير المقر ففيه أنه لا أثر لشكه لكفاية مجرد
عدم الاقرار بالشهادتين في الحكم بكفره.
وعلى الجملة فمع كفاية الشهادتين في الحكم بالاسلام الظاهري لا مجال
للبحث في الشك أصلا فينبغي أن يقال: إن من أقر بالشهادتين فهو مسلم ظاهري
سواء كان معتقدا بهما في قلبه أو شاكا أو قاطعا بالخلاف ومن لم يقربهما فليس
بمسلم وإن علمنا أنه معتقد واقعا.
ويشهد لذلك قوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما و
علوا " 2 حيث إن الله سبحانه عابهم ولامهم بذلك ولو كان الاعتقاد قلبا ومجردا
عن الاقرار كافيا لما صح أن يعيبهم بهذه الكلمة الواردة في مقام اللوم والذم.
ومما يجدر بنا أن نذكره في هذا المقام إن ما ذكرنا من كفاية الاقرار
بالشهادتين في الحكم بالاسلام مشروط بعدم اظهاره ما يخالف شهادته، وما
يكذب اقراره، وإلا كان كافرا ولذا قال المحقق في الشرايع عند ذكر النجاسات
وعدها: الكافر وضابطه من خرج عن الاسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من
الدين ضرورة انتهى.

1. مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 563
2. سورة النمل الآية 14.
148

وعلى هذا فالكافر قسمان:
أحدهما: الخارج عن حد الاسلام من رأس.
ثانيهما: من انتسب إلى الاسلام وأقر بالشهادتين لكن أتى بشئ يكذب
انتحاله وهو انكاره ما كان ضروريا في الدين فإن انكار ما كان من الدين
بالضرورة تكذيب لشهادته بالرسالة وإلا فمن شهد أن محمدا صلى الله عليه وآله
خاتم النبيين، ومرسل من الله تعالى إلى الخلق أجمعين، وأنه " ما ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحي يوحى " 1 فكيف ينكر شيئا ثبت أنه مما جاء به قطعا - حيث إنه
من الضروريات - وهو عالم بذلك؟ وأما الملاك والمعيار في كون شئ ضروريا
فسنبحث فيه مستقلا إن شاء الله تعالى كما أن البحث في كون الإمامة التي هي من
المسائل المهمة العريقة في الاسلام هل هي من الضروري ليكون انكارها انكارا
للضروري ويلزم رد النصوص الواردة في أمير المؤمنين عليه السلام كما ذهب
إليه صاحب الحدائق أو أنها ليست من الضروريات بأن يقال إن هذا البحث من
الأبحاث الحادثة بعد زمن النبي والنصوص الواردة فيها ليست متواترة فهذا
البحث بحث موضوعي لا حكمي نظير البحث في أنه لماذا اقتصر العلماء في
مقام المثال للكافر على ذكر منكر التوحيد أو الرسالة ولم يذكروا المعاد مع ذكره
في القرآن الكريم مرارا قرينا بالايمان بالله وهو ضروري من ضروريات الاسلام
بل من ضروريات الأديان السماوية كلها فمنكره منكر لكل الأديان إلى غير ذلك
من أمثال هذه المباحث فهي موكولة إلى مقام آخر وهو البحث في تعيين
الموضوع ولعلنا نبحث فيها أو في بعضها إن شاء الله تعالى.
ثم إن في عبارة المحقق المذكورة آنفا نوع اجمال فإنه عند بيان
الضابط الكلي للكفر قال: ضابطه من خرج عن الاسلام الخ.

1. سورة النجم الآية 3 و 4.
149

والمستفاد منها بلحاظ التعبير بالخروج لزوم كون الكفر مسبوقا بالايمان
وهذا يقتضي كون الكافر الأصلي خارجا عن تحت التعريف لأنه غير مسبوق
بالاسلام ولا يصدق في حقه أنه خرج عن الاسلام.
ولعله لرفع هذا الاجمال أو الايهام والاشكال فسر السيد صاحب المدارك
قدس سره العبارة بقوله: المراد بمن خرج عن الاسلام من باينه كاليهود والنصارى
وبمن انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة من انتمى إليه وأظهر التدين به
لكن جحد بعض ضرورياته 1 انتهى كلامه رفع مقامه.
وعلى ما بيناه فمعنى العبارة إن الكافر قسمان.
أحدهما: من لم يكن مسلما مقرا وداخلا في حوزة الاسلام وعلى هذا
فالمراد بمن خرج عن الاسلام هو غير المسلم سواء كان مسبوقا بالاسلام أم لم
يكن كذلك ولم يعهد منه الاسلام أصلا.
ثانيهما: من كان منتحلا ومع ذلك كان منكرا للضروري.
ولعل هذا المعنى والتفسير أقرب مما أفاده سيد المدارك وكيف كان
يصرف النظر عن ظاهر لفظ الخروج، وقد تحقق أن الحكم بالكفر دائر مدار
أحد الأمرين أحدهما تحقق نفس الكفر سواء كان مسبوقا بالاسلام أم لا والآخر
الانتحال إلى الاسلام مع إنكار الضروري.
كلمة أخرى حول الكفر
لا يخفى أن للكفر - في الآيات والروايات وكلمات العلماء - اطلاقات
مختلفة:

1. مدارك الأحكام الطبع الجديد ج 2 ص 294.
150

فتارة يطلق على منكر الصانع تعالى أو الرسالة مثلا.
وأخرى يطلق على تارك فريضة من الفرائض قال الله تعالى: " ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " 1
فقد عد واعتبر ترك الحج كفرا وتاركه كافرا.
وثالثة يطلق ويراد به أن المتصف به يحشر في القيامة مع الكافرين وفي
زمرتهم.
ولكن المقصد فيما نحن فيه هو الحكم بالنجاسة على المتصف به وهو
تمام المراد ومطمح النظر ويؤول الأمر إلى تفسير الكافر هنا بمن يحكم عليه
بالنجاسة وهو يدور مدار واحد من الأمرين المذكورين آنفا:
أحدهما: كون الانسان خارجا عن حريم الاسلام وحوزة المسلمين بأن لا
يقر بالشهادتين كعباد الأصنام واليهود والنصارى.
ثانيهما: الانتحال مع الانكار وعلى ذلك يحكم بكفر الشاك الذي لا يقر
ولا ينكر فهو بعدم اقراره بالشهادتين يكون كافرا.
نعم في بعض الأخبار ما لا يساعد ذلك حيث إن الظاهر منه أن الملاك
في الكفر هو الجحد، وبما أن الشاك ليس بجاحد فليس هو كافرا. وأهم هذه الأخبار وأظهرها روايتان:
إحديهما: رواية محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام
جالسا عن يساره وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال يا أبا عبد الله ما
تقول فيمن شك في الله؟ فقال: كافر يا أبا محمد قال: فشك في رسول الله صلى الله عليه وآله؟
فقال: كافر، قال ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد. 2

1. سورة آل عمران الآية 97.
2. الكافي ج 2 ص 399.
151

ثانيهما: رواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لو أن العباد إذا جهلوا
وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا. 1
وحملهما المحقق الهمداني على المعروفين بالاسلام المعترفين
بالشهادتين إذا طرء في قلوبهم الشكوك والشبهات الناشئة عن جهالتهم فهم لا
يخرجون بذلك عن الاسلام ما لم يجحدوا ما شكوا فيه وليس المراد من لم يتدين
بدين الاسلام أصلا فإنه كافر نجس. فراجع ما نقلناه من كلامه آنفا.
وقال المحدث الفيض الكاشاني رضوان الله عليه في ذيل الرواية الأولى
مبينا لها: يعني أنه لا يكفر ما دام شاكا فإذا جحد كفر أو أن المراد بالشاك، المقر
تارة والجاحد أخرى وأنه كلما أقر فهو مؤمن وكلما جحد فهو كافر والأول أظهر
انتهى كلامه.
توضيحه أن الشاك على الاحتمال الأول قسمان: أحدهما الشاك غير
الجاحد ثانيهما الشاك الجاحد، فإن جحد فهو كافر نجس وإلا فلا.
وعلى الاحتمال الثاني فالشاك يختلف حاله فتارة يقر وأخرى ينكر. و
يدور الاسلام والكفر مدار الجحد والاقرار فهو في حين الاقرار مسلم وفي حين
الانكار كافر. لكنه رحمه الله استظهر الوجه الأول من الوجهين.
وذكر العلامة المجلسي قدس سره هنا وجوها واحتمالات فقال: قوله
عليه السلام لزرارة إنما يكفر إذا جحد يحتمل وجوها:
الأول: إن غرضه الرد على زرارة فيما كان بينه وبينه من الواسطة بين
الايمان والكفر لئلا يتوهم زرارة من حكمه (ع) بكفر الشاك في الله والرسول
كفر الشاك في الإمام أيضا، بل ما لم يجحد الإمام لا يكفر ويؤيده الخبر الأول من

1. الكافي ج 2 ص 388.
152

الباب الآتي. 1
الثاني: أن يكون المراد إن الشك في أصول الدين مطلقا إنما يصير سببا
للكفر بعد البيان وإقامة الدليل ومن لم تتم عليه الحجة ليس كذلك فالمستضعف
الذي لا يمكنه التميز بين الحق والباطل ولم تتم عليه الحجة ليس بكافر كما
زعمه زرارة وقيل إنما ذلك في الشك في الرسول وأما الشاك في الله فهو كافر لأن

1. مراده هو خبر هاشم صاحب البريد قال: كنت أنا ومحمد بن مسلم وأبو الخطاب مجتمعين
فقال لنا أبو الخطاب ما تقولون فيمن لا يعرف هذا الأمر؟ فقلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو
كافر فقال أبو الخطاب ليس بكافر حتى تقوم عليه الحجة فإذا قامت عليه الحجة فلم يعرف فهو
كافر فقال له محمد بن مسلم: سبحان الله ما له إذا لم يعرف ولم يجحد يكفر؟ ليس بكافر إذا لم
يجحد قال: فلما حججت دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فأخبرته بذلك فقال: إنك قد
حضرت وغابا ولكن موعدكم الليلة الجمرة الوسطى بمنى فلما كانت الليلة اجتمعنا عنده وأبو
الخطاب ومحمد بن مسلم فتناول وسادة فوضعها في صدره ثم قال لنا: ما تقولون في خدمكم
ونساءكم وأهليكم أليس يشهدون أن لا إله إلا الله؟ قلت بلى قال: أليس يشهدون أن محمدا
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قلت بلى قال: أليس يصلون ويصومون ويحجون؟ قلت بلى قال:
فيعرفون ما أنتم عليه؟ قلت لا قال فما هم عندكم؟ قلت من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر قال:
سبحان الله أما رأيت أهل الطريق وأهل المياه؟ قلت بلى قال: أليس يصلون ويصومون و
يحجون؟ أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قلت: بلى قال: فيعرفون ما أنتم
عليه؟ قلت: لا قال: فما هم عندكم؟ قلت: من لم يعرف هذا الأمر فهو كافر قال: سبحان الله
أما رأيت الكعبة والطواف وأهل اليمن وتعلقهم بأستار الكعبة قلت: بلى قال: أليس يشهدون أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ويصومون ويحجون؟ قلت بلى قال: فيعرفون ما أنتم
عليه؟ قلت لا قال: فما تقولون فيهم؟ قلت من لم يعرف فهو كافر قال: سبحان الله هذا قول
الخوارج ثم قال: إن شئتم أخبرتكم فقلت إنا: لا فقال: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشئ ما لم
تسمعوه منا قال: فظننت أنه يديرنا على قول محمد بن مسلم كافي. ج 2 ص 401.
وهذا الخبر وإن كان فيه هاشم وهو مجهول إلا أن نقل علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير
يوجب توثيقه وقوله عليه السلام: هذا قول الخوارج. يعني أن قولك: هذا كافر يوافق قول الخوارج
المعتقدين إن من أنكر حكما من أحكام الله ضروريا كان أو غيره فهو كافر.
وقد استشهد المجلسي بهذا الخبر على أن البحث في مسألة الإمامة كانت دائرة وشايعة بين
أصحاب الأئمة وهم يبحثون حول من كان مسلما مقرا لكنه شك أو لم يعتقد أو أنكر واحدا من
الأحكام والمقررات أو المعارف مثل الإمامة لا في الشاك غير المسبوق بالاسلام. منه دام ظله
العالي.
153

الدلائل الدالة على وجوده أوضح من أن يشك فيها ولا ينكره إلا معاند مباهت.
الثالث: ما قيل المراد بالشاك المقر تارة والجاحد أخرى وأنه كلما أقر فهو
مؤمن وكلما جحد فهو كافر.
الرابع: أن المعنى إن الشك إنما يصير سببا للكفر إذا كان مقرونا بالجحود
الظاهري وإلا فهو منافق يجرى عليه أحكام الاسلام ظاهرا. 1
وعلى أي حال فلا شبهة في ظهور الروايتين في إناطة الكفر بالجحود و
توقفه عليه وعدم البأس بمجرد الشك ما لم يكن مقرونا بالانكار كما أن رواية
هاشم البريد المذكورة آنفا أيضا ظاهرة في هذا، فإذا أقر بالشهادتين وشك بعد
ذلك فهذا الشك غير ضار أصلا بل واليقين بالعدم أيضا لا يضر إلى أن يجحد
صراحة فهناك يضر ويكون كافرا بذلك، وعلى هذا فلا واسطة في البين، وهذا هو
الذي يظهر من الروايات الواردة في مقام الفرق والتميز بين الاسلام والايمان، و
إليك منها ما يلي.
عن سماعة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أخبرني عن الاسلام و
الايمان أهما مختلفان؟ فقال: إن الايمان يشارك الاسلام، والاسلام لا يشارك
الايمان، فقلت: فصفهما لي، فقال: الاسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق
برسول الله صلى الله عليه وآله، به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح و
المواريث وعلى ظاهره جماعة الناس، والايمان الهدى وما يثبت في القلوب
من صفة الاسلام وما ظهر من العمل به، والايمان أرفع من الاسلام بدرجة، إن
الايمان يشارك الاسلام في الظاهر والاسلام لا يشارك الايمان في الباطن وإن
اجتمعا في القول والصفة. 2

1. مرآة العقول الطبعة القديمة ج 2 ص 389 والطبعة الجديدة ج 11 ص 183.
2. الكافي ج 2 ص 25. أقول: وفي مروج الذهب للمسعودي ج 4 ص 171 حدثني محمد بن
الفرج بمدينة جرجان في المحلة المعروفة ببئر أبي عنان قال: حدثني أبو دعامة قال: أتيت علي بن محمد بن علي بن موسى عائدا في علته التي كانت وفاته منها في هذه السنة فلما هممت
بالانصراف قال لي يا أبا دعامة قد وجب حقك أفلا أحدثك بحديث تسر به؟ قال: فقلت: ما
أحوجني إلى ذلك يا ابن رسول الله قال: حدثني أبي محمد بن علي قال: حدثني أبي علي بن
موسى قال: حدثني أبي موسى بن جعفر قال: حدثني أبي جعفر بن محمد قال: حدثني أبي
محمد بن علي قال: حدثني أبي علي بن الحسين قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: اكتب يا علي، قال: فقلت: وما أكتب؟ قال
لي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم الايمان ما وقرته القلوب وصدقته الأعمال، والاسلام ما
جرى به اللسان وحلت به المناكحة، قال أبو دعامة: فقلت: يا ابن رسول الله ما أدري والله أيهما
أحسن الحديث أم الاسناد؟ فقال: إنها لصحيفة بخط علي بن أبي طالب باملاء رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم نتوارثها صاغرا عن كابر.
ورواه المجلسي قدس سره أيضا عنه في بحار الأنوار طبع بيروت ج 50 ص 208.
154

وحيث إن هذه الرواية موثقة، وقد عمل بها الأصحاب، فجدير أن نقف
هنا ونبحث فيها فنقول: هي صريحة في امكان تحقق الاسلام بدون الايمان و
عدم امكان العكس، فيمكن أن يكون الانسان مسلما ولا يكون مؤمنا، ولا
عكس وليس هذا إلا لأجل دوران الاسلام مدار الاقرار بالشهادتين، فهناك يحل
المناكحة ويجرى المواريث ويحفظ الأموال ويصان الأعراض ويحقن الدماء و
يحكم بطهارة البدن إلى غير ذلك من الأحكام كحلية الذبيحة. وأما الايمان فهو
درجة رفيعة فوق ذلك.
وعلى الجملة فالرواية في إفادة هذا التفاوت وأرفعية الايمان من الاسلام
بمثابة من الوضوح لا تكاد تخفى وإنما البحث والكلام في المقام في توجيه
ترتب الأحكام المذكورة على الاقرار بالشهادتين فنقول: هنا ثلاث احتمالات:
أحدها: كون الاقرار طريقا محضا إلى عقد القلب واعترافه الباطني
فالمقر بالشهادتين كائنا من كان ولو كان غير معتقد بالقلب واقعا يجب على
المسلمين أن يعاملوه معاملة المسلم المسلم بمجرد الاقرار، ما لم يعلموا كذبه، و
155

عدم اعتقاده في الباطن، ويجب عليهم أن يتخذوا اقراره طريقا إلى تحقق
الاعتقاد في ضميره، واعتضاد اقراره باللسان باذعانه بالجنان، نظير اتخاذ الأذان
طريقا إلى تحقق الوقت وأمارة على دخوله، وعلى ذلك فلو علم كذبه ونفاقه
فاقراره لا ينفع شيئا.
ثانيهما: أن يكون موضوعا طريقيا وعلى هذا فلا يحكم باسلامه إلا إذا
اجتمع الاقرار والعقيدة وتقارنا وبعبارة أخرى اللازم تحقق اللفظ نفسه بعنوان
أنه طريق إلى عقد القلب واذعان الضمير وتسليم النفس.
ثالثها: أن يكون موضوعا محضا ولازم ذلك هو الحكم بالاسلام وجريان
أحكامه بمجرد اللفظ ومحض الاقرار.
ولا يخفى أن الظاهر من بين هذه الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال
الأخير، ألا ترى أنه عليه السلام قال: به حقنت الدماء وعليه جرت المناكح و
الموارث؟ ولولا أن المؤثر التام والسبب الوحيد في جريان تلك الأحكام هو
نفس الاقرار لما استقام اللفظ ولما صح التعبير بقوله: (به) وكذا التعبير بقوله:
(عليه).
ويؤيده قوله عليه السلام: وعلى ظاهره جماعة الناس. أي سواد الناس و
العدة الوافرة، فإن الجماعة وسواد الناس - إلا نزر يسير وفرقة قليلة - كانوا يقرون
بتوحيد الله ورسالة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ولكنهم اتبعوا أئمة
الضلال وانحرفوا عن ولاية العترة الطاهرة والأئمة من آل محمد عليهم السلام.
ويشهد على ذلك أيضا الحكم باسلام المنافقين في الصدر الأول المعلوم
حالهم، بحيث ورد في حق بعضهم: أنه لم يؤمن بالله طرفه عين، وكان النبي
يساورهم، وما كان يجتنب عنهم، وكان يباشرهم مع الرطوبة ويناكحهم و
يوارثهم ويعامل معهم معاملة المسلمين وكان يكتفى من الكفار بكلمتي الشهادة
156

ويحكم باسلامهم وهذا هو الدليل القاطع والبرهان القوي الدال على أن تمام
الملاك في تحقق الاسلام وترتب أحكامه هو الاقرار وإن علم أنه شاك بل وإن
علم أنه غير معتقد أصلا كالمنافق المظهر للاسلام والمبطن للكفر.
وعلى هذا فالبالغ العاقل غير المستضعف لو لم يقر بالشهادتين لا يكون
مسلما، ولذا يلقن ولد الكافر عند بلوغه الشهادتين فإن أقر واعترف فهو مسلم و
إلا فيحكم بكفره.
وأما عدم لزوم تلقين ولد المسلم عند البلوغ أو التميز، والحكم باسلامه
بلا توقف على الاقرار، فهو لأجل وجود الأمارة الظاهرة في كونه مسلما فإنه نشأ و
نمى في محيط ديني وبيئة طيبة وربى في جو الاسلام وعند أبوين مسلمين ومنذ
خرج من بطن أمه وفتح عينيه لم ير ولم يشاهد إلا المناظر الاسلامية ولم يقرع
سمعه إلا أصوات قراء القرآن ونغمات المؤذنين بالأذان.
واهتمام المسلمين ولا سيما الشيعة الموالين لآل الرسول بتربية أولادهم
والمواظبة على حالهم ليتعلموا معالم دينهم ويتأدبوا بآداب الاسلام أمر لا يحتاج
إلى البيان، لأنه بمكان من الوضوح والعيان فهذا هو الرجل الشيعي يرى ولده يقع
على الأرض أو يسقط من شاهق أو من مكان عال أو يراه يريد أن يقوم من موضعه
ومقامه فيلقنه الاستمداد من الله تعالى ومن أوليائه ويعلمه التوجه إلى المبادئ
العالية ويقول له: ولدى قل: يا الله، أو قل يا علي، وأمثال تلك التلقينات الطيبة
فإذا تعلم الصبي من والديه الاستنصار من الله تعالى والاستشفاع إليه من الأولياء،
والأئمة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين فلا بد من كونه مقرا بالشهادتين و
مذعنا معتقدا بهما وعارفا بالله ورسوله بل خلاف ذلك كاد أن يكون محالا
عاديا.
وهذا بخلاف ولد الكافر الذي نشئ على الكفر والضلال، والمفاهيم
157

الخاطئة، والعقائد الفاسدة الكاسدة، ولم يشم منذ ولادته رائحة الاسلام ولا يزال
من بدع طفولته إلى سنين رشده سمع وشاهد الحاد الملحدين وتشكيك الضالين
المضلين وحثه الأبوان على الجحود والانكار والزندقة والالحاد وكان طوال هذه
المدة تحت تبعية الكافر فلا بد من أن يتأثر بالسموم المبثوثة الالحادية في تلك
البيئة المظلمة بل هو معلوم النهاية من مطلع البداية فالحكم باسلامه رهين
الاقرار بالشهادتين وموقوف عليه فإن أقر ودان بكلمة الاسلام فنعم المطلوب و
إلا كان كافرا نجسا مهدور الدم هذا.
وقد تحصل من جميع ما قررناه في هذا المضمار أنه ليس الاسلام شيئا
سوى تسليم الانسان للشهادتين والاقرار بهما وسيجئ في الأبحاث الآتية مزيد
توضيح وما ينفع لهذا البحث إن شاء الله تعالى فانتظر.
158

حول انكار الضروري
ثم إنك قد علمت أنه يدخل في ضابط الكافر من أنكر ضروريا من
ضروريات الدين وإن كان بحسب الظاهر مسلما مقرا بالشهادتين وقد صرح
العلماء رضوان الله عليهم أجمعين بذلك كما قال المحقق في عبارته المتقدمة: و
ضابطه من خرج عن الاسلام أو من انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة الخ و
مثله أيضا كلمات الآخرين ولا خلاف في ذلك ظاهرا بل هو من المسلمات.
وإنما المهم هو أن انكار الضروري بنفسه ومن حيث هو سبب مستقل
للكفر تعبدا 1 أو لأنه كاشف عن إنكار النبوة وراجع إلى تكذيب النبي صلى الله

1. أقول: قال المحقق الهمداني في طهارته ص 566: أن القول بالسببية صريح بعض وظاهر
آخرين بل ربما استظهر من المشهور انتهى ولكنه رحمه الله خالف هذا الرأي وقال في ص
567: أنه لا دليل على سببية الانكار من حيث هو الكفر.
وقال في مفتاح الكرامة ج 1 ص 143: وهنا كلام في أن جحود الضروري كفر في نفسه أو
يكشف عن إنكار النبوة مثلا ظاهرهم الأول واحتمل الأستاذ الثاني قال فعليه لو احتمل وقوع
الشبهة عليه لم يحكم بتكفيره إلا أن الخروج عن مذاق الأصحاب مما لا ينبغي انتهى.
159

عليه وآله والعدول والانصراف عن الاقرار بالشهادتين وكونه نقضا لا قراره؟ و
قد تشعبت في ذلك أقوال المحققين وذهب إلى كل فريق والظاهر عندنا هو
الوجه الثاني ويمكن أن يقال: إن انكار الضروري بمجرده غير ملازم لتكذيب
النبي وانكار الشريعة توضيحه إن من كان بعيد الدار عن حوزة نفوذ الاسلام و
المسلمين وقاطنا في بلاد الكفر والالحاد فصادفه مسلم ودعاه إلى الاسلام ولقنه
الشهادتين فأثرت هذه الدعوة ونفذت فيه فأقر بالشهادتين ثم أمره المسلم
بالصلاة - التي لا شك في كونها ضرورية في الاسلام ولا مرية فيه أبدا - فأبى منها
وأنكرها أشد الانكار فهل ترى من نفسك أن انكار جديد اسلام مثل هذا
تكذيب للنبي والحال أنه بعد لا يعرف الضروري مفهومه، ومصاديقه، وعدده،
وليس عارفا بحقيقة الصلاة وعظمها ومبلغ اهتمام الشارع بها وهل يمكن
الحكم بكفره والحال هذه؟ اللهم إلا أن يقال إنها ليست ضرورية بالنسبة إليه
فإن الضروري الذي يكفر منكره هو ما ثبت عنده يقينا كونه من الدين.
وقد قيده بعضهم بما إذا لم يكن انكاره عن شبهة طارئة عليه وإلا فهو لا
يوجب الكفر وكأنه قيل: من أنكر الضروري عالما بكونه ضروريا فهو كافر لأن
الانكار مع هذه الخصوصية ملازم للتكذيب قهرا ولا ينفك عنه جدا.
لكن هذا أيضا لا يخلو عن المناقشة حيث إنه قد يتفق أن المنكر ينكر ما
يعلم كونه ضروريا بلا التفات أصلا إلى كون انكاره هذا تكذيبا للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم.
ويرد أيضا على قولهم برجوع الانكار إلى التكذيب أنه لو كان الملاك هذا
لجرى ذلك في كل ما علم أنه من الدين وإن لم يكن ضروريا فإن من الممكن
160

انكار حكم ثبت عند منكره أنه من الدين ويتحقق التكذيب بذلك مع عدم كونه
ضروريا فلو كان الملاك هو التكذيب فلماذا خصوا الضروري بالذكر وما وجه
التخصيص؟
والتحقيق أن انكار الضروري يتصور بحسب مقام الثبوت على ثلاثة
أنحاء:
الأول: الموضوعية في الحكم بالكفر فكما أنه يحكم بكفر من جحد إله
العالم وأنكر النبوة كذلك يحكم بكفر من أنكر ضروريا من ضروريات الدين
بمجرد انكاره نظير كون الاقرار بالشهادتين موضوعا للحكم بالاسلام وترتب
أحكامه على المقر بهما فمنكر الضروري كافر لا من حيث كفره الباطني وعلمنا
بأنه كافر واقعا بل هو كافر ولو لم نعلم حاله ولم يثبت لدينا كفره الباطني بل و
إن علمنا أنه كاذب في إنكاره وأنه مؤمن واقعا فعلى الموضوعية المحضة يحكم
عليه بالكفر لعلة انكار الضروري وحده إلا من اضطر إليه أو أكره عليه مع الايمان
الرصين كما قال الله تعالى في حكاية عمار " إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان. " 1
الثاني: أن يكون انكار الضروري موجبا للكفر لكونه كاشفا عن إنكار
الرسالة وتكذيب النبي الأمين ونقضا تفصيليا لما أقر به اجمالا فهما
كالمتلازمين عقلا وعلى هذا فلو شك في أنه مكذب واقعا واحتمل خلاف ما
نطق به مع أنه منتحل إلى الاسلام ومقر بالشهادتين فلا يكون انكاره سببا للحكم
بكفره نظير ما ورد من أن الحدود تدرء بالشبهات.
هذا إذا كان قد احتمل في حقه عدم التكذيب فكيف بما إذا علم أنه ليس
بمكذب وأنه ليس بصدد انكار الرسالة ولا يريد ذلك أصلا فهو ينكر أمرا خاصا

1. سورة النحل الآية 106.
161

سواء كان لأجل عدم علمه بكونه ضروريا أو لغير ذلك من الجهات.
الثالث: أن يكون موجبا للكفر لا بما هو موضوع له ولا بما هو كاشف
واقعي عنه بل من جهة الكشف التعبدي عنه فيكون نظير الطرق التي يعمل
بمقتضاها ويلغى معها احتمال الخلاف ما لم يقطع بخلافها كما إذا قامت البينة
على تذكية حيوان مثلا واحتمل عدم التذكية لجهة خارجية فإن هذا الاحتمال
ملغى في نظر الشارع، وعلى هذا فيحكم بكفر منكر الضروري ما لم يعلم ولم
يقطع منه عدم التكذيب سواء علمنا جزما أنه مكذب أو احتملنا ذلك في حقه
فإن انكاره طريق تعبدي يعمل على طبقه بلا اعتبار لاحتمال عدم إرادته
التكذيب فإنه ملغى ولا يؤثر في رفع الحكم بالكفر، ألا ترى أنه لو أقر مقر بالقتل
أو الدين فهو مأخوذ باقراره ولا يعتنى إلى احتمال إرادته خلاف ظاهر اقراره.
والحاصل: أنه إذا حكم بكفر منكر الصانع ومكذب الرسول فلا فرق فيه
بين الانكار صريحا أو بالدلالة الالتزامية ومعلوم أن منكر الضروري يكذب النبي
التزاما.
والفرق بين الاحتمالين الأخيرين - كالفرق بينهما وبين الاحتمال الأول -
لا يكاد يخفى على من لاحظ الوجهين فإن مقتضى الوجه الأول منهما الحكم
بكفره في صورة واحدة لأنه إذا احتمل في حقه عدم التكذيب أو قطع بذلك فلا
يحكم عليه بالكفر بخلاف الأخير منهما فإنه يحكم عليه بالكفر في صورتين
أعني ما إذا احتمل في حقه التكذيب وما إذا علم أنه مكذب فتبقى صورة واحدة
لا يحكم فيها بالكفر وهي ما ذا علم جزما أنه ليس مكذبا هذا.
وأما في مقام الاثبات فنقول:
أما الاحتمال الأول فاثباته غير ممكن إلا أن يكون هناك اجماع ويتمسك
القائل بالموضوعية، به بعد التتبع البالغ، والاستقصاء الكامل، والوقوف على
162

كلماتهم، وموافقتهم على ذلك.
ولكن لا يخفى أن استفادة ذلك من كلماتهم في غاية الاشكال فإنها
ليست على نسق واحد فترى أن بعضا منهم يقيد انكار الضروري بعدم شبهة
طارئة له ولا أقل من كون هذا البعض مخالفا فإنه لا يساعد كون الانكار كيف كان -
ولو عن شبهة بل ولو كان ناشيا عن الجهل المركب - سببا للحكم بالكفر.
وأما الاحتمال الثاني: فاثباته بدليل العقل بادعاء التلازم بين الانكار و
التكذيب، وهو غير بعيد.
وأما الثالث؟ وهو أقرب الاحتمالات فدليله الشرع، وهو الذي تعرب عنه
كلمات الأعلام، وعلى هذا فما كان من إنكار الضروريات مستلزما لتكذيب
النبي وكاشفا عنه، فانكاره موجب للكفر، ودليل كفره هو دليل كفر تكذيب
النبي فمنكر الضروري كافر، كما أن منكر الباري ومكذب النبي كافر، و
التفكيك بينهما، والقول بأن مكذب النبي كافر ولكن منكر الضروري ليس
بكافر في محل المنع وكيف لا والحال أنه أنكر حكما ثابتا من أحكامه وشعيرة
قطعية من شعائره.
إن قلت: إن هذا ينافي ما قاله العلماء من أن الالتزام بكل الأحكام ليس
واجبا.
نقول: لا تنافي بينهما أصلا فإن معنى كلامهم قدس الله أسرارهم عدم
وجوب الالتزام به تفصيلا لا مطلقا حتى الاجمالي منه فإنه واجب بلا كلام بل
الاقرار بالشهادتين هو الالتزام بالأحكام كلها اجمالا.
وعلى الجملة فلا شك في كفر من أنكر الضروري غاية الأمر أنه يعتبر فيه
الكشف عن كونه مكذبا كمن نشأ في بلاد الاسلام وعاش طوال حياته مع
المسلمين وحضر أنديتهم وشهد مجامعهم فإن تلك الأمور تلازم عادة علمه
163

بكون حكم كذا من أحكام الاسلام وضرورياته فلو أنكره فهو تكذيب لا محالة
أما لو كان ساكنا في بلاد الكفار أو قاطنا في البلدان النائية محروما ومبتعدا
عن مجالس المسلمين ومجالستهم، لا صلة له بهم: ولا رابطة بينه وبينهم، وكان
مسلما بعيدا عن حقائق الاسلام، بسيطا يجهل الآداب والمعارف الدينية، ولاحظ
له في الثقافة الاسلامية، قد أضله زنديق ولقنه مثلا بأن الصلاة الواجبة علينا هي
الدعاء لا الأركان المخصوصة، ولا يجب عند أوقات الصلاة سوى قراءة دعاء كذا
أو ذكر كذاك ناد عليا مظهر العجائب. فتأثر هذا المسلم البسيط بهذه الأباطيل
الفاضحة، والبدع والخرافات الواهية حتى أنكر الصلاة المعهودة، فإن انكاره
هذا ليس تكذيبا للنبي صلى الله عليه وآله وانكارا للشريعة ولا يوجب الكفر و
النجاسة، وهو بعد رجل مسلم، مؤمن بالله ورسله، وآياته وكتبه.
وبهذا البيان ترتفع المناقشة في المقام بأن المنكر للضروري ربما لا
يلتفت حين انكاره إلى كون انكاره تكذيبا للنبي وانكارا للرسالة المحمدية
صلى الله عليه وآله لأنا ذكرنا أنه يوجب الكفر للكشف التعبدي عن
التكذيب فإذا علمنا أنه غير ملتفت إلى ذلك فانكاره لا يوجب الكفر.
نعم يبقى المناقشة بعدم الفرق بين انكار الضروري وانكار غير الضروري
من الأحكام فإن الملاك لو كان هو التكذيب فهو جار في غير الضروري أيضا من
الأحكام المعلومة الصدور عن النبي كما إذا سمع حكما عن النبي أو الإمام فأنكره
فهو تكذيب له ويصير كافرا بذلك مع أن الحكم ليس بضروري.
لكن الانصاف أن بينهما فرقا واضحا وهو أنه في الضروري يحكم عليه
بالكفر لكونه مكذبا فلا حاجة إلى شئ آخر غير نفس الانكار بخلاف غير
الضروري فإن انكاره بمجرده لا يوجب الكفر لعدم كشفه عن التكذيب فربما
يكون منكرا له وإذا قلنا له أنكرت حكم الاسلام يعتذر بأن النبي لم يقل بذلك
164

فهذا في الحقيقة تكذيب لنا لا للنبي فاثبات كونه مكذبا منوط بأمر آخر وهو
اقراره بنفسه واعترافه بأنه يكذب الرسول صلى الله عليه وآله.
وبعبارة أخرى المدار في الحكم غير الضروري على حصول العلم بأن
المنكر مكذب للنبي ومنكر للرسالة بخلاف الضروري فإنه بنفسه دال على ذلك.
لكن يبقى اشكال آخر في المقام وهو أن العلماء رضوان الله عليهم أجمعين
مع تقييدهم انكار الضروري بعدم كونه ناشئا عن الشبهة كما هو الحق أطلقوا
المثال فإنهم مثلوا لمنكر الضروري بالغلاة والخوارج من دون تقييدهم المثال
بعدم الشبهة كما رأيت ذلك في عبارة المحقق التي ذكرناها سابقا والحال أن
الغلو في حق الأئمة عليهم السلام أو الخروج عليهم ربما ينشئان عن الشبهة أيضا،
والولاية أو الوصية مع أنها من الأمور الثابتة العريقة في الاسلام التي نص عليها
القرآن العظيم، وأكد عليها النبي الكريم صلى الله عليه وآله شديدا، والمودة
المفروضة في القرآن لا غبار عليها ولا ارتياب، ووجوب احترامهم وحرمة
إهانتهم مما نطق به الكتاب، قال الله تعالى: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة
في القربى " 1 إلى غيرها من الآيات كآية يوم الغدير 2 إلا أنها مع ذلك كله قابلة لأن
يشتبه فيها الأمر على بعض التابعين أو تابعي التابعين ممن لم يدركوا عصر
رسول الله الذهبي لا سيما بلحاظ موقعية أمر الولاية الخطيرة وأهميتها الخاصة و
وجود دواع كثيرة - من الحكام المخالفين للعترة الزاكية ومهابط الوحي - على
تشويه الأمر وتلبيسه على الناس وابعادهم عن ولي الله علي عليه السلام
والطاهرين من ذريته، وخذلان العترة الطاهرة، بشتى الوسائل، ومن ثم لم يدعوا

1. سورة شورى الآية 23.
2.: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من
الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين "، سورة المائدة الآية 68 " اليوم أكملت لكم دينكم و
أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " سورة المائدة الآية 3.
165

أي فرصة في ذلك.
أما كان معاوية الطاغية يدعو الناس دائما على الاعراض عن أمير المؤمنين
؟ ألم يكن يتهمه بأنواع الاتهامات حتى قال إنه لا يصلي؟ فكل من سبر تأريخ
الاسلام يعرف ويعلم أن دين معاوية وديدنه هو القاء ما يمس كرامة ساحة أهل
البيت وما ينفي محاسنهم لا سيما بالنسبة إلى الإمام علي عليه السلام فلم يزل
دائبا على الوقيعة فيه والحط من كرامته والصاق كل تهمة به وبذل كل جهده و
امكانياته في ذلك وكان بنفسه قد أفصح بلسانه وأعرب بلفظه عن عقيدته
المشئومة التي هي القاء بذر عداوة وصي الرسول في قلوب الأمة الاسلامية بقوله
- في جواب قوم من بني أمية قالوا له: إنك قد بلغت ما أملت فلو كففت عن لعن
هذا الرجل -: لا والله حتى يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكر
فضلا 1 وكان ذلك أسلوبه حتى أن هلك ومات فآل الأمر إلى أن ظهر النصب و
العداوة في عصره وانتشر بغض على وغيره من آل محمد في أيامه، وتقرب
الناس بذم آل الرسول طلبا لرفده وعطاياه، وطمعا في صلته وجوائزه، أو خوفا
من قتله ونهبه وأسره وتنكيله فراجع التاريخ.
ونزيد على ذلك سؤالا آخر وهو أنه أما ورد في التاريخ تقديم نذور
عديدة وقرابين كثيرة من فلان وفلان عند قتل الحسين عليه السلام؟ 2 ألم يبنوا
مساجد فرحا بقتل سيد الشهداء؟ 3

1. شرح نهج البلاغة الحديد ج 4 ص 57.
2. أقول روى المسعودي في مروج الذهب ج 3 ص 152 وابن أبي الحديد في شرح النهج ج 4
ص 61 أن عبد الله بن هاني وهو رجل من أود قال عند ذكر مفاخره لحجاج: وما منا امرأة إلا
نذرت إن قتل الحسين أن تنحر عشر جزائر لها ففعلت قال الحجاج: وهذه والله منقبة.
3. أقول: في الوسائل ج 3 الطبع الحديث ص 520: عن أبي جعفر عليه السلام قال: جددت أربعة
مساجد بالكوفة فرحا لقتل الحسين عليه السلام مسجد الأشعث ومسجد جرير ومسجد سماك و
مسجد شبث بن ربعي لعنهم الله.
166

وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يتأثر البعض في هذه الأجواء المظلمة
بتلك المفاهيم الخاطئة والالقاءات المضلة ويقطع بها ويتداخل بغض علي
عليه السلام في قلبه، وهل يمكن القول بأن كل ما وقع وما صدر عن الناس بعد
قتل الحسين من الفرح والسرور، والصدقات والنذور، كان عن تفهم وشعور؟.
ومجمل الكلام إن كثيرا منهم ولا أقل من بعضهم كان قد اشتبه عليه الأمر
فقال ما قال وأتى بما أتى في تلك الظروف الخاصة، وعلى هذا فكيف يطلقون
كفر الخوارج مثلا مع أنهم ربما يقيدون انكار الضروري الموجب للكفر بعدم
كونه عن شبهة فإن ظاهر اطلاق المثال يعرب عن موضوعية الانكار في اقتضاءه
الكفر كانكار الصانع، والحال أن مقتضى ظاهر تقييد بعض انكار الضروري بعدم
الشبهة، طريقته للتكذيب.
وقد تصدى علم التحقيق والتقى الشيخ المرتضى قدس سره للجواب عنه
وملخص كلامه أن الاسلام شرعا وعرفا عبارة عن التدين بهذا الدين الخاص
الذي يراد منه مجموع حدود شرعية منجزة على العباد كما قال الله تعالى: " إن
الدين عند الله الاسلام. " فمن خرج عن ذلك ولم يتدين به كان كافرا غير مسلم
سواء لم يتدين به أصلا أو تدين ببعضه دون بعض أي بعض كان. ثم استشهد
بصحيحة أبي الصباح الكناني 1 وقال بعد ذلك: فهذه الرواية واضحة الدلالة على أن التشرع بالفرائض مأخوذ في الايمان المرادف للاسلام كما هو ظاهر السؤال و
الجواب. ثم ذكر مكاتبة عبد الرحيم 2 وصحيحة عبد الله بن سنان 3 وأشار بعدها
إلى رواية مسعدة بن صدقة 4 ثم ذكر صحيحة بريد العجلي 5 وقطعة من رواية

1. الكافي ج 2 ص 33 الحديث 2.
2. وسائل الشيعة ج 1 ب 2 من أبواب مقدمة العبادات ح 18.
3. وسائل الشيعة ج 1 ب 2 من أبواب مقدمة العبادات ح 10.
4. وسائل الشيعة ج 1 ب 2 من أبواب مقدمة العبادات ح 11.
167

سليم بن قيس الهلالي وأشار بعدها إلى روايات أخر دالة أيضا على كفر منكر شئ
من الدين واستثنى - تبعا للأخبار الواردة - الجاهل بالحكم.
ثم حمل ما دل من النصوص والفتاوى على كفاية الشهادتين في الاسلام
على حدوث الاسلام بهما ممن ينكرهما من غير منتحلي الاسلام إذ يكفي منه
الشهادة بالوحدانية والشهادة بالرسالة المستلزمة للالتزام بجميع ما جاء به النبي
وتصديقه في ذلك اجمالا وهذا لا ينافي كون عدم التدين ببعض الشريعة أو
التدين بخلافه موجبا للخروج عن الاسلام.
ثم قسم عدم التدين ببعض الشريعة أو كلها الذي هو سبب في الخروج عن
الدين إلى أقسام فقد يرجع إلى عدم الانقياد لله بأن يعلم مجئ النبي به ويعلم
صدقه في ذلك إلا أنه لا يتدين بذلك عصيانا بحيث لو أوجب الله عليه ذلك من
غير واسطة لأبي عنه وامتنع نظير كفر إبليس لعنه الله وقد يرجع إلى إنكار صدق
النبي كمن أنكر شيئا من الدين مع علمه بأن النبي جاء به، وصرح رضوان الله عليه
بعدم الاشكال في كفر هذين القسمين إلا أن تكفيرنا له متوقف على علمنا بعلمه
المذكور سواء نشأ علمنا من الخارج أو من جهة اقراره أو من جهة كون المنكر -
بالفتح - ضروريا لا يخفى على مثل هذا الشخص الذي نشأ بين المسلمين فعلمنا
من ذلك بضرورية المنكر - بالفتح - لا دخل له في كفر المنكر، وإنما له دخل في
تكفيرنا إياه، حيث إنه لا سبيل لنا غالبا إلى العلم بعلم المنكر إلا من جهة كون
المنكر - بالفتح - مما لا يخفى على مثل المنكر ممن نشأ بين المسلمين. وقد لا
يرجع انكاره إلى شئ من العنوانين كمن أنكر شيئا من الدين بدعوى عدم مجئ
النبي به أو مجيئه بخلافه، بحيث يعلم أو يحتمل أن ذلك ليس لأجل تكذيب
النبي، كما أن كثيرا من الخوارج والنواصب والمتدينين ببعض ما هو مخالف

1. الكافي ج 2 ص 397 باب الشرك ح 1.
168

لضروري الدين من هذا القبيل أو ظنا أو احتمالا بل ربما يعدون المخالف له
خارجا عن الدين فيتقربون إلى الله ببغضه وعداوته.
قال رحمه الله: فاللازم على من استند في كفر منكر الضروري إلى رجوع
انكاره إلى تكذيب النبي أن لا يحكم بكفرهم من غير تفرقة بين كون هذا الانكار
ناشئا عن قصورهم أو عن تقصيرهم غاية الأمر مؤاخذة المقصر على ترك التدين
بما أنكره له كان انكاره متعلقا بالعقائد كالمعاد ونحوه وإلا فالعمليات لا عقاب
فيها إلا على ترك العمل فمنكر حرمة الخمر لا دليل على عقابه إلا على نفس
شرب الخمر لو شربها لعدم قصد الشارع إلى التدين تفصيلا بالأحكام العملية أولا
وبالذات.
ثم قال: لكن الانصاف أن هذا القول مخالف لظاهر كلمات الفقهاء في
حكمهم بكفر منكر الضروري على الاطلاق بل مقابلته لانكار الرسالة وفي
حكمهم بكفر الخوارج والنواصب معللين بانكارهم للضروري مع ما هو
المشاهد من كثير من هذا الفرق الخبيثة وأنهم يتقربون إلى الله بذلك ولا يحتمل
في حقهم رجوع انكار هم لحق أمير المؤمنين والأئمة صلوات الله عليهم إلى إنكار
النبي وتكذيبه مضافا إلى مخالفته لاطلاقات الأخبار المتقدمة في حصول الكفر
باستحلال الحرام وتحريم الحلال... مع ما عرفت من أن عدم التدين ببعض
الدين يوجب الخروج عن الدين.
أقول: إنه قدس سره عدل في هذه القسمة من كلامه عما ذهب إليه - من
التفصيل بين موارد الانكار وأقسامه والحكم بعدم كفر الثالث منها - ومال إلى ما
حققه أولا من أن عدم التدين ولو بحكم من الأحكام يوجب الكفر إلى أن قال: و
الحاصل أن المنكر للضروري الذي لا يرجع انكاره إلى إنكار النبي إما أن يكون
قاصرا وإما أن يكون مقصرا وعلى التقديرين فإما أن يكون الضروري الذي
169

أنكره اعتقادا من العقائد كالمعاد وإما أن يكون فعلا كالالقاء المصحف في بعض
الأمكنة وإما أن يكون قولا كسب النبي وإن كان الفاعل يعتقد كون ذلك حراما
في الشريعة إذ ليس المأخوذ في الدين التدين بحكمه بل التدين بترك عمله فهذه
أقسام ستة. ظاهر اطلاق النصوص والفتاوى خصوصا اجماعهم على كفر
الخوارج والنواصب مستدلين بانكارهم للضروري حيث إن عموم كلامهم
للقاصر والمقصر من هذا الفرقة الخبيثة ليس بأولى من عمومه للقسمين من
اليهود والنصارى، الحكم بكفر جميعهم...
ثم رجع وعدل عما ذكره وقال: إلا أن الانصاف أن في شمول الأخبار
المطلقة المتقدمة الدالة على حصول الكفر بالاستحلال للقاصر نظرا ظاهرا ومنع
وجود القاصر في الكفار كلام آخر وأما نجاسة الخوارج والنواصب فنمنع كونها
لمجرد الانكار للضروري فلعله لعنوانهما الخاص بل لا يستفاد من الأخبار إلا
ذلك كما في اليهود والنصارى فيكون ولاية الأمير والأئمة صلوات الله عليهم
بمعنى محبتهم كالرسالة في كفر منكرها من غير فرق بين القاصر والمقصر ولو
سلم ما ذكر من الاطلاق فإنما هو في العقائد الضرورية المطلوبة من المكلفين
التدين بالاعتقاد بها دون الأحكام العملية الضرورية التي لا يطلب فيها إلا العمل
فالأقوى التفصيل بين القاصر وغيره في الأحكام العملية الضرورية دون العقائد
تمسكا في عدم كفر منكر الحكم العملي الضروري بعدم الدليل على سببيته
للكفر مع فرض عدم التكليف بالتدين بذلك الحكم ولا بالعمل بمقتضاه. إلى
آخر كلامه زيد في علو مقامه.
وقد علمت بأنه قال بأن كفر الخوارج والنواصب ليس من باب انكار
الضروري بل لأجل عنوانهما الخاص وعلى هذا فلا يرد الاشكال على العلماء في
عدم تقييد مورد التمثيل وهو الخوارج والغلاة مثلا بعدم الشبهة لأن الوصف.
170

العنواني موجب لترتب الحكم بالكفر مطلقا.
وقد تحصل من كلامه أنه فصل بالآخرة في الضروريات بين العقائد و
الأحكام العملية فحكم في الأولى بأن انكارها سبب للكفر مطلقا وفي الثانية
بالتفصيل بين كون الانكار عن قصور أو عن تقصير والثاني محكوم بالكفر دون
الأول.
ونحن نقول: إن ما ذهب إليه واختاره في رفع الاشكال - من كون العنوان
موجبا للكفر - وجه غير بعيد وبه يرتفع الاشكال ومع ذلك فسيجئ منا وجه في
أن اطلاقهم القول بكفر منكر الضروري غير مناف للتقييد في كلمات بعضهم
فانتظر.
ثم إن من كلامه الشريف مواقع للنظر ينبغي لنا التعرض لها.
فمنها أنه قدس سره أصر شديدا على القول بكون الاسلام هو التدين
بمجموع الدين واستشهد على ذلك بما أشرنا إليه من الأخبار وهو وإن استشكل
في أثناء كلامه ومطاوي تحقيقاته في هذا الاطلاق أعني كفر مطلق من جحد شيئا
ضروريا من الدين إلا أنه بالآخرة اعتمد عليه ولم يستثن منه سوى منكر الحكم
العملي قاصرا فكل من سواه داخل تحت الاطلاق سواء كان منكرا للعقائد قاصرا
ومقصرا أو منكرا للحكم العملي تقصيرا.
والحال أن استظهار كون الدين هو مجموع الحدود الشرعية - من الأخبار -
وأن انكار أي واحد منه موجب للكفر مشكل - وسنبين ما يستظهر من الروايات
إن شاء الله تعالى - والالتزام به لو سلم استفادته أشكل بل يمكن ادعاء كون ذلك
مخالفا للاجماع فإن لازم التمسك بهذا الاطلاق هو كفر منكر كل حكم لو كان
عن تقصير وإن لم يكن ضروريا فإن الروايات قد تتضمن ما لا يكون ضروريا
أيضا وعلى هذا فمن استنبط غلطا لتقصيره في مقدمات الاستنباط مثل إن عمل
171

بالقياس وتمسك به أو لم يتتبع كاملا في مقام الاجتهاد يكون كافرا وهذا مما لا
يمكن الالتزام به اللهم إلا أن يقيد الأحكام العملية بكونها ضرورية واستنبط
غلطا عن تقصير.
لكن يبقى الايراد عليه بأنه ما الفرق بين الضروري وغيره فإن كنتم
تفرقون بينهما لأن انكار الضروري يوجب التكذيب ومستلزم له دون غير
الضروري.
ففيه أنه لا تكذيب أصلا مع عدم العلم كما هو المفروض، فمن الممكن
إن هذا المنكر لو ارتفع جهله وعلم بأن النبي قال به لقبله وأقر به وخفض جناح
الذل تجاه قول رسول الله ورسالته الخالدة.
ومنها أنه قدس سره علل عدم كفر منكر الحكم العملي الضروري بعدم
الدليل على سببيته للكفر مع فرض عدم التكليف بالتدين بذلك الحكم ولا
بالعمل بمقتضاه لأنه المفروض. وعلى هذا فلو أنكر أحد، جهلا وجوب الصلاة
أو غيرها فهو غير مكلف بالتدين به وإذا لم يكن مكلفا فلا يعاقب بتركه لعدم
التكليف به فكيف يمكن الحكم بكفره بذلك والحال هذه؟ فقد تمسك قدس
سره بأنه لا يمكن عقلا أن يكون غير مكلف وغير معاقب ومع ذلك يحكم عليه
- لأجل هذا الحكم الذي لا يوجب عقابا - بالكفر.
وفيه أن هذا بمكان من الامكان فلو دل دليل على الكفر مع عدم
التكليف والعقاب فلا استبعاد عقلا بل هو واقع ومحقق كما اعترف هو بنفسه
في صورة انكار الضروري الاعتقادي جهلا كمن كان قد ولد في جزيرة بعيدة و
نشأ فيها بعيش بسيط انفرادي ولم ير أحدا ولم يشعر بأن للعالم إلها وصانعا فهو
غير معاقب لعدم التقصير مع أنه كافر لعدم اقراره بالشهادتين ومجمل الكلام أنه
من الممكن في مفروض الكلام كونه غير مكلف ومع ذلك يكون كافرا، ولا
172

وجه للاستبعاد فيه إلا أنه لم يقم عليه دليل وقد ذكرنا أنه لو دل عليه دليل فهو في
نفسه غير بعيد.
ثم إنك قد علمت أن الشيخ المرتضى جمع بين أخبار الشهادتين والأخبار
المطلقة الدالة على كفر منكر حكم من الأحكام: بحمل الأولى على مورد
حدوث الاسلام ممن كان ينكره، والأخذ باطلاق الأخبار الأخر والحكم بأن
انكار مطلق الأحكام موجب للكفر إلا الحكم العملي إذا كان انكاره عن قصور
عندما كان معتنقا للدين.
وللفقيه الهمداني قدس سره طريق آخر للجمع بين تلك الأخبار أعني
روايات كفر منكر شئ من الأحكام وروايات الشهادتين قال: ويتوجه على
الاستدلال بمثل روايات بعد الغض عما في بعضها من الخدشة إن استحلال
الحرام أو عكسه موجب للكفر من غير فرق بين كونه ضروريا أو غيره بل بعضها
كالصريح في الاطلاق وحيث لا يمكن الالتزام باطلاقها يتعين حملها على إرادة
ما إذا كان عالما بكون ما استحله حراما في الشريعة فيكون نفي الإثم عن نفسه و
استحلاله منافيا للتدين بهذا الدين ومناقضا للتصديق بما جاء به سيد المرسلين
فيكون كافرا سواء كان الحكم في حد ذاته ضروريا أم لم يكن (إلى قال:)
والحاصل أنه لا يفهم من هذا الأخبار اعتبار عدم انكار شئ من الأحكام
الضرورية من حيث هو وإن لم يكن منافيا لتصديق النبي في جميع ما جاء به
اجمالا في مفهوم الاسلام المقابل للكفر حتى يتقيد به الأخبار الواردة في
تفسير الاسلام الخالية عن ذكر هذا الشرط مثل ما رواه في الكافي عن سماعة قال:
قلت لأبي عبد الله: أخبرني عن الاسلام والايمان أهما مختلفان؟ فقال: إن
الايمان يشارك الاسلام والاسلام لا يشارك الايمان فقلت فصفهما لي فقال:
الاسلام شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله صلى الله عليه وآله به حقنت
173

الدماء وجرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره جماعة الناس والايمان الهدى
وما يثبت في القلوب من صفة الاسلام إلى غير ذلك من الأخبار الدالة عليه انتهى.
وحاصل كلامه رضوان الله عليه إن تلك الأخبار مطلقة في تحقق الكفر
بانكار أي حكم من الأحكام ضروريها وغير ضروريها لكن لا يمكن الالتزام
بهذا الاطلاق ولذا يحمل على ما إذا كان عالما بأنه حرام في الشرع ومع ذلك أحله
فإن هذا التصرف والتدين خلاف التدين بالاسلام فيحكم بكفره.
وفيه أن الروايات بعد عدم امكان الأخذ بظاهرها كما اعترف به تصير
مجملة لدوران الأمر بين تقييد الظاهر بالعلم أو بالضروري وإذا صارت مجملة
فلا يمكن التمسك بها لاشتراط الدليل بكونه صريحا ولا أقل من كونه ظاهرا.
وهنا وجه ثالث للجمع بين الأخبار يغاير ما قاله شيخنا المرتضى و
كذا الهمداني وقد قاله بعض وهو أنه ليس الكافر في هذا الروايات بمعناه
المصطلح، بل هو بمعنى العاصي، وعلى هذا فالمنكر لشئ من الأحكام مطلقا
عاص الله سبحانه.
وفيه أنه خلاف الظاهر جدا.
هذا مضافا إلى عدم مساعدة ذلك لما ورد في روايات أخرى كصحيحة
عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام: من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنها
حلال أخرجه ذلك عن الاسلام وعذب أشد العذاب وإن كان معترفا أنه أذنب و
مات عليه أخرجه من الايمان ولم يخرجه من الاسلام وكان عذابه أهون من
عذاب الأول. 1
ألا ترى أنه قد تعرض لصورة الفسق على حدة في قبال المرتكب
المستحل المحكوم عليه بالكفر.

1. الكافي ج 2 ص 285 الحديث 23.
174

ولنا في هذا المقام بيان في وجه الجمع بينها لا يرد عليه هذه الايرادات و
هو أن الظاهر من تلك الروايات وتعبيراتها الخاصة وكيفية الخطاب والعتاب
الواردين فيها أنها واردة في المستحل للحرام أو المحرم للحلال عالما عامدا فمن
كان عالما بحرمة الخمر ومع ذلك قال بحليته فهو كافر قطعا وهو في الحقيقة
مبدع في الدين نظير ما ورد في الروايات في من يأكل الربا ويسميه اللبا 1.
فهذه الأخبار غير مربوطة بالجاهل أصلا ألا ترى أنه قد يعبر في بعضها
بالجحد؟ ومن المعلوم أن الجحود هو الانكار مع العلم. وبعبارة أخرى: لا يطلق
الكافر على من استحله جهلا فهذا التعبير أي الجحود يشهد بورود الروايات في
شأن العالم بالخلاف وعلى هذا فليس مستحل الخمر عن جهل كافرا بل إنه
يعاقب على ترك التعلم. ويقال له - كما في الروايات - هلا تعلمت. 2
وعلى الجملة فالذي استظهر منها هو أنها واردة في الانكار عن علم و
متعرضة له ولمن أنكر عالما ولا أقل من كونه المتيقن منها وعلى هذا فليس
المنكر عن جهل أو عن شبهة كافرا نعم هذا كله في الأحكام والفرائض وأما
الأصول الاعتقادية فانكارها موجب للكفر مطلقا.
وأما اطلاق كلام بعضهم في كفر منكر الضروري فهو غير ضائر لأنه ناظر
إلى نوع المنكرين وغالبهم، ووارد بحسب حال الأكثر، من علمهم بالحكم
الضروري فإن الحكم إذا كان ضروريا فقلما يتفق أن لا يكون معلوما للناس فيؤول

1. ولفظ الخبر هذا: عن ابن بكير قال: بلغ أبا عبد الله عليه السلام عن رجل أنه كان يأكل الربا و
يسميه اللبا، فقال: لئن أمكنني الله منه لا ضربن عنقه وسائل الشيعة ج 12 ص 429 الباب 2 من
أبواب الربا، ح 1 ثم لا يخفى أن اللبا هو اللبن الأول الذي يناط به حياة الولد على ما قيل.
2. عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام وقد سئل عن قوله تعالى. " فلله
الحجة البالغة " فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالما؟ فإن قال: نعم. قال
له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلا قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه،
فتلك الحجة البالغة. أمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 8.
175

قولهم بكفر منكر الضروري إلى كفر من أنكره عالما بأنه حكم شرعي إلهي.
ومجمل القول إن هذا الاطلاق لا ينافي التقييد أصلا وإن كان صرف النظر
عن اطلاق كلمات العلماء في مثل منكر الصلاة والصيام والحج والجهاد مشكل
جدا، وعلى هذا فلا يعتبر في الحكم بكفر منكر مثل هذا الأحكام رجوع انكاره
إلى تكذيب النبي أو كون المنكر عالما فإن ظاهر كلامهم كفره على أي حال.
ولكن يمكن أن يقال إن اطلاقهم محمول على أن هذه الأمور ضرورية
واضحة للكل بمعنى أن ادعاء الجهل فيها غير مسموع ناشئا عن جهل أو شبهة
فيمكن أن لا يكون مستندا إلى إنكار الضروري بل كان الوصف العنواني عنوانا
خاصا للكفر نظير عنوان اليهودية والنصرانية على ما أفاده علم التقى الشيخ
المرتضى قدس سره الشريف.
لكن هذا منوط بعدم كون الولاية بمعناها الخاص أعني الوصاية الخاصة و
الخلافة بلا فصل وزعامة الأمة الاسلامية بعد النبي الأقدس صلى الله عليه وآله 1 بل بمعنى
وجوب المحبة وود العترة الطاهرة الزاكية فإنه أمر قطعي كالرسالة ومن
ضروريات الدين الاسلامي التي لا تقبل الجدل والشك ويعترف بها الفريقان
حيث إن أهل السنة أيضا على كثرتهم وتفرقهم واختلاف نحلهم وآرائهم -
إلا الخوارج والنواصب - معترفون بعظمة مقام علي عليه السلام وعلو شأنه ورفعة
مناره وكونه من العشرة المبشرة 2 بل هو عند بعضهم أفضل أصحاب الرسول و

1. أقول: إذا بنينا على عدم استناد كفرهما إلى إنكار الضروري فلا معنى لقولنا: لكن هذا منوط الخ
لأنه يساعد الاستناد إلى إنكار الضروري فتأمل.
2. أخرج أبو داود من طريق عبد الرحمن الأخينس أنه كان في المسجد فذكر رجل عليا عليه السلام
فقام سعيد بن زيد فقال: اشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله أني سمعته وهو يقول:
عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعثمان في الجنة، وعلى
في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بين العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، و عبد الرحمن
بن عوف في الجنة، ولو شئت لسميت العاشر قال: فقالوا: من هو؟ فسكت قال: فقالوا: من هو؟
فقال: هو سعيد بن زيد وبهذا الاسناد أخرجه الترمذي في جامعه / 13: 183، 186 وابن
الديبع في تيسير الوصول 3: 260، ذكره بالطريقين المحب الطبري في الرياض النضرة 1: 20
راجع الغدير ج 10 ص 118.
176

أعلمهم.
إن قلت هنا اشكال وهو أنه لو كان انكار الضروري موجبا للكفر بملاك
تكذيب النبي فكيف لا يحكم بكفر من رد المتعتين معربا عن ذلك بقوله: متعتان
محللتان كانتا في زمن رسول الله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما 1 كما أنه قال عند
نزول آية حج التمتع معترضا على ذلك: نحج ورؤوسنا تقطر 2 فاستهجن واستبعد
توجه الناس إلى الحج واحرامهم به والحال أن رؤوسهم تقطر ماء الغسل عن
مجامعة النساء بعد الفراغ عن العمرة كما أنه يرد هذا الاشكال في مورد عثمان
أيضا فإنه أمر مناديه في الحج ينادي: اجعلوها حجة وخالفه أمير المؤمنين ورفع
صوته لبيك بحجة وعمرة معا لبيك وقد صرح عثمان في هذه القضية في جواب
اعتراض علي عليه السلام وايراده في ذلك بأن: هذا رأي رأيته 3.

1. ضبط العبارة على نقل صحيح مسلم ج 1 ص 395 وسنن البيهقي ج 7 ص 206 - على ما حكاه
الغدير ج 6 ص 210 - هكذا: كانتا متعتان على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاتب عليهما
متعة النساء... والأخرى متعة الحج. وفي شرح ابن أبي الحديد ج 1 ص 182 متعتان كانتا على
عهد رسول الله وأنا محرمهما ومعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج.
2. أقول: في الوسائل ج 8 ص 25 من أبواب أقسام الحج: محمد بن علي بن الحسين قال: نزلت
المتعة على النبي عند المروة بعد فراغه من السعي فقال: أيها الناس هذا جبرئيل - وأشار بيده إلى
خلفه - يأمرني أن آمر من لم يسق هديا أن يحل ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما
أمرتكم ولكني سقت الهدي وليس لسائق الهدي أن يحل حتى يبلغ الهدي محله فقام إليه سراقة
بن مالك بن جعشم (خثعم) الكناني فقال: يا رسول الله علمنا ديننا فكأنما خلقنا اليوم أرأيت
هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أو للأبد؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله: لا بل لا بد الأبد وأن رجلا قام
فقال: يا رسول الله نخرج حجاجا ورؤوسنا تقطر؟ فقال: إنك لن تؤمن بهذا أبدا...
3. في الوسائل ب 21 من أبواب الاحرام ح 7 عن الحلبي عن أبي عبد الله قال: إن عثمان خرج
حاجا فلما صار إلى الأبواء أمر مناديا ينادي بالناس: اجعلوها حجة ولا تمتعوا فنادى المنادي
فمر المنادي بالمقداد بن الأسود فقال... فلما انتهى المنادي إلى علي عليه السلام وكان عند
ركائبه يلقمها خبطا ودقيقا فلما سمع النداء تركها ومضى إلى عثمان وقال: ما هذا الذي أمرت
به؟ فقال: رأي رأيته فقال: والله لقد أمرت بخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله ثم أدبر
موليا رافعا صوته: لبيك بحجة وعمرة معا لبيك...
177

فهل لم تكن هذه من الضروريات أو كانت ضرورية إلا أن الإمام
عليه السلام كان في تقية من الحكم بالكفر أو أن الحكم مع كونه ضروريا إلا أنه
غير موجب للكفر لكونه حكما عمليا والموجب للكفر هو انكار الضروري من
الأصول أو غير ذلك، وجوه واحتمالات؟
والحق أن المتعتين تعتبران من ضروريات المذهب - أي مذهب الشيعة -
لا من ضروريات الدين وهذا غير مستلزم للتكذيب وانكار الرسالة كما في كل
ضروري كان قابلا لأن يأوله أحد أو يرى فيه مجالا لأعمال الرأي والنظر بل و
انكاره من رأس أو الاعتذار بكونه حكما موقتا زال وقته وانقضى أجله فإن ما
كان كذلك وإن كان ضروريا إلا أنه ضروري في حوزة محدودة لا في حوزة
الاسلام وانكار ضروري الاسلام هو الذي يوجب الكفر والخروج عن الدين و
يشهد على هذا تصريح عثمان بأن هذا رأي رأيته الظاهر في أنه كان يرى في
ذلك مجالا للرأي والاجتهاد ويحتمل أنه كان تصرفه من باب حكومة الحاكم
بزعمه حيث كان عثمان في ذاك الوقت متصديا للخلافة الاسلامية وعاهلا
لحوزة المسلمين.
وصفوة القول هنا أنه قد يكون الضروري يحث يتفق عليه كلمة
المسلمين على اختلاف شعبهم وكثرة أغصانهم فهذا هو الذي يقتضي انكاره
التكذيب ويترتب عليه الحكم بالكفر والنجاسة كوجوب الصلاة وصوم شهر
رمضان وقد لا يكون كذلك بل هو في حد يمكن أن يذعن به تابعو مذهب و
ينكره الآخرون كما في قضية المتعتين، وانكار هذا القبيل من الضروري الذي
178

يكون ضروريا في إطار خاص وحوزة محدودة غير موجب للتكذيب فلا يترتب
على إنكاره الحكم بالكفر. 1
كلمة في معيار الضروري
بقي الكلام هنا في ملاك الضروري - ولا بد من معرفته وتميزه عن غيره
كي لا يتبادر بتكفير مسلم أو الحكم باسلام من خرج عن الاسلام - فنقول: إنه ليس
له اصطلاح خاص وراء اصطلاحه الجاري في المنطق فأهل المنطق قسموا
القضايا إلى قسمين: نظرية، وضرورية.
والأولى: هي ما يحتاج اثباته إلى دليل وبرهان ولا يمكن التصديق به
بدون ذلك نظير قولنا: العالم حادث. فإنه مترتب على تشكيل قياس وترتيب
صغرى وكبرى حتى يحصل الجزم به والحكم بحدوث العالم.
وأما الثانية: أعني الضرورية من القضايا فهي ما لا حاجة في اثباته إلى
ترتيب قياس وإقامة دليل وبرهان مثل قولنا: النار حارة وعلى هذا فكل حكم
اعتقادي أو عملي في الاسلام الذي لا حاجة لنا في اثبات كونه من الاسلام وأنه
من برامجه إلى دليل فهو ضروري نظير الصلاة بل ومثل الختان فإنه في الشريعة
الاسلامية من الأمور التي صارت ضرورية الثبوت يعلم كل من دخل في حوزة
الاسلام بل وغير المسلمين أيضا أنه من دين النبي صلى الله عليه وآله ومن

1. يؤيد ما أفاده دام ظله العالي كلام المحقق القمي في القوانين وإليك نصه: اعلم أن ضروري
الدين كما يستلزم انكاره الخروج عن الدين فضروري المذهب أيضا يستلزم انكاره الخروج عن
المذهب، وهنا دقيقة لا بد أن ينبه عليها وهو أن ضروري الدين قد يختلف باعتبار المذهب
فيشتبه ضروري الدين بضروري المذهب كما لو صار عند الشيعة وجوب مسح الرجلين ضروريا
عن النبي فانكاره من الشيعة انكار لضروري الدين بخلاف مخالفيهم فتأمل انتهى كلامه.
179

خصائص المسلمين يترددون في اسلام من لم يكن مختونا أو يحكمون بكفره
فالمسلم وغير المسلم يعلم شدة اهتمام الشارع على هذه السنة ولهذا قد يتفق أن
المسيحي يريد أن يعتنق الاسلام فيحاسب نفسه أولا أنه يمكنه التسليم حذاء
اجراء هذه السنة القطعية عليه فحينئذ يتشرف بقبول الاسلام واعتناقه أم لا
يمكنه ذلك ولا يرى من نفسه التهيؤ للختان ويثقل عليه ذلك فهناك يرجع و
ينصرف عما أراده من قبول الاسلام.
180

الكلام في الارتداد وأحكام المرتد
ثم إن المسلم المقر بكلمة الاسلام أي الشهادتين لو أقر على نفسه
بالخروج عن الاسلام أو تفوه بكلمة كاشفة عن عدم اعتقاده بما وجب الاعتقاد به
ضرورة، أو أتى بما ينافي اعتناقه بالاسلام، مثل أنه أحدث في المسجد الحرام أو
ألقى المصحف الشريف في المقذر فإنه يرتد بذلك ومن هذا الباب الاستهزاء
بالاسلام أو بشئ من مسلماته أو الاستهانة بمقدساته كسب النبي صلى الله عليه و
آله وسلم، وعلى الجملة فالارتداد هو قطع الاسلام وتركه والخروج من الملة و
اختيار الكفر بقول ينافي الاسلام أو فعل يناقضه بشرط أن يكون ذلك عن قصد و
اختيار.
وقد ظهر مما ذكرنا أن المرتد هو من خرج عن الاسلام واختار الكفر بعد
ما كان مسلما. وهو على قسمين: الفطري، والملي.
181

والأول: هو من كان أحد أبويه مسلما حال انعقاد نطفته ثم أظهر الاسلام
بعد بلوغه ثم ارتد وخرج عن الاسلام.
والثاني: هو من كان أبواه كافرين حين انعقاد نطفته ثم أظهر الكفر بعد
بلوغه فصار كافرا ثم أسلم عاد إلى الكفر.
ثم إن المرتد لو كان فطريا يجب قتله ويقسم أمواله التي كانت له حين
ارتداده بين ورثته المسلمين وأما الأموال التي يكتسبها بعد ذلك أي في حين
كفره ففي دخولها في ملكه وكذلك تبين منه زوجته في الحال وينفسخ
نكاحها بلا حاجة إلى طلاق وعليها أن تعتد عدة الوفاة، ولو تاب فالتوبة وإن
كانت مقبولة عنه، إلا أنها لا تنفع لرفع حكم القتل، ولا في رجوع ماله إليه، ولا
في رجوع زوجته إليه. وهل يجوز له نكاحها بعقد جديد أم لا؟ اختلف الأعلام
في ذلك فبين قائل بالجواز وبين قائل بالمنع، والظاهر أنه يجوز ذلك، هذا في
الرجل.
وأما المرأة فلو ارتدت بقيت أموالها على ملكها ولا تنقل عنها إلى
ورثتها إلا بالموت وينفسخ نكاحها بانقضاء العدة سواء كانت فطرية أو ملية كما
أنها لا تقتل مطلقا بل تحبس وتضرب أوقات الصلاة ويدام عليها السجن حتى
تتوب أو تموت.
وأما المرتد عن ملة فلا تنتقل أمواله إلى ورثته إلا بالموت كما أنه لا يقتل
إلا إذا تكررت منه الردة، وأما زوجته فإن فسخ نكاحها موقوف على انقضاء
العدة بلا توبة إلا أن يكون الارتداد قبل الدخول فإنه يقع الانفساخ في الحال،
هذا.
وقد علمت مما ذكرنا أن للمرتد أحكاما خاصة في نفسه وماله وزوجته
كما أن لمطلق الكافر أيضا أحكاما مثل نجاسة بدنه وكونه مهدور الدم إلا أن
182

يكون كتابيا في ذمة الاسلام مواظبا على آدابها وشرائطها - فإن ماله محترم ودمه
محقون - وكذا غير الكتابي الذي أجاره المسلم.
كلمة في ولد المرتد
ثم إنا قد ذكرنا سابقا إن ولد الكافر ملحق به إلا في موارد تعرضنا لها
فحينئذ تصل النوبة إلى البحث في أن ولد المرتد هل يلحق بالمرتد في أحكامه
أيضا أم لا؟
أقول: من الواضح أن ولد المرتد من حيث هو ليس بمرتد لأن المرتد هو
من كان مسبوقا بالاسلام ثم ارتد وخرج بالردة قولا أو فعلا وهذا التعريف لا
يصدق عليه إلا أنه لو انعقدت نطفته في حال ارتداد الأبوين فإنه لا محالة يكون
الولد - على ما ذكرنا من أدلة التبعية - نجسا ويترتب عليه أحكام الكفر، أما لو كان
علوق الولد وانعقاد نطفته قبل ارتدادهما أي في حال اسلامها، ثم بعد ذلك
حصل لهما الارتداد، فلا يلحق بالكفار اجماعا لاقتضاء شرف الاسلام وعلوه و
سموه لحوقه بالمسلمين فهو وارث مسلم لهما سواء كان تولده في حال الارتداد
أو عرض الارتداد بعد ذلك أيضا وهذا كله في ارتداد كليهما وأما لو ارتد
أحدهما فالولد ملحق بالمسلم منهما وإن كان العلوق حال الارتداد - لشرف
الاسلام فإنه يقتضي الحاقه به كما ذكرنا ذلك سابقا. 1

1. أقول إن سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله قد تعرض لأحكام المرتد في هذا المقام عابرا لكنه دام
بقاه قد تعرض لاستدلالاتها تفصيلا عند البحث عن المرتد في الحدود وقد قررناها تفصيلا في
كتابنا: الدر المنضود في أحكام الحدود وقد طبع المجلد الأول منه بحمد الله ومنه.
183

تنبيهات:
ثم إن ههنا أمورا ينبغي التعرض لها:
أحدها أن الفقيه الهمداني رضوان الله عليه ادعى انصراف الاجماعات
القائمة على نجاسة الكافر إلى غير المرتد منهم، فإنه عند البحث عن كفر
النواصب قال: فمتى حكمنا بكفرهم هل يثبت بذلك نجاستهم أم لا؟ فيه تردد
نظرا إلى أن عمدة مستنده الاجماع، وربما يتأمل في تحققه على نجاسة كل كافر
نظرا إلى انصراف معاقد الاجماعات المحكية وكلمات المجمعين إلى غير
المرتد انتهى كلامه رفع مقامه.
وهذا عندنا غير وجيه فإن الانصراف الذي ادعاه انصراف بدوي يزول
بأدنى تأمل وأقل توجه والتفات. وهذا نظير انصراف طهارة الملح إلى الملح
المتداول المتعارف الذي كان من بدو الأمر ومن حين نشأه ملحا، وانصرافها عما
إذا كان كلبا فصار ملحا في المملحة فإن هذا الانصراف ابتدائي ويزول بالتوجه و
الالتفات إلى امكان تبدل الكلب في المملحة ملحا وهناك يقطع بعدم الفرق بين
القسمين من الملح، والحاصل أنه لا فرق في الحكم بنجاسة الكافر بين ما إذا كان
كافرا أصليا غير مسبوق بالاسلام وبين ما إذا كان كفره مسبوقا به أعني المرتد.
ثانيها: في ميزان ثبوت الردة فنقول إنها تثبت بالشاهدين أو الاقرار ولا
تثبت بغير ذلك وتفصيل هذه المطالب موكول إلى كتاب الشهادات والحدود.
ثالثها: أنه لو علم أحد، ارتداد شخص بأن سمع منه كلمة الردة مثلا يجوز
له قتله إن لم يخف على نفسه، ويعامله معاملة النجس ومع ذلك فلو قتله فعليه
اثبات ارتداده بطريق شرعي وإن قتله له كان بذلك السبب لا لجهة أخرى ولو
قتله ولم يتمكن من اثبات ذلك يقتل لأنه قتل من لم يثبت كونه مهدور الدم.
لا يقال: إن النبي مع علمه بارتداد بعض الناس لم يقتلهم.
184

لأنا نقول إن الملاك هو العلم بالطريق العادي لا المستفاد من طرق غير
جلية كالوحي مثلا.
كلمة حول المنافقين
ثم إنك قد علمت مما ذكرنا مرارا أن المعيار في الحكم باسلام أحد
هو الاقرار بالشهادتين وأنهما تمام حقيقة الاسلام مشروطا بعدم ابراز ما يخالف
الاسلام وإلا فهو محكوم بالكفر والارتداد وأمضينا أيضا أن المنافقين كانوا
محكومين عليهم بحكم الاسلام وكان النبي يعاملهم معاملة المسلمين لأنهم
أظهروا الشهادتين وأقروا بكلمة الاسلام وإن كانوا مضمرين للكفر.
وقد أورد علينا بعض شركاء مجلس الدرس بأنهم وإن أقروا بالشهادتين
لكنهم أبرزوا مخالفتهم للاسلام وأنهم بصدد استهزاء المؤمنين كما نص على
ذلك القرآن الكريم حيث يقول: " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى
شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون... " 1 فإن قولهم لزملاءهم و
شياطينهم: (إنا معكم) وكذا قولهم: (إنما نحن مستهزءون) مخالف لا قرارهم
بالشهادة، ورجوع عن الاسلام، وكان اللازم على ما ذكر من المبنى والمعيار
في الارتداد أن يحكم النبي بارتداد هم وكفرهم، مع أنه لم يحكم بذلك بل كان
يعاشرهم ويجالسهم.
وفيه أن الحكم بالارتداد أو القتل وأمثال ذلك - نظير باب القضاء - تابع
لموازين خاصة وقواعد ومعائير مضبوطة لا يتجاوزها بل يدور مدارها نفيا و
اثباتا فترى أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله يقول: (إنما أقضي بينكم

1. سورة البقرة الآية 14.
185

بالبينات والأيمان) 1 وكان يقضي بين الناس على حسب هذه الموازين العادلة
أي بمقتضى بينة المدعي، وإلا فيمين المدعى عليه، مع أنه كان عالما بحقيقة
الأمر ومتن الواقع، لكنه كان لا يعمل بعلمه المأخوذ من الغيب ولم يكن مأمورا
أن يعامل المترافعين معاملة الواقعيات والحكم بين الناس بحكم داود على نبينا و
آله وعليه السلام والأمر فيما نحن فيه أيضا كذلك فإن الملاك في الحكم
بالارتداد والكفر هو اظهار الردة واتيان كلمة الكفر عيانا أو بمثبت شرعي وأما
اتيانها خفاءا والعلم بذلك بطريق الوحي فلو يعتبر ذلك سببا للحكم بالكفر
والارتداد.
وما نحن فيه كان من هذا القبيل فإن المنافقين قد أقروا بتوحيد الله ورسالة
محمد صلى الله عليه وآله، وهم وإن خالفوا ذلك لكن مخالفتهم كانت في الخفاء
وعند شياطينهم وفي أندية زملائهم مع احتفاظهم جدا على ظاهر الأمر فكانوا
على ظاهرهم مسلمين ومقرين في مجامع أهل الايمان بالشهادتين وإنما علم
النبي صلى الله عليه وآله بما أتوا في الخفاء بعلمه الخاص الذي أشرق وأفيض
عليه من أفق الغيب، وليس هو الملاك والمعيار في الحكم بالكفر، فلذا كان
يعاملهم على حسب ظاهرهم الذي هو الاسلام.
وهذا الحكم بعد أيضا كذلك فلو أقر شخص بالاسلام، ثم أنه قال بكلمة
الردة في الخفاء، ولم يبرز منه إلا الاسلام والاعتناق به، ولم يتفوه بشئ يخالفه،
فهو مسلم عندنا.
ويؤيد ما ذكرنا أنه في عصر النبي صلى الله عليه وآله ربما كان
واحد منهم يقول بشئ يخالف الاسلام وبعد ما يؤاخذه النبي على ذلك ينكره

1. وسائل الشيعة ج 18 ص 169 ب 2 من أبواب كيفية الحكم ح 1 وباقي الحديث أيضا شاهد
للبحث فراجع.
186

أشد الانكار وكان النبي يقبل منه هذا الاعتذار والانكار، ولأجل هذا وأشباهه
سموه إذنا قال الله تعالى: يقولون هو إذن قل إذن خير لكم. 1

1. سورة التوبة الآية 61: أقول ولي في الاستشهاد بالآية الكريمة على ما أفاده سيدنا الأستاذ الأكبر
دام ظله العالي نظر وتأمل حيث إنه تعالى يقول: بعد ذلك: يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة
للذين آمنوا منكم...
187

الكلام حول كفر الخوارج والنواصب
قد علمت أنهم حكموا بكفر من أنكر الضروري مع الانتماء إلى الاسلام
أيضا وأنهم مثلوا بالخوارج وأشباههم فراجع عبارة المحقق في الشرايع المذكورة
من قبل. وقد علمت أيضا إنا ذكرنا تبعا لعلم التحقيق الشيخ المرتضى قدس سره
بأن كفر هؤلاء ليس من باب انكار الضروري بل هم كافرون بعنوانهم الخاص
فالمناسب هنا أن نتعرض للخوارج والنواصب حكما وموضوعا. فنقول: دلت
الروايات الكثيرة على كفر الخوارج والنواصب، وأنهم كافرون بعنوانهم الخاص،
وقد جمعها الفقيه الهمداني قدس سره.
منها ما أرسل عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال في وصف الخوارج:
أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. 1

1. بحار الأنوار ج 33 ص 325.
189

وظاهرها كفرهم مطلقا سواء كان عن علم أو عن جهل مركب.
ومنها رواية الفضل قال: دخل على أبي جعفر عليه السلام رجل، محصور
عظيم البطن فجلس معه على سريره فحياه ورحب به فلما قام قال: هذا من
الخوارج كما هو قال: قلت مشرك؟ فقال: مشرك والله مشرك.
والمراد من المشرك هو الكافر وقد مر ذلك الخبر في أوائل الكتاب.
وفي الزيارة الجامعة: ومن حاربكم مشرك.
ومنها ما عن الكافي: عن بعض أصحابنا عن ابن أبي جمهور عن محمد بن
قاسم عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا تغتسل من البئر التي
تجتمع فيها غسالة الحمام فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء و
فيها غسالة الناصب وهو شرهما إن الله لم يخلق خلقا شرا من الكلب وإن
الناصب أهون على الله من الكلب. 1
وذيل هذا الخبر دال على المطلوب، وأما عدم العمل بصدره الدال على
نجاسة ولد الزنا فهو غير ضائر بذلك.
ومنها رواية القلانسي قال: قلت لأبي عبد الله ألقى الذمي فيصافحني قال:
امسحها بالتراب أو بالحائط قلت: فالناصب؟ قال: اغسلها. 2
ومنها مرسلة الوشا عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كره سؤر ولد الزنا
واليهودي والنصراني والمشرك وكل من خالف الاسلام وكان أشد ذلك عنده
سؤر الناصب. 3
ومنها مرسلة علي بن الحكم عن رجل عن أبي الحسن عليه السلام في

1. الكافي ج 3 ص 14 باب ماء الحمام... ح 1
2. جامع أحاديث الشيعة ج 2 ص 113 ب 13 من النجاسات ح 3.
3. جامع أحاديث الشيعة ج 2 ص 53 ب 1 من أبواب الأسئار ح 4.
190

حديث أنه قال: لا تغتسل من غسالة ماء الحمام فإنه يغتسل فيه من الزنا ويغتسل
فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم. 1
ومنها موثقة عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث
قال: وإياك أن تغتسل من غسالة الحمام ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني
والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم فإن الله تبارك وتعالى لم يخلق
خلقا أنجس من الكلب وأن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه. 2
نعم أورد بعض على الاستدلال بهذه الروايات مناقشات بعضها راجع إلى
السند، وبعضها إلى الدلالة.
أما الأول: فهو أن تلك الأخبار مرسلة، أو ضعيفة السند، فكيف يعتمد
عليها ويستدل بها؟
وفيه أنها وإن كانت كذلك لكنها منجبرة بعمل الأصحاب فإن عملهم
على طبقها وإن لم يكونوا يستندون إليها، هذا مضافا إلى أن بعضها كرواية ابن
أبي يعفور موثقة.
وأما الثاني: أي ما هو راجع إلى دلالتها فأمور:
منها ذكر ولد الزنا في بعض هذه الروايات مع الناصب وقرينا له، وهذا
يشهد بأن الناصب ليس نجسا اصطلاحيا، لأن ولد الزنا لم يحكم بنجاسته قطعا،
بل المراد من نجاسته الخباثة الذاتية.
وفيه أنه لا يرفع اليد عن ظاهر ما دل على النجاسة بمجرد خروج مورد عنه
المعلوم خروجه بالقرائن الخارجية.
ومنها أنه كيف يمكن الحكم بكفرهم مع أنه ثبت وتحقق معاشرة

1. جامع أحاديث الشيعة ج 2 ص 51.
2. جامع أحاديث الشيعة ج 2 ص 49 ح 12.
191

أصحاب الأئمة ومخالطتهم لهم طيلة أعوام كثيرة بل ومعاشرة الأئمة
عليهم السلام بأنفسهم معهم وعدم تحرزهم عنهم كما هو ظاهر جدا لمن سبر
الأخبار وراجع التواريخ والآثار.
لا يقال: إن هذه الأمور صحيحة غير قابلة للانكار إلا أنها كانت لأجل
التقية.
لأنا نقول: الحمل على التقية على مر العصور الكثيرة والأزمان الطويلة بعيد
جدا لا سيما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله فإنه كان يجالس سواد
الناس وعامتهم ويعاشرهم، مع أنه كان فيهم من كان يبغض عليا عليه السلام
كبغض زوجاته ونسائه، ألم يكن من الواضحات المسلمات أن عايشة كانت
مبغضة له عليه السلام شديدا؟ بل وكانت تظهر بغضها له وتعلن ذلك خصوصا
بعد قضية الإفك ومع ذلك فقد نقل اغتسال النبي معها في إناء واحد وعلى
الجملة فبقي الاشكال - أي اشكال معاشرة الأئمة وأصحابهم مع النواصب مثلا -
بحاله.
وأجاب عنه علم التقى شيخنا المرتضى قدس سره الشريف بأن الحكم
بنجاسة الناصب يمكن أن يكون مثل كثير من الأحكام قد انتشر في زمن
الصادقين عليهما السلام بعد ما لم يكن ظاهرا إلى زمانهما، وكان مخزونا في
خزانة علوم الأئمة الطاهرين المعصومين وحيث إن المسلمين لم يكونوا عالمين
بكفرهم فكانوا يعاملون معاملة الطهارة، هذا بالنسبة إلى الأصحاب وأما بالنسبة
إلى النبي والأئمة فمخالطتهم ومعاشرتهم مع هؤلاء النواصب بحيث يكشف
عن طهارتهم فغير ثابتة ولم يعلم ذلك أصلا.
ولنا عن الاشكال المزبور جواب آخر ولعله أظهر مما أفاده قدس سره.
تحقيقه إن عداوة المبغضين لأمير المؤمنين عليه السلام على قسمين:
192

إحداهما: العدواة الشخصية بالنسبة إليه مثل أن يبغضه حسدا له لكونه
حليف النصر يفتح الله على يديه في الحروب والمغازي دون غيره أو لكونه صهرا
لرسول الله وزوجا لا بنته الصديقة دون غيره أو لأنه قاتل ولده أو أبيه أو أخيه و
عشيرته أو غير ذلك من الأسباب المورثة للعداوة.
ثانيتهما: العداوة الدينية كان يبغضه تبريا منه جاعلا ذلك أمرا دينيا يتعبد و
يتدين به ويتقرب إلى الله تعالى بذلك وأمر الثاني في غاية الصعوبة والاشكال و
هو الكفر حقيقة.
ويشهد على ما ذكرنا أنه كان الإمام علي عليه السلام قد يلقي إلى خواص
أصحابه الأسرار والمغيبات ويخبرهم بأنه سيعرض عليهم بعض الطواغيت البراءة
منه عليه السلام وسبه وكان يأمرهم بأن يسبوه اتقاءا منهم كيلا يصيبهم منهم
الفتنة ولكنه كان ينهاهم عن البراءة عنه 1 وهم رضوان الله عليهم عاهدوه على
عدم التبري منه وقد أنجزوا هذا الوعد وصدقوا ما عاهدوه عليه وقتلوا وصلبوا
ثابتين على ولايته.
وعلى الجملة فالنوع الأخير من هذين هو المحبوب للكفر والنجاسة وأما
الأول فلا ولم يثبت أن بغض من عاشرهم المسلمون وخالطهم النبي والأئمة
عليهم السلام من المخالفين والمبغضين كان من القسم الأخير حتى عداوة مثل

1. أقول: فمن كلام له عليه السلام: أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن
يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد فاقتلوه ولن تقتلوه ألا وأنه سيأمركم بسبي والبراءة مني فأما
السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة وأما البراءة فلا تبرأوا " فلا تتبروا " مني فإني ولدت
على الفطرة وسبقت إلى الايمان والهجرة نهج البلاغة، ووسائل ج 11 ب 6.
وعن ميثم النهرواني قال: دعاني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وقال: كيف أنت يا
ميثم إذا دعاك دعي بني أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟ فقلت يا أمير المؤمنين أنا والله لا أبرء
منك قال: إذا والله يقتلك ويصلبك قلت: أصبر فذاك في الله قليل فقال: يا ميثم إذا تكون معي في
درجتي الوسائل ج 11.
193

عايشة أيضا لم يتحقق كونها من باب التدين بها 1 بل عداوة المبغضين لهم غالبا
كانت ناشئة من أغراض شخصية وجهات مادية دنيوية كحب الملك والجاه.
والخوارج بمعناها المصطلح لم يكونوا في زمن النبي بل وجدوا وتشكلوا
بعد واقعة التحكيم بصفين قائلين لا حكم إلا لله، واعتقدوا أن اقدام الإمام على
تحكيم الحكمين وقبول ذلك موجب لخروجه عن الدين وشركه بالله تعالى و
بعد واقعة نهروان لم يكونوا يظهرون العداوة له عليه السلام.
وعلى الجملة فالخوارج 2 هم الطائفة الملعونة والفئة الخبيثة المعهودة
الذين كانوا يكفرون بالذنب وقد خرجوا على أمير المؤمنين في صفين وكذا كل
من اعتقد بما اعتقده هذه الطائفة الكافرة من كفر الإمام واستحلال قتاله ودمه
كما أن المتيقن من الناصب هو العدو لآل محمد صلى الله عليه وآله وأهل البيت مع اظهار
عداوته عداوة دينية لا كل اصطلاحاته 3 فإنه على ما قاله الفاضل المقداد
رضوان الله عليه يطلق على خمسة أوجه وإليك كلامه بلفظه: قيل في تعريف
الناصب وجوه:

1. أقول: معذرة إلى سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله حيث إن هذا محل التأمل فإن معاوية مثلا كان
يقول في قنوت صلاته اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك... وكم له نظير تلك الكلمات الأثيمة و
يؤيد ما ذكرنا من الاشكال مكالمة حدثت بين الحسين عليه السلام ومعاوية حيث إن معاوية
بعد أن قتل حجرا وأصحابه حج في ذاك العام فلقي الحسين فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا
بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال: وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم وكفناهم
وصلينا عليهم فضحك الحسين ثم قال: خصمك القوم يا معاوية لكنا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم
ولا صلينا بهم ولا قبرناهم... احتجاج الطبرسي فتأمل.
2. قال العلامة في التذكرة ج 1 ص 454: أما الخوارج فهم صنف مشهور من المبتدعة يعتقدون
تكفير أصحاب الكبائر واستحقاق الخلود في النار بها كشرب الخمر والزنا والقذف ويستحلون
دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم وطعنوا في علي وعثمان ولا يجتمعون معهم
في الجمعات والجماعات... وعندنا أن الخوارج كفار.
3. قال: دام ظله العالي: وإن كان مقتضى وجوب مودتهم المستفاد من آية القربى وغيرها حرمة
بغضهم ومنافات ذلك للدين مطلقا وعلى أي وجه كان.
194

1 - إنه الخارجي الذي يقول في علي عليه السلام ما قال.
2 - إنه الذي ينسب إلى أحد المعصومين عليهم السلام ما يثلم العدالة.
3 - من إذا سمع فضيلة لعلي عليه السلام أو لغيره من المعصومين أنكرها.
4 - من اعتقد أفضلية غير علي عليه السلام عليه.
5 - من سمع النص علي عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله و
سلم أو بلغه تواترا أو بطريق يعتقد صحته فأنكره.
وألحق صدق النصب على الجميع، أما من يعتقد إمامة غيره للاجماع أو
لمصلحة ولم يكن من أحد الأقسام الخمسة فليس بناصب. انتهى. 1
وعلى الجملة فالمتيقن من الاجماعات في الاطلاقات هو المتدين
بعداوته وقد فسر في القاموس النواصب بذلك قال: والنواصب والناصبية وأهل
النصب المتدينون ببغضه على لأنهم نصبوا له أي عادوه انتهى. واستوجهه
صاحب الجواهر رضوان الله عليه. ولو كان المقصود من الخوارج أو النواصب
مطلق المبغضين لأمير المؤمنين وكل من كان عدوا له عليه السلام لأشكل الأمر
فيما حكي من المعاشرة معهم والحال أن الأخبار دالة على كفرهم والاجماع قائم
على ذلك وبذلك يتضح ما ذكرنا من أن عداوة الناس وبغضهم لعلي عليه السلام
لم تكن من هذا الباب بل كانت للمعارضة في الملك ولأغراض شخصية وأنظار
مادية قادتهم إلى ذلك فكان فلان يطرد عليا عن الخلافة مستدلا ومعتذرا بأنه
شاب لم يمض من عمره حين وفاة النبي أعوام كثيرة وحداثة سنه توجب أن لا
يطيعه الناس ولا ينتظم أمر الأمة وأن أبا بكر شيخ كبير عاش عمرا بين الناس يقبله
عامة الناس ويوقرونه أو أن عليا (ع) قتل آباءهم وإخوانهم فلم يرتضوا بخلافته.
وقد نقل عن بعض علماء أهل السنة أنه قال: إنه صح ما قاله النبي صلى الله عليه وآله

1. التنقيح الرائع لمختصر الشرايع ج 2 ص 421.
195

في فضائل على ومناقبه إلا أن المتصدين لأمر الخلافة قبله كانوا أنسب لإدارة
أمور الناس إلى غير ذلك من الأعذار الفاسدة والدعاوى الواهية التي هي أوهن من
بيت العنكبوت " وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون. "
إن قلت: فما تصنع بما قاله الإمام أبو جعفر عليه السلام: ارتد الناس بعد
رسول الله إلا ثلاثة نفر سلمان وأبو ذر والمقداد. 1
نقول: إن هذا الارتداد ليس هو الارتداد المصطلح الموجب للكفر و
النجاسة والقتل، بل الارتداد هنا هو نكث عهد الولاية، ونوع رجوع عن مشي
الرسول الأعظم، وعدم رعاية وصاياه، ولو كان المراد منه هو الارتداد
الاصطلاحي لكان الإمام عليه السلام - بعد أن تقلد القدرة وتسلط على الأمور -
يضع فيهم السيف ويبددهم ويقتلهم من أولهم إلى آخرهم خصوصا بلحاظ أن
توبة المرتد الفطري لا تمنع قتله ولا ترفعه بل يقتل وإن تاب.
فتحصل من جميع ما ذكرناه أن اطلاق النواصب والخوارج لا يشمل كل
من كان له عداوة بأي ألوانها بل المسلم منها العدواة الدينية واتخاذها دينا لنفسه
يتقرب بها إلى الله سبحانه. وهذه الفرقة الملعونة مع تلك العقيدة المشئومة قليلة
جدا اعتبروا أعداءا لآل محمد صلى الله عليهم أجمعين وبهذا يعدون من المنكرين
لضرورة اسلامية ولا مجال للترديد والارتياب في كفرهم ونجاستهم أبدا هذا و
سيجيئ مزيد بيان لهذا في المباحث القادمة إن شاء الله تعالى.

1. رجال الكشي ص 8 وذيل ص 244 من الكافي ج 2، وذيل الخبر هكذا: قال الراوي فقلت:
عمار؟ قال: كان جاض جيضة ثم رجع...
196

الكلام حول الغلاة
من جملة الفرق التي حكموا بكفرهم الغلاة وهم الذين يألهون
أمير المؤمنين أو أحدا من الأئمة 1 وبعبارة أخرى أنهم الذين تجاوزوا الحد في
الأئمة عليهم السلام المعتقدون بألوهيتهم أو نبوتهم.
ويظهر من كلام المحقق قدس سره المذكور سابقا في بيان ضابط الكافر
إن الغلاة من جملة المنتحلين إلى الاسلام وإنما السبب في كفرهم هو انكارهم
الضروري.
ولكن الذي يظهر ويستفاد من بعض أنه لا تعتبر الغلاة من المنتحلين إلى

1. كما قد وقع ذلك بالنسبة إلى ولي الله وعبده الخالص أمير المؤمنين عليه السلام فاعتقد فيه فريق
ذلك. لكني لم أعثر على من قال واعتقد بذلك بالنسبة إلى غيره من الأئمة سوى الإمام الصادق
عليه السلام فقد قال المحقق في المعتبر ص 5: إنه انتشر عنه من العلوم الجمة ما بهر به العقول
حتى غلا فيه جماعة وأخرجوه إلى حد الإلهية.
197

الاسلام وأن بينهم وبين العقيدة الاسلامية مباينة جوهرية من أول الأمر.
ونحن نقول: إن كان المراد من الانتحال الاقرار بالشهادتين والتسليم لهما
فمن المعلوم أن عدة منهم لو لم يكن كلهم لا يقرون بذلك نعم يمكن توجيه
عبارة المحقق بأن المراد من الانتحال هو الانتساب بحسب الادعاء فالغالي
ينسب نفسه إلى الاسلام ويدعي أنه مسلم 1 لا باقراره بالشهادتين والالتزام
بلوازمهما.
لا يقال إنهم مقرون بهما إلا أنهم يطبقون - الله تعالى - على الإمام علي
عليه السلام قائلين إنه المصداق والمقصود.
لأنا نقول: إن هذه الشهادة لا تنفع شيئا ولا تعتبر شهادة في الحقيقة لأن
المراد من " الله " الذي يذكر في الشهادة هو الله الواحد الأحد الذي بيده الخلق وله
الأمر وإليه المرجع والمصير الذي يقر ويذعن به المؤمنون ويعتقده كافة
الموحدين وينكره الكافرون وأين هذا من الاعتقاد بربوبية أمير المؤمنين وكون
(الله) هو عليه عليه السلام أو اتحاده معه أو حلوله فيه بل ليس هذا إلا الكفر
المحض والضلال العظيم لأنه لا رب إلا رب العالمين ولا إله إلا إله الخلق أجمعين.
والتحقيق إن الاعتقاد بألوهية أمير المؤمنين وقصده من لقظ الجلالة
كفر رأسا وموجب لعدم الاقرار بالشهادة إما اعتقاد الحلول فيه، أو الاتحاد معه
تعالى، مع ذكر الشهادتين فهو انكار للضروري مع الانتحال إلى الاسلام. أما إذا
كان الغالي ناسبا إلى علي عليه السلام صفة من صفات الله تعالى المختصة به
كالاحياء والإماتة أو أنه لا تأخذه سنة ولا نوم أو قال بتفويض الأمور إليه مع كون

1. قال السيد الأصفهاني قدس سره في الوسيلة المحشي بحاشية سيدنا الأستاذ ج 3 ص 193:
مسألة 7 لا يجوز للمؤمنة أن تنكح الناصب المعلن بعداوة أهل البيت عليهم السلام ولا الغالي
المعتقد بألوهيتهم أو نبوتهم وكذا لا يجوز وكذا لا يجوز للمؤمن أن ينكح الناصبة والغالية لا نهما بحكم الكفار
وإن انتحلا دين الاسلام.
198

الله بمعزل عنها فهذا كفر بالله تعالى لنقض توحيد الأفعال بهذه الاعتقادات
الفاسدة والتمويهات الكاسدة فإن أزمة الأمور كلها بيد الله تعالى.
ولو قال الغالي واعتقد بأن النبي أو الوصي أو الأئمة عليهم السلام ليسوا
بشرا فهذا تكذيب للقرآن الكريم حيث يقول: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى
إلي " 1 وهذا صريح في أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله الذي هو أفضل
الخلائق كلها أيضا بشر، إلا أنه كان في أعلى درجات الكمال حيث كان يوحى
إليه فهو من هذه الحيثية نظير ما لو قال بأن مسيلمة نبي من أنبياء الله فإنه تكذيب
لقوله تعالى: " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " 2 ولو فرض أن مسيلمة بحسب
الذات كان قابلا وصالحا لذلك.
والحاصل: أنه لو آل الأمر وانجر الغلو إلى إنكار الصانع تعالى أو إلى اثبات
شريك له أو إلى نسبة صفة من صفات الله تعالى التي يجب الاعتقاد بها إلى الغير
أو إلى تكذيب القرآن فلا محالة يوجب الكفر والنجاسة. ويستحق الغالي بذلك
ما أعده الله للكافرين وقد كانت الأئمة عليهم السلام يتبر أون منهم ويطردونهم و
يعاقبونهم. 3

1. سورة الكهف الآية 110.
أقول: وهنا لطيفة لا يخلو ذكرها عن فائدة وهي أن واحدا من تلامذة الأستاذ الأعظم دام ظله
استشكل عليه في هذا اليوم - 21 ذي القعدة الحرام 1388 ه‍ - وفي هذا المقام أي عند
انجرار البحث إلى هذه المطالب وذكر الأستاذ الآية الكريمة فقال معترضا عليه بأنه فكيف ورد
في القرآن الكريم: " ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " فأجابه سيدنا الأستاذ دام ظله بداهة أن
هذا كلام النساء - نساء مصر - وهن قد قلن ذلك ما أنت وكلام النساء؟ وضحك هو والفاضل
المستشكل والجم الغفير الحاضرون.
2. سورة الأحزاب الآية 40.
3. أقول: فعن أبي عبد الله قال: أتى قوم أمير المؤمنين فقالوا السلام عليك يا ربنا فاستتابهم فلم يتوبوا
فحفر لهم حفيرة واو قد فيها نارا وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها إلى وأفضى بينهما فلما لم يتوبوا
ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأخرى حتى ما توا الكافي ج 7 ص 257 ووسائل الشيعة
ج 18 ص 552 ب 6 من أحكام المرتد ح 1.
وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أن أمير المؤمنين عليه السلام لما فرغ من أهل البصرة
أتاه سبعون رجلا من الزط فسلموا عليه وكلموه بلسانهم فرد عليهم بلسانهم ثم قال: إني لست
كما قلتم أنا عبد الله مخلوق فأبوا عليه وقالوا أنت هو فقال لئن لم تنتهوا وترجعوا عما قلتم في و
تتوبوا إلى الله لأقتلنكم فأبوا أن يرجعوا ويتوبوا فأمران تحفر لهم آبار فحفرت ثم خرق بعضها
إلى بعض ثم قذفهم فيها ثم خمر رؤوسها ثم الهبت النار في بئر منها ليس فيه أحد منهم فيدخل
عليهم الدخان فيها فماتوا. كافي ص 259 وسائل الشيعة ص 553.
وكان الإمام الصادق عليه السلام يلعن الغلاة ويكفرهم عموما وخصوصا وقال عليه السلام
لمرازم: قل للغالية: توبوا إلى الله فإنكم فساق كفار مشركون.
وقال عليه السلام له: إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له: يقول لك جعفر بن محمد: يا
كافر يا فاسق أنا برئ منك. قال مرازم: فلما قدمت الكوفة قلت له: يقول لك جعفر بن محمد: يا
كافر يا فاسق يا مشرك أنا برئ منك قال بشار: وقد ذكرني سيدي؟ قلت: نعم ذكرك بهذا قال:
جزاك الله خيرا.
ولما دخل بشار الشعيري على أبي عبد الله عليه السلام قال له: أخرج عني لعنك الله والله لا يظلني و
إياك سقف أبدا فلما خرج قال عليه السلام: ويله ما صغر الله أحدا تصغير هذا الفاجر إنه شيطان
ابن شيطان خرج ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه وليبلغ الشاهد الغائب إني عبد الله وابن أمته
ضمتني الأصلاب والأرحام وإني لميت ومبعوث ثم مسؤول.
وقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام يوما لأصحابه: لعن الله المغيرة بن سعيد لعن الله يهودية كان
يختلف إليها يتعلم منها الشعر والشعبذة والمخاريق أن المغيرة كذب على أبي، وأن قوما كذبوا
على ما لهم؟ أذاقهم الله حر الحديد، فوالله ما نحن إلا عبيد خلقنا الله واصطفانا، ما نقدر على ضر
ولا نفع إلا بقدرته إن رحمنا فبرحمته وإن عذبنا فبذنوبنا ولعن الله من قال فينا ما لا نقول في
أنفسنا ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا. راجع
الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 1 - 2 ص 235.
ونلفت نظر القارئ الكريم إلى أنه قد ألف كتب قيمة مستقلة حول موقف الأئمة الطاهرين
عليهم السلام من الغلاة وتبريهم عنهم والجهر بلعنهم.
199

وأما إذا كان الغالي مقرا بالتوحيد بجميع مراحله ومعانيه ولم يعتقد
خلاف ضروري الاسلام، وما هو ثابت بالقطع، فاعتقاد شئ لم يكن صدوره من
البشر محالا بل كان صدوره من الانسان ولو في فرد منه إلا وحدي أو في فئة قليلة
منه لا يوجب الكفر كما إذا اعتقد في النبي أو الأئمة عليهم السلام الحد العالي
الذي هم عليه مثل إن اعتقد عدم سهوهم أصلا كما أن كثيرا من العلماء قائلون
200

بذلك في قبال الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه المعتقد بسهو النبي صلى الله عليه وآله حتى أنه
قال: لو وفقني الله تعالى أصنف كتابا في ذلك 1 وقال بعض العلماء: الحمد لله
الذي لم يوفقه لذلك.
وعلى الجملة فاعتقاد عدم سهو النبي ليس من الغلو الموجب للكفر فإنه
أمر ممكن للانسان، وليس بمحال أن يوجد فرد لا يسهو أبدا لأن شأن الأشخاص
من جهة السهو والخطأ وجودا وعدما قلة وكثرة مختلف، فقد يرى من لا يخلو
صلاته من السهو أبدا بل يشك في كل شئ وينسى حينا بعد حين - وأنت تعلم أن
لكثير الشك في الفقه أحكاما - كما أنه قد يوجد من يدعي أنه لا يسهو أبدا ويقول:
ليس ببالي أني سهوت أو شككت في الصلاة مثلا ولو مرة واحدة في العمر،
فحيث إن أصل هذه الصفة غير خارج عن طوق البشر كله بل هو أمر ممكن في
حقه، فلذا لا بأس باعتقادها في حق النبي أو الأئمة عليه السلام.
وقد جرى بحث ومناظرة لطيفة بيننا وبين قاضي القضاة بمدينة الرسول
صلى الله عليه وآله عندما تشرفنا الزيارة في السفرة الأولى وقد دعوناه لنستأذن
منه في إقامة حفلة عزاء لشهيد الحق والانسانية مولانا الحسين أيام العاشور و

1. أقول: الظاهر أن نظره دام ظله إلى ما قاله الصدوق في الفقيه ج 1 ص 360 في أحكام السهو و
إليك نص كلامه: وأنا أحتسب الأجر في تصنيف كتاب منفرد في اثبات سهو النبي والرد على
منكريه إن شاء الله تعالى انتهى.
وحكى قدس سره عن شيخه ابن الوليد أنه كان يقول: إن أول درجة في الغلو نفي السهو عن النبي
صلى الله عليه وآله انتهى.
وفي الدر المنثور للشيخ على حفيد الشهيد الثاني ج 1 ص 110: ويحكى عن الشيخ بهاء الدين
طاب ثراه أنه سأله سائل عن سهو النبي صلى الله عليه وآله وعن كون الصدوق يعتقد ذلك فأجابه
بأن ابن بابويه أولى بالسهو من النبي عليه السلام انتهى.
وفي الأنوار النعمانية ج 4 ص 34 قال الشيخ بهاء الدين في جملة كلامه: إن نسبة السهو إلى ابن
بابويه أولى من نسبتها إليه صلى الله عليه وآله وقال أيضا: عند قول ابن بابويه وإن وفقنا الله صنفنا كتابا في
كيفية سهو النبي: الحمد لله الذي لم يوفقه لتصنيف ذلك الكتاب.
201

ذكرى مصائب سيد الشهداء عليه السلام وما أصابه في سبيل الله فلبى دعوتنا
مشكورا وحضر مسجد رسول الله وهناك دار البحث بيننا حق انجر الكلام إلى أن
قال لنا: أنتم غالون، تستشفون من النبي والإمام، وتقولون إنهم أحياء، إلى غير
ذلك من الأمور فقلنا في جوابه.
أولا: وأنتم أيضا كذلك ألم تكونوا تسلمون على رسول الله وتقولون:
السلام عليك يا نبي الله؟ فلو أنه صلى الله عليه وآله قد مات ولا يشعر شيئا ولا
يسمع سلام المسلم عليه فما معنى مبادرتكم إلى المثول في حضرته والوقوف
على قبره وسلامكم عليه كسلامكم على الأحياء؟
وثانيا: هب أن ما ذكرته كان من الغلو فهل مطلق الغلو يوجب الكفر؟ و
هل القول بحياة النبي مثلا وأنه يسمع سلام المسلم عليه بإذن الله تعالى غلو مضر
بالتوحيد؟.
والحاصل: أن هذه الأمور ليست غلوا في شأنهم 1 فإن المراد من حياتهم
هو أنهم بعد الموت يسمعون الكلام ويطلعون على الحوادث والوقائع كما تقول
في زيارة الإمام أمير المؤمنين أشهد أنك تسمع كلامي وتشهد مقامي 2 وهذه
المزايا وإن لم تكن عادية يجدها كل الناس وعامتهم إلا أنها ليست من
صفات الله الخاصة به لأن الاطلاع على الأمور والعلم بالحوادث حتى بعد الموت
ليس من صفات الباري تعالى.

1. وكيف تكون غلوا في حقهم عليهم السلام وقد أثبتها الله في حق الشهداء بقوله الكريم: ولا
تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من
فضله... (سورة آل عمران الآية 196 و 197) فقد صرح بحياة الشهداء وكونهم مرزوقين عند الله
وفرحين، فإذا كان هذا حال الشهداء فكيف بالأئمة الطاهرين الذين هم سادات الشهداء ومن
علم الشهداء درس الشهادة وألهموهم رموز الكرامة والسعادة؟
2. وفي العبارات الواردة لإذن الدخول في الأعتاب المقدسة: واعلم أن رسولك وخلفائك
عليهم السلام أحياء عندك يرزقون يرون مقامي ويسمعون كلامي ويردون سلامي...
202

وكذلك القول بعصمة شخص أو أشخاص مثل النبي والأئمة فإنها أمر غير
خارج عن طاقة الانسان في الجملة لأن الناس مختلفون في الاجتناب عن
المعاصي ففرقة منهم يعصون الله كثيرا ومن كان كذلك فهو فاسق متهتك وفرقة
لا يعصون الله إلا شاذا نادرا وأحيانا، ومن كان كذلك فهو العادل وثلة من الناس
لا يعصون الله تعالى أبدا ولا يخرجون عن زي العبودية ومنهاج الطاعة حتى ولو
في آن من الآنات وحين من الأحيان ومن كان كذلك فهو المعصوم وهذا المقام
مقام العصمة وهي لطف خفي من الألطاف الإلهية العظيمة فاعتقادها في حق
أحد لا يكون ضائرا أصلا.
وصفوة الكلام إنه بعد الاقرار بالتوحيد وشؤونه فاثبات صفة غير
مختصة بالله تعالى لأحد من الناس سواء أكان واجدا لها كاثبات العصمة، أو العلم
بخفايا الأمور، أو المعجزة، أو الشفاعة، أو كونه مستجاب الدعوة للأئمة
عليهم السلام أو فاقدا لها وغير أهل لها كاثبات تلك المزايا لغير الأنبياء والأئمة،
والاعتقاد في أحد بأزيد مما هو عليه وحقيق به، حتى مثل الاعتقاد بكون فرعون
مستجاب الدعوة لا يوجب الكفر من هذه الجهة فإن القائل بهذه الأمور المثبت
لها للأنبياء والأئمة فلا يقتضي قوله بها خللا في التوحيد حيث إنه يقول إنها ثابتة
لهم بإذن الله ومشيته بعد امكان تحققها لغير الله تعالى.
وأما من أثبتها لغيرهم عليهم السلام فهو مجرد غلط صدر منه حيث إنه
نسب أمورا - يمكن وقوعها من البشر وتحققها له - إلى من لم تكن له أهلية ذلك
ومن هو فاقد لها.
203

البحث حول المجسمة
من جملة الفرق التي حكموا بكفرها المجسمة أي القائل بتجسمه تعالى
بعد الاعتراف بالمفهوم من لفظ الجلالة، ولا يخفى أن المجسمة على قسمين:
أحدهما: القائلون بالتجسم بالحقيقة وهو القول بأن الله تعالى جسم
حقيقة كسائر الأجسام فكما أن الانسان جسم وله أبعاد ثلاثة فكذلك الله تعالى
لفظا بلفظ 1 وهذا القول مستلزم لحدوثه تعالى وتركيبه وتحيزه وتحديده و
حاجته ولا محالة يحكم على المعتقد به بالكفر والنجاسة.
لا يقال يمكن أن يقول مع ذلك بأنه تعالى قديم فالقول بالتجسم غير
مستلزم للكفر.

1. أقول: قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 1 ص 119: وكان في العرب مشبهة و
مجسمة منهم أمية بن أبي الصلت وهو القائل: من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه
المنصوب.
205

لأنا نقول: إذا قال بالتجسم والقدم فلا بد من أن يكون أجزاء هذا الجسم
أيضا قديما ويلزم من ذلك تعدد القدماء وهو أيضا كفر بالله العظيم.
ثانيهما: القول بالتجسم بالتسمية وهو القول بأن الله جسم لا كالأجسام فهو
في الحقيقة مجرد اسم وهذا نظير اطلاق الشئ على الله الذي رخص في الروايات
الشريفة وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى شئ لا كالأشياء 1 وعلى أي حال
فالمعتقد بهذه العقيدة يقول إن الله جسم ولكنه ليس كسائر الأجسام بلا توجه إلى
حقيقة الجسم ولوازمه من الحدوث والافتقار والتركيب، أو جاحدا ونافيا لها
عن الله تعالى مع الالتفات إليها بأن الله ليس حادثا ولا مركبا ولا متحيزا ولا
مفتقرا وإنما هو جسم، وكأنه يتناقض في أقواله.
ويشكل اطلاق المجسمة وصدقها عليه وشمول الاجماع والضرورة
القائمين على كفر المجسمة له.
ويؤيد ذلك أنه قل في سواد الناس وعامتهم من كان ملتفتا إلى أن قوله
بتجسمه تعالى مستلزم لحدوثه وتحيزه وغير ذلك من الآثار والتوالي الفاسدة
فإن أفهامهم بسيطة وعقولهم محدودة، بل قد يتفق أنه يشكل على العامة وذوي
الأفهام القاصرة تصور عدم المكان لله تعالى في حاضر الاسلام وماضيه حتى في
صدر الاسلام وعصر النبي الأعظم صلى الله عليه وآله الذهبي.
وكان شيخنا الأستاذ الحائري قدس سره الشريف 2 ينقل أنه لما نزل قوله

1. سئل أبو جعفر عليه السلام أيجوز أن يقال: إن الله عز وجل شئ؟ فقال نعم يخرجه عن الحدين
حد التعطيل وحد التشبيه. وعن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله أنه قال للزنديق حين سأله ما هو
؟ قال: هو شئ بخلاف الأشياء... توحيد الصدوق الطبع الحديث ص 104 باب أنه تبارك و
تعالى شئ ح 1 و 2.
2. شيخ مشايخنا العظام وآية الله الملك العلام، مشيد أركان الحوزة العلمية، صاحب النفس
الطاهرة القدسية، المتصف بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، والحائز أعالي مراتب العلم و
الكمال، حضرة الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري أعلى الله في الخلد مقامه ورفع الله في روض
القدس اعلامه.
أصله من مهرجرد، قرية من قرى يزد وقد ولد بها في سنة 1276. ه‍
والده محمد جعفر المهرجردي وهو وإن لم يكن من العلماء لكنه كان من الصلحاء الأتقياء، بل
وممن يعد مثلا لأهل التقوى.
وقد شرع في تحصيل العلوم الدينية المتداولة في قريته ثم في يزد، إلى أن هاجر إلى كربلاء، و
على رأس حوزته المحقق النحرير الصمداني، الفاضل الأردكاني رضوان الله عليه، وقد أرشده و
شوقه في المهاجرة إلى سامراء التي كانت آنذاك مركز الثقافة الاسلامية والحوزة العلمية العظيمة
ومجمع رجالات العلم والفقاهة وكانت تشد إليها الرحال وتأوي إليها النزال، كل كذلك في
ظلال الزعيم العالمي الذي طار صيته السامية في أرجاء العالم الاسلامي آية الله العظمى المجدد
السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي قدس الله نفسه الطاهرة، وكتب الفاضل الأردكاني إلى السيد
المجدد كتابا عرف فيه الشيخ عبد الكريم وأطراه فيه بالثناء الجميل والمدح البالغ وأوصاه به، و
كأنه كان قد قرء في صفحة جبينه المضئ خطوط الرشد والجلالة ورآى منه أنه ينبثق استعداداته
المكنونة قواه المكمونة وأنه تنمو مواهبه في جو حار علمي مثل حوزة سامراء السامية و
تحت اشراف السيد المجدد، وعلى الجملة فهاجر إليها وأخذه المجدد الشيرازي تحت ظلال
انعامه واحسانه وتتلمذ هناك على فحول العلماء وأساطين الدين وأكابر الأساتذة من الفقهاء و
الأصوليين، كالشيخ فضل الله النوري الشهيد قدس سره، والميرزا إبراهيم المحلاتي الشيرازي،
والميرزا محمد تقي الشيرازي، والسيد محمد الفشاركي، بل وحضر برهة من الزمان في مجلس
درس المجدد الشيرازي - على ما حكاه لي نجله المرتضى قدس سره الشريف، ولكن كان
عمدة استفادته من محضر السيد الفشاركي فقد تعلق به كثيرا واتصل به شديدا وحكى من شدة
تعلقه وكمال اتصاله به ما يبهر لديه العقول ولم يقرع الأسماع من أحد كان كذلك بالنسبة إلى
أستاذه فكان يؤثره على نفسه وجعل نفسه منه موضع الخادم من مخدومه، وقد نقلنا نبذا من
القضايا العجيبة المنقولة عنه في هذا الموضوع، في كتاب ألفناه في ترجمته وشرح أحواله، وحق
القول أيها القارئ الكريم إنه من أعجب الأعاجيب.
ثم إنه كان مصرا على التحصيل والتحقيق ومجدا في الأخذ والاستفادة منه والاستضائة من أنواره و
عاكفا على بابه إلى أن نعى الاسلام بوفاة السيد المجدد سنة 1312 ه‍ ونعق غراب البين فتفرق
الأعلام والأساطين، والأساتذة والفطاحل فبعض قد بقي في سامرا وبعض - وهو أكثرهم) قد راح
إلى نجف أو غيره من البلدان ومنهم السيد الفشاركي فقد خرج إلى نجف وصحبه تلميذه اليزدي
الحائري ولا يزال كان يستضئ من نور علمه إلى أن وافى السيد الأجل في سنة 1316 وبعد ذلك
فقد اتصل الحائري قدس سره بالمحقق الفريد الآخوند الخراساني) صاحب الكفاية - قدس سره.
ترى أنه يعبر في الدرر عن السيد الفشاركي بسيدنا الأستاذ طاب ثراه. وعن الخراساني بشيخنا
الأستاذ دام بقاه. وعن المجدد بسيد مشيخنا الميرزا الشيرازي. ثم لما جرى بعض الجريانات
السياسية وكان لا يحب أن يكون فيها بل كان يرجح أن لا يكون في نجف كي يكون بمعزل
عنها، فلذا خرج إلى كربلاء، واشتغل هناك بالتدريس والتحقيق إلى أن هاجر من كربلاء إلى أراك -
من بلاد إيران - بدعوة بعض الأثرياء من رجال العلم واستقر هناك وشرع في التدريس وتربية
الطلاب واجتمع حوله رواد العلم وعشاق الفضيلة والكمال من كل صقع وناحية، وممن كان
في طليعتهم تلميذه الجليل القدر سيدنا الأستاذ الأكبر آية الله العظمى السيد الگلپايگاني
مد ظله العالي فقد خرج في أوان شبابه من مولده متوجها إلى أراك ولسان حاله: إني ذاهب إلى
ربي سيهدين، ولما نزل أراك والتقى بالشيخ عبد الكريم الحائري وجد ما كان يطلبه وعكف
عليه إلى نهاية مدة إقامة أستاذه في أراك.
ثم إنه قدس الله نفسه هاجر سنة 1340 إلى قم وأحيى في هذه البلدة الطيبة ما درس من آثار
السابقين، وأقام الحوزة العلمية هذه الحوزة العظيمة القيمة، وكان على ما ينقل من حاله مشوقا
لأهل الفضل خصوصا بالنسبة إلى من كان يحس منه نبوغا ويحدس فيه شأنا رفيعا.
وبعد أن هبط مدينة قم وعزم على الإقامة فيها أرسل كتابا إلى تلميذه المحبوب لديه السيد
الگلپايگاني دام ظله العالي وكان هو بعد في أراك ودعاه إلى أن يهاجر من أراك إلى قم ويلحق به
ويكون في صحبته فهاجر مد ظله على أثر ذلك إلى قم ولحق به.
ولا يزال مؤسس هذه الحوزة السامية آية العظمى الحائري قدس سره يجد بتمام سعيه في
تحكيم أساس الدين وحفظ حوزة المسلمين.
ومما أتحف الله سبحانه وتعالى هذا الرجل العظيم به أن وفق لتربية عدة غير يسيرة من العلماء الأعلام والفقهاء الكرام، وقد قيض الله تعالى له أن صار جمع من تلامذته من مراجع الأمة
الاسلامية، منهم حسنة الدهر وسيد فقهاء العصر، المرجع الأعلى آية الله العظمى الگلپايگاني
دام ظله العالي.
وعلى الاجمال فقد خص الله تعالى آية الله المؤسس الحائري هذا الرجل المخلص والعبد
الصالح بمواهب عظيمة واختاره لتلك المواقف الكريمة من أهمها تأسيس الحوزة العلمية بقم،
ومنها حدة نظره وبصيرته النافذة وخطه السياسي العريق وهو اغفال العدو السفاك عن قدرته و
نفوذه البالغ في أعماق نفوس الأمة الاسلامية، وحفظ كيان المسلمين ودفع ما كان يهدد أساس
الدين من حملات الحكومة الأجنبية وعميلها الطاغوت الخائن (الپهلوى) الفاجر، خذله الله و
أخزاه.
ومنها تلك الأخلاق الفاضلة والشيم الطاهرة، ووصوله إلى مقام كريم لم ير للدنيا وما فيها ثمنا،
إلى غير ذلك مما خصه الله تعالى به واختاره الله له، وحقيق أن يقال فيه: هنيئا لا رباب النعيم
نعيمهم.
وقد أفل هذا النجم اللامع عن سماء الفقاهة والتقوى في 17 ذي القعدة سنة 1355 في قم و
ارتحل عن دار الغرور إلى مستقر رحمة الله الواسعة في دار السرور ملبيا دعوة ربه الكريم وخسر هنالك المسلمون وافتقدوا مرجعا دينيا عظيما والحوزة العلمية أبا شريفا ووالدا بارا كريما و
قائدا روحيا وزعيما كبيرا، وذلك بعد أن تجرع من حكومة عصره الملعونة غصصا عظيمة وثلم
في الاسلام بموته ثلمة لا يسدها شئ، فرحمة الله ورضوانه على روحه الطاهرة وأفكاره العالية
وأنزله الله تعالى أعلى درجات القدس وأرفع غرف الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء و
الصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وهو وإن مات على ما هو السنة الجارية الحاكمة على كل الموجودات ولكن ما ماتت معالمه
السنية، فكل سطر من حياته الطيبة درس عميق للباقين. والسلام.
206

تعالى: " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه
207

عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال: نبأني
208

العليم الخبير " 1 قالت فلانة لزميلتها: إن الله سمع من فوق العرش...
فكانت تتصور إن الله تعالى جالس على العرش، ولم تشعر أنه تعالى منزه
عن المكان وغيره من لوازم الجسم.
ويؤيد ذلك أيضا أنه لا يزال المسلمون يلتزمون برفع أيديهم ونصب
وجوههم إلى السماء عند أدعيتهم وابتهالاتهم مع أن نسبة الجهات إليه تعالى
متساوية، ويمكن توجيه الأيدي إلى الأرض مثلا بدلا عن السماء، قال الله تعالى:
" أينما تولوا فثم وجه الله " 2
وتفهيم كثير من العوام تلك الأمور وأن التوجه إلى القبلة أو إلى السماء
إنما هو للأمر بذلك ولأن الرحمة تنزل من السماء مثلا وغير ذلك من الجهات و
الأسرار صعب جدا، وليس كل أحد يفهم هذه المطالب ويدركها حتى يحصل له
- بمجرد الاقرار بالشهادتين - الاعتقاد بكل الخصوصيات بلا أي نقصان فهذا هو
شأن الأوحدي والخواص كإمام العارفين أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث
يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا 3
والحاصل: أنه لما لم يكن تلك المطالب ضرورية يعلمها كل أحد بل
يعجز عن دركها عقول كثير من الناس، ويقصر أفهامهم، فلذا لو كان قد اشتبه

1. سورة التحريم الآية 3.
2. سورة البقرة الآية 115.
3. شرح مأة كلمة، لابن ميثم ص 52، ارشاد القلوب للديلمي الباب 37، أنوار الولاية ص 406.
209

الأمر على أحد وتخيل بأن الله جسم لا كالأجسام فليس هو محكوما بالكفر، هذا
حال الجاهل.
وأما من كان عالما بمعنى الجسم وبلوازم القول بالتجسم وآثاره فالقول
بعدم كفره مشكل، ولا يقاس هذا بمن يقول إن الله شئ لا كالأشياء، الذي نص
الإمام عليه السلام على جوازه لأن الشئ لكثرة شموله وشدة اتساع مفهومه ليس
محاطا للذهن فيشمل حتى مثل الباري تعالى باعتبار صرف وجوده بخلاف
القول بأنه تعالى جسم لا كالأجسام فإنه نظير القول بأنه تعالى مركب لا
كالمركبات وبعبارة أخرى هو في حكم القول بأنه تعالى مخلوق لا كالمخلوقات
فالنتيجة أن العالم بمعنى الجسم ولوازمه لو نسبه إلى الباري ولو بهذا النحو
الخاص فالظاهر أنه يصير كافرا.
وأما ما رمي به هشام بن الحكم من القول بالتجسيم ففيه:
أولا: أنه ليس المقصود هو التجسيم بالحقيقة، بل الظاهر منه أن المراد إن الله
جسم لا كالأجسام.
وثانيا: أن أكثر أصحابنا على ما قاله علم الهدى السيد المرتضى قدس سره
الشريف يقولون إنه أورد ذلك على سبيل الجدل والمعارضة للمعتزلة لا اعتقادا
به حيث إنهم كانوا يقولون إن الله شئ لا كالأشياء فقال لهم: إذا قلتم إن القديم
تعالى شئ لا كالأشياء فقولوا إنه جسم لا كالأجسام انتهى 1 وعلى هذا فهو قد قال
بذلك في مقام النقض عليهم لا إن هذا الكلام صحيح عنده أو أنه رحمه الله كان
معتقدا بذلك، فإنه من أجلاء الأصحاب وممدوح بمدائح بليغة. 2

1. راجع الشافي للسيد المرتضى ص 12.
2. أقول: وقد يقال في الجواب عن هذا الاشكال: إن هذا كان قبل رجوعه إلى الإمام جعفر بن
محمد فلما رجع إليه تاب ورجع إلى الحق.
قال الكراجكي في كنز الفوائد ص 199: وأما موالاتنا هشاما رحمه الله فهي لما شاع عنه و
استفاض منه من تركه للقول بالجسم الذي كان ينصره ورجوعه عنه واقراره بخطائه فيه وتوبته
منه وذلك حين قصد الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام إلى المدينة فحجبه
وقيل له: إنه قد آلى أن لا يوصلك إليه ما دمت قائلا بالجسم فقال: والله ما قلت به إلا لأني ظننت
أنه وفاق لقول إمامي فإذا أنكره على فإنني تائب إلى الله منه فأوصله الإمام عليه السلام حينئذ إليه
ودعا له بخير انتهى.
وفي طهارة السمناني ص 394: وما ينسب إلى هشام بن الحكم من التجسم افتراء وبهتان، و
شأنه أجل من هذه الخرافات إلى آخر كلامه الذي فيه نوع إهانة بالنسبة إلى علم الهدى قدس الله
نفسه وروح سائر الأصحاب.
210

والحاصل: أن القول بالتجسيم يتصور على أنحاء وصور:
فتارة يكون بحيث ينكره المسلمون كافة مثل أن يقول إن الله تعالى مركب من
ثلاثة أشياء فإنه بمكان من الفساد والبطلان عند المسلمين ويتلوه في وضوح
البطلان القول بأصل تجسمه الذي قال به بعض العامة.
- وقد لا يكون بطلانه بهذه المثابة من الوضوح بل يحتاج إلى الاستدلال و
إقامة البرهان وهو الأمر النظري الذي يحتاج اثباته إلى دليل عقلي أو نقلي وهنا
لا يمكن الحكم بالكفر لعدم كفر منكر الأمر النظري.
فترى أن علم التحقيق شيخنا المرتضى قدس سره قال بعد تحقيقه في
العقائد الضرورية: وأما النظرية فلا اشكال في عدم كفر منكرها إذ لم يرد دليل
على كفره بالخصوص انتهى. 1
نعم لو ورد دليل خاص على كفر من اعتقد بأمر خاص من تلك الأمور
يؤخذ به مع أنه ليس من الضروريات نظير ما ورد في الأخبار عن الإمام الصادق
عليه السلام: من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا المعراج والمسائلة في القبر و
الشفاعة. 2
وعلى هذا فبدون دليل خاص لا يحكم بكفر القائل بالتجسم لو لم يكن

1. طهارة الشيخ ص 312.
2. أمالي الصدوق ص 177 المجلس 49.
211

قوله منافيا للتوحيد بمراتبه الأربعة ولم يكن هو بنفسه ملتزما بالتوالي الفاسدة، و
اثبات كفره يحتاج إلى دليل خاص وهو غير موجود في المقام.
نعم ورد عن مولانا الرضا عليه السلام: من قال بالتشبيه والجبر فهو كافر
مشرك ونحن منه برءاء في الدنيا والآخرة. 1 لكن يرد عليه.
أولا: إن الرواية ضعيفة. 2
وثانيا: إن المراد من التشبيه القول بأن الله تعالى في جهة الفوق ويمكن
أن يرى، وغير ذلك من خصوصيات الجسم الحقيقي ومزاياه، وقد عدل العلماء
عن الاستدلال بها حتى في التجسم بالحقيقة واستدلوا بلزوم التركيب والحدوث
والمكان مثلا وليس هذا إلا لضعفها فلذا لا يمكن التمسك بها في اثبات كفر من
قال بأن الله جسم لا كالأجسام ولو لم يلتفت إلى لوازمه أو أنه أنكرها بعد أن ثبت
اسلامه باقراره بالشهادتين، بل يحمل الكفر في الرواية على ما يقابل الايمان
لا الاسلام، ولا دليل آخر على كفره.
اللهم إلا أن يكون المسألة مجمعا عليها ولو بين الإمامية.
والحاصل: أن التجسم من الصفات السلبية وهي صفات يحب الاعتقاد
بنزاهة ساحة قدس الله تعالى وبرائته عنها ومن المعلوم أن من أنكر واحدة منها
غفلة عن لوازمها وآثارها ليس بكافر خصوصا مع لحاظ بعد هذه المطالب عن
مستوى عقول العامة وافق أفكارهم.
ألا ترى أنه إذا قيل لواحد منهم إن الله عالم. يتخيل أن علمه تعالى كعلمنا
زائد على الذات مع أن علمه عين ذاته فهو لا يتصور ولا يتعقل اتحاد العلم مع

1. وسائل الشيعة ج 18 ص 558 الباب 10 من أبواب حد المرتد الحديث 5.
2. فإن في: سلسلة الرواية علي بن معبد مثلا وقد قال المامقاني: لم ينص فيه بتوثيق ولا مدح
انتهى.
212

الذات بل هو كالصبي الذي لو قيل له إن الله تعالى ليس له عين يتخيل أنه أعمى و
لو قيل له إنه تعالى لا سمع له، يظن أنه أصم.
وعلى الجملة فالذي يمكن أن يقال قطعا بلا أي تزلزل وارتياب وتردد و
اضطراب هو أن من قال بتجسمه تعالى ملتفتا إلى لوازمه وتواليه الفاسدة فهو
كافر نجس، وأما غير ذلك فلا.
213

الكلام حول المجبرة
ومن جملة الفرق المحكومة عليها بالكفر المجبرة. ولا يخفى أن المجبرة
على قسمين:
أحدهما القائل بالجبر المحض أي القول بصدور الأفعال مطلقا عن الله
تعالى وأنه الفاعل لأفعال المخلوقين، وكون الانسان كالجماد فكما أن الجماد
ليست له إرادة ولا يتحرك إلا بمحرك كذلك الانسان لا يتحرك إلا بيد الله ولا
يصدر منه فعل اختياري أبدا قبيحا كان أو حسنا، فالساجد لله يتخيل أنه بنفسه
وضع جبهته على الأرض والحال أنه ليس كذلك بل هو كقطعة حديد في
يد الحداد يرفعها وينزلها ويدقها على قطعة أخرى، والحاصل أنه يقول بأن الله
قد أجبر الناس على أفعالهم مطلقا.
ولا أظن أن عاقلا يتفوه بأمثال هذه الترهات والمقالات الفاسدة
215

والأباطيل الكاسدة، كيف وهي خلاف الحس والوجدان واستخفاف بشموخ
مقام الانسان بجعله آلة بلا إرادة وإن قال بها بعض الجهلة المتعصبون، حتى أني
قد رأيت في بعض الكتب المعدة في هذا الموضوع عند بيان عقيدتهم، التصريح
بكون الانسان كالحجر. 1
وغير خفي إن هذا النوع من الجبر مستلزم لانكار كل ما جاء به الشرع، و
ابطال أصل الشرعيات والنبوات، وانزال الكتب، وارسال الرسل، وخلق الجنة
والنار، ولم يبق معه مورد ومجال للوعد والوعيد، ومدح الصلحاء والأبرار، وذم
الفسقة والأشرار، وعليه يلزم أيضا أن يكون بعث السفراء العظام وانزال
الصحف السماوية الكرام لغوا لا فائدة فيه أصلا، وكذلك يلزم أن يكون خلق
الجنة والنار عبثا غير ناتج شيئا، حيث إنه بناءا على ذلك لم يتحقق فعل خير إلا
بيد الله لا باختيار الانسان فكيف يدخل الجنة ولماذا؟ وهكذا لم تقع على ذلك
معصية وخطيئة بإرادة العبد، بل الذنوب والمعاصي كلها صادرة عن الله، فلماذا
يعاقب العبد؟ وهل هو إلا العقاب على ما لم يفعله الذي هو قبيح بالضرورة
العقلية؟
ولا شك في أن هذا القسم من الجبر كفر وموجب للنجاسة بل هو من أعظم
أنواع الكفر وأشده لاستلزامه كما ذكرنا تكذيب الأنبياء جميعا وانكار الكتب
كلها وغير ذلك من التوالي الفاسدة، واللوازم الباطلة، التي لا يمكن للمسلم
الالتزام بها أبدا.
وكيف يمكن أن يقال إن شمرا لعنه الله لم يقتل الإمام أبي عبد الله الحسين
عليه السلام باختياره وإرادته بل كان قتله وقتل غيره من الأسرة الطاهرة النبوية و

1. يشهد لما ذكره دام ظله كلام العلامة في شرح التجريد قال: إنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة
الحيوان اختيارا وحركة الحجر الهابط الخ.
216

ذرية الرسول الطيبة من فعل الله سبحانه؟ ما هذا إلا بهتان عظيم.
وقد قذف بهذه الكلمة الأثيمة الكافرة أم الفساد ورأس الضلال والالحاد
عبيد الله ابن زياد، عليه لعائن الله حيث نسب قتل علي بن الحسين عليهما السلام
" الشهيد بالطف " إلى الله تعالى ورد عليه الإمام زين العابدين عليه السلام بقوله:
قتله الناس. 1
أما القسم الآخر من المجبرة فهم القائلون به لكن لا بهذه الشدة وإنما
يقولون إن الفعل مقرون بإرادة الانسان إلا أنه حيث كان إفاضة الوجود واعطاء
القوة والإرادة والامهال، من الله تعالى فالفعل ليس في الحقيقة صادرا عن
الانسان، والخطايا صادرة وناشئة عن الإرادة الحاصلة للانسان بأمر الله تعالى.
وهذا القسم من الجبر لا يوجب الكفر لو لم يلتزم ولم يلتفت قائله و
المعتقد به بلوازم الجبر المذكورة آنفا في القسم الأول لعدم كونه على خلاف
ضرورة الاسلام حتى يقتضي الكفر والنجاسة بل هو مخالف لضرورة مذهب
الشيعة حيث إن الأئمة المعصومين عليهم السلام اجتهدوا بكل قواهم وكافة
امكانياتهم لإقامة الشيعة على الحد الوسط الفاصل بين الجبر والتفويض بقولهم
لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين. وحثهم دائما بذلك الاعتقاد وأصروا على
تزريفه في أعماق نفوسهم خلافا لكثير من العامة كأصحاب الشافعي والمالك وأبي
حنيفة بل الأشاعرة من العامة مطلقا حيث ذهبوا إلى ذلك واعتقدوا بالجبر.
ونحن نقول في مقام الجواب عن القائلين بالجبر: إن أقوى دليل على
بطلانه هو الوجدان 2 ويكفي في تصديق ذلك، الرجوع إلى أول مرتبة التميز و
لا حاجة إلى أزيد من ذلك فراجعوا أول مرتبة من التميز كي تفقهوا بطلان ما

1. راجع اللهوف في قتلى الطفوف للسيد ابن طاووس قدس سره ص 143
2. ولذا قال المحقق الطوسي في التجريد في جوابهم: والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا.
217

تعتقدونه وتقولون به.
فهذا الصبي الذي لم يبلغ قد يؤاخذ الجماد على أمر خيالي عرض له إلا أنه
بمجرد رشده وبلوغه حد التميز والرشد يدع هذا الأسلوب ولا يؤاخذه من لا
شعور له ولا إرادة كالجماد على شئ أبدا، فلو وقع الحجر من يده على الأرض
لا يوبخه ولا يعاتبه ولا يقول له لم سقطت على الأرض بخلاف ما لو ضربه انسان
يؤاخذه ويعاتبه ويقول لم تضربني؟ وترى أنه لو ضربه ضارب بآلة كالخشب
والعصا فهو يذم الضارب دون آلة الضرب، ولو رماه رام بحجر مثلا فهو يلوم
الرامي دون الحجر.
فالله تعالى خلق الانسان وأعطاه القوى وأمهله وجعل وأودع فيه بحكمته
البالغة، الإرادة، إلا أنه تعالى جعل له شيئا آخر يسمى بالاختيار، والانسان في
أعماله وأفعاله ليس مسلوب الاختيار بل كل ما يصدر عنه فإنما يصدر عنه
باختياره وهذا أمر محسوس لا يقبل الانكار، فإن كل فرد من أفراد الانسان يعلم
ويدرك من نفسه أنه قادر على ايقاع فعل كذا وتركه بخلاف الجماد مثلا فإنه لا
يقدر على ذلك وليس له اختيار الفعل على الترك، أو الترك على الفعل، وترجيح
أحدهما على الآخر.
ولا يخفى أن مجرد اعطاء الاختيار ووساطته مصحح للمؤاخذة، وهو
ملاك العقاب والثواب.
وكون الخالق تعالى علة العلل وقيام وجود الانسان وإرادته وتمام قواه
به سبحانه مما لا ريب فيه إلا أنه مع ذلك كله، له أن يفعل وأن لا يفعل فتصح
مؤاخذته على فعل القبيح ولو لم يكن له حظ من هذه القدرة الثمينة والموهبة
الكريمة لما كان لمؤاخذته وجه أبدا كما لا وجه لمؤاخذة الأخرس في يوم
القيامة على عدم اقراره بالشهادتين لأنه لم يكن قادرا على التكلم والاقرار بهما
218

بخلاف من كان ناطقا طلق اللسان قادرا على الاقرار وعدمه فإنه لو لم يقربهما
لصح مؤاخذته عقلا.
219

الكلام حول المفوضة
وهم فرقة قائلون بانعزال الله تعالى عن الأفعال وارجاع الأمور إلى العباد و
أنه سبحانه فوض الأفعال إلى المخلوقين 1 هذا.
والحق أن التفويض على أقسام:
منها القول بأن الله لما خلق العباد أعطاهم قدرة أغناهم بها عنه فهم بعد
ذلك مستقلون في الأمور قائمون على وفق مشيتهم وإرادتهم وقدرتهم ولا
يحتاجون إليه وإلى حوله وقوته وهو بمعزل عن الأمور لتفويض الأمر إليهم و

1. قال: الشيخ الصدوق في رسالة الاعتقادات: اعتقادنا في الغلاة والمفوضة أنهم كفار بالله جل
اسمه وأنهم شر من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والحرورية ومن جميع أهل البدع و
الأهواء المضلة...
وفي المكاسب للشيخ الأنصاري ص 27:... إن الضروري عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل
مختار باختيار مستقل مغاير لاختيار الله كما هو ظاهر قول المفوضة.
221

ذلك مثل إن مثريا أعطى فقيرا مالا وأمره بالتجارة لنفسه فهذا الآخذ بعد قبضه و
أخذه المال المزبور يتجر لنفسه ولا يحتاج إلى المعطى أصلا، وعلى هذا فالله
تعالى وإن كان قادرا إلا أن العبد أيضا قادر لا يحتاج إليه بعد ذلك، غاية الأمر أن
الله قادر بذاته، والانسان قادر بالله سبحانه.
ولعل الذي حملهم على هذا الاعتقاد هو ما رأوه من القبائح والسوء و
الفحشاء الصادرة من الانسان فزعموا أنه لو لم يقولوا بتفويض الأمور إلى العبد
لزم نسبة تلك الذنوب والقبائح إليه تعالى فلأجل تنزيه الله عن ارتكاب الجرائم
قالوا بأن الله فوض الأمور إلى العباد ولا دخل له سبحانه في أمورهم أصلا.
ومنها القول بتفويض أمر الخلق والرزق إلى بعض عباده كان يقال إن الله
لما خلق الأرض فوض الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله فخلق هو صلى الله عليه وآله
ما فيها أو أنه تعالى خلق محمدا صلى الله عليه وآله وفوض إليه أمر العالم فهو
الخلاق للدنيا وما فيها.
وبطلان كلا القولين واضح لأن أزمة الأمور كلها بيد الله ولا غناء عنه لأحد
أبدا ولا يملك العبد في الحقيقة شيئا والله تعالى خلق الخلق وهو مدبر عالم
الوجود ومديره حدوثا وبقاءا ولولا عناية الله تعالى وإفاضة الفيوض الربانية لما
بقي شئ، ولما استقام أمر.
وعلى الجملة فحياة الانسان وتصرفاته كلها منوطة بالله والخلق كلهم
عياله وفي قبضته ومحتاجون إليه آنا فآنا. وله القدرة التامة والسلطنة الكاملة في
كل آن من الآنات.
ولازم القول بالتفويض على كلا القسمين هو سلب القدرة عن الله تعالى و
اخراجه عن سلطانه كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: إنهم أرادوا أن
222

لا ينسبوا إلى الله القبائح فسلبوا عنه القدرة. 1
ومنها القول بتفويض التكاليف إلى النبي بمعنى أنه لا يحتاج في التشريع
إلى الوحي لأن الله تعالى جعل أمر التشريع بيده وفوضه إليه فكلما جعله فهو
حكم يجب اتباعه ولا يجوز التخلف عنه.
ومنها القول بتفويضها إلى علي عليه السلام أو إليه وإلى الأئمة
المعصومين كل في زمانه، فهم غير محتاجين بعد ذلك إلى الله في التكاليف و
الأحكام، إلى غير ذلك من المقالات الفاسدة والمذاهب الباطلة.
وكل هذه الأقسام أيضا باطل مخالف للشرع لأن الأئمة عليهم السلام لا
يقولون إلا ما قاله النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وهو لا يقول إلا ما أمره
الله تعالى به قال الله تعالى: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " 2
وأما قوله تعالى: " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهيكم عنه فانتهوا " 3
فليس المراد منه مجيئ الرسول بشئ من عند نفسه وبدون أخذه من الله بل المراد
منه وجوب أخذ ما جاء به الرسول المعلوم أنه من الله سبحانه فكل ما جاء وأتى به
النبي والأئمة من عترته صلوات الله عليهم أجمعين فهو مأخوذ من الله وإن لم
يذكر في القرآن تفصيلا.
وعلى الجملة فالنبي واسطة في الرسالة لا جاعل الأحكام والتكاليف و
مقنن للقوانين.

1. أقول: لم أعثر على رواية بهذا اللفظ نعم روى في الوسائل ج 18 ص 558 عن الصادق: الناس
في القدر على ثلاثة أوجه رجل يزعم أن الله تعالى أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله في
حكمه فهو كافر ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم فهذا قد أوهن الله في سلطانه فهو كافر...
2. سورة النجم الآية 3 و 4 وقوله تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا
بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي سورة الأحقاف الآية. 9.
3. سورة الحشر الآية 7.
223

وهنا اشكال وهو أنه 1: كيف لا دخل للنبي صلى الله عليه وآله في
جعل الأحكام، وهذه الروايات المنقولة في كتب الحديث والمجامع المعتبرة
مثل الكافي صريحة في أن النبي أضاف الركعتين 2 على ركعتي الظهر والعصر
لجهة مذكورة فيها وقد أمضاها الله تعالى وأنفذها ولولا أن الأحكام مفوضة
من الله تعالى إليه لما كان يضيف الركعتين مثلا.
والجواب عنه: إن هذه الإضافة كانت بعد استدعائه من الله تعالى وقبوله
سبحانه لذلك وليس ضم شئ بعد استدعاء ضمه من الله وقبوله وامضائه، من
باب جعل الأحكام وتشريعه من عند نفسه، وكون الأمر مفوضا إليه، ولو كانت
هذه الإضافة من قبل التفويض الواقعي لما احتاجت إلى امضاء الله تعالى و
انفاذه، والحال أنه نص في بعض الروايات على إجازة الله لذلك.
كما ورد في الأخبار إن عبد المطلب خمس ما له في الجاهلية ولما بزغ
فجر الاسلام أنفذ الله تعالى ذلك 3 ومن هذا الباب تحريم الله ما حرم إسرائيل على

1. أورده بعض تلامذة سيدنا الأستاذ دام ظله العالي.
2. من جملة هذه الروايات رواية فضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لبعض
أصحاب قيس المعاصر: إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال: إنك لعلى
خلق عظيم. ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده... ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة
ركعتين ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة
فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة
في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل ذلك كله الخ. الكافي ج 1 ص 266، وسائل الشيعة ج 3
ص 31.
3. روى الصدوق... عن علي بن أبي طالب عن النبي أنه قال في وصية له: يا علي أن عبد المطلب
سن في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الاسلام:
حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل: ولا تنكحوا ما نكح آباء كم من النساء.
ووجد كنزا فأخرج منه الخمس وتصدق به فأنزل الله عز وجل: واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن
لله خمسة الآية.
ولما حضر زمزم سماها سقاية الحاج فأنزل الله عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد
الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، الآية.
وسن في القتل مأة من الإبل فأجرى الله ذلك في الاسلام.
ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط فأجرى الله ذلك
في الاسلام الخ الخصال أبواب الخمسة ح 90
224

نفسه، 1 إلى غير ذلك من الموارد فإنها لا تدل على التفويض أصلا. 2
وما ورد في الأخبار من التعبير بتفويض أمر الدين إلى النبي والأئمة
عليهم السلام،
فمعناه أنهم حافظون لشؤون الدين وأمناء الله على حدود الله وحلاله و
حرامه وأوامره ونواهيه، وإلا فهو مخالف لصريح قوله تعالى: " وما ينطق
عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " وعلى الجملة فالقول بالتفويض بأنحائه
المذكورة باطل لا يصار إليه.
قال الشيخ الصدوق في باب اعتقاد نفي الجبر والتفويض: اعتقادنا في
ذلك قول الصادق عليه السلام: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين... 3
وعلى هذا فالقول به مخالف لمذهب الإمامية وأما مخالفته لضروري
الدين وايجابه الكفر والنجاسة فهو موقوف باستلزامه تكذيب النبي وانكار
النبوة والقرآن أيضا.
كما أن القسم الأول منه مستلزم لسلب القدرة ونقض التوحيد، وفيه
تكذيب النبي والقرآن لأن الله تعالى يقول في اليهود: " قالت اليهود يد الله مغلولة

1. سورة آل عمران الآية 93.
2. يقول المقرر: هذا مضافا إلى عدم الوثوق والاطمينان على أمثال هذه الرواية وذلك لما ورد في
الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يقترح على ربه في شئ يأمره به " مجمع البحرين
مادة قرح، واقترحت عليه شيئا سئلته إياه من غير روية. "
3. إعتقادات الصدوق المطبوع مع شرح باب حادي عشر ص 98 ومثله كلامه في الهداية ص 5
فراجع وراجع الكافي ج 1 ص 160 ح 13.
225

علت أيديه ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " 1 وعلى هذا
فهو كفر وضلال والمعتقد به كافر نجس هذا.
وأما ساير الأقسام فليس كفرهم بهذا الوضوح فكلما لزم منه تكذيب
الرسالة مع العلم به والالتفات إليه فهو أيضا كذلك وإلا فمجرد القول بالتفويض
لا يقتضيه وإن كان على خلاف ضروريات المذهب فإن انكار ضروري
المذهب يوجب الخروج عن ربقة التشيع لا الاسلام، بخلاف تكذيب النبي الذي
يلزم من إنكار ضروري الدين فإنه يوجب الخروج عن دائرة الاسلام، والدخول
في حوزة الكفر.
تذنيب يناسب المقام
ثم إن بعضا ممن اعتنق تلك المبادئ الفاسدة، والمذاهب والمقالات
الكاسدة - التي أمضينا الكلام فيها - وغيرها قد يتمسك بآيات أو روايات،
فيفسرها بحيث تطابق تلك المعتقدات الباطلة، فهنا نقول:
قد يكون التفسير والتوجيه واضح الفساد والبطلان وأقبح من طرح الآية
أو الرواية، ومن هذا القبل قول بعض الفلاسفة إن المعاد روحاني والجنة والنار
ليستا جسمانيتين وإن المراد من الجنة والنعم المعدة في الآخرة هو النشاط
الروحي وانبساط النفس وابتهاجها في النشأة الآخرة وسرورها بالأعمال
الصالحة التي قد تزود بها الانسان من دنياه، والمراد من نار الجحيم والعذاب
الأليم هو الآلام النفسانية، إلى غير ذلك من الترهات والأقاويل الكافرة.
وعلى الجملة فهذا النوع من التفسير والتأويل واضح الفساد وموجب

1. سورة المائدة الآية 64.
226

للكفر والنجاسة فإنه خلاف الآيات الكريمة الناطقة بالمعاد البدني 1 الناصة في
ذلك.
أضف إلى ذلك أن من يفسر الآيات بهذا النحو والنسق وفقا لعقيدته
الفاسدة فكأنه يتخيل ويزعم أن أحدا من الأكابر والأصاغر لا يعرف ولا يفهم
معناها وإنما هو وحده قد فهمه، ومآل ذلك نزول القرآن لا جله فقط، كما أنه
يستلزم لغوية نزوله بالنسبة إلى غيره من الناس حيث إنهم لا يفهمون معنى الآيات
ولا يفقهون مغزى معارف الكتاب ومستلزم لاغراء الله تعالى عباده بالجهل.
نعم الحكم بكفر القائل بالأمور المزبورة موقوف على علمه والتفاته إلى
تلك اللوازم.

1. قال الله تعالى: " أولم يرى الانسان إنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا و
نسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
عليم " سورة يس الآية 77 و 78.
وقال تعالى: " كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " سورة النساء الآية
56.
وقال سبحانه: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " سورة
فصلت الآية 21.
وقال تعالى: " أيحسب الانسان ألن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه " سورة القيامة
الآية 3 و 4. إلى غير ذلك من عشرات آيات صريحة في ذلك.
فانظر بعين الانصاف فهل يمكن توجيه هذه الآيات الشريفة وهل هي قابلة للتأويل؟ ولذا قال
بعض بعد ذكر آية أو لم ير الانسان، إلى قوله: بكل خلق عليهم، ونقل حكاية أبي بن خلف،
الواردة في شأن نزول الآية: وهذا مما يقطع عرق التأويل بالكلية.
وقال العلامة المجلسي رضوان الله عليه: اعلم أن القول بالمعاد الجسماني مما اتفق عليه جميع
المليين وهو من ضروريات الدين ومنكره خارج عن عداد المسلمين والآيات الكريمة في ذلك
ناصة لا يعقل تأويلها، والأخبار فيه متواترة لا يمكن ردها ولا الطعن فيها وقد نفاه أكثر ملاحدة
الفلاسفة تمسكا بامتناع إعادة المعدوم ولم يقيموا دليلا عليه بل تمسكوا تارة بادعاء البداهة و
أخرى بشبهات واهية لا يخفى ضعفها على من نظر فيها بعين البصيرة واليقين وترك تقليد
الملحدين من المتفلسفين انتهى.
227

وقد لا يكون توجيهه وتأويله بهذه المثابة من وضح بطلانه بل هناك
نوع خفاء يمكن عادة توجيهها كذلك، وهنا لا يمكن الحكم بكفر من قال به
تمسكا بالآيات والروايات لاحتمالها ذلك عرفا.
228

الكلام حول المخالفين
من جملة المباحث التي وقعت موردا للنقض والابرام وصارت معركة
آراء الأعلام هو البحث في طهارة المخالفين ونجاستهم.
فقال صاحب الجواهر قدس سره: الأقوى طهارتهم... وفاقا للمشهور،
انتهى ويستفاد منه أن غير المشهور قائلون بنجاستهم.
وقال صاحب الحدائق: المشهور بين متأخري الأصحاب هو الحكم
باسلام المخالفين وطهارتهم، وخصوا الكفر والنجاسة بالناصب، (إلى أن قال:)
المشهور في كلام أصحابنا المتقدمين هو الحكم بكفرهم ونصبهم و
نجاستهم وهو المؤيد بالروايات الإمامية.
ثم إنه رحمه الله ذكر أسماء عدة من الأعلام والأكابر القائلين بالنجاسة 1 و

1. وهم الشيخ ابن نوبخت من متقدمي الأصحاب ومتكلميهم والمفيد والشيخ الطوسي وابن
إدريس والعلامة وابن براج والسيد المرتضى والمولى محمد صالح المازندراني والمولى
أبو الحسن الشريف ابن الشيخ محمد طاهر وغيرهم.
229

لكن ليس هؤلاء كلهم من المتقدمين بل فيهم من كان من المتوسطين
والمتأخرين، فالأولى مراجعة كلمات القدماء ليعرف آرائهم وفتاويهم فإنهم
أعمدة الدين ووسائط بيننا وبين الأئمة المعصومين، صلوات الله عليهم أجمعين.
ويظهر من كلامه قدس سره إن منشأ الخلاف في المسألة وأول من قال
بالطهارة هو المحقق صاحب الشرايع وإليك نص كلام الحدائق:
إن من جملة من صرح بطهارة المخالفين - بل ربما كان هو الأصل في
الخلاف في هذه المسألة في القول باسلامهم وما يترتب عليه - المحقق
في المعتبر...
أقول: ويرد عليه إن بعضا من الأركان قبل المحقق أيضا قد قال بطهارة
أهل الخلاف وليس هو المبتكر لهذا القول والبادئ به قال المحقق في المعتبر:
أسئار المسلمين طاهرة وإن اختلفت آرائهم عدا الخوارج والغلاة، وقال الشيخ في
النهاية بنجاسة المجبرة والمجسمة، وخرج بعض المتأخرين بنجاسة من لم يعتقد
الحق عدد المستضعف. 1
ومراده من بعض المتأخرين هو ابن إدريس حيث قال: المخالف لأهل
الحق كافر بلا خلاف بيننا. 2
ثم إن المحقق قدس سره قد استدل على ما ذهب إليه من طهارتهم بأمور:
أحدها ما ذكره بقوله: لنا إن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن يجتنب سؤر
أحدهم وكان يشرب من الموضع الذي تشرب منه عايشة، وبعده لم يجتنب علي عليه السلام سؤر أحد من الصحابة مع مباينتهم له ولا يقال: كان ذلك تقية لأنه لا

1. المعتبر، الطبع القديم ص 24، الطبع الحديد ج 1 ص 97.
2. السرائر ج 1 ص 356 بحث صلاة الميت ولفظه: والمخالف للحق كافر، بلا خلاف بيننا.
230

يصار إليه إلا مع الدلالة.
ثانيها ما أفاده بقوله: وعن علي عليه السلام أنه سئل أيتوضأ من فضل
جماعة المسلمين أحب إليك أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال: بل من فضل
وضوء جماعة المسلمين فإن أحب دينكم إلى الله تعالى الحنيفية السهلة السمحة و
ذكره أبو جعفر بن بابويه في كتابه. 1
أقول: بيان هذه الرواية إن عدم استعمال سؤرهم أمر مشكل، وفي اجتنابه
صعوبة وزحمة على العباد، ومن المعلوم أن الاسلام هو الشريعة السهلة السمحة و
دين فيه من اليسر والسهولة ما لا يخفى، فلذا لا يجب الاجتناب ولا يلزم تحمل
هذا الأمر الشاق.
والايراد عليه في استدلاله هذا بشموله للخوارج والنواصب أيضا مع أنهم
كفار بلا كلام ويجب الاجتناب عنهم قطعا، في غير محله.
وذلك لأن غرضه هو اثبات طهارتهم في الجملة، وهذا لا ينافي استثناء
أفراد خاصة بالدليل المخصص.
ثالثها: رواية عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله
صلى الله عليه وآله كان يغتسل هو وعايشة من إناء واحد. 2
رابعها قوله: ولأن النجاسة حكم مستفاد من الشرع فيقف على الدلالة
ثم قال: أما الخوارج فيقدحون في علي عليه السلام وقد علم من الدين
تحريم ذلك فهم الاعتبار داخلون في الكفر لخروجهم عن الاجماع وهم
المعنيون بالنصاب وأما الغلاة فخارجون عن الاسلام وإن انتحلوه انتهى.
وحيث إن صاحب الحدائق كان قائلا بنجاسة المخالفين فقد أجاب عن

1. من لا يحضره الفقيه ج 1 باب المياه ح 16.
2. وسائل الشيعة ج 1 ص 168 ب 7 من أبواب الأسئار ح 1.
231

تلك الوجوه.
أما عن حديث السؤر وحكاية عايشة فبان الولاية التي هي معيار الكفر و
الايمان إنما نزلت في آخر عمره صلى الله عليه وآله في غدير خم والمخالفة
فيها المستلزمة لكفر المخالف إنما وقعت بعد موته فلا يتوجه الايراد بحديث
عايشة والغسل معها من إناء واحد ومساورتها كما لا يخفى وذلك لأنها في
حياته على ظاهر الايمان وإن ارتدت بعد موته كما ارتد ذلك الجم الغفير
المجزوم بايمانهم في حياته صلى الله عليه وآله.
ثم نقض على المحقق بما حاصله أنه يعترف بكفر من أنكر ضروريا من
ضروريات الدين وإن لم يعلم أن ذلك منه عن اعتقاد ويقين ولا يحكم بنجاسة
من يسب أمير المؤمنين عليه السلام وأخرجه قهرا مقادا يساق بين جملة
العالمين...
ونحن نقول: بالنسبة إلى قصة عايشة: إن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام و
وصايته كانت أمرا مسلما من أوائل أمر الدعوة وظهور الاسلام خصوصا بالنسبة
إلى من كان في بيت رسول الله كما يدل على ذلك حديث يوم الدار 1، وعداوة
عايشة لأمير المؤمنين عليه السلام أيضا لم تكن منحصرة بما بعد وفاة النبي

1. وهو أنه لما نزلت قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الأقربين " (سوره الشعراء الآية 214) صنع
رسول الله صلى عليه وآله طعاما وجمع بين عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا فأكلوا
جميعا... وفعل ذلك في يوم بعده وبعد أن أكلوا - من الطعام القليل - حتى ما لهم بشئ حاجة...
تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء
قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن
أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال
علي عليه السلام: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت: وإني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا... آنا يا
نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له
وأطيعوا قال: فقام القوم يضحكون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع، راجع
الغدير ج 2 ص 278 وقد نقله عن تاريخ الطبري ج 2 ص 216 وعن جماعة من أهل السنة.
232

الأعظم صلى الله عليه وآله وارتحاله بل هي لا تزال كذلك في حياته وبعد
وفاته. 1
ويرد على ما أورده من النقض بأن كل ما يؤتى به بالنسبة إلى
أمير المؤمنين من الهتك والظلم فليس من باب انكار الضروري للدين ولا من
باب الانكار بل ربما يكون منشأ ذلك هو غلبة الهوى...
وأجاب عن حديث الوضوء من فضل وضوء جماعة المسلمين بوجهين:
أحدهما: أنه مصادرة بالمطلوب.
ثانيهما: إنا لا نسلم أن المراد بالاسلام في الرواية معناه الأعم، بل المراد منه
هو المعنى المرادف للايمان.

1. كما يفصح عن ذلك ما ورد في حديث الطير من أن عليا عليه السلام قد طرق الباب ليدخل على
رسول الله ثلاث مرات ولم تأذن له أن يدخل حتى قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله في الثالثة:
يا عايشة افتحي له الباب... وورد في آخر هذا الخبر أن النبي قال لها: ما هو بأول ضغن بينك و
بين على وقد وقفت على ما في قلبك لعلى أنك لتقاتلينه... راجع البحار ج 38 ص 348.
وأيضا ما رواه عن كشف اليقين عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: دخلت على رسول الله
صلى الله عليه وآله قبل أن يضرب الحجاب وهو في منزل عايشة فجلست بينه وبينها فقالت:
يا ابن أبي طالب ما وجدت مكانا لاستك غير فخذي؟ أمطه عني فضرب رسول الله صلى الله عليه
وآله بين كتفيها ثم قال لها: ويك ما تريد من أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين.
راجع البحار ج 22 ص 244.
وما حكاه ابن أبي الحديد عن شيخه اللمعاني في علة ضغنها - بعد كلام طويل له -: ثم كان بينها
وبين علي عليه السلام في حياة رسول الله صلى عليه وآله أحوال وأقوال كلها تقتضي تهييج
النفوس نحو قولها له وقد استدناه رسول الله فجاء حتى قعد بينه وبينها وهما متلاصقان: أما
وجدت مقعدا لكذا - لا تكنى عنه - إلا فخذي ونحو ما روى أنه سايره يوما وأطال مناجاته
فجاءت وهي سائرة خلفها حتى دخلت بينهما وقالت: فيم أنتما فقد أطلتما. فيقال إن رسول الله
صلى الله عليه وآله غضب ذلك اليوم... راجع شرح ابن أبي الحديد ج 9 ص 194 وقال في ص
199: هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب رحمه الله ولم يكن يتشيع وكان شديدا في الاعتزال
وفي نهج البلاغة خطبة 155:... وأما فلانة فأدركها رأي النساء وضغن غلا في صدرها كمرجل
ألقين ولو دعيت لتنال من غيري ما أنت إلى لم تفعل الخ.
233

توضيحه إنا لو كنا نعلم أن المراد التوضئ من سؤر المخالفين لكان هذا
دليلا على المطلوب ولكن الرواية لم تدل على أزيد من جواز الوضوء من فضل
جماعة المسلمين، ومن الممكن فرض كونهم من موالي أمير المؤمنين ومحبيه و
أشياعه لا من المخالفين، واستشهد لذلك بقول بعض العلماء الأعيان فراجع.
ثم أورد على المحقق - فيما قاله في الخوارج من أنهم المعنيون بالنصاب -
بالخروج عن مقتضى النصوص المستفيضة في الباب وعدم موافق له في ذلك لا
قبله ولا بعده من الأصحاب.
والمستفاد من ايراده هذا هو أن النواصب مطلق المخالفين لا طائفة
خاصة منهم على ما أفاده المحقق من تفسير الخوارج بهم.
وفي هذا المطلب وما ذكره قبل ذلك ما لا يخفى.
ثم إنه رحمة الله عليه ذكر أخبارا دالة - عنده وبزعمه - على كفر المخالفين
ونجاستهم - دفعا لما أورده المحقق في الوجه الرابع من أن النجاسة حكم مستفاد
من الشرع فيقف على الدلالة - ونحن نذكر تلك الأخبار ونتعرض لما فيها.
قال: فمنها ما رواه في الكافي بسنده عن مولانا الباقر عليه السلام قال: إن
الله عز وجل، نصب عليا (عليه السلام) علما بينه وبين خلقه فمن عرفه كان
مؤمنا، ومن أنكره كان كافرا، ومن جهله كان ضالا. 1
وفيه أن الظاهر منها بقرينة قوله: ومن جهله كان ضالا، هو انكار الولاية
عن علم وفهم، لأن الجهل به عليه السلام هو الجهل بشامخ مقامه وإن عرف
شخصه فمن جهل أمر الولاية فهو ضال، وفي قباله من أنكر عالما بعلو شأنه
ورفعة مقامه وسمو مكانته وأنه المنصوص بالخلافة قطعا، ولا اطلاق لقوله: و
من أنكره كان كافرا، حتى يشمل الجاهل أيضا حيث إن الجملة الأخيرة متعرضة

1. أصول الكافي ج 1 ص 437.
234

للجاهل بالخصوص.
فحاصل الرواية أن العارف بشأنه مؤمن، والمنكر الجاهل ضال، والمنكر
العالم كافر، فلم يثبت الكفر إلا للمنكر العالم ولا نتضائق عن ذلك فإنه أمر مسلم
مفروغ عنه، فإن الانكار مع العلم واليقين يستلزم تكذيب النبي صلى الله عليه و
آله وسلم، لكن أين هنا ومدعى صاحب الحدائق من كفر مطلق المخالفين مع أن
أكثر هم ليسوا من المنكرين عن علم ويقين بل منشأ انكار أكثر هم هو الجهل و
الشبهة فالرواية على خلاف مدعاه أدل مما استدل له بها.
وإن شئت مزيد توضيح للمقام نقول: إن الانكار على ثلاثة أقسام:
1 - الانكار مع العلم.
2 - الانكار مع الشك وهذا لا يتحقق إلا بمعنى أنه لو كان في الواقع فهو
ينكره، وإلا فالشك لا يجامع الانكار لأن معنى الشك هو احتمال الصحة
كاحتمال البطلان والدوران بينهما فكيف يمكن انكار شئ مع احتمال صحته؟
3 - الانكار مع الجهل المركب وهذا في الحقيقة ليس انكارا بل هو الجهل
المحض وإن كان انكارا بالنسبة إلى معتقدنا، والرواية متعرضة للأول والثالث و
أن المنكر بالنحو الأول كافر، وبالنحو الأخير ضال، لكن لا يخفى أن الانكار
بالنحو الأخير أيضا قسمان:
فتارة لا ينافي التصديق الاجمالي بما قاله النبي صلى الله عليه وآله
نظير قطع الفقيه وافتاءه بشئ فهو ينكر ما يخالفه لكنه بحيث لو علم أن الحق هو
ما يخالف قوله لأقر بذلك واعترف بخطأه.
وأخرى ينافيه بحيث ينكر شيئا مصرا عليه حتى ولو علم بخطأه كمن
يقول: إني لا أقبل أمر كذا وإن كان حقا في الواقع، فانكار هذا الشخص ينافي
التصديق الاجمالي ويرجع أمره إلى القسم الأول من الأقسام الثلاثة، وعلى أي
235

حال فلا يصح التمسك بهذه الرواية في اثبات دخل الولاية في تحقق الاسلام
مضافا إلى الاقرار بالشهادتين.
ومنها: عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: إن عليا (عليه السلام) باب من
أبواب الجنة فمن دخل بابه كان مؤمنا ومن خرج من بابه كان كافرا ومن لم
يدخل فيه ولم يخرج منه كان في الطبقة الذين لله عز وجل فيهم المشيئة. 1
أقول: الظاهر أن المراد من قوله فمن دخل بابه الخ هو لمصدق للولاية
المعترف بالوصاية فهو المؤمن حقا، ومن قوله (ع): ومن خرج من بابه الخ هو
المنكر لها عن علم وعرفان، فهو الكافر، ومن قوله: من لم يدخل ولم يخرج الخ
هو المستضعف إما لضعف عقله ودركه أو لعدم مساعدة الوسائل والتوفيق للعلم
وإن كان بحيث لو ساعدته الوسائل لعلمها فهو في الطبقة الذين لله عز وجل
فيهم المشيئة وأمره موكول إلى الله يحكم فيه ما يريد.
وهذه أيضا لا تدل على مدعاه حيث إنها تدل على كفر الخارج عن باب
الولاية عالما عارفا، ونحن أيضا نقر ونعترف بذلك، وإنما النزاع في كفر مطلق
المخالف ولم يثبت ذلك.
ومنها: عن الصادق عليه السلام قال: من عرفنا كان مؤمنا ومن أنكرنا كان
كافرا، ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالا حتى يرجع إلى الهدى الذي افترضه
الله عليه من طاعتنا الواجبة فإن مات على ضلالته يفعل الله به ما يشاء. 2
أقول: إن معنى قوله عليه السلام: يفعل الله به ما يشاء، هو أنه يمكن
مساعدة وسائل المغفرة كما أنه يمكن عدم مساعدتها له فقد ورد في بعض
الروايات شفاعة أمير المؤمنين عليه السلام للمخالف إذا لم يكن معاندا

1. أصول الكافي ج 2 ص 389.
2. أصول الكافي ج 1 ص 187.
236

له عليه السلام.
ومعنى قوله: لم يعرفنا ولم ينكرنا، هو الساكت عن أمر الولاية كمن يقول
عند ذكر هذه الأمور: ما لنا والغور فيها ذروها بحالها حقا كانت أو باطلا.
وهذه الرواية أيضا لا تدل على مدعاه بل هي صريحة في أن مجرد عدم
قبول الولاية لا يوجب الكفر بل يوجب الضلالة.
نعم نقل بعد هذه الأخبار روايات تدل باطلاقها على كفر المخالفين.
ومنها ما رواه الصدوق عن أبي عبد الله عليه السلام: إن الله تبارك تعالى
جعل عليا عليه السلام علما بينه وبين خلقه ليس بينهم وبينه علم غيره فمن تبعه
كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا ومن شك فيه كان مشركا. 1
فإن قوله عليه السلام: ومن جحده كان كافرا، وإن كان ظاهرا في الجحد
عن علم ويقين إلا أنه عليه السلام صرح بعد ذلك بشرك الشاك أيضا وعندئذ يقع
التعارض بينها وبين ما مضى من الأخبار الدالة على ضلالة من لم يعرفهم ولم
ينكرهم، وعدم شركه.
ويمكن أن يجمع بينهما بأحد وجهين:
أحدهما: بالاطلاق والتقييد فإن قوله عليه السلام: من لم يعرفنا ولم ينكرنا
مطلق يشمل الشاك وغيره.
وأما قول أبي جعفر عليه السلام في هذه الرواية: ومن شك فيه كان مشركا
خاص بحال الشك، والنتيجة اختصاص الضلالة وعدم الكفر بمن لم يعرفهم لا
مع الشك بل لعدم انقداح الاحتمال فيه حتى يحقق وتتم عليه الحجة، فلو انقدح
فيه الاحتمال ولم يعتن به وترك الفحص والتحقيق والتنقيب وبقي على ما كان
عليه من الشك يكون مشركا فكأنه لا يريد التصديق الاجمالي للنبي صلى الله عليه

1. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ص 249.
237

وآله حيث إن الشاك في التكليف الاعتقادي المحتلم له يجب عليه الفحص و
النظر، ومعنى عدم نظره وتحقيقه هو عدم قبوله وتسليمه له لو كان في الواقع
كذلك ولا يجرى أصالة البراءة أو الاستصحاب في الأمور الاعتقادية - بخلاف
احتمال التكليف في غير الاعتقادات من الأمور التكليفية - بل الواجب هو
الاجتهاد والفحص بمجرد الاحتمال والشك، كما أنه يجب النظر في المعجزة
لتبين صدق مدعي النبوة وكذبه فربما يكون صادقا ومرسلا من الله، فلو ترك
النظر فيها فلم يصدقه يكون كافرا.
لا يقال: إن مقتضى وجوب دفع الضرر المحتمل في الصورة الأولى أيضا
هو وجوب الفحص فمع تركه يكون كالثاني فلا فرق بينهما أصلا.
لأنا نقول: ليس هناك احتمال الضرر حتى يجب دفعه حيث إن المفروض
عدم انقداح الاحتمال أصلا وهذا أمر جار في مطلق الأمور الاعتقادية حتى
بالنسبة إلى الاعتقاد بمبدأ الوجود، فلو كان قاصرا لم ينقدح فيه احتمال
وجود المبدأ من رأس ولم ينظر في الأدلة والشواهد حتى يوحد الله تعالى ويؤمن
به، فهو لا يستحق العقاب ويكون أمره إلى الله ومعه قال الله تعالى: " وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا " 1 وليس المقصود من البعث مجرده حتى ولو
بلا وصول أو بلا انقداح الاحتمال.
ثانيهما: أن يقال: إن المراد من الشك في علي عليه السلام الموجب للكفر
هو ما يلازم الشك في النبوة كان يحتمل أنه اصطفاه النبي صلى الله عليه وآله، و
نصبه وصيا لكونه صهرا له وأنه من أسرته، وبعبارة أخرى قد انتخبه للوصاية من
عند نفسه وارضاءا لهواه، نعوذ بالله من ذلك.
ويؤيد ذلك ما نطقت به التواريخ من سؤال بعض أنه هل كان نصب على

1. سورة الإسراء، الآية 15.
238

للخلافة من عند نفسه صلى الله عليه وآله أو بأمر الله تعالى؟ فهذا الشك ملازم للشك في النبوة
ولذا يوجب الكفر، بل ربما يوجب رد أمر الله تعالى كما يشهد بذلك ما نقل في
ذيل آية: " سئل سائل بعذاب واقع، للكافرين ليس له دافع " من أن واحدا منهم
قال: اللهم إن كان هذا من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. 1
ومن جملة تلك الروايات ما عن الصادق عليه السلام قال: إن عليا
عليه السلام باب هدى من عرفه كان مؤمنا ومن خالفه كان كافرا ومن أنكره
دخل النار. 2
ومنها ما عن الصادق عليه السلام أيضا قال: الإمام علم بين الله عز وجل و
بين خلقه، من عرفه كان مؤمنا ومن أنكره كان كافرا. 3
تقريب الاستدلال إن الانكار وإن كان بحسب ما ذكر سابقا ظاهر
في الانكار عن علم ويقين إلا أنه يمكن شموله هنا للانكار عن جهل أيضا حيث
لا تعرض هنا لصورة الجهل بالخصوص كي يختص الانكار بصورة العلم،
بخلاف الروايات المذكورة سابقا فإنها متعرضة لحال الجهل أيضا نظير قوله
عليه السلام: ومن جهله كان ضالا.

1. فعن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه و
آله عليا وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه طار ذلك في البلاد فقدم على النبي صلى الله عليه وآله النعمان بن
الحارث الفهري فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد و
الحج والصوم والصلاة والزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت من كنت مولاه
فعلي مولاه فهذا شئ منك أو أمر من عند الله؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو إن هذا من عند الله،
فولى النعمان بن الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة
من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، وأنزل الله تعالى: سأل سائل بعذاب واقع. راجع
مجمع البيان ج 5 ص 352.
2. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال ص 248 ولفظه هكذا: عن محمد بن جعفر عن أبيه عليه السلام
قال: علي عليه السلام باب الهدى من خالفه كان كافرا ومن أنكره دخل النار.
3. كمال الدين وتمام النعمة ص 412 ب 39 وحكاه في البحار ج 23 ص 88.
239

وفي الأمالي بسنده عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال لحذيفة اليماني:
يا حذيفة إن حجة الله عليكم بعدي علي بن أبي طالب عليه السلام، الكفر به كفر
بالله سبحانه، والشرك به شرك بالله سبحانه، والشك فيه شك في الله سبحانه، و
الالحاد فيه الحاد في الله سبحانه والانكار له انكار الله سبحانه والايمان به ايمان
بالله تعالى، لأنه أخو رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه وإمام أمته ومولاهم و
هو حبل الله المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها... 1
أقول: يمكن الخدشة في دلالة هذه الرواية فإن ظاهر قوله عليه السلام:
الكفر به الخ هو الكفر مع العلم بأن الله جعله علما وحجة وكذا الشك فيه مع
العلم بنص النبي صلى الله عليه وآله شك في الله لأن معناه الشك في صحة النص
المزبور فكأنه شك في كلام الله تعالى، وعلى هذا فلا دلالة ظاهرة لهذه الرواية
على ما كان بصدده.
ومنها ما رواه الصحاف قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قوله تعالى:
(فمنكم كافر ومنكم مؤمن) فقال: عرف الله تعالى ايمانهم بموالاتنا وكفرهم
بها يوم أخذ عليهم الميثاق وهم ذر في صلب آدم. 2
إلى غير ذلك من الروايات التي تمسك بها صحاب الحدائق رضوان الله
عليه على كفر المخالفين المنحر فين عن ولاية أمير المؤمنين وأولاده الطيبين
فراجع.
وهي معارضة لما تقدم سابقا من الروايات الشارحة لمفهوم الاسلام
الدالة على عدم كون الولاية شرطا في الاسلام وأنها شرط الايمان وإنما ملاك
الاسلام وتمام حقيقته هو الاقرار بالشهادتين.

1. أمالي الصدوق، م 36 ص 119.
2. أصول الكافي ج 1 ص 426 والآية: سروة التغابن الآية 2.
240

وقد جمع بينها بنحوين:
أحدهما: إن الكفر الذي أطلق عليهم في هذه الأخبار هو الكفر الحقيقي و
إن كانوا مسلمين في الظاهر بحسب الروايات المتقدمة فتجري عليهم أحكام
الاسلام من طهارة البدن وجواز المناكحة وصيانة المال وحقن الدم والموارثة
فهم مخلدون في النار لما ذكر من أنهم كفار حقيقة وواقعا.
ثانيهما: حمل كفرهم على بعض معانيه ومرتبة من مراتبه وهو كفر الترك
حيث إنهم تركوا وأضاعوا ما أمر الله تعالى به فالكفر هنا نظير كفر من ترك الحج
الذي نص عليه في القرآن الكريم بقوله تعالى: " ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " 1 وأيضا نظير ما ورد من
أن تارك الصلاة كافر 2 وتارك الزكاة كافر. 3
وأورد في الحدائق على الوجه الأول من أنهم مسلمون ظاهرا وكفار
حقيقة بأنه لم يقم دليل على ذلك في غير المنافقين في وقته صلى الله عليه وآله
وسلم... والمتبادر من اطلاق الكفر حيث يذكر إنما هو ما يكون مباينا للاسلام و
مضادا له في الأحكام إذ هو المعنى الحقيقي للفظ...
لكن الانصاف عدم ورود اشكاله وذلك لعدم المناص عن الجمع بين
الأخبار فإذا كان بعض الروايات ناطقة بكفر المخالفين، وبعضها ناطقة بخلاف
ذلك صريحة في اسلام المقر بالشهادتين فما يصنع هناك لو لم يجمع بينهما
كذلك. ولكنه رضوان الله عليه لم يتعرض للأخبار المعارضة ولم يذكرها أصلا

1. سورة آل عمران الآية 97.
2. وسائل الشيعة ج 3 ص 28 ب 11 من أعداد الفرائض ح 4.
3. وسائل الشيعة ج 6 ب 4 من أبواب ما تجب فيه الزكاة باختلاف يسير لفظا.
241

مع صراحتها في كون الولاية شرطا في الايمان لا في الاسلام، وأن المعيار
الأصيل في الاسلام هو شهادة التوحيد والرسالة.
ثم إن له رحمة الله عليه استدلالا آخر على كفر المخالفين ونجاستهم وهو
مركب من صغرى وكبرى مستظهرا لهما من الأخبار، ومحصل هذا البرهان إن
كل من كان مخالفا لعلي عليه السلام فهو ناصبي، وكل ناصبي كافر نجس، و
نتيجة هاتين المقدمتين نجاسة مطلق المخالف وكفره.
واستدل على الصغرى بروايات منها رواية معلى بن خنيس قال: سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد
أحدا يقول: أنا أبغض آل محمد ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم
تتولونا وتتبرأون من أعدائنا. 1
ومنها ما عن مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم
لمولانا أبي الحسن علي بن محمد الهادي عليه السلام في جملة مسائل محمد بن
علي بن عيسى قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب هل احتاج في امتحانه إلى أكثر
من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على
هذا فهو ناصب. 2
وأما الروايات الدالة على نجاسة الناصب فمنها ما رواه في الكافي بسنده
عن عبد الله بن أبي يعفور عن الصادق عليه السلام قال: لا تغتسل من البئر التي
تجتمع فيها غسالة الحمام فإن فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء و
فيها غسالة الناصب وهو شرهما، إن الله لم يخلق خلقا شرا من الكلب وإن

1. معاني الأخبار ص 365.
2. السرائر ج 3 ص 583.
242

الناصب أهون على الله تعالى من الكلب 1 إلى غير ذلك مما تمسك به من
الروايات.
وفيه أنه وإن كان قد ورد اطلاق الناصبي على المخالف وورد أيضا نجاسة
الناصب وكفره، إلا أن ورود الروايات الصريحة في كفاية الشهادتين في تحقق
الاسلام وإن الاقرار بهما هو الملاك والميزان، أيضا غير قابل للانكار وعندئذ
فلا بد من الجمع بينهما بنحو يرتفع التنافي فنقول:
النصب المذكور في الروايات التي تمسك بها صاحب الحدائق هو مجرد
العداوة والمراد من الكفر هنا هو بعض مراتبه أو معانيه، وأما الحكم بعدم حرمة
ماله ونفسه فهو مترتب على النصب بمعناه المصطلح المعروف. وكيف يمكن
الحكم بكفر مطلق من قدمهما وإن كان مقرا بخلافة أمير المؤمنين لكنه يراه رابع
خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله؟ وعلى الجملة فهم أيضا يحبون و
يقرون بفضائله ويعترفون بمناقبه الضاحية.
وقد وقعت - في المرة الأولى من تشرفي بحج بيت الله الحرام - قضية
لطيفه يناسب ذكرها في المقام وهي أنه: عندما تشرفنا بالمدينة الطيبة لزيارة قبر
النبي الأقدس وقبور الأئمة عليهم السلام فقد سمحت بنا الظروف وساعدنا
الأمر فكنا نصلي بالناس جماعة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وأذن مؤذننا
وأجهر بشهادة الولاية فأفضى المخبر الدولي هذه القضية إلى قاضي القضاة و
أخبره أن مؤذن جماعة الشيعة قال في أذانه: أشهد أن عليا ولي الله، ولكن القاضي
أجابه: وأنا أيضا أقول: أشهد أن عليا ول يا لله أفهل أنت تقول أشهد أن عليا
عدو الله؟ فأجابه بقوله: لا والله وأنا أيضا أقول: إنه ولي الله وعلى الجملة فقاضيهم
أيضا قد صرح بأننا نقول إنه ولي الله غاية الأمر إنا لا نقول به في الأذان، وبذلك

1. وسائل الشيعة ج 1 ص 159 ب 11 من الماء المضاف ح 4.
243

قضى على الأمر وأطفئت نائرة الفتنة.
ويؤيد ما ذكرناه - في الجمع بين الأخبار - من ترتب أحكام الكفر على
النصب المصطلح لا مطلق الانحراف عن أمير المؤمنين عليه السلام إن في بعض
الروايات يقول: وفيهم ناصبي، فهذه الجملة ظاهرة بل صريحة في عدم كون
مطلق المخالف ناصبيا وإن بعضهم كذلك.
ثم إن له رضوان الله عليه كلاما آخر في هذا المقام أفاده تتميما للبحث و
هذا لفظه:
لا يخفى أنه على تقدير القول بالنجاسة كما اخترناه فلو ألجأت ضرورة
التقية إلى المخالطة جازت المباشرة دفعا للضرر كما أو جبته شرعية التقية في غير
مقام من الأحكام إلا أنه يتقدر بقدر الضرورة فيتحرى المندوحة مهما أمكن.
ثم قال: بقي الكلام في أنه لو زالت التقية بعد المخالطة والمباشرة بالبدن
والثياب فهل يجب تطهيرها أم لا، اشكال ينشأ من حيث الحكم بالنجاسة وإنما
سوغنا مباشرتها للتقية وحيث زالت التقية فحكم النجاسة باق على حاله فيجب
إزالتها إذ لا مانع من ذلك، ومن حيث تسويغ الشارع المباشرة وتجويزه لها أولا
فما أتى به من ذلك أمر جائز شرعا وهو حكم الله تعالى في حقه في تلك الحال و
عود الحكم بالنجاسة على وجه يوجب التطهير بعد ذلك يحتاج إلى دليل. إلى
آخر كلامه.
أقول: يستفاد من ملاحظة كلامه هنا إن النزاع بينه وبين المشهور في
الحقيقة لفظي لأنه قد ثبت معاشرة الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم، وأصحابهم
ولا يزال المؤمنون من بعدهم كذلك في مختلف الأعصار والأمصار إلى زماننا
هذا، فإذا لم يلزم التطهير مع ثبوت المباشرة والمزاولة معهم من أول الأمر إلى
هذا الزمان طوال أعصار طويلة وإن كانت المعاشرة تقية فهذا عين القول
244

المشهور أي القول بطهارتهم وقد علمت أنه استشكل في لزوم التطهير بعد زوال
التقية، ومن المعلوم أن مقتضى الاشكال والشك هو البراءة.
وبعبارة أخرى: أن المشهور قد أفتوا بجواز معاشرتهم وصيانة أموالهم و
دمائهم لكونهم طاهرين، وصاحب الحدائق يقول بذلك للتقية، وعلى هذا فلا
فائدة في هذا النزاع ولا تترتب عليه ثمرة إلا في موارد نادرة لا تكون هناك تقية
حيث يقول صاحب الحدائق هناك بوجوب التحرز والاجتناب دون المشهور.
وإن شئت فقل: إن المشهور القائلين باسلامهم لا يقولون به في تمام
الشؤون وجميع المراتب ظاهرا وواقعا بل غرضهم ترتب خصوص هذه الأحكام
المذكورة من أحكام الاسلام وإلا فهم لو ماتوا على ذلك وبلا توبة يحشرون في
الآخرة كفارا.
ثم إنه رحمة الله عليه قد نسب القول بالكفر والنجاسة إلى القدماء على
ما مر سابقا.
ولا يخفى أن هذا غير سديد إلا على ما استفاده من الأخبار من كون مطلق
المخالف ناصبيا ومن المعلوم أن كل ناصبي نجس، وعلى الجملة فقد نسب ما
استفاده من الأخبار إلى القدماء وإلا فلا تصريح في كلماتهم على نجاسة العامة
بل المتيقن من قولهم هو نجاسة الناصب المصطلح المعروف. 1

1. أقول: وقد استدل علم الهدى السيد المرتضى أعلى الله مقامه على نجاسة غير المؤمن بقوله
تعالى: كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون سورة الأنعام الآية 125 وبقوله تعالى: إن
الدين عند الله الاسلام، سورة آل عمران الآية 19 وقوله تعالى: ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن
يقبل منه، سورة آل عمران الآية 85 والايمان يستحيل مغايرته للاسلام، فمن ليس بمؤمن ليس
بمسلم.
ورد عليه فخر المحققين بقوله: وليس بجيد لقوله وتعالى: قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن
قولوا أسلمنا سورة الحجرات الآية 14 ولقوله عليه السلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والمراد بالايمان هنا الاسلام استعمالا للفظ الخاص في العام.
245

فتحصل من أبحاثنا الماضية وما ذكرناه في هذا المقام إن ما يتحقق به
الاسلام هو الاقرار بالشهادتين فقط بشرط عدم اظهار ما يخالف الاسلام كانكار
الضروري وثبت أيضا إن الغلاة والخوارج منكرون للضروري ومحكومون
بالكفر.
246