الكتاب: الينابيع الفقهية
المؤلف: علي أصغر مرواريد
الجزء: ٩
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٠ - ١٩٩٠ م
المطبعة:
الناشر: دار التراث - بيروت - لبنان / الدار الإسلامية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل الزمني وعلى تحقيقها وإخراجها وعمل قواميسها علي أصغر مرواريد

ينابيع الفقهية
الجهاد
السبق والرماية
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى 1410 ه‍. 1990 م
دار التراث - دار الاسلامية
سلسلة الينابيع الفقهية
الجهاد
السبق والرماية
أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل
الزمنى وعلى تحقيقها واخراجها وعمل قواميسها
على أصغر مرواريد
1

الجهاد
فقه الرضا
المنسوب للإمام علي بن موسى الرضا ع
153 - 202 ه‍ ق
2

باب في المعروف
أروي عن العالم ع أنه قال: أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في
الآخرة لأن الله عز وجل يقول لهم: قد غفرت لكم ذنوبكم تفضلا عليكم لأنكم كنتم
أهل المعروف في الدنيا وبقيت حسناتكم فهبوها لمن تشاءون فتكونون بها أهل المعروف
في الآخرة.
وقال: إن لله عبادا يفزع العباد إليهم في حوائجهم أولئك الآمنون كل معروف صدقة،
فقلت له: يا ابن رسول الله ص وإن كان غنيا؟ فقال: وإن كان غنيا.
وأروي: المعروف كاسمه وليس شئ أفضل منه إلا ثوابه وهو هدية من الله إلى
عبده المؤمن وليس كل من يحب أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه ولا كل من رغب
فيه يقدر عليه ولا كل من يقدر عليه يؤذن له فيه فإذا من الله على العبد المؤمن جمع الله له
الرغبة والقدرة والإذن فهناك تجب السعادة.
ونروي عن النبي ص: من أدخل على مؤمن فرحا فقد أدخل علي فرحا ومن أدخل
على فرحا فقد اتخذ عند الله عهدا ومن اتخذ عند الله عهدا جاء
من الآمنين يوم القيامة.
وروي: اصطنع المعروف إلى أهله وإلى غير أهله فإن لم يكن من أهله فكن أنت من
أهله.
وروي: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال تعجيله وتصغيره وستره، فإذا عجلته
3

هنأته وإذا صغرته عظمته وإذا سترته أتممته.
وروي: إذا سألك أخوك حاجة فبادر بقضائها قبل استغنائه عنها.
ونروي عن الصادق ع أنه قال: من سر مؤمنا فقد سرني ومن سرني فقد
سر رسول الله ص ومن سر رسول الله ص فقد سر الله ومن سر الله
أدخله الجنة.
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أروي عن العالم ع أنه قال: إنما هلك من كان قبلكم بما عملوا من
المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك، إن الله جل وعلا بعث ملكين إلى
مدينة ليقلبها على أهلها فلما انتهيا إليها وجدا رجلا يدعو الله ويتضرع إليه فقال أحدهما
لصاحبه: أ ما ترى هذا الرجل الداعي؟ فقال له: رأيته ولكن أمضي لما أمرني به ربي،
فقال الآخر: ولكني لا أحدث شيئا حتى أرجع، فعاد إلى ربه فقال: يا رب إني انتهيت
إلى المدينة فوجدت عبدك فلانا يدعو ويتضرع إليك، فقال عز وجل: امض إلى ما أمرتك
فإن ذلك رجل لم يتغير وجهه غضبا لي قط.
وأروي: أن رجلا سأل العالم ع عن قول الله عز وجل: قوا أنفسكم
وأهليكم نارا، قال: يأمرهم بما أمرهم الله وينهاهم عما نهاهم الله فإن أطاعوا كان
قد وقاهم وإن عصوه كان قد قضى ما عليه.
وروي: أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يخطب فعارضه رجل فقال: يا أمير
المؤمنين حدثنا عن ميت الأحياء، فقطع الخطبة ثم قال: منكر للمنكر بقلبه ولسانه
ويديه فخلال الخير حصلها كلها، ومنكر للمنكر بقلبه ولسانه وتارك له بيده فخصلتان
من خصال الخير حاز، ومنكر للمنكر بقلبه وتارك بلسانه ويده فخلة من خلال الخير حاز،
وتارك للمنكر بقلبه ولسانه ويده فذلك ميت الأحياء، ثم عاد إلى خطبته ص.
ونروي: أن رجلا جاء إلى رسول الله ص فقال: أخبرني ما
4

أفضل الأعمال؟ فقال: الإيمان بالله، قال: ثم ما ذا؟ قال: صلة الرحم، قال: ثم
ما ذا؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الرجل: وأي الأعمال أبغض إلى
الله؟ قال: الشرك بالله، قال: ثم ما ذا؟ قال: قطيعة الرحم، قال:
ثم ما ذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
ونروي: أن صبيين توثبا على ديك فنتفاه فلم يدعا عليه ريشة وشيخ قائم يصلى لا
يأمرهما ولا ينهاهما قال: فأمر الله الأرض فابتلعته.
وأروي عن العالم ع أنه قال: إنما يؤمر بالمعروف ينهى عن المنكر مؤمن
فيتيقظ أو جاهل فيتعلم أما صاحب سيف وسوط فلا.
نروي: حسب المؤمن عيبا إذا رأى منكرا أن لا يعلم من قلبه أنه له كاره.
وأروي عن العالم ع أن الله قال: ويل للذين يحتلبون الدنيا بالدين
وويل للذين يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس وويل للذين إذا المؤمن فيهم يسير
بالعدل يعتدون وعليه يجترئون ولا يهتدون لأتيحن لهم فتنة تترك الحكيم فيهم حيرانا.
ونروي: من أعظم الناس حسرة يوم القيامة؟ قال: من وصف عدلا فخالفه إلى
غيره.
ونروي: في قول الله: فكبكبوا فيها هم والغاوون، قال: هم قوم وصفوا بألسنتهم
ثم خالفوه إلى غيره، فسئل عن معنى ذلك فقال: إذا وصف الانسان عدلا خالفه إلى
غيره فرأى يوم القيامة الثواب الذي هو واصفه لغيره عظمت حسرته.
5

الهداية بالخير
للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي
الملقب بالصدوق المتوفى 381 ه‍ ق
7

باب الجهاد في سبيل الله
الجهاد فريضة واجبة من الله عز وجل على خلقه بالنفس والمال مع إمام عادل فمن لم
يقدر على الجهاد معه بالنفس والمال فليخرج بماله من يجاهد عنه ومن يقدر على المال
وكان قويا ليس به علة تمنعه فعليه أن يجاهد بنفسه.
والجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض وجهاد سنة لا يقام إلا مع فرض وجهاد
سنة.
فأما أحد الفرضين فمجاهدة الرجل نفسه عن معاصي الله وهو من أعظم الجهاد،
ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض.
وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلا مع فرض، فإن مجاهدة العدو فرض على جميع
الأمة ولو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب، وهذا هو من عذاب الأمة، وهو سنة على الإمام
أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم.
وأما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها
وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال لأنه إحياء سنة، وقال النبي ص:
من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من
أجورهم شئ.
وقد روي: أن الكاد على عياله من حلال كالمجاهد في سبيل الله، وروي: أن
جهاد المرأة حسن التبعل، وروي: أن الحج جهاد كل ضعيف.
9

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان واجبتان من الله عز وجل على الإمكان،
وعلى العبد أن ينكر المنكر بقلبه ولسانه ويده فإن لم يقدر عليه فبقلبه ولسانه، فإن لم
يقدر عليه فبقلبه. وقال الصادق ع: إنما يؤمر بالمعروف ينهى عن المنكر
مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم فأما صاحب سيف وسوط فلا.
10

المقنعة
في الأصول والفروع
للشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن النعمان الحارثي
البغدادي المعروف بابن المعلم
336 - 413 ه‍ ق
11

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإقامة الحدود والجهاد في الدين
قال الله عز وجل: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون
عن المنكر وتؤمنون بالله، فمدحهم الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما
مدحهم بالإيمان بالله تعالى وهذا يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال تعالى فيما خص به على الأمر بالمعروف وقد ذكر لقمان الحكيم في وصيته
لابنه: يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك
إن ذلك من عزم الأمور.
وروي عن النبي ع أنه قال: لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا
عن المنكر وتعاونوا على البر فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على
بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء.
وقال أمير المؤمنين: من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت الأحياء، في
كلام هذا ختامه.
وقال الصادق جعفر بن محمد ع لقوم من أصحابه: إنه قد حق لي أن آخذ
البرئ منكم بالسقيم وكيف لا يحق لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا
تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يتركه، فأوجب عليهم إنكار المنكر وتوعدهم
على تركه بما حذرهم منه.
13

فالواجب على أهل الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان وشرط
الصلاح، فإذا تمكن الانسان من إنكار المنكر بيده ولسانه أو أمر في الحال ومستقبلها من
الخوف بذلك على النفس والدين والمؤمنين وجب عليه الانكار بالقلب واليد واللسان،
وإن عجز عن ذلك أو خاف في الحال أو المستقبل من فساد بالإنكار باليد اقتصر فيه على
القلب واللسان، وإن خاف من الانكار باللسان اقتصر على الانكار بالقلب الذي لا يسع
أحدا تركه على كل حال.
والإنكار باليد يكون بما دون القتل والجراح كما يكون بهما وعلى الانسان دفع المنكر
بذلك في كل حال يغلب في ظنه زوال المنكر به، وليس له القتل والجراح إلا بإذن
سلطان الزمان المنصوب لتدبير الأنام، فإن فقد الإذن بذلك لم يكن له من العمل في
الانكار إلا بما يقع بالقلب واللسان من المواعظ بتقبيح المنكر والبيان عما يستحق عليه
العقاب والتخويف بذلك وذكر الوعيد عليه، وباليد ما لم يؤد العمل بها إلى سفك
الدماء وما تولد من ذلك من إخافة المؤمنين على أنفسهم والفساد في الدين، فإن خاف
الانسان من الانكار باليد ذلك لم يتعرض له، وإن خاف بإنكار اللسان أيضا ما
ذكرناه أمسك عن الانكار به واقتصر على إنكاره بالقلب.
فأما إقامة الحدود فهو إلى سلطان الاسلام المنصوب من قبل الله تعالى وهم أئمة
الهدي من آل محمد ع ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام وقد فوضوا النظر
فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان، فمن تمكن من إقامتها على ولده وعبده ولم يخف من
سلطان الجور إضرارا به على ذلك فليقمها، ومن خاف من الظالمين اعتراضا عليه في
إقامتها أو خاف ضررا بذلك على نفسه أو على الدين فقد سقط عنه فرضها، وكذلك إن
استطاع إقامة الحدود على من يليه من قومه وأمن من بوائق الظالمين في ذلك فقد لزمه إقامة
الحدود عليهم فليقطع سارقهم ويجلد زانيهم ويقتل قاتلهم، وهذا فرض متعين على من
نصبه المتغلب لذلك على ظاهر خلافته له أو الأمارة من قبله على قوم من رعيته فيلزمه
إقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد الكفار ومن
يستحق ذلك من الفجار، ويجب على إخوانه المؤمنين معونته على ذلك إذا استعان بهم ما
14

لم يتجاوز حدا من حدود الإيمان أو يكون مطيعا - في معصية الله تعالى - من نصبه من
سلطان الضلال، فإن كان على وفاق للظالمين في شئ يخالف الله تعالى به لم يجز لأحد
من المؤمنين معونته فيه وجاز لهم معونته بما يكون به مطيعا لله تعالى من إقامة حد وإنفاذ
حكم على حسب ما تقتضيه الشريعة دون ما خالفها من أحكام أهل الضلال.
وللفقهاء من شيعة آل محمد ص أن يجمعوا بإخوانهم في
الصلوات الخمس وصلوات الأعياد والاستسقاء والخسوف والكسوف إذا تمكنوا من ذلك
وأمنوا فيه من معرة أهل الفساد، ولهم أن يقضوا بينهم بالحق ويصلحوا بين المختلفين في
الدعاوي وعند عدم البينات ويفعلوا جميع ما جعل إلى القضاة في الاسلام لأن الأئمة
ع قد فوضوا إليهم ذلك عند تمكنهم منه بما ثبت عنهم فيه من الأخبار وصح
به النقل عند أهل المعرفة من الآثار.
وليس لأحد من فقهاء الحق ولا من نصبه سلطان الجور منهم للحكم أن يقضي في
الناس بخلاف الحكم الثابت عن آل محمد ص إلا أن يضطروا إلى ذلك
للتقية والخوف على الدين والنفس، ومهما اضطر إليه في التقية فجائز له إلا سفك دماء
أهل الإيمان فإنه لا يجوز على حال اضطرار ولا اختيار ولا على وجه من الوجوه ولا سبب
من الأسباب.
ومن ولى ولاية من قبل الظالمين فاضطر إلى إنفاذ حكم على رسم لهم لا يجوز في
الدين مع الاختيار فالتقية توسع عليه ذلك فيما قد رسمه غيره من الناس، ولا يجوز له
استئنافه على الابتداء ولا يجوز له إنفاذ رسم باطل مع الاختيار على حال ولا تقية في
الدماء خاصة على ما ذكرناه وبينا القول فيه وأكدناه.
ولا يجوز لأحد أن يختار النظر من قبل الفاسقين في شئ من تدبير العباد والبلاد إلا
بشرط بذل الجهد منه في معونة أهل الإيمان والصيانة لهم من الأسواء وإخراج الخمس من
جميع ما يستفيده بالولاية من الأموال وغيرها من سائر الأغراض.
ومن تأمر على الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له وكان أميرا من قبله في ظاهر
الحال فإنما هو أمير في الحقيقة من قبل صاحب الأمر الذي سوغه ذلك وأذن له فيه دون
15

المتغلب من أهل الضلال، وإذا تمكن الناظر من قبل أهل الضلال على ظاهر الحال من
إقامة الحدود على الفجار وإيقاع الضرر المستحق على أهل الخلاف فليجتهد في إنفاذ ذلك
فيهم فإنه من أعظم الجهاد.
ومن لم يصلح للولاية على الناس لجهله بالأحكام أو عجز عن القيام بما يسند إليه من
أمور الناس فلا يحل له التعرض لذلك والتكلف له، فإن تكلفه فهو عاص غير مأذون له
فيه من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولاية ومهما فعله في تلك الولاية فإنه مأخوذ به
محاسب عليه ومطالب فيه فيما جناه إلا أن يتفق له عفو من الله وصفح عما ارتكبه من
الخلاف له وغفران لما أتاه.
16

الانتصار
للسيد الشريف المرتضى علم الهدي أبي القاسم
علي بن الحسين الموسوي 355 - 436 ه‍ ق
17

مسائل في المحارب
مسألة: ومما انفردت به الإمامية القول: بأن من حارب الإمام العادل وبغى عليه
وخرج عن التزام طاعته يجري مجرى محارب النبي ص وخالع طاعته في
الحكم عليه بالكفر وإن اختلف أحكامهما من وجه آخر في المدافنة والموارثة وكيفية
الغنيمة من أموالهم.
وخالف باقي الفقهاء في ذلك وذهب المحصلون منهم والمحققون إلى: أن محاربي
الإمام العادل فساق تجب البراءة منهم وقطع الولاية لهم من غير انتهاء إلى التكفير،
وذهب قوم من حشو أصحاب الحديث إلى: أن الباغي مجتهد وخطؤه يجري مجرى الخطأ في
سائر مسائل الاجتهاد.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة، وأيضا فإن الإمام عندنا يجب
معرفته وتلزم طاعته كوجوب المعرفة بالنبي ص ولزوم طاعته كالمعرفة بالله
تعالى، وكما أن جحد تلك المعارف والتشكيك فيها كفر وكذلك هذه المعرفة، وأيضا
فقد دل الدليل على وجوب عصمة الإمام من كل القبائح وكل من ذهب إلى وجوب
عصمته ذهب إلى: تكفير الباغي عليه والخالع لطاعته، والتفرقة بين الأمرين خلاف
إجماع الأمة.
فإن قيل: لو كان من ذكرتم بالغا إلى حد الكفر لوجب أن يكون مرتدا أو أن
تكون أحكامه أحكام المرتدين واجتمعت الأمة على أن أحكام الباغي تخالف أحكام
19

المرتد، وكيف يكون مرتدا وهو يشهد الشهادتين ويقوم بالعبادات؟
قلنا: ليس يمتنع أن يكون الباغي له حكم المرتد في الانسلاخ عن الإيمان واستحقاق
العقاب العظيم وإن كانت أحكامه الشرعية في مدافنه وموارثه وغير ذلك تخالف أحكام
المرتد كما كان الكافر الذمي مشاركا للحربي في الكفر والخروج عن الإيمان وإن
اختلفت أحكامهما الشرعية، فأما إظهار الشهادتين فليس بدال على كمال الإيمان ألا
ترى أن من أظهرهما وجحد وجوب الفرائض والعبادات لا يكون مؤمنا بل كافرا،
وكذلك إقامة بعض العبادات من صلاة وغيرها ومن جحد أكبر العبادات وأوجبها من
طاعة إمام زمانه ونصرته لم ينفعه أن يقوم بعبادة أخرى من صلاة وغيرها.
وأما ما يذهب إليه قوم من غفلة الحشوية من عذر الباغي وإلحاقه بأهل الاجتهاد
فمن الأقوال البعيدة من الصواب، ومن المعلوم ضرورة أن الأمة أطبقت في الصدر الأول
على ذم البغاة على أمير المؤمنين ع ومحاربته والبراءة منهم، ولم يقم لهم أحد في
ذلك عذرا، وهذا المعنى قد شرحناه في كتبنا وفرعناه وبلغنا فيه النهاية وهذه الجملة
هاهنا كافية.
فإن اعترض المخالف على ما ذكرناه بالخبر الذي يرويه معمر بن سليمان عن عبد
الرحمن بن الحكم الغفاري عن عدية بنت أهبان بن صيفي قالت: جاء على ع
إلى أبي فقال: ألا تخرج معنا؟ قال: ابن عمك وخليلك أمرني إذا اختلف الناس أن
أتخذ سيفا من خشب. أو بالخبر الذي يروى عن أبي ذر رحمة الله عليه أنه قال: قال
رسول الله ص: كيف بك إذا رأيت أحجار الزيت وقد غرقت بالدم؟
قال: قلت: ما اختار الله لي ورسوله؟ قال: تلحق، أو قال: عليك بمن أنت منه، قال
قلت: أ فلا آخذ بسيفي وأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذا، قال: فما تأمرني
يا رسول الله؟ قال: ألزم بيتك، قلت: فإن دخل على ببيتي؟ قال: فإن خفت أن يبهرك
شعاع السيف فألق رداءك على وجهك يبوء بإثمه وإثمك.
قلنا: هذان الخبران وأمثالهما لا يرجع بهما عن المعلوم والمقطوع بالأدلة عليه بلا
دليل وهي معارضة بما هو أظهر منها وأقوى وأولى من وجوب قتاله الفئة الباغية ونصرة
20

الحق ومعونة الإمام العادل، ولو لم يرو في ذلك إلا ما رواه الخاص والعام والولي والعدو
من قوله ع: حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي. وقد علمنا أنه ع
لم يرد أن نفس هذه الحرب تلك بل أراد تساوى تلك الأحكام فيجب أن تكون
أحكام محاربيه هي أحكام محاربي النبي ص إلا ما خصصه الدليل، وما
روي أيضا من قوله: اللهم انصر من نصره واخذل من خذله. ولأنه ع لما
استنصر في قتال أهل الجمل وصفين والنهروان أجابته الأمة بأسرها ووجوه الصحابة
وأعيان التابعين وسارعوا إلى نصرته ومعونته ولم يحتج أحد عليه بشئ مما تضمنه هذان
الخبران الخبيثان الضعيفان.
على أن الخبر الأول قد روي على خلاف هذا الوجه لأن أهبان قال: قال لي رسول
الله ص: يا أهبان أما أنك إن بقيت بعدي سترى في أصحابي اختلافا
فإن بقيت إلى ذلك اليوم فاجعل سيفك يا أهبان من عراجين، وقد يجوز أن يريد ع
بالاختلاف الذي يرجع إلى القول والمذاهب دون المقاتلة والمحاربة، على أن هذا
الخبر ما يمنع من قتال أهل الردة عند بغيهم ومجاهرتهم فهو أيضا غير مانع من قتال كل
باع وخارج عن طاعة الإمام.
فأما الخبر الثاني فمما يضعفه أن أبا ذر رحمة الله عليه لم يبلغ إلى وقعة أحجار الزيت
لأن ذلك إنما كان مع محمد بن عبد الله بن الحسن في أول أيام المنصور وأبو ذر مات في
أيام عثمان فكيف يقول له رسول الله ص: كيف بك؟ في وقت لا يبقى
إليه، على أن أبا ذر رضي الله عنه كان معروفا بإنكار المنكر بلسانه وبلوغه فيه أبعد
الغايات والمجاهرة في إنكاره وكيف يسمع من الرسول ص ما
يقتضي خلاف ذلك
مسألة: ومما كانت الإمامية منفردة به القول: بأن من سب النبي ص
أو عابه مسلما كان أو ذميا قتل في الحال، وخالف باقي الفقهاء في ذلك فقال أبو
حنيفة وأصحابه: من سب النبي ص أو عابه وكان مسلما فقد صار
21

مرتدا، وإن كان ذميا عزر ولم يقتل.
وقال ابن القاسم عن مالك: من شتم النبي ص من المسلمين قتل
ولم يستتب، ومن شتم النبي ص من اليهود والنصارى قتل إلا أن
يسلم، وهذا القول من مالك مضاه لقول الإمامية. وقال الثوري: الذمي يعزر. وذكر
عن ابن عمر: أنه يقتل. وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك في من سب النبي
ص قالا: هي ردة يستتاب فإن تاب نكل به وإن لم يتب قتل وإلا
يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برئ ضرب مائة، ولم يذكرا فرقا بين الذمي والمسلم.
وقال الليث في المسلم يسب النبي ص: إنه لا يناظر ولا يستتاب
ويقتل مكانه وكذلك اليهودي والنصراني، وهذه موافقة للإمامية. وقال الشافعي:
ويشرط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله عز وجل أو محمدا رسول الله
ص بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن
دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد
نقض عهده وأحل دمه وبرئت ذمته، قال الطحاوي: فهذا من الشافعي يدل على أنه إذا
لم يشرط يستحل دمه بذلك.
دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتردد وأن سب النبي ص
وعيبه والوقيعة فيه ردة من المسلم بلا شك والمرتد يقتل. وأما الذمي وإن لم يكن
بذلك مرتدا لأن حقيقة الردة هي الكفر بعد الإيمان، والذمي ما كان مؤمنا فصار كافرا
بل كفره متقدم، لكن هذا وإن لم يكن منه ردة فهو خرق للذمة واستخفاف بالشريعة
ووضع منها ومن أهلها وببعض هذا يبرأ من الذمة التي حقن بها فحينئذ يكون دمه
مباحا من الوجه الذي ذكرناه.
فأما ما يستدل به أصحاب أبي حنيفة في الفرق بين المسلم والذمي في هذه المسألة
من روايتهم عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود على النبي
ص فقالوا: السام عليك، قالت: ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة،
فقال النبي ص: مهلا يا عائشة فإن الله تعالى يحب الرفق في الأمر كله،
22

فقلت: يا رسول الله أ لم تسمع ما قالوا؟ قال النبي ص: قد قلت
وعليكم، قال المخالف لنا: ولو كان هذا الدعاء من المسلم لصار مرتدا فيقتل فلم يقتله
النبي ص بذلك.
ومما يستدلون به أيضا ما رواه شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك: أن امرأة
يهودية أتت النبي ص بشاة مسمومة فأكل منها فجئ بها فقيل: أ لا
تقتلها؟ قال: فقال: لا، قال المحتج: ولا خلاف بين المسلمين أن من فعل مثل ذلك
بالنبي وهو ممن ينتحل الاسلام أنه مرتد يقتل.
فالجواب عنه: أن هذه أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ولا يعترض بها على
مدلول الأدلة وهي معارضة بأخبار كثيرة تقتضي قتل من هذه صفته مثل ما رووه عن
أبي يوسف عن حصين بن عبد الرحمن عن رجل عن ابن عمر أن رجلا قال: إني سمعت
راهبا سب النبي ص، فقال: لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم العهد
على هذا، ولم ينكر أحد على ابن عمر هذا القول فدل على وقوع الرضا به.
فأما إبدال السلام بالسام فليس بصريح في سب ولا شتم، ولو وقع من مسلم أو ذمي
ما اقتضى القتل.
وأما الشاة المسمومة فيجوز أن يكون النبي ص اعتقد أن
اليهودية ما علمت بأنها مسمومة فقد يجوز أن لا تكون بذلك عالمة، وقد يجوز أيضا لو
كانت عالمة وقاصدة أن يكون ع رأى درأ القتل عنها مع استحقاقها لضرب من
المصلحة فله ع مثل ذلك وإنما كلامنا في الاستحقاق للقتل، والمسلم
واليهودي في هذا الباب سواء.
23

المسائل الناصريات
للسيد الشريف المرتضى علم الهدي أبي القاسم
علي بن الحسين الموسوي
355 - 436 ه‍ ق
25

المسألة السادسة والمائتان
يغنم ما احتوت عليه عساكر أهل البغي يضرب للفارس بفرس عتيق ثلاثة أسهم
سهم له وسهمان لفرسه ويسهم للبرذون سهم واحد.
هذا غير صحيح لأن أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم وقسمتها كما تقسم أموال
أهل الحرب ولا أعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك، ومرجع الناس كلهم في هذا الموضع
إلى ما قضى به أمير المؤمنين ع في محاربي البصرة فإنه منع من غنيمة أموالهم فلما
رجع ع في ذلك قال: أيكم يأخذ عائشة في سهمه؟
وليس يمتنع أن يخالف حكم قتال أهل البغي لقتال أهل دار الحرب في هذا الباب
كما يخالف في أننا لا نتبع موليهم وإن كان اتباع المولى من باقي المحاربين جائزا،
وإنما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدواب أهل البغي وبسلاحهم في حال قيام الحرب
فقال الشافعي: لا يجوز ذلك، وقال أبو حنيفة: يجوز ما دامت الحرب قائمة، وليس يمتنع
عندي أن يجوز قتالهم بسلاحهم على وجه لا يقع التمليك له لأن ما منع من غنيمة أموالهم
وقسمتها لا يمنع من قتالهم بسلاحهم لا على وجه التملك له كأنهم رموا حربة إلى جهة
أهل الحق فيجوز أن يرموا بها على سبيل المدافعة والمقاتلة.
فأما استدلال الشافعي بقوله ع: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب
نفس منه، فليس بصحيح لأنه إنما نفى ذلك مال المسلمين وحيازته بغير طيب نفوسهم
وليس كذلك المدافعة والممانعة، وقد استدل أصحاب أبي حنيفة على صحة ما ذهبوا إليه
27

في هذه المسألة بقوله تعالى: فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، قالوا: فأباح
القتال عاما، وذلك يشتمل على قتالهم بدوابهم وسلاحهم وعلى قتالهم بدوابنا وسلاحنا
وهذا قريب.
28

الكافي
في الفقه
لأبي الصلاح تقي الدين ابن نجم الدين عبد الله الحلبي
347 - 447 ه‍ ق
29

فصل في الجهاد وأحكامه
يجب جهاد كل من الكفار والمحاربين من الفساق - عقوبة على ما سلف كفره
أو فسقه ومنعا له من الاستمرار على مثله بالقهر والاضطرار لكون ذلك مصلحة للمجاهد
على جهة القربة إليه سبحانه والعبادة له - على كل رجل حر كامل العقل سليم من
العمى والعرج والمرض مستطيع للحرب، بشرط وجود داع إليه يعلم أو يظن من حاله
السير في الجهاد بحكم الله تعالى لكل من وصفناه من المحاربين، فإن كان ذو العذر غنيا
فعليه معونة المجاهدين بماله في الخيل والسلاح والظهر والزاد وسد الثغر وإن كان
الداعي إليه غير من ذكرناه وجب التخلف عنه مع الاختيار، فإن خيف جانبه جاز
النفور معه لنصرة الدين دونه.
فإن خيف على بعض بلاد الاسلام من بعض الكفار أو المحاربين وجب على أهل
كل أقليم قتال من يليهم ودفعه عن دار الإيمان، وعلى قطان البلاد النائية عن مجاورة دار
الكفر أو الحرب النفور إلى أقرب ثغورهم بشرط الحاجة إلى نصرتهم حتى يحصل بكل ثغر
من أنصار المسلمين من يقوم بجهاد العدو ودفعه عنه فيسقط فرض النفور عن من عداهم،
وليقصد المجاهد والحال هذه نصرة الاسلام والدفع عن دار الإيمان دون معونة المتغلب على
البلاد من الأمر.
وخالف الثاني الأول لأن الأول جهاد مبتدأ وقف فرض النصرة فيه على داعي
الحق لوجوب معونته دون داعي الضلال لوجوب خذلانه، وحال الجهاد الثاني بخلاف
31

ذلك لتعلقه بنصرة الاسلام ودفع العدو عن دار الإيمان لأنه إن لم يدفع العدو درس الحق
وغلب على دار الإيمان وظهرت بها كلمة الكفر.
ولا يحل لأحد - من اتباع الظالم في جهاد الكفار للتقية أو الدفع عن الاسلام - أن
يأخذ من الغنيمة شيئا إلا على الوجه المشروع في المغانم.
وحكم جهاد المحاربين من المسلمين حكم جهاد من خيف منه على دار الإيمان من
الكفار في عموم الفرض من غير اعتبار صفة الداعي.
ومن السنة الرباط في الثغور الإسلامية وارتباط الخيل وإعداد السلاح وإن لم
يتكامل فيها شروط الجهاد المبتدأ انتظارا لدعوة الحق وعزما على إجابة الداعي إليه ودفع
العدو إن قصدها وحمايتها من مكيدها.
فصل: في سيرة الجهاد:
سيرة الجهاد على ضربين: أحدهما أحكام الحرب والمحاربين والثاني قسمة الغنائم.
الضرب الأول من السيرة:
إذا عزم سلطان الجهاد عليه فليقدم الدعوة إليه والاستنفار في البلاد لتجمع له
الأنصار، فإذا اجتمعوا سار بهم ليطأ دار الكفر أو محل المحاربين، فإذا انتهى إليهم
فليدعهم إلى الله تعالى وإلى رسوله ص وما جاء به وليجتهد في الدعاء
وليتلطف ويكرر ذلك بنفسه وذوي البصائر من أصحابه، فإذا أجابوا إلى الحق ووضعوا
السلاح أقرهم في دارهم إن كانوا ذوي دار ولم يعرض لشئ منها وولى عليهم من
صلحاء المسلمين وعلمائهم من يفقههم في دينهم ويحمي بيضتهم ويجبي أموال الله تعالى
منهم.
وإن كانوا بغاة أو متأولين أو مرتدين أو محاربين ردهم إلى دار الأمن إن كانوا قد
خرجوا عنها وإلا أقرهم فيها.
وإن أبوا الإجابة وسألوا النظرة لينظروا لأنفسهم أنظرهم مدة معلومة ينصب لهم فيها
من يحاجهم وينبئهم على فساد ما هم عليه، فإن أقروا بالحق سار فيهم بما ذكرناه وإن
32

أقاموا على الآباء وكانوا كتابيين - وهم اليهود والنصارى والمجوس - عرض عليهم
الجزية والدخول تحت الذمة.
فإن أجابوا ضرب الجزية على رؤوسهم وأقرهم في دارهم وجعل على أراضيهم قسطا
يؤدونه مع جزية رؤوسهم وإن امتنعوا قاتلهم حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
وجزية الرؤوس مختصة بأحرار رجالهم العقلاء البالغين السليمين دون النساء والعبيد
والأطفال والمجانين وذوي العاهات من فقرائهم بحسب ما يراه مما ينهضهم ويجدون منه
في كل سنة مرة في وقت معين، فمن أسلم قبل حلول الأجل سقطت عنه الجزية.
ويشترط عليهم: أن لا يجاهروا المسلمين بكفرهم، ولا يتناولوا المحرمات عندهم،
ولا يسبوا مسلما ولا يصغروا به، ولا يعينوا على أهل الاسلام بنفس ومال ولا رأي، ولا
يجددوا بيعة ولا كنيسة، ولا يعيدوا ما استهدم منها. فإنهم متى خالفوا شيئا من ذلك
برئت ذمتهم وحلت دماؤهم وأموالهم ونساؤهم وذراريهم، فإن أجابوا ودخلوا تحت هذه
الشروط فهم في ذمة الله تعالى ورسوله يجب نصرهم والمنع منهم ويلزم إحضارهم مجالس
العلماء بالحجة ليسمعوا الدعوة وتثبت عليهم الحجة، وإن خرقوا الذمة بمخالفة أحد هذه
الشروط فدماؤهم هدر وأموالهم وذراريهم فئ للمسلمين.
وإن كانوا مشركين وهم من عدا الكتابيين من الكفار وأبوا الإجابة قاتلهم حتى
يؤمنوا، ويلزم قتل الجميع مقبلين ومدبرين ويجهز على جرحاهم، وأموالهم وذراريهم
وأهليهم فئ للمسلمين.
وإن كانوا مرتدين بخلع ربقة الاسلام من أعناقهم أو جحد فرض أو استحلال محرم
معلومين من دين النبي ص كصلات الخمس والزكاة والخمر والميتة وكانوا
ممن ولدوا على الفطرة قتلوا من غير استتابة.
وإن كانوا ممن ولد على كفر ثم أسلم عرضت عليه التوبة والرجوع إلى الحق ونبه على
خطائه بالحجة الواضحة، فإن أناب إلى الحق فلا سبيل عليه، وإن أبي إلا الإقامة على
ردته قتل، وإن كان ممن استتيب مرة قتل من غير استتابة ثانية، ولا سبيل على أموالهم
- الخارجة عن محل الحرب - ولا ذراريهم على حال ولا نسائهم المقيمات على الاسلام.
33

وإن ارتدت النساء عرضت عليهن التوبة، فإن أبينها خلدن الحبس وضيق عليهن في
المطعم والمشرب حتى يؤمن أو يهلكن، فإن خرجن إلى رجالهن إلى دار الحرب سبين،
وحكم واحد المرتدين حكم الجماعة.
وإن كانوا متأولين - وهم الذين يتظاهرون بجحد بعض الفروض واستحلال بعض
المحرمات المعلومة بالاستدلال كإمامة أمير المؤمنين أو أحد الأئمة ع أو مسح
الرجلين أو الفقاع أو الجري أو وصف الله تعالى بغير صفاته الراجعة إليه تعالى نفيا
وإثباتا وإلى أفعاله - دعوا إلى الحق ويبين لهم ما اشتبه عليهم بالبرهان، فإن أنابوا قبلت
توبتهم وإن أبوا إلا المجاهرة بذلك قتلوا صبرا.
وإن كانوا مستسرين به في دار الأمن لم يعرض لهم بغير الدعوة إلى الحق بالحجة،
فإن خرجوا بتأولهم هذا عن دار الأمن وأظهروا السلاح وأخافوا سلطان الحق ومتبعيه
- كطلحة والزبير وعائشة وأتباعهم ومعاوية وأنصاره وأهل النهروان فإن الخلال المذكورة
اجتمعت فيهم من جحد إمامة الإمام العادل واستحلال دماء المسلمين وإظهار السلاح
في دار الأمن وقتل أنصار الحق على اتباعه وخلافهم والسيرة في من جرى مجراهم بعد
الدعوة وإقامة الحجة وحصول الإصرار - بمنابذتهم بالحرب وقتلهم والحرب قائمة مقبلين
ومدبرين والإجهاز على جرحاهم.
فإن انهزموا وكانت لهم فئة يرجعون إليها - كمعاوية وأصحابه - فحالهم بعد الانهزام
كحالهم والحرب قائمة، وإن لم تكن لهم فئة يرجعون إليها - كأنصار الجمل - لم يتبع
منهزمهم ولم يجهز على جريحهم ولم يعرض لمن رجع منهم إلى دار الأمن أو ألقى سلاحه
أو لحق بأنصار الحق، ويقسم ما حواه معسكر الجميع وما استعانوا به على الحرب من
الأموال والكراع والسلاح دون ما خرج عنه من ذلك ولا يعرض لنسائهم وذراريهم على
حال.
وإن كانوا محاربين وهم الذين يخرجون عن دار الأمن لقطع الطريق وإخافة السبيل
والسعي في الأرض بالفساد فعلى سلطان الاسلام أو من تصح دعوته أن يدعوهم إلى
الرجوع إلى دار الأمن ويخوفهم من الإقامة على المحاربة من تنفيذ أمر الله فيهم، فإن أنابوا
34

ووضعوا السلاح ورجعوا إلى دار الأمن فلا سبيل عليهم إلا أن يكونوا قد أخذوا مالا
فيردوه أو قتلوا مسلما أو ذميا أو جرحوا فيقتص منهم للمسلم وتؤخذ دية الذمي وإن
أصروا على الحرب قصد بأنصار الاسلام إليهم وهم كل متمكن من الحرب وإن كان
الداعي ظالما.
وفرض النصرة في قتال المحاربين على الكفاية، وإذا ظهر عليهم فدم قتلاهم هدر
وقتلى المسلمين بهم شهداء، ويرد ما تعين من الأموال إلى أربابها ويقسم ما عدا ذلك بين
الأنصار ويقبض ممن بقي بمن قتلوه في حال المحاربة وقبل الدعوة، ولا يعرض لشئ من
أموالهم وأملاكهم الخارجة عن محل الحرب.
وفرضه في الأسرى إن كانوا في محاربتهم قتلوا ولم يأخذوا مالا أن يقتلهم، وإن ضموا
إلى القتل أخذ المال صلبهم بعد القتل، وإن تفردوا بأخذ المال أن يقطعهم من خلاف،
وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا أن ينفيهم من الأرض بالحبس أو النفي من مصر إلى مصر
حتى يؤمنوا أو يرى الصفح عنهم، ولا يجوز له ولا لأحد من الأولياء العفو عن القتل ولا
القطع متى استحقا بعد الأسر ويصح قبله مع ظهور التوبة العفو عن القتل وعن القصاص
بالجراح مع الإصرار.
وإذا عزم على قتال أحد الفرق بعد الإعذار والإنذار فليستخر الله تعالى في ذلك
ويرغب إليه في النصر، وليعبئ أصحابه صفوفا، ويجعل كل بني أب وكل أهل مصر
تحت راية أشجعهم وأبصرهم بمكيدة الحرب ويجعل لهم شعارا يعرف به بعضهم بعضا،
ويقدم الدارع أمام الحاسر، ويقف هو في القلب ومعه الرحل، ويقدم أصحاب الخيل
للطراد، ويجعل بإزاء أهل القوة من العدو أولى القوة من المسلمين.
وليوصهم بتقوى الله العظيم والإخلاص في طاعته وبذل الأنفس في مرضاته وصدق
النية في لقاء عدوه ويذكرهم ما لهم في ذلك من الثواب، ويرغبهم في الشهادة وما لهم من
الفضل بالظهور على الأعداء من علو الكلمة وما يستحقونه من جزيل الثواب على الشهادة
إن فاتهم الظفر، ويخوفهم الفرار وما فيه من عاجل العار وآجل الدمار، ويتلو آيات
الجهاد، ويأمرهم بسد الخلل وتقوية ما ضعف من الصفوف، والإقبال براياتهم على اللقاء
35

وبذل الجهد واستفراغ الوسع، وغض الأبصار، والإمساك عن الكلام إلا بذكر الله
والتكبير، وتوطين الأنفس على الصبر.
وإذا أراد الحملة فليأمر بعضا فليحملوا حملة رجل واحد ويبقى بعض معه فئة لهم
يتجاوزوا إليها وليصدقوا الحملة ويجمعوا القلوب على الإقدام غير مكذبين ولا متناكسين
فيقتلوهم مقبلين ومدبرين، فإن تضعضع لهم القوم فليزحف أمير الجيش بمن معه زحفا
يبعث المقابلة وفرسان الطراد على الأخذ بكظم القوم حتى يفضوا صفوفهم ويزيلوها عن
أماكنها، فإذا كان ذلك فليحمل بمن معه حملة واحدة ويحملون أمامهم فيوشك الفتح لا
محالة.
وليوصهم بما كان أمير المؤمنين ع يوصي به أصحابه إذا صافوا العدو:
عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار واخفضوا الأصوات وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم
على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمنابذة والمعانقة والمكارمة وأنيبوا إلى ربكم، واذكروا الله
لعلكم تفلحون،
إن الله تعالى دلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم وتسعى بكم إلى الخير، الإيمان
بالله والجهاد في سبيله وجعل ثوابه مغفرة الذنب ومساكن طيبة في جنات عدن، إن الله
يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، فسووا صفوفكم كالبنيان،
وقدموا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا على النواجد فإنه أنبى للسيوف والتووا على أطراف
الرماح فإنه أمرأ للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأميتوا
الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، ولا تميلوا براياتكم ولا تجعلوها إلا مع
شجعانكم، ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا ولا تكشفوا
عورة ولا تدخلوا دارا ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم ولا تهيجوا
امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف القوي
والأنفس والعقول،
رحم الله امرءا واسى أخاه بنفسه ولم يكل قرنه إلى أخيه فيجتمع عليه قرنه وقرن
أخيه فيكتسب بذلك اللائمة ويأتي بدناءة وكيف لا يكون كذلك وقد فرض الله عليه
36

سبحانه قتال الاثنين وهو ممسك يده عن قرنه قد خلاه على أخيه هاربا منه ينظر إليه ومن
يفعل ذلك يمقته الله فلا تتعرضوا لمقت الله (فإن ممركم إلى الله وقد قال الله عز وجل: قل
لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا، وأيم الله
لئن فررتم من سيوف العاجلة لا تسلمون من سيف الآجلة واستعينوا بالصبر والصدق
فإنما ينزل النصر بعد النصر، فجاهدوا في الله حق جهاده ولا قوة إلا بالله.
ومن السنة أن يؤخر إلى أن تزول الشمس ويصلى الصلاتان، روي عن أمير المؤمنين
ع أنه كان يقول: إذا زالت الشمس تفتح أبواب السماء وتنزل الرحمة والنصر
وهو أقرب إلى الليل وأجدر أن يقل القتل ويرجع الطالب ويفلت المنهزم.
ولا تبدأ العدو بالحرب بعد الإعذار حتى يكونوا هم الذين يبدأون به لتحق الحجة
ويتقلدوا البغي، ولا يجوز لمسلم أن يستبرز كافرا إلا بإذن سلطان الجهاد ويجب عليه أن
يبرز إلا من استبرز بغير إذن.
ولا يجوز قتل الشيخ الفاني إلا أن يكون من أهل الرأي ك‍ " دريد بن الصمة " ولا
المرأة ولا الصبي ولا المريض المدنف ولا الزمن ولا الأعمى ولا المؤوف العقل ولا لمتبتل
في شاهق إلا أن يقاتلوا فيحل قتلهم.
ولا يجوز حرق الزرع ولا قطع شجرة الثمر ولا قتل البهائم ولا خراب المنازل ولا
التهتك بالقتلى، ولا يجوز لمسلم أن ينهزم من محاربين ويجوز ذلك من ثلاثة نفر والثبوت
أفضل ولو كان ألفا، ولا يجوز أن يستأسر إلا أن يغلب على نفسه ويثخن جراحا.
وإذا أسر المسلمون كافرا عرض عليه الاسلام ورغب فيه، فإن أسلم أطلق سراحه
وإن أبي وكان أسره والحرب قائمة فالإمام مخير بين قتله وصلبه حتى يموت وقطعه من
خلاف وتركه يجوز في دمه حتى يموت أو الفداء به، وإن كان أسره بعد ما وضعت الحرب
أوزارها لم يجز له قتله وكان الإمام مخيرا بين استعباده والمفاداة به والمن عليه، ولا يجوز
لغير الإمام العادل المن عليه ويسوع له ما عداه، ويلزم من يفرد بغنيمة أو أسير أن يرده إلى
المقسم.
37

ولا سبيل على من نزل دار الكفر من المسلمين مختارا أو مضطرا ولا على ماله إلا أن
ينصر الكفار فيحل قتله وأخذ ما استعان به من المال على قتال المسلمين دون ما عداه،
ولا سبيل على أهله وولده، وحكم رباعه وأراضيه حكم الدار التي هو فيها على كل
حال.
ويجوز الابتداء بقتال الكتابيين والمرتدين والمتأولين ومن خرج إلى دار الاسلام من
ضروب الكفار لكيد أهلها في الأشهر الحرم، ولا يجوز الابتداء فيها بقتال مشركي العرب
فإن بدؤوا بالقتال فيها وجب قتالهم.
ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يجير كافرا ولا يؤمن أهل حصن ولا قرية ولا
مدينة ولا قبيلة إلا بإذن سلطان الجهاد فإن أجار بغير إذنه أثم، ووجبت إجازة جواره ولم تحقر ذمته
وإن كان عبدا وأمسك عمن أجاره من الكفار حتى يسمع كلام الله فإن أسلم وإلا
أبلغ مأمنه، وكذلك حكم من أتى مستجيرا من الكفار.
الضرب الثاني من سيرة الجهاد:
مغانم المحاربين على ضربين: أحدهما يصح نقله وهو الأموال والسلاح والرقيق والكراع وأمثال ذلك.
والثاني لا يصح نقله وهو الأرضون والرباع.
الضرب الأول من المغانم:
يجب في جميع ما غنمه المسلمون من ضروب المحاربين منفردين به ومتناصرين بجملة
الجيش أو السرايا بحرب وغير حرب إحضاره إلى ولي الأمر، فإذا اجتمعت المغانم كان
له إن كان إمام الملة أن يصفي قبل القسمة لنفسه الفرس والسيف والدرع والجارية وأن
يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في الاسلام وثغوره ومصالح أهله، ولا يجوز لأحد أن يعترض
عليه وإن استغرق جميع المغنم، ويجوز ذلك لمن عداه من أولياء السلطان في الجهاد عن
تشاور من صلحاء المسلمين.
38

ثم يخرج الخمس من الباقي لأربابه، ويقسم الأربعة الأخماس الباقية بين من قاتل
عليها دون من عداهم من المسلمين للراجل سهم وللفارس سهمان، فإن كان مع الفارس
فرس آخر سهم بسهم واحد ولا يسهم لما زاد على ذلك.
وغنائم السرايا عن الجيش رد على جميع الجيش وغنائم السرايا من المصر يختصهم،
وإذا أنفذت سرية من المصر فأردفت بأخرى فغنمت الأولة فالثانية مشاركة لها في
الغنيمة.
ومن السنة تنفيل النساء قبل القسمة لأنهن يداوين الجرحى ويعللن المرضى ويصلحن
أزواد المجاهدين، وإذا غنم المسلمون غنيمة بغير حرب فهي للإمام خاصة لكونها من
الأنفال التي خصه الله تعالى بها، وإذا ركب المسلمون في البحر فغنموا لم يختلف حال
الغنيمة للفارس سهمان وللراجل سهم.
وإذا غلب الكفار على شئ من أموال المسلمين وذراريهم ثم ظهر عليهم المسلمون
وأخذوا منهم ما كانوا غلبوا عليه فالأهل والذراري خارجون عن الغنيمة، والرقيق قبل
القسمة لمالكيه وبعد القسمة لا سبيل لهم عليه، والأموال والخيل والكراع والسلاح وغير
ذلك بعد حصوله في حرز الكفار وتملكهم له على ظاهر الحال فهي للمقاتلين عليه وقبل
ذلك راجع إلى أربابه من المسلمين.
ويجب صرف الجزية وما صولح عليه الكتابيون على أراضيهم وأنعامهم في أنصار
الاسلام خاصة حسب ما جرت به السنة من النبي ص.
الضرب الثاني من الغنائم:
أراضي المحاربين خمس: فأرض أسلم أهلها عليها، وأرض أخذت عنوة بالسيف،
وأرض صولح أهلها عليها، وأرض سلمها أهلها من غير حرب أو جلوا عنها، وأرض
المرتدين وكفار التأويل والمحاربين.
فأما الأرض التي أسلم أهلها فهي لهم وملك في أيديهم وعليهم - فيما يخرجه من
الأصناف الأربعة - الزكاة حسب، فإن باع المسلم الأرض أو وهب أو صدق أو وقف
39

أو آجر لزم من انتقلت إليه ما كان على الأول من حقوق الأرض، فإن تركها حتى
بارت ثلاثا أخذت منه وسلمت إلى من يعمرها ويخرج منها الحق.
وأما الأرض المأخوذة عنوة فيلزم الناظر تقبيلها بما يراه مدة معلومة ويشترط على
متقبلها اخراج الزكاة من أصل ما يخرجه من الأصناف الأربعة إلى أهلها وأخذ ما بقي
عن شرط القبالة فيصرف إلى أنصار الاسلام، فإن قصر المزارع في عمارتها وزراعتها كان
له فسخ العقد وأخذ الأرض منه وتسليمها إلى من يراه وله صرف ذلك في مصالح
الاسلام وسد ثغوره وتقويته بالخيل والسلاح على أعدائه ولا يجوز لأحد أن يعترض عليه في
ذلك.
وأما أرض الصلح فمختصة بأرض الكتابيين دون من عداهم من ضروب الكفار
الذين لا تجوز هدنتهم ولا مصالحتهم على شئ فلا حد لمقدار ما يقع الصلح عليه وإنما هو
بحسب ما يراه سلطان الاسلام ولمن بعده من الأئمة ع الزيادة عليه والنقصان
منه، ويصح صلحهم على جزية الرؤوس خاصة وعلى الأمرين.
فإن باع الذمي أو وهب أو صدق أو وقف شيئا من أرض الصلح لذمي حرا أو عبدا
فعلى من انتقلت إليه من الخراج ما كان على الأول، فإن كان انتقالها إلى مسلم فعليه
فيها ما كان على الذمي العشر أو نصفه من الأصناف الأربعة إلى أهلها، وإن آجرها من
مسلم أو ذمي فعلى المستأجر خراجها ويرجع على المالك به ما لم يشترطه في عقد الإجارة.
وإذا انتقلت بأحد الوجوه إلى عبد مسلم أو ذمي أو مدبر أو مكاتب مشروط فحق
الأرض يختص بالسيد، وإن كان مكاتبا قد عتق بعضه فعليه من حق الأرض بحساب
ما عتق منه وعلى مكاتبة الباقي، وخراج أرض الذمي لازم له وإن يردها أو عجز عن
عمارتها وزراعتها.
وإن كان شرط الصلح مختصا بما يخرج الأرض وصفته من جدب وخصب أخذت
منه وسلمت إلى من يعمرها من أهل دينه ويؤدى خراجها، فإن لم يجد من يأخذها من
أهل دينه أعطيت لغيره فما فضل عن حق المزارع والخراج فهو للذمي ولا شئ عليه فيما
نقص.
40

وإن كان شرط الأرض مختصا بمساحتها كان على كل جريب درهم فهو مضاف إلى
جزية الرؤوس يلزم الذمي العاجز عن عمارتها أداؤه كجزية رأسه ويصنع بأرضه ما شاء.
فأما أرض الأنفال فقد تقدم تعيينها فهي للإمام ليس لأحد من الذرية ولا غيرهم
فيها نصيب يصنع بها بما يشاء مدة حياته، فإذا مضى قام الإمام القائم بعده مقامه في
الاستحقاق وهو بالخيار بين إمضاء ما قرره الماضي ونقضه، ولا يحل لأحد أن يتصرف في
شئ من أرض الأنفال بغير إذن من يستحقها مع إمكانه، وإن تعذر الإيذان جاز
التصرف فيها بشرط اخراج الخمس من جميع ما يخرجه يصنع فيه ما رسمناه سالفا فيما
يختص الإمام من الحقوق الآن.
وأما أرض الكفار والمتأولين والمرتدين والبغاة المحاربين فحكمها حكم الأصل إن
كان ملكا أو صلحا أو فتحا أو نفلا وحكم زرع هذه الأراضي حكمها، ولا يجوز لإمام
ولا مأموم أن يحكم في شئ منها بغير ما قرره الشرع فإن فعل لم يمض وكان على المتمكن
من الانكار إبطاله ورد الأرض والمسكن إلى حكم الأصل.
الفسق وأحكامه:
وأما الفسق: فمستحق بكل معصية ليست بكفر، وهو مقتض لفرضين: أحدهما
يختص الماضي والثاني يختص المستقبل.
فالفرض الأول:
مختص بسلطان الاسلام أو من تصح نيابته عنه وهو على خمسة أضرب:
منها ما يوجب الحد وهو الزنى واللواط والسحق والجمع بين أهل الفجور له والقذف
والسرق والفساد في الأرض وشرب الخمر والفقاع.
ومنها ما يوجب التعزير وهو إتيان البهائم والاستمناء والتعريض بالسب وموافقة ما
ذكرناه من القبائح والإخلال ببعض الواجبات العقلية أو السمعية.
ومنها ما يوجب القصاص بالقتل والجراح وهو مختص بتعمد ما يوجبهما.
ومنها ما يوجب الدية وهو مختص بما يقع عن خطأ من قتل أو جراح.
41

ومنها ما يوجب الأرض أو القيمة وهو مختص بما يحصل من إتلاف لملك الغير أو
تنقص قيمته عن خطأ أو عمد.
وسيرد تفصيل أحكام هذه المستحقات الخمس في مواضعه إن شاء الله تعالى.
والفرض الثاني هو الأمر والنهي:
وكل منهما على ضربين: واجب وندب.
فما وجب فعله عقلا أو سمعا الأمر به واجب، وما ندب إليه الأمر به مندوب، وما
قبح عقلا أو سمعا النهي عنه واجب، وما كره منهما النهي عنه مندوب.
والأمر والنهي على مقتضى الأصول عبارة عن قول الأعلى للأدنى: افعل، أو: لا
تفعل، مقترنا بالإرادة والكراهة، وفيما قصدناه عبارة عما أثر وقوع الحسن وارتفاع
القبيح من الغير من الأقوال والأفعال.
وطريق وجوب ما له هذه الصفة السمع وهو الاجماع دون العقل،
إذ لو كان العقل طريقا لوجوبه لاشترك فيه القديم والمحدث وذلك يقتضي وقوع سائر الواجبات وارتفاع
سائر القبائح لكونه سبحانه قادرا على حملهم على ذلك كما يجب مثل ذلك على كل
متمكن منا، والمعلوم بخلاف ذلك.
وأيضا وكل شئ وجب عقلا فإنما وجب لما هو عليه كالصدق والإنصاف أو لكونه
لطفا كالعلم بالثواب والعقاب، فطريق العلم بوجوب حمل الغير على الواجب ومنعه من
القبيح لكونه كذلك أو لكونه لطفا متعذر وإنما علم ذلك بعد التعبد بسائر الفرائض
الشرعية.
فما يتعلق منه بأفعال القلوب من إرادة الواجب وكراهية القبيح فرض يعم كل
مكلف علمهما وما عدا ذلك من الأقوال والأفعال المؤثرة في وقوع الحسن وارتفاع القبيح
يقف وجوبه على شروط خمس:
منها العلم بحسن المأمور وقبح المنهي، ومنها التمكن من الأمر والنهي، ومنها غلبة
الظن بوقوع القبيح والإخلال بالواجب مستقبلا، ومنها تجويز تأثيرهما، ومنها أن لا تكون
42

فيهما مفسدة.
واعتبرنا العلم لأن الحمل على ما يجوز الحامل كونه قبيحا والمنع مما لا يقطع على
قبحه بالقهر قبيح لا يحسن على حال فضلا عن وجوبه، ولا سبيل إلى القطع على الحسن
والقبح إلا بالعلم.
واعتبرنا قوة الظن بما يتوقع دون الماضي لأن الغرض بهذا التكليف وقوع الواجب
وارتفاع القبيح والماضي لا يتقدر هذا فيه، والتجويز لو كفى في الإيجاب لوجب الانكار
على كل من لا تعلم عصمته من أبرار الأمة وعبادها لتجويز وقوع القبيح منهم وذلك
فاسد.
واعتبرنا التمكن لقبح التكليف من دونه عقلا وسمعا.
واقتصرنا في الإيجاب على التجويز دون غلبة الظن بالتأثير لأن أدلة إيجاب الأمر
والنهي مطلقة غير مشترطة بظن التأثير وإثباته شرطا يقتضي إثبات ما لا دليل عليه
ويؤدى إلى تقييد مطلق الوجوب بغير حجة، وأيضا فقد علمنا وجوب الجهاد مع قوة الظن
بأن المجاهد لا يؤمن ومع حصول العلم بذلك يبطل اعتبار الظن في الوجوب.
إن قيل: إذا كان الغرض بالأمر والنهي حصول التأثير فينبغي إذا غلب الظن بعدمه
أن يقبحا لكون ذلك عبثا ولهذا يقبح منا الانكار على أهل الماصر ما يؤتونه فيه من أخذ
الأعشار.
قيل: المقصود في هذا التكليف مصلحة من وجب عليه والتأثير تابع فجاز وجوبه وإن
علم انتفاء التأثير كسائر المصالح، وبعد يحس تكليف من علم حاله سبحانه وعلمنا أو
ظننا أنه لا يختار ما كلفه ظاهرا وهو مانع من اعتبارهم وقوف الحسن علي التأثير، وأيضا
فجهاد الكفار واجب مع الإمكان وحصول العلم تارة والظن أخرى بعدم تأثيره الإيمان،
واتفاق الكل على وجوب الانكار على " أبي لهب " مع العلم بأنه لا يؤمن وعلى كثير من
الكفار المعلوم أو المظنون كونهم ممن لا يختار الإيمان وذلك يبطل ما ظنوه، وأما أصحاب
الماصر فإنما قبح الانكار عليهم في كثير من الأحوال لحصول الخوف من ضررهم أو
استهزائهم بالمنكر وذلك قبيح يحصل عند الانكار لولاه لم يحصل، ولا شبهة في سقوط
43

فرض الأمر والنهي والحال هذه لكونه مفسدة ولهذا متى أمنا منهم الأمرين وجب الانكار
عليهم وإن ظننا ارتفاع التأثير، فواضح أن قبح الانكار عليهم إنما كان للمفسدة لا
لارتفاع الظن بالتأثير.
واشترطنا عدم المفسدة لعلمنا بوجوب اجتناب ما أثر وقوع قبيح أو كان لطفا فيه
لقبحه كالقبيح المتبدأ، فالأمر أو النهي متى كان سببا لوقوع قبيح من المأمور المنهي أو
من غيره بالأمر الناهي أو بغيره يزيد على المنكر أو ينقص لولاه لم يقع يجب الحكم بقبحه
ووجوب اجتنابه لأنه لا يجوز عقلا ولا سمعا من المكلف أن يختار القبيح ليرتفع من
غيره.
وإذا تكاملت هذه الشروط ففرضهما على الكفاية إذا قام به بعض من تعين عليه
سقط عن الباقين لأن الغرض منهما وقوع الحسن وارتفاع القبيح، فإذا حصل المقصود
ببعض من تعين عليه لم يكن لتكليف الباقين وجه وإن لم يقم به أحد فكل مخاطب به
ومستحق لذم الإخلال وعقابه.
والواجب من ذلك ما يغلب في الظن حصول الواجب وارتفاع القبيح معه، فإن ظن
مكلفة أن الدعوة والتذكار والتنبيه على قبح الفعل والإخلال وعظيم المستحق بهما كاف
اقتصر عليه، فإن أثر حصول المقصود وإلا انتقل إلى اللعن والتغليظ في الزجر والتهديد،
فإن أثر وإلا انتقل إلى الضرب والإيلام وإلى أن يقع الواجب ويرتفع القبيح.
فإن غلب في الظن ابتداءا عدم تأثير القول ابتدأ بما يظن كونه مؤثرا من الفعل وما زاد
عليه حتى يحصل المقصود من وقوع الواجب وارتفاع القبيح، فإن أدى ذلك إلى فساد عضو
أو تلف نفس فلا ضمان على المنكر.
وليس لأحد أن يقول: أي فائدة في وقوع الحسن وارتفاع القبيح عن إلجاء منافاته
للتكليف؟ لأن في ذلك وجوها حكمية:
منها كونه لطفا للأمر الناهي بغير شبهة.
ومنها أنه ليس كلما يقع من حسن عند الأمر وارتفع من قبيح عند النهي يحصل عن
إلجاء.
44

ومنها أن الإلجاء يختص أفعال الجوارح فيصح أن يصحبها العزم على تأدية الواجب
واجتناب القبيح للوجه الذي له كانا كذلك.
ومنها كون ذلك لطفا في المستقبل للمأمور المنهي ولغيره من المكلفين من حيث
كان علم العاقل أنه متى دام القبيح منع منه ومتى عزم على الإخلال بالواجب حمل عليه
يبعثه بغير شبهة على فعل الواجب ابتداءا واجتناب القبيح.
يوضح هذا علمنا بكثرة الواجبات وقلة القبائح في أزمنة التمكن من الأمر والنهي
وفي الأمكنة ولهذا قال أهل العدل: إنه متى علم القديم سبحانه أن إلجاء المكلف إلى
فعل حسن واجتناب قبيح يبعثه إلى اختيار مثله من الحسن واجتناب مثله من القبيح أو
خلافهما وجب في حكمته سبحانه فعل ذلك الإلجاء كوجوب مثله علينا مع الأمر
والنهي.
45

النهاية
في مجرد الفقه والفتاوى
للشيخ الأجل أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي
المشتهر بشيخ الطائفة والشيخ الطوسي
385 - 460 ه‍ ق
47

كتاب الجهاد وسيرة الإمام
باب فرض الجهاد ومن يجب عليه وشرائط وجوبه وحكم الرباط:
الجهاد فريضة من فرائض الاسلام وركن من أركانه، وهو فرض على الكفاية،
ومعنى ذلك: أنه إذا قام به من في قيامه كفاية وغناء عن الباقين ولا يؤدى إلى الإخلال
بشئ من أمر الدين سقط عن الباقين، ومتى لم يقم به أحد لحق جميعهم الذم واستحقوا
بأسرهم العقاب. ويسقط الجهاد عن النساء والصبيان والشيوخ الكبار والمجانين والمرضى
ومن ليس به نهضة إلى القيام بشرطه.
ومن كان متمكنا من إقامة غيره مقامه في الدفاع عنه وهو غير متمكن من القيام به
بنفسه وجب عليه إقامته وإزاحة علته في ما يحتاج إليه، ومن تمكن من القيام بنفسه فأقام
غيره مقامه سقط فرضه إلا أن يلزمه الناظر في أمر المسلمين القيام بنفسه فحينئذ يجب عليه
أن يتولى هو الجهاد ولا يكفيه إقامة غيره.
ومن وجب عليه الجهاد إنما يجب عليه عند شروط وهي: أن يكون الإمام العادل
الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره ولا يسوع لهم الجهاد من دونه ظاهرا أو يكون من نصبه
الإمام للقيام بأمر المسلمين حاضرا ثم يدعوهم إلى الجهاد فيجب عليهم حينئذ القيام به،
ومتى لم يكن الإمام ظاهرا ولا من نصبه الإمام حاضرا لم يجز مجاهدة العدو.
والجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم، وإن أصاب لم
يؤجر عليه وإن أصيب كان مأثوما اللهم إلا أن يدهم المسلمين أمر من قبل العدو يخاف
منه على بيضة الاسلام ويخشى بواره أو يخاف على قوم منهم وجب حينئذ أيضا جهادهم
49

ودفاعهم، غير أنه يقصد المجاهد والحال على ما وصفناه الدفاع عن نفسه وعن حوزة
الاسلام وعن المؤمنين ولا يقصد الجهاد مع الإمام الجائر ولا مجاهدتهم ليدخلهم في
الاسلام.
والمرابطة في سبيل الله فيها فضل كبير وثواب جزيل غير أن الفضل فيها يكون حال
كون الإمام ظاهرا، وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، فإن زاد على ذلك كان حكمه
حكم المجاهدين وثوابه ثوابهم.
ومتى لم يكن الإمام ظاهرا لم يكن فيه ذلك الفضل، فإن نذر في حال استتار الإمام
وانقباض يده عن التصرف أن يرابط وجب عليه الوفاء به غير أنه يكون حكمه ما ذكرناه
من أنه لا يبدأ العدو بالقتال وإنما يدفعهم إذا خاف سطوتهم.
وإن نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين في حال ظهور الإمام وجب عليه
الوفاء به، وإن نذر ذلك في حال انقباض يد الإمام صرف ذلك في وجوه البر اللهم إلا أن
يكون قد نذر ظاهرا ويخاف في الإخلال به الشنعة عليه فحينئذ يجب الوفاء به.
ومن أخذ من انسان شيئا ليرابط عنه في حال انقباض يد الإمام فليرد عليه ولا يلزمه
الوفاء به، فإن لم يجد من أخذه منه وجب عليه الوفاء به ولزمته المرابطة.
ومن لا يمكنه المرابطة بنفسه فرابط دابة أو أعان المرابطين بشئ يقوم بأحوالهم كان له
في ذلك أجر كبير، ومن دخل أرض العدو بأمان من جهتهم فغزاهم قوم آخرون من
الكفار جاز له قتالهم ويكون قصده بذلك الدفاع عن نفسه ولا يقصد معاونة المشركين
والكفار.
باب من يجب قتاله من المشركين وكيفية قتالهم:
كل من خالف الاسلام من سائر أصناف الكفار يجب مجاهدتهم وقتالهم غير أنهم
ينقسمون قسمين:
قسم لا يقبل منهم إلا الاسلام والدخول فيه أو يقتلون وتسبى ذراريهم وتؤخذ
أموالهم وهم جميع أصناف الكفار إلا اليهود والنصارى والمجوس.
50

والقسم الآخر هم الذين تؤخذ منهم الجزية وهم الأجناس الثلاثة الذين ذكرناهم
فإنهم متى انقادوا للجزية وقبلوها وقاموا بشرائطها لم يجز قتالهم ولم يسغ سبي ذراريهم،
ومتى أبوا الجزية أو أخلوا بشرائطها كان حكمهم حكم غيرهم من الكفار في أنه يجب
عليهم القتل وسبي الذراري وأخذ الأموال.
ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الاسلام وإظهار الشهادتين
والإقرار بالتوحيد والعدل والتزام جميع شرائع الاسلام، فمتى دعوا إلى ذلك فلم يجيبوا
حل قتالهم، ومتى لم يدعوا لم يجز قتالهم، والداعي ينبغي أن يكون الإمام أو من يأمره
الإمام.
ولا يجوز قتال النساء، فإن قاتلن المسلمين وعاون أزواجهن ورجالهن أمسك عنهن،
فإن اضطروا إلى قتلهن جاز حينئذ قتلهن ولم يكن به بأس.
وشرائط الذمة: الامتناع من مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمور وأكل
الربا ونكاح المحرمات في شريعة الاسلام، فمتى فعلوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من
الذمة وجرى عليهم أحكام الكفار.
ومن أسلم من الكفار وهو بعد في دار الحرب كان إسلامه حقنا لدمه من القتل،
وولده الصغار من السبي فأما الكبار منهم والبالغون فحكمهم حكم غيرهم من الكفار،
وما له من الأخذ كل ما كان صامتا أو متاعا أو أثاثا وما يمكن نقله إلى دار الاسلام
وأما الأرضون والعقارات وما لا يمكن نقله فهو فئ للمسلمين.
ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل وأسبابه إلا السم فإنه لا يجوز أن يلقى في
بلادهم السم، ومتى استعصى على المسلمين موضع منهم كان لهم أن يرموهم بالمناجيق
والنيران وغير ذلك مما يكون فيه فتح لهم وإن كان في جملتهم قوم من المسلمين النازلين
عليهم، ومتى هلك المسلمون فيما بينهم أو هلك لهم من أموالهم شئ لم يلزم المسلمين
ولا غيرهم غرامتهم من الدية والأرش وكان ضائعا.
ولا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان وفي أي شهر كان إلا الأشهر الحرم فإن
من يرى منهم خاصة لهذه الأشهر حرمة لا يبتدئون فيها بالقتال، فإذا بدؤوهم بقتال
51

المسلمين جاز حينئذ قتالهم وإن لم يبتدئوا أمسك عنهم إلى انقضاء هذه الأشهر، فأما
غيرهم من سائر أصناف الكفار فإنهم يبتدئون فيها بالقتال على حال.
ولا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال القتال، ولا يجوز له أن يطلب المبارزة إلا
بإذن الإمام، ولا يجوز لأحد أن يؤمن إنسانا على نفسه ثم يقتله فإنه يكون غادرا، ويلحق
بالذراري من لم يكن قد أنبت بعد ومن أنبت ألحق بالرجال وأجرى عليه أحكامهم،
ويكره قتل من يجب قتله صبرا وإنما يقتل على غير ذلك الوجه، ولا يجوز أن يفر واحد من
واحد ولا اثنين فإن فر منهما كان مأثوما، ومن فر من أكثر من اثنين لم يكن عليه
شئ.
باب قسمة الفئ وأحكام الأسارى:
قد بينا في كتاب الزكاة كيفية قسمة الفئ على التفصيل غير أنا نذكره ههنا مجملا
ونزيد عليه ما يحتاج إليه مما يليق بهذا المكان.
كل ما غنمه المسلمون من المشركين ينبغي للإمام أن يخرج منه الخمس فيصرفه إلى
أهله ومستحقيه حسب ما قدمناه في كتاب الزكاة.
والباقي على ضربين: ضرب منه للمقاتلة خاصة دون غيرهم من المسلمين وضرب
هو عام لجميع المسلمين مقاتلتهم وغير مقاتلتهم.
فالذي هو عام لجميع المسلمين فكل ما عدا ما حوى العسكر من الأرضين
والعقارات وغير ذلك فإنه بأجمعه فئ للمسلمين من غاب منهم ومن حضر على السواء.
وما حوى العسكر يقسم بين المقاتلة خاصة ولا يشركهم فيه غيرهم، فإن قاتلوا
وغنموا فلحقهم قوم آخرون لمعاونتهم كان لهم من القسمة مثل ما لهم يشاركونهم فيها،
وينبغي للإمام أن يسوي بين المسلمين في القسمة ولا يفضل أحدا منهم لشرفه أو علمه أو
زهده على من ليس كذلك في قسمة الفئ.
وينبغي أن يقسم للفارس سهمين وللراجل سهما، فإن كان مع الرجل أفراس
جماعة لم يسهم منها إلا لفرسين منها، ومن ولد في أرض الجهاد كان له من السهم مثل
52

ما للمقاتل على السواء، وإذا قاتل قوم من المسلمين المشركين في السفينة فغنموا وفيهم
الفرسان والرجالة كان قسمتهم مثل قسمتهم لو قاتلوا على البر سواء للفارس سهمان
وللراجل سهم.
وعبيد المشركين إذا لحقوا بالمسلمين قبل مواليهم وأسلموا كانوا أحرارا وحكمهم
حكم المسلمين، وإن لحقوا بهم بعد مواليهم كان حكمهم حكم العبيد.
ومتى أغار المشركون على المسلمين فأخذوا منهم ذراريهم وعبيدهم وأموالهم ثم ظفر
بهم المسلمون فأخذوا منهم ما كان المشركون أخذوا منهم فإن أولادهم يردون إليهم بعد
أن يقيموا بذلك بينة ولا يسترقون، فأما العبيد فإنهم يقومون في سهام المقاتلة ويعطي
الإمام مواليهم أثمانهم من بيت المال، وكذلك الحكم في أمتعتهم وأثاثهم على السواء.
والأسارى على ضربين: ضرب منهم هو كل أسير أخذ قبل أن تضع الحرب أوزارها
وينقضي القتال فإنه لا يجوز للإمام استبقاؤهم ويكون مخيرا بين أن يضرب رقابهم أو
يقطع أيديهم وأرجلهم ويتركهم حتى ينزفوا ويموتوا، والضرب الآخر هو كل أسير أخذ
بعد أن وضعت الحرب أوزارها فإنه يكون الإمام فيه مخيرا إن شاء من عليه فأطلقه وإن
شاء استعبده وإن شاء فاداه.
ومن أخذ أسيرا فعجز عن المشي ولم يكن معه ما يحمله عليه إلى الإمام فليطلقه فإنه
لا يدري ما حكم الإمام فيه، ومن كان في يده أسير وجب عليه أن يطعمه ويسقيه وإن
أرادوا قتله بعد لحظة.
والمسلم إذا أسره المشركون لم يجز له أن يتزوج فيما بينهم، فإن اضطر جاز له أن
يتزوج في اليهود والنصارى فأما غيرهم فلا يقربهم على حال.
باب قتال أهل البغي والمحاربين وكيفية قتالهم والسيرة فيهم:
كل من خرج على إمام عادل ونكث بيعته وخالفه في أحكامه فهو باع وجاز للإمام
قتاله ومجاهدته، ويجب على من يستنهضه الإمام في قتالهم النهوض معه ولا يسوع له
التأخر عن ذلك، ومن خرج على إمام جائر لم يجز قتالهم على حال، ولا يجوز لأحد قتال
53

أهل البغي إلا بأمر الإمام، ومن قاتلهم فلا ينصرف عنهم إلا بعد الظفر أو يفيئوا إلى
الحق، ومن رجع عنهم من دون ذلك كان فارا من الزحف.
وأهل البغي على ضربين: ضرب منهم يقاتلون ولا تكون لهم فئة يرجعون إليه
والضرب الآخر تكون لهم فئة يرجعون إليه. فإذا لم يكن لهم فئة يرجعون إليه فإنه لا يجاز
على جريحهم ولا يتبع مدبرهم ولا تسبى ذراريهم ولا يقتل أسيرهم، ومتى كان لهم فئة
يرجعون إليه جاز للإمام أن يجيز على جرحاهم وأن يتبع مدبرهم وأن يقتل أسيرهم، ولا
يجوز سبي الذراري على حال، ويجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى العسكر ويقسم
على المقاتلة حسب ما قدمناه، وليس له ما لم يحوه العسكر ولا له إليه سبيل على حال.
والمحارب هو كل من قصد إلى أخذ مال الانسان وأشهر السلاح في بر أو بحر أو سفر
أو حضر فمتى كان شئ من ذلك جاز للإنسان دفعه عن نفسه وعن ماله، فإن أدى ذلك
إلى قتل اللص لم يكن عليه شئ وإن أدى إلى قتله هو كان شهيدا وثوابه ثواب
الشهداء.
باب من الزيادات في ذلك:
يجوز للإمام أن يذم لقوم من المشركين ويجوز له أن يصالحهم على ما يراه ولا يجوز
لأحد أن يذم عليه إلا باذنه، وإذا كانوا جماعة من المسلمين في سرية فأذم واحد منهم
لمشرك كانت ذمته ماضية على الكل ولم يجز لأحد منهم الخلاف عليهم وإن كان
أدونهم في الشرف حرا كان أو عبدا، ومتى استذم قوم من المشركين إلى المسلمين فقال
لهم المسلمون: لا نذمكم، فجاؤوا إليهم ظنا منهم أنهم أذموهم كانوا مأمونين ولم يكن
عليهم سبيل. ومن أذم مشركا أو غير مشرك ثم أخفره ونقض ذمامه كان غادرا آثما.
ويكره أن يعرقب الانسان الدابة على جميع الأحوال فإن وقفت عليه في أرض العدو
فليخلها ولا يعرقبها، وإذا اشتبه قتلى المشركين بقتلى المسلمين فليوار منهم من كان صغير
الذكر، على ما روي في بعض الأخبار. ولا بأس أن يغزو الانسان عن غيره ويأخذ منه
على ذلك الجعل.
54

ويكره تبييت العدو ليلا وإنما يلاقون بالنهار، ويستحب ألا يؤخذ في القتال إلا بعد
زوال الشمس فإن اقتضت المصلحة تقديمه قبل الزوال لم يكن به بأس، ولا يجوز
التمثيل بالكفار ولا الغدر بهم ولا الغلول منهم، ولا ينبغي أن تقطع الأشجار المثمرة في
أرض العدو والإضرار بهم إلا عند الحاجة إليها، ولا ينبغي تغريق المساكن والزروع إلا
عند الحاجة الشديدة إلى ذلك، و ليس للأعراب من الغنيمة شئ وإن قاتلوا مع
المهاجرين.
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن له إقامة الحدود والقضاء ومن ليس له
ذلك:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضان من فرائض الاسلام وهما فرضان على
الأعيان لا يسع أحدا تركهما والإخلال بهما.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان بالقلب واللسان واليد إذا تمكن المكلف
من ذلك وعلم أنه لا يؤدى إلى ضرر عليه ولا على أحد من المؤمنين لا في الحال ولا في
مستقبل الأوقات أو ظن ذلك، فإن علم الضرر في ذلك إما عليه أو على غيره إما في
الحال أو في مستقبل الأوقات أو غلب على ظنه لم يجب عليه من هذه الأنواع إلا ما يأمن
معه الضرر على كل حال.
والأمر بالمعروف يكون باليد واللسان، فأما باليد فهو أن يفعل المعروف ويجتنب
المنكر على وجه يتأسى به الناس، وأما باللسان فهو أن يدعو الناس إلى المعروف ويعدهم
على فعله المدح والثواب ويزجرهم ويحذرهم في الإخلال به من العقاب، فمتى لم يتمكن
من هذين النوعين بأن يخاف ضررا عليه أو على غيره اقتصر على اعتقاد وجوب الأمر
بالمعروف بالقلب وليس عليه أكثر من ذلك.
وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب و الردع وقتل
النفوس وضرب من الجراحات إلا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلا بإذن سلطان الوقت
المنصوب للرئاسة، فإن فقد الإذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها.
55

وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأما باليد فهو أن يؤدب فاعله
بضرب من التأديب إما الجراح أو الألم أو الضرب غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة
السلطان حسب ما قدمناه فمتى فقد الإذن من جهته اقتصر على الانكار باللسان
والقلب، ويكون الانكار باللسان بالوعظ والإنذار والتخويف من فعله بالعقاب والذم
وقد يجب عليه إنكار المنكر بضرب من الفعل وهو أن يهجر فاعله ويعرض عنه وعن
تعظيمه ويفعل معه من الاستخفاف ما يرتدع معه من المناكير، وإن خاف الفاعل
للإنكار باللسان ضررا اقتصر على الانكار بالقلب حسب ما قدمناه في المعروف سواء.
فأما إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله
تعالى أو من نصبه الإمام لإقامتها ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال، وقد رخص في
حال قصور أيدي أئمة الحق وتغلب الظالمين أن يقيم الانسان الحد على ولده وأهله
ومماليكه إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين وأمن من بوائقهم فمتى لم يأمن ذلك لم
يجز له التعرض لذلك على حال.
ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل إليه إقامة الحدود جاز له أن يقيمها عليهم
على الكمال ويعتقد أنه إنما يفعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور، ويجب
على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك ما لم يتعد الحق في ذلك وما هو مشروع في شريعة
الاسلام، فإن تعدى في ما جعل إليه الحق لم يجز له القيام به ولا لأحد معاونته على ذلك
اللهم إلا أن يخاف في ذلك على نفسه فإنه يجوز له حينئذ أن يفعل في حال التقية ما لم
يبلغ قتل النفوس، فأما قتل النفوس فلا يجوز فيه التقية على حال.
وأما الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضا إلا لمن أذن له سلطان
الحق في ذلك وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكنون فيه من توليه
بنفوسهم، فمن تمكن من إنفاذ حكم أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل
ذلك وله بذلك الأجر والثواب ما لم يخف في ذلك على نفسه ولا على أحد من أهل
الإيمان ويأمن الضرر فيه، فإن خاف شيئا من ذلك لم يجز له التعرض لذلك على حال.
ومن دعا غيره إلى فقيه من فقهاء أهل الحق ليفصل بينهما فلم يجبه وآثر المضي إلى
56

المتولي من قبل الظالمين كان في ذلك متعديا للحق مرتكبا للآثام.
ولا يجوز لمن يتولى الفصل بين المختلفين والقضاء بينهم أن يحكم إلا بموجب الحق
ولا يجوز له أن يحكم بمذاهب أهل الخلاف، فإن كان قد تولى الحكم من قبل الظالمين
فليجتهد أيضا في تنفيذ الأحكام على ما تقتضيه شريعة الإيمان، فإن اضطر إلى تنفيذ
حكم على مذاهب أهل الخلاف بالخوف على النفس أو الأهل أو المؤمنين أو على أموالهم
جاز له أن ينفذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس فإنه لا تقية له في قتل النفوس حسب
ما بيناه.
ويجوز لفقهاء أهل الحق أن يجمعوا بالناس الصلوات كلها وصلاة الجمعة والعيدين
ويخطبون الخطبتين ويصلون بهم صلاة الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضررا، فإن خافوا
في ذلك الضرر لم يجز لهم التعرض لذلك على حال.
ومن تولى ولاية من قبل ظالم في إقامة حد أو تنفيذ حكم فليعتقد أنه متول لذلك من
جهة سلطان الحق وليقم به على ما تقتضيه شريعة الإيمان، ومهما تمكن من إقامة حد على
مخالف له فليقمه فإنه من أعظم الجهاد.
ومن لا يحسن القضايا والأحكام في إقامة الحدود وغيرها لا يجوز له التعرض لتولي
ذلك على حال، فإن تعرض لذلك كان مأثوما، فإن أكره على ذلك لم يكن عليه في
ذلك شئ ويجتهد لنفسه التنزه من الأباطيل.
57

الجمل والعقود
للشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي
المشتهر بشيخ الطائفة والشيخ الطوسي
385 - 460 ه‍ ق
59

كتاب الجهاد
الجهاد فرض من فرائض الاسلام، وهو فرض على الكفاية إذا قام به البعض يسقط
عن الباقين.
وشرائط وجوبه سبعة: الذكورة والبلوغ وكمال العقل والصحة والحرية وأن لا يكون
شيخا ليس به قيام ويكون هناك إمام عادل أو من نصبه الإمام للجهاد. فإذا اختل
واحد من هذه الشروط سقط فرضه. والمرابطة مستحبة، وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما
فإن زاد على ذلك كان جهادا ويجب بالنذر.
فصل: في أصناف من يجاهد من الكفار:
الكفار على ضربين: ضرب يقاتلون إلى أن يسلموا أو يقتلوا أو يقبلوا الجزية وهم
ثلاث فرق: اليهود والنصارى والمجوس، والآخر لا يقبل منهم الجزية ويقاتلون حتى
يسلموا أو يقتلوا وهم كل من عدا الثلاث الفرق المذكورين.
وإذا قبلوا الجزية فليس لها حد محدود بل يأخذها الإمام على حسب ما يراه إما أن
يضعها على رؤوسهم أو أراضيهم، ولا يجمع بينهما ويزيد وينقص حسب ما يراه، فإن
وضعها على أراضيهم فأسلموا سقطت عنهم الجزية وأخذ من الأرض العشر أو نصف
العشر وتكون أملاكا لهم، ومتى وجبت عليهم الجزية فأسلموا سقطت عنهم الجزية، ولا
تؤخذ الجزية من أربعة: الصبيان والمجانين والبله والنساء. ولا يبتدئون بالقتال إلا بعد
61

أن يدعوا إلى الاسلام من التوحيد والعدل والقيام بأركان الاسلام، فإذا أبوا ذلك كله
أو شيئا منه حل قتالهم، ويكون الداعي الإمام أو من يأمره الإمام.
وشرائط الذمة خمسة: قبول الجزية وأن لا يتظاهروا بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر
والزنى ونكاح المحرمات. فإن خالفوا شيئا من ذلك خرجوا من الذمة.
ويجوز قتال أهل الشرك بسائر أنواع القتال إلا إلقاء السم في بلادهم، ومن أسلم في
دار الحرب كان إسلامه حقنا لدمه ولولده الصغار من السبي ولماله من الأخذ مما يمكن
نقله إلى بلاد الاسلام، فأما ما لا يمكن نقله (إلى بلد الاسلام) فهو من جملة الغنائم وذلك
مثل الأرضين والعقارات.
فصل في ذكر الغنيمة والفئ وكيفية قسمتهما:
جميع ما يغنم من بلاد الشرك يخرج منه الخمس فيفرق في أهله الذين ذكرناهم في
كتاب الزكاة، والباقي على ضربين: فما حواه العسكر للمقاتلة خاصة وما لم يحوه
العسكر فلجميع المسلمين وهو الأرضون والعقارات، والذراري والسبايا للمقاتلة خاصة،
ويلحق بالذراري من لم ينبت، ومن أنبت أو علم بلوغه ألحق بالرجال.
والأربعة الأخماس تقسم بين المقاتلة ومن حضر القتال قاتل أو لم يقاتل ويلحق
الصبيان بهم، ومن يولد في تلك الحال قبل القسمة ومن يلحقهم لمعونتهم وقد انقضى
القتال قبل قسمة الغنيمة يشاركهم فيها وتقسم الغنيمة بينهم بالسوية ولا يفضل واحد
(منهم) على الآخر.
ومن كان له فرس فله سهم ولفرسه سهم وللراجل سهم واحد، فإن كان معه أفراس
جماعة أعطي سهم فرسين، وما يغنم في المراكب يقسم كما يقسم ما يغنم في البر للفارس
سهمان وللراجل سهم (واحد.
والأسارى على ضربين: ضرب يؤسرون قبل أن تضع الحرب أوزارها فمن هذه
صورته فلا يجوز استبقاؤهم والإمام مخير بين شيئين: بين أن يضرب رقابهم أو يقطع
أيديهم وأرجلهم ويتركهم حتى ينزفوا. والآخر من يؤسر بعد انقضاء الحرب والإمام مخير
62

فيه بين ثلاثة أشياء: إما أن يمن عليه فيطلقه أو يستعبده أو يفاديه.
فصل في أحكام أهل البغي:
من قاتل إماما عادلا فهو باع وجب جهاده على كل من يستنهضه الإمام، ولا يجوز
قتالهم إلا بأمر الإمام وإذا قوتلوا لم يرجع عنهم إلى أن يفيئوا إلى الحق، وهم على
ضربين: أحدهما لهم فئة يرجعون إليها فإذا كان كذلك جاز أن يجاز على جريحهم ويتبع
مدبرهم ويقتل أسيرهم، والآخر لا يكون لهم فئة فمن كان كذلك لا يجاز على جريحهم
ولا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم. ولا يجوز سبي ذراري الفريقين على كل حال.
والمحارب: كل من أظهر السلاح في بر أو بحر أو سفر أو حضر، فإنه يجوز قتاله على
وجه الدفاع عن النفس والمال فإذا أدى ذلك إلى قتلهم لم يكن على الدافع شئ.
وتفصيل هذه الأبواب وشرحها وفروعها قد استوفيناه في النهاية وفي تهذيب الأحكام.
فصل في ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهما فرضان من فرائض الأعيان عند شروط، فالأمر بالمعروف ينقسم قسمين:
واجب ومندوب. فالأمر بالواجب واجب والأمر بالمندوب مندوب، والنهي عن المنكر
كله واجب لأنه كله قبيح، وشرائط وجوبهما ثلاثة: أن يعلم المعروف معروفا والمنكر
منكرا، ويجوز تأثير إنكاره، ولا يكون فيه مفسدة ويدخل في هذا القسم أن لا يؤدى إلى
ضرر في نفسه أو في غيره أو ماله لأن كل ذلك مفسدة.
وهما ينقسمان ثلاثة أقسام: باليد واللسان والقلب. فمن أمكنه الجميع وجب عليه
جميعه، فإن لم يمكنه الجميع وجب عليه باليد، فإن لم يمكنه باليد وجب بالقلب واللسان،
فإن لم يمكن باللسان فبالقلب، وأمثلة ذلك بيناها في النهاية.
63

المراسم العلوية
لأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي
الملقب بسلار
المتوفى: 463 ه‍ ق
65

باب
ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وإقامة الحدود والجهاد عن الدين
كل من أمكنه إنكار منكر وجب عليه، فأما الأمر بالمعروف فينقسم إلى واجب
وندب، فالواجب كل أمر بواجب والندب كل أمر بندب فمن وجب عليه إنكار المنكر
أو الأمر بالمعروف فحاله ينقسم على ثلاثة أضرب: من يمكنه بيده ومن يمكنه بلسانه ومن
يمكنه بقلبه. وهو مرتب باليد أولا فإن لم يمكن فباللسان فإن لم يمكن فبالقلب، ويجب
عليه أيضا أن يفعله على الوجه الذي يعلم أو يظن أنه أدى على الوجه المنفر فإن رفقا
فرفقا وإن عسفا فعسفا.
وما به يسقط الوجوب ينقسم: فمنه ما لم يندب إلى تحمله، ومنه ما ندب إلى
تحمله فما لم يندب إلى تحمله كل ما يأتي على النفس أو ما يجري مجرى النفس أو
مؤمن أو مال، وما ندب إلى تحمله مثل السب وذهاب بعض ماله فالثواب يعظم
للمشقة.
ولا ينكر منكرا بنكر ولا يأمر بمعروف إلا بمعروف، فأما القتل والجراح في الانكار
فإلى السلطان أو من يأمره السلطان، فإن تعذر الأمر لمانع فقد فوضوا ع إلى
الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس بعد أن لا يتعدوا واجبا ولا يتجاوزوا حدا
وأمروا عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة ولم يحيدوا، فإن
اضطرتهم تقية أجابوا داعيها إلا في الدماء خاصة فلا تقية فيها، وقد روي: أن للإنسان
أن يقيم على ولده وعبده الحدود إذا كان فقيها ولم يخف على نفسه من ذلك، والأول
67

أثبت.
ومن تولى من قبل ظالم وكان قصده إقامة الحق واضطر إلى التولي فليعتمد تنفيذ
الحق ما استطاع وليقض حق الإخوان، ولفقهاء الطائفة أن يصلوا بالناس في الأعياد
والاستسقاء وأما الجمع في الجمع فلا.
وأما الجهاد فإلى السلطان أو من يأمره ويؤمره إلا أن يغشى المؤمنين العدو فيدفعوا عن
نفوسهم وأموالهم وأهليهم وهم في ذلك مثابون قاتلهم ومقتولهم جارحهم ومجروحهم.
68

جواهر الفقه
للقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي
400 - 481 ه‍ ق
69

باب مسائل يتعلق بالجهاد
مسألة: إذا كان عليه دين هل يجوز له الخروج إلى الجهاد أم لا؟
الجواب: إذا كان عليه دين فليس يخلو: من أن يكون حالا أو مؤجلا. فإن كان
حالا لم يجز له الخروج حتى يقضيه لأنه حق قد وجب عليه التخلص منه فإن خرج كان
مغررا بالحق لأنه يطلب الشهادة بالخروج إلى الجهاد فإن أذن له صاحب الحق جاز له
ذلك، وإن كان مؤجلا جاز له الخروج لأنه قبل الأجل ممن لم يجب عليه حتى يلزمه
التخلص منه، وقد قيل: إن لصاحب الحق منعه، والظاهر الأول. هذا إذا لم يتعين الجهاد، فإن تعين
وأحاط العدو بالبلد أو بالمكان وجب على الكل الجهاد والدفع ولم
يكن لأحد المنع من ذلك في هذه الحال.
مسألة: إذا كان له أبوان هل يجوز لهما منعه من الجهاد أم لا؟
الجواب: يجوز لهما منعه من ذلك ما لم يتعين الجهاد على ما قلناه والأصل في أن لهما
ما ذكرناه ما روي عن الرسول ص من أن رجلا جاءه فقال له: يا رسول الله
أجاهد؟ فقال له ع: أ لك أبوان؟ فقال: نعم، فقال: ففيهما فجاهد.
مسألة: إذا نزل الإمام بالجيش في الغزو على بلد هل له حصره والمنع لمن يريد الخروج
منه من الكفار أو دخوله إليه أم لا؟
الجواب: له ذلك لقوله تعالى: واحصروهم. وكما فعل رسول الله فإنه حاصر أهل
الطائف.
71

مسألة: إذا تترس المشركون بالأطفال هل يجوز قتلهم بالرمي أو غيره أو لا يجوز؟
الجواب: إذا كانت الحرب ملتحمة جاز رمى المشركين وضربهم من غير قصد إلى قتل
الأطفال بل يكون القصد إلى من خلفهم، فإن أدى ذلك إلى قتل الأطفال لم يكن على
القاتل لهم شئ لأنه لو لم يفعل ذلك لبطل الجهاد وإن لم تكن الحرب قائمة لم يجز
رميهم ولا قتلهم بغير الرمي لأنهم غير مكلفين.
مسألة: إذا أمنت المرأة لأحد من الكفار هل يصح ذلك أم لا؟
الجواب: يصح ذلك لأن رسول الله ص قال لأم هاني بنت أبي
طالب رضي الله عنه وقد أجارت رجلا من المشركين يوم فتح مكة: أجرنا من أجرت
وأمنا من أمنت.
مسألة: هل يجوز أمان الصبي لأحد من الكفار أم لا؟
الجواب: أمان الصبيان للكفار لا يصح لأنهم غير مكلفين.
مسألة: إذا اغتر كافر بصبي غير مراهق فأمنه ما حكمه؟
الجواب: إذا أمنه من هذه صفته كان الأمان غير صحيح لأنه أمان من غير مكلف
إلا أنه لا يعرض للكافر بسوء حتى يرد إلى مأمنه ثم يصير حربا لأنه حصل مع المسلمين
بشبهة وإذا كان حصوله كذلك لم يجز التعرض له بغدر ولا غيره.
مسألة: إذا تجسس انسان لأهل الحرب وحمل إليهم أخبار المسلمين هل يجوز قتله
بذلك أم لا؟
الجواب: لا يجوز قتله بذلك لأن خاطب بن أبي بلتعة كاتب أهل مكة بأخبار
المسلمين فلم ير رسول الله ص قتله بذلك غير أن الإمام يعزره على ذلك وله
العفو عنه.
مسألة: إذا تزوج حربي بحربية وماتت بعد دخوله بها تم أسلم الزوج بعد ذلك
ودخل إلينا ثم لحقه وارثها وطالبه بالمهر هل يجب على الزوج دفعه إليه أم لا؟
الجواب: لا يجب على هذا الزوج دفع هذا المهر إلى الوارث لأن الوارث من أهل
الحرب ولا أمان لهم على أهل الحرب لتأمين الوارث منهم على هذا المهر.
72

مسألة: إذا كانت الحرب قائمة فأهدى حربي من صفه شيئا إلى مسلم هل يكون
هدية أو غنيمة.
الجواب: هذا يكون غنيمة لأن الحربي إنما فعل ذلك خوفا من أهل الصف.
مسألة: إذا ملك الذمي عرصة وأراد أن يبني فيها دارا هل يجوز له رفع بنائه على بناء
المسلمين أم لا؟
الجواب: لا يجوز له رفع بنائه ذلك على بناء المسلمين، إن ساوى بينه وبين بناء
المسلمين كان عليه أن ينقصهم عن ذلك لقول رسول الله: الاسلام يعلو ولا يعلى عليه.
ولأن إجماع الطائفة على ذلك أيضا وكذلك إذا كانت الدار قديمة وانهدمت ثم أراد
بناءها.
مسألة: إذا أنفذ الإمام جيشين مختلفين إلى موضعين وأمر على كل واحد منهما أميرا
وغنم كل واحد من الجيشين غنيمة هل يشترك الجيشان في ذلك أم لا؟
الجواب: هذان الجيشان لا يشتركان في ذلك بل يكون لكل جيش ما غنمه لأنهما
جيشان مختلفان وجهة كل واحد منهما غير جهة الآخر فإن اتفقا أن يجتمعا في موضع
واحد وتقاتلا في جهة واحدة معا ويغنما فإن الغنيمة يشتركان فيها لأنهما قد صارا على
هذه الصفة جيشا واحدا.
مسألة: إذا سير الإمام جيشا إلى جهة وجعل عليه أميرا ثم رأى الأمير من الصلاح
إنفاذ سريته فأنفذها وغنمت هل تكون الغنيمة للسرية وحدها أو يشاركها الجيش في
ذلك؟
الجواب: هذه الغنيمة للسرية وللجيش جميعا يشتركان فيها لأنهما جيش واحد،
وكذلك القول لو أنفذ سريتين في جهتين وغنمت السريتان: إن الكل يشتركان في ذلك
لأنهم جيش واحد.
73

المهذب
للقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي
400 - 481 ه‍ - ق
75

كتاب الجهاد
قال الله تبارك وتعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا
وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، وقال عز وجل: إن الله اشترى من
المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون
وعدا عليه حقا في التورية والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا
ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم، وقال جل اسمه: فإذا انسلخ الأشهر
الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل
مرصد... الآية، وقال سبحانه: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدوكم.
وروي عن رسول الله ص أنه قال: إن الله وملائكته يصلون على
أصحابنا الخيل من اتخذها فاتخذها في سبيل الله، وروي عنه ص قال:
ما من قطرة أحب إلى الله عز وجل من قطرة دم في سبيل الله، وروي عن أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أنه قال: الجهاد فرض على جميع المسلمين لقول الله
تعالى " كتب عليكم القتال "، وروي عنه ص أنه قال: عليكم
بالجهاد في سبيل الله مع كل إمام عادل فالجهاد في سبيل الله مع كل إمام عادل باب من
أبواب الجنة، وروي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد ع أنه قال: أصل
الاسلام الصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله.
والجهاد فرض على جميع المسلمين على الكفاية، ومعنى قوله: فرض على الكفاية، أنه
77

إذا قام به من يكتفى به فيه من بعض المسلمين سقط فرضه عن الباقين، والذين يمكن
حصول الكفاية بهم هم الذين يكونون في أطراف بلاد الاسلام فإنه إذا طرقهم العدو
وكان فيهم كفاية لهم وقيام يكفيهم ودفعهم فالفرض ساقط عن غيرهم.
فإن لم يكن فيهم كفاية واحتاجوا إلى عدد كان الفرض لازما لمن يليهم وعليهم أن
يمدوهم ويعينوهم أولا فأولا، فإن لم ينكفئ العدو بذلك فاحتيج إلى جميع المسلمين
وجب ذلك على الجميع لوجوبه على كل رجل منهم حر بالغ كامل من العقل سليم من
الشيخوخة والمرض - والعذر الذي لا يمكنه معه القيام بالحرب أن يكون له عذر يمنعه من
ذلك - ويكون مأمورا به من قبل الإمام العادل أو من نصبه الإمام.
وإنما ذكرنا الرجل لأن النساء لا يجب عليهن الجهاد لما روي عن رسول الله ص
من أنه سئل: هل عليهن جهاد؟ فقال: لا.
وإنما ذكرنا الحرية لأن العبيد لا يجب عليهم لأنهم لا يملكون شيئا، يوضح ذلك
القرآن والخبر، فأما القرآن فقوله سبحانه: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج،
والمملوك داخل في ذلك لأنه لا يملك شيئا مما ذكرناه. وأما الخبر فما روي عن رسول
الله ص من أنه كان إذا أسلم عنده رجل قال له: حر أو مملوك؟ فإن كان
حرا بايعه على الاسلام والجهاد وإن كان مملوكا بايعه على الاسلام دون الجهاد.
وإنما ذكرنا البلوغ لأن الصبي لا يجب عليه لما روي من: أن ابن عمر عرض على
النبي ص يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فرده ولم يره بالغا وأنه عرض
عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجاز في المقاتلة.
وإنما ذكرنا كمال العقل لأن المجانين لا يجب عليهم الجهاد لأنهم غير مكلفين.
وإنما ذكرنا الشيخوخة التي لا يمكن معها القيام بالحرب لأن المكلف بالشئ إنما
يكون مكلفا به مع الاستطاعة له وقدرته عليه، فأما إذا لم يكن مستطيعا له ولا قادرا
عليه لم يصح كونه مكلفا به.
وإنما ذكرنا المرض الذي لا يمكن المريض معه القيام بالحرب لمثل ما تقدم ولأن
المرض إما أن يكون ثقيلا أو خفيفا، فإن كان ثقيلا كالحمى اللازمة المطبقة أو البرسام
78

وما أشبه ذلك فلا يجب الجهاد عليه لقوله سبحانه: ولا على المريض... وإن كان
خفيفا كالحمى التي ليست لازمة ولا مطبقة بل يكون بالنوبة في وقت دون وقت أو
وجع الرأس والصداع وما أشبه ذلك فذلك لازم له لأنه كالصحيح، فأما الحمى الثانية
فإنما يسقط وجوب ذلك عليه في حال النوبة إن كان فيها غير قادر ولا يتمكن من القيام
بالحرب فإن لم يكن كذلك فحاله كحال الصحيح السليم كما قدمنا.
فأما العذر فإن كان مرضا أو غيره مما قدمنا ذكره فقد مر ما فيه وإن كان غير ذلك
مثل أن يكون معسرا فينبغي تأمل حاله، فإن كان الجهاد وموضع الحرب قريبا من البلد
الذي هو فيه وحوله فالجهاد واجب عليه ولا معتبر في سقوط ذلك عنه باعتباره وإن كان
موضع ذلك بعيدا فينبغي النظر في حال هذه المسافة، فإن كانت مما لا توجب قصر
الصلاة فالجهاد واجب عليه وإن كانت توجب القصر لم يجب عليه جهاده لأن من شرط
ذلك الزاد ونفقة الطريق ونفقة من تجب عليه نفقته إلى حين رجوعه وثمن سلاحه، فإن
لم يجد ذلك لم يجب الجهاد عليه لقوله سبحانه وتعالى: ولا على الذين لا يجدون ما
ينفقون حرج. فإن كانت المسافة أكثر من ذلك فليس يجب الجهاد عليه أيضا لأنه
يحتاج في ذلك إلى ما ليس بقادر عليه من زيادة على ما ذكرناه من النفقة والراحلة من
الواجد لقوله سبحانه: ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما
أحملكم عليه.
ومن كان له أبوان مسلمان وهما مفتقران إليه في القيام بهما أو النفقة عليهما فليس
يلزمه الخروج، وإن كان أبواه كافرين كان الخروج واجبا عليه.
وإن كان من يجب عليه الجهاد وعليه دين حال ولم يكن له من يوفيه عنه ولا يمكنه
قضاؤه فلصاحب الدين منعه من الخروج حتى يقضيه دينه، فإن كان في يد صاحب
الحق رهن فيه وفاء بالدين فأذن له صاحب الحق بالخروج خرج. فإن كان الدين مؤجلا
وعليه رهن أو لم يكن عليه رهن وكان إذا خرج ترك وفاءه فإن له الخروج أذن له
صاحب الحق أو لم يأذن فيه، فإن لم يترك وفاءه فقد ذكر: أن له الخروج على كل
حال وليس لصاحب الدين المؤجل منعه من ذلك لأنه بالتأجيل بمنزلة من لا دين عليه.
79

وإذا أحاط الحرب بالبلد وجب على كل من ذكرناه الخروج وليس له الامتناع من ذلك
بشئ من الأعذار التي وصفناها ولا غيرها، ولا يجوز لصاحب الدين ولا غيره المنع عن
ذلك على كل حال.
ومن خرج إلى الجهاد ولم يكن له عذر ثم تجدد العذر بأن يكون صاحب الدين أذن
له في الخروج ثم بدا له من ذلك أو كان أبواه كافرين فأسلما، فإن كان ذلك قبل التقاء
الجمعين جاز له الرجوع، فإن كان التقى الجمعان لم يجز له الرجوع.
ويجوز له الخروج بالصبيان للانتفاع بهم، والنساء يجوز خروجهن ليعالجن الجرحى
والمرضى، والمرأة إذا كان لها زوج لم يجز لها الخروج إلى الجهاد إلا باذنه.
وإنما ذكرنا أن يكون مأمورا بالجهاد من قبل الإمام أو من نصبه لأنه متى لم يكن
واحدا منهما لم يجز له الخروج إلى الجهاد، فإن دهم المسلمين العدو وهجم عليهم في
بلدهم جاز لجميع من في البلد قتاله على وجه الدفع عن النفس والمال.
والجهاد مع أئمة الكفر ومع غير إمام أصلي أو من نصبه قبيح يستحق فاعله العقاب،
فإن أصاب كان مأثوما وإن أصيب لم يكن على ذلك أجر، ومتى غنم المسلمون غنيمة
وهذه حالهم كان جميع الغنيمة للإمام خاصة وليس يستحقون منها شيئا بالجملة.
ومعاونة المجاهدين فيها فضل كثير لأن النبي ص قال: من جهز
غازيا أو حاجا أو معتمرا أو خلفه في أهله فله مثل أجره. ويجوز للإمام أن يستعين
بالمشركين على قتال المشركين بأن يكون في المسلمين قلة أو يكون في المستعان جيد الرأي
حسن السياسة.
وإذا عرف الإمام من رجل الإرجاف والتحويل ومعاونة المشركين كان له أن يمنعه
من الغزو، وأما الإرجاف فهو مثل أن يقول: بلغني أن للقوم كمينا، أو: لهم مددا
يلحقهم، وما جرى هذا المجرى. وأما التحويل فهو أن يقول: إن الصواب أن نرجع عنهم
فإنا لا نطيق قتالهم، ولا يثبت لهم ويضعف أنفسهم بذلك وما أشبهه. والإعانة أن يرى
عينا منهم يطلعهم على عورات المسلمين أو يكاتبهم بأخبارهم، ومن كان على واحد من
هذه الصفات كان للإمام منعه من الخروج مع المسلمين، فإن لم يمنعه وخرج لم يعط
80

شيئا من الغنيمة ولم يسهم له سهم منها لأنه ليس من المجاهدين بل هو بفعله عاص.
ومن يجب عليه الجهاد على ضربين: أحدهما يجب عليه بنفسه والآخر يجب عليه إقامة
نائب عنه فيه. فأما الذي يجب عليه بنفسه فهو كل من وجب عليه وعلم من نفسه القيام
والتمكن منه، وأما الذي يجب عليه إقامة نائب عنه فيه فهو كل من وجب عليه وعلم من
نفسه أنه لا يتمكن منه.
ومن وجب عليه الجهاد فلا يجوز له أن يغزو عن غيره ومن لم يجب عليه جاز له
ذلك، ويجوز أخذ النائب الأجرة ممن يستنيبه فيه.
باب في من يجب جهاده:
من يجب جهاده على ثلاثة أضرب:
أحدها ضرب لا يقبل منهم إلا الدخول في الاسلام حسب، فإن لم يجيبوا إلى
الدخول قتلوا وسبي ذراريهم وصار أموالهم غنيمة.
وثانيها ضرب لا يقبل منهم إلا الدخول في الاسلام أو أداء الجزية " عن يد وهم
صاغرون " والقيام بشرائط الذمة، فإن لم يجيبوا إلى ذلك ولم يثبتوا عليه ثم فعلوا شيئا
منه خرجوا من الذمة وأجريت عليهم الأحكام التي تقدم ذكرها من القتل وغنيمة
الأموال وسبي الذراري.
وثالثها على ضربين: أحدهما له فئة يرجع إليها والآخر لا فئة له. والذي له فئة يرجع
إليها يجاز على جريحهم ويتبع مدبرهم ويقتل أسيرهم ويغنم أموالهم التي يحويها العسكر
فقط ولا يجوز سبي ذراريهم ولا أخذ شئ من أموالهم التي لا يحويها العسكر، والذي لا
فئة له لا يجاز على جريحهم ولا يتبع مدبرهم ولا يسبى ذراريهم بل يغنم أموالهم التي في
العسكر دون غيرها.
والضرب الأول - من القسمة المتقدمة - هم جميع من خالف الاسلام وليس لهم
كتاب ولا شبهة كتاب كعباد الأوثان والكواكب ومن جرى مجراهم، والضرب الثاني
هم اليهود والنصارى والمجوس، والضرب الثالث الذي هو على ضربين هو جميع من
81

انتمى إلى الاسلام من البغاة وهم الذين يبغون على الإمام العادل وينكثون بيعته ويفعلون
ذلك مع نصبه الإمام للنظر في أمور المسلمين ويجري مجرى أصحاب الجمل وصفين.
باب سيرة الحرب وما يفعل قبل القتال وبعده:
إذا عزم المجاهدون على الزحف فينبغي لصاحب الجيش أن يعقد الألوية ويسلم
الرايات إلى من ينبغي تسليمها إليه ممن يختاره ويصلح له ذلك، ثم يقدم إليهم الإنذار
والأفضل تقديمه، ثم يبعث الطوالع والعيون، ويقرر الشعار بين الناس وأفضل الشعار ما
كان فيه اسم الله تعالى.
ولا يجوز لأحد أن يفر من الزحف ولا يفر من واحد أو اثنين ويجوز الفرار من ثلاثة
أو أكثر، ولا يقطع الأشجار المثمرة ولا تحرق إلا أن يدعو إلى ذلك ضرورة، ولا يلقى
السم في ديارهم وقد أجاز ذلك قوم من أصحابنا والأفضل تركه.
ولا ينبغي أن يفارق الانسان سلاحه عند القتال، ويستحب حفر الخندق عند دعاء
الحاجة إلى ذلك، وينبغي أن يبتدأ بالقتال بعد الزوال وبعد صلاة الظهر ويدعو عند
اللقاء بدعاء النبي ص ويدعو بدعاء أمير المؤمنين على ع، فأما
دعاء النبي ص وهو الذي دعا (به) يوم أحد وهو: اللهم لك الحمد وإليك
المشتكى وأنت المستعان، وأما دعاء أمير المؤمنين ع فهو: اللهم أنت عصمتي
وناصري وبغيتي، اللهم بك أصول وبك أقاتل.
وإذا أراد صاحب الجيش الزحف عبأ الرجالة وقدم الرماة ثم الخيل ثم الإبل،
وجعل ذلك كتائب ففرق القبائل وقدم على كل قوم رجلا، وصف الصفوف وكردس
الكراديس وجعل للعسكر ميمنة وميسرة وقلبا - يكون هو فيه - مع العدو، ويزحف
ويأمر حينئذ بالدعاء وخفض الأصوات واجتماع النيات وإظهار العدد وآلات الحرب
وإشهار السيوف ورفع الرماح وأن يلزم كل قوم مركزهم ومكانهم ولا يبادر أحد غيره إلا
بأمر صاحب الجيش، ومن حمل فليرجع إلى مركزه ومكانه، ويأمر الرماة بالرمي والمقدمة
أن يتقدم، ومن رأى من العدو فرصة فينبغي أن ينهزها بعد إحكام مركزه حتى إذا بلغ
82

مراده رجع إليه.
فإذا أرادوا الحملة فليبدأ بذلك صاحب المقدمة، فإن كان ممن معه كفاية في دفع
العدو وهزيمته فليثبت الناس في مراكزهم، وإن تضعضعت المقدمة وشقت الرماة وحملت
المنجيد وافتقدت الأطراف والأودية والآكام لئلا يكون في شئ من ذلك كمين أو
مكيدة، وتقرب الرايات وتقعقع الحجف ويقدم في صدر العدو أصحاب الحديد من
التجافيف والدروع والسواعد والجواشن فإن انكسر العدو لم يحمل عليهم الجيش جملة
واحدة بل يحملون أولا فأولا، فإن ثبت العدو فليثبت الناس وإن انهزموا الهزيمة التي لا
تحصل فيها شك فليحمل الجيش عليهم جملة واحدة وهم على حال التعاني غير متفرقين،
وينبغي إذا انصرفوا من الحرب أن ينصرفوا على حال التبعية أيضا ولا يتفرقوا.
فإن زحف العدو أولا إلى المسلمين فينبغي لأميرهم أن يصف الناس على الخندق
ويأمرهم بالترجيل وملازمة الأرض ويحكموا صفوفهم إلى حد لا يكون فيها شئ من
الخلل ولا يعتمدوا على شئ من آلات الحرب إلا على السيوف، فإذا حمل العدو عليهم
جثوا على ركبهم ونظروا إلى مواضعهم ولا يهولن أحدا عدوهم ويستتروا بالحجف، فإذا
أتموا حملتهم وعادوا حمل الناس عليهم بالسيوف، فإن ثبتوا فليثبتوا على حال التعاني،
فإن لم يثبتوا أو استوت الهزيمة عليهم فليركبوا الخيل ويجد في طلبهم واستئصالهم.
فإن عرض للمسلمين - والعياذ بالله - هزيمة فيجب أن يصيح بعضهم ببعض
ويذكروا ما به توعد الله تعالى ذكره من فر من الزحف وتعنف بعضهم بعضا وتبكيته
ويسرع من كان مخفا في لحوق المنهزمين ويجتهدوا في ردهم، فإذا اجتمعوا واستقر كل
قوم مع صاحبهم المستولى عليهم عادوا إلى حال التبعية ثم يقاتلوا ويستعينوا بالله سبحانه
في النصر على عدوهم، ويقاتلونهم بكل ما أمكن قتالهم به من السلاح وغيره إلا السم.
فإن تحصنوا فصب عليهم المناجيق، والعرادات وما جرى مجرى ذلك، وقاتلوا إلى أن
يفتح الله سبحانه، فإن كان فيهم مسلمون ونساء وصبيان وشيوخ وذمي وأسارى ومن لا
يجوز قتله وكان المشركون أكثر منهم جاز رميهم مع الكراهة لذلك إلا لضرورة فإن كان
هناك ضرورة جاز رميهم، وإن كان المسلمون أكثر من المشركين لم يجز رميهم، وإذا
83

تعمد انسان رمى واحد ممن ذكرناه كان عليه القود والكفارة وإن كان خطأ كان فيه
الدية، وإن كانت الحروب ملتحمة وكان المسلمون أكثر من المشركين وأصيب منهم
واحد لم يلزمه فيه شئ غير أنه لا يجوز والحال هذه أن يتعمد المسلم ويقصد بالرمي.
وإذا انترس المشركون بأسارى المسلمين وكانت الحرب ملتحمة لم يقصد الأسير
بالرمي فإن أصيب لم يكن على من رماه شئ، وإن لم يكن الحرب ملتحمة يجوز رميه،
فإن رماه ولم يقصده فإن أصابه كان ذلك خطأ وعليه ديته وإن تعمده كان عليه القود
أو الدية.
وإذا كان المسلمون مستظهرين على المشركين كره تبييتهم ليلا والإغارة عليهم، وإن
لم يكن في المسلمين قوة عليهم جاز تبييتهم والإغارة عليهم وإن كان فيهم النساء
والصبيان.
وقتال المشركين جائز في جميع الأوقات إلا في الأشهر الحرم لمن كان يرى منهم لها
حرمة فإن من يرى ذلك منهم لا يجوز قتاله فيها إلا أن يبتدئ هو فيها بالقتال، فإذا
ابتدأ بذلك جاز قتاله فيها وإن لم يبتدئ لم يجز قتاله حتى ينقضي، ولا يجوز قتل
النساء وإن قاتلن مع أهلهن إلا أن يدعو إلى قتلهن ضرورة وإن دعت إلى ذلك ضرورة
لم يكن به بأس.
والمرابطة في حال ظهور الإمام ع فيها فضل كثير، وحدها من ثلاثة أيام
إلى أربعين يوما فإن زادت على ذلك كان حكم المرابط حكم المجاهد في الثواب.
ومتى نذر انسان المرابطة والإمام ظاهر وجب عليه الوفاء بذلك وكذلك (إن نذر
صرف شئ في المرابطين) وجب عليه الوفاء به، فإن نذر ذلك في حال استتاره صرفه في
وجوه البر.
وإذا أخذ انسان شيئا من غيره لينوب عنه في المرابطة وكان الإمام ع
مستترا كان عليه رد ذلك فإن لم يجده رده على وارثه فإن لم يكن له وارث كان عليه
الوفاء به، فإذا كان أخذه في حال ظهور الإمام ع وجب عليه الوفاء به، ومن
لم يتمكن عن المرابطة بنفسه وأعان المرابطين من ماله بشئ أو رابط دابة كان له في
84

ذلك فضل كثير.
ولا يجوز التمثيل بالعدو ولا الغدر به.
ومن كان من المسلمين في دار العدو فحاربهم غيرهم من الكفار جاز له قتاله ويقصد
بذلك الدفع عن نفسه دون القصد إلى معونة العدو.
وإذا كان عسكر المسلمين مثل نصف عسكر المشركين لم يجز لأحد أن يولي الدبر
بل وجب عليه الثبات إلا أن يكون متحرفا لقتال أو يكون في مضيق فينحرف عنه إلى
موضع يتسع فيه للقتال أو يعين على مجال فرسه أو يكون موضعه معطشا فيتحول إلى موضع
الماء أو يكون الريح والشمس في وجوههم يستدبرونها أو يكون متحيزا إلى فئة فيتحيز
إليها وسواء كانت فئة بعيدة أو قريبة أو ما جرى مجرى ذلك، فإذا انحرف بغير ما
ذكرناه كان فارا واستحق العقاب العظيم لقوله سبحانه: فقد باء بغضب من الله.
وإذا لقي واحدا من المشركين وعلم أو غلب على ظنه أنه يقتله فقد ذكر: أنه يجوز له
الانصراف، والأقوى عندي خلافه وتعويل من خالف في ذلك على قوله سبحانه: ولا
تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، يصح تناوله لغير هذا الموضع لأنه متعبد في جهاد الكفار
بالثبات لقوله سبحانه: إذا لقيتم فئة فأثبتوا.
فإذا كان عسكر المشركين أكثر من ضعف عسكر المسلمين لم يجب الثبات أو يغلب
في ظنه أنه إن ثبت قتل فالأفضل له الثبات، فإن لم يثبت وأراد الانصراف كان له
ذلك، وقد ذكر: أن الجيش إذا بلغ اثني عشر ألفا لم يجز لأحد أن يولي.
ومن كانت الدعوة قد بلغته وعلم أن النبي ص يدعو إلى الإيمان
وشرائع الاسلام ولم يقبلوا ذلك مثل الترك والروم والهند والخزر ومن جرى مجراهم فإنه
يجوز للإمام أو من نصبه أن ينفذ الجند لقتالهم من غير أن يقدم النذارة إليهم ويجوز أن يغير
عليهم.
ومن لم تبلغه الدعوة فلا يجوز له قتاله إلا بعد الإنذار والتعريف بما تتضمنه الدعوة
مما قدمنا ذكره، فإذا علم ما ذكرناه ولم يقبل ذلك قوتلوا وقتلوا، فإن كانوا من أهل
الجزية وأجابوا إلى دفعها لم يقاتلوا ولم يقتلوا و قبل ذلك منهم وتركوا على ما هم عليه من
85

دينهم، فإن لم يكونوا من أهل الجزية فعل بهم من القتل وغيره ما قدمناه.
باب الأمان وأحكامه:
الأمان جائز في شريعة الاسلام لقوله سبحانه وتعالى لرسوله ص: وإن
أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله... الآية. ولأنه ص
فعل ذلك عام الحديبية ولأنه ص أيضا أمضاه لأم هاني بنت
أبي طالب في فتح مكة لما أجارت رجلا، فقال ع: أجرنا من أجرت
وآمنا من آمنت.
فإن كان العاقد للأمان الإمام ع جاز أن يعقده لجميع المشركين في
سائر الأماكن والأقاليم كلها لأن إليه النظر في جميع أمور الدنيا والدين ومصالح الاسلام
والمسلمين كافة، وإن عقد واحد من خلفائه وولاته على صقع من الأصقاع أو إقليم من
الأقاليم جاز له مع من يليه من المشركين ولا يتجاوز ذلك إلى غيره إلى ما يلي جهة لم
يجعل إليه النظر فيها ولا تدبير مصالحها وسياستها.
فإن كان العاقد واحدا من المسلمين جاز له ذلك من الواحد والعشرة ولا يجوز فعله
لذلك مع جميع أهل بلد أو صقع لأنه ليس له النظر في ذلك، فإذا كان ذلك جائزا للواحد
من المسلمين لا يخلو من: أن يكون هذا الواحد كامل العقل أو غير كامل العقل، فإن
كان كامل العقل لم يخل من: أن يكون رجلا أو امرأة، فإن كان رجلا لم يخل من: أن
يكون حرا أو عبدا. فإن كان عبدا جاز له ذلك على خلاف فيه، وإن كان حرا جاز له
ذلك بلا خلاف فيه، وإن كانت امرأة جاز لها ذلك لما ذكرناه من فعل " أم هاني "،
وإن كان غير كامل العقل رجلا أو امرأة حرا كان أو عبدا فإن ذلك لا يجوز له لأنه غير
مكلف.
والصبي إذا كان كبيرا ولم يبلغ الحلم فاغتر به بعض المشركين وآمنه هذا الصبي لم
يصح أمانه ولا يجوز التعرض له بسوء حتى يرد إلى مأمنه، فإذا حصل إلى مأمنه أو في
الموضع الذي يأمن فيه على نفسه بعد ذلك صار حربيا لأنه دخل علينا بشبهته فلا يجوز
86

مع ذلك الغرر به.
فإذا استذم قوم من المشركين قوما من المسلمين فأشار المسلمون إليهم: أنكم لا أمان
لكم عندنا، فظنوا أنهم قد أمنوا لهم فدخلوا إليهم لم يجز التعرض لهم بل يردون إلى
مأمنهم فإذا حصلوا به صاروا حربيا.
وإذا كان مسلم في دار الحرب أسيرا أو مطلقا فأعطى الأمان لبعض المشركين لم
يجز أمانه، وكذلك لو آمن بعض المسلمين بعض المشركين من بعد الهزيمة وفي حال
التمكن منهم والظفر بهم لم يجز هذا الأمان أيضا.
والأمان جائز بكل لسان - عبارة أو إشارة - إذا فهم المخاطب به معناه، ولفظ
الأمان هو: أجرتك أو آمنتك أو ذممت لك، فإن قال: لا بأس عليك أو لا تخف أو لا
تذهل أو ما عليك خوف، أو ما أشبهه أو كلمه أو قال ما معناه بلغة أخرى. فإن علم من
قصده أنه أراد الأمان كان ذلك أمانا لأن المراعي هاهنا القصد لا اللفظ، فإن لم يقصد
ذلك ودخل إليه لم يجز التعرض له بسوء لأنه دخل على شبهته ويجب أن يرد إلى مأمنه
فإذا حصل به صار حربا كما ذكرنا في غيره فيما تقدم.
وإذا كان بعض المشركين في حصن فقال واحد منهم للمسلمين: أعطوني أمانا على
أن أفتح لكم الحصن، فأعطوه الأمان فقال لأصحابه: قد أخذت الأمان لكم، ففتحوا
الحصن نظر في أمرهم. فإن كان المسلمون علموا بما فعل صاحبهم معهم لم يجز لهم أن
يفعلوا معهم ما يجوز فعله بهم لو فتحوا الحصن عنوة من سبي وغيره، وإن لم يكونوا علموا
ذلك فعلوا بهم ما يجوز لهم لو فتحوه عنوة لم يكن عليهم شئ لأن ذلك غرر من صاحبهم
لا من المسلمين إلا أنه إذا علموا ذلك استحب لهم أن لا يسبوهم ويجزونهم في أن يكونوا
ذمة في دار الاسلام أو يمضوا حيث شاءوا بأنفسهم وذراريهم من غير شئ يستعينون به
على قتال المسلمين من سلاح وما أشبهه.
وإذا دخل الحربي دار الاسلام في تجارة بأمان رجل من المسلمين على نفسه وجميع
أسبابه كان آمنا على نفسه وماله وعلى من يكون في صحبه من قرابة وغيرها سواء خرجوا
مجتمعين في دفعة واحدة أو متفرقين.
87

وإذا دخل المشرك دار الاسلام بأمان ثم خرج إلى دار الشرك بغير أمر الإمام ولا من
نصبه الإمام ولا في حاجة ولا في تجارة بل للاستيطان فقط انتقض الأمان على نفسه ولم
ينتقض عن ماله إذا كان قد ترك مالا في دار الاسلام والأمان قائم في ماله ما دام حيا،
فإن مات انتقل ميراثه إلى ورثته من أهل الحرب إن لم يكن له وارث مسلم يحجبهم عنه
وينتقض الأمان في المال لأنه مال كافر ليس بيننا وبينه أمان - لا في نفسه ولا في ماله -
ويكون فيئا للإمام خاصة لأنه لم يؤخذ بالسيف فهو مثل ميراث من لا وارث له، وإذا
أخذ أمانا لنفسه ودخل دار الاسلام ثم مات وترك بها مالا وكان له وارث في دار
الحرب فالحكم فيه كالحكم في المسألة المتقدمة، وقد ذكر: أنه يرد إلى ورثته الكفار،
وهذا فاسد لأنه حينئذ مال من لا أمان بيننا وبينه لا في نفسه ولا في ماله.
وإذا أعطى المسلمون الأمان لرجل من المشركين في حصن وفتح الحصن ولم يعرف
الرجل المذكور بعينه نظر في ذلك، فإن كان الجيش الذي فتح الحصن غزوا بغير إذن
الإمام ع ولا من نصبه كان عليهم أن يكفوا عن قتل من في الحصن حتى
يخبرهم أميرهم إما أن يقرع بينهم فمن خرج اسمه كان آمنا أو يجري على الناس
الحكم، فأما أن يؤمن الجميع على نفوسهم ويصيروا ذمة ويستسعي كل واحد منهم في
قيمته إلا قدر واحد معهم من جملتهم قيمة وسطا، والقرعة أولى.
وإذا حضر المسلمون المشركين فائتمن واحد من المشركين لجماعة معينين كان
الأمان صحيحا فيهم دون غيرهم ولو استأمن لعدد غير معين كان ذلك جائزا في هذا
العدد دون غيرهم مما زاد عليه، فإن قال: أعطوني الأمان لألف رجل أو مائة رجل
وافعلوا في الباقي ما أردتم، كان ذلك جائزا ويختار من أراد منهم الألف والمائة. فإن
قال: آمنوا جميع أهل الحصن ولكم منهم ألف أو مائة صح ذلك وتدفع الألف والمائة من
رقيقهم أو من أحرارهم.
فإن كان الجيش غزا بغير إذن الإمام أو من نصبه كان للإمام أو من نصبه أن يفعل
مع أهل الحصن ما اختار من الوجهين المذكورين.
وإذا انهزم المشركون وادعى بعد ذلك واحد من المسلمين أنه كان آمن بعضهم لا
88

يقبل ذلك أيضا منه إلا ببينة، ولو ادعى بعد الهزيمة اثنان أنهما كانا آمنا رجلا أو أكثر
منه لم يقبل ذلك منهما أيضا إلا ببينة. وإذا طلب صاحب جيش المشركين الأمان على
أن يدخل في جملة الذمة ببلدان الاسلام على الجزية جاز ولم يكن له الرجوع إلى دار
الحرب، فإن أراد ذلك أو هم به لم يكن بحبسه بأس ولا يقتل إلا أن يحارب، وإن
طلب الأمان على أن يقيم بغير جزية لم يجز ذلك.
ويكره تمكين من دخل من دار الحرب إلى دار الاسلام - من رسول أو غيره بأمان -
من المقام أكثر من أربعة أشهر، فإن كان الداخل كتابيا وأقام سنة كان عليه الجزية أو
على من حبسه حتى كمل عليه الحول.
وإذا أراد الإمام أو أحد من خلفائه جعل الجعائل لمن يدل على مصلحة أو على حصن
أو غيره كان جائزا وليس يخلو ذلك من: أن يكون ماله أو ملك أهل الحرب، فإن جعله
من ملكه وماله لم يصح حتى يكون معلوما موصوفا في الذمة أو معينا مشاهدا لأنه عقد
في ملكه فلا يجوز أن يكون مجهولا، فإن كان من ملك أهل الحرب جاز أن يكون مجهولا
ومعلوما وإذا كان كذلك صح أن يقول: من دلنا على كذا فله كذا - على ما ذكرناه من
القسمين - فإن قال: من دلنا على القلعة الفلانية فله جارية فيها، وشوهدت القلعة لم
يكن له شئ حتى تنفتح، فإذا انفتحت فليس يخلو من أن: يفتح عنوة أو صلحا.
فإن كان عنوة وكانت الجارية على الشرك سلمت إليه وإن كانت قد أسلمت قبل
الظفر بها فهي حرة فلا تدفع إليه (إلا) قيمتها وإن كانت قد أسلمت بعد الظفر نظر إلى
الدليل، فإن كان مسلما سلمت إليه لأنها عين مملوكة وإن كان مشركا لم تسلم إليه
لأن الكافر لا يملك مسلما بل تدفع قيمتها إليه، فإن ماتت الجارية قبل الظفر بها أو بعده
لم يكن له شئ لأن أصل العقد حصل بشرط أن يكون له مع وجودها.
وإن كانت فتحت صلحا وشرط أن لصاحب القلعة أهله وكانت الجارية من أهله
عرض على الدليل الأخذ لقيمتها ليتم الصلح، فإن أجاب إلى ذلك جاز أن يعرض
قيمتها على صاحب القلعة ويسلمها إلى الدليل فإن أجاب إلى ذلك جاز، وإن امتنع كل
واحد منهما من ذلك قيل لصاحب القلعة: ارجع إلى قلعتك بأهلك، ويزول الصلح لأنه
89

قد اجتمع ههنا شيئان متنافيان فلا يمكن الجمع بينهما وحق الدليل سابق وجب تقديمه،
وإذا كان المشرك ممتنعا وهو أسير فجعل له جعل على أن يدل على المشركين فدل
عليهم وجب الوفاء بما ضمن له، ولو جعل له جعل على أن يدل على مائة فدل على خمسين
أو عشرة فدل على خمسة كان النصف مما جعل له، فإن كان أسيرا فجعل له أسيرا يقتل
لم يقتل لأن القتل لا يتبعض، فإن لم يؤخذ في الموضوع الذي دل عليه أحد لم يكن له
من الجعل شئ.
وإذا ضل مسلم عن الطريق ومعه أسير من المشركين فجعل له الأمان إن دله على
الطريق فلما دله عليها ولاح له الجيش خاف المسلم من أن لا يطلقه صاحب الجيش
كان عليه إطلاقه قبل وصوله إلى الجيش، فإن أدركه المسلمون قبل إطلاقه كان على
صاحب الجيش إطلاقه له، فإن اتهمه في ذلك استحلفه عليه ثم أطلقه، وإن لم يفعل
صاحب الجيش ذلك على المسلم أن يأخذه في سهمه ثم يطلقه بعد ذلك.
وإذا دخل انسان من المشركين إلى دار الاسلام آمنا ثم أراد الرجوع إلى دار الحرب
لم يمكن له أن يخرج بشئ من السلاح وما جرى مجراها مما يستعان به على قتال
المسلمين إلا أن يكون دخل ومعه شئ فيجوز تمكينه من ذلك دون ما سواه، فإذا دخل
مسلم دار الحرب بأمان ثم أخذ منهم مالا قرضا أو سرقة ثم عاد إلينا ودخل صاحب
المال إلينا بأمان كان على المسلم رد ماله إليه لأن الأمان يقتضي الكف عن ماله.
وإذا دخلت المرأة إلى دار الاسلام مستأمنة وكان لها زوج مشرك انقطعت العصمة
بينهما ولم يحتج في ذلك إلى طلاق بل يكون ذلك فسخا للنكاح وليس لها أن تتزوج
حتى تنقضي عدتها، وإذا خرجت من دار الحرب حاملا وتزوجت كان النكاح
مفسوخا.
وإذا تزوج الحربي حربية لها زوج ثم أسلما وخرجا من دار الحرب لم تحل له إلا
بنكاح جديد، وإذا تزوج الحربي حربية ودخل بها ثم ماتت وأسلم زوجها في دار
الاسلام وجاء وارثها طالبا لزوجها بمهرها لم يجب عليه دفع ذلك إليه لأن الوارث من
أهل الحرب ولا أمان له على هذا الوجه، فإن كان لها ورثة مسلمون كان لهم مطالبة
90

الزوج بالمهر، ولا يحكم من المستأمنين فيما كان بينهم في دار الحرب إذا تحاكموا فيه إلى
المسلمين ويحكم بينهم فيما كان بينهم في دار الاسلام.
والحربي إذا أسلم في دار الحرب عصم بذلك دمه وجميع ماله مما يمكن نقله إلى دار
الاسلام وأما أولاده الأصاغر أنه كان له ذلك وهذا حكمه إذا أسلم وهو في دار
الاسلام، فأما أولاده البلغ فلهم حكم أنفسهم، وأما أملاكه التي لا يمكن نقلها إلى دار
الاسلام مثل العقارات والأرضين فهو غنيمة، وإذا أسلم وله حمل كان الحمل مسلما،
وإذا غنمت زوجته هذه واسترقت لم يسترق ولده لأن إسلامه محكوم به منذ أسلم أبوه،
وإذا تزوج مسلم حربية فحملت منه بمسلم ثم سبيت وهي حامل واسترقت لم يسترق
ولدها أيضا وإذا استرقت الزوجة انفسخ النكاح.
وإذا استأجر مسلم دارا في دار الحرب ثم غنمها المسلمون فقد ملكوا رقبتها بالغنيمة
دون منفعتها وعقد الإجارة ثابت لا ينفسخ إلى أن تنقضي هذه الإجارة، وإذا أعتق
المسلم عبدا وثبت له الولاء عليه ولحق بدار الحرب ثم حصل في الأسر لم يجز استرقاقه
لأن ولاء مولاه المسلم قد ثبت عليه فلا يجوز إبطاله، وقد ذكر: أنه يجوز أبطال الولاء
فيه.
وإن كان الولاء للذمي ثم لحق المعتق بدار الحرب يصح استرقاقه لأن مولاه لو لحق
بدار الحرب وظفر به لاسترق.
وإذا غلب المشركون على المسلمين وظفروا - والعياذ بالله - بهم وحازوا أموالهم فليس
يملكون منها شيئا ولا فرق بين أن يكونوا حازوها إلى دار الحرب أو لم يكونوا حازوها
إليها وآخذها يكون غاصبا لها، وإذا ظفر به وغنم وعرفه صاحبه كان له أخذه
واسترجاعه قبل القسمة ووجب تسليمه إليه إذا ثبت له البينة وإن كان بعد القسمة
كان ذلك له أيضا لكن يدفع الإمام إلى من حصل في سهمه قيمته، وإذا أسلم من هو في
يده أخذه بغير قيمة، وقد ذكر: أن صاحبها يكون أولى بها بالقيمة إذا قسمت.
وإذا أخذ مشرك جارية مسلم فوطئها وولدت منه وظفر المسلمون بها كانت هي
وأولادها لمالكها، فإن أسلم الواطئ لها لم يزل ملك مالكها عن ذلك بإسلامه، فإن
91

وطأها بعد إسلامه وهو يظن أنها ملكه ثم ولدت منه فإن ولده أيضا يكون لسيد الجارية
إلا أنه يقوم على الأب ويؤخذ منه قيمته ويلزم الواطئ عقرها لسيدها.
باب ما يجوز أن يغنم وما لا يجوز ذلك فيه:
قد تقدم القول في أحكام الأرضين فلا حاجة إلى إعادة بذلك ههنا ونحن نذكر ما
يزيد على ذلك مما يجوز أن يغنم وما لا يجوز ذلك فيه.
وإذا أخذ المسلمون من دار الحرب طعاما فأخرجوه إلى دار الاسلام أو بعضه وجب
رده إلى الغنيمة قليلا كان أو كثيرا لأن الحاجة قد زالت، فإن كان على قدر الكفاية
موسرين كانوا أو معسرين معهم طعام أو ليس معهم طعام لا يلزمهم في ذلك شئ.
والحيوان المأكول إذا احتاج الغانمون إلى ذبحه وأكل لحمه كان لهم ذلك وليس
عليهم ضمان شئ من ذلك، فإذا اتخذوا من جلوده ما يكون سقاء أو روايا أو ركوة أو
ما أشبه ذلك أو أحرزوا الجلود ليعملوا منها ما جرى هذا المجرى وجب عليهم رد ذلك في
المغنم، وإذا أقام ذلك في يده مدة ما لم يجب عليه في ذلك أجرة مثله وعليه ضمان ما
نقص منها فإن زاد بصنعة فيها لم يكن له بذلك حق لأنه تعدى فيها، فأما إذا كان في
يده ثياب فعليه ردها إلى المغنم فأما لبسها فلا يجوز له ذلك على كل حال، ولا يجوز له
أيضا أن يدهن ولا يتداوى لنفسه ولا لدابته بشئ من أدهان الغنيمة ولا أدويتها إلا
بأن يضمن ذلك لأنه ليس بقوت، وكذلك لا يجوز له أن يطعمها بشئ من الجوارح
والبزاة وغيرها إن كان معه شئ من ذلك لأنه ليس ذلك ضرورة فيفعل ذلك لأجلها.
وإذا أقرض بعض الغانمين غيره شيئا من الغنيمة من علف دابة أو غير ذلك كان
جائزا إلا أنه لا يكون قرضا في الحقيقة من حيث أنه لا يملكه فيقرضه لأن يده عليه،
فإذا سلمه إلى غيره وصارت يد الغير عليه يكون يد الثاني عليه وهو أحق به من الأول ولا
يجب عليه رده إلى الأول فإن رد كان المردود عليه أحق به لثبوت اليد عليه، فإذا خرج
المقرض من دار الحرب والطعام أو العلف كان في يده كان عليه رده في المغنم ولا يرده
إلى المقرض لأنه ليس بملك له.
92

وإذا باع بعض الغانمين لغيره طعاما لم يجز له ذلك ولم يكن هذا البيع بيعا
صحيحا وإنما يكون منتقلا من يد إلى أخرى فإذا حصل في يد واحد منهما كان أحق
بالتصرف فيه فقط.
وكل ما يؤخذ في المغنم من مصاحف أو كتب فقه أو شئ من علوم الشريعة أو نحو
أو لغة أو شعر أو من كتب الحديث والروايات وما لحق بذلك فهو مما يجوز بيعه وشراؤه
والجميع يكون غنيمة، وكل ما يؤخذ من ذلك من كتب الكفر والزندقة والسحر وما أشبه
ذلك فهو مما لا يجوز بيعه ولا شراؤه، فإن كان له لبد أو ظروف ينتفع بها وجلود كذلك
غسلت وكان ذلك غنيمة فأما أوراقها فإنها تمزق ولا تحرق لأنه لا شئ من الكاغذ إلا
وله قيمة، وكذلك الحكم فيما نذكر أنه من التوراة والإنجيل لأن ذلك قد غير وبدل،
وكل ما لا يكون عليه أثر ملك كالشجر والحجر والصيد فلا يكون ملكا لهم فلا
يكون غنيمة لأنه إنما يكون كذلك ما كان ملكا للكفار فأما ما لا يكون ملكا لهم فلا
يكون غنيمة، وإذا كان عليه أثر ملك كالصيد المشدود والحجر المنحوت والخشب المنجور
فجميع ذلك يكون غنيمة، وعلى ما أصلناه ينبغي أن يكون الصيد إذا كان في دور
المشركين أو كان واقعا في حبائلهم وأشراكهم وحوائطهم وفخاخهم وما جرى مجرى
ذلك فجميعه يكون غنيمة لأن عليه أثر الملك لهم وما لم يكن كذلك فلا يكون غنيمة،
وإذا صادهم في بلادهم المسلمون كان ذلك لمن أخذه ولا يلزمه رده إلى المغنم
وكذلك الحكم في الشجر والحجر وما جرى مجرى ذلك سواء، فإن وجد ما يجوز أن يكون
ملكا للمشركين أو المسلمين مثل الخيمة والخرج والأوتاد وما أشبه ذلك ولم يعرف له
صاحب عرف سنة فإن لم يظفر له بصاحب رد إلى المغنم.
وإذا كان في المغنم بهيمة وأراد المسلمون ذبحها ليأخذوا جلدها ليستعملوه في
النعال وما أشبهها في السيور والركب لم يجز ذلك لأنه ذبح منهي عنه إلا للأكل.
وإذا كان في بيوت المشركين فهودة أو صقورة أو جوارح معلمة أو سنانير أو كلاب
صيد وما أشبه ذلك فذلك مما تباع وتشترى وجميعه غنيمة، وإن وجد شئ منها في
أرضهم وليس عليه أثر ملك فاصطاده المسلمون كان ذلك لمن أخذه كما ذكرناه في
93

الصيد كما تقدم ولا يلزم رده في المغنم، وأما الخنازير فينبغي للمسلمين قتلها فإن
أعجلهم المسير ولم يتمكنوا من ذلك لم يكن عليهم شئ، والخمور ينبغي أن تراق فإن
كانوا على المسير كسروها فإن كان المسلمون قد صالحوهم لم يكسروها.
وإذا غنم المسلمون شيئا من خيول المشركين ومواشيهم ثم أدركهم المشركون وخافوا
أن يأخذوها منهم لم يجز لهم عقرها ولا قتلها، وإن كانوا رجالة أو على خيل قد وقفت
وكلت وخافوا أن تسترد الخيل فيركبوها ويظفروا بهم جاز لهم عقرها وقتلها لمكان
الضرورة التي ذكرناها، وإن كانت خيولهم قد كلت ووقفت فلا ضرورة حينئذ ههنا
ولم يجز قتلها ولا عقرها ويجوز عقر الخيل التي يقاتلون عليها وقتلها والأفضل ترك ذلك
مع الظهور عليهم وارتفاع الضرورة إلى ذلك.
باب الأسارى:
الأسارى على ضربين: أحدهما ما يجوز استبقاؤه والآخر لا يستبقي. فالذي يجوز استبقاؤه
كل أسير أخذ بعد تقضي الحرب والفراع منها، والذي لا يستبقي هو كل أسير أخذ قبل
تقضي الحرب والفراع منها. والضرب الأول يكون الإمام ومن نصبه الإمام مخيرا فيهم
إن شاء قتلهم وإن شاء فاداهم وإن شاء من عليهم وإن شاء استرقهم ويفعل في ذلك ما
يراه صلاحا في التدبير والنفع للمسلمين، وأما الضرب الثاني فحكمه إلى الإمام أو من
نصبه أيضا وهو مخير في قتلهم بأي نوع أراده من أنواع القتل.
فإذا أسر مسلم مشركا فعجز الأسير عن المشي ولم يكن مع المسلم ما يحمل عليه فإن
عليه إطلاقه.
ومن كان أسيرا عند الكفار من المسلمين فلم يجز له أن يتزوج إليهم، فإن كان به
ضرورة تزوج يهودية أو نصرانية، ولا يجوز له التزويج بغير ذلك من المشركين.
والمشرك إذا أسر وله زوجة كانا على الزوجية إن لم يجز الإمام استرقاقه فإن فادى به
أو من عليه عاد إلى زوجته فإن استرقه انفسخ نكاحه، وإذا كان الأسير صبيا أو امرأة
لها زوج كان النكاح مفسوخا بنفس الأسر لأنهما صارا رقيقين، وإذا أسر رجل بالغ
94

كتابيا أو من له شبهة كتاب كان الإمام مخيرا فيه على ما قدمنا من الوجوه فإن أسر
وثنيا كان مخيرا فيه بين المن عليه أو المفاداة ويسقط ههنا استرقاقه لأنه ممن لا يقر على
الجزية، وإذا فادى رجلا وقبض مال المفاداة كان هذا المال غنيمة.
وإذا أسلموا قبل الأسر كانوا أحرارا وعصموا بذلك دماءهم وأموالهم إلا بحقها
وسواء أحيط بهم في حصن أو في مضيق، وإذا حدث الرق في الزوجين أو في أحدهما
انفسخ النكاح في الحال لأن الزوجة صارت مملوكة بنفس الحيازة، وإذا كان المسبي
الرجل لم ينفسخ النكاح في الحال إلا أن يسترقه الإمام، وإذا كان المسبي المرأة انفسخ
أيضا في الحال لما ذكرناه، فإذا كان الزوجان جميعا مملوكين لم ينفسخ النكاح لأنه لم
يحدث بهما ههنا رق لأنهما قبل ذلك رقيقان.
وإذا سبيت المرأة وولدها لم يجز للإمام أن يفرق بينهما فيعطى الأم لرجل ويعطي
ولدها الآخر بل ينظر، فإن كان في الغانمين من يبلغ سهمه الأم والولد دفعهما إليه وأخذ
فضل القيمة أو يجعلهما في الخمس، فإن لم يبلغهما باعهما ورد ثمنهما في المغنم،
والأمة إذا كان لها ولد لم يكن لسيدها أن يفرق بينهما ببيع ولا غيره من وجوه
التمليكات.
وإذا بلغ الصبي سبع سنين أو ثماني سنين كان ذلك هو السن الذي يخير بين الأب
والأم فيجوز أن يفرق بينهما فيه، وقد ذكر: أن ذلك لا يصح إلا أن يبلغ ولا يفرق بينه
وبين الجدة من قبل الأم لأنها في الحضانة بمنزلة ابنتها - أم الولد - وأما الفرقة بين الوالد
والولد فجائز لا محالة وإن باع كان البيع جائزا، وقد قيل: إن البيع فاسد، لما روي عن
أمير المؤمنين ع: أنه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي ص
عن ذلك ورد البيع، وهذا هو الأقوى.
ومن خرج عن الآباء وإن علوا والأبناء وإن نزلوا - من الإخوة وأولادهم والأعمام
وأولادهم - فإن التفرقة جائزة بينهم.
وإذا سبي طفل مع والديه أو أحدهما كان دينه على دينهما ولم يجز بيعه منفردا عن
أمه فإن باعهما جميعا من المشركين أو المسلمين جاز ذلك، وإن مات أبواه لم يتغير عن
95

حكم دينه، ويجوز بيعه إذا مات أبواه من المسلم فإن بيع من مشرك كان بيعه مكروها،
وقد حكي عن بعض الناس: تحريم بيعه. فإذا سبي الولد منفردا عن أبويه كان تابعا
للسابي في الاسلام، فإن بيع من مشرك كان البيع باطلا وإن بيع من مسلم كان البيع
صحيحا.
وإذا جنى الأسير جناية تحيط بنفسه قبل القسمة سلم إلى مستحق ذلك بنفسه وخرج
عن القسمة وإن كانت الجناية دون النفس بيع في الجناية ودفع إلى المجني عليه قيمة
الجناية وترك الباقي في المغنم، فإن كان الجاني امرأة ومعها ولدها وكانت جنايتها تحيط
بنفسها بيعت هي وولدها ولم يفرق بينهما في بيع وقسم ثمنهما فما أصابها عن نفسها
سلم إلى المجني عليه وما أصاب من ولدها رد إلى المغنم.
والمسلم إذا أسره المشركون ثم أسلموا عليه كان حرا على ما كان عليه. وأم الولد
والمكاتب والمدبر إذا لم يكن سيده رجع عن تدبيره يكونون على ما هم عليه. وكل ملك
لا يجوز فيه البيع فإن أهل الحرب لا يملكونه. وإذا أسر مسلم رجلا فادعى الأسير أنه كان
مسلما لم يقبل منه ذلك إلا ببينة.
وإذا كان قوم من المسلمين أسارى في دار الحرب وقتل بعضهم بعضا أو تجارحوا ثم
صاروا إلى دار الاسلام أقيمت عليهم الأحكام في ذلك، فإذا أسر مشرك امرأة حرة
مسلمة ووطأها بغير نكاح ثم ظفر المسلمون بها لم يسترق أولادها وكانوا مسلمين
بإسلامها، وكذلك الحكم إن كان لها زوج في دار الاسلام إلا أن أولادها من المشرك لا
يلحقون بزوجها المسلم وإنما يلحقون بالمشرك وإن كان نكاحها فاسدا، للشبهة.
والحربي إذا أسلم في دار الاسلام وله زوجة في دار الحرب وسبيت وهي حامل منه
لم يسترق ما في بطنها وإذا ولدته كان مسلما بإسلام أبيه، وأي الوالدين أسلم كان
الولد تبعا له.
وإذا سبى المسلمون الوثنيات ومن أشبههن لم توطأ واحدة منهن إلا بعد إسلامها،
وإن أسر المشركون مسلما وشرطوا عليه أن يكونوا منه في أمان إن أطلقوه ثم أطلقوه على
هذا الشرط فعليه أن يخرج من عندهم إلينا ولا يلزمه الإقامة بالشرط لأنه حرام، وإن
96

كانوا قد استرقوه ثم أطلقوه على أنه مملوك جاز له أن يسرق وينهب ويهرب لأن استرقاقه
باطل.
وإذا أسر المشركون المسلم وأطلقوه في ديارهم وشرطوا عليه أن لا يخرج منها كان
هذا الشرط فاسدا وعليه الخروج منها، ومن أسره المشركون وصار في دار الحرب وكان
مستضعفا وهو متمكن من الخروج فعليه الخروج وإن كان غير متمكن من ذلك جاز أن
يقيم لأنه مضطر إلى ذلك.
وإذا أسر المشركون مسلما وأطلقوه في دار الحرب على أنه في أمان منهم وشرطوا عليه
المقام بها أو لم يشرطوا ذلك كانوا منه في أمان ولم يكن له قتالهم في مال ولا نفس
والحكم في خروجه من دار الحرب مع تمكنه من ذلك ومقامه بها على ما قدمناه، فإن
خرج هاربا فأدركوه كان له الدفاع عن نفسه فإن أدى دفعه إلى قتل طالبه لم يكن عليه
شئ لأنه الذي نقض عهده وزال أمانه،
وإن أطلقوه بغير أمان كان له يأخذ من أموالهم وأولادهم ونسائهم وغير ذلك ما يمكن
منه ويخرج هاربا أو غير هارب لأنهم لم يشترطوا الأمان، وإذا شرطوا عليه المقام في
دار الحرب ولم يحلفوا على ذلك حرم عليه المقام ولم يجب عليه الوفاء بالشرط وإن حلفوه
على ذلك لم يخل من: أن يكون مكرها على اليمين أو يكون مختارا، فإن كان مكرها لم
ينعقد يمينه لأنه مكره في خروجه وإن كان مختارا كان له الخروج ولم يلزمه كفارة،
فإن أطلقوه وشرطوا عليه أن يحمل مالا من دار الاسلام وإلا رجع إليهم لم يلزمه شئ
من ذلك، فإن قرروا بينهم وبينه فداء فإن كان مكرها على ذلك لم يلزمه الوفاء به وإن
كان متطوعا لم يلزمه أيضا لأنه عقد عقدا فاسدا.
ولو أن الإمام أو من نصبه شرط أن يفادي قوما من المسلمين بمال لما صح ذلك وكان
العقد فاسدا ولم يملك المشركون ما يأخذونه منه، وإن ظهر المسلمون على المشركين
وأخذوا منهم هذا المال لم يكن غنيمة ووجب رده إلى بيت المال.
وإذا غصب مسلم فرسا وغزا عليه وغنم وأسهم له ثلاثة أسهم كان الثلاثة أسهم
كلها له ولم يكن لصاحب الفرس منها شئ، فإن دخل دار الحرب بفرسه الذي يملكه
97

وغزا ثم غصبه غيره من أهل الصف فرسه وغنم وأسهم للذي غصب الفرس ثلاثة أسهم
كان له من هذه الثلاثة أسهم سهم واحد والسهمان الباقيان لصاحب الفرس، وإنما
اختلف الحكم فيما ذكرناه لأن الغاصب في المسألة الأولى هو الحاضر للقتال دون
صاحب الفرس وقد أثر حضوره في القتال وفي المسألة الثانية صاحب الفرس حضر
القتال فارسا وأثر في القتال والغاصب لفرسه غصبه بعد ذلك فكان السهم - دون
الغاصب - للفرس.
وإذا اشترى انسان الأسارى من المسلمين لبعض التجار بإذنهم بأن يشتريهم
ويكفهم من العرض فابتاعهم وأخرجهم من دار الحرب كان عليهم أن يؤدوا إليه ما
ابتاعهم به، وإن اشتراهم بغير إذنهم لم يجب عليهم أن يؤدوا المال إليه ويستحب لهم
أداء ذلك، وإن أذنوا له في ابتياعهم وكانوا فقراء فاشتراهم وأخرجهم من دار الحرب
ولم يقدروا على تعويضه عوض ذلك من بيت مال المسلمين إذا كان ثمنهم الذي وزنه
هو قيمتهم، فإن كان قد دفع فضلا على ذلك فإن الفاضل في قتاله (ماله) ولم يجب
تعويضه على ذلك من بيت مال المسلمين.
فإن اشترى صبيانا أو أطفالا أحرارا بإذن أو بغير إذن لم يجب على أوليائهم ولا
عليهم إذا بلغوا رد عوض المال إليه فإن فعلوا ذلك كان حسنا، وإن كان أولياؤهم
التاجر في ذلك كان عليهم أن يدفعوا ذلك إليه.
وإذا اشترى مكاتبا وأم ولد بأمرهما له بذلك واشتراهما فأخرجهما من دار الحرب
لم يكن له عليهما شئ إلا أن يعتقا فإذا أعتقا جاز له مطالبتهما بماله، وإن كان
اشتراهما بغير إذنهما له في ذلك لم يستحق عليهما شيئا عتقا أو لم يعتقا.
فإن اشترى عبيدا كان لساداتهم أن يأخذوهم بالثمن الذي ابتاعهم به اللهم إلا أن
يكونوا عند مشرك فدفعهم المشرك إلى هذا التاجر عوضا عن هدية أو ما أشبهها فيكون
قيمته ما أوفي عليه بهم.
98

باب قتال أهل البغي:
قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت
إحديهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله... الآية.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع: أنه خطب يوما بالكوفة
فقام إليه رجل من الخوارج فقال: لا حكم إلا لله، فسكت ع ثم قام آخر
وآخر وآخر فلما أكثروا فقال صلوات الله عليه وآله: كلمة حق يراد بها باطل لكم عندنا
ثلاث خصال: فلا نمنعكم مساجد الله أن تصلوا فيها ولا نمنعكم الفئ ما كانت أيديكم
مع أيدينا ولا أبتدئكم بحرب حتى تبدأوا، لقد أخبرني الصادق عن الروح الأمين
عن رب العالمين: أنه لا يخرج عليكم فئة قلت أو كثرت إلى يوم القيامة إلا جعل الله
حتفها على أيدينا وأن أفضل الجهاد جهادكم وأفضل المجاهدين من قتلكم وأفضل
الشهداء من قتلتموه فاعملوا ما أنتم عاملون فيوم القيامة يخسر المبطلون ولكل نبأ مستقر
فسوف تعلمون.
وروي عنه ع: أنه حرض الناس يوم الجمل على القتال فقال: قاتلوا
أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون، ثم قال: هذا والله ما رمى أهل هذه
الآية بسهم قبل اليوم.
وروي عنه ع أنه قال يوم صفين: اقتلوا بقية الأحزاب وأولياء الشيطان،
اقتلوا من يقول: كذب الله ورسوله.
وروي: أنه لما أغارت خيل معاوية على الأنبار وقتلوا عامله ع وانتهكوا
حرم المسلمين خرج ع بنفسه غضبان حتى انتهى إلى النخيلة فمضى الناس
فأدركوه فقالوا: ارجع يا أمير المؤمنين فنحن نكفيك المؤونة، فقال: والله ما تكفونني ولا
تكفون أنفسكم، ثم قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الجهاد باب من
أبواب الجنة فمن تركه ألبسه الله تعالى الذلة وشمله البلاء والصغار وقد قلت لكم
وأمرتكم أن تغزو هؤلاء القوم قبل أن يغزوكم فإنه ما غزا قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا
فجعلتم تتعللون بالعلل وتسوفون وهذا عامل معاوية أغار على الأنبار فقتل عاملي عليها ابن
99

حسان وانتهك أصحابه حرمات المسلمين لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على
المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع قرطها وخلخالها لا يمتنع منها ثم انصرفوا لم يكلم
أحد منهم فوالله لو أن امرأ مسلما مات من هذا أسفا ما كان عندي ملوما بل كان
عندي جديرا،
يا عجبا عجبت لبث القلوب وتشعب الأحزاب من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم
وفشلكم عن حقكم حتى صرتم غرضا تغزون ولا تغزون ويغار عليكم ولا تغيرون
ويعصي الله وترضون، إذا قلت لكم: اغزوهم في الحر، قلتم: هذه أيام حارة القيظ
أمهلنا حتى ينسلخ الحر، وإذا قلت لكم: اغزوهم في البرد، قلتم: هذه أيام صر وقر،
وأنتم من الحر والبرد تفرون فأنتم والله من السيف أفر،
يا أشباه الرجال ولا رجال، يا طغام الأحلام ويا عقول ربات الحجال، قد ملأتم
قلبي غيظا بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش: إن علي بن أبي طالب لرجل شجاع
ولكن لا علم له بالحرب، فمن أعلم بالحرب مني؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين
وها أنا قد عاقبت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع، أبدلني الله بكم من هو خير لي
منكم وأبدلكم من هو شر لكم مني.
أصبحت والله لا أرجو نفعكم ولا أصدق قولكم وما سهم من كنتم من سهمه إلا
سهم الأخيب، فقام إليه جندب بن عبد الله فقال: يا أمير المؤمنين ها أنا وأخي أقول كما
قال موسى: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فمرنا بأمرك والله لنضربن دونك وإن
حال دون ما نريده جمر الغضا وشوك القتاد، فأثنى عليهما وقال: أين تبلغان رحمكما الله
مما أريد؟
فقد دل ما أوردناه - من القرآن والخبر - على أن الله سبحانه فرض قتال أهل البغي
وقد ذكرنا في باب من يجب جهاده من المراد بأهل البغي وقسمتهم، فإذا اقتتلت
طائفتان بكلام أو ما يجري مجراه ولم يشهروا سلاحا أصلح بينهما بما يدعو إلى الألفة وما
يعم النفع به، وإن بغت إحديهما على الأخرى وشهرت الظالمة السلاح على المظلومة
وجب قتال الطائفة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله سبحانه ووجب على المؤمنين إذا
100

دعاهم الإمام إلى ذلك واستعان بهم معاونته ومساعدته والخروج معه إلى حربهم ولم يجز
لأحد منهم التأخر عنه في ذلك.
ولا فرق في وجوب قتال الباغية بين أن تكون باغية على طائفة من المؤمنين وبين أن
تكون بغت على الإمام إما في خلع طاعته أو منعه مما يجب له التصرف فيه من إقامة حد
أو غيره أو ما جرى مجرى ذلك فإن في كل ذلك يجب قتال هذه الباغية، ولا يجوز لمن
دعاه الإمام إلى ذلك واستعان به في حربهم التخلف عنه كما قدمناه.
ولا ينبغي أن يبدأوا بالحرب حتى يبدأوهم بها، ويجوز أن يدعوا قبل القتال إلى الحق
وينذروا فإن لم يجيبوا قوتلوا، وإن كانوا عارفين بما يدعوهم الإمام إليه ولم يدخلوا فيه
جاز قتالهم من غير دعاء ولا إنذار، ولا يجوز قتالهم إلا مع الإمام أو مع من ينصبه لذلك.
وإذا بلع بعض خلفاء الإمام على بعض المواضع اجتماع قوم على الخلاف والخروج
على شق عصا المؤمنين لا يقاتلهم حتى يطلع الإمام على أحوالهم وينتظر أمره فيهم فمهما
أمروا به انتهى إليه.
ويقاتل أهل البغي بكل ما يقاتل به المشركون، وإذا انهزم عسكرهم وكان لهم فئة
يرجعون إليها جاز اتباع مدبرهم وأن يجهز على جريحهم وتغنم أموالهم التي في العسكر
دون غيرها من أموالهم ولا تسبى ذراريهم، وإن لم يكن لهم فئة يرجعون إليها لم يتبع
مدبرهم ولا يجهز على جريحهم فأما أموالهم فلا يغنم منها إلا ما حواه العسكر دون ما سواه
مما لم يحوه ولا تسبى ذراريهم، وقد ذكرنا هذا التفصيل في باب من يجب جهاده عند
قسمة أهل البغي.
وإذا أدرك المؤمن الباغي وظهر عليه وغشيه بسلاحه فسأل الأمان وأظهر التوبة
والرجوع أو أقر بإمامة الإمام الحق أو أظهر ما يكون بإظهاره مفارقا لما هو عليه لم يجز
للمؤمن الذي ظهر عليه طعنه ولا ضربه وإن كان جريحا لم يجهز عليه كما قدمناه.
وإذا عدل أهل البغي عند الظهور عليهم إلى رفع المصاحف والدعاء إلى حكم الله
سبحانه وتعالى بعد أن كانوا دعوا إلى ذلك ولم يجيبوا إليه لم يلتفت إلى هذا الفعل منهم
ولم ترفع الحرب عنهم إلا برجوعهم إلى الحق، وإذا أعانهم قوم من أهل الذمة على قتال
101

أهل العدل لبرئت الذمة منهم ولا فرق في ذلك بين أن يكون لمن أعانوه من أهل البغي
فئة وبين أن لا يكون لهم ذلك وقتلوا مقبلين ومدبرين، فإن ادعوا الجهل بما جرى معهم
وأنهم أكرهوا على ذلك وأظهروا التوبة مما فعلوا عفي عنهم ولم يقتل لهم أسير ولا يسبى
لهم ذرية وإن كان ما ادعوه إنما هو على وجه المدافعة وعرف منهم خلافه لم يلتفت إلى
قولهم في ذلك، ومن أصاب منهم دم انسان من أهل العدل أو ماله طولب بذلك ولا
يجب على واحد من أهل العدل إذا أصاب شيئا من ذلك لأحد منهم.
وإذا كان رجل من أهل البغي قد استحق على رجل من أهل العدل قبل الفرقة حقا
من قصاص أو أرش وطلب الحكم بينه وبينه من صاحب عسكر أهل العدل حكم بينهم
في ذلك وأمضى ما يجب لكل واحد منهما على الآخر، فإن كان ما حكم به للباغي على
العادل مالا ينبغي أن يحكم له ولا يسلم إليه بل يحبس عنده إلى أن يرجع إلى الحق لئلا
ينفقه على حرب أهل العدل.
باب أقسام الغزاة:
الغزاة على ضربين: مطوعة وغير مطوعة. والمطوعة هم الذين يكونون مشغولين بمعاشهم
لم ينشطوا للغزو فإذا غزوا وعادوا رجعوا إلى معاشهم، والذين هم غير مطوعة هم الذين
يكونون قد راصدوا نفوسهم للجهاد ووقفوها عليه.
والقسم الأول إذا غنموا في دار الحرب شاركوا الغانمين وأسهم لهم، وأما القسم
الثاني فيجوز أن يعطوا من الغنيمة ويجوز أن يعطوا من الصدقة من سهم ابن السبيل.
والأعراب ليس لهم من الغنيمة شئ، ويجوز للإمام أن يرضخ لهم ويعطيهم من الصدقة
من سهم ابن السبيل لأن الاسم يتناولهم.
ومن يعطي من الغنيمة فلا يفضل أحد منهم في كل ذلك على أحد بل يسوى بينهم،
ومن يعطي من سهم ابن السبيل يجوز للإمام تفضيل بعضهم في ذلك على بعض على قدر
مؤونتهم وكفايتهم بحسب ما يراه.
ولا يجوز لأحد من الغزاة أن يغزو بغير أمر الإمام، فإن غزا بغير أمر الإمام كان
مخطئا، فإن غنم كان جميع ما يغنمه للإمام دون كل أحد من الناس.
102

وجميع ما يحتاج إليه من آلات الحرب والكراع من بيت المال من أموال المصالح،
وهكذا أرزاق ولاة الأحداث والحكام والصلاة والأذان وما أشبه ذلك فإنهم يعطون من
المصالح، والمصالح تخرج من ارتفاع أراضي ما فتح عنوة ومن سهم سبيل الله ومن جملة
ذلك ما يلزم فيما يخصه من الأنفال والفئ وهو جنايات من لا عقل له ودية من لا
يعرف القاتل له وما جرى مجرى ذلك مما يأتي ذكره في مواضعه.
وإذا أراد الإمام القسمة فينبغي أن يبتدئ أولا بقرابة النبي ص
وبمن هو أقرب فالأقرب، فإن تساووا في القرابة بدأ بمن هو أقدمهم هجرة، فإن تساووا في
ذلك فأقدمهم في السن، وإذا فرع من إعطاء أقارب رسول الله ص بدأ بعد
ذلك بالأنصار وأقدمهم على العرب، فإذا فرع منهم رجع إلى العجم ولم يقدم أحدا منهم
ممن ذكرنا تأخيره على أحد ممن ذكرنا تقديمه.
103

كتاب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
واعلم أن من جملة فرائض الاسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وربما كان
ذلك فرضا على الكفاية وربما تعلق بالأعيان.
فأما كونه فرضا على الكفاية فمثل أن يأمر بعض المكلفين بمعروف أو ينهى عن منكر
فيؤثر أمره أو نهيه في ذلك فيقع المعروف أو يرتفع المنكر فسقط الوجوب عن الباقين.
فأما ما يتعلق بالأعيان فإن يأمر بمعروف أو ينهى عن المنكر فلا يؤثر أمره ولا نهيه
فيما أمر به ونهى عنه ولا غيره على الوجه الانفراد والوحدة دون الباقين فيكون فرضا على
الأعيان فيجب على كل واحد من المكلفين كما يجب على غيره منهم إلى أن يحصل
المعروف أو يرتفع المنكر، فإذا كان كذلك سقط الفرض عن الجميع هذا مع تمكن
الجماعة من ذلك إن اختص التمكن ببعض المكلفين دون بعض آخر منهم فإن فرض
ذلك لازم للمتمكنين دون من ليس بمتمكن.
والأمر بالمعروف يصح أن يكون واجبا ويكون ندبا، فأما الواجب فبأن يكون أمر
المعروف واجبا، وأما الندب فبأن يكون أمر بالمعروف ندبا لأن كل واحد منهما يتبع في
كونه ندبا أو واجبا حكم ما هو أمر به منهما، فإن كان واجبا كان الأمر به واجبا
وإن كان ندبا كان الأمر به ندبا كما ذكرنا.
وأما النهي عن المنكر فجميعه واجب لأن المنكر كله قبيح والنهي عن القبيح
واجب، وليس ينقسم النهي عن المنكر انقسام الأمر بالمعروف لما ذكرناه من قبح
المنكر.
105

واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون باليد واللسان والقلب.
فأما وجوب ذلك على المكلف باليد واللسان فإنما يصح إذا كان متمكنا منهما
ويعلم أو يغلب في ظنه أنه لا ضرر يلحقه في ذلك ولا غيره من الناس لا في حال الأمر
والنهي ولا فيما بعد هذه الحال من مستقبل الأوقات، فإن علم أو غلب في ظنه لحوق
الضرر به أو بغيره سقط وجوب ذلك عنه باليد واللسان ووجب ذلك بالقلب وحده فيعتقد
وجوب الأمر بالمعروف أو وجوب الانكار للمنكر.
وأما الأمر بالمعروف باليد فإنما يكون بأن يفعل المعروف ويجتنب المنكر على وجه
يتأسى الناس به، وأما باللسان فإن يكون بالدعاء إلى ذلك وتعريف من يؤمر وينهى ما له
على ذلك من مدح وثواب وما له على تركه والإخلال به إن كان واجبا من ذم وعقاب.
وقد يكون الأمر بالمعروف باليد أيضا على وجه آخر وهو أن يحمل الناس بالقتل والردع
والتأديب والجراح والآلام على فعله إلا أن هذا الوجه لا يجوز للمكلف الإقدام عليه إلا
بأمر الإمام العادل وإذنه له في ذلك أو من نصبه الإمام، فإن لم يأذن له الإمام أو من
نصبه في ذلك فلا يجوز له فعله ويجب عليه حينئذ الاقتصار على الوجه الذي قدمنا ذكره،
وهذا الوجه أيضا لا يجوز فعله في إنكار المنكر إلا بإذن الإمام أو من نصبه، فإن لم
يحصل ذلك وجب عليه أن يقتصر على الانكار باللسان والقلب.
فأما باللسان فبالوعظ أو الإنذار والزجر والتعريف لفاعل المنكر ما يستحقه على فعله
من ذم وعقاب وما له على الإخلال به من مدح وثواب، وقد يكون إنكار المنكر على وجه
آخر بضرب من الفعل وهو الإعراض عن الفاعل له وعن تعظيمه وأن يتعمد هجره
والاستخفاف به ويستمر على ذلك ويفعل منه ما يرتدع به عن المنكر.
ولا يجوز لأحد من الناس إقامة حد على من وجب عليه إلا الإمام العادل أو من
ينصبه لذلك، وقد رخص في إقامة حد لذلك على ولده وأهله دون غيرهم إذا لم يخف من
وصول المضرة إليه من ظالم فمتى خاف ذلك وعلمه أو غلب في ظنه لم يجز له فعله.
إذا استخلف السلطان الجائر إنسانا من المسلمين وجعل إليه إقامة الحدود جاز أن
يقيمها بعد أن يعتقد أنه من قبل الإمام العادل في ذلك وأنه يفعل ذلك باذنه لا بإذن
106

السلطان الجائر، ويجب على المؤمنين مساعدته وتمكينه من ذلك ومعاضدته عليه هذا إذا
لم يتعدى الواجب، فإن كان في ذلك تعد له لم يجز فعله ولا مساعدته عليه ولا تمكينه
منه، فإن حمله هذا السلطان على ذلك جاز له فعله إن لم يبلغ ذلك قتل النفس فإن بلغ
ذلك لم يجز له فعله وإن قتل بامتناعه من ذلك.
فأما تولى القضاء والأحكام فسنورده فيما يتعلق بذلك في موضعه ما يكتفى به إن
شاء الله.
107

فقه القرآن
لسعيد بن عبد الله بن الحسين بن هبة الله بن الحسن الراوندي
المتوفى 573 ه‍ ق
109

كتاب الجهاد
اعلم أن الجهاد والمجاهدة كلاهما استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والشرع خصص
لفظ الجهاد بالمقاتلة في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وإعزاز الدين وإذلال المشركين، وبقي
لفظة المجاهدة على عمومها.
باب فرض الجهاد ومن يجب عليه:
قال الله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم، أي فرض عليكم قتال
المشركين والمقاتلة مشقة لكم والقتال يشق عليكم، والألف واللام بدل من الإضافة،
والكره والكره لغتان، وقيل: بالفتح المشقة وبالضم أن يتكلف الشئ فيفعله كارها،
والآية تدل على وجوب الجهاد وفرضه، وبه قال أكثر المفسرين غير أنه فرض على
الكفاية، وعن عطاء: أن ذلك كان على الصحابة، والصحيح الأول لحصول الاجماع
عليه اليوم وقد انقرض خلاف عطاء.
ثم قال: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، فإن قيل: كيف كره المؤمنون
الجهاد وهو طاعة الله؟ قيل عنه جوابان: أحدهما أنهم يكرهونه كراهية طباع، الثاني أنه
كره لكم قبل أن يكتب عليكم. وعلى الوجه الأول تكون لفظة الكراهة مجازا، وعلى
الثاني حقيقة.
ومما يدل على وجوب الجهاد أيضا قوله سبحانه: وجاهدوا في الله حق جهاده، عن
ابن عباس: أي جاهدوا المشركين وجاهدوا أنفسكم. وهو على العموم والخطاب متوجه
إلى جميع المؤمنين لقوله قبل هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا
111

ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده، فجاهدوا أمر
بالغزو ومجاهدة النفس فيه وفي كل طاعة وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر.
وقوله تعالى " في الله " أي في ذات الله ومن أجله تعالى.
فإن قيل: ما وجه إضافة قوله تعالى " حق جهاده " فالقياس حق الجهاد فيه أو حق
جهادكم فيه؟
قلنا: الإضافة تكون بأدنى ملابسة وأقل اختصاص، فلما كان الجهاد مختصا بالله
من حيث أنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه، ويجوز أن يتبع في الظرف.
وكذلك خاطب المؤمنين فقال: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، أمرهم
بالجهاد وبقتال المقاتلين دون النساء، وقيل: الآية منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم، وبقوله: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، لأنه أوجب في
هذه الآية علينا قتال المشركين وإن لم يقاتلونا، و " الذين يقاتلونكم " الذين يناجزونكم
القتال دون المحاجزين، وعلى هذا يكون منسوخا بقوله تعالى: وقاتلوا المشركين
كافة. وعن الربيع بن أنيس: هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة وكان رسول الله
ص يقاتل من قاتل ويكف عمن كف.
وقيل: هم الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ
والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلهم لأنهم جميعا مضادون للمسلمين قاصدون
لمقاتلتهم فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا. وقال ابن عباس ومجاهد وعمر بن عبد
العزيز: الآية غير منسوخة، وهو الأقوى لأنه لا دليل على كونها منسوخة، ووجه الآية أنه
أمر بقتال المقاتلة دون النساء.
وقيل: إن قوله: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، أمر بقتال أهل مكة لأن
المشركين لما صدوا رسول الله ع عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قاتل
فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع، فخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش بل يقاتلونهم في
الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت. والأولى حمل الآية على عمومها إلا ما أخرجه الدليل.
فالجهاد ركن من أركان الاسلام إذا قام به من في قيامه غناء عن الباقين سقط عن
112

الباقين، فمتى لم يقم به أحد لحق الذم بجميعهم، ومن شرط وجوبه ظهور الإمام العادل
إذ لا يسوع الجهاد إلا باذنه يدل عليه قوله تعالى " ولا تعتدوا " أي لا تعتدوا بقتال من لم
تؤمروا بقتاله ولا تعتدوا بالقتال على غير الدين ولا تعتدوا على النساء والصبيان ومن قد
أعطيتموه الأمان، والعموم يتناول الأقوال الثلاثة.
فصل:
فإن قيل: إذا كان قتال من لم يقاتلهم اعتداءا فكيف جاز أن يؤمروا به فيما بعد؟
قلنا: إنما كان اعتداءا من أجل أنه مجاوزة لما حده الله لهم مما فيه الصلاح للعباد
في ذلك الوقت ولم يكن فيما بعد على ذلك فجاز الأمر به، فأطلق لهم في الآية الأولى
قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم أو في الشهر الحرام ورفع عنهم الجناح في ذلك، ثم
قال " ولا تعتدوا " بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والصبيان
والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة، فإنما يجب القتال عند
شروط وهي أن يكون بأمر الإمام العادل.
ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الاسلام وإلى شرائعه فمتى لم
يدعوا لم يجز قتالهم، ولا يجوز قتال النساء فإن عاون أزواجهن وقاتلن المسلمين أمسك
عنهن فإن اضطروا إلى قتلهن جاز حينئذ.
وقوله تعالى: في سبيل الله، يعني في دين الله وهو الطريق الذي بينه للعباد ليسلكوه
على ما أمرهم به ودعاهم إليه، والاعتداء مجاوزة الحد والحق.
فصل:
وقوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، يمكن أن
يستدل به على أنه إذا دهم المسلمين أمر من قبل العدو يخاف منه وجب حينئذ جهادهم
وإن لم يكن ثم إمام عادل، ويقصد المجاهد به الدفاع عن نفسه وعن الاسلام وأهله ولا
يجاهدهم ليدخلهم في الاسلام مع الإمام الجائر، ويؤكد ذلك قوله تعالى: وما لكم لا
113

تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين، أي لا عذر لكم ألا تقاتلوا في سبيل الله وعن
المستضعفين، أي لصرف الأذى عنهم، أي ما لكم لا تسعون في خلاصهم.
وقوله: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه، يدل على جواز المقاتلة مع النساء عند
الاضطرار إلى ذلك.
فإن قيل: كيف قال: بمثل ما اعتدى عليكم، والأول جور والثاني عدل.
قلنا: لأنه مثله في الجنس وفي مقدار الاستحقاق لأنه ضرر كما أنه ضرر وهو على
مقدار ما يوجبه الحق في كل جرم.
فإن قيل: كيف جاز قوله: إن الله لا يحب المعتدين، مع قوله: فاعتدوا عليه.
قلنا: الثاني ليس باعتداء على الحقيقة وإنما هو على سبيل المزاوجة، ومعناه المجازاة
على ما بيناه، والمعتدي مطلقا لا يكون إلا ظالما فاعلا لضرر قبيح، وإذا كان محاربا
فإنما يفعل ضررا مستحقا حسنا.
باب ذكر المرابطة:
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا.
اعلم أن المرابطة نوع من الجهاد وهي: أن يحبس الرجل خيله في سبيل الله ليركبها
المجاهدون، وأن يعينهم على الجهاد مع الكفار بسائر أنواع الإعانة وفيها ثواب عظيم إذا
كان هناك إمام عادل، ولا يرابط اليوم إلا على سبيل الدفاع عن الاسلام والنفس وهي
مستحبة بهذا الشرط، وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما فإن زاد كان جهادا، والرباط
ارتباط الخيل للعدو، والربط الشد، ثم استعمل في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من
أرادهم بسوء.
وينبغي أن يحمل قوله تعالى: ورابطوا، على المرابطة لأنه العرف وهو الطارئ على
أصل وضع اللغة، ويحمل على انتظار الصلوات لما روي عن أمير المؤمنين ع في
الآية، أي رابطوا الصلوات واحدة بعد واحدة، أي انتظروها لأن المرابطة لم تكن حينئذ،
والمعنى اصبروا على تكاليف الدين في الطاعات وعن المعاصي.
114

" وصابروا " أعداء الله في الجهاد، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا
أقل صبرا منهم وثباتا. " ورابطوا " أي أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين
مستعدين للغزو.
وقال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو
الله وعدوكم، فقوله تعالى: " من قوة " أي من كل ما تتقوى به في الحرب من عددها.
وعن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله ص يقول على المنبر: ألا إن القوة
الرمي، قالها ثلاثا، ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله.
والرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله، تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة
أو يكون جمع ربيط كفصيل وفصال، ويجوز أن يكون من " رباط الخيل " تخصيصا
للخيل من بين ما يتقوى به كقوله: وجبرئيل وميكائيل، والضمير في " به " راجع إلى ما
استطعتم، ترهبون بذلك عدو الله وهم أهل مكة، " وآخرين من دونهم " اليهود، وقيل:
المنافقون أو أهل فارس أو كفرة الجن. وروي: أن صهيل الخيل يرهب الجن.
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم، قال أبو جعفر ع: أي
خذوا سلاحكم، فسمي السلاح حذرا لأن به يقي الحذر. وقيل: أي احذروا عدوكم
بأخذ السلاح، كما يقال للإنسان: خذ حذرك أي احذر، ويقال: أخذ حذره، أي تيقظ
واحترز من المخوف، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم. وظاهر
الآيات وعمومها يدل على أن من ربط اليوم فرسا في بيته وأعد الأسلحة للدفع عن
الاسلام وأهله يكون بمنزلة المرابط.
باب حكم من ليس به نهضة إلى الجهاد:
قال الله عز وجل: لا يستوي القاعدون من المؤمنين، لما نزل جاء عمرو بن أم
مكتوم وكان أعمى فقال: يا رسول الله كيف وأنا أعمى؟ فما برح حتى نزل قوله تعالى:
غير أولى الضرر، أي إلا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم وغير ذلك من العلل التي
لا سبيل لأهلها إلى الجهاد للضرار الذي بهم. ويجوز أن يساوى أهل الضرر المجاهدين
115

بأن يفعلوا طاعات أخر تقوم مقام الجهاد فيكون ثوابهم عليه مثل ثواب الجهاد، وليس
كذلك من ليس بأولى الضرر لأنه قعد عن الجهاد بلا عذر وظاهر الآية يمنع من مساواته
على وجه.
فإن قيل: كيف قال في أول الآية: فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم
على القاعدين درجة، ثم قال في آخرها: وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا
عظيما درجات منه، وهذا ظاهر التناقض؟ قلنا:
إن أول الآية فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر درجة وفي
آخرها فضلهم على القاعدين غير أولى الضرر درجات ولا تناقض في ذلك لأن قوله تعالى:
وكلا وعد الله الحسنى، يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين وإن كانوا تاركين
للفضل. وقال المغربي: إنما كرر لفظ " التفضيل " لأن الأول أراد تفضيلهم في الدنيا
على القاعدين والثاني أراد تفضيلهم في الآخرة بدرجات النعيم.
وقوله تعالى: وأنفقوا في سبيل الله، من كان له مال ولا يمكنه القيام إلى الحرب
يجب عليه إقامة غيره مقامه فيما يحتاج إليه وينفق عليه ويعين المحاربين بالسلاح
والمركوب والنفقة، فعموم الآية يتناول جميع ذلك. وقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة، أي لا تتقحموا الحرب من غير نكاية في العدو ولا قدرة على دفاعهم، فمن
وجب عليه الجهاد فإنما يجب عند شروط سبعة وهي: الذكورة والبلوغ وكمال العقل
والحرية والصحة وأن لا يكون شيخا لا حراك به ويكون هناك إمام عادل أو من نصبه
الإمام للجهاد. والآية تدل بظاهرها على أكثر ذلك، فإذا اختل واحد من هذه الشروط
سقط فرض الجهاد، و " التهلكة " كل ما كان عاقبته إلى الهلاك.
وقال الصادق ع: لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل الله اليوم ما كان
أحسن ولا وفق لقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب
المحسنين، أي المقتصدين، وتقديره: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، كما
يقال: أهلك فلان نفسه، إذا تسبب لهلاكها، والمعنى النهي عن ترك الانفاق في سبيل
الله لأنه سبب الهلاك أو عن الإسراف في النفقة أو عن الاستقلال والإخطار بالنفس، أو
116

عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو، وقيل: الباء مزيدة، والمعنى لا تقبضوا التهلكة
أيديكم، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم.
باب حكم القتال في الشهر الحرام:
قال عز من قائل: والفتنة أشد من القتل، نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل
رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك، فبين الله أن الفتنة في الدين أعظم
من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان محظورا.
ثم قال: الشهر الحرام بالشهر الحرام، قال الحسن: إن مشركي العرب قالوا للنبي
ص: أ نهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال: نعم، فأراد المشركون أن
يغتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه فأنزل الله الآية. فلهذا لا بأس بقتال المشركين في أي
وقت كان إلا الأشهر الحرم، فإن من يرى منهم لها حرمة لا يبتدئون فيها بالقتال فإن
بدؤوهم بالقتال جاز حينئذ قتالهم، ويجوز قتال من لا يرى للأشهر الحرم حرمة على كل
حال.
" والحرمات قصاص " أي إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم
مثل ما استحلوا منكم. قال ابن عباس: كان أهل مكة اجتهدوا أن يفتنوا قوما من
المؤمنين عن دينهم والأذى لهم وكانوا مستضعفين في أيديهم، فقال تعالى: ما لكم لا
تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين، أي ما لكم لا تسعون في خلاصهم.
ومعنى قوله: الشهر الحرام بالشهر الحرام، أي هتكة بهتكة، يعني كما هتكوا
حرمته عليكم فأنتم تهتكون حرمته عليهم. " والحرمات قصاص " أي وكل حرمة يجري
فيها القصاص، ثم أكد ذلك بقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم " أي فلا تعتدوا إلى ما
لا يحل لكم، وإنما جمع الحرمات لأحد أمرين: أحدهما أن يريد حرمة الشهر وحرمة البلد
وحرمة الإحرام، الثاني أن كل حرمة تستحل فلا يجوز إلا على وجه المجازاة.
وروي عن الأئمة ع: أن قوله: وقاتلوا في سبيل الله، ناسخ لقوله: كفوا
أيديكم وأقيموا الصلاة، وكذا قوله: واقتلوهم حيث ثقفتموهم، ناسخ لقوله تعالى:
117

ولا تطع الكافرين والمنافقين، وقيل: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ناسخة للآية
الأولى التي تضمنت النهي عن القتال عند المسجد الحرام حتى يبدأوا بالقتال لأنه
أوجب قتالهم على كل حال حتى يدخلوا في الاسلام، " حيث ثقفتموهم " أي حيث
وجدتموهم في حل أو حرم، وقوله تعالى: من حيث أخرجوكم، أي من مكة، وقد فعل
رسول الله لمن لم يسلم منهم يوم الفتح.
فصل:
وقوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، كان بعث رسول الله
ص عبد الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصد
عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا
العير وفيها من تجارة الطائف، كان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى
الآخرة فقالت قريش: قد استحل محمد الشهر الحرام، وعظم ذلك على أصحاب السرية
وقالوا: ما نبرح حتى تنزل توبتنا، وظن قوم منهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم
أجر، فأنزل الله فيهم: إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك
يرجون رحمة الله والله غفور رحيم، وسبيل الله قتال العدو، ويقال: جاهدت العدو،
إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله.
وقال قتادة: القتال في الشهر الحرام وعند المسجد الحرام منسوخ بقوله تعالى:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، وقوله تعالى: فاقتلوا المشركين، وقال عطاء: هو باق على
التحريم. وروى أصحابنا أنه باق على التحريم في من يرى لهذه الأشهر حرمة، وأما من
لا يرى لها حرمة فإنه يجوز قتاله أي وقت كان، أما في الحرم فلا يبتدأ بقتال أحد من
الكفار كائنا من كان. والمعنى يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام
قل: قتال فيه إثم كبير، وما فعل قريش - من صدهم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام
وكفرهم بالله وإخراج أهل المسجد الحرام وهم رسول الله والمؤمنون - أكبر عند الله مما
فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن
118

قال الحسن: السائلون هم أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال
في الشهر الحرام، وهذا قول أكثر المفسرين. وقال البلخي: هم أهل الاسلام سألوا عن
ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه. و " الفتنة " الإخراج أو الشرك.
باب في الآيات التي تحض على القتال:
قال الله تعالى: ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما
تألمون وترجون من الله ما لا يرجون... الآية.
نزلت في أهل أحد لما أصاب المسلمين ما أصابهم ونام المسلمون وبهم الكلوم
فنزل: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، لأن الله تعالى أمرهم على ما بهم من
الجراح أن يتتبعوا المشركين، وأراد بذلك إرهاب المشركين، فخرج المسلمون إلى بعض
الطريق وبلغ المشركين ذلك فأسرعوا حتى دخلوا مكة.
وقال سبحانه: ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد
باء بغضب من الله، وفي تناول هذا الوعيد لكل فار من الزحف خلاف، قال الحسن:
إنما كان ذلك يوم بدر خاصة. وقال ابن عباس: هو عام، وهو قول الباقر والصادق
ع. أخبر أن من ولى دبره على غير وجه التحرف للقتال والتحيز إلى الفئة أنه
رجع بسخطه تعالى، وتقديره إلا رجلا متحرفا يتحرف ليقاتل أو يكون منفردا فينحاز
ليكون مع المقاتلة، ولا يجوز أن يفر واحد من واحد ولا من اثنين، فإن فر منهما كان
مأثوما، ومن فر من أكثر من اثنين لم يكن عليه شئ.
وأما قوله تعالى: ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن
رسول الله، فإن الله لما قص في هذه السورة قصة الذين تأخروا عن النبي ع
والخروج معه إلى تبوك ذكر عقيب ذلك أن ليس لهم أن يتأخروا عن رسول الله، وهذه
فريضة ألزمهم الله إياها.
قال قتادة: حكم هذه الآية يختص بالنبي ع كان إذا غزا لم يكن لأحد
أن يتأخر عنه فأما من بعده من الخلفاء فذلك جائز. وقال الأوزاعي وابن المبارك
119

وجماعة: إن هذه الآية لأول الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله. وقال ابن زيد:
هذا حين كان المسلمون قليلين فلما كثروا نسخ بقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة
فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، وهذا هو الأقوى لأنه لا خلاف
أن الجهاد فرض على الكفاية، فلو لزم كل أحد النفر لصار من فروض الأعيان، أما من
استنهضه الإمام فيجب عليه النهوض ولا يجوز له التأخر.
فصل:
وقد أدب الله بتأديب الحرب وعلم بها، فقال: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة
فأثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا.
قال أبو جعفر ع: هذه الآية نزلت حين أشار حباب بن المنذر على النبي
ع أن ينتقل من جانب مكة حتى ينزل على القليب ويجعلها خلفهم، فقال
بعضهم: لا تنقض مصافك يا رسول الله، فتنازعوا فنزلت الآية وعمل على قول حباب.
وقوله تعالى: فانفروا ثبات أو انفروا جميعا، أي إذا نفرتم فانفروا إما ثبات أي
جماعات متفرقة سرية بعد سرية وإما جميعا مجتمعين كوكبة واحدة ولا تخالفوا. وقيل في
ثبات: أي فرقة بعد فرقة أو فرقة في جهة وفرقة في جهة. وقال الباقر ع: الثبات
السرايا والجميع العساكر.
ثم قال: فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، حثا على
الجهاد ولا تلتفتوا إلى تثبيت المنافقين وقاتلوا في سبيل الله بائعين الدنيا بالآخرة، " ومن
يقاتل " جوابه " فسوف نؤتيه "، وإنما قال " أو يغلب " لأن الوعد على القتال حتى ينتهي
إلى تلك الحال.
باب
أصناف الكفار الذين يجب جهادهم وحكم الأسارى:
قال الله تعالى: وقاتلوا المشركين كافة، وقال: يا أيها النبي جاهد الكفار
120

والمنافقين وأغلظ عليهم.
أمر الله نبيه ع أن يجاهدهم، والجهاد هو ممارسة الأمر الشاق ويكون
بالقلب واللسان واليد، فمن أمكنه الجميع وجب عليه جميعه، ومن لم يقدر باليد
فباللسان والقلب، وإن لم يقدر باللسان أيضا فبالقلب.
واختلفوا في كيفية جهاد الكفار والمنافقين، فقال ابن عباس: جهاد الكفار بالسيف
وجهاد المنافقين باللسان والوعظ والتخويف. وقيل: جهاد الكفار بالسهم والرمح
والسيف وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. وقال ابن مسعود: هو بالأنواع الثلاثة
بحسب الإمكان فإن لم يقدر فليكفهر في وجوههم، وهو الأعم. وقيل: قتاله مع الكفار
ما قام فيه بنفسه وبابن عمه وبسرية كأن يبعثها أيام حياته وقتاله مع المنافقين ما وصى
به عليا ع أن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. وفي قراءة أهل البيت:
جاهد الكفار بالمنافقين.
فصل:
اعلم أن الكفار على ضربين: أهل الكتاب وغيرهم، فالأولون يقاتلون إلى أن يسلموا
أو يقتلوا أو يقبلوا الجزية، وهم ثلاث فرق: اليهود والنصارى والمجوس، قال تعالى:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا
يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
بين تعالى أن أهل الكتابين والمجوس، الذين حكمهم حكم اليهود والنصارى إذا لم
يدينوا دين الحق، يعني إذا لم يدخلوا الاسلام يجب علينا أن نقاتلهم حتى يدخلوا الذمة
بإعطاء الجزية وغيرها مما هو من شرائط الذمة على ما قدمناه، ونذكر أيضا لها بيانا
فنقول: لا تؤخذ الجزية عندنا إلا من اليهود والنصارى والمجوس وأما غيرهم من الكفار
على اختلاف مذاهبهم من عباد الأصنام و الأوثان والصابئة وغيرهم فلا يقبل منهم غير
الاسلام أو القتل والسبي، قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، أي كفر.
وسميت " جزية " لأنها شئ وضع على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنهم يجزون
121

إمام المسلمين بها الذي من عليهم بالإعفاء عن القتل. وقيل: الجزية عطية عقوبة مما
وظفه رسول الله على أهل الذمة، وهو على وزن جلسة وقعدة لنوع من الجزاء.
وقوله تعالى: " عن يد " أي عن يد متوانية غير ممتنعة، ويعطونها عن يد أي نقد غير
نسيئة لا مبعوثا على يد أحد ولكن عن يد المعطى إلى يد الآخذ، هذا إذا أريد به يد
المعطى، وإن أريد به يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أو عن إنعام
عليهم لأن قبول الجزية منهم وتركهم أحياء نعمة عظيمة عليهم، يعني يؤخذ منهم على
الصغار والذل وهو أن يأتي بها ماشيا ويسلمها وهو قائم والمسلم جالس.
فصل:
فإن قيل: إعطاء الجزية منهم طاعة أو معصية فإن كان طاعة وجب أن يكونوا
مطيعين وإن كان معصية فكيف أمر الله بها؟
قلنا: إعطاؤهم ليس بمعصية، وأما كونها طاعة لله فليس كذلك لأنهم إنما يعطونها
دفعا لقتل أنفسهم وفدية لاستعباده لهم لا طاعة لله، فإن الطاعة لا تقع من الكافر بحال
عندنا وإنما أمر الله بذلك لما علم تعالى فيه من المصلحة في إقرار أهل الكتاب على
طريقتهم، ومنع ذلك من غيرهم لأن أهل الكتاب مع كفرهم يقرون بألسنتهم بالتوحيد
وببعض الأنبياء وإن لم يكونوا على الحقيقة عارفين وغيرهم من الكفار يجحدون ذلك كله
فذلك فرق بين أهل الكتاب وسائر المشركين ممن عداهم.
والآية تدل على صحة مذهبنا في اليهود والنصارى وأمثالهم أنهم لا يجوز أن يكونوا
عارفين بالله وإن أقروا بذلك بلسانهم، وإنما يجوز أن يكونوا معتقدين لذلك اعتقادا ليس
بعلم.
والآية صريحة بأن هؤلاء الذين هم أهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية لا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر وإنه يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية، واعتقاد اليهود لشريعة موسى
ع إنما يوصف بأنه غير حق اليوم لأحد أمرين: أحدهما أنها نسخت فالعمل
بها بعد النسخ باطل غير حق، الثاني أن التوارة التي معهم مبدلة مغيرة لقوله تعالى:
122

يحرفون الكلم عن مواضعه.
وأهل الكتاب بلا خلاف هم اليهود والنصارى لقوله تعالى: أن تقولوا إنما أنزل
الكتاب على طائفتين من قبلنا، وقول النبي ع في المجوس: أجروهم
مجرى أهل الكتاب لأن لهم شبهة كتاب، فقد كان للمجوس كتاب فحرقوه على ما ورد
في أخبارنا.
فصل:
فإن قيل: فقد قال تعالى: لا إكراه في الدين، ثم قال: وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة ويكون الدين كله لله، فأي إكراه أعظم من أن يؤمر بالقتال حتى يسلم؟
قلنا: لأن لكل واحدة من الآيتين وجها حسنا ومعنى لا يناقض معنى الأخرى فإن
معنى قوله: لا إكراه في الدين، أي لم يجر الله أمر الإيمان على القسر والإجبار ولكن على
التمكن والاختيار، ونحوه قوله تعالى: ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم
جميعا أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، وهذه المشيئة أيضا مشيئة القسر
والإلجاء، وحرف الاستفهام إنما أورده إعلاما بأن الإكراه ممكن وإنما الشأن في المكره
من هو؟ وما هو إلا هو تعالى وحده لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون
عنده إلى الإيمان.
وأما قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، أي شرك، ويكون الدين كله لله
خالصا أمر تعالى لعزة الاسلام بإذلال أهل الكفر حتى تجري الشريعة على ما يرضاها الله
ظاهرة وأفعال الجوارح لا مدخل لها في أن تكون من حدود الدين والإيمان، وإنما هي
زينة وحلية للمؤمن المتدين على أن الكفار لا يرضون رأسا برأس، فإنهم لما عجزوا عن
الغلبة بالحجة طلبوا بوار الاسلام والمسلمين بالقهر والغلبة بالقوة فأمرهم الله بمجاهدتهم
ليذعنوا للإسلام.
فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين، والمعنى فإن امتنعوا من الكفر و انقادوا
فلا قتل إلا على الكافرين المقيمين على الكفر، وسمي القتل عدوانا مجازا من حيث كان
123

عقوبة على العدوان والظلم، وسمي جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة، أي إن تعرضتم لهم
بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم، وقال في موضع آخر: إن ينتهوا
يغفر لهم ما قد سلف.
وشرائط الذمة خمسة: قبول الجزية وأن لا يتظاهروا بأكل لحم الخنزير وشرب الخمر
والزنى ونكاح المحرمات. فإن خالفوا شيئا من ذلك خرجوا من الذمة، قال تعالى: وإن
نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر، أي فقاتلوهم،
فوضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأنهم إذا نكثوا فهم ذوو الرئاسة في الكفر، وفي الآية
دلالة على أن الذمي إذا أظهر الطعن في الاسلام فإنه يجب قتله لأن عهده معقود على أن
لا يطعن في الاسلام فإذا طعن فقد نكث عهده.
ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن يعطيها سقطت عنه، قال تعالى: فإن انتهوا
فلا عدوان إلا على الظالمين.
فصل:
وقال تعالى: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، أي إذا لقيتم يا معاشر
المؤمنين الذين جحدوا ربوبيته من أهل دار الحرب فاضربوهم على الأعناق " حتى إذا
أثخنتموهم " وأثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم " فشدوا الوثاق " معناه أحكموا وثاقهم
في الأسر، ثم قال: فأما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها، أي أثقالها،
والتقدير إما تمنوا منا وإما أن تفدوا فداءا.
قال ابن جريح وقتادة: الآية منسوخة بقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم، وقوله تعالى: فأما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم. وقال ابن
عباس والضحاك: الفداء منسوخ. وقال ابن عمر وجماعة: ليست منسوخة، وكان الحسن
يكره أن يفادي بالمال ويقول: يفادي الرجل بالرجل. وقيل: ليست منسوخة والإمام مخير
بين الفداء والمن والقتل بدلالة الآيات.
وقوله تعالى: حتى تضع الحرب أوزارها، قال قتادة: حتى لا يكون شرك، وقال
124

الحسن: إن شاء الإمام أن يستعبد الأسير من المشركين فله ذلك بالسنة، والذي رواه
أصحابنا: أن الأسير إذا أخذ قبل انقضاء الحرب والقتال والحرب قائمة والقتال باق
فالإمام مخير بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا
وليس له المن والفداء، وإن كان الأسير أخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب
والقتال كان مخيرا بين المن والمفاداة إما بالمال أو بالنفس وبين الاسترقاق وضرب
الرقاب، فإن أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وصار حكمهم حكم المسلم لقوله تعالى:
فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم، ولقوله تعالى: فإن انتهوا فلا عدوان إلا على
الظالمين.
فصل:
وقوله تعالى: يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى، خاطب نبيه ع
وأمره بأن يقول لمن حصل في يده من الأسارى، وسماه في يده لأنه بمنزلة ما قبض
في يده بالاستيلاء عليه، ولذلك يقال للملك المتنازع فيه: لمن اليد؟
وقوله تعالى: إن يعلم الله في قلوبكم خيرا، أي إسلاما: يؤتكم خيرا مما أخذ
منكم، من الفداء.
روي عن العباس أنه قال: كان معي عشرون أوقية فأخذت مني ثم أعطاني
مكانها عشرين عبدا ووعدني المغفرة، قال: وفي نزلت وفي أصحابي هذه الآية.
" وإن يريدوا خيانتك " بنقض العهد " فقد خانوا الله من قبل " بأن خرجوا إلى بدر
وقاتلوا المسلمين مع المشركين فأمكن الله منهم بأن غلبوا وأسروا، فإن خانوا ثانيا
فسيمكن الله منهم مثل ذلك.
وأما قوله تعالى: ما كان لنبي أن يكون له أسرى، فالمعنى ما كان لنبي أن يحتبس
كافرا للفداء والمن حتى يثخن في الأرض، والإثخان في الأرض تغليظ الحال بكثرة
القتل. " تريدون عرض الدنيا " أي الفداء، وسمي متاع الدنيا عرضا لقلة لبثه. وهذه
الآية نزلت في أسارى بدر قبل أن يكثر أهل الاسلام، فلما كثر المسلمون قال تعالى:
125

فأما منا بعد وإما فداءا، وهو قول ابن عباس وقتادة.
فإن قيل: كيف يكون القتل فيهم كان أصلح وقد أسلم منهم جماعة، ومن علم الله
من حاله أنه يصير مؤمنا يجب تبقيته.
قلنا: من يقول أن تبقيته واجبة، يقول أن الله أراد أن يأمرهم بأخذ الفداء، وإنما
عاتبهم على ذلك لأنهم بادروا إليه قبل أن يؤمروا به.
فصل:
فإن قيل: هل كان الجهاد واجبا على أهل كل ملة أم لا؟
قلنا: الزجاج استدل بقوله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة
والإنجيل والقرءان، على أن الجهاد كان واجبا على أهل كل ملة لعموم اللفظ فيها،
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع،
أيام شريعة عيسى ع " وبيع " في أيام شرع موسى ع " ومساجد " في
أيام شريعة محمد ص. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: أ لم تر إلى
الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل
الله، وكان سبب سؤالهم هذا استذلال الجبابرة من الملوك الذين كانوا في زمانهم
إياهم، وأنكروا لما بعث الله لهم طالوت ملكا فإنه لم يؤت سعة من المال، فرد الله
عليهم: إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، أي هو أولى بالملك
فإنه أعلم وأشجع منكم، وهذا يدل على أن من شرط الإمام أن يكون أعلم رعيته.
ثم قال تعالى: وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة، فنص
عليه بالمعجز، وهذا يدل على أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه، إلى أن قال:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، أي يدفع الله بالبر عن الفاجر
الهلاك.
126

باب
حكم ما أخذ من دار الحرب بالقهر وذكر ما يتعلق به:
قال الله تعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا، أباح الله للمؤمنين بهذه الآية أن
يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين بالقهر من دار الحرب، ولفظه وإن كان لفظ الأمر
فالمراد به الإباحة ورفع الحظر، والغنيمة ما أخذ بالقهر من دار الحرب.
والفرق بين الحلال والمباح أن الحلال من حل العقد في التحريم، والمباح من التوسعة
في الفعل وإن اجتمعا في الحل.
وقد ذكرنا في باب الخمس أن جميع ما يغنم من بلاد الشرك يخرج منه الخمس فيفرق
في أهله الذين ذكرناهم هناك والباقي على ضربين: فالأرضون والعقارات لجميع
المسلمين، وما يمكن نقله للمقاتلة ولمن حضر القتال خاصة وإن لم يقاتل للفارس سهمان
وللراجل سهم، وقال قوم: للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم، وهذا عندنا إذا كان معه
فرسان أو أفراس جماعة. وقيل: إن النبي ع فتح مكة عنوة ولم يقسم أرضها
بين المقاتلة، وقال قوم: فتحها سلما.
وروي: أن سرية بعثها النبي ص فمروا برجل فقال: إني مسلم،
فلم يقبل أميرهم أسامة أو المقداد ذلك وقتله وأخذ غنيمة له، فأنكر النبي ع
ذلك فأنزل الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا
لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم
كثيرة.
فصل:
وقال تعالى: وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم.
تقديره اذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين إما العير عير قريش وإما قريشا.
عن الحسن: كان المسلمون يريدون العير ورسول الله يريد ذات الشوكة لما وعده الله،
127

فروي: أن النبي ص لما بلغه خروج قريش لحماية العير شاور أصحابه،
فقال قوم: خرجنا غير مستعدين للقتال، وقال المقداد: امض لما أمرك الله به فوالله لو
دخلت بنا الجمر لاتبعناك، فجزاه خيرا وأعاد الاستشارة، فقالوا: امض يا رسول الله لما
أردت، فسار ع ونشطه ذلك، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله
وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم، وروي: أن أحدا لم يشاهد
الملائكة يوم بدر إلا رسول الله.
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين،
الداعي رسول الله، ولقلة عددهم استغاث بالله فأمدهم بألف من الملائكة مردفين
مثلهم، ومعناه على هذا التأويل مع كل ملك ملك ردف له فقتلوا سبعين وأسروا سبعين.
فصل:
وأما قوله تعالى: وتلك الأيام نداولها بين الناس، أي نصرفها مرة لفرقة ومرة
عليها ليمحص الله المؤمنين بذلك من الذنوب ويخلصهم به ويهلك الكافرين بالذنوب.
فإن قيل: لم جعل الله مداولة الأيام بين الناس وهلا كانت أبدا للأولياء؟
قلنا: ذلك تابع للمصلحة وما تقتضيه الحكمة أن يكونوا تارة في شدة وتارة في رخاء
فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الطاعة واحتقار الدنيا الفانية المنتقلة من قوم إلى قوم حتى
يصير الغني فقيرا والفقير غنيا والنبيه خاملا والخامل نبيها، فتقل الرغبة حينئذ فيها
ويقوى الحرص على غيرها مما نعيمه دائم.
والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة.
" نداولها " أي نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة
لهؤلاء، كقوله:
فيوما علينا ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر
وفي أمثالهم: الحرب سجال.
وليعلم الله الذين آمنوا، فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المعلل محذوفا، معناه واستمر التائبون على الإيمان من الذين على
128

حرف فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، يعني فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من
الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت، وإلا فالله لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها.
والثاني: أن تكون العلة محذوفة، " وليعلم " عطف عليه، معناه وفعلنا ذلك ليكون
كيت وكيت وليعلمهم علما، فتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات،
وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم
وليبصرهم أن العبد يسوؤه ما يجري عليه من المصائب ولا يشعر أن الله في ذلك من المصالح
ما هو غافل عنه.
ويتخذ منكم شهداء، أي وليكرم ناسا منكم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد
وليصفيهم من الذنوب.
" ويمحق الكافرين " يعني إن كانت الدولة على المؤمنين فللاستشهاد والتمحيص
وغير ذلك مما هو أصلح لهم، وإن كانت على الكفار فلمحقهم ومحو آثارهم.
فصل:
ثم قال تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم،
" أم " منقطعة، ومعنى الهمزة فيها الانكار، ومعنى: لما يعلم الله، أي لما تجاهدوا لأن
العلم يتعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه لأنه منتف بانتفائه، يقول
القائل: ما علم الله في فلان خيرا، يريد ما فيه خير حتى يعلمه.
ثم خاطب الذين لم يشهدوا بدرا فقال: ولقد كنتم تمنون الموت، وكانوا يتمنون
أن يحضروا مشهدا مع النبي ع ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر،
وهم ألحوا على رسول الله ص في الخروج إلى المشركين، وكان رأيه في
الإقامة بالمدينة للوحي به. يعني وكنتم تتمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته " فقد
رأيتموه وأنتم تنظرون " أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل من قتل من إخوانكم
وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا، وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت وعلى ما تسببوا له من
خروج رسول الله ص بإلحاحهم عليه ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده.
129

فإن قيل: كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر على المؤمن؟
قلنا: قصد متمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لا غير فلا يذهب وهمه إلى ذلك
المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصدا إلى حصول المأمول من
الشفاء ولا يخطر بباله أن منه جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنفيقا لصناعته، وإذا
ثبت ذلك فتمنيهم الشهادة إنما هو بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا لا بقتل المشركين لهم
وإرادتهم ذلك.
باب المهادنة:
وقوله تعالى: إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم
يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم.
الهدنة والمعاهدة واحدة، وهي وضع القتال وترك الحرب إلى مدة من غير عوض،
وذلك جائز لقوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، وقد صالح النبي ص
قريشا بالحديبية على ترك القتال عشر سنين، فإذا ثبت جوازه فإن كان في الهدنة
مصلحة للمسلمين ونظر لهم في أن يرجو الإمام منهم الدخول في الاسلام أو بذل الجزية
فعل ذلك، وإذا لم يكن للمسلمين مصلحة بأن يكون العدو ضعيفا قليلا وإذا ترك قتالهم
اشتدت شوكتهم وقووا فلا تجوز الهدنة لأن فيها ضررا على المسلمين.
وإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنص القرآن وهو
قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، ولا يجوز إلى زيادة عليها بلا خلاف لقوله تعالى:
فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، فاقتضى ذلك قتلهم
بكل حال، وخرج قدر الأربعة الأشهر بدليل الآية الأولى وبقي ما عداه على عمومه،
هذا إذا كان الإمام مستظهرا على المشركين، فإن كانوا هم مستظهرين لقوتهم وضعف
المسلمين - أو كان العدو بالبعد منهم وفي قصدهم التزام مؤمن كثيرة - فيجوز أن يهادنهم
إلى عشر سنين لأن النبي ص هادن قريشا إلى عشر سنين ثم نقضوها هم
من قبل نفوسهم.
130

فصل:
وقوله تعالى: أوفوا بالعقود، يدل على أن الإمام إذا عقد لعدو من المشركين عقد
الهدنة إلى مدة فعليه الوفاء إلى انقضاء تلك المدة، فإن خالف جميعهم في ذلك انتقضت
الهدنة، وإن خالف بعضهم ولم يكن منهم إنكار بقول أو بفعل كان نقضا للهدنة في
حق جميعهم، وإن كان منهم إنكار لذلك كان الباقون على صلحه دون المناقضين، وإذا
خاف الإمام من المهادنين خيانة جاز له أن ينقض العهد لقوله تعالى: وإما تخافن من
قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء.
ولا تنتقض الهدنة بنفس الخوف بل للإمام نقضها، فإذا نقضها ردهم إلى مأمنهم
لأنهم دخلوا إليه من مأمنهم، وقد أمر الله تعالى بهذه الآية نبيه ص أنه
متى خاف ممن بينه وبينه عهد خيانة أن ينبذ إليه عهده على سواء، أي على عدل،
وقيل: على استواء في العلم به أنت وهم في أنكم حرب لئلا يتوهموا أنك نقضت العهد
بنصب الحرب.
فإن قيل: كيف جاز نبذ العهد ونقضه بالخوف من الخيانة؟
قلنا: إنما فعل ذلك لظهور أمارات الخيانة التي دلت على نقض العهد ولم يشتهر ولو
اشتهرت لم يجب النبذ.
باب ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال الله تعالى: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون
عن المنكر.
" ولتكن " أمر لأن لام الإضافة لا تسكن.، وتسكين اللام يؤذن أنه للجرم.
وقوله تعالى: " منكم " - من - للتبعيض عند أكثر المفسرين لأن الأمر بإنكار
المنكر والأمر بالمعروف متوجه إلى فرقة منهم غير معينة لأنه فرض على الكفاية فأي فرقة
قامت به سقط عن الباقين. وقال الزجاج: وليكن جميعكم، و " من " دخلت ليحض
المخاطبين من سائر الأجناس كما قال: فاجتنبوا الرجس من الأوثان، فعلى هذا الأمر
131

بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الأعيان لا يسقط بقيام البعض عن الباقين.
و " الأمة " الجماعة، و " المعروف " به الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على
حسنه، وربما كان واجبا وربما كان ندبا، فإن كان واجبا فالأمر به واجب، وإن
كان ندبا فالأمر به ندب. و " المنكر " هو
القبيح، فالنهي كله واجب، والإنكار هو إظهار كراهة الشئ لما فيه من وجه القبح، ونقيضه الإقرار وهو إظهار تقبل الشئ من
حيث هو صواب وحكمة وحسن.
ولا خلاف أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على ما ذكرناه، واختلف
المتكلمون أيضا في وجوبهما فقيل: إنه من فروض الكفايات، وقال آخرون: هو من
فروض الأعيان، وهو الصحيح، وقال بعض أصحابنا: إنهما ربما يجبان على التعيين
وربما يجبان على الكفاية.
فصل:
ويدل على وجوبهما زائدا على ما ذكرناه قوله تعالى: الذين إن مكناهم في
الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وذلك
لأن ما رغب الله فيه فقد أراده، وكل ما أراده من العبد شرعا فهو واجب إلا أن يقوم
دليل على أنه نفل ولأن الاحتياط يقتضي ذلك.
و " المعروف " الحق وسمي به لأنه يعرف صحته، وسمي " المنكر " منكرا لأنه لا
يمكن معرفة صحته بل ينكر والناس اختلفوا في ذلك فقال قوم: إن طريق وجوب إنكار
المنكر العقل لأنه كما يجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهة
وإلا كان تاركه بمنزلة الراضي به، وقال آخرون وهو الصحيح عندنا: إن طريق وجوبه
السمع، وأجمعت الأمة على ذلك، ويكفي المكلف الدلالة على كراهته من جهة الخبر وما
جرى مجراه.
فإن قيل: هل يجب في إنكار المنكر حمل السلاح؟
قلنا: نعم إذا احتيج إليه بحسب الإمكان لأنه تعالى قد أمر به، فإذا لم ينجع فيه
132

الوعظ والتخويف ولا التناول باليد وجب حمل السلاح لأن الفريضة لا تسقط مع
الإمكان إلا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد، إلا أنه لا يجوز أن يقصد القتال إلا
وغرضه إنكار المنكر.
وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من إنكار المنكر لا يجوز الإقدام عليه إلا بإذن
سلطان الوقت، ومن خالفنا جوز ذلك من غير الإذن مثل الدفاع عن النفس سواء.
فصل:
أما قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر، فقد أوجب الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما تقدم من قوله: ولتكن
منكم أمة، ثم مدح على قوله والتمسك به كما مدح بالإيمان، وهذا يدل على وجوبهما.
وقد بينا اختلاف المفسرين والمتكلمين في قوله " منكم أمة " أنها للتبعيض
أو للتبيين والأولى أن يكون للتبيين، والمعنى كونوا أمة تأمرون كقوله تعالى: كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون. ولا يصح الاستدلال على أنها للتبعيض بأن ذلك لا يصح إلا
ممن علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته وكيف يباشر، وأن الجاهل
ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة،
وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا لأن هذا كله من شرائطهما.
وشرائط وجوبهما ثلاثة: أن يعلم المعروف معروفا والمنكر منكرا، ويجوز تأثير
إنكاره، ولا يكون فيه مفسدة.
فإن قيل: كيف يباشر إنكار المنكر؟
قلنا: يبتدئ بالسهل، فإن لم ينفع ترقي إلى الصعب لأن الغرض كف المنكر، قال
تعالى: فأصلحوا بينهما، ثم قال: فقاتلوا.
فإن قيل: فمن يباشره؟
قلنا: كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه.
وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الانكار لأن قبحه معلوم لكل
133

أحد، وأما الانكار الذي بالقتال فالإمام وخلفاؤه أولى لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم
عدتها.
فإن قيل: فمن يؤمر وينهى؟
قيل: كل مكلف، وغير المكلف إذا هم بضرر غيره منع كالصبيان والمجانين،
وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها كما يؤخذون بالصلاة ليمرنوا عليها.
فإن قيل: هل ينهى عن المنكر من يرتكبه؟
قيل: نعم يجب عليه لأن ترك ارتكابه وإنكاره واجبان عليه، فبترك أحد الواجبين لا
يسقط عنه الواجب الآخر، وقد قالوا عليهم السلام: مروا بالخير وإن لم تفعلوا.
فإن قيل: كيف قال تعالى: يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف؟
قلنا: الدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك والأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر فخاص، فجئ بالعام ثم عطف عليه الخاص إيذانا بفضله كقوله
تعالى: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.
فصل:
وإنما قال تعالى: كنتم خير أمة، ولم يقل: أنتم خير أمة، لأمور:
أحدها: أن ذلك قد كان في الكتب المتقدمة فذكر " كنتم " لتقدم البشارة به،
ويكون التقدير له: كنتم خير أمة في الكتب الماضية وفي اللوح المحفوظ، فحققوا ذلك
بالأفعال الجميلة.
الثاني: أنه بمنزلة قوله تعالى: وكان الله غفورا رحيما، لأن مغفرته المستأنفة
كالمغفرة الماضية في تحقيق الوقوع لا محالة، وفي " كان " على هذا تأكيد وقوع الأمر لأنه
بمنزلة ما قد كان.
الثالث: " كان " تامة، أي حدثتم خير أمة، وخير أمة نصب على الحال، قال
مجاهد: معناه كنتم خير أمة إذا فعلتم ما تضمنته الآية من الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر والعمل بما أوجبه.
134

فإن قيل: لم يقال للحسن: المعروف، مع أن القبيح معروف أيضا أنه قبيح ولا
يطلق عليه اسم المعروف؟
قلنا: لأن القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه والحسن بمنزلة النبيه الذي يعرف
بجلالته وعلو قدره ويعرف أيضا بالملابسة الظاهرة والمشاهدة، فأما القبح فلا يستحق
هذه المنزلة.
وقال أهل التحقيق: نزلت هذه الآية في من هذه صفته من هذه الأمة، وهم من دل
الدليل على عصمته لأن هذا الخطاب لا يجوز أن يكون المراد به جميع الأمة لأن أكثرها
بخلاف هذه الصفة، بل منها من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف. وقد حث الله عليه بما
حكى عن لقمان ووصيته " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر
واصبر على ما أصابك ".
ويجوز أن يكون هذا عاما في كل ما يصيبه من المحن، وأن يكون خاصا بما يصيبه
فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ممن يبعثه على الخير وينكر عليه الشر
أن ذلك ما عزمه الله من الأمور، أي قطعه قطع إيجاب وإلزام، وهذا الضرر مثل سب
عرض أو ضرب لا يؤدى إلى ضرر في النفس عظيم أو في ماله أو بغيره لأن كل ذلك
مفسدة.
فصل:
وقوله تعالى: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.
روي عن أمير المؤمنين ع: أن المراد بالآية الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر. وعن أبي جعفر ع:
إنما نزلت في على ع. " يشري نفسه "
يبيعها، أي يبذلها في الجهاد ويأمر وينهى حتى يقتل.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم،
أي دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم مع نصر الله إياكم " واعلموا أن الله
(تعالى) يحول بين المرء وقلبه " بالموت أو بالجنون وبزوال العقل فلا يمكنه استدراك ما
135

فات.
ثم قال: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. عن ابن عباس: أمر الله
المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب.
وقال تعالى: ليسوا سواء من أهل الكتاب... الآية. عن ابن عباس: نزل هذه
الآية لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه، قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا
أشرارنا، فأنزله الله إلى قوله: وأولئك من الصالحين.
وقوله: يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، صفة
قوله: أمة قائمة.
وليس طريق وجوبهما العقل، وإنما طريق وجوبهما السمع وعليه إجماع الأمة،
وإنما الواجب بالعقل كراهة المنكر فقط، غير أنه إذا ثبت بالسمع وجوبه فعلينا إزالة
المنكر بما نقدر عليه من الأمور الحسنة دون القبيحة لأنه لا يجوز إزالة قبيح بقبيح آخر.
وليس لنا أن نترك أحدا يعمل بالمعاصي إذا أمكننا منعه منها سواء كان المعصية من
أفعال القلوب مثل إظهار المذاهب الفاسدة أو من أفعال الجوارح، ثم ننظر فإن كان
أمكننا إزالته بالقول فلا مزيد عليه وإن لم يمكن إلا بالمنع من غير إضرار لم يزد على
ذلك، فإن لم يتم دفعه إلا بالحرب دفعناه، وإن كان عند أكثر أصحابنا هذا الجنس
موقوفا على إذن السلطان فيه.
وإنكار المذاهب الفاسدة لا يكون إلا بإقامة الحجج والبراهين والدعاء إلى الحق
وكذا إنكار أهل الذمة، فأما الانكار باليد فمقصور على من يفعل شيئا من معاصي
الجوارح أو يكون باغيا على إمام الحق فإنه يجب قتاله على ما نذكر حتى يفئ إلى الحق
وسبيلهم سبيل أهل الحرب فإن الانكار عليهم باليد والقتال حتى يرجعوا إلى الاسلام أو
يدخلوا في الذمة.
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا، أمرهم الله بأن يقوا
أنفسهم، أي يمنعوها ويمنعوا أهليها نارا، وإنما يمنعون نفوسهم بأن يعملوا الطاعات،
ويمنعوا أهليهم بأن يدعوهم إليها ويحثوهم على فعلها، وذلك يقتضي أن الأمر بالمعروف
136

والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون للأقرب فالأقرب.
باب أحكام أهل البغي:
قال الله تعالى: انفروا خفافا وثقالا، أي شبابا وشيوخا وأغنياء وفقراء ونشاطا
وغير نشاط وركبانا ومشاة ومشاغيل وغير مشاغيل وذوي العيال والميسرة وذوي العسرة
وقلة العيال.
" وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم " ظاهر الآية يقتضي وجوب مجاهدة البغاة كما يجب
مجاهدة الكفار لأنه جهاد في سبيل الله.
و " الباغي " هو من قاتل إماما عادلا يجب جهاده على كل من يستنهضه الإمام،
ولا يجوز قتالهم إلا باذنه، وأصل البغي في اللغة الطلب، قال الله تعالى: فمن اضطر غير
باع ولا عاد. قال سعيد بن جبير ومجاهد: غير باع على إمام المسلمين ولا عاد بالمعصية
طريقة المحقين، وهو المروي عن الباقر والصادق ع. وقال الرماني: إن هذا
لا يسوع، قال: لأنه تعالى لم يبح لأحد قتل نفسه بل حظر ذلك عليه. وهذا الذي ذكره
غير صحيح لأن من بغى على إمام عادل فأدى ذلك إلى تلف نفسه فهو المعرض للقتل
نفسه، كما لو قتل في نفس المعركة فإنه المهلك لها، فلا يجوز لذلك استباحة ما حرم الله
كما لا يجوز له أن يستبقي نفسه بقتل غيره من المسلمين. والرخصة تتناول الميتة، وإن
كانت عند المفسرين لصورة المجاعة فليست لمكان المجاعة على الإطلاق، بل يقال إنما
ذلك للمجاعة التي لم يكن هو المعرض نفسه لها، فأما إذا عرض نفسه فلا يجوز له
استباحة المحرم كما قلناه في قتل نفس الغير ليدفع عن نفسه القتل.
فصل:
وإذا قوتل البغاة فلا يبتدأون بالقتال إلا بعد أن يدعوا إلى ما ينكرون من أركان
الاسلام، كما فعل أمير المؤمنين ع بالخوارج، قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، فالجدال فتل الخصم عن
137

مذهبه بطريق الحجاج وحل شبهه.
و " التي هي أحسن " قيل: الرفق والوقار والسكينة مع نصرة الحق بالحجة. و
" الحكمة " المقالة الحسنة المحكمة الصحيحة التي تزيل الشبهة وتوضح الحق. و
" الموعظة الحسنة " هي أن لا تخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم بها،
أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وجادلهم بالطريقة التي فيها اللين
والرفق من غير فظاظة ولا تعسف، والداعي هو الإمام أو من يأمره هو.
ولا ينصرف من قاتلهم بأمر الإمام إلا بعد الظفر أو يفيئوا إلى الحق، ومن رجع عنهم
من دون ذلك كان فارا من الزحف، وقد أشار إلى هذا كله رسول الله ص
بقوله: حربك يا علي حربي، وسلمك سلمي، أي حكم حربك حكم حربي.
باب حكم المحاربين والسيرة فيهم:
قال الله تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا
أن يقتلوا.
فمعنى " يحاربون الله " يحاربون أولياء الله والمؤمنين لأنه لو كان المراد مقصورا على
محاربة رسول الله ع لكان حكم الآية يسقط بوفاته، وأجمع المسلمون على أن هذا
الحكم ثابت.
ومعنى " يسعون في الأرض فسادا " يسرعون في الفساد، وأصل السعي سرعة المشي.
والمحارب عندنا هو الذي يشهر السلاح ويخيف السبل سواء كان في المصر أو خارج
المصر، فإن اللص المجاهر في المصر وغير المصر سواء، وبه قال الأوزاعي ومالك والليث
بن سعيد وابن لهيعة والشافعي والطبري، وقال قوم: هو قاطع الطريق في غير المصر،
ذهب إليه أبو حنيفة.
ومعنى " يحاربون الله " أي يحاربون أولياء الله ويحاربون رسوله لما ذكرنا
" ويسعون في الأرض فسادا " هو ما قلناه من إشهار السيف وإخافة السبيل.
وجزاؤهم على قدر الاستحقاق، إن قتل قتل، وإن أخذ المال وقتل قتل وصلب،
138

وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخاف السبيل فقط فإنما
عليه النفي لا غير. هذا مذهبنا، وهو المروي عنهما ع، وهو قول ابن عباس
وأبي مجلز وسعيد بن جبير والسدي وقتادة والربيع، وبه قال الجبائي والطبري، وقال
الشافعي: إن أخذ المال جهرا كان للإمام صلبه حيا وإن لم يقتل.
وموضع " أن يقتلوا " رفع، وتقديره: إنما جزاؤهم القتل أو الصلب أو القطع.
ومعنى " إنما " ليس جزاؤهم إلا هذا. قال الزجاج: إذا قال: جزاؤك عندي كذا، جاز
أن يكون معه غيره، فإذا قال: إنما جزاؤك كذا، كان معناه ما جزاؤك إلا كذا.
فصل:
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس والضحاك: نزلت في قوم كان
بينهم وبين النبي ص معاهدة فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض فخبر الله
نبيه فيما ذكر في الآية، وقال الحسن وعكرمة: نزلت في أهل الشرك، وقال قتادة وأنس
وابن جبير والسدي: أنها نزلت في العرنيين والعكليين حين ارتدوا وأفسدوا في الأرض
فأخذهم النبي ع وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم، وفي بعض
الأخبار: أنه أحرقهم بالنار.
ثم اختلفوا في نسخ هذا الحكم الذي فعله بالعرنيين، فقال البلخي وغيره: نسخ ذلك
بنهيه عن المثلة، ومنهم من قال: حكمه ثابت في نظرائهم لم ينسخ، وقال آخرون: لم
يسمل النبي ع أعينهم وإنما أراد أن يسمل فأنزل الله آية المحاربة، والذي
نقوله: إن كان فيهم طائفة ينظرون لهم حتى يقتلوا قوما سملت أعين الرائية وأجرى على
الباقين ما ذكرناه، وقال قوم: الإمام مخير فيهم، فمن قال بالأول ذهب إلى أن " أو " في
الآية تقتضي التفصيل، ومن قال بالثاني ذهب إلى أنها للتخيير.
فصل:
ومعنى قوله: وأرجلهم من خلاف، معناه أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى
139

ولو كان موضع " من " على أو الباء لكان المعنى واحدا.
وقوله: أو ينفوا من الأرض، في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يخرج من بلاد الاسلام ينفى من بلد إلى بلد إلا أن يتوب ويرجع، وهو
الذي نذهب إليه، وقال أصحابنا: لا يمكن أيضا دخول بلد الشرك ويقاتل المشركون
على تمكينهم من ذلك حتى يتوبوا ويرجعوا إلى الحق.
الثاني: أن ينفى من بلد إلى غيره.
الثالث: أن النفي هو الحبس، ذهب إليه أبو حنيفة.
وأصل النفي الإهلاك، ومنه النفي والإعدام، ومنه النفاية لردئ المتاع. وقال
الفراء: النفي أن يقال: من قتله فدمه هدر.
ثم قال: ذلك لهم خزي في الدنيا. والخزي الفضيحة، أي أن ما ذكرناه من
الأحكام لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب زيادة على ذلك، وهذا يبطل قول من
قال: إقامة الحدود تكفير للمعاصي، لأنه تعالى مع إقامة الحدود عليهم بين أن لهم في
الآخرة عذابا عظيما، أي أنهم يستحقون ذلك، ولا يدل على أنه تعالى يفعل بهم ذلك
لا محالة لأنه يجوز أن يعفو عنهم.
فصل:
ثم قال تعالى: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، أي لكن التائبين من قبل
القدرة عليهم فالله غفور رحيم.
ولما بين الله حكم المحارب على ما فصلناه استثني من جملتهم من يتوب مما ارتكبه
قبل أن يؤخذ ويقدر عليه لأن توبته بعد حصوله في قبضة الإمام وقيام البينة عليه بذلك لا
تنفعه ووجب عليه إقامة الحد.
واختلفوا في من تدرأ عنه التوبة الحدود، هل هو المشرك أو من كان مسلما من أهل
الصلاة:
قال الحسن: هو المشرك دون من كان مسلما، فأما من أسلم فإنه لم يؤاخذ بما جناه
140

إلا أن يكون معه عين مال من أخذ منه قائمة فإنه يجب عليه ردها وما عداه يسقط.
أما أمير المؤمنين ع فإنه حكم بذلك في من كان مسلما وهو حارثة بن زيد
لأنه كان خرج محاربا ثم تاب فقبل أمير المؤمنين ع توبته.
وقال الشافعي: تضع توبته حد الله عنه الذي وجب لمحاربته ولا يسقط عنه حقوق
بني آدم، وهو مذهبنا، فعلى هذا إن أسقط الآدمي حق نفسه ويكون ظهرت منه التوبة
قبل ذلك فلا يقام عليه الحدود، وإن لم يكن ظهرت منه التوبة أقيم عليه الحد لأنه
محارب فيتحتم عليه الحد، وهو قول أبي على أيضا. ولا خلاف أنه إذا أصيب المال
بعينه في يده أنه يرد إلى أهله.
فأما المشرك المحارب فمتى أسلم وتاب سقطت عنه الحدود سواء كان ذلك منه قبل
القدرة عليه أو بعدها بلا خلاف.
فأما السارق إذا قدر عليه بعد التوبة وتكون التوبة منه بعد إقامة البينة فإنه لا يسقط
عنه الحد وإن كان قبل قيام البينة أسقطت عنه، وقال قوم: لا تسقط التوبة عن السارق
الحد، ولم يفصل وادعى في ذلك الاجماع.
وقيل: إن الله جعل هذا الحكم للمحارب بالاستثناء بقوله تعالى: فاعلموا أن الله
غفور رحيم، ولم يكن غير المحارب في معناه فيقاس عليه لأن ظاهر هذا التفرد، وليس
كذلك هو في المحارب الممتنع نفيه.
ثم قال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة، أي ما يتقرب به إلى
الله " وجاهدوا في سبيل الله " أي جاهدوا أعداءكم في وقت الحاجة إليه وجاهدوا
أنفسكم في كل وقت.
أما قوله تعالى: ويسعون في الأرض فسادا، أي مفسدين أو لأن سعيهم في الأرض
لما كان على طريق الفساد نزل منزلة " ويفسدون في الأرض " فانتصب " فسادا "
على المصدر أو حالا أو مفعولا له.
وقيل: النفي أن ينفى من بلده، وكانوا ينفونهم إلى بلد في أقصى تهامة يقال له "
دهلك " وإلى " ناصع " وهو من بلاد الحبشة. ومن قال: النفي من بلد إلى بلد، أي لا
141

يزال يطلب وهو هارب فزعا.
وقوله تعالى: إلا الذين، استثناء من المعاقبين عقاب قطع الطريق خاصة، وأما
حكم القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء إن شاؤوا عفوا وإن شاؤوا استوفوا.
باب حكم المرتدين وكيفية حالهم:
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه... الآية.
اختلفوا في من نزلت هذه الآية، والصحيح ما روي عن الباقر والصادق ع
: أنها نزلت في أهل البصرة ومن قاتل أمير المؤمنين ع، والذي يقوى
هذا التأويل أن الله وصف من عناه بالآية بأوصاف وجدنا أمير المؤمنين ع
مستكملا لها بالإجماع لأنه تعالى قال عقيبه: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، وقد
شهد النبي ص لأمير المؤمنين ع بما يوافق لفظ الآية في قوله وقد
ندبه لفتح خيبر بعد فرار من فر منها: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه
الله ورسوله، فدفعها إلى على ع فكان من ظفره ما وافق خبر النبي ع.
ثم قال: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، فوصف من عناه بالتواضع
للمؤمنين والرفق بهم والعزة للكفار، والعزيز على الكافرين هو الممتنع من أن ينالوه مع
شدة نكايته فيهم، وهذه أوصاف أمير المؤمنين ع.
ثم قال: يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ولا يخفى قصور كل
مجاهد من منزلته ولم يقارب أحد رتبته، وهو الذي ما ولى الدبر قط فاختصاصه بالآية
أولى.
وروي أنه قال يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم، و تلا: يا أيها
الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه، ومثل ذلك قال عمار وحذيفة وابن عباس.
142

فصل:
وقرئ " من يرتد " و " من يرتدد "، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل
كونها.
وقيل: كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله ص
: بنو مدلج، ورئيسهم ذو الخمار، وهو الأسود العنسي وكان كاهنا تنبأ باليمن
واستوى على بلاده وأخرج عمال رسول الله فبيته فيروز الديلمي فقتله، وأخبر رسول الله
ع بقتله ليلة قتل، فسر المسلمون وقبض رسول الله ص من الغد.
وبنو حنيفة قوم مسيلمة الذي تنبأ. وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ أيضا ثم أسلم
وحسن إسلامه. وثمان بعد وفاة رسول ص وكفى الله أمرهم.
وقوله تعالى: فسوف يأتي الله بقوم، قيل: هم الأنصار، وقيل: ضرب رسول الله
يده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه، ثم قال: لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله
رجال من فارس، والتقدير فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم مقامهم.
وإنما لم يقل " أذلة للمؤمنين " لأن الذل يضمن معنى الحنو والعطف، كأنه قيل:
عاطفين عليهم على وجه التذلل.
فصل:
وقوله تعالى: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله
ليغفر لهم، يعني بذلك أهل النفاق أنهم أظهروا الإيمان ثم ارتدوا ثم أظهروا الإيمان ثم
ازدادوا كفرا بموتهم على الكفر.
ثم اعلم أن المرتد عندنا على ضربين:
مرتد عن فطرة الاسلام بين مسلمين متى كفر فإنه يجب قتله ولا يستتاب ويقسم
ماله بين ورثته وتعتد منه زوجته عدة المتوفى عنها زوجها من يوم ارتد.
والآخر من كان أسلم عن كفر ثم ارتد، فهذا يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا وجب
عليه القتل ولا يستتاب أكثر من ذلك.
143

والمرأة إذا ارتدت تستتاب على كل حال، فإن تابت وإلا حبست حتى تموت ولا
تقتل بحال، وفيه خلاف.
وقال تعالى: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا، نزلت في الوليد بن عقبة لما بعثه
رسول الله ص في صدقات بني المصطلق خرجوا يتلقونه فرحا به فظن
أنهم هموا بقتله، فرجع إلى النبي ع فقال: إنهم منعوا زكواتهم، وكان الأمر
بخلافه.
ثم قال: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، يقتل بعضهم بعضا، أي من كان
على ظاهر الإيمان " فأصلحوا بينهما " حتى يصطلحا، فإن بغت إحدى الطائفتين على
الأخرى بأن تطلب ما لا يجوز لها وتطالب الأخرى ظالمة لها فقاتلوا الظالمة حتى ترجع إلى
طاعة الله، فإن رجعت بالقول فلا تميلوا على واحدة منهما وأقسطوا، قيل: نزلت في
قبيلتين من الأنصار وقع بينهما قتال.
باب الزيادات:
قوله تعالى: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق
السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم.
جعل ضمير الأشهر الحرم الهاء والنون في " فيهن " لقلتهن، وضمير شهور السنة الهاء
والألف في " منها " لكثرتها، ولذلك يقولون لأربع خلون في التاريخ ولعشرين بقيت،
وعلى هذا ما جاء في التنزيل: وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، في سورة
البقرة، وقال في سورة آل عمران: إلا أياما معدودات، كأنهم قالوا أولا بطول المدة
التي تمسهم فيها النار، ثم تراجعوا عنه فقصروا تلك المدة. وقيل: الضمير في قوله "
فيهن " أيضا يرجع إلى الشهور وخالف في العبارة كراهة التكرار.
مسألة:
إذا نزل الإمام بالجيش في الغزو على بلد هل له حصره والمنع لمن يريد الخروج منه من
144

الكفار؟
قلنا: له ذلك، لقوله: واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، كما فعل رسول الله
ص فإنه حاصر أهل الطائف.
مسألة:
فإن قيل: لم ترك أمير المؤمنين القتال مع معاوية وقد كان لاح له وجه الظفر ولكن
لما رفعوا المصاحف كف عنهم، هلا كان يضربهم بالسيف حتى يهلكوا أو يفيئوا إلى
أمر الله كما قال تعالى: فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، وقال: وقاتلوهم
حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله؟
الجواب: إنه لما التقى الجمعان دعا أمير المؤمنين ع معاوية وأحزابه إلى ما
في كتاب الله وقال: بيننا وبينكم القرآن، اقتداء منه بحكم الله وبدعائه أهل الكتاب
إلى ما يجدون في التوراة والإنجيل من تصديق محمد وصحة نبوته ص،
فقال في الذين آمنوا منهم بمحمد: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي... الآية، وقال في
الذين وجدوا ذكره فيهما ولم يؤمنوا به: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما
معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به،
وقال: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا
الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم.
ولو أن أمير المؤمنين ع ابتدأ بالقتال قبل إلزام أهل الشام الحجة من
الكتاب دخل في زمرة من قال الله تعالى: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا
فريق منهم معرضون، إلى قوله تعالى: بل أولئك هم الظالمون.
فدعاهم أولا إلى ما في القرآن ليكون من جملة من قال
سبحانه: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك
هم المفلحون.
فعلى ع كان المنقاد لأمر الله والعامل به والراضي بحكمه، ومعاوية
145

وأصحابه كانوا التاركين لأمر الله والمعرضين عن العدل، ولما علموا أنهم متى حاكموا
عليا بما في القرآن وأذعنوا للإنصاف وأقروا لذي الفضل بفضله التزموا الظلم والبغي
وباؤوا بغضب من الله إن لم يفيئوا إلى أمر الله، فلذلك دافعوا التحكيم بكتاب الله في
عنفوان الأمر وأبوا إلا القتال إلى أن ضاق عليهم الأمر وأصابهم وقع السيف ففزعوا إلى
رفع المصاحف هنالك، فرفعوا على الأسل والتجأوا إلى التحكيم الذي قد كان على ع
دعاهم إليه أولا فأبوا.
وإنما كان دعاء على ع إياهم إلى ما في كتاب الله أولا ثقة منه بتحقق
أمره، وعلما بأن الكتاب يحكم له عليهم، وأنهم لو حاكموا عليا ع في أول
ما دعاهم إلى ما في القرآن لوجدوه من السابقين الأولين من المهاجرين، ووجدوه من
المجاهدين الذين لا يقاس بهم القاعدون، ومن المؤمنين بالغيب، ومن أولياء الله الذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن العلماء الذين يتقون الله حق تقاته،
ومن الموفين بالنذر المطعمين على حب الله المسكين واليتيم والأسير، ووجدوا أباه
أبا طالب أشد من حامي رسول الله، ووجدوا معاوية من الطلقاء وأبناء الطلقاء، فلما نابهم
حر القتل أمر برفع المصاحف.
وكان على ع يقول لأهل العراق - حين قالوا له: يا أمير المؤمنين قد أنصفك
حين دعاك إلى ما في الكتاب فإن لم تجبه إلى ذلك شددنا مع العدو عليك فإن الله يقول:
" فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول " - فقال على ع: كلمة حق
يراد بها باطل، اصبروا على ابن هند ساعة يفتح الله لكم.
ولما لم ينجع كلامه فيهم وأبي الذين فسدت قلوبهم من أصحابه إلا النزول عند
حكم معاوية وضع علي ع نفسه موضع المستضعفين المعذورين وعمل على قول
الله: فاتقوا الله ما استطعتم، وكانوا يشتدون عليه ليجيب معاوية إلى ما كان يدعوه
إليه من التحكيم حتى قال: لا رأي لمن لا يطاع. وقد بين الله عذر على ع في
ذلك بقوله تعالى: الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة
صابرة يغلبوا مائتين... الآية، فألف من المؤمنين إذا قاتلوا ألفين من الكافرين هم
146

أكفاء بعضهم لبعض، فإذا استأمن رجل واحد من المؤمنين مرتدا إلى الكفار وصار
الكفار زيادة على الألفين برجل واحد وانحط المؤمنون إلى تسعمائة وتسعة وتسعين فهم في
سعة ورخصة إذا انهزموا ولم يقاتلوا، ولا حرج عليهم متى نقص من ألفهم واحد وزاد
في ألفي الكفار.
فإذا رخص الله للمؤمنين أن ينحجزوا عن قتال الكفار متى نقص واحد من ألف
منهم فزاد على ألفي الكفار فلأن يرخص لمولانا أمير المؤمنين ع أن يمسك عن
قتال قوم كانوا في الأصل أضعاف أضعاف أصحابه، ثم وجد بعض أصحابه وقد صار
أعدى عليه من أعدائه أولى، والله تعالى يقول: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ويقول
تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم، ويقول لمن كانوا أكفاء لأعدائهم كالألف من المؤمنين مع
الألفين من الكفار سواء بعضها لبعض: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا
زحفا فلا تولوهم الأدبار... الآية.
147

غنية النزوع
إلى علمي الأصول والفروع
لحمزة بن علي بن زهرة الحسيني الإسحاقي الحلبي
511 - 585 ه‍ ق
149

كتاب الجهاد
الجهاد فرض من فرائض الاسلام بلا خلاف وجملة ما يحتاج إلى علمه فيه خمسة أشياء:
شرائط وجوبه، وكيف يجب، ومن يجب جهاده، وكيفية فعله، وما يتعلق بذلك من
أحكامه، وأحكام الغنائم.
أما شرائط وجوبه: فالحرية والذكورة والبلوغة وكمال العقل والاستطاعة له
بالصحة والقدرة عليه وعلى ما يفتقر إليه فيه من ظهر ونفقة وأمر الإمام العادل به أو من
ينصبه الإمام أو ما يقوم مقام ذلك من حصول خوف على الاسلام أو على الأنفس
والأموال.
ومتى اختل شرط من هذه الشروط سقط فرض الجهاد بلا خلاف أعلمه، ومع
تكاملها هو فرض على الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط عن غيره بلا خلاف إلا من
ابن المسيب ويدل على ذلك بعد الاجماع قوله تعالى: لا يستوي القاعدون من المؤمنين
غير أولى الضرر. الآية. لأنه تعالى فاضل بين المجاهدين والقاعدين ووعد كلا منهم
الحسنى وهذا يدل على أن القعود جائز وإن كان الجهاد أفضل منه.
وأما من يجب جهاده فكل من خالف الاسلام من سائر أصناف الكفار ومن أظهره
وبغى على الإمام العادل وخرج عن طاعته أو قصد إلى أخذ مال المسلم وما هو في حكمه
من مال الذمي وأشهر السلاح في بر أو بحر أو سفر أو حضر بلا خلاف.
فأما كيفية الجهاد وما يتعلق به وبالغنائم من الأحكام فاعلم أنه ينبغي تأخير لقاء
العدو إلى أن تزول الشمس وتصلي الصلاتان، وأن يقدم قبل الحرب الإعذار والإنذار
151

والاجتهاد في الدعاء إلى الحق، وأن يمسك عن الحرب بعد ذلك كله حتى يبدأ بها العدو
لتحق الحجة عليه ويتقلد بذلك البغي، فإذا عزم أمير الجيش عليها استخار الله تعالى في
ذلك ورغب إليه في النصر وعبأ أصحابه صفوفا وجعل كل فريق منهم تحت راية
أشجعهم وأبصرهم بالحرب وجعل لهم شعارا يتعارفون به وقدم الدارع أمام الحاسر
ووقف هو في القلب، وليجتهد في الوصية لهم بتقوى الله والإخلاص في طاعته وبذل
الأنفس في مرضاته ويذكرهم ما لهم في ذلك من الثواب في الآجل ومن الفضل وعلو
الكلمة في العاجل، ويخوفهم الفرار ويذكرهم ما فيه من عاجل العار وآجل النار.
فإذا أراد الحملة أمر فريقا من أصحابه بها وبقي هو في فريق آخر ليكونوا فئة تتحيز
إليها صفوفهم، فإذا تضعضع لهم العدو زحف هو بمن معه زحفا يبعث من أمامه على
الأخذ بكظم القوم، فإذا زالت صفوفهم عن أماكنها حمل هو حملة واحدة.
ولا يجوز أن يبارز أحد إلا بإذن الإمام أو من نصبه، ولا يجوز أن يفر واحد
من واحد ولا من اثنين ويجوز من ثلاثة فصاعدا، ويجوز قتال العدو بكل ما يرجى به الفتح من نار
ومنجنيق وغيرهما وإن كان فيما بينهم مسلمون إلا إلقاء السم فإنه لا يجوز أن يلقى في
ديارهم، ولا يقاتل في الأشهر الحرم من يرى لها حرمة من الكفار إلا أن يبدأوا فيها
بالقتال.
وجميع من خالف الاسلام من الكفار يقتلون مدبرين ومقبلين ويقتل أسيرهم ويجاز
على جريحهم وكذا حكم البغاة على الإمام إن كان لهم فئة يرجعون إليها، وإن لم يكن
لهم فئة لم يتبع مدبرهم ولم يجهز على جريحهم ولم يقتل أسيرهم.
وأسرى من عدا من ذكرناه من المحاربين على أخذ المال إن كانوا قتلوا ولم يأخذوا
مالا قتلوا، وإن أخذوا مع القتل مالا صلبوا بعد القتل، وإن تفردوا بأخذ المال قطعوا من
خلاف، فإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض بالحبس أو النفي من مصر إلى
مصر، كل ذلك بدليل الاجماع من الطائفة عليه.
ومن لا كتاب له من الكفار لا يكف عن قتاله إلا بالرجوع إلى الحق وكذا حكم
من أظهر الاسلام من البغاة والمحاربين، ومن له كتاب - وهم اليهود والنصارى
152

والمجوس - يكف عن قتالهم إذا بذلوا الجزية ودخلوا تحت شروطها، ولا يجوز
أخذ الجزية من عباد الأوثان سواء كانوا عجما أو عربا ولا من الصابئين ولا من غيرهم بدليل
الاجماع المشار إليه وأيضا قوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقوله
تعالى: وإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، ولم يذكر الجزية، وقوله: قاتلوا
الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله: من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية، فشرط
في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب وهؤلاء ليسوا كذلك.
والجزية ما يؤدونه في كل سنة مما يضعه الإمام على رؤوسهم أو على أرضهم وليس
لها قدر معين بل ذلك راجع إلى ما يراه الإمام بدليل الاجماع المشار إليه ولأن تقدير ذلك
يفتقر إلى دليل شرعي وليس في الشرع ما يدل عليه، وما روي عن أمير المؤمنين ع
من: أنه وضع على كل واحد من أغنيائهم ثمانية وأربعين درهما وعلى من هو
من أوساطهم أربعة وعشرين وعلى من هو من فقرائهم اثني عشر، إنما هو على حسب ما
رآه في وقته وليس بتقدير لها على كل حال. ولا يجوز أخذها إلا من الذكور البالغين
الكاملي العقول.
وإذا أسلم الذمي وقد وجبت عليه الجزية بحول الحول سقطت عنه بالإسلام بدليل
الاجماع المشار إليه، ويعارض المخالف بقوله: الاسلام يجب ما قبله، وبقوله: لا جزية
على مسلم. والجزية تصرف إلى أنصار الاسلام خاصة على ما جرت به السنة من النبي
ص.
وشرائط الجزية: أن لا يجاهروا المسلمين بكفرهم ولا بتناول المحرمات في شريعة
الاسلام ولا يسبوا مسلما ولا يعينوا على أهل الاسلام ولا يتخذوا بيعة ولا كنيسة ولا
يعيدوا ما استهدم من ذلك، وتلزم نصرتهم والمنع منهم ما وفوا بهذه الشروط ومتى أخلوا
بشئ منها صارت دماؤهم هدرا وأموالهم وأهاليهم فيئا للمسلمين لدليل الاجماع المشار
إليه.
ويغنم من جميع من خالف الاسلام من الكفار ما حواه العسكر وما لم يحوه من
الأموال والأمتعة والذراري والأرضين، ولا يغنم ممن أظهر الاسلام من البغاة
153

والمحاربين إلا ما حواه العسكر من الأموال والأمتعة التي تخصهم فقط من غير جهة
غصب دون ما عداها، وللإمام أن يصطفي لنفسه قبل القسمة ما شاء من فرس أو جارية
أو درع أو سيف أو غير ذلك - وهذا من جملة الأنفال - وأن يبدأ بسد ما ينوبه من خلل في
الاسلام وليس لأحد أن يعترض عليه وإن استغرق ذلك جميع الغنيمة، ثم يخرج منها
الخمس لأربابه.
ويقسم ما بقي مما حواه العسكر بين المقاتلة خاصة لكل راجل سهم ولكل فارس
سهمان ولو كان معه عدة أفراس، ويأخذ المولود في دار الجهاد ومن أدرك المجاهدين
للمعونة لهم يأخذ مثل ما يأخذ المقاتل، وحكم غنيمة البحر في القسمة بين من له فرس
ومن ليست له حكم غنيمة البر سواء كل ذلك بدليل الاجماع المشار إليه.
وما لم يحوه العسكر من غنائم من خالف الاسلام من الكفار من أرض وعقار
وغيرها فالجميع للمسلمين المقاتل منهم وغير المقاتل والحاضر والغائب، وهذه الأرض
المفتتحة عنوة بالسيف لا يجوز التصرف فيها ببيع ولا وقف ولا غيرهما وللإمام أن يقبلها
بما يراه وعلى المتقبل - بعد اخراج حق القبالة فيما بقي في يده - الزكاة إذا تكاملت
شروطها وأما أرض الصلح فهي أرض الجزية إذا شاء الإمام أن يضعها على الأرض بدلا
من الرؤوس وتسمى الخراجية وقد بينا أن ذلك يختص بأهل الكتاب وهذه الأرض يصح
التصرف فيها لأربابها بسائر أنواع التصرف، وحكم ما يؤخذ من هذه الأرض حكم
جزية الرؤوس يسقط بالإسلام وإذا بيعت الأرض لمسلم سقط خراجها وانتقلت الجزية
إلى رأس بائعها به.
وأما أرض الأنفال وهي كل أرض أسلمها أهلها من غير حرب أو جلوا عنها، وكل
أرض مات مالكها ولم يخلف وارثا بالقرابة ولا بولاء العتق، وبطون الأودية،
ورؤوس الجبال، والآجام، وقطائع الملوك من غير جهة غصب، والأرضون الموات،
فللإمام خاصة دون غيره وله التصرف فيها بما يراه من بيع أو هبة أو غيرهما وأن يقبلها بما
يراه وعلى المتقبل - بعد حق القبالة وتكامل الشروط - ما بيناه من الزكاة.
ومن أخذ أسيرا قبل أن تضع الحرب أوزارها وجب قتله ولم يجز للإمام استبقاؤه
154

وإن أخذ بعد الفتح فالإمام مخير بين المن عليه بالإطلاق أو المفاداة أو الاستعباد، وإذا
غلب الكفار على شئ من أموال المسلمين وذراريهم ثم ظهر عليهم المسلمون فأخذوا ذلك
فالذراري خارجون عن الغنيمة وما عداهم من الأمتعة والرقيق إن وجده صاحبه قبل
القسمة أخذه بغير عوض وإن وجده بعدها أخذه ودفع الإمام إلى من وقع في سهمه قيمته
من بيت المال لئلا تنتقض القسمة، ودليل ذلك كله الاجماع المتكرر وفيه الحجة.
155

الوسيلة إلى نيل الفضيلة
لعماد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي
المعروف بابن حمزة
157

كتاب الجهاد
الجهاد فرض من فرائض الاسلام وهو فرض على الكفاية إذا قام به من يكفي سقط
عن الباقين، وإنما يجب بثلاثة شروط: أحدها: حضور إمام عادل أو من نصبه الإمام
للجهاد والثاني: أن يدعو إليه والثالث: اجتماع سبع خصال في المدعو إليه وهي: الحرية
والبلوغ والذكورة وكمال العقل والصحة واليسار إذا احتاج إليه والمعرفة به. ويسقط عن
عشرة نفر: النساء والصبيان والمجانين والشيخ الضعيف والمريض والأعمى والمعسر
والأعرج - إذا لم يقدر على الحرب فارسا - ومن ليس من أهل المعرفة به ومن لم يأذنه
الوالدان.
وربما يصير الجهاد فرض عين بأحد شيئين: أحدهما: استنهاض الإمام إياه
والثاني: يكون في حضور الإمام وغيبته بمنزلة وهو أن يدهم أمر يخشى بسببه على الاسلام
وهن أو على مسلم في نفسه أو ماله إذا حصل ثلاثة شروط: حضوره وقدرته على دفع ذلك
ووجود معاون إن احتاج إليه. ولا يجوز الجهاد بغير الإمام ولا مع أئمة الجور.
فصل: في بيان أقسام الكفار ومن يجوز قتاله وبيان القتال:
الكفار ضربان: فضرب يجوز إقراره على دينه وهم اليهود والنصارى والمجوس
بشرطين: قبول الجزية، والتزام إجراء أحكام الاسلام عليهم وهي ترك التظاهر بالمحرمات
وجميعها ثمانية عشر شيئا: المنافية للأمان من القتال مع أهل الاسلام، وما يكون في
159

حكم المنافية من سب الله تعالى، وسب نبيه ع، وإصابة المسلمة بالنكاح
، والزنى بها، والإعانة على المسلمين، إما باطلاع أهل الحرب على أحوال المسلمين، أو
بكتاب إليهم بأخبار أهل الاسلام، أو بإيواء عين منهم، أو بافتتان مسلم عن دينه، أو
بدلالة على أحد من المسلمين أو قطع طريق عليه، وإظهار منكر في دار الاسلام من شرب
الخمر، ونكاح المحرمات، وإدخال الخنازير في بلادهم، وضرب الناقوس، وإحداث
الكنيسة، والبيعة، وإطالة البنيان فإذا التزموا ترك جميع ذلك " وهو الصغار " جاز عقد
الذمة لهم فإن خالفوا شيئا من ذلك خرجوا من الذمة.
والضرب الآخر لا يجوز إقراره على دينه وهو من عدا هؤلاء من الكفار ولا يقبل منهم
غير الاسلام، فإن لم يقبلوا قوتلوا ولم يرجع عنهم إلا بعد أن يسلموا أو يقتلوا عن آخرهم.
والضرب الأول إن لم يلتزموا الصغار قوتلوا حتى يسلموا أو يلتزموا الجزية والصغار أو
يقتلوا عن آخرهم، وإذا قوتلوا لم يبدأوا بالقتال إلا بعد أن يدعوا إلى الاسلام من إظهار
الشهادتين والإقرار بتوحيد الله سبحانه وعدله والتزام الشريعة بأسرها، فإن أبوا الجميع أو
بعضه حل قتالهم ووجب ولم يخل حال أهل الاسلام: إما كان لهم شوكة وقوة أو كان
بهم ضعف وقلة أو توسط حالهم.
فالأول يلزم قتالهم على الفور ويبدأ بالأقرب فالأقرب ما لم يكن الاهتمام بالأبعد
أوكد، ولا يؤخر قتالهم إلا إذا رأى الإمام في التأخير مصلحة، ولا يصالحهم الإمام فوق
أربعة أشهر إذا رآه صلاحا، ويقاتلهم الإمام كيف شاء وبمن وبما شاء إلا بإلقاء السم في
بلادهم، فإن تحصنوا قوتلوا بكل وجه يكون صلاحا، وإذا التحم القتال وتترسوا
بالأطفال أو بالمسلمين إن أسروهم جاز رميهم إذا قصد الكافر فإن أصاب الطفل أو
المسلم لم يلحقه إثم ولزمه الكفارة في قتل المسلم، ويجوز تبييتهم بالليل وتخريب المنازل
والقلاع وإحراقها وقطع الأشجار إن اقتضت المصلحة وكره إن لم يحتج إليه، ويجوز له
بذل الجعل لمن دل على مصلحة المسلمين والنقل إذا كان بالمسلمين ضعف ويستحب
ذلك إذا احتيج إليه، ولا يجوز قتال النساء ما لم يقاتلن المسلمين ولم يعاون عليهم.
والثاني يجوز للإمام تأخير قتالهم وموادعتهم إلى عشر سنين، ولا يجوز له أن يقاتلهم
160

إذا لم يستظهر بالرجال والسلاح وما يحتاج إليه في قتالهم حتى يستظهر ويدافعهم بما يرى
صلاحا.
والثالث إن كان مكان كل اثنين من الكفار واحد من المسلمين وجب عليه التثبت
لهما ولا يجوز له الفرار منهما، ومن فر غير متحرف لقتال أو متحيز إلى فئة فقد باء بغضب
من الله، وعلى الإمام أن يقاتلهم ويصالحهم على حسب ما يراه صوابا.
وأما الإذمام فلم يخل: إما كان الحربي أسيرا أو ممتنعا، فإن كان أسيرا لم يجز لغير
الإمام إذمامه وإن كان ممتنعا جاز للإمام عقد الأمان لعامة الكفار وللمنصوب من جهته
أن يعقد لمن يليه ولآحاد المسلمين أن يعقد الواحد إلى عشرة. وليس لأحد أن يذم على
الإمام ويدخل المال تبعا للنفس في العقد، وإن استذموا إلى المسلمين ولم يذموهم
وتوهموا من لفظهم الإذمام فأتوهم لم يجز التعرض لهم وردوا إلى مأمنهم ليكونوا حربا،
فإن أسلم الحربي في دار الحرب كان إسلامه حقنا لدمه ولولده الصغار من السبي - وإن
كان حملا وسبيت أمه - ولماله من الأخذ مما يمكن نقله إلى دار الاسلام، ولا يجوز الغدر
بمن عقد له الذمة فإن أحس منهم بغدر نبذ إليهم عهدهم وردوا إلى مأمنهم بعد استيفاء
كل حق لله تعالى أو للمسلمين منهم.
فصل: في بيان حكم البلاد إذا فتحت:
كل أرض تفتح على المسلمين لم يخل من أربعة أوجه: إما فتحت عنوة أو صلحا أو
بغير إذن الإمام أو سلموهم من غير قتال. فالأول: كان الخمس لأهله والباقي لجميع
المسلمين والثاني: كان حكمها على ما شرط ولا يصح ذلك إلا بعد أن يقبلوا أحكام
الذمة والثالث والرابع: من الأنفال.
فصل: في بيان حكم الأسارى:
الأسير ثلاثة أضرب: رجال ونساء وذراري.
فالرجل ضربان: إما أسر قبل انقضاء القتال أو بعده. فالأول إن لم يسلم كان
161

الإمام مخيرا بين شيئين: بين قتله وقطع يديه ورجليه وتركه حتى ينزف والثاني ضربان:
إما يجوز له عقد الذمة أو لا يجوز. فالأول يكون الإمام مخيرا بين ثلاثة أشياء: أخذ
الفداء والاسترقاق والمن والثاني يكون الخيار بين شيئين: المن والفداء.
وأما النساء فتملك بنفس السبي، وإن كان معها ولد بلغ سبع سنين جاز الفرق
بينهما في البيع وإن لم يبلغ لم يجز.
وأما الذراري فإن أشكل أمرها اعتبرت حالها بالإنبات فإن أنبتت فهي في حكم
الرجال وإن لم تنبت فهي مماليك.
فصل: في بيان الفئ والغنيمة ومن يستحقهما وكيفية قسمتهما:
الفئ في الشريعة: ما حصل في أيدي المسلمين من غير قتال وهو من الأنفال.
والغنيمة: ما يستفاد بغير رأس المال، وتنقسم قسمين: إما يستفاد من الكنوز والمعادن
- وقد ذكرنا حكمها في كتاب الخمس - أو يستفاد بالغلبة من دار الحرب، وهو أيضا
قسمان: إما أمكن نقله أو لم يمكن.
فالأول ضربان: أموال وسبايا.
والأموال يخرج منها الصفايا للإمام قبل القسمة وهي ما لا نظير له من الفرس الفارة
والثوب المرتفع والجارية الحسناء وغير ذلك، ثم تخرج منها المؤن وهي ثمانية أصناف:
أجرة الناقل والحافظ والنفل والجعائل والرضيخة للعبيد والنساء ومن عاونهم من المؤلفة
والأعراب على حسب ما يراه الإمام. ثم يخرج الخمس من الباقي لأهله، ثم يقسم
الباقي بين من قاتل ومن هو في حكمه بالسوية للرجال سهم وللفارس سهمان إذا لم
يكن فرسه مسروقا ولا مغصوبا، ومن كان له أفراس جماعة أعطي سهم فرسين لا
أكثر، ويستحق الغنيمة ثمانية أصناف: المرصد للقتال، والمطوعة، والباعة، والصنعة
إذا حضروا وكان غرضهم الجهاد أو قاتلوا وإن لم يكن غرضهم الجهاد، والصبيان
الحضور، ومن ولد قبل القسمة، ومن وصل إليهم للمدد قبل القسمة، أو انفلت من أسر
المشركين ووصل قبل القسمة. وما يوجد من الغنائم في المراكب كان حكمه كذلك،
162

ومن دخل دار الحرب أجيرا لغيره استحق السهم والأجرة.
والسبايا هي الذراري والنساء وقد ذكرنا حكمهما، فإن كان فيهم من أسره الكفار
من أولاد المسلمين واسترقوه أطلق لوليه بشرطين: عرفانه وإقامة البينة.
والثاني يخرج من الخمس والباقي للمسلمين قاطبة وأمره إلى الإمام وما يحصل من
غلاته يصرف في مصالح المسلمين.
فصل: في بيان أحكام الجزية:
هذا الفصل يحتاج إلى بيان خمسة أشياء: من يجوز عقد الذمة له وفي من لا يجوز له،
ومن يوضع عليه الجزية، ومن لا يوضع، وقدر الجزية، ومن يستحقها.
فالأول: اليهود والنصارى والمجوس وقد ذكرناهم.
والثاني: من اجتمع فيه خمس خصال: الحرية والذكورة والبلوغ وكمال العقل
وانتفاء السفه عنه بإفساد دينه أو ماله.
والثالث: ستة نفر: المرأة والعبد والمجنون والصبي والأبله والسفيه والمفسد.
والرابع: ما يكون به الذمي صاغرا وقدره موكول إلى رأي الإمام ويجوز له الزيادة فيه
والنقصان عنه وإن شرط عليهم الضيافة ورضوا جاز بعد استقرار الجزية بشرطين:
أحدهما: أن لا يبلغ قدرا يزيد على أقل ما يجب عليهم من الجزية والثاني: أن تكون
معلومة المقدار في أربعة أشياء: الأيام، وعدد المارة بهم من الرجال والفرسان، وقدر
القوت من الخبز والإدام، وقدر علف الدواب. ويضع على الرؤوس أو على أراضيهم ولا
يجمع بينهما.
والخامس: من يقوم مقام المهاجرين في نصرة الاسلام.
فصل: في بيان أحكام البغاة وكيفية قتالهم:
الباغي كل من خرج على إمام عادل وقتالهم على ثلاثة أضرب: واجب وجائز
ومحظور.
163

فالأول: ما اجتمع فيه أربعة شروط: كونهم في منعة لا يمكن تفريق جمعهم إلا
بالقتال، وخروجهم عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو غيره، ومباينتهم بتأويل
سائغ عندهم فإن باينوا بتأويل غير سائغ كانوا محاربين، واستنهاض الإمام إياهم للقتال.
والثاني: ما يكون دفعا عن النفس.
والثالث: إذا كانوا في قبضة الإمام غير ممتنعين وإذا قوتلوا لم يرجع عنهم حتى يفيئوا
إلى الطاعة أو يقتلوا عن آخرهم، فإن انهزموا وكان لهم فئة يرجعون إليها جاز الإجازة على
جريحهم والتتبع لمدبرهم وقتل أسيرهم، وإن لم يكن لهم فئة لم يجز ذلك، وما حواه
العسكر من المال فهو غنيمة وما لم يحوه فلأهله ولا يجوز سبي ذراريهم بحال.
فصل: في بيان حكم المحارب:
المحارب كل من أظهر السلاح من الرجال أو النساء في أي وقت وأي موضع يكون
لم يخل حاله من ثلاثة أوجه: إما يتوب قبل أن يظفر به، أو ظفر به قبل أن يتوب، أو لا
يتوب ولا يظفر به.
فالأول: لم يخل: إما لم يجن، أو جنى بما لا يوجب القود في غير المحاربة وحقه
العفو عنه، أو جنى جناية توجب القود في غير المحاربة ويجب العفو عنه في حق الله تعالى
والقود في حق الناس إلا أن يعفو من له الحق.
والثاني: لم يخل: إما جنى جناية أو لم يجن، فإن جنى جناية لم يخل: إما جنى في
المحاربة أو في غيرها، فإن جنى في المحاربة لم يجز العفو عنه ولا الصلح على مال وإن
جنى في غير المحاربة جاز فيه ذلك. وإن لم يجن وأخاف نفي عن البلد وعلى هذا حتى
يتوب.
وإن جنى وجرح اقتص منه ونفي عن البلد، وإن أخذ المال قطع يده ورجله من
خلاف ونفي، وإن قتل وغرضه في إظهار السلاح القتل كان ولي الدم مخيرا بين القود
والعفو والدية، وإن كان غرضه المال كان قتله حتما وصلب بعد القتل، وإن قطع اليد
ولم يأخذ المال قطع ونفي، وإن جرح وقتل اقتص منه ثم قتل وصلب، وإن جرح وقطع
164

وأخذ المال جرح وقطع للقصاص أولا إن كان قطع اليد اليسرى ثم قطع يده اليمنى
لأخذ المال ولم يوال بين القطعين، وإن كان قطع اليمنى قطعت يمناه قصاصا ورجله
اليسرى لأخذ المال.
والثالث: يطلب حتى يظفر به ويقام عليه الحد.
فصل: في بيان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هما من فروض الأعيان باجتماع خمسة شروط: أن يعرف المعروف معروفا والمنكر
منكرا، ويظن استمرار ذلك من مرتكبه، أو يجوز تأثير أمره ونهيه، ولا يؤدى إلى أكثر
منه، ولا يكون فيه مفسدة من الخوف على النفس أو المال له أو لغيره.
والأمر بالمعروف يتبع المعروف في الوجوب والندب، والنهي عن المنكر يتبع المنكر،
فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا وإن كان مكروها كان النهي عنه
مندوبا ويجبان باليد واللسان والقلب، ويقدم باللسان ويعظه ويخوفه ويوبخه وربما يقوم
الفعل في ذلك مقام القول من الإعراض عنه وترك التعظيم له والإزراء به فإن رجع وإلا
زجره، فإن لم ينجع ردعه وضربه إن أمكنه وإن لم ينجع وشدد عليه ارتفع إلى التأديب
وإن أدى إلى التلف إن كان مأذونا من جهة من له ذلك، فإن لم يقدر على شئ من
ذلك أو خاف مفسدة فيه اقتصر على القلب، وربما يعرض ما يصيران له قبيحين وذلك
إذا أديا إلى مفسدة، وإذا أكره أحد على ترك المعروف أو ارتكاب المنكر ما لم يكن قتل
نفس محرمة أو قطع عضو منها لزم.
165

إصباح الشيعة
بمصباح الشريعة
لنظام الدين أبي الحسن سلمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي
167

كتاب الجهاد
الجهاد من فرائض الاسلام ويحتاج إليه فيه إلى معرفة خمسة أشياء: شرائط وجوبه
وكيف يجب ومن يجب جهاده وكيفية فعله وأحكام الغنائم.
أما شرائط وجوبه: فالحرية والذكورة والبلوغ وكمال العقل والاستطاعة له بالصحة
والقدرة عليه وعلى ما يفتقر إليه فيه من ظهر ونفقة وأمر إمام عادل أو من ينصبه الإمام أو
ما يقوم مقام ذلك كحصول خوف على الاسلام أو على الأنفس والأموال. ومتى اختل
أحد هذه الشروط سقط الوجوب، وهو مع تكاملها فرض على الكفاية إذا قام من له
كفاية سقط عن غيره.
وأما من يجب جهاده: فكل من خالف الاسلام من سائر أصناف الكفار، ومن
أظهر الاسلام وبغى على الإمام العادل وخرج عن طاعته، أو قصد إلى أخذ مال المسلم
وما هو في حكمه من مال الذمي، وشهر السلاح في بر أو بحر أو سفر أو حضر.
وكيفيته: أن يؤخر لقاء العدو إلى أن تزول الشمس وتصلي الصلاتان، وأن يقدم
قبل الحرب الإعذار والإنذار والاجتهاد في الدعاء إلى الحق، وأن يمسك عن الحرب بعد
ذلك حتى يبدأ بها العدو لتحق الحجة عليه ويتقلد بذلك البغي، فإذا عزم أمير الجيش
عليها استخار الله تعالى في ذلك ورغب إليه في النصر وعبأ أصحابه صفوفا وجعل كل
فريق منهم تحت راية أشجعهم وأبصرهم بالحرب وجعل لهم شعارا يتعارفون به وقدم
الدارع أمام الحاسر ووقف هو في القلب وليجتهد في الوصية لهم بتقوى الله والإخلاص في
طاعته وبذل الأنفس في مرضاته، ويذكرهم ما لهم في ذلك من الثواب في الآجل ومن
169

الفضل وعلو الكلمة في العاجل، ويخوفهم الفرار ويذكرهم ما هم فيه من عاجل العار
وآجل النار.
وإذا أراد الحملة أمر فريقا من أصحابه بها وبقي هو في فريق آخر ليكونوا فئة متحيزا
إليها، فإذا تضعضع لهم العدو زحف هو بمن معه زحفا يبعث من أمامه على الأخذ بكظم
القوم، فإذا زالت صفوفهم عن أماكنهم حمل هو حملة واحدة، ولا يجوز أن يبارز أحد إلا
بإذن الإمام أو من نصبه الإمام، ولا يجوز أن يفر واحد من واحد ولا من اثنين ويجوز من
ثلاثة فصاعدا.
ويجوز قتال العدو بكل ما يرجى به الفتح من نار ومنجنيق وغيرهما وإن كان فيما
بينهم مسلمون إلا إلقاء السم في ديارهم فإنه لا يجوز، ولا يقاتل في الأشهر الحرم من
يرى لها حرمة من الكفار يقتلون مقبلين ويقتل أسيرهم ويجاز على جريحهم وكذا حكم
البغاة على الإمام إن كان لهم فئة يرجعون إليها، وإن لم يكن لهم فئة لم يتبع مدبرهم
ولم يجز على جريحهم ولم يقتل أسيرهم. وأسراء من عدا ما ذكرناه من المحاربين على
أخذ المال إن كانوا قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلوا، وإن أخذوا مع القتل مالا صلبوا بعد
القتل، وإن تفردوا بأخذ المال قطعوا من خلاف، وإن لم يقتلوا ولا أخذوا مالا نفوا من
الأرض بالحبس أو النفي من مصر.
ومن لا كتاب له من الكفار فلا يكف عن قتاله إلا بالرجوع إلى الحق وكذا حكم
من أظهر الاسلام من البغاة والمحاربين، ومن له كتاب - وهم اليهود والنصارى
والمجوس - يكف عن قتالهم إذا بذلوا الجزية ودخلوا تحت شروطهم.
ولا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان ولا من الصابئين، والجزية ما يؤدونه في كل
سنة مما يضعه الإمام على رؤوسهم أو على أرضهم وليس لها حد معين بل ذلك راجع إلى
ما يراه الإمام، ولا يجوز أخذها إلا من الذكور البالغين الكاملي العقول، وإذا أسلم
الذمي وقد وجبت عليه الجزية بحول الحول سقطت عنه بالإسلام، والجزية مصرف إلى
أنصار الاسلام خاصة.
وشرائط الجزية: ألا يجاهروا المسلمين بكفرهم ولا بتناول المحرمات في شريعة
170

الاسلام، ولا يسبوا مسلما، ولا يعينوا على الاسلام، ولا يتخذوا بيعة ولا كنيسة، ولا
يعيدوا ما استهدم من ذلك. ويلزم نصرتهم والمنع منهم ما وفوا بهذه الشروط، وهي متى
أخلوا بشئ منها صارت دماؤهم هدرا وأموالهم وأهاليهم فيئا للمسلمين.
ويغنم من جميع من خالف الاسلام من الكفار ما حواه العسكر وما لم يحوه من
الأموال والأمتعة والذراري والأرضين، ولا يغنم ممن أظهر الاسلام من البغاة
والمحاربين إلا ما حواه العسكر من الأموال والأمتعة التي تخصهم فقط من غير جهة
غصب دون ما عداها وبعد اخراج الصفايا والخمس من الغنيمة يقسم ما بقي مما حواه
العسكر بين المقاتلة خاصة لكل راجل سهم ولكل فارس سهمان ولو كان معه عدة
أفراس، ويأخذ المولود في دار الجهاد ومن أدرك المجاهدين للمعونة لهم مثل ما يأخذ
المقاتل، وحكم غنيمة البحر كغنيمة البر، وباقي أحكام الغنائم قد مر.
وإذا بيعت أرض الحد من مسلم سقط خراجها وانتقلت الجزية إلى رأس بائعها.
ومن أخذ أسيرا قبل أن تضع الحرب أوزارها وجب قتله ولم يجز للإمام استبقاؤه،
وإن أخذ بعد الفتح فالإمام مخير بين المن عليه بالإطلاق أو المفاداة أو الاستعباد.
وإذا غلب الكفار على شئ من أموال المسلمين وذراريهم ثم ظفر عليهم المسلمون
فأخذوا ذلك فالذراري خارجون عن الغنيمة، وما عداهم من الأمتعة والرقيق إن وجده
صاحبه قبل القسمة أخذه بلا عوض وإن وجده بعدها دفع الإمام إلى من وقع في سهمه
قيمته من بيت المال لئلا تنتقض القسمة.
فصل الزنديق:
وهو من يبطن الكفر ويظهر الاسلام فلا تقبل توبته، ومن ارتد عن إيمان ولد عليه
فإنه لا يستتاب ولا يقبل منه الاسلام وإن رجع إليه ويجب قتله في الحال، ومن ارتد عن
الاسلام بعد كفر يستتاب وإن تاب وأسلم قبل إسلامه وإن لم يتب وجب قتله، والمرأة
لا تقتل بل تحبس حتى تسلم أو تموت في الحبس.
الارتداد: وهو أن يظهر الكفر بالله تعالى وبرسوله والجحد بما نعم به
فرضه والعلم به من دينه بعد إظهار التصديق.
171

السرائر
الحاوي لتحرير الفتاوى
لأبي منصور محمد بن إدريس محمد العجلي الحلي
558 - 598 ه‍ - ق
173

كتاب الجهاد وسيرة الإمام
باب فرض الجهاد ومن يجب عليه وشرائط وجوبه وحكم الرباط:
الجهاد فريضة من فرائض الاسلام وركن من أركانه، وهو من فروض الكفايات
ومعنى ذلك أنه إذا قام به من في قيامه كفاية وغناء عن الباقين ولا يؤدى إلى الإخلال
بشئ من أمر الدين سقط عن الآخرين، ومتى لم يقم به أحد لحق جميعهم الذم
واستحقوا بأسرهم العقاب.
ويسقط الجهاد عن النساء والصبيان والشيوخ الكبار والمرضى ومن ليس به نهضة إلى
القيام بشرطه، ومن كان متمكنا من إقامة غيره مقامه في الدفاع عنه وهو غير متمكن من
القيام به بنفسه وجب عليه إقامته وإزاحة علته فيما يحتاج إليه، ومن تمكن من القيام
بنفسه وأقام غيره مقامه سقط عنه فرضه إلا أن يلزمه الناظر في أمر المسلمين القيام بنفسه
فحينئذ يجب عليه أن يتولى هو الجهاد ولا تكفيه إقامة غيره.
ومن يجب عليه الجهاد إنما يجب عليه عند شروط وهي: أن يكون الإمام العادل
الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره ولا يسوع لهم الجهاد من دونه ظاهرا أو يكون من نصبه
الإمام للقيام بأمر المسلمين في الجهاد حاضرا ثم يدعوهم إلى الجهاد فيجب عليهم حينئذ
القيام به، ومتى لم يكن الإمام ظاهرا ولا من نصبه حاضرا لم يجز مجاهدة العدو.
والجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم، وإن أصاب لم
يؤجر وإن أصيب كان مأثوما اللهم إلا أن يدهم المسلمين - والعياذ بالله - أمر من قبل
العدو يخاف منه على بيضة الاسلام ويخشى بواره - وبيضة الاسلام مجتمع الاسلام
175

وأصله - أو يخاف على قوم منهم وجب حينئذ أيضا جهادهم ودفاعهم غير أنه يقصد
المجاهد - والحال ما وصفناه - الدفاع عن نفسه وعن حوزة الاسلام وعن المؤمنين، ولا
يقصد الجهاد مع السلطان الجائر ولا مجاهدتهم ليدخلهم في الاسلام، وهكذا حكم من
كان في دار الحرب ودهمهم عدو، يخاف منه على نفسه جاز أن يجاهد مع الكفار دفعا
عن نفسه وماله دون الجهاد الذي يجب في الشرع.
ومتى جاهدوا مع عدم الإمام وعدم من نصبه للجهاد فظفروا وغنموا كانت الغنيمة
كلها للإمام خاصة ولا يستحقون هم منها شيئا أصلا.
والمرابطة فيها فضل كبير وثواب جزيل إذا كان هناك إمام عادل، وحدها ثلاثة أيام
إلى أربعين يوما فإن زاد على ذلك كان جهادا وحكمه حكم المجاهدين، ومن نذر
المرابطة في حال استتار الإمام وجب عليه الوفاء به غير أنه لا يجاهد العدو إلا على ما قلناه
من الدفاع عن الاسلام والنفس، وإن نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين في حال
ظهور الإمام وجب عليه الوفاء به وإن كان ذلك في حال استتاره لا يجب عليه الوفاء
بالنذر.
على قول بعض أصحابنا بل قال: يصرفه في وجوه البر.
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: إن كان النذر غير صحيح فما يجب صرفه في
وجوه البر وإن كان النذر صحيحا فيوجهه إلى الجهة المنذور فيها لا يجزئه غيره. ثم قال
الذاهب الأول الذي حكينا كلامه: إلا أن يخاف من الشناعة لتركه الوفاء بالنذر
فيصرفه إليهم تقية، والذي أعتمده وأعمل عليه صحة هذا النذر ووجوب الإتيان به لأنه
إما مندوب إليه أو مباح والنذر في المباح يجب الوفاء به وكذلك المندوب إليه ولا مانع يمنع
منه.
ومن آجر نفسه لينوب عن غيره في المرابطة فإن كان في حال انقباض يد الإمام
العادل
قال بعض أصحابنا: لا يلزمه الوفاء به ويرد عليه ما أخذه منه فإن لم يجده فعلى ورثته
وإن لم يكن له ورثة لزمه الوفاء به، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته.
والذي يقوى عندي وتقتضيه الأدلة لزوم الإجارة في الحالين معا غير أنه لا يجاهد العدو
176

إلا على ما قلناه من الدفاع عن النفس والإسلام لأن عندنا بغير خلاف أنه إذا نذر
المرابطة في حال استتار الإمام وجب عليه الوفاء به غير أنه لا يجاهد العدو إلا على ما قلناه
وقد قدمنا ذلك.
فإن كان في حال ظهور الإمام لزمه الوفاء به على كل حال، ومن لا يمكنه المرابطة بنفسه
فرابط دابة أو أعان المرابطين بشئ من ماله كان فيه الثواب.
باب في ذكر أصناف الكفار ومن يجب قتاله منهم وكيفية القتال:
الكفار على ثلاثة أضرب: أهل كتاب وهم اليهود والنصارى فهؤلاء يجوز إقرارهم
على دينهم ببذل الجزية ومن له شبهة كتاب فهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب
يقرون أيضا على دينهم ببذل الجزية ومن لا كتاب له ولا شبهة كتاب وهم من عدا
هؤلاء الثلاثة الأصناف من عباد الأصنام والأوثان والكواكب وغيرهم فلا يقرون على
دينهم ببذل الجزية. ومتى امتنع أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب من بذل الجزية كان
حكمهم حكم غيرهم من الكفار في وجوب قتالهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم
ويكون فيئا.
وينبغي للإمام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار الأقرب فالأقرب، والأولى أن يشحن
كل طرف من أطراف بلاد الاسلام بقوم يكونون أكفاء لمن يليهم من الكفار ويولي
عليهم أميرا عاقلا دينا خيرا شجاعا يقدم في موضع الإقدام ويتأنى في موضع التأني.
ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الاسلام وإظهار الشهادتين والإقرار
بالتوحيد والعدل والتزام جميع شرائع الاسلام، فمتى دعوا إلى ذلك ولم يجيبوا حل قتالهم
ومتى لم يدعوا لم يجز قتالهم، والداعي ينبغي أن يكون الإمام أو من يأمره الإمام، ولا
يجوز قتال النساء فإن قاتلن المسلمين وعاون أزواجهن ورجالهن أمسك عنهن فإن اضطر
إلى قتلهن جاز حينئذ قتلهن ولم يكن به بأس.
وشرائط الذمة: الامتناع من مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمور وأكل
الربا ونكاح المحرمات في شريعة الاسلام وألا يأووا عينا على المسلمين ولا يعاونوا عليهم
177

كافرا وألا يستفزوا على مسلم. فمتى فعلوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من الذمة وجرى
عليهم أحكام الكفار الحربيين الذين لا كتاب لهم.
ومن أسلم من الكفار وهو بعد في دار الحرب كان إسلامه حقنا لدمه من القتل،
وولده الصغار من السبي فأما الكبار فهم البالغون فحكمهم حكم غيرهم من الكفار،
وماله من الأخذ كل ما كان صامتا أو متاعا أو أثاثا وجميع ما يمكن نقله إلى دار
الاسلام وأما الأرضون والعقارات وما لا يمكن نقله فهو فئ للمسلمين.
ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل وأسبابه إلا تغريق المساكن ورميهم بالنيران
وإلقاء السم في بلادهم فإنه لا يجوز أن يلقى في بلادهم السم،
وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطه: وكره أصحابنا إلقاء السم، وقال في نهايته: لا يجوز
إلقاء السم في بلادهم وما ذكره في نهايته به نطقت الأخبار عن الأئمة الأطهار.
وروى أصحابنا كراهية تبييت العدو حتى يصبح،
والوجه في جميع ما تقدم إذا كان مستظهرا وفيه قوة ولا حاجة به إلى الإغارة ليلا امتنع،
وإذا كان بالعكس من ذلك جاز الإغارة ليلا، وروى ابن عباس عن الصعب بن حبابة
قال: قلت يا رسول الله نبيت المشركين وفيهم النساء والصبيان؟ فقال: إنهم منهم.
وأما تخريب المنازل والحصون وقطع الأشجار المثمرة فإنه جائز إذا غلب في ظنه أنه لا
يملك إلا بذلك، فإن غلب في ظنه أنه يملكه فالأفضل أن لا يفعل فإن فعل جاز كما
فعل الرسول ع بالطائف وبني النضير وخيبر فأحرق على بني النضير وخرب
ديارهم.
وإذا تترس المشركون بأطفالهم فإن كان ذلك حال التحام القتال جاز رميهم ولا
يقصد الطفل بل يقصد من خلفه لأنه لو لم يفعل ذلك لأدى إلى بطلان الجهاد وكذلك
الحكم إذا تترسوا بأسارى المسلمين وكذلك إذا تترسوا بالنساء، فإن كان في جملتهم قوم
من المسلمين النازلين عليهم فهلك المسلمون فيما بينهم أو هلك من أموالهم شئ لم يلزم
المسلمين ولا غيرهم غرامته من الدية والأرش، فأما الكفارة في قتل المسلم النازل عندهم
من غير قصد إلى قتله فإن الدية لا تجب ولا القود بل تجب الكفارة لقوله تعالى: فإن كان
178

من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة، ولم يذكر الدية.
ولا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان وفي أي شهر كان إلا الأشهر الحرم فإن
من يرى منهم خاصة لهذه الأشهر حرمة لا يبتدأون فيها بالقتال فإن بدؤوا هم بقتال
المسلمين جاز حينئذ قتالهم وإن لم يبتدئوا أمسك عنهم إلى انقضاء هذه الأشهر، فأما
غيرهم من سائر أصناف الكفار فإنهم يبتدأون فيها بالقتال على كل حال.
ولا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال القتال غير أنه لا يجوز له أن يطلب المبارزة
إلا بإذن الإمام، ولا يجوز لأحد أن يؤمن إنسانا على نفسه ثم يقتله فإنه يكون غادرا،
ويلحق بالذراري من لم يكن قد أنبت بعد ومن أنبت الحق بالرجال وأجرى عليه
أحكامهم، ويكره قتل من يجب قتله صبرا وإنما يقتل على غير ذلك الوجه ومعنى صبرا
حبسا للقتل، ولا يجوز أن يفر واحد من واحد ولا اثنين فإن فر منهما كان مأثوما ومن فر
من أكثر من اثنين لم يكن به بأس.
باب قسمة الفئ وأحكام الأسارى:
قد ذكرنا في كتاب الزكاة كيفية قسمة الفئ غير أنا نذكر هاهنا ما يليق بهذا
المكان، كل ما غنمه المسلمون من المشركين ينبغي للإمام أن يخرج منه الخمس فيصرفه
في أهله ومستحقيه حسب ما بيناه في كتاب الزكاة بعد اصطفاء ما يصطفيه والباقي على
ضربين: ضرب منه للمقاتلة خاصة دون غيرهم من المسلمين وضرب هو عام لجميع
المسلمين مقاتليهم وغير مقاتليهم، فالذي هو لجميع المسلمين فكل ما عدا ما حواه العسكر
من الأرضين والعقارات وغير ذلك فإنه بأجمعه فئ للمسلمين من غاب منهم ومن حضر
على السواء، وما حواه العسكر يقسم بين المقاتلة خاصة ولا يشركهم فيه غيرهم، فإن
قاتلوا وغنموا فلحقهم قوم آخرون لمعونتهم أو مدد لهم كان لهم من القسمة مثل ما لهم
يشاركونهم هذا إذا لحقوا بهم قبل قسمة الغنيمة، فأما إذا لحقوا بعد القسمة فلا نصيب
لهم معهم، وكذلك إذا نفذ أمير الجيش سرية إلى جهة فغنموا شاركهم الجيش لأنه مدد
لهم وهم من جملته.
179

وينبغي للإمام أن يسوي بين المسلمين في القسمة لا يفضل أحدا منهم لشرفه أو علمه
أو زهده على من ليس كذلك في قسمة الفئ، وينبغي أن يقسم للفارس سهمين وللراجل
سهما
على الصحيح من المذهب، وقال بعض أصحابنا: يعطي الفارس ثلاثة أسهم وإن لم
يكن معه إلا فرس واحد، والأظهر من الأقوال الأول.
فإن كان مع الرجل أفراس جماعة لم يسهم منها إلا لفرسين فيعطى ثلاثة أسهم وللراجل
سهم واحد ولصاحب الفرس الواحدة سهمان، ولا يسهم لشئ من المركوب من الإبل
والبغال والحمير والبقر والفيلة إلا للخيل خاصة بلا خلاف سواء كان الفرس عتيقا
كريما أو برذونا أو هجينا أو مقرفا أو حطما أو قحما أو ضرعا أو أعجف أو رازحا
فإنه يسهم له.
فالعتيق الذي أبوه كريم وأمه كريمة، والبرذون الذي أبوه كريم وأمه غير عتيقة وهي
الكريمة، والهجين الذي أبوه عتيق وأمه غير عتيقة، والمقرف عكس ذلك، والحطم
المتكسر، والقحم - بفتح القاف وسكون الحاء - الكبير، والضرع - بفتح الضاد والراء -
الصغير، والأعجف المهزول، والرازح الذي لا حراك به.
ومن ولد في أرض الجهاد من الذكور قبل قسمة الغنيمة كان له من السهم مثل ما
للمقاتل على السواء على ما رواه أصحابنا، وإذا قاتل قوم من المسلمين المشركين في
السفينة فغنموا وفيهم الفرسان والرجالة كان قسمتهم مثل قسمتهم لو قاتلوا على البر سواء
للفارس سهمان وللراجل سهم على ما رواه أصحابنا، وعبيد المشركين إذا لحقوا بالمسلمين
قبل مواليهم وأسلموا كانوا أحرارا وحكمهم حكم الأحرار المسلمين، وإن لحقوا بعد
مواليهم كان حكمهم حكم العبيد لا يخرجون من ملكة ساداتهم وفي الأول خرجوا
باللحوق قبل السادة من ملكهم، ولو أسلم السادة بعدهم لم يعودوا إلى ملكتهم.
ومتى أغار المشركون على المسلمين فأخذوا منهم ذراريهم وعبيدهم وأموالهم ثم ظفر
بهم المسلمون فأخذوا منهم ما كان أخذوه فإن أولادهم يردون إليهم بعد أن يقيموا البينة
ولا يسترقون بغير خلاف في ذلك، فأما العبيد والأمتعة والأثاث
180

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: يقومون في سهام المقاتلة ويعطي الإمام مواليهم أثمانهم
من بيت المال.
والذي تقتضيه أصول المذهب وتعضده الأدلة وأفتى به أن ذلك إن قامت البينة به
قبل القسمة رد على أصحابه بأعيانه ولا يغرم الإمام للمقاتلة عوضه شيئا، وإن كان ذلك
بعد قسمة الغنيمة على المقاتلة رد أيضا بأعيانه على أصحابه ورد الإمام قيمة ذلك
للمقاتلة من بيت المال لا يجوز غير ذلك لأن المشركين لا يملكون أموال المسلمين وتملكه من
أربابه يحتاج إلى دليل، وقول الرسول ع: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن
طيب نفسه منه، والمسلم ما طابت نفسه بأخذ ماله.
وإلى ما اخترناه وحررناه يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره فإنه قال بعد ما أورد
أخبارا: والذي أعمل عليه أنه أحق بعين ماله على كل حال وهذه الأخبار على ضرب من
التقية، ثم قال: والذي يدل على ذلك ما رواه الحسن بن محبوب في كتاب المشيخة عن
علي بن رئاب عن طربال عن أبي جعفر ع قال: سئل عن رجل كانت له
جارية فأغار عليه المشركون وأخذوها منه ثم إن المسلمين بعد غزوهم فأخذوها فيما غنموا
منهم فقال ع: إن كانت في الغنائم وأقام البينة أن المشركين أغاروا عليهم
وأخذوها منه ردت عليه وإن كانت اشتريت وخرجت من المغنم فأصابها ردت عليه
برمتها وأعطي الذي اشتراها الثمن من المغنم من جميعه، فإن لم يصبها حتى تفرق
الناس وقسموا جميع الغنائم فأصابها بعد؟ قال: يأخذها من الذي هي في يده إذا أقام
البينة ويرجع الذي هي في يده على أمير الجيش بالثمن. هذا آخر كلام شيخنا في
الاستبصار وإلى ما اخترناه يذهب في مسائل خلافه أيضا.
والأسارى فعندنا على ضربين: أحدهما أخذ قبل أن تضع الحرب أوزارها وينقضي
الحرب والقتال فإنه لا يجوز للإمام استبقاؤه بل يقتله بأن يضرب رقبته أو يقطع يديه
ورجليه ويتركه حتى ينزف ويموت إلا أن يسلم فيسقط عنه القتل، والضرب الآخر هو
كل أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها فإنه يكون الإمام مخيرا فيه بين أن يمن عليه
فيطلقه وبين أن يسترقه وبين أن يفاديه وليس له قتله بحال.
ومن أخذ أسيرا فعجز عن المشي ولم يكن معه ما يحمله عليه إلى الإمام فليطلقه لأنه
181

لا يعلم ما حكم الإمام فيه، ومن كان في يده أسير وجب عليه أن يطعمه ويسقيه وإن
أريد قتله في الحال، ولا يجوز قتال أحد من الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة إلا بعد
دعائهم إلى الاسلام وإظهار الشهادتين والإقرار بالتوحيد والعدل والتزام جميع شرائع
الاسلام والداعي يكون الإمام أو من يأمره الإمام على ما قدمناه، فإن بدر انسان فقتل
منهم قبل الدعاء فلا قود عليه ولا دية لأنه لا دليل عليه وقوله عز وجل: ليظهره على
الدين كله، أراد بالحجج والأدلة وقيل: أراد بذلك عند قيام المهدي ع،
وقيل: إنه أراد على أديان العرب كلها وقد كان ذلك.
فإن أسر الكافر وله زوجة فإنهما على الزوجية ما لم يختر الإمام الاسترقاق، فإن من
عليه أو فاداه عاد إلى زوجته وإن اختار استرقاقه انفسخ النكاح، وإن كان الأسير امرأة
مزوجة فإن النكاح ينفسخ بنفس الأسر لأنها صارت رقيقة بنفس الأسر.
وإذا وقعت المرأة وولدها في السبي
قال بعض أصحابنا: لا يجوز للإمام أن يفرق بينهما فيعطى الأم لواحد والولد لآخر
وهكذا إذا كان لرجل أمة وولدها فلا يجوز أن يفرق بينهما ببيع ولا هبة ولا غيرهما من
أسباب الملك، وفي أصحابنا من قال: إن ذلك مكروه ولا يفسد البيع به، وهو الأقوى
عندي وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطه فإنه قال: فإن خالف وباع جاز البيع
على الظاهر من المذهب، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطه وكذلك في موضع من
نهايته.
وأما التفرقة بينه وبين الوالد فإنه جائز بغير خلاف، قد بينا أنه متى حدث الرق في
الزوجين أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما، والنساء يرققن بنفس حيازة الغنيمة والرجال
يرقون باختيار الإمام لا بحيازة الغنيمة، فعلى هذا إذا سبي الزوجان انفسخ النكاح في
الحال لأن الزوجة صارت مملوكة بنفس الحيازة، وإن كان المسبي الرجل لا ينفسخ
النكاح إلا إذا اختار الإمام استرقاقه، فإن كان المسبي المرأة انفسخ أيضا في الحال لما
قلناه، فأما إذا كان الزوجان جميعا مملوكين فإنه لا ينفسخ النكاح لأنه ما حدث رق
هاهنا لأنهما كانا رقيقين قبل ذلك.
182

والفرس الذي يقسم له ما يتناوله اسم الخيل والفرس سواء كان عتيقا أو هجينا أو
مقرفا،
فالعتيق الذي أبوه وأمه عربيان عتيقان خالصان، والهجين الذي أبوه كريم عتيق وأمه
برذونة، والمقرف الذي أمه كريمة عتيقة وأبوه برذون قال الشاعر:
وما هند إلا مهره عربية * سليلة أفراس تجللها بغل
فإن نتجت مهرا كريما فبالحري * وإن يك أقراف فمن جهة الفحل
فأما من قاتل على حمار أو بغل أو جمل فلا يسهم لمركوبه لأنه ليس بفرس ولا يسمى راكبه
فارسا.
وتجب الهجرة على كل من قدر عليها ولا يأمن على نفسه من المقام بين الكفار ولا
يتمكن من إظهار دينه بينهم فيلزمه أن يهاجر والهجرة باقية أبدا ما دام الشرك قائما،
روي عن النبي ع أنه قال: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع
التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وما روي من قوله ع: لا هجرة بعد
الفتح، معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح، وقيل: المراد لا هجرة
بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام.
ولا جهاد على العبيد، والمسلم إذا أسره المشركون لم يجز له أن يتزوج فيما بينهم فإن
اضطر جاز له أن يتزوج في اليهود والنصارى، على ما روي في بعض الأخبار، فأما
غيرهم فلا يقربهم على حال.
باب قتال أهل البغي والمحاربين وكيفية قتالهم والسيرة فيهم:
كل من خرج على إمام عادل ونكث بيعته وخالفه في أحكامه فهو باع وجاز للإمام
قتاله ومجاهدته ويجب على من يستنهضه الإمام في قتالهم النهوض معه ولا يسوع له التأخير
عن ذلك.
وجملة الأمر وعقد الباب أنه لا يجب قتال أهل البغي ولا يتعلق بهم أحكامهم إلا
بثلاثة شروط: أحدها: أن يكونوا في منعة ولا يمكن كفهم وتفريق جمعهم إلا بإنفاق
183

وتجهيز جيوش وقتال، والثاني: أن يخرجوا عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية
فأما إن كانوا معه في قبضته فليسوا أهل بغي، والثالث: أن يكونوا على المباينة بتأويل
سائغ عندهم فأما من باين وانفرد بغير تأويل فهو قاطع طريق وحكمهم حكم المحاربين لا
حكم البغاة.
ومن خرج على إمام جائر لم يجز قتالهم على حال فلا يجوز قتال أهل البغي إلا بأمر الإمام،
ومن قاتلهم فلا ينصرف عنهم إلا بعد الظفر بهم أو يفيئوا إلى الحق ومن رجع
عنهم من دون ذلك فقد باء بغضب من الله تعالى وعقابه عقاب من فر من الزحف.
وأهل البغي عند أصحابنا على ضربين: ضرب منهم يقاتلون ولا يكون لهم رئيس ولا
أمير يرجعون إليه، والضرب الآخر يكون لهم أمير ورئيس يرجعون في أمورهم إليه.
فالضرب الأول كأهل البصرة وأصحاب الجمل والضرب الثاني كأهل الشام وأصحاب
معاوية بصفين، فإذا لم يكن لهم رئيس يرجعون إليه فإنه لا يجاز على جريحهم ولا يتبع
هاربهم ولا يسبى ذراريهم ولا يقتل أسيرهم، ومتى كان لهم رئيس يرجعون إليه في
أمورهم كان للإمام أن يجيز على جريحهم وأن يتبع هاربهم وأن يقتل أسيرهم ولا يجوز
سبي الذراري على حال.
ويجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى العسكر وتقسم على المقاتلة حسب ما
قدمناه وليس له ما لم يحوه العسكر ولا له إليه سبيل على حال.
هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته والجمل والعقود، ثم قال في مبسوطه: إذا
انقضت الحرب بين أهل العدل والبغي إما بالهزيمة أو بأن عادوا إلى الحق وطاعة الإمام
وقد كانوا أخذوا الأموال وأتلفوا وقتلوا نظرت فكل من وجد عين ماله عند غيره كان أحق
به سواء كان من أهل العدل أو أهل البغي لما رواه ابن عباس أن النبي ع
قال: المسلم أخ المسلم لا يحل له دمه وماله إلا بطيبة من نفسه، وروي: أن عليا ع
لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له: يا أمير المؤمنين ألا تأخذ أموالهم؟ قال: لا
لأنهم تحرموا بحرمة الاسلام فلا تحل أموالهم في دار الهجرة، وروى أبو قبيس: أن عليا
ع نادى من وجد ماله فليأخذه فمر بنا رجل فعرف قدرا نطبخ فيها فسألناه أن
يصبر حتى ينضج فلم يفعل ورمى برجله فأخذها، قال رحمه الله: وقد روى أصحابنا: أن
184

ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يغنم، قال: وهذا يكون إذا لم يرجعوا إلى طاعة الإمام
فأما إن رجعوا إلى طاعته فهم أحق بأموالهم. هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في
مبسوطه، وذكر أيضا في مبسوطه فقال: إذا وقع أسير من أهل البغي في أيدي أهل العدل
فإن كان شابا من أهل القتال - وهو الجلد الذي يقاتل - كان له حبسه ولم يكن له
قتله، قال: وقال بعضهم: له قتله،
قال رحمه الله: والأول مذهبنا، فقد اعتمد رحمه الله وأقر بأن الأول مذهبنا وهو أنه لا يقتل
الأسير، وقال في مسائل خلافه في أحكام أهل البغي مثل قوله في مبسوطه في الأسير ولم
يذكر شيئا من أحكامهم في الاستبصار ولا في تهذيب الأحكام ولا ذكر في أخذ المال
ولا قتل الأسير شيئا والأخبار أوردها في كتاب تهذيب الأحكام وهو أكبر كتاب له في
الأخبار ما فيها شئ من أخذ ما حواه العسكر ولا قتل الأسير بل أورد أخبارا في هذا
الكتاب تتضمن خلاف ما ذكره في نهايته وجمله وعقوده، من ذلك الإيراد: محمد بن أحمد
بن يحيى عن أبي جعفر عن أبيه عن وهب بن جعفر عن أبيه عن جده عن مروان بن
الحكم قال: لما هزمنا على بالبصرة رد على الناس أموالهم من أقام بينة أعطاه ومن لم
يقم بينة أحلفه، قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين اقسم الفئ بيننا والسبي، قال:
فلما أكثروا عليه قال: أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟ فكفوا. وغير ذلك من الأخبار
لم يذكر فيها أخذ ما حواه العسكر بحال. وشيخنا المفيد لم يتعرض لذلك في مقنعته
بحال، فأما السيد المرتضى فقد ذكر في المسائل الناصريات " المسألة السادسة والمائتان ":
يغنم ما حوت عليه عساكر أهل البغي يضرب للفارس لفرس عتيق ثلاثة أسهم سهم
له وسهمان لفرسه ويسهم للبرذون سهم واحد، قال السيد المرتضى رحمه الله: هذا غير
صحيح لأن أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم وقسمتها كما تقسم أموال أهل الحرب ولا
أعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك، ويرجع الناس كلهم في هذا الموضع إلى ما قضى به أمير
المؤمنين ع في محاربي أهل البصرة فإنه منع من غنيمة أموالهم فلما رجع ع
في ذلك قال: أيكم يأخذ عائشة في سهمه وليس يمتنع أن يخالف حكم قتال
أهل البغي لقتال أهل دار الحرب في هذا الباب كما نخالف في أننا لا نتبع مولهم وإن
كان اتباع المولى من باقي المحاربين جائزا وإنما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدواب أهل
البغي وبسلاحهم في حال قيام الحرب فقال الشافعي: لا يجوز ذلك، وقال أبو حنيفة:
185

يجوز ما دامت الحرب قائمة، ثم قال المرتضى: وليس يمتنع عندي أن يجوز قتالهم
بسلاحهم على وجه لا يقع التملك له لأن ما منع من غنيمة أموالهم وقسمتها لا يمنع من
قتالهم بسلاحهم لا على وجه التملك له كأنهم رموا حربة إلى جهة أهل الحق فيجوز أن
يرموا بها على سبيل المدافعة والمقاتلة، فأما استدلال الشافعي بقوله ع: لا يحل
مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فليس بصحيح لأنه إنما نفى تملك مال
المسلمين وحيازته بغير طيب نفوسهم وليس كذلك المدافعة والممانعة، وقد استدل
أصحاب أبي حنيفة على صحة ما ذهبوا إليه في هذه المسألة بقوله تعالى: فقاتلوا التي
تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، قالوا: فأباح القتال عاما وذلك يشتمل على قتالهم
بدوابهم وسلاحهم وعلى قتالهم بدوابنا وسلاحنا، قال المرتضى: وهذا قريب.
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: الصحيح ما ذهب السيد المرتضى رضي
الله عنه إليه وهو الذي أختاره وأفتى به، والذي يدل على صحة ذلك ما استدل به رضي
الله عنه وأيضا فإجماع المسلمين على ذلك وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك، وقد حكينا في
صدر المسألة أقوال شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه الله في كتبه ولا دليل على خلاف ما
اخترناه، وقول الرسول ع: لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه،
وهذا الخبر قد تلقته الأمة بالقبول ودليل العقل يعضده ويسنده لأن الأصل بقاء الأملاك
على أربابها ولا يحل تملكها إلا بالأدلة القاطعة للأعذار.
والمحارب هو كل من قصد إلى أخذ مال الانسان وشهر السلاح في بر أو بحر أو حضر
أو سفر فمتى كان شئ من ذلك جاز للإنسان دفعه عن نفسه وماله، فإن أدى ذلك إلى
قتل اللص لم يكن عليه شئ وإن أدى إلى قتله هو كان بحكم الشهداء وثوابه ثوابهم
هذا مع غلبة ظنه بأنه يندفع له وأنه مستظهر عليه، وأما إن غلب على ظنه العطب وأن
اللص يستظهر عليه فلا يتعرض له بحال لأن التحرز من الضرر المظنون يجب كوجوبه من
الضرر المعلوم، فأما حكم المحارب وحده فسنذكره إن شاء الله تعالى في كتاب الحدود
عند المصير إليه.
باب من زيادات ذلك:
يجوز للإمام أن يذم لجميع المشركين، فأما من عدا الإمام فلا يجوز له أن يذم
186

لجميعهم بل إن كان واليا على صقع من الأصقاع فله أن يذم لمن في صقعه، فأما إن لم
يكن واليا فلا يجوز أن يذم إلا لآحاد المشركين دون الجماعات، ويجوز للإمام أن يذم
لقوم منهم ويجوز له أن يصالحهم على ما يراه ولا يجوز لأحد أن يذم عليه إلا باذنه، وإذا
كان جماعة من المسلمين في سرية فأذم واحد منهم لمشرك كانت ذمته ماضية على الكل
ولم يجز لأحد منهم الخلاف عليه وإن كان أدونهم في الشرف حرا كان أو عبدا.
ومتى استذم قوم من المشركين إلى المسلمين فقال لهم المسلمون: لا نذمكم، فجاؤوا
إليهم ظنا منهم أنهم أذموهم كانوا مأمونين ولم يكن عليهم سبيل. ومن أذم مشركا أو
غير مشرك ثم خفره ونقض ذمامه كان غادرا آثما.
ويكره أن يعرقب الانسان الدابة على جميع الأحوال فإن وقفت عليه في أرض العدو
فليخلها ولا يعرقبها إلا إذا خاف أن تركب ويلحقه العدو عليها فله عند هذه الحال أن
يعرقبها.
وإذا اشتبه قتلى المشركين بقتلى المسلمين فقد روي: أنه يوارى منهم من كان صغير
الذكر،
وهذه رواية شاذة لا يعضدها شئ من الأدلة، والأقوى عندي أنه يقرع عليهم لأن كل
أمر مشكل عندنا فيه القرعة بغير خلاف وهذا من ذاك.
فأما الصلاة عليهم فالأظهر من أقوال أصحابنا أنه يصلى عليهم بنية الصلاة على المسلمين
دون الكفار.
ولا بأس أن يغزو الانسان عن غيره ويأخذ منه على ذلك الأجرة فإن حصلت غنيمة
كان السهم للأجير دون المستأجر، ويكره تبييت العدو ليلا وإنما يلاقون بالنهار هذا مع
الاستظهار على ما قدمناه، ويستحب ألا يؤخذ في القتال إلا بعد زوال الشمس فإن
اقتضت المصلحة تقديمه قبل ذلك فلا بأس. ولا يجوز التمثيل بالكفار ولا الغدر بهم ولا
الغلول منهم، ولا ينبغي تغريق المساكن والزروع ولا قطع الأشجار المثمرة في أرض العدو
والإضرار بهم إلا عند الحاجة الشديدة إلى ذلك على ما أسلفنا القول فيه وشرحناه.
وقال بعض أصحابنا: إنه ليس للأعراب من الغنيمة شئ وإن قاتلوا مع المهاجرين،
187

وهذه رواية شاذة مخالفة لأصول مذهب أصحابنا أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته في
باب الزيادات، وهذا يدل على وهنها عنده لأنه لا خلاف بين المسلمين أن كل من قاتل
من المسلمين فإنه من جملة المقاتلة وأن الغنيمة للمقاتلة وسهمه ثابت في ذلك فلا يخرج من
هذا الاجماع إلا بإجماع مثله أو دليل مكاف له ولا يرجع فيه إلى أخبار آحاد لا توجب
علما ولا عملا.
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن له إقامة الحدود والقضاء والحكم بين
المختلفين ومن ليس له ذلك:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بلا خلاف بين الأمة وإنما الخلاف في
هل يجبان عقلا أو سمعا
فقال الجمهور من المتكلمين والمحصلين من الفقهاء: إنهما يجبان سمعا وإنه ليس في
العقل ما يدل على وجوبهما وإنما علمناه بدليل الاجماع من الأمة وبأي من القرآن
والأخبار المتواترة، فأما ما يقع منه على وجه المدافعة فإنه يعلم وجوبه عقلا لما علمناه
بالعقل من وجوب دفع المضار عن النفس فذلك لا خلاف فيه وإنما الخلاف فيما عداه.
وهذا هو الذي يقوى في نفسي والذي يدل عليه هو أنه لو وجبا عقلا لكان في العقل دليل
على وجوبهما وقد سبرنا أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما ولا يمكن العلم
الضروري في ذلك لوجود الخلاف فيه، وهذا القول خيره السيد المرتضى، وقال قوم:
طريق وجوبهما العقل، وإلى هذا المذهب يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي الله عنه
في كتابه الاقتصاد بعد أن قوى الأول واستدل على صحته بأدلة العقول، ثم قال رحمه
الله: ويقوى في نفسي أنه يجب عقلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: لما فيه من
اللطف ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب، قال: لأنا متى قلنا ذلك لزمنا
أن الإمامة ليست واجبة بأن يقال: يكفي العلم باستحقاق الثواب و العقاب وما زاد عليه
في حكم الندب وليس بواجب، قال رحمه الله: فالأليق بذلك أنه واجب، ثم قال رحمه
الله: واختلفوا في كيفية وجوبهما فقال الأكثر: إنهما من فروض الكفاية إذا قام به
البعض سقط عن الباقين، وقال قوم: هما من فروض الأعيان، ثم قال رحمه الله: وهو
الأقوى عندي لعموم آي القرآن والأخبار.
188

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: والأظهر بين أصحابنا أنهما من فروض
الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وهو اختيار السيد المرتضى.
والأمر بالمعروف على ضربين: واجب وندب. فالأمر بالواجب منه واجب والأمر
بالمندوب مندوب لأن الأمر به لا يزيد على المأمور به نفسه. والنهي عن المنكر لا ينقسم
بل كله قبيح والنهي عنه كله واجب، والنهي عن المنكر له شروط ستة: أحدها: أن
يعلمه منكرا وثانيها: أن يكون هناك أمارة الاستمرار عليه وثالثها: أن يظن أن إنكاره
يؤثر أو يجوزه ورابعها: أن لا يخاف على نفسه وخامسها: ألا يخاف على ماله وسادسها:
أن لا تكون فيه مفسدة. وإن اقتصرت على أربعة شروط كان كافيا لأنك إذا قلت: لا
يكون فيه مفسدة، دخل فيه الخوف على النفس والمال لأن ذلك كله مفسدة.
والغرض بإنكار المنكر ألا يقع فإذا أثر القول والوعظ في ارتفاعه اقتصر عليه ولا يجوز
حينئذ باليد، وإن لم يؤثر وجب باليد بأن يمتنع منه ويدفع عنه وإن أدى ذلك إلى إيلام
المنكر عليه والإضرار به وإتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر وألا يقع من
فاعله ولا يقصد إيقاع الضرر به.
قال شيخنا أبو جعفر في كتابه الاقتصاد: غير أن ظاهر مذهب شيوخنا الإمامية أن هذا
الجنس من الانكار لا يكون إلا للإمام أو لمن يأذن له الإمام فيه، ثم قال رحمه الله:
وكان المرتضى رحمه الله يخالف في ذلك ويقول: يجوز فعل ذلك بغير إذنه لأن ما يفعل
بإذنهم يكون مقصودا وهذا بخلاف ذلك لأنه غير مقصود وإنما قصده المدافعة والممانعة
من وقع ضرر فهو غير مقصود. هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي في الاقتصاد، وما
ذهب سيدنا المرتضى رضي الله عنه إليه هو الأقوى وبه أفتى وقد رجع شيخنا أبو جعفر
الطوسي إلى قول المرتضى في كتاب التبيان وقواه ونصره وضعف ما عداه، وإلى ما ذهب
في الاقتصاد ذهب في النهاية. فقال في نهايته: وقد يجب إنكار المنكر بضرب من الفعل
وهو أن يهجر فاعله ويعرض عنه وعن تعظيمه ويفعل معه من الاستخفاف ما يرتدع معه
من المناكير فإن خاف الفاعل للإنكار باللسان ضررا اقتصر على الانكار بالقلب حسب
ما قدمناه في المعروف سواء.
فأما إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان المنصوب من قبل الله
189

تعالى أو من نصبه الإمام لإقامتها، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال، وقد رخص
في حال قصور أيدي أئمة الحق وتغلب الظالمين أن يقيم الانسان الحد على ولده وأهله
ومماليكه إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين وأمن بوائقهم.
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: والأقوى عندي أنه لا يجوز له أن يقيم
الحدود إلا على عبده فحسب دون ما عداه من الأهل والقرابات لما قد ورد في العبد من
الأخبار واستفاض به النقل بين الخاص والعام.
وقد روي: أن من استخلفه سلطان ظالم على قوم وجعل إليه إقامة الحدود جاز له أن
يقيمها عليهم على الكمال ويعتقد أنه إنما يفعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان
الجور، ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك ما لم يتعد الحق في ذلك وما هو
مشروع في شريعة الاسلام، فإن تعدى ما جعل إليه الحق لم يجز له القيام به ولا لأحد
معاونته على ذلك.
والأولى في الديانة ترك العمل بهذه الرواية بل الواجب ذلك.
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: والرواية أوردها شيخنا أبو جعفر في
نهايته وقد اعتذرنا له فيما يورده في هذا الكتاب - أعني النهاية - في عدة مواضع وقلنا:
إنه يورده إيرادا من طريق الخبر لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر لأن الاجماع حاصل
منعقد من أصحابنا ومن المسلمين جميعا: أنه لا يجوز إقامة الحدود ولا المخاطب بها إلا
الأئمة والحكام القائمون بإذنهم في ذلك فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض بها على حال.
ولا يرجع عن هذا الاجماع بأخبار الآحاد بل بإجماع مثله أو كتاب الله تعالى أو سنة
متواترة مقطوع بها.
فإن خاف الانسان على نفسه من ترك إقامتها فإنه يجوز له أن يفعل في حال التقية ما لم
يبلغ قتل النفوس فلا يجوز فيه التقية عند أصحابنا بلا خلاف بينهم.
وأما الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين فلا يجوز أيضا إلا لمن أذن له سلطان
الحق في ذلك وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم المأمونين المحصلين الباحثين عن مأخذ
الشريعة الديانين القيمين بذلك في حال لا يتمكنون فيه من توليته بنفوسهم، فمن تمكن
190

من إنفاذ حكم وهو من أهله أو إصلاح بين الناس أو فصل بين المختلفين فليفعل ذلك
وله به الأجر والثواب ما لم يخف على نفسه ولا على أحد من أهل الإيمان ويأمن الضرر
فيه، فإن خاف شيئا من ذلك لم يجز له التعرض له على حال، ومن دعا غيره إلى فقيه
من فقهاء أهل الحق ليفصل بينهما فلم يجبه وآثر المضي إلى المتولي من قبل الظالمين كان
في ذلك متعديا للحق مرتكبا للآثام مخالفا للإمام مرتكبا للسيئات العظام.
ولا يجوز لمن يتولى الفصل بين المختلفين والقضاء بينهم أن يحكم إلا بموجب الحق،
ولا يجوز له أن يحكم بمذاهب أهل الخلاف فإن كان قد تولى الحكم من قبل الظالمين بغير
اختياره فليجتهد أيضا في تنفيذ الأحكام على ما تقتضيه شريعة الاسلام، فإن اضطر إلى
تنفيذ حكم على مذهب أهل الخلاف بالخوف على النفس أو الأهل أو المؤمنين أو على
أموالهم جاز له تنفيذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس فإنه لا تقية له في قتل النفوس
حسب ما أسلفنا القول في معناه.
ويجوز لأهل الحق أن يجمعوا بالناس للصلوات كلها، وقد روي: صلاة الجمعة
والعيدين، ويخطبوا الخطبتين ويصلوا بهم صلاة الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضررا فإن
خافوا في ذلك الضرر لم يجز لهم التعرض له على حال، وقد قلنا ما عندنا في صلاة الجمعة
جمعة وأن ذلك لا يجوز في حال استتار الإمام لأن الجمعة لا تصح ولا تنعقد جمعة إلا
بالإمام أو إذن من جهته وتوليته لذلك، فإذا فقدنا ذلك صليناها ظهرا أربع ركعات،
وأشبعنا القول فيه في كتاب الصلاة وحررناه.
وقد ذكر سلار في رسالته في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: ولفقهاء الطائفة
أن يصلوا بالناس في الأعياد والاستسقاء فأما الجمع فلا، هذا آخر كلامه وهو الأظهر.
ومن لا يحسن القضايا والأحكام في إقامة الحدود وغيرها لا يجوز له التعرض لذلك
على حال، فإن تعرض له كان مأثوما معاقبا، فإن أكره على تولى ذلك واضطرته تقية لم
يكن عليه في ذلك شئ ويجتهد لنفسه من الأباطيل بكل ما يقدر عليه، ولا يجوز لأحد
أن يختار النظر من قبل الظالمين إلا في حال يقطع ويعلم أنه لا يتعدى الواجب ويتمكن
من وضع الأشياء مواضعها ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن علم أنه يخل
191

بواجب أو يركب قبيحا أو غلب على ظنه ذلك فلا يجوز له التعرض له بحال من الأحوال
مع الاختيار، فإن أكره على الدخول فيه واضطرته التقية جاز له حينئذ ذلك، وليجتهد
ويتجوز لنفسه حسب ما قدمناه.
192

إشارة السبق إلى معرفة الحق
لعلاء الدين أبي الحسن علي بن أبي الفضل
الحسن بن أبي المجد الحلبي
193

وأما الكلام في الجهاد
فهو فرض على الكفاية وشرائط وجوبه: الحرية والذكورة والبلوغ وكمال العقل
والقدرة بالصحة والأوقات المانعة منه والاستطاعة له بالخلو من العجز عنه والتمكن منه
وما لا يتم كونه جهادا إلا به من ظهر وآلة وكلفة ونفقة وغير ذلك مع أمر إمام الأصل به
أو من نصبه وجرى مجراه أو ما حكمه حكم ذلك من حصول الخوف الطارئ على كلمة
الاسلام والمفضي إلى احتياج الأنفس والأموال. فبتكاملها يجب وبارتفاعها أو الإخلال
بشرط منها يسقط، فكل من أظهر الكفر أو خالف الاسلام من سائر فرق الكفار يجب
مع تكامل ما ذكرناه من الشروط جهادهم، وكذا حكم من فرق عن طاعة الإمام العادل
أو حاربه أو بغى عليه أو أشهر سلاحا في حضر أو سفر أو بر أو بحر أو تخطى إلى مال
مسلم أو ذمي.
وينبغي قبل وقوع الابتداء به تقدم الإعذار والإنذار والتخويف والإرهاب والاجتهاد
في الدعاء إلى اتباع الحق والدخول فيه والتحذير من الإصرار على مخالفته والخروج عنه
والإمساك مع ذلك عن الحرب حتى يكون العدو وهو البادئ بها والمسارع إليها ليحق
عليه بها الحجة ويستوجب خذلان الباغي، وأولى ما قصد إليها بعد الزوال وأداء
الصلاتين وتقدم الاستخارة عند العزم عليها ويرغب في النصر إلى الله سبحانه ويعبئ
أمرها الصفوف ويجعل كل قوم من المحاربين تحت راية أشجعهم وأقواهم مراسا وأبصرهم
بها مع تمييزهم بشعار يتعارفون به، وتأكيد وصيتهم بتقوى الله وإخلاص
195

الجهاد له والثبات رغبة في ثوابه ورهبة من عقابه وتوقي الفرار لما فيه من عاجل العار
وآجل النار.
ويأمر بالحملة بعضا ويبقى في بعض آخر ليكون عرفا لهم وفئة لمن يتحيز إليه منهم،
فإن ترجح العدو وإلا أردف أصحابه ببعض ممن معه وتقدم بهم رجاء زوال صفوفهم
عن مواضعها ليحمل به عليهم بنفسه وجيشه حملة واحدة.
والمبارزة بغير إذنه لا تجوز ولا فرار الواحد من واحد واثنين بل من ثلاثة وما زاد.
وكلما يرجى به الفتح يجوز قتال الأعداء به إلا إلقاء السم في ديارهم، ومن يرى من
الكفار حرمة الأشهر الحرم إذا لم يبدأ بالقتال لا يقاتل فيها، ومن عدا أهل الكتاب من
جميع من يجب جهاده لا يكف عن قتالهم إلا بالرجوع إلى الحق وهؤلاء وهم اليهود
والنصارى والمجوس يجب الكف عنهم إذا قبلوا الجزية والتزموا بشروطها التي من
جملتها: أن لا يتظاهروا بكفرهم ولا يعينوا على مسلم ولا يرفعوا عليه صوتا ولا
كلمة ولا يتجاهروا بشبهة ولا أذية ولا باستعمال المحرمات في الملة الإسلامية ولا يجددوا كنيسة
ولا يقيموا ما دثر منها ولا يظهروا شعار باطل كصليب وغيره. فمتى وفوا بذلك لزم الدفع
عنهم وألا يمكن منهم وإلا كانوا مغنما لأهل الاسلام دما ومالا وأهلا وذرية.
وتوضع الجزية على رؤوسهم وأراضيهم بحسب ما يراه الإمام وتصرف إلى أهل
الجهاد، ولا تؤخذ من النساء ولا من غير بالغ كامل العقل ولا من غير ما ذكرناه من
الفرق الثلاث، وإذا حال الحول على الذمي ولم يؤدها فأسلم أسقطها عنه إسلامه.
ويقاتل الحربيون مقبلين ومدبرين بحيث يتبع مدبرهم ويقتل منهزمهم وأسيرهم
ويجاز على جريحهم سواء كانوا كفار ملة أو ردة لهم فئة إليها مرجعهم، ولا يفعل ببغاة
أهل الردة ذلك إذا لم يكن لهم ملة بل يقتصر على قتالهم من غير اتباع ولا إجهاز ولا قتل
أسير، فأما من أظهر الارتداد وإن لم يدخل في حكم البغاة فإنه إن كان في الأصل كافرا
فأسلم ثم ارتد بعد إظهاره الاسلام يستتاب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل، وإن كان مسلما لا
عن شرك بل ممن ولد على الفطرة ونشأ على إظهار كلمة الاسلام ثم أظهر الارتداد
بتحليله ما حرم الشرع أو تحريمه ما حلله فإنه يقتل من غير استتابة.
196

والمفسدون في الأرض كقطاع الطرق والواثبين على نهبة الأموال يقتلون إن قتلوا،
فإن زادوا على القتل بأخذ الأموال صلبوا بعد قتلهم، ويقطعون من خلاف إذا تفردوا
بالأخذ دون القتل، وإن لم يحدث منهم سوى الإخافة والإرجاف نفوا من بلد إلى بلد
وأودعوا السجن إلى أن يتوبوا أو يموتوا.
ومن أسر قبل وضع الحرب أوزارها قتل لا محالة، وبعدها يكون لولي الأمر حق
الاختيار فيه إما بالقتل أو الاسترقاق أو المفاداة.
ولا يغنم من محاربي البغاة إلا ما حواه الجيش من مال أو متاع وغيره فيما يخص دار
الحرب لا على جهة الغصب، فأما من عداهم من الكفار والمحاربين فيغنم منهم ذلك
وغيره من أهل وذرية ورباع وأرض.
وتقسم الغنيمة المنقولة بين المجاهدين سهمان للفارس وسهم للراجل بعد ابتداء سد
الخلل اللازم سده في الاسلام، وبعد اصطفاء ما للولي أن يصطفيه لنفسه من فرس
وجارية ومملوك وآلات حرب وغيرها، وبعد اخراج الخمس منها ودفعه إلى مستحقيه،
ويسهم للمولود في دار الجهاد واللاحق للمعونة، ولا فرق في ذلك بين غنائم البر والبحر
ولا بين من معه فرس واحد أو جماعة في أن له بحساب ما معه منها، وما لا يمكن نقله من
العقارات والأرضين فئ لجميع المسلمين حاضرهم وغائبهم ومقاتلهم وغيره.
والأرض إما أن تكون مفتحة بالسيف عنوة فلا يصح التصرف فيها ببيع ولا هبة بل
حكمها ما ذكرناه، وإلى الإمام تقبيلها والحكم فيها بما شاء ويلزم المستقبل - بعد أداء ما
عليه من حق القبالة - الزكاة إذا بلغ ما بقي له النصاب.
وإما أن تكون خراجية بالصلح عليها فيصح التصرف بها لأنها أرض الجزية المختصة
بأهل الكتاب، والمأخوذ منها كالمأخوذ من جزية الرؤوس يسقط بالإسلام، ولا يجوز
الجمع بين الأخذ على الجهتين بل متى أخذ من أحدهما سقط عن الأخرى، ويسقط
خراج هذه الأرض بانتقالها إلى المسلم بالبيع وتعود الجزية إلى رأس بائعها.
وإما أن تكون من الأنفال وهي كل أرض خرجت أو باد أهلها أو سلموها بغير
محاربة أو جلوا عنها أو ماتوا ولا وارث لهم بقرابة ولا عتق وقطائع الملوك وصوافيهم من
197

غير جهة غصب وبطون الأودية والآجام ورؤوس الجبال، فكلها للإمام القائم ع
مقام النبي ص لا تصرف فيها لأحد سواه.
وإما أن تكون أرضا أسلم أهلها وأجابوا إلى الحق طوعا فهي ملك لهم يتصرفون فيها
كما يشاؤون.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وإن كانا فرضين من فرائض الاسلام فهل هما على الكفاية أو التعيين وهل يجبان
عقلا أو سمعا؟ الأقوى وجوبهما على الأعيان سمعا إلا ما فيه دفع ضرر على النفس
فإن التحرز منه بدفعه يعلم وجوبه بقضية العقل.
ولا بد من العلم بالمعروف وبالمنكر، وتمييز كل واحد منهما عن الآخر، وظهور
أمارات استمرار ما يجب إنكاره مستقبلا، وثبوت العلم أو الظن بتأثير الأمر والنهي،
وأن النكير لا يفضى بصاحبه إلى ضرر يدخل عليه في نفس أو مال ولا إلى تجدد مفسدة في
دين أو دنيا. فمع تكامل هذه الشروط وحصول الاستطاعة والمكنة يجب باليد واللسان
والقلب، فإن فقدت القدرة تعذر الجمع فيه بين ذلك فباللسان والقلب خاصة وإن لم
يمكن الجمع فيه بينهما لأحد الأسباب المانعة فلا بد منه باللسان الذي لا يسقط الانكار
به شئ في كفر واحد.
ما يجب إنكاره لا يكون إلا قبيحا فلذلك لا يكون الانكار إلا واجبا، وما يؤمر به قد
يكون واجبا إذا كان أمرا بواجب وقد يكون مندوبا إذا كان أمرا بندب، وأي وجه
أمكن الانكار عليه لا يجوز الاقتصار على ما دونه والإخلال به جملة من أقبح القبائح
لكونه إخلالا بواجب وإضاعة لأمر عظيم من أمور الدين.
198

شرائع الاسلام
في مسائل الحلال والحرام
لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا
يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي المشتهر بالمحقق وبالمحقق الحلي
602 - 676 ه‍ ق
199

كتاب الجهاد
والنظر في أركان أربعة:
الركن الأول: من يجب عليه:
وهو فرض على كل مكلف حر ذكر غيرهم.
فلا يجب على الصبي ولا على المجنون ولا على المرأة ولا على الشيخ الهم ولا على
المملوك. وفرضه على الكفاية بشرط وجود الإمام أو من نصبه للجهاد.
ولا يتعين إلا أن يعينه الإمام لاقتضاء المصلحة أو لقصور القائمين عن الدفع إلا
بالاجتماع أو يعينه على نفسه بنذر وشبهه.
وقد تجب المحاربة على وجه الدفع كأن يكون بين أهل الحرب ويغشاهم عدو يخشى
منه على نفسه فيساعدهم دفعا عن نفسه ولا يكون جهادا، وكذا كل من خشي على نفسه
مطلقا أو ماله إذا غلبت السلامة.
ويسقط فرض الجهاد بأعذار أربعة: العمى والزمن كالمقعد والمرض المانع من
الركوب والعدو والفقر الذي يعجز معه عن نفقة طريقه وعياله وثمن سلاحه، ويختلف
ذلك بحسب الأحوال.
فروع ثلاثة:
الأول: إذا كان عليه دين مؤجل فليس لصاحبه منعه، ولو كان حالا وهو معسر
201

قيل: له منعه، وهو بعيد.
الثاني: للأبوين منعه عن الغزو ما لم يتعين عليه.
الثالث: لو تجدد العذر بعد التحام الحرب لم يسقط فرضه على تردد إلا مع العجز عن
القيام به.
وإذا بذل للمعسر ما يحتاج إليه وجب ولو كان على سبيل الأجرة لم يجب، ومن
عجز عنه بنفسه وكان موسرا وجب إقامة غيره، وقيل: يستحب، وهو أشبه. ولو كان
قادرا فجهز غيره سقط عنه ما لم يتعين.
ويحرم الغزو في أشهر الحرم إلا أن يبدأ الخصم أو يكونوا ممن لا يرى للأشهر حرمة،
ويجوز القتال في الحرم وقد كان محرما فنسخ، ويجب المهاجرة عن بلد الشرك على من
يضعف عن إظهار شعائر الاسلام مع المكنة والهجرة باقية ما دام الكفر باقيا.
ومن لواحق هذا الركن:
المرابطة وهي: الإرصاد لحفظ الثغر. وهي مستحبة ولو كان الإمام مفقودا لأنها لا
تتضمن قتالا بل حفظا وإعلاما، ومن لم يتمكن منها بنفسه يستحب أن يربط فرسه
هناك.
ولو نذر المرابطة وجبت مع وجود الإمام وفقده، وكذا لو نذر أن يصرف شيئا في
المرابطين وجب على الأصح، وقيل: يحرم ويصرفه في وجوه البر إلا مع خوف الشنعة،
والأول أشبه.
ولو آجر نفسه وجب عليه القيام بها ولو كان الإمام مستورا، وقيل إن وجد المستأجر
أو ورثته ردها وإلا قام بها، والأولى الوجوب من غير تفصيل.
الركن الثاني: في بيان من يجب جهاده وكيفية الجهاد:
وفيه أطرف:
الطرف الأول: في من يجب جهاده:
وهم ثلاثة: البغاة على الإمام من المسلمين، وأهل الذمة وهم اليهود والنصارى
202

والمجوس إذا أخلوا بشرائط الذمة، ومن عدا هؤلاء من أصناف الكفار.
وكل من يجب جهاده فالواجب على المسلمين النفور إليهم إما لكفهم وإما لنقلهم إلى
الاسلام، فإن بدؤوا فالواجب محاربتهم وإن كفوا وجب بحسب المكنة وأقله في كل عام
مرة، وإذا اقتضت المصلحة مهادنتهم جاز لكن لا يتولى ذلك إلا الإمام أو من يأذن له
الإمام.
الطرف الثاني: في كيفية قتال أهل الحرب:
والأولى أن يبدأ بقتال من يليه إلا أن يكون الأبعد أشد خطرا، ويجب التربص إذا
كثر العدو وقل المسلمون حتى تحصل الكثرة للمقاومة ثم يجب المبادرة، ولا يبدأون إلا
بعد الدعاء إلى محاسن الاسلام ويكون الداعي الإمام أو من نصبه، ويسقط اعتبار الدعوة
في من عرفها.
ولا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف (من المسلمين) أو أقل، إلا لمتحرف
كطالب السعة أو موارد المياه أو استدبار الشمس أو تسوية لأمته، أو لمتحيز إلى فئة قليلة
كانت أو كثيرة.
ولو غلب عنده الهلاك لم يجز الفرار، وقيل: يجوز، لقوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة، والأول أظهر لقوله تعالى: إذا لقيتم فئة فأثبتوا. وإن كان المسلمون أقل
من ذلك لم يجب الثبات، ولو غلب على الظن السلامة استحب وإن غلب العطب قيل:
يجب الانصراف، وقيل: يستحب، وهو أشبه. ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم
يجب الثبات، وقيل: يجب، وهو المروي.
ويجوز محاربة العدو بالحصار ومنع السابلة دخولا وخروجا وبالمجانيق وهدم الحصون
والبيوت وكل ما يرجى به الفتح، ويكره قطع الأشجار ورمى النار وتسليط المياه إلا مع
الضرورة، ويحرم بإلقاء السم، وقيل: يكره، وهو أشبه، فإن لم يمكن الفتح إلا به جاز.
ولو تترسوا بالنساء أو الصبيان منهم كف عنهم إلا في حال التحام الحرب، وكذا لو
تترسوا بالأسارى من المسلمين وإن قتل الأسير إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك، ولا يلزم
203

القاتل دية ويلزمه كفارة وفي الأخبار ولا الكفارة، ولو تعمده الغازي مع إمكان التحرز
لزمه القود والكفارة.
ولا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم ولو عاونهم إلا مع الاضطرار،
ولا يجوز التمثيل بهم ولا الغدر، ويستحب أن يكون القتال بعد الزوال، وتكره الإغارة
عليهم ليلا والقتال قبل الزوال إلا لحاجة، وأن يعرقب الدابة وإن وقفت به، والمبارزة
بغير إذن الإمام، وقيل: يحرم. ويستحب المبارزة إذا ندب إليها الإمام، وتجب إذا ألزم.
فرعان:
الأول: المشرك إذا طلب المبارزة ولم يشترط جاز معونة قرنه، فإن شرط أن لا يقاتله
غيره وجب الوفاء له، فإن فر فطلبه الحربي جاز دفعه ولو لم يطلبه لم يجز محاربته، وقيل:
يجوز ما لم يشترط الأمان حتى يعود إلى فئته.
الثاني: لو اشترط ألا يقاتله غير قرنه فاستنجد أصحابه فقد نقض أمانه، فإن تبرعوا
فمنعهم فهو في عهدة شرطه وإن لم يمنعهم جاز قتاله معهم.
الطرف الثالث: في الذمام:
والكلام في العاقد والعبارة والوقت:
أما العاقد: فلا بد أن يكون بالغا عاقلا مختارا، ويستوي في ذلك الحر والمملوك
والذكر والأنثى. ولو أذم المراهق أو المجنون لم ينعقد لكن يعاد إلى مأمنه، وكذا كل
حربي دخل في دار الاسلام بشبهة الأمان كأن يسمع لفظا فيعتقده أمانا أو يصحب
رفقة فيتوهمها أمانا.
ويجوز أن يذم الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب فلا يذم عاما ولا لأهل
إقليم، وهل يذم لقرية أو حصن؟ قيل: نعم، كما أجاز علي ع ذمام الواحد
لحصن من الحصون، وقيل: لا، وهو الأشبه، وفعل على ع قضية في واقعة فلا
يتعدى.
والإمام يذم لأهل الحرب عموما وخصوصا وكذا من نصبه الإمام للنظر في جهة يذم
204

لأهلها، ويجب الوفاء بالذمام ما لم يكن متضمنا لما يخالف الشرع، ولو أكره العاقد لم
ينعقد.
وأما العبارة: فهو أن يقول: أمنتك أو أجرتك أو أنت في ذمة الاسلام، وكذا كل
لفظ دال على هذا المعنى صريحا وكذا كل كناية علم بها ذلك من قصد العاقد. ولو
قال: لا بأس عليك أو لا تخف، لم يكن ذماما ما لم ينضم إليه ما يدل على الأمان.
وأما وقته: فقبل الأسر، ولو أشرف جيش الاسلام على الظهور فاستذم الخصم جاز
مع نظر المصلحة، ولو استذموا بعد حصولهم في الأسر فأذم لم يصح، ولو أقر المسلم أنه أذم
لمشرك فإن كان في وقت يصح منه إنشاء الأمان قبل.
ولو ادعى الحربي على المسلم الأمان فأنكر (المسلم) فالقول قوله، ولو حيل بينه وبين
الجواب بموت أو إغماء لم تسمع دعوى الحربي، وفي الحالين يرد إلى مأمنه ثم هو حرب.
وإذا عقد الحربي لنفسه الأمان ليسكن في دار الاسلام دخل ماله تبعا، ولو التحق
بدار الحرب للاستيطان انتقض ذمامه لنفسه دون ماله، ولو مات انتقض الأمان في المال
أيضا إن لم يكن له وارث مسلم وصار فيئا ويختص به الإمام لأنه لم يوجف عليه،
وكذا الحكم لو مات في دار الاسلام، ولو أسره المسلمون فاسترق ملك ماله تبعا لرقبته.
ولو دخل المسلم دار الحرب مستأمنا فسرق وجب إعادته سواء كان صاحبه في دار
الاسلام أو في دار الحرب، ولو أسر المسلم وأطلقوه وشرطوا الإقامة عليه في دار الحرب
والأمن منه لم يجب الإقامة وحرمت عليه أموالهم بالشرط، ولو أطلقوه على مال لم يجب
الوفاء به.
ولو أسلم الحربي وفي ذمته مهر لم يكن لزوجته مطالبته ولا لوارثها، ولو ماتت ثم
أسلم أو أسلمت قبله ثم ماتت طالبه وارثها المسلم دون الحربي.
خاتمة فيها فصلان:
الأول:
يجوز أن يعقد العهد على حكم الإمام أو غيره ممن نصبه للحكم، ويراعى في
205

الحاكم: كمال العقل والإسلام والعدالة، وهل تراعى الذكورة والحرية؟ قيل: نعم،
وفيه تردد. ويجوز المهادنة على حكم من يختاره الإمام دون أهل الحرب إلا أن يعينوا رجلا
يجتمع فيه شروط الحاكم، ولو مات الحاكم قبل الحكم بطل الأمان ويردون إلى مأمنهم،
ويجوز أن يسند الحكم إلى اثنين وأكثر ولو مات أحدهم بطل حكم الباقين ويتبع ما يحكم
به الحاكم إلا أن يكون منافيا لوضع الشرع، ولو حكم بالسبي والقتال وأخذ المال
فأسلموا سقط الحكم (في القتال خاصة) لا في المال، ولو جعل للمشرك فدية عن أسراء
المسلمين لم يجب الوفاء لأنه لا عوض للحر.
الثاني:
يجوز لوالي الجيش جعل الجعائل لمن يدله على مصلحة كالتنبيه على عورة القلعة
وطريق البلد الخفي، فإن كانت الجعالة من ماله دينا اشترط كونها معلومة الوصف
والقدر وإن كانت عينا فلا بد أن تكون مشاهدة أو موصوفة وإن كانت من مال الغنيمة
جاز أن تكون مجهولة كجارية وثوب.
تفريع:
لو كانت الجعالة عينا وفتح البلد على أمان فكانت في الجملة، فإن اتفق المجعول له
وأربابها على بذلها أو إمساكها بالعوض جاز وإن تعاسرا فسخت الهدنة ويردون إلى
مأمنهم.
ولو كانت الجعالة جارية فأسلمت قبل الفتح لم تدفع إليه ودفعت القيمة وكذا لو
أسلمت بعد الفتح وكان المجعول له كافرا، ولو ماتت قبل الفتح أو بعده لم يكن له
عوض.
الطرف الرابع: في الأسارى:
وهم ذكور وإناث.
206

فالإناث يمكن بالسبي ولو كانت الحرب قائمة وكذا الذراري، ولو اشتبه الطفل
بالبالغ اعتبر بالإنبات فمن لم ينبت وجهل سنه الحق بالذراري.
والذكور البالغون يتعين عليهم القتل إن كانت الحرب قائمة ما لم يسلموا والإمام
مخير إن شاء ضرب أعناقهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم ينزفون
حتى يموتوا، وإن أسروا بعد تقضي الحرب لم يقتلوا وكان الإمام مخيرا بين المن والفداء
والاسترقاق، ولو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم.
ولو عجز الأسير عن المشي لم يجب قتله لأنه لا يدري ما حكم الإمام فيه ولو بدر
مسلم فقتله كان هدرا، ويجب أن يطعم الأسير ويسقي وإن أريد قتله، ويكره قتله صبرا
وحمل رأسه من المعركة.
ويجب مواراة الشهيد دون الحربي وإن اشتبها يوارى من كان كميش الذكر.
وحكم الطفل المسبي حكم أبويه، فإن أسلما أو أسلم أحدهما تبعه الولد، ولو سبي
منفردا قيل: يتبع السابي في الاسلام.
تفريع:
إذا أسر الزوج لم ينفسخ النكاح ولو استرق انفسخ لتجدد الملك، ولو كان الأسير
طفلا أو امرأة انفسخ النكاح لتحقق الرق بالسبي، وكذا لو أسر الزوجان.
ولو كان الزوجان مملوكين لم ينفسخ لأنه لم يحدث رق، ولو قيل: بتخير الغانم في
الفسخ، كان حسنا.
ولو سبيت امرأة فصولح أهلها على إطلاق أسير في يد أهل الشرك فأطلق لم يجب
إعادة المرأة، ولو أعتقت بعوض جاز ما لم يكن قد استولدها مسلم.
ويلحق بهذا الطرف مسألتان:
الأولى: إذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن دمه وعصم ماله - مما ينقل كالذهب
(والفضة) والأمتعة دون ما لا ينقل كالأرضين والعقار فإنها للمسلمين - ولحق به ولده
207

الأصاغر ولو كان فيهم حمل، ولو سبيت أم الحمل كانت رقا دون ولدها منه وكذا لو
كانت الحربية حاملا من مسلم بوطئ مباح، ولو أعتق مسلم عبدا ذميا بالنذر فلحق بدار
الحرب فأسره المسلمون جاز استرقاقه، وقيل: لا، لتعلق ولاء المسلم به، ولو كان المعتق
ذميا استرق إجماعا.
الثانية: إذا أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل مولاه ملك نفسه بشرط أن يخرج
قبله، ولو خرج بعده كان على رقه، ومنهم من لم يشترط خروجه، والأول أصح.
الطرف الخامس: في أحكام الغنيمة:
والنظر في الأقسام وأحكام الأرضين المفتوحة وكيفية القسمة:
أما الأول:
فالغنيمة هي الفائدة المكتسبة سواء اكتسبت برأس مال كأرباح التجارات أو بغيره
كما يستفاد من دار الحرب. والنظر ههنا يتعلق بالقسم الأخير، وهي أقسام ثلاثة:
الأول: ما ينقل كالذهب والفضة والأمتعة.
الثاني: وما لا ينقل كالأرض والعقار.
الثالث: وما هو سبي كالنساء والأطفال. والأول: ينقسم إلى ما يصح تملكه للمسلم وذاك يدخل في الغنيمة وهذا القسم
يختص به الغانمون بعد الخمس والجعائل، ولا يجوز لهم التصرف في شئ منه إلا بعد
القسمة والاختصاص، وقيل: يجوز لهم تناول ما لا بد منه كعلف الدابة وأكل الطعام.
وإلى ما لا يصح تملكه كالخمر والخنزير، ولا يدخل في الغنيمة بل ينبغي إتلافه (إن
أمكن) كالخنزير، ويجوز إتلافه وإبقاؤه للتخليل كالخمر.
فروع:
الأول: إذا باع أحد الغانمين غانما شيئا أو وهبه لم يصح، ويمكن أن يقال: يصح في
208

قدر حصته، ويكون الثاني أحق باليد على قول. ولو خرج هذا إلى دار الحرب أعاده إلى
المغنم لا إلى دافعه، ولو كان القابض من غير الغانمين لم تقر يده عليه.
الثاني: الأشياء المباحة في الأصل كالصيود والأشجار لا يختص بها أحد ويجوز
تملكها لكل مسلم، ولو كان عليه أثر ملك وهو في دار الحرب كان غنيمة بناء على الظاهر
كالطير المقصوص والأشجار المقطوعة.
الثالث: لو وجد شئ في دار الحرب يحتمل أن يكون للمسلمين ولأهل الحرب
كالخيمة والسلاح فحكمه حكم اللقطة، وقيل: يعرف سنة ثم يلحق بالغنيمة، وهو
تحكم.
الرابع: إذا كان في الغنيمة من ينعتق على بعض الغانمين قيل: ينعتق نصيبه ولا
يجب أن يشترى حصص الباقين، وقيل: لا ينعتق إلا أن يجعله الإمام في حصته أو حصة
جماعة هو أحدهم ثم يرضى هو فيلزمه شراء حصص الباقين إن كان موسرا.
الثاني: وأما ما لا ينقل فهو للمسلمين قاطبة وفيه الخمس، والإمام مخير بين إفراد
خمسه لأربابه وبين إبقائه وإخراج الخمس من ارتفاعه.
الثالث: وأما النساء والذراري فمن جملة الغنائم ويختص بهم الغانمون وفيهم الخمس
لمستحقه.
الثاني: في أحكام الأرضين:
كل أرض فتحت عنوة وكانت محياة فهي للمسلمين قاطبة والغانمون في الجملة والنظر
فيها إلى الإمام، ولا يملكها المتصرف على الخصوص ولا يصح بيعها ولا هبتها ولا وقفها،
ويصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سد الثغور ومعونة الغزاة وبناء القناطر. وما
كانت مواتا وقت الفتح فهو للإمام خاصة، ولا يجوز إحياؤه إلا باذنه إن كان موجودا،
ولو تصرف فيها من غير إذنه كان على المتصرف طسقها ويملكها المحيي عند عدمه من غير
إذن.
وكل أرض فتحت صلحا فهي لأربابها وعليهم ما صالحهم الإمام، وهذه تملك على
209

الخصوص ويصح بيعها والتصرف فيها بجميع أنواع التصرف، ولو باعها المالك من مسلم
صح وانتقل ما عليها إلى ذمة البائع هذا إذا صولحوا على أن الأرض لهم، أما لو صولحوا
على أن الأرض للمسلمين ولهم السكنى وعلى أعناقهم الجزية كان حكمها حكم
الأرض المفتوحة عنوة عامرها للمسلمين ومواتها للإمام، ولو أسلم الذمي سقط ما ضرب
على أرضه وملكها على الخصوص.
وكل أرض أسلم أهلها عليها فهي لهم على الخصوص وليس عليهم شئ فيها سوى
الزكاة إذا حصلت شرائطها.
خاتمة:
كل أرض ترك أهلها عمارتها كان للإمام تقبيلها ممن يقوم بها وعليه طسقها
لأربابها، وكل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها كان أحق بها وإن كان لها مالك
معروف فعليه طسقها، وإذا استأجر مسلم دارا من حربي ثم فتحت تلك الأرض لم
تبطل الإجارة وإن ملكها المسلمون.
الثالث: في قسمة الغنيمة:
يجب أن يبدأ بما شرطه الإمام كالجعائل والسلب إذا شرط للقاتل ولو لم يشرط لم
يختص به، ثم بما يحتاج إليه من النفقة مدة بقائها حتى تقسم كأجرة الحافظ والراعي
والناقل، وبما يرضخه للنساء والعبيد والكفار إن قاتلوا بإذن الإمام فإنه لا سهم للثلاثة،
ثم يخرج الخمس، وقيل: بل يخرج الخمس مقدما عملا بالآية، والأول أشبه. ثم تقسم
أربعة أخماس بين المقاتلة ومن حضر القتال ولو لم يقاتل حتى الطفل ولو ولد بعد الحيازة
وقبل القسمة وكذا من اتصل بالمقاتلة من المدد ولو بعد الحيازة وقبل القسمة، ثم يعطي
الراجل سهما والفارس سهمين، وقيل: ثلاثة، والأول أظهر.
ومن كان له فرسان فصاعدا أسهم لفرسين دون ما زاد وكذا الحكم لو قاتلوا في
السفن وإن استغنوا عن الخيل، ولا يسهم للإبل والبغال والحمير وإنما يسهم للخيل وإن
210

لم تكن عرابا، ولا يسهم من الخيل للقحم والرازح والضرع لعدم الانتفاع بها في
الحرب، وقيل: يسهم مراعاة للاسم، وهو حسن. ولا يسهم للمغصوب إذا كان صاحبه
غائبا ولو كان صاحبه حاضرا كان لصاحبه سهمه، ويسهم للمستأجر والمستعار، ويكون
السهم للمقاتل والاعتبار بكونه فارسا عند حيازة الغنيمة لا بدخوله المعركة.
والجيش يشارك السرية في غنيمتها إذا صدرت عنه وكذا لو خرج منه سريتان، أما لو
خرج جيشان من البلد إلى جهتين لم يشرك أحدهما الآخر، وكذا لو خرجت السرية من
جملة عسكر البلد لم يشركها العسكر لأنه ليس بمجاهد.
ويكره تأخير قسمة الغنيمة في دار الحرب إلا لعذر، وكذا يكره إقامة الحدود فيها.
مسائل أربع:
الأولى: المرصد للجهاد لا يملك رزقه من بيت المال إلا بقبضه، فإن حل وقت
العطاء ثم مات كان لوارثه المطالبة به، وفيه تردد.
الثانية: قيل: ليس للأعراب من الغنيمة شئ وإن قاتلوا مع المهاجرين بل يرضخ
لهم، ونعني بهم من أظهر الاسلام ولم يصفه وصولح على إعفائه عن المهاجرة وترك
النصيب.
الثالثة: لا يستحق أحد سلبا ولا نقلا في بدأة ولا رجعة إلا أن يشترط له الإمام.
الرابعة: الحربي لا يملك مال المسلم بالاستغنام، ولو غنم المشركون أموال المسلمين
وذراريهم ثم ارتجعوها فالأحرار لا سبيل عليهم أما الأموال والعبيد فلأربابها قبل القسمة
ولو عرفت بعد القسمة فلأربابها القيمة من بيت المال، وفي رواية: تعاد على أربابها
بالقيمة، والوجه إعادتها على المالك، ويرجع الغانم بقيمتها على الإمام مع تفرق الغانمين.
211

الركن الثالث: في أحكام أهل الذمة:
والنظر في أمور:
الأول: من تؤخذ منه الجزية: تؤخذ ممن يقر على دينه وهم اليهود والنصارى ومن لهم شبهة كتاب وهم المجوس
ولا يقبل من غيرهم إلا الاسلام. والفرق الثلاث إذا التزموا شرائط الذمة أقروا سواء
كانوا عربا أو عجما، ولو ادعى أهل حرب أنهم منهم وبذلوا الجزية لم يكلفوا البينة
وأقروا، ولو ثبت خلافها انتقض العهد.
ولا تؤخذ الجزية من الصبيان والمجانين والنساء، وهل تسقط عن الهم؟ قيل: نعم،
وهو المروي، وقيل: لا، وقيل: تسقط عن الملوك، وتؤخذ ممن عدا هؤلاء ولو كانوا
رهبانا أو مقعدين. وتجب على الفقير وينظر بها حتى يوسر.
ولو ضرب عليهم جزية فاشترطوها على النساء لم يصح الصلح، ولو قتل الرجال قبل
عقد الجزية فسأل النساء إقرارهن ببذل الجزية قيل: يصح، وقيل: لا، وهو الأصح. ولو
كان بعد عقد الجزية كان الاستصحاب حسنا.
ولو أعتق العبد الذمي منع من الإقامة في دار الاسلام إلا بقبول الجزية، والمجنون
المطبق لا جزية عليه فإن كان يفيق وقتا قيل: يعمل بالأغلب، ولو أفاق حولا وجبت
عليه ولو جن بعد ذلك. وكل من بلغ من صبيانهم يؤمر بالإسلام أو بذل الجزية فإن امتنع
صار حربيا.
الثاني: في كمية الجزية:
ولا حد لها بل تقديرها إلى الإمام بحسب الأصلح وما قرره علي ع محمول
على اقتضاء المصلحة في تلك الحال، ومع انتفاء ما يقتضي التقدير يكون الأولى اطراحه
تحقيقا للصغار، ويجوز وضعها على الرؤوس أو على الأرض ولا يجمع بينهما، وقيل:
بجوازه ابتداء، وهو الأشبه. ويجوز أن يشترط عليهم مضافا إلى الجزية ضيافة مارة
العساكر ويحتاج أن تكون الضيافة معلومة، ولو اقتصر على الشرط وجب أن يكون زائدا
212

عن أقل مراتب الجزية.
وإذا أسلم قبل الحول أو بعده قبل الأداء سقطت الجزية، على الأظهر. ولو مات بعد
الحول لم تسقط وأخذ من تركته كالدين.
الثالث: في شرائط الذمة:
وهي ستة:
الأول: قبول الجزية.
الثاني: أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين أو إمداد
المشركين، ويخرجون عن الذمة بمخالفة هذين الشرطين.
الثالث: أن لا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم واللواط بصبيانهم والسرقة لأموالهم
وإيواء عين المشركين والتجسس لهم، فإن فعلوا شيئا من ذلك وكان تركه مشترطا في
الهدنة كان نقضا وإن لم يكن مشترطا كانوا على عهدهم وفعل بهم ما يقتضيه جنايتهم
من حد أو تعزير، ولو سبوا النبي ص قتل الساب ولو نالوه بما دونه عزروا
إذا لم يكن شرط عليهم الكف.
الرابع: أن لا يتظاهروا بالمناكير كشرب الخمر والزنى وأكل لحم الخنزير ونكاح
المحرمات ولو تظاهروا بذلك نقض العهد، وقيل: لا ينقض بل يفعل معهم ما يوجبه شرع
الاسلام من حد أو تعزير.
الخامس: أن لا يحدثوا كنيسة ولا يضربوا ناقوسا ولا يطلوا بناء ويعزرون لو خالفوا،
ولو كان تركه مشترطا في العهد انتقض.
السادس: أن يجري عليهم أحكام المسلمين.
ههنا مسائل:
الأولى: إذا خرقوا الذمة في دار الاسلام كان للإمام ردهم إلى مأمنهم، وهل له
قتلهم واسترقاقهم ومفاداتهم؟ قيل: نعم، وفيه تردد.
213

الثانية: إذا أسلم بعد خرق الذمة قبل الحكم فيه سقط الجميع عدا القود والحد
واستعادة ما أخذ، ولو أسلم بعد الاسترقاق أو المفاداة لم يرتفع ذلك عنه.
الثالثة: إذا مات الإمام وقد ضرب لما قرره من الجزية أمدا معينا أو اشترط الدوام
وجب على القائم مقامه بعده إمضاء ذلك وإن أطلق الأول كان للثاني تغييره بحسب ما
يراه صلاحا، ويكره أن يبدأ المسلم الذمي بالسلام، ويستحب أن يضطر إلى أضيق
الطرق.
الرابع: في حكم الأبنية:
والنظر في البيع والكنائس والمساكن والمساجد.
أما الأول: لا يجوز استئناف البيع والكنائس في بلاد الاسلام، ولو استجدت وجب
إزالتها سواء كان ذلك البلد مما استحدثه المسلمون أو فتح عنوة أو صلحا على أن تكون
الأرض للمسلمين، ولا بأس بما كان قبل الفتح وبما استحدثوه في أرض فتحت صلحا
على أن تكون الأرض لهم، وإذا انهدمت كنيسة مما لهم استدامتها جاز إعادتها، وقيل:
لا، (إذا كانت في أرض المسلمين وأما إذا كانت في أرضهم فلا بأس
). وأما المساكن: فكل ما يستجده الذمي لا يجوز أن يعلو به على المسلمين من مجاوريه
ويجوز مساواته، على الأشبه. ويقر ما ابتاعه من مسلم على علوه كيف كان، ولو انهدم لم
يجز أن يعلو به على مسلم ويقتصر على المساواة فما دون.
وأما المساجد: فلا يجوز أن يدخل المسجد الحرام إجماعا ولا غيره من المساجد عندنا،
ولو أذن لهم لم يصح الإذن لا استيطانا ولا اجتيازا ولا امتيارا.
ولا يجوز لهم استيطان الحجاز على قول مشهور، وقيل: المراد به مكة والمدينة، وفي
الاجتياز به والامتيار منه تردد، ومن أجازه حده بثلاثة أيام. ولا جزيرة العرب، وقيل:
المراد بها مكة والمدينة واليمن ومخالفيها، وقيل: هي من عدن إلى ريف عبادان طولا،
ومن تهامة وما والاها إلى أطراف الشام عرضا.
214

الخامس: في المهادنة:
وهي المعاقدة على ترك الحرب مدة معينة، وهي جائزة إذا تضمنت مصلحة للمسلمين
إما لقلتهم عن المقاومة أو لما يحصل به الاستظهار أو لرجاء الدخول في الاسلام مع
التربص، ومتى ارتفع ذلك وكان في المسلمين قوة على الخصم لم يجز.
ويجوز الهدنة أربعة أشهر ولا يجوز أكثر من سنة على قول مشهور، وهل يجوز أكثر من
أربعة أشهر؟ قيل: لا، لقوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقيل: نعم،
لقوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها، والوجه مراعاة الأصلح. ولا تصح إلى مدة
مجهولة ولا مطلقا إلا أن يشترط الإمام لنفسه الخيار في النقض متى شاء.
ولو وقعت الهدنة على ما لا يجوز فعله لم يجب الوفاء مثل التظاهر بالمناكير وإعادة من
يهاجر من النساء، فلو هاجرت وتحقق إسلامها لم تعد لكن يعاد على زوجها ما سلم إليها
من مهر خاصة إذا كان مباحا، ولو كان محرما لم يعد ولا قيمته.
تفريعان:
الأول: إذا قدمت مسلمة فارتدت لم ترد لأنها بحكم المسلمة.
الثاني: لو قدم زوجها وطالب المهر فماتت بعد المطالبة دفع إليه مهرها.
ولو ماتت قبل المطالبة لم يدفع إليه، وفيه تردد. ولو قدمت فطلقها بائنا لم يكن له
المطالبة، ولو أسلم في العدة الرجعية كان أحق بها.
أما إعادة الرجال فمن أمن عليه الفتنة بكثرة العشيرة وما ماثل ذلك من أسباب
القوة جاز إعادته وإلا منعوا منه، ولو شرط في الهدنة إعادة الرجال مطلقا قيل: يبطل
الصلح، لأنه كما يتناول من يؤمن افتتانه يتناول من لا يؤمن. وكل من وجب رده لا
يجب حمله وإنما يخلى بينه وبينهم، ولا يتولى الهدنة على العموم ولا لأهل البلد والصقع
إلا الإمام أو من يقوم مقامه.
215

ومن لواحق هذا الطرف مسائل:
الأولى: كل ذمي انتقل عن دينه إلى دين لا يقر أهله عليه لا يقبل منه إلا الاسلام
أو القتل، أما لو انتقل إلى دين يقر أهله كاليهودي ينقل إلى النصرانية أو المجوسية قيل:
يقبل، لأن الكفر ملة واحدة، وقيل: لا، لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن
يقبل منه. وإن عاد إلى دينه قيل: يقبل، وقيل: لا، وهو الأشبه. ولو أصر فقتل هل
يملك أطفاله؟ قيل: لا، استصحابا لحالتهم الأولى.
الثانية: إذا فعل أهل الذمة ما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في الاسلام لم
يتعرضوا، وإن تجاهروا به عمل بهم ما تقتضيه الجناية بموجب شرع الاسلام، وإن فعلوا ما
ليس بسائغ في شرعهم كالزنى واللواط فالحكم فيه كما في المسلم، وإن شاء الحاكم
دفعه إلى أهل نحلته ليقيموا الحد فيه بمقتضى شرعهم.
الثالثة: إذا اشترى الكافر مصحفا لم يصح البيع، وقيل: يصح ويرفع يده، والأول
أنسب بإعظام الكتاب العزيز، ومثل ذلك كتب أحاديث النبي ص
، وقيل: يجوز على كراهية، وهو الأشبه.
الرابعة: لو أوصى الذمي ببناء كنيسة أو بيعة لم يجز لأنها معصية، وكذا لو أوصى
بصرف شئ في كتابة التوراة والإنجيل لأنها محرفة، ولو أوصى للراهب والقسيس جاز
كما تجوز الصدقة عليهم.
الخامسة: يكره للمسلم أجرة رم الكنائس والبيع من بناء ونجارة وغير ذلك.
الركن الرابع: في قتال أهل البغي:
يجب قتال من خرج على إمام عادل إذا ندب إليه الإمام عموما أو خصوصا أو من
نصبه الإمام والتأخر عنه كبيرة، وإذا قام به من فيه غناء سقط عن الباقين ما لم
يستنهضه الإمام على التعيين، والفرار في حربهم كالفرار في حرب المشركين وتجب
مصابرتهم حتى يفيئوا أو يقتلوا.
ومن كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الإجهاز على جريحهم واتباع
216

مدبرهم وقتل أسيرهم، ومن لم يكن له فئة فالقصد بمحاربتهم تفريق كلمتهم فلا يتبع
لهم مدبر ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل لهم مأسور.
مسائل:
الأولى: لا يجوز سبي ذراري البغاة ولا تملك نسائهم إجماعا.
الثانية: لا يجوز تملك شئ من أموالهم التي لم يحوها العسكر سواء كانت مما ينقل
كالثياب والآلات أو لا ينقل كالعقارات لتحقق الاسلام المقتضي لحقن الدم والمال،
وهل يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل ويحول؟ قيل: لا، لما ذكرناه من العلة، وقيل:
نعم، عملا بسيرة على ع وهو الأظهر.
الثالثة: ما حواه العسكر للمقاتلة خاصة، يقسم للراجل سهم وللفارس سهمان
ولذي الفرسين أو الأفراس ثلاثة.
خاتمة:
من منع الزكاة لا مستحلا فليس بمرتد ويجوز قتاله حتى يدفعها، ومن سب الإمام
العادل وجب قتله، وإذا قاتل الذمي مع أهل البغي خرق الذمة وللإمام أن يستعين بأهل
الذمة في قتال أهل البغي، ولو أتلف الباغي على العادل مالا أو نفسا في حال الحرب
ضمنه، ومن أتى منهم بما يوجب حدا واعتصم بدار الحرب فمع الظفر يقام عليه الحد.
217

كتاب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والكلام فيه وشروط النهي ومراتب الانكار وفي المقيم للحد:
الأول: الكلام فيه:
المعروف: هو كل فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه إذا عرف فاعله ذلك أو
دل عليه. والمنكر: كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دل عليه.
حكمهما:
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إجماعا ووجوبهما على الكفاية يسقط
بقيام من فيه كفاية، وقيل: بل على الأعيان، وهو الأشبه. والمعروف ينقسم إلى الواجب
والندب، فالأمر بالواجب واجب وبالمندوب مندوب. والمنكر لا ينقسم فالنهي عنه كله
واجب.
الثاني: في شروط النهي عن المنكر:
ولا يجب النهي عن المنكر ما لم تكمل شروط أربعة:
الأول: أن يعلمه منكرا ليأمن الغلط في الانكار.
الثاني: وأن يجوز تأثير إنكاره، فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب.
الثالث: وأن يكون الفاعل له مصرا على الاستمرار، فلو لاح منه أمارة الامتناع أو
أقلع عنه سقط الانكار.
الرابع: وأن لا يكون في الانكار مفسدة، فلو ظن توجه الضرر إليه (أو إلى ماله) أو
219

إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب.
الثالث: في مراتب الانكار:
ومراتب الانكار ثلاثة: بالقلب - وهو يجب وجوبا مطلقا - وباللسان وباليد. ويجب
دفع المنكر بالقلب أولا كما إذا عرف أن فاعله ينزجر بإظهار الكراهة وكذا إن عرف أن
ذلك لا يكفي وعرف الاكتفاء بضرب من الإعراض والهجر وجب واقتصر عليه، ولو
عرف أن ذلك لا يرفعه انتقل إلى الانكار باللسان مرتبا للأيسر من القول فالأيسر، ولو
لم يرتفع إلا باليد مثل الضرب وما شابهه جاز ولو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟
قيل: نعم، وقيل: لا إلا بإذن الإمام، وهو الأظهر.
الرابع: في المقيم للحد:
ولا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا للإمام مع وجوده أو من نصبه لإقامتها ومع عدمه
يجوز للمولى إقامة الحد على مملوكه، وهل يقيم الرجل الحد على ولده وزوجته؟ فيه تردد.
ولو ولى وال من قبل الجائر وكان قادرا على إقامة الحدود هل له إقامتها؟ قيل:
نعم، بعد أن يعتقد أنه يفعل ذلك بإذن الإمام الحق، وقيل لا، وهو أحوط.
ولو اضطره السلطان إلى إقامة الحدود جاز حينئذ إجابته ما لم يكن قتلا ظلما فإنه لا
تقية في الدماء، وقيل: يجوز للفقهاء العارفين إقامة الحدود في حال غيبة الإمام كما لهم
الحكم بين الناس مع الأمن من ضرر سلطان الوقت، ويجب على الناس مساعدتهم على
ذلك.
ولا يجوز أن يتعرض لإقامة الحدود ولا للحكم بين الناس إلا عارف بالأحكام مطلع
على مأخذها عارف بكيفية إيقاعها على الوجوه الشرعية، ومع اتصاف المتعرض للحكم
بذلك يجوز الترافع إليه ويجب على الخصم إجابة خصمه إذا دعاه للتحاكم عنده، ولو
امتنع وآثر المضي إلى قضاة الجور كان مرتكبا للمنكر.
ولو نصب الجائر قاضيا مكرها له جاز الدخول معه دفعا لضرره لكن عليه اعتماد
220

الحق والعمل به ما استطاع، وإن اضطر إلى العمل بمذاهب أهل الخلاف جاز إذا لم
يمكن التخلص من ذلك ما لم يكن قتلا لغير مستحق وعليه تتبع الحق ما أمكن.
221

المختصر النافع
لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا
يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي المشتهر بالمحقق وبالمحقق الحلي
602 - 676 ه‍ ق
223

كتاب الجهاد
والنظر في أمور ثلاثة:
النظر الأول: من يجب عليه:
وهو فرض على كل من استكمل شروطا ثمانية: البلوغ والعقل والحرية والذكورة
وألا يكون هما ولا مقعدا ولا أعمى ولا مريضا يعجز عنه. وإنما يجب مع وجود الإمام
العادل أو من نصبه لذلك ودعائه إليه، ولا يجوز مع الجائر إلا أن يدهم المسلمين من يخشى
منه على بيضة الاسلام أو يكون بين قوم ويغشاهم عدو فيقصد الدفع عن نفسه في الحالين
لا معاونة الجائر، ومن عجز بنفسه وقدر على الاستنابة وجبت وعليه القيام بما يحتاج إليه
النائب ولو استناب مع القدرة جاز أيضا.
والمرابطة: إرصاد لحفظ الثغر وهي مستحبة ولو كان الإمام مفقودا لأنها لا تتضمن
جهادا بل حفظا وإعلاما، ولو عجز جاز أن يربط فرسه هناك، ولو نذر المرابطة وجبت
مع وجود الإمام وفقده، وكذا لو نذر أن يصرف شيئا إلى المرابطة وإن لم ينذره ظاهرا
ولم يخف الشنعة ولا يجوز صرف ذلك في غيرها من وجوه البر، على الأشبه. وكذا لو
أخذ من غيره شيئا ليرابط له لم تجب عليه إعادته وإن وجده وجاز له المرابطة أو وجبت.
النظر الثاني: في من يجب جهادهم:
وهم ثلاثة:
الأول: البغاة: يجب قتال من خرج على إمام عادل إذا دعا إليه هو أو من نصبه
225

والتأخر عنه كبيرة، ويسقط بقيام من فيه غنى ما لم يستنهضه الإمام على التعيين،
والفرار منه في حربهم كالفرار في حرب المشركين، ويجب مصابرتهم حتى يفيئوا أو
يقتلوا، ومن كان له فئة أجهز على جريحهم وتبع مدبرهم وقتل أسيرهم، ومن لا فئة له
يقتصر على تفريقهم فلا يذفف على جريحهم ولا يتبع مدبرهم ولا يقتل أسيرهم ولا
يسترق ذريتهم ولا نساؤهم ولا تؤخذ أموالهم التي ليست في العسكر، وهل يؤخذ ما حواه
العسكر مما ينقل؟ فيه قولان أظهرهما الجواز، وتقسم كما تقسم أموال الحرب.
الثاني: أهل الكتاب: والبحث في من تؤخذ الجزية منه وكميتها وشرائط الذمة.
وهي تؤخذ من اليهود والنصارى وممن له شبهة كتاب وهم المجوس، ويقاتل هؤلاء كما
يقاتل أهل الحرب حتى ينقادوا لشرائط الذمة فهناك يقرون على معتقدهم. ولا تؤخذ
الجزية من الصبيان والمجانين والبله والنساء والهم، على الأظهر. ومن بلغ منهم أمر
بالإسلام أو التزام الشرائط، فإن امتنع صار حربيا والأولى ألا تقدر الجزية فإنه أنسب
بالصغار، وكان على ع يأخذ من الغني ثمانية وأربعين درهما ومن المتوسط
أربعة وعشرين ومن الفقير اثني عشر درهما لاقتضاء المصلحة لا توظيفا لازما. ويجوز
وضع الجزية على الرؤوس أو الأرض وفي جواز الجمع قولان أشبههما: الجواز. وإذا أسلم
الذمي قبل الحول سقطت الجزية ولو كان بعده وقبل الأداء فقولان أشبههما: السقوط.
وتؤخذ من تركته لو مات بعد الحول ذميا.
أما الشروط فخمسة: قبول الجزية، وألا يؤذوا المسلمين كالزنى بنسائهم أو السرقة
لأموالهم، وألا يتظاهروا بالمحرمات كشرب الخمر والزنى ونكاح المحارم، وألا يحدثوا
كنيسة ولا يضربوا ناقوسا، وأن تجري عليهم أحكام الاسلام. ويلحق بذلك البحث في
الكنائس والمساجد والمساكن.
ولا يجوز استئناف البيع والكنائس في بلاد الاسلام وتزال لو استحدثت، ولا بأس
بما كان عاديا قبل الفتح وبما أحدثوه في أرض الصلح ويجوز رمثها، ولا يعلى الذمي
بنيانه فوق المسلم ويقر ما ابتاعه من مسلم على حاله ولو انهدم لم يعل به، ولا يجوز
لأحدهم دخول المسجد الحرام ولا غيره ولو أذن له المسلم.
226

مسألتان:
الأولى: يجوز أخذ الجزية من أثمان المحرمات كالخمر.
الثانية: يستحق الجزية من قام مقام المهاجرين في الذب عن الاسلام من المسلمين.
الثالث: من ليس لهم كتاب: ويبدأ بقتال من يليه إلا مع اختصاص الأبعد
بالخطر، ولا يبدأون إلا بعد الدعوة إلى الاسلام فإن امتنعوا حل جهادهم، ويختص
بدعائهم الإمام أو من يأمره وتسقط الدعوة عمن قوبل بها وعرفها، وإن اقتضت المصلحة
المهادنة جاز لكن لا يتولاها إلا الإمام أو من يأذن له.
ويذم الواحد من المسلمين للواحد ويمضى ذمامه على الجماعة ولو كان أدونهم، ومن
دخل بشبهة الأمان فهو آمن حتى يرد إلى مأمنه. ولو استذم فقيل: لا نذم، فظن أنهم
أذنوا فدخل وجب إعادته إلى مأمنه نظرا في الشبهة.
ولا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل إلا لمتحرف أو متحيز إلى فئة ولو
غلب على الظن العطب، على الأظهر، ولو كان أكثر جاز. ويجوز المحاربة بكل ما يرجى
به الفتح كهدم الحصون ورمى المناجيق، ولا يضمن ما يتلف بذلك المسلمين بينهم.
ويكره بإلقاء النار، ويحرم بإلقاء السم وقيل: يكره. ولو تترسوا بالصبيان والمجانين
أو النساء ولم يمكن الفتح إلا بقتلهم جاز، وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين فلا
دية، وفي الكفارة قولان، ولا تقتل نساؤهم ولو عاون إلا مع الاضطرار، ويحرم التمثيل
بأهل الحرب والغدر والغلول منهم، ويقاتل في أشهر الحرم من لا يرى لها حرمة ويكف
عمن يرى حرمتها، ويكره القتال قبل الزوال والتبييت، وأن تعرقب الدابة، والمبارزة
بين الصفين بغير إذن الإمام.
النظر الثالث: في التوابع:
وهي أربعة:
الأول: في قسمة الفئ: يجب اخراج ما شرطه الإمام أولا كالجعائل، ثم بما تحتاج
إليه الغنيمة كأجرة الحافظ والراعي وبما يرضخ لمن لا قسمة له كالنساء والكفار والعبيد،
227

ثم يخرج الخمس ويقسم الباقي بين المقاتلة ومن حضر القتال وإن لم يقاتل حتى الطفل
ولو ولد بعد الحيازة قبل القسمة، وكذا من يلتحق بهم من المدد للراجل سهم وللفارس
سهمان، وقيل: للفارس ثلاثة. ولو كان معه أفراس أسهم لفرسين دون ما زاد، وكذا
يقسم لو قاتلوا في السفن وإن استغنوا عن الخيل، ولا سهم لغير الخيل ويكون راكبها في
الغنيمة كالراجل، والاعتبار بكونه فارسا عند الحيازة لا بدخول المعركة، والجيش
يشارك سريته ولا يشاركها عسكر البلد - وصالح النبي ع الأعراب عن ترك
المهاجرة بأن يساعدوا إذا استنفر بهم ولا نصيب لهم في الغنيمة - ولو غنم المشركون
أموال المسلمين وذراريهم ثم ارتجعوها لم تدخل في الغنيمة ولو عرفت بعد القسمة فقولان
أشبههما ردها على المالك. ويرجع الغانم على الإمام بقيمتها مع التفرق وإلا فعلى
الغنيمة.
الثاني: في الأسارى: والإناث منهم والأطفال يسترقون ولا يقتلون، ولو اشتبه الطفل
بالبالغ اعتبر بالإنبات، والذكور البالغون يقتلون حتما إن أخذوا والحرب قائمة ما لم
يسلموا والإمام مخير بين ضرب أعناقهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركهم حتى
ينزفوا، وإن أخذوا بعد انقضائها لم يقتلوا وكان الإمام مخيرا بين المن والفداء
والاسترقاق، ولا يسقط هذا الحكم لو أسلموا.
ولا يقتل الأسير لو عجز عن المشي ولا بعد الذمام له ويكره أن يصبر على القتل، ولا
يجوز دفن الحربي ويجب دفن المسلم ولو اشتبهوا قيل: يوارى من كان كميشا كما أمر
النبي ص في قتلى بدر.
وحكم الطفل حكم أبويه فإن أسلما أو أسلم أحدهما لحق بحكمه، ولو أسلم حربي
في دار الحرب حقن دمه وماله مما ينقل دون العقارات والأرضين ولحق به ولده
الأصاغر، ولو أسلم عبد في دار الحرب قبل مولاه ملك نفسه، وفي اشتراط خروجه تردد
المروي: أنه يشترط.
الثالث: في أحكام الأرضين: وكل أرض فتحت عنوة وكانت محياة فهي للمسلمين
كافة والغانمون في الجملة لا تباع ولا توقف ولا توهب ولا تملك على الخصوص، والنظر
228

فيها إلى الإمام يصرف حاصلها في المصالح، وما كان مواتا وقت الفتح فهو للإمام لا
يتصرف فيه إلا باذنه، وكل أرض فتحت صلحا على أن الأرض لأهلها والجزية فيها
فهي لأربابها ولهم التصرف فيها، ولو باعها المالك صح وانتقل ما كان عليها من الجزية
إلى ذمة البائع، ولو أسلم سقط ما على أرضه أيضا لأنه جزية، ولو شرطت الأرض
للمسلمين كان كالمفتوحة عنوة والجزية على رقابهم.
وكل أرض أسلم أهلها طوعا فهي لهم وليس عليهم سوى الزكاة في حاصلها مما
تجب فيه الزكاة.
وكل أرض ترك أهلها عمارتها فللإمام تسليمها إلى من يعمرها وعليه طسقها
لأربابها. وكل أرض موات سبق إليها سابق فأحياها فهو أحق بها، وإن كان لا مالك
فعليه طسقها له.
الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهما واجبان على الأعيان في أشبه
القولين. والأمر بالواجب واجب وبالمندوب مندوب، والنهي عن المنكر كله واجب، ولا
يجب أحدهما ما لم يستكمل شروطا أربعة: العلم بأن ما يأمر به معروف وما ينهى عنه
منكر، وأن يجوز تأثير الانكار، وألا يظهر من الفاعل أمارة الإقلاع، وألا يكون فيه
مفسدة.
وينكر بالقلب ثم باللسان ثم باليد، ولا ينتقل إلى الأثقل إلا إذا لم ينجح الأخف،
ولو زال بإظهار الكراهية اقتصر ولو كان بنوع من إعراض، ولو لم يثمر انتقل إلى اللسان،
ولو لم يرتفع إلا باليد كالضرب جاز، أما لو افتقر إلى الجراح أو القتل لم يجز إلا بإذن
الإمام أو من نصبه، وكذا الحدود لا ينفذها إلا الإمام أو من نصبه، وقيل: يقيم الرجل
الحد على زوجته وولده. وكذا قيل: يقيم الفقهاء الحدود في زمان الغيبة إذا أمنوا ويجب
على الناس مساعدتهم.
ولو اضطر الجائر إنسانا إلى إقامة حد جاز ما لم يكن قتلا محرما فلا تقية فيه، ولو
أكرهه الجائر على القضاء اجتهد في تنفيذ الأحكام على الوجه الشرعي ما استطاع وإن
اضطر عمل بالتقية ما لم يكن قتلا.
229

الجامع للشرائع
للشيخ أبي زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن الحسن
بن سعيد الهذلي
601 - 689 أو 690 ه‍ ق
231

كتاب الجهاد
هذا الكتاب يحتوي على وجوب الجهاد، وكيفية وجوبه، ومن يجب عليه ومن
يجاهد، وكيفية الجهاد، وأحكام الغنيمة، والفئ، والجزية.
أما وجوبه: فمن الكتاب ومما علم من دين النبي ص ضرورة،
ووجوبه على الكفاية إذا غلب الظن أن في من قام به كفاية كفى، ويسقط فرضه عن
المتمكن منه بإقامة غيره مقامه.
ووجوبه على كل حر ذكر بالغ كامل العقل مطبق له صحيح من المرض والعمى
والعرج، بشرط حضور إمام الأصل داعيا إليه أو من يؤمره، وهو محرم من دون إذنه.
وقد يتعين فرضه إذا دهم المسلمين عدو يخاف منه بوارهم أو بوار بعض المسلمين
فيجب الجهاد دفعا له لا دعاءا له إلى الاسلام وإن لم يحضر الإمام، وإذا عين الإمام
على شخص تعين عليه، ويبدأ بحرب من دنا إلا أن يكون الأبعد أخطر منه، ولا يعطل
الجهاد أصلا ويجب بالنفس والمال فإن تعذر أحدهما فبالآخر، ومن أعان غازيا بنفقة أو
مرابطا أو خلفه في أهله فله مثل أجره.
والرباط مستحب وحده ثلاثة أيام إلى أربعين يوما، فإن زاد فثوابه ثواب الجهاد،
ويجب بالنذر، ومن البر صرف المال إلى المرابطين والمجاهدين.
فإن أوصى مخالف في حال انقباض يد الإمام بمال إلى شخص يدفعه إلى من يرابط
وأعطاه مؤمنا رده على الوصي ولم يرابط، فإن لم يعرفه ولا مكانه بعد السؤال عنه رابط
ولم يقاتل وقاتل عن بيضة الاسلام إن خاف عليها، فإن منع الانسان أبواه أو أحدهما
233

عن الجهاد أو صاحب دين حال فلا جهاد عليه.
والمجاهدون: اليهود والنصارى والمجوس وعباد الأوثان والأصنام والمرتدون والبغاة
والمحاربون.
فاليهود والنصارى والمجوس يقاتلون ويسبى ذراريهم وتغنم أموالهم حتى يسلموا أو
تقبل الجزية، وإجراء أحكام الاسلام عليهم والوفاء بما يشترطه الإمام عليهم من ترك
التظاهر بشرب الخمر ونكاح المحرمات وأكل لحم الخنزير والربا وفتنة المسلم عن دينه
وإيواء عين على المسلمين والقتال مع عدوهم وإحداث البيعة والكنيسة وضرب الناقوس
ورفع أخبار المسلمين إلى المشركين وإصابة المسلمة بنكاح أو سفاح وسب الله ورسوله،
فإن خالفوا ذلك أو بعضه فله قتالهم واستغنام المال والذرية.
أحكام الجزية:
والجزية إلى رأي الإمام على رأس أو أرض - لا يجمع بينهما - ويزيد وينقص
باختياره، ولا جزية إلا على الحر البالغ الكامل العقل الذكر، والضيافة على ما يشترط
من المعلومة وكان مستحقها المهاجرون وهي الآن القائم مقامهم في نصرة الاسلام.
وإذا أسلم الذمي أو مات قبل الحول أو بعده لم تؤخذ منه ولا من تركته، فإن
ضربها على أرضه فباعها انتقلت الجزية إلى رأسه.
ومن دخل في دينهم قبل نسخه فبحكمهم، ومن دخل فيه بعد نسخه لم يقبل منه،
وإن ارتد منهم شخص إلى دين يقر عليه أهله ببذل الجزية قبل منه، فإن انتقل إلى غيره
لم يقبل منه إلا الرجوع إليه أو إلى أهله أو الاسلام.
ومن قبلت الجزية منه لم تؤكل ذبيحته ولم ينكح منه إلا المتعة وملك اليمين، وعند
بعض أصحابنا يحل ذلك إلا المجوس فلا تحل ذبائحهم ولا نكاحهم، وروي رخصة في
المتعة وملك اليمين، ومن لم يقبل لم يحل ذلك منه. ويجب دفع المعتدي على أهل الذمة
مسلما كان أو كافرا كالمسلمين.
وأما عباد الأوثان والأصنام فيقاتلون حتى يسلموا أو يقتلوا فقط، والمستأمن والمعاهد
234

سواء وهو الواصل إلينا لا للبقاء فلا يقر عندنا سنة بلا جزية ويقر أقل منها بعوض وغير
عوض، فإن خيف منه خيانة نقض أمانه ورد إلى مأمنه.
أحكام القتال:
ولا قتال حتى يدعوهم الإمام أو أميره إلى الاسلام والتزام أركانه، فإن أبوها أو
شيئا منها حل القتال، فإن كان الاسلام قويا قاتل على الفور إلا لمصلحة أربعة أشهر
ودونها إلا لصلاح.
ويقاتل بمن شاء، وأين شاء إلا الحرم إلا أن يبدأ فيه بقتال، ومتى شاء إلا رجبا
وذا القعدة وذا الحجة والمحرم لمن رأى لهن حرمة، وبما شاء إلا إلقاء السم في بلادهم،
فإن تحصنوا اجتهد في الفتح، فإن تترسوا بأسرى المسلمين أو الأطفال قصد الكافر
خاصة، فإن هلك المذكورون فلا دية وعليه الكفارة في قتل المسلم نهارا وليلا.
ويخرب المنازل ويحرقها ويغرقها ويقطع الأشجار لحاجة ويكره ذلك من دونها،
ويستحب ألا يشرع فيه إلا بعد الزوال إلا لمصلحة، ويكره التبييت لغير ضرورة، ولا
يعرقب الدابة في أرض العدو فإن وقفت عليه خلاها، ولواليه بذل الجعل والنفل
واشتراط السلب لأنه لا يختص به القاتل من دون الشرط، ولا يقاتل النساء فإن عاون
الرجل جاز، وإن كان بالمسلمين ضعف وادع إلى عشر سنين.
ولا يفر المسلمون إن كانوا في عدة المشركين أو نصفهم إلا متحرفا للقتال أو متحيزا
إلى فئة، فإن نقصوا عن ذلك جاز والثبوت أفضل.
وإن بادر شخص مسلم فقتل أسيرا مشركا فدمه هدر، وإن أسر مشركا فعجز عن
المشي فليطلقه، وإن أراد قتل أسير أطعمه وسقاه.
ولآحاد المسلمين الإذمام للشخص الواحد وللجماعة اليسيرة وماله كنفسه، ولو كان
المذم عبدا مسلما لم تحقر ذمته، ولا يجوز أمان المكره، ولا إذمام لأهل إقليم إلا للإمام
فإن أذم غيره لهم وظنوا الأمان أو قالوا: لا نذمكم، فظنوا خلافه لم يعرض لهم وردوا
إلى مأمنهم، ثم هم حرب. ولا يحل الإخفار بعد الإذمام، فإن أحس منهم بخيانة نبذ
235

عهدهم إليهم وردهم إلى مأمنهم بعد أخذ حقوق الله والمسلمين منهم، ولا يحل التمثيل
بالكفار والغدر بهم والغلول منهم.
وإسلام الحربي - والحرب قائمة - يحرم ماله ودمه وولده الطفل والحمل، فإن
سبيت أمه استرقت دونه سوى الأرض والعقار، ويعتق العبد بإسلامه قهرا لسيده في دار
الاسلام وإن أسلم في دار الحرب فرقه باق، وقيل: يعتق.
ولا يملك الكفار مال المسلمين بالقهر وإذا وجد رد على صاحبه بالبينة، فإن وقع في
الغنيمة رد أيضا، فإن قسمت الغنيمة رد على صاحبه وغرم لمن حصل في سهمه قيمته
من بيت المال، وهدية الكفار إلى المسلمين - والحرب قائمة - غنيمة.
أحكام الأسير:
والأسير قبل تقضي الحرب مقتول يضرب عنقه أو يقطع يده ورجله من خلاف
لينزف، وبعد تقضيها خير الإمام بين المن والفداء والاسترقاق إلا أن يكون ممن لا يقر
على دينه بالجزية ففيه المن والفداء فقط، وقيل: يجوز. ويكره القتل صبرا.
والصبي إذا أسر مع أبويه أو أحدهما فحكمه حكمهما في الكفر ويباع من كافر وإن
سبي وحده تبع السابي، فإن كان مسلما لم يبع من كافر.
وإذا سبي الزوجان معا أو المرأة وحدها انفسخ النكاح بينهما لحدوث الرق وإن
كانا مملوكين لم ينفسخ.
والصبيان يسترقون بالسبي والأسر، فإن أشكل أمر بلوغهم فمن أنبت منهم فهو
رجل ومن لم ينبت فهو ذرية.
وإذا أسر الزوج وحده فالنكاح باق، فإن اختار الإمام رقه انفسخ.
ويكره التفريق بين والدة وولدها ما لم يبلغ سبعا أو ثمانيا فيجوز التفرقة والبيع
صحيح في الحالين، والإقامة بدار الشرك محرمة على المتمكن من الهجرة الخائف فلا يقدر
على إظهار دينه ومكروه للمتمكن منها الآمن على نفسه القادر على إظهار دينه، ولا حرج
على من لا حيلة له ولا يهتدي الطريق حتى يستطيع.
236

أحكام الغنيمة:
ويغنم ما كان في يد المشركين مما يملك في الاسلام ما لم يكن غصبا يعرف من
مسلم فيرد عليه، ويجوز قسمتها في دار الحرب، ويبدأ الإمام بسد ما ينوبه منها وإن
استغرقها، ثم يعطي منها أجرة حفاظها ومن جعل له أو شرط له سلب قتيل، ثم يصطفي
منها ما لا يجحف بها، ثم يخرج خمسها لأهل الخمس وقد ذكرناهم، ثم يقسم الأربعة
الأخماس بين المقاتلة للفارس سهمان وللراجل سهم ولذي الفرسين فصاعدا ثلاثة أسهم،
ويشاركهم من يلحقهم معينا قبل القسمة، ويقسم السرية على القواعد.
وإذا كان فيها ما لا ينقل ويحول كالأرض قبلها الإمام وقسم دخلها بين المسلمين
بأجمعهم بعد تخميسها، فإن قوتل أهل الحرب بغير إذنه فما غنموا فله خاصة.
ويملك الغانمون الغنيمة بالحيازة مشاعة بينهم، فإن مات أحدهم فحقه لوارثه، وإن
كان فيها من يعتق عليه عتق نصيبه، وإن وطئ منه جارية درأ عنه من الحد بقدر ما له
منها وحد بقدر ما ليس له، وإن سرق منها قدر حقه فلا قطع، وإن سرق منها من لا
سهم له فيها - كالأعراب المقاتلة مع المهاجرين - قطع.
وقيل: لا يملك أحدهم إلا بعد القسمة، لأن للإمام أن يعطي الشخص عينا دون
عين وإن كره.
والفئ ما حصل بلا قتال وكان للنبي ص ثم هو للقائم بعده مقامه
ولا شئ لغيره فيه ينفق منه على نفسه وما ينوبه وعلى أقاربه.
ومال الهدنة والجزية قيل: يخمس، وقيل: لا يخمس.
أحكام المرتد والمرتدة:
والمرتد عن فطرة وهو من لم يزل مسلما أو ولد بين مسلمين قتل من غير استتابة
وورث ماله وارثه المسلم حين ارتد وبانت زوجته واعتدت عدة الوفاة.
وإن كان كافرا أسلم ثم ارتد استتيب ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل يوم الرابع وورثه
وارثه المسلم بعد قتله ووقف نكاحه على انقضاء العدة، فإن أسلم قبل تقضيها فهما على
237

النكاح وإلا أتمت عدة الطلاق، وإن مات أو قتل في العدة اعتدت عدة الوفاة، وإن لم
يكن دخل بها بانت في الحال، فإن عاد ثلاثا قتل في الرابعة.
والمرتدة تحبس أبدا حتى تتوب في الحالين وتضرب أوقات الصلوات وتستخدم خدمة
شديدة وتلبس خشن الثياب ولا تطعم ولا تسقى إلا قدر ما يمسك رمقها.
أحكام الباغي:
الباغي من لم يدخل فيما دخل فيه المسلمون من بيعة الإمام أو نكث بيعته، فعلى
من استنفره الإمام لقتالهم النفور معه ولا يجاب إلى ذلك إمام جائر، وإذا قوتل الباغي لم
يرجع عنه حتى يدخل فيما دخل المسلمون فيه أو يقتل.
فإن كان له فئة يرجع إليها قتل مقبلا أو مدبرا وأجهز على الجرحى وإلا لم يتبع المدبر
ولم يجهز على الجريح، وسبي ذراري الفريقين لا يحل، وهل يغنم ما معهم من مال؟ فيه
خلاف، ولا خلاف أن أموالهم التي في دار الهجرة لا تغنم. ومن مات منهم لا يسقط
عنه حق مسلم جرحه أو قتله أو أخذ ماله.
أحكام المحارب:
والمسلم المحارب من شهر السلاح في بر أو بحر سفرا أو حضرا ليلا أو نهارا رجلا أو
امرأة.
فإن أخاف ولم يجن نفي من الأرض بأن يغرق - على قول - أو يحبس على آخر أو
ينفى من بلاد الاسلام سنة حتى يتوب وكوتبوا أنه منفى محارب فلا تؤووه ولا تعاملوه،
فإن آووه قوتلوا، وإن قتل وكان القتل غرضه خير الولي بين الدية والقتل والعفو، وإن
قصد المال تحتم قتله أو صلبه حيا ويترك ثلاثة أيام ثم ينزل ويغسل ويكفن ويحنط
ويصلى عليه ولم يجز العفو عنه ولا الصلح على مال إلا ما جناه قبل المحاربة، وإن مات
المحارب لم يصلب، فإن جرح فقط جرح ونفي، فإن جرح وقتل جرح ثم قتل أو صلب،
فإن جرح وأخذ المال جرح وقطعت يمناه ورجله اليسرى، وإن قطع يمنى شخص وليست
238

له يمين قطعت يسراه، وإن هرب طلب ليقام عليه الحد.
وإن تاب قبل القدرة عليه ولم يكن جنى على غيره عفي عنه، وإن كان جنى على
غيره عفي عن حق الله تعالى وأخذ منه حق الناس إلا أن يعفوا عنه، ولا يغنم مال
المحارب.
ومن أراد نفس انسان أو ماله أو أهله دفعه، وإن أدى إلى قتل الدافع فهو شهيد وإلى
قتل المدفوع أو جرحه فدمه هدر، فإن أدبر اللص لم يجز رميه، ويثبت المحاربة بعدلين أو
إقراره، فإن شهدا أنه قطع عليهما الطريق وعلى القافلة لم يقبل لهما ولا للقافلة لظهور
الخصومة والعداوة.
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هما فرضان على الكفاية بشرط علمه المعروف معروفا والمنكر منكرا وتمكنه من
ذلك، وظنه استمراره من المرتكب أو المخل، ولا يؤدى إلى مفسدة، ولا يكون مفسدة من
خوف على نفس أو مال له أو لغيره في الحال أو المال.
والآمر يتبع المأمور به في الوجوب والندب، والنهي عن المنكر واجب كله والنهي عن
فعل ما - الأولى تركه - ندب.
ويجبان باليد واللسان والقلب. ويبدأ بالوعظ والتخويف، فإن
لم ينجع أدب، فإن لم ينجع إلا بالقتل والجراح فعل، فإن لم يتمكن فبالقلب، وقيل: إذا بلغ إلى القتل
والجراح لم يجز إلا بإذن الإمام، والأول أصح. وربما قام الفعل في الموضعين مقام القول
كالإعراض عنه والإزراء به لينزجر وإظهار المعروف ليتأسى به.
وقيل: إنهما يجبان على الأعيان، ووجوبهما عقلي أو سمعي فيه خلاف، وتحقيقه
في الأصول، ولا خلاف في وجوبهما في الجملة.
المكره:
وإن أكره المكلف على إظهار كلمة الكفر بالقتل جاز له إظهارها، ولو احتمله ولم
239

يظهرها كان مأجورا.
وإن أكره بالقتل على الإخلال بواجب سمعي أو عقلي أو على فعل قبيح سمعي جاز
له ذلك، وإن أكره على قبيح عقلي فإن كان مما له عنه مندوحة كالكذب ورى في
نفسه، وإن كان غيره كالظلم لم يحسنه الإكراه، وروي: أنه يأخذ المال بالإكراه، فإن
تمكن من رده فعل. ولا خلاف في أن قتل النفس المحرمة لا يستباح بالإكراه أبدا،
والإقامة بالدار (دار الكفر) نبني على ما ذكرناه.
240

قواعد الأحكام
في مسائل الحلال والحرام
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين
علي بن محمد بن مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍ ق
241

كتاب الجهاد
وفيه مقاصد:
المقصد الأول: من يجب عليه:
وهو واجب في كل سنة مرة إلا لضرورة على الكفاية ويراعي الإمام النصفة في
المناوبة بين الناس، وفروض الكفايات كثيرة مذكورة في مواضع وهو كل مهم ديني
يتعلق غرض الشرع بحصوله ولا يقصد عين من يتولاه ومن جملته: إقامة الحجج العلمية،
ودفع الشبهات، وحل المشكلات، والأمر بالمعروف، والصناعات المهمة التي بها قوام
المعاش حتى الكنس والحجامة ولو امتنع الكل عنها لحقهم الإثم، ودفع الضرر عن
المسلمين، وإزالة فاقتهم كإطعام الجائعين وستر العراة وإعانة المستعينين في النائبات على
ذوي اليسار مع قصور الصدقات الواجبة، وكالقضاء وتحمل الشهادة.
وإنما يجب الجهاد على كل مكلف حر ذكر غير صم ولا أعمى ولا مقعد ولا مريض
يعجز عن الركوب والعدو ولا فقير يعجز عن نفقة عياله وطريقه وثمن سلاحه. فلا يجب
على الصبي ولا المجنون ولا العبد - وإن انعتق بعضه أو أمره سيده إذ لا حق له في روحه
ولا يجب عليه الذب عن سيده عند الخوف - ولا المرأة ولا الخنثى المشكل ولا الشيخ
الهم ولا على الأعمى وإن وجد قائدا ولا الزمن كالمقعد وإن وجد مطية ولا المريض ولا
الفقير، وتختلف بحسب الأحوال والأشخاص.
والمدين المعسر فقير وليس لصاحب الدين منعه لو أراده وإن كان حائلا وكذا
الموسر قبل الأجل وله منعه بعده حتى يقبض وكذا ليس له منعه عن سائر الأسفار قبل
243

الأجل، وللأبوين المنع مع عدم التعيين. وفي الجدين نظر.
وإنما يجب بشرط الإمام أو نائبه وإنما يتعين بتعيين الإمام أو النائب لمصلحة أو
لعجز القائمين عن الدفع بدونه أو بالنذر وشبهه أو بالخوف على نفسه مطلقا، وإن كان
بين أهل الحرب إذا صدمهم عدو يخشى منه على نفسه ويقصد بمساعدتهم الدفع عن نفسه
لا عن أهل الحرب ولا يكون جهادا، وإذا وطئ الكفار دار الاسلام وجب على كل ذي
قوة قتالهم حتى العبد والمرأة وانحل الحجر عن العبد مع الحاجة إليه.
ويستحب للعاجز الموسر الاستئجار له على رأي ويجوز للقادر فيسقط عنه ما لم يتعين،
ولو تجدد العذر الذي هو العمى والزمن والمرض والفقر بعد الشروع في القتال لم يسقط
على إشكال فإن عجز سقط، ولو بذل للفقير حاجته وجب ولا يجب أن يؤجر نفسه
بالكفاية.
ويحرم القتال في أشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، إلا أن يبدأ
العدو بالقتال أو لا يرى لها حرمة ويجوز في الحرم، ويحرم المقام في بلاد الشرك على من
يضعف عن إظهار شعار الاسلام مع القدرة على المهاجرة.
وفي الرباط فضل كثير وهو الإقامة في الثغر لتقوية المسلمين على الكفار ولا يشترط فيه
الإمام لأنه لا يشمل قتالا بل حفظا وإعلاما، وله طرفا قلة وهو ثلاثة أيام وكثرة وهو
أربعون يوما فإن زاد فله ثواب المجاهدين، ولو عجز عن المباشرة للرباط فربط فرسه لإعانة
المرابطين أو غلامه أو أعانهم بشئ فله فيه فضل كثير، ولو نذر المرابطة وجب عليه الوفاء
سواء كان الإمام ظاهرا أو مستورا وكذا لو استؤجر، وأفضل الرباط الإقامة بأشد الثغور
خطرا ويكره نقل الأهل والذرية إليه.
المقصد الثاني: في من يجب قتاله:
وهم ثلاثة:
الحربي: وهو من عدا اليهود والنصارى والمجوس من سائر أصناف الكفار سواء
اعتقد معبودا غير الله تعالى كالشمس والوثن والنجوم أو لم يعتقد كالدهري، وهؤلاء لا
244

يقبل منهم إلا الاسلام فإن امتنعوا قوتلوا إلى أن يسلموا أو يقتلوا ولا يقبل منهم الجزية.
الثاني: الذمي: وهو من كان من اليهود والنصارى والمجوس إذا خرجوا عن شرائط
الذمة الآتية فإن التزموا بها لم يجز قتالهم.
الثالث: البغاة: والواجب قتال هؤلاء الأصناف مع دعاء الإمام أو نائبه إلى النفور
إما لكفهم أو لنقلهم إلى الاسلام، ولو اقتضت المصلحة المهادنة جازت لكن لا يتولاها
غير الإمام أو نائبه، ولا فرق بين أن يكون الوثني ومن في معناه عربيا أو عجميا.
وشرائط الذمة هي:
أ: بذل الجزية.
ب: التزام أحكام المسلمين وهذان لا يتم عقد الذمة إلا بهما فإن أخل بأحدهما
بطل العقد وفي معناه ترك قتال المسلمين.
ج: ترك الزنى بالمسلمة.
د: ترك إصابتها باسم نكاح وكذا الصبيان من المسلمين.
ه‍: ترك فتن مسلم عن دينه.
و: قطع الطريق عليه.
ز: إيواء جاسوس المشركين.
ح: المعاونة على المسلمين بدلالة المشركين على عوراتهم أو مكاتبتهم وهذه الستة إن
شرطت في عقد الذمة انتقض العهد بمخالفة أحدها وإلا فلا، نعم يحد أو يعزر بحسب
الجناية، ولو أراد أحدهم فعل ذلك منع منه فإن مانع بالقتال نقض عهده.
ط: ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو نبيه ع بسب ويجب به
القتل على فاعله وينتقض العهد، ولو ذكرهما بما دون السب أو ذكر دينه أو كتابه بما لا
ينبغي نقض العهد إن شرط عليه الكف عنه وإلا فلا ويعزر.
ي: إظهار منكر في دار الاسلام ولا ضرر فيه على المسلمين كإدخال الخنازير وإظهار
شرب الخمر في دار الاسلام ونكاح المحرمات، وروى أصحابنا: أنه ينقض العهد.
يا: إحداث البيع والكنائس وإطالة البنيان، وضرب الناقوس يجب الكف عنه سواء
245

شرط في العقد أو لا، فإن خالفوا لم ينتقض العهد وإن شرط لكن يعزر فاعله.
وكل موضع حكم فيه بنقض العهد فإنه يستوفى أولا ما يوجبه الجرم ثم يتخير الإمام
بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، وينبغي للإمام أن يشترط في العقد التميز عن
المسلمين بأمور أربعة: في اللباس والشعر والركوب والكنى.
أما الثوب فيلبسون ما يخالف لونه لون غيره فيشد الزنار فوق ثوبه إن كان نصرانيا
ويجعل لغيره خرقة في عمامته أو يختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد أو جلجل، ولا
يمنعون من فاخر الثياب ولا العمائم.
وأما الشعور فإنهم يحذفون مقاديم شعورهم ولا يفرقون شعورهم.
وأما الركوب فيمنعون من الخيل خاصة ولا يركبون السروج ويركبون عرضا
رجلاهم إلى جانب واحد ويمنعون تقليد السيوف ولبس السلاح واتخاذه.
وأما الكنى فلا يكنون بكنى المسلمين.
المقصد الثالث: في كيفية القتال:
والنظر في تصرف الإمام فيهم بالقتال والاسترقاق والاغتنام:
الفصل الأول: في القتال:
وينبغي أن يبدأ بقتال الأقرب ثم القريب ثم البعيد ثم الأبعد فإن كان الأبعد أشد
خطرا قدم وكذا لو كان الأقرب مهادنا ومع ضعف المسلمين عن المقاومة يجب الصبر
فإذا حصلت الكثرة المقاومة وجب النفور، وإنما يجوز القتال بعد دعاء الإمام أو من
يأمره إلى محاسن الاسلام إلا في من عرف الدعوة، وإذا التقى الصفان لم يجز الفرار إذا
كان المشركون ضعف المسلمين أو أقل إلا لمتحرف لقتال - كطالب السعة واستدبار
الشمس وموارد المياه وتسوية لأمة الحرب ونزع شئ أو لبسه - أو متحيز إلى فئة يستنجد
بها في القتال بشرط صلاحيتها للاستنجاد على إشكال قليلة كانت أو كثيرة قريبة أو
بعيدة على إشكال، فإن بدا له عن القتال مع الفئة البعيدة فالوجه الجواز مع عدم
246

التعيين، ولا يشارك فيما غنم بعد مفارقته ويشارك في السابق وكذا يشارك مع القريبة
لعدم فوات الاستنجاد به.
ولو زاد الضعف على المسلمين جاز الهرب، وفي جواز انهزام مائة بطل عن مائتي
ضعيف وواحد نظر ينشأ من صورة العدد والمعنى والأقرب المنع، إذا العدد معتبر مع
تقارب الأوصاف فيجوز هرب مائة ضعيف من المسلمين من مائة بطل مع ظن العجز على
رأي، ولو زاد الكفار عن الضعف وظن السلامة استحب الثبات ولو ظن العطب وجب
الانصراف، ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم يجب الثبات.
ويجب المواراة الشهيد دون الحربي فإن اشتبها فليوار من كان كميش الذكر،
ويجوز المحاربة بكل ما يرجى فيه الفتح كنصب المناجيق وإن كان فيهم نسوة وصبيان
وهدم الحصون والبيوت والحصار ومنع السابلة من الدخول والخروج، ويكره بإرسال الماء
وإضرام النار وقطع الأشجار إلا مع الضرورة وإلقاء السم على رأي.
مسائل:
لا يجوز قتل المجانين ولا الصبيان ولا النساء منهم وإن أعن إلا مع الحاجة ولا
الشيخ الفاني ولا الخنثى المشكل ويقتل الراهب والكبير إن كان ذا رأي أو قتال، ولو
تترسوا بالنساء والصبيان أو آحاد المسلمين جاز رمى الترس في حال القتال، ولو كانوا
يدفعون عن أنفسهم واحتمل الحال تركهم فالأقرب جواز رمى الترس غير المسلم، ولو
أمكن التحرز عن الترس المسلم فقصده الغازي وجب القود والكفارة، ولو لم يمكن
التحرز فلا قود ولا دية وتجب الكفارة.
ويكره التبييت والقتال قبل الزوال لغير حاجة وتعرقب الدابة وإن وقفت به ونقل
رؤوس الكفار إلا مع نكاية الكفار به والمبارزة من دون إذن الإمام على رأي وتحرم لو منع
وتجب لو ألزم، ولو طلبها مشرك استحب الخروج إليه للقوي الواثق من نفسه بالنهوض
ويحرم على الضعيف على إشكال، فإن شرط الانفراد لم يجز المعاونة إلا إذا فر المسلم
وطلبه الحربي فيجوز دفعه، ولو لم يطلبه فالأقوى المنع من محاربته فإن استنجد أصحابه
247

نقض أمانه فإن تبرعوا بالإعانة فمنعهم فهو على عهدة الشرط وإن لم يمنعهم جاز قتاله
معهم، ولو لم يشرط الانفراد جاز إعانة المسلم.
ويجوز الخدعة في الحرب للمبارز وغيره، ويحرم الغدر بالكفار والغلول منهم والتمثيل
بهم، ولا ينبغي أن يخرج الإمام معه المخذل كمن يزهد في الخروج ويعتذر بالحر
وشبهه ولا المرجف وهو من يقول: هلكت سرية المسلمين، ولا من يعين على المسلمين
بتجسس واطلاع الكفار على عورات المسلمين ولا من يوقعوا العداوة بين المسلمين ولا
يسهم له لو خرج، ويجوز له الاستعانة بأهل الذمة والمشرك الذي يؤمن غائلته والعبد
المأذون له فيه والمراهق.
ويجوز استئجار المسلم للجهاد من الإمام وغيره وأن يبذل الإمام من بيت المال ما
يستعين به المحارب، ولو أخرجه الإمام قهرا لم يستحق أجرة وإن لم يتعين عليه لتعينه
بإلزامه وإن كان عبدا أو ذميا، ولو عين شخصا لدفن الميت وغسله فلا أجرة له وإن
كان للميت تركة أو في بيت المال اتساع، ولو استأجر للجهاد فخلى سبيله قبل المواقفة
استحق أجرة الذهاب، ولو وقفوا من غير قتال ففي استحقاق كمال الأجرة نظر ينشأ من
مساواة الوقوف الجهاد ولهذا يسهم له.
ويكره للغازي أن يتولى قتل أبيه الكافر ولا يجوز له قتل صبيان الكفار ولا نسائهم
مع عدم الحاجة.
الفصل الثاني: في الاسترقاق:
الأسارى إن كانوا إناثا أو أطفالا ملكوا بالسبي وإن كانت الحرب قائمة، والذكور
البالغون إن أخذوا حال المقاتلة حرم إبقاؤهم ما لم يسلموا ويتخير الإمام بين ضرب
رقابهم وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ينزفوا ويموتوا وإن أخذوا بعد انقضاء الحرب
حرم قتلهم ويتخير الإمام بين المن والفداء والاسترقاق ومال الفداء ورقابهم مع
الاسترقاق كالغنيمة ولا يسقط هذا التخيير بإسلامهم بعد الأسر.
ويجوز استرقاق امرأة كل كافر أسلم قبل الظفر به ولا يمنع من ذلك كونها حاملا بولد
248

مسلم سواء وطئها المسلم أو أسلم زوجها لكن لا يسترق الولد، وينفسخ النكاح بأسر
الزوجة مطلقا وإن كانت كبيرة وبأسر الزوج الصغير مطلقا وبأسر الزوجين وإن كانا
كبيرين وباسترقاق الزوج الكبير لا بأسره خاصة، ولو كانا مملوكين تخير الغانم، ولو
صولح أهل المسبية على إطلاقها بإطلاق أسير مسلم في يدهم فأطلقوه لم يجب إعادة المرأة،
ولو أطلقت بعوض جاز ما لم يكن قد استولدها مسلم.
ويجوز سبي منكوحة الذمي فينفسخ به النكاح ومعتقه ومعتق المسلم، ولا ينقطع
إجارة المسلم في العبد المسبي ولا الدار المغنومة، ولا يسقط الدين للمسلم والذمي عن
الحربي بالسبي والاسترقاق إلا أن يكون الدين للسابي فيسقط كما لو اشترى عبدا له
عليه دين ويقضى الدين من ماله المغنوم إن سبق الاغتنام الرق على إشكال وقدم حق
الدين على الغنيمة وإن زال ملكه بالرق كما يقضى دين المرتد، ولو استرق قبل الاغتنام
تبع بالدين بعد العتق وقدم حق الغنيمة في ماله على إشكال، ولو اقترنا فأقوى الاحتمالين
تقديم حق الغنيمة للتعلق بالعين، ولو كان الدين لحربي فاسترق المديون فالأقرب سقوطه
ولو أسلما أو أسلم المالك فهو باق إلا أن يكون خمرا هذا إذا كان الدين قرضا أو ثمنا
وشبهه، أما لو كان إتلافا أو غصبا فالأقرب السقوط بإسلام المديون.
ولو سبيت المرأة وولدها الصغير كره التفريق بينهما، ولو عجز الأسير عن المشي لم
يجب قتله للجهل بحكم الإمام فيه فإن قتله مسلم فهدر ويجب إطعامه وسقيه وإن أريد
قتله بعد لحظة ويكره قتله صبرا، وحكم الطفل المسبي تابع لحكم أبويه فإن أسلم أحدهما
تبعه ولو سبي منفردا ففي تبعيته للسابي في الاسلام إشكال أقربه ذلك في الطهارة
لأصالتها السالمة عن معارضة يقين النجاسة.
وكل حربي أسلم في دار الحرب قبل الظفر به فإنه يحقن دمه ويعصم ماله المنقول
دون الأرضين والعقارات فإنها للمسلمين ويتبعه أولاده الأصاغر وإن كان فيهم حمل
دون زوجاته وأولاده الكبار، ولو وقع الشك في بلوغ الأسير اعتبر بالشعر الخشن على العانة
فإن ادعى استعجاله بالدواء ففي القبول إشكال، ويعول على نبات الشعر الخشن تحت
الإبط لا باخضرار الشارب، والخنثى إن بال من فرج الذكور أو سبق أو انقطع أخيرا منه
249

فذكر وبالعكس امرأة ولو اشتبه لم يجز قتله، ولو أسلم عبد الحربي في دار الحرب قبل
مولاه فإن قهر مولاه بالخروج إلينا قبله تحرر وإلا فلا.
الفصل الثالث: في الاغتنام:
ومطالبه ثلاثة:
المطلب الأول:
المراد بالغنيمة هنا كل ما أخذته الفئة المجاهدة على سبيل الغلبة دون المختلس
والمسروق فإنه لآخذه ودون ما ينجلي عنه الكفار بغير قتال فإنه للإمام ودون اللقطة فإنها
لآخذها، ولو أخذ من الحربي على جهة السوم ثم هرب ملكه.
وأقسام الغنيمة ثلاثة: ما ينقل ويحول من الأمتعة وغيرها، وما لا ينقل ولا يحول
كالأراضي، وما هو سبي كالنساء والأطفال.
والأول: إن لم يصح للمسلم تملكه فليس غنيمة بل ينبغي إتلافه كالخنزير أو يجوز
إبقاؤه للتخليل كالخمر، وإن صح كالذهب والفضة والأقمشة وغيرها أخرج منه الخمس
والجعائل وما يصطفيه الإمام لنفسه والباقي للغانمين خاصة سواء حواه العسكر أو لا وليس
لغيرهم فيه شئ ولا لبعضهم الاختصاص بشئ، نعم لبعضهم التخصيص بما يحتاج إليه
من المأكول وعلف الدواب قدر الكفاية سواء كان غنيا أو فقيرا وسواء كان هناك سوق
أو لا وسواء كان المأكول من الطعام أو مثل السكر والفاكهة الرطبة أو اليابسة.
ولو احتاج الغانم إلى ذبح البهيمة المأكولة أكل اللحم ورد الجلد إلى المغنم ولو عمل
منه شيئا أو شبهه رده وعليه أجرته، وليس له لبس الثياب ولا استعمال الدواء والدهن
إلا مع الضمان، ويباح الأخذ لمن معه طعام ومن ليس معه لكن قدر الحاجة ما داموا في
دار الحرب، وليس له أن يضيف من ليس من الغانمين، ولو فضل من الطعام شئ بعد
الدخول إلى دار الاسلام رده.
ولو أقرض غانم مثله شيئا من الغنيمة أو علفا لدوابه جاز ولا يكون قرضا لانتفاء
ملك الأول ويكون الثاني أحق باليد وليس للأول مطالبته فإن رده عليه صار أولى باليد
250

المتجددة ولو خرجا من دار الحرب لم يجز له رده على المقرض بل على الغنيمة، ولو باعه
من الغنيمة بشئ منها فكل منهما أحق باليد فيما صار إليه وليس بيعا فلا يجري فيه
الربا، ولو كان الثمن من غير الغنيمة لم يملكه البائع ورده على المشتري، ولو كان
المشتري من غير الغانمين لم يصح إقرار يده عليه بل يرده إلى الغنيمة.
الثاني: ما لا ينقل يخرج منه الخمس إما بإفراز بعضه أو باخراج خمس حاصله
والباقي للمسلمين قاطبة لا يختص به الغانمون مثل الأرض،
فإن فتحت عنوة فإن كانت محياة فهي فئ للمسلمين قاطبة لا يختص بها الغانمون
والنظر فيها إلى الإمام، ولا يصح بيعها ولا وقفها ولا هبتها ولا يملكها المتصرف فيها على
الخصوص ويقبلها الإمام لمن يراه بما يراه حظا للمسلمين ويصرف حاصلها في مصالحهم
كسد الثغور وبناء القناطر ومعونة الغزاة وإرزاق الولاة والقضاة وما أشبهه، ولو ماتت لم
يصح إحياؤها لأن المالك لها معروف وهو المسلمون كافة، وما كان منها مواتا حال
الفتح فللإمام خاصة لا يجوز إحياؤها إلا باذنه فإن تصرف فيها أحد بغير إذن فعليه
طسقها له، وفي حال الغيبة يملكها المحيي من غير إذن.
وأما أرض الصلح فلأربابها إن صولحوا على أن الأرض لهم، ولو صولحوا على أنها
للمسلمين ولهم السكنى وعليهم الجزية فالعامر للمسلمين قاطبة والموات للإمام خاصة
وعليهم ما يصالحهم الإمام إذا شرطت الأرض لهم ويملكونها على الخصوص ويتصرفون
بالبيع وغيره، فإن باع أحدهم أرضه على مسلم صح وانتقل مال الصلح عن الأرض إلى
رقبة الذمي، ولو أسلم الذمي ملك أرضه وسقط مال الصلح عنه.
وأما أرض من أسلم أهلها عليها فهي لهم خاصة وليس عليهم سوى الزكاة مع
الشرائط، وكل أرض ترك أهلها عمارتها فللإمام أن يقبلها ممن يعمرها ويأخذ منه
طسقها لأربابها، وكل من أحيا أرضا ميتة لم يسبقه غيره إليها فهو أولى فإن كان لها
مالك معروف فعليه طسقها له وله انتزاعها من يده.
الثالث: السبايا والذراري وهي من الغنائم يخرج منه الخمس والباقي للغانمين
خاصة.
251

فروع:
أ: المباحات بالأصل كالصيد والشجر لا تخص أحدا فإن كان عليه أثر ملك كالطير
المقصوص والشجر المقطوع فغنيمة.
ب: لو وجد شئ في دار الحرب يصلح للمسلمين والكفار فلقطة.
ج: الغانم هل يملك حصته من الغنيمة لمجرد الاغتنام أو يملك إن يملك؟ فيه احتمال
فعلى الثاني يسقط حقه منها بالإعراض قبل القسمة إذ الغرض الأقصى في الجهاد حفظ
الملة والغنيمة تابعة فيسقط بالإعراض والأقرب عدم صحة الإعراض بعد قوله: اخترت
الغنيمة. ويفرض المعرض كالمعدوم، ولو أعرض الجميع ففي نقلها إلى أرباب الخمس
خاصة نظر أقربه أنها للإمام، والأقرب صحة إعراض المفلس دون السفيه والصبي إلا أن
يبلغ قبل القسمة ولا إعراض العبد عن الرضخ بل سيده، ويصح إعراض السالب عن
سلبه ولو مات قبل الإعراض فللوارث أن يعرض.
د: هل تملك الغنيمة بالاستيلاء أو القسمة أو يظهر الملك بالاستيلاء مع القسمة
وانتفاؤه مع الإعراض والتلف؟ فيه نظر، أقربه الأول.
ه‍: لو كان في المغنم من ينعتق على بعضهم انعتق على الأول نصيبه وقوم عليه إن
قلنا بالتقويم في مثله ولا ينعتق على الثاني إلا أن يخصه الإمام به فينعتق وإن خص به
جماعة هو أحدهم ورضي عتق عليه ولزمه نصيب الشركاء.
و: لو وطئ الغانم جارية المغنم عالما سقط من الحد بقدر حقه وأقيم عليه بقدر
الباقين فإن أحبلها فله منه بقدر حقه والأقرب وجوب العشر مع البكارة ونصفه مع عدمها
ويسقط منه قدر نصيبه ويلحق الولد به وتصير أم ولد وتقوم الجارية عليه وولدها يوم
سقوطه حيا إلا إن كانت قومت قبل الوضع فلا يقوم الولد.
ز: يجوز إتلاف ما يحتاج إلى إتلافه من أموال الكفار للظفر بهم كقطع الأشجار وقتل
الحيوان لا مع عدم الحاجة، والكتب إن كانت مباحة كالطب والأدب لم يجز تلفها وهي
غنيمة وغيرها كالزنادقة والكفر لا يجوز إبقاؤها وكذا التوراة والإنجيل، وكلب الصيد
والماشية والزرع والحائط غنيمة بخلاف غيره.
252

المطلب الثاني: في قسمة الغنيمة:
يجب البدأة بالمشروط كالجعائل والسلب والرضخ، ثم بما يحتاج إليه الغنيمة من
النفقة مدة بقائها حتى تقسم كأجرة الراعي والحافظ، ثم الخمس يقسم أربعة الأخماس
الباقية بين المقاتلة ومن حضر وإن لم يقاتل حتى المولود بعد الحيازة قبل القسمة والمدد
المتصل بهم بعد الغنيمة قبل القسمة والمريض بالسوية لا يفضل أحد لشدة بلائه للراجل
سهم وللفارس سهمان ولذي الأفراس ثلاثة سواء قاتلوا في البر أو البحر استغنوا عن
الخيل أو لا.
ولا يسهم للعبيد ولا للنساء ولا للكفار ولا الأعراب وهم من أظهر الاسلام ولم
يصفه وإن قاتلوا مع المهاجرين على رأي بل يرضخ الإمام للجميع بحسب المصلحة،
وينبغي المفاضلة في الرضخ بسبب شدة قتاله وضعفه ولا يسهم للمخذل ولا المرجف ولا
يرضخ لهم ولا لغير الخيل من الإبل والبغال والحمير، وفي الإسهام للحطم " وهو الذي
ينكسر " والقحم " وهو الكبير الهرم " والضرع " وهو الصغير " والأعجف " وهو المهزول "
والرازح " وهو الذي لا حراك به " نظر ينشأ من عموم الاسم ومن عدم الانتفاع والاعتبار
بكونه فارسا عند الحيازة إلى القسمة، فلو دخل المعركة راجلا فملك بعد انقضاء الحرب
فرسا قبل القسمة أسهم لها، ولو قاتل فارسا ثم نفقت فرسه أو باعها أو أخذها المشركون
بعد الحيازة قبل القسمة لم يسهم له.
ولا يسهم للمغصوب مع غيبة المالك وله الأجرة على الغاصب ومع حضوره السهم
له، وللمقاتل سهم الراجل والأقرب احتساب الأجرة منه فإن قصر وجب الإكمال، ولو
كان ذا أفراس فالوجه التقسيط فيأخذ المالك حصته مع حضوره، ولو تعددت أفراس
المالك خاصة أو أفراسهما معا فإشكال.
وسهم المستأجر والمستعار للمقاتل، وأرباب الصنائع كالبقال والبيطار والخياط والبزاز
إن قاتلوا أسهم لهم وإلا فإن حضروا للجهاد فكذلك وإلا لم يسهم لهم، ولو غنمت
السرية شاركها الجيش الصادرة هي عنه لا من جيش البلد، ولا يتشارك الجيشان
الخارجان إلى جهتين.
253

ويكره تأخير القسمة في دار الحرب لغير عذر وإقامة الحدود فيها، ولو غنم المشركون
أموال المسلمين لم يملكوها فلو ارتجعت فلا سبيل على الأحرار، وأما الأموال والعبيد
فلأربابها قبل القسمة ولو عرفت بعدها استعيدت ورجع الغانم على الإمام مع تفرق
الغانمين، والمرصد للجهاد إنما يملك رزقه بقبضه من بيت المال فلو مات قبله لم يطالب
الوارث وإن كان قد حل، ولا يستحق أحد سلبا ولا نفلا إلا بالشرط.
المطلب الثالث: في اللواحق:
أ: السلب المستحق للقاتل كل ما يد المقتول عليه وهو جنة للقتال أو سلاح
كالسيف والرمح والدرقة والثياب التي عليه والفرس والبيضة والجوشن، وما لا يد له
عليه كالجنائب التي تساق خلفه والرحل فغنيمة، أما ما يده عليه وليس جنة كالمنطقة
والخاتم والنفقة التي معه ففي كونها سلبا أو غنيمة نظر.
ب: إنما يستحق السلب بشروط: أن يشرطه الإمام له، وأن يقتل حالة الحرب فلو
قتله بعد أن ولوا الدبر فلا سلب بل غنيمة، وأن يغرر بنفسه فلو رمى سهما من صف
المسلمين إلى صف المشركين فقتل فلا سلب، وأن لا يكون المقتول مثخنا بل يكون قادرا
على القتال، وأن لا يكون القاتل كافرا ولا مخذلا، وأن لا يكون القتل محرما فلو قتل
امرأة غير معاونة فلا سلب.
ج: لا ينقص ذو السهم عن سهمه شيئا لأجل السلب بل يجمعان له ويأخذ السلب
الصبي والمرأة والمجنون مع الشرائط.
د: لو تعدد القاتل فالسلب بينهما ولو جرحه الأول فصيره مثخنا فالسلب له وإلا
فللثاني.
ه‍: النفل هو ما يجعله الإمام لبعض المجاهدين من الغنيمة بشرط مثل أن يقول: من
دلني على القلعة أو من قتل فلانا أو من يتولى السرية أو من يحمل الراية فله كذا. وإنما
يكون مع الحاجة بأن يقل المسلمون ويكثر العدو فيحتاج إلى سرية أو كمين من المسلمين
ولا تقدير لها إلا بحسب نظره، وجعل النبي ص في البدأة وهي السرية
254

التي تنفذ أولا الربع وفي الرجعة الثلث وهي المنفذة الثانية بعد رجوع الأولى ليس
عاما.
و: يجوز جعل النفل من سهمه ومن أصل الغنيمة ومن أربعة الأخماس ولو قال قبل
لقاء العدو: من أخذ شيئا من الغنيمة فهو له، صح.
ز: يجوز أن يجعل من ماله دينا بشرط أن يكون معلوما قدرا ووصفا وعينا بشرط
العلم بالوصف أو المشاهدة ولو كانت من مال الغنيمة جاز أن تكون مجهولة كعبد.
ح: لو عينها منها ففتح البلد صلحا فإن اتفق المجعول له وأربابها على الأخذ أو دفع
القيمة جاز وإلا فسخ الصلح وردوا إلى مأمنهم لأنه صلح منع الوفاء بما وجب بشرط قبله
على إشكال، ولو كانت جارية فأسلمت قبل الفتح مطلقا أو بعده إن كان المجعول له
كافرا فالقيمة، ولو ماتت قبل الفتح أو بعده أو لم يكن فيها جارية فلا شئ، ولو جعل
الجارية للدال فعجزنا عن الفتح أو تجاوزنا عنها مع القدرة فلا شئ وإن أتم الدلالة إلا
إذا رجعنا إلى الفتح بدلالته، ولو فتحها طائفة أخرى لما سمعوا الدلالة فلا شئ عليهم
إذ لم يجر الشرط معهم، ولو ماتت قبل التسليم مع المكنة احتمل أجرة المثل والقيمة،
ولو لم يحصل للغانمين سوى الجارية ففي وجوب تسليمها إشكال.
ط: لو جعل للمشرك فدية عن أسراء المسلمين لم يجب الوفاء لأنه لا عوض للحر.
المقصد الرابع: في ترك القتال:
وفيه فصلان:
الأول: في الأمان: وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في أركانه: وهي أربعة:
الأول: العاقد: ولا يصح عاما ولا لأهل إقليم ولا لبلد ولا لقرية وحصن إلا من
الإمام أو لمن نصبه عاما ولو نصبه للنظر في جهة جاز أن يذم أهلها، ويصح من آحاد
المسلمين لآحاد الكفار، ويشترط في العاقد عاما أو خاصا البلوغ والعقل والاختيار. فلا
255

يصح من الصبي وإن راهق ولا من المجنون ولا المكره، ويصح من العبد والمرأة والسفيه
والشيخ الهرم.
الثاني: المعقود له: وهو كل من يجب جهاده من حربي أو ذمي خارق للذمة وسيأتي
البحث فيه. وإنما يصح مع المصلحة إما لاستمالة الكافر ليرغب في الاسلام أو لترفيه
الجند أو لترتيب أمورهم أو لقلتهم أو ليدخلوا دارنا وندخل دارهم فنطلع على عوراتهم.
الثالث: العقد وشروطه انتفاء المفسدة فلو آمن جاسوسا أو من فيه مضرة لم ينعقد،
ويحصل باللفظ والكتابة والإشارة المفهمة. فاللفظ كل ما يدل بالصريح مثل: أمنتك أو
أجرتك أو أنت في ذمة الاسلام وما أشبهه وكذا الكتابة والإشارة الدالتان عليه، أما لو
قال: لا تخف أو لا بأس عليك، فإن انضم إليه ما يدل على الأمان كان أمانا وإلا فلا
على إشكال إذ مفهومه ذلك، ولا بد من قبول الحربي إما نطقا أو إشارة أو سكوتا أما لو
رد لم ينعقد. ولو قال الوالي: آمنت من قصد التجارة، صح. ولو قال غيره لم ينعقد،
فإن توهم الحربي أمانا رد إلى مأمنه ولا يغتال.
الرابع: الوقت: إنما يصح قبل الأسر فلو أذم المسلم بعد أن استؤسر الحربي لم يصح
ويصح قبله وإن أشرف جيش الاسلام على الظفر مع المصلحة، ولو أقر المسلم قبل الأسر
بالذمام قبل لا بعده إذ لا يصح منه حينئذ إنشاؤه، ولو ادعاه الحربي فأنكر المسلم قدم
قول المسلم من غير يمين، ولو مات المسلم أو جن قبل الجواب لم يلتفت إلى الدعوى إلا
بالبينة وفي الموضعين يرد إلى مأمنه ثم يصير حربا ولا يعقده أكثر من سنة إلا لحاجة.
المطلب الثاني: في الأحكام:
كل حربي عقد لنفسه الأمان وجب الوفاء له بما شرطه من وقت وغيره ما لم يخالف
المشروع ويكون معصوما من القتل والسبي في نفسه وماله ويلزم من طرف المسلم فلا يحل
نبذه إلا مع ظهور خيانة ولا يلزم من طرف الكافر بل له نبذه متى شاء فيصير حربا ومع
حفظ العهد لو قتله المسلم كان آثما ولا ضمان نعم لو أتلف عليه مالا ضمنه.
ولو عقد الحربي لنفسه الأمان ليسكن في دار الاسلام دخل ماله تبعا له فإن التحق
256

بدار الحرب للاستيطان وخلف عندنا مالا وديعة أو غيرها انتقض أمانه لنفسه دون ماله،
فإن مات انتقل إلى وارثه فإن كان مسلما ملكه مستمرا وإن كان كافرا انتقض الأمان
في المال وصار فيئا للإمام خاصة حيث لم يوجف عليه وكذا لو مات في دار الاسلام،
ولو استرق بعد رجوعه إلى داره ملك ماله تبعا له ولا يتخصص به من خصصه الإمام
برقبته بل للإمام وإن عتق، فلو أذن له الإمام في الخروج في رسالة أو تجارة أو حاجة فهو
على أمانه.
وكل موضع حكم فيه بانتفاء الأمان إما لصغر العاقد أو جنونه أو لغير ذلك فإن
الحربي لا يغتال بل يرد إلى مأمنه ثم يصير حربا، وكذا لو دخل بشبهة الأمان مثل أن
يسمع لفظا فيعتقده أمانا أو يصحب رفقة أو يدخل في تجارة أو يستذم فيقال له: لا
نذمك، فيتوهم إنا ذممناه، ولو دخل ليسمع كلام الله تعالى أو لسفارة فهو آمن لقصده.
ولو دخل مسلم دارهم مستأمنا فسرق وجب عليه إعادته إلى مالكه سواء كان المالك
في دار الاسلام أو دار الحرب، ولو استأسروا مسلما فأطلقوه بشرط الإقامة عندهم والأمن
منه لزم الثاني خاصة، فإن أطلقوه على مال لم يجب دفعه، ولو تبعه قوم عند الخروج فله
دفعهم وقتلهم دون غيرهم، ولو شرطوا العود عليه بعد دخول دار الاسلام لم يجز له العود،
ولو اشترى منهم شيئا يلزمه الثمن وجب إنفاذه، ولو أكره على الشراء فعليه رد العين،
ولو اقترض حربي من مثله ثم دخل بالأمان وجب رد ما عليه وكذا لو تزوج امرأة
وأمهرها وأسلما ألزم الزوج المهر إن كان مما يملك وإلا القيمة.
ولو أسلم الحربي لم يكن لزوجته الكافرة مطالبته بالمهر الذي في ذمته ولا لوارثها،
ولو ماتت قبل إسلامه أو أسلمت قبله ثم ماتت طالبه وارثها المسلم لا الحربي، ولو أمن
الأسير من استأسره فهو فاسد لأنه كالمكره و لو أمن غيره صح، ولو تجسس مسلم لأهل
الحرب وأطلعهم على عورات المسلمين لم يحل قتله بل يعزر إن شاء الإمام، ولو دخل
الحربي بأمان فقال له الإمام: إن أقمت حكمت عليك حكم أهل الذمة، فأقام سنة جاز
أخذ الجزية منه.
257

خاتمة: إذا حاصر بلدا أو قلعة فنزلوا على حكمه صح وكذا إن نزلوا على حكم غيره بشرط أن
يكون كامل العقل مسلما عدلا بصيرا بمصالح القتال، والأقرب اشتراط الحرية
والذكورة ممن يختاره الفريقان أو الإمام خاصة دون اختيارهم خاصة ويجوز تعدده فإن
مات أحدهم بطل حكم الباقين، وكذا لو مات الواحد قبل الحكم يردون إلى مأمنهم.
ويشترط في كل من المتعددين ما شرط في الواحد ويلزم ما يحكم به الحاكم إذا لم يكن
منافيا للمشروع فإن حكم بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وغنيمة المال نفذ،
وكذا لو حكم باسترقاق الرجال أو بالمن عليهم ويجب أن يكون ما يحكم به ما فيه الحظ
للمسلمين، ولو حكم بالجزية أو باسترقاق من يسلم وقتل الباقي على الكفر جاز فلا يجوز
حينئذ استرقاق من أقام على الكفر ويجوز المن عليه، ولو من الإمام على بعض من حكم
بقتلهم جاز، فإن أسلموا قبل أن يحكم الحاكم عصموا أنفسهم وأموالهم وأهليهم، ولو
أسلموا بعد الحكم بقتل الرجال وسبي الذرية والنساء وأخذ المال سقط القتل خاصة، ولو
أراد الإمام استرقاق الرجال لم يجز بل يسترق الذرية ويغنم المال ويخرج منه الخمس
والباقي غنيمة لأنه أخذ قهرا، ولو جعل للزعيم أمان مائة صح ويعين من شاء فإن عد مائة
وأغفل نفسه جاز قتله.
الفصل الثاني: في عقد الجزية:
وفيه مطالب:
المطلب الأول: المعقود له:
وهو كل ذمي بالغ عاقل حر ذكر متأهب للقتال ملتزم بشرائط الذمة السابقة.
فالذمي يشمل من له كتاب كاليهود والنصارى ومن له شبهة كتاب كالمجوس،
والصبي والمجنون والعبد والمرأة أتباع لا جزية عليهم ويسقط عن الهم على رأي ويؤخذ
ممن عداهم وإن كانوا رهبانا أو مقعدين ولا تسقط عن الفقير بل ينظر بها حتى يوسر
كالدين، وللرجل أن يستتبع من شاء من نساء الأقارب وإن لم يكن محارم مع الشرط
258

فإن أطلق لم يتبعه إلا صغار أولاده وزوجاته.
فإذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو أعتق العبد فعليهم الجزية ويستأنف العقد معهم
أو يسلموا فإن امتنعوا صاروا حربا، ولو أفاق المجنون حولا وجبت عليه وإن جن بعد
ذلك، ولو كان يجن ويفيق قيل: يحكم للأغلب، وقيل: تلفق أيام الإفاقة فإذا بلغت
حولا فالجزية.
ولو بعثت امرأة من دار الحرب تطلب أن يعقد لها الذمة لتصير إلى دار الاسلام عقد
لها بشرط أن تجري عليها أحكامنا سواء جاءت منفردة أو معها غيرها ولا يشترط عليها
الجزية فإن بذلتها عرفها الإمام سقوطها فإن بذلتها حينئذ كانت هبة لا جزية.
ولو حاصرنا بلدا فسأل أهله الصلح بوضع الجزية على النساء والصبيان لم يصح لأنهم
مال فلا يثبت عليهم شئ، فإن طلبت النساء أن يبذلن الجزية ليكون الرجال في أمان
لم يصح، ولو قتلنا الرجال وسألت النساء أن يعقد لهن الأمان ليقمن في دار الاسلام عقد
لهن بشرط أن تجري عليهن أحكامنا ولو بذلن الجزية لم يصح أخذها جزية، ولا فرق بين
قتل الرجال قبل عقد الجزية وبعدها في عدم إقرارها على النساء.
ولو حاصرنا بلدا ولم نجد فيه سوى النساء فسألن بذل الجزية ليسلمن من الرق لم
يجب، ولو بلغ الصبي سفيها لم يقر إلا بجزية، فإن اتفق مع وليه على جزية عقداها
صح، وإن اختلفا قدمنا اختياره لتعلقه بحقن دمه.
وتؤخذ الجزية من أهل الذمة عربا كانوا أو عجما، ولو ادعى أهل حرب أنهم منهم
قبل بذلهم للجزية ولم يكلفوا البينة فإن ظهر كذبهم انتقض العهد وجاز اغتيالهم
لتلبيسهم.
ولو ظهر قوم زعموا أنهم أهل الزبور ففي تقريرهم إشكال وإنما يقر اليهود والنصارى
والمجوس لو دخل آباؤهم في هذه الأديان قبل مبعث النبي ص، فلو دخل
جماعة من عباد الأوثان فيها بعد البعثة لم يقروا، ولو دخلوا بعد التبديل قبل البعثة
احتمل التقرير مطلقا لانحطاط درجة المجوس المقرين على دينهم عنهم والتقرير إن
تمسكوا بغير المحرف.
259

والصابئون من النصارى والسامرة من اليهود إن كفروهم لم يقروا وإن جعلوهم
مبدعة أقروا والأقرب تقرير المتولد بين الوثني والنصراني بالجزية بعد بلوغه إن كان أبوه
نصرانيا، وإلا فلا، ولو توثن نصراني وله ولد صغير ففي زوال حكم التنصر عنه نظر، فإن
قلنا بالزوال لم يقبل منه بعد بلوغه إلا الاسلام، وإن قلنا بالبقاء جاز إقراره بالجزية، ولو
تنصر الوثني وله ابن صغير وكبير فأقاما على التوثن ثم بلغ الصغير بعد البعثة جاز إقراره على
التنصر لو طلبه بالجزية دون الكبير ولا بد من التزام الذمي بجري أحكام المسلمين عليه.
الثاني: العاقد:
وهو الإمام أو من ينصبه فيجب عليه القبول إذا بذلوه إلا إذا خاف غائلتهم ولا تقبل
من الجاسوس، ولو عقد مسلم لم يصح ولو كان لواحد لكن لا يغتال بل يرد إلى مأمنه
فإن أقام سنة لم يطالب عنها.
وصورة العقد أن يقول العاقد: أقررتكم بشرط الجزية والتزام أحكام الاسلام، أو ما
يؤدى هذا المعنى فيقول الذمي: قبلت، فهذان شرطان لا بد منهما والبواقي إن شرطت
وجبت. ويصح العقد موقتا على إشكال ينشأ من أنه بدل عن الاسلام فلا يصح فيه
التوقيت كالمبدل ويصح مؤبدا، ولو قال: ما شئت، صح. ولا يصح تعليقه بمشيئة
الإمام على إشكال من حيث أنه ليس للإمام الابتداء بالنقض ومن حيث الشرط، ولو
قال: ما شاء الله أو ما أقرركم، فكالتعليق بمشيئة الكافر لأنه تعالى أمر بالتقرير ما دام
باذلا للجزية.
ولا تقرير للجزية بل بحسب ما يراه الإمام ويجوز وضعها على رؤوسهم وعلى أرضيهم
وله الجمع على رأي ويؤخذ عند انتهاء كل حول، فإن أسلم قبل الأداء سقطت وإن كان
بعد الحول على رأي نعم لو باعها الإمام أخذت منه، ولو مات بعد الحول قبل الأداء
أخذت من صلب تركته، وإذا فسد العقد لم نقتلهم بل نلحقهم بأهلهم فإن أقاموا سنة
عندنا أخذنا الجزية.
ولو دخل الكافر دارنا بغير أمان لم نأخذ منه شيئا لأنه لم يقبله لكن نغتاله، ولو
260

قال: دخلت لسماع كلام الله تعالى أو لسفارة صدقناه ولا نغتاله وإن لم يكن معه كتاب
ويجوز أن يشرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، ويشترط أن تكون زائدا على أقل
ما يجب عليه من الجزية لو اقتصر على الضيافة وأن تكون معلوم المقدار بأن يعين عدد
الأيام وعدد من يضاف وقدر القوت والأدم وعلف الدواب وجنسه، وينبغي أن يكون
النزول في فاضل بيعهم وكنائسهم ومنازلهم، وليس لنا اخراج أرباب المنازل وإن ضاقت
عنا وحينئذ من سبق إلى منزل فهو أولى.
فروع:
أ: وضع علي ع على الفقير في كل حول اثني عشر درهما وعلى المتوسط
أربعة وعشرين وعلى الغني ثمانية وأربعين وليس ذلك لازما بل بحسب ما يراه الإمام في
كل وقت، فلو قرر على الغنى قدرا ثم علم أنه غير واجب لم يكن له الرجوع إلا أن ينبذ
العهد ثم يرجع إلى بذل الأقل فيجوز مع المصلحة ولو ماكس الإمام بالزيادة فامتنع من
بذلها وجب القبول بالأقل.
ب: لو اجتمع عليه جزية سنتين لم يتداخل ولو مات في أثناء السنة فالأقرب السقوط
بالكلية، وتقدم الجزية على الوصايا وتقسط التركة بينها وبين الدين.
ج: ينبغي أن يكون عدد الضيفان على الغني أكثر ولا يفرق بينه وبين الفقير بجنس
الطعام ولا تحسب الضيافة من الدينار ويختص الدينار بأهل الفئ والضيافة مشتركة بين
الطارقين من المسلمين وإن لم يجاهدوا.
د: الصغار إن جعلناه عدم علمه بالمقدار لم تجب الإهانة وإلا فالأقرب الوجوب ولو
وكل مسلما لأدائها لم يجز وتؤخذ منه قائما والمسلم قاعدا ويأمره باخراج يده من جيبه
وتطأطئ رأسه.
ه‍: لو طلبوا أداء الجزية باسم الصدقة ويزيدون في القدر جازت الإجابة مع
المصلحة، والأقرب في الجبران مراعاة مصلحة المسلمين في القيمة السوقية أو التقدير
الشرعي.
261

و: لو خرقوا الذمة في دار الاسلام ردهم إلى مأمنهم وهل له قتلهم واسترقاقهم
ومفاداتهم؟ فيه نظر. ولو أسلموا قبل الحكم سقط الجميع إلا القود والحد والمال، ولو
أسلم بعد الاسترقاق والمفاداة لم يسقط ما حكم عليهم.
ز: يمضى الإمام الثاني ما قرره الأول إذا لم تخرج مدة تقريره فلو شرط الدوام في
الجزية لم يغيره الثاني ولو أطلق الأول جاز له التغيير بحسب المصلحة.
ح: يكره أن يبدأ الذمي بالسلام ويستحب أن يضطر إلى أضيق الطرق ويمنع من
جادة الطرق.
المطلب الثالث: حكم العقد:
ويجب لهم بعقد الذمة وجوب الكف عنهم وأن يعصمهم بالضمان نفسا ومالا ولا
يتعرض لكنائسهم ولا خمورهم وخنازيرهم بشرط عدم التظاهر، فمن أراق خمورهم أو
قتل خنازيرهم مع الستر ضمنه بقيمته عندهم ولا شئ مع التظاهر، ولو غصبهم وجب
رده، ولو ترافعوا إلينا في خصوماتهم تخير الحاكم بين الحكم بشرع الاسلام وردهم إلى
أهل نحلتهم ليحكموا بمقتضى شرعهم.
ويجب دفع الكفار عنهم ولو انفردوا ببلدة بعيدة عن بلاد الاسلام ففي وجوب دفع
من يقصدهم من الكفار إشكال، ولو شرطناه وجب ولو شرطنا عدم الذب لم يجب.
ويحكم العقد عليهم بأشياء:
أ: الكنائس فلا يمكنون من بناء كنيسة في بلدة مصرها المسلمون ولا في بلدة
ملكناها منهم قهرا أو صلحا، فإن أحدثوا شيئا نقض ولهم الاستمرار على ما كان في
الجميع ورم المستهدم منها ويكره للمسلم إجارة الرم، ولو وجد في بلد المسلمين كنيسة
ولم يعلم سبقها ولا تأخرها لم ينقض لاحتمال أن تكون في برية واتصلت بعمارة
المسلمين، ولو صالحونا على أن الأرض للمسلمين ولهم السكنى وإبقاء الكنائس جاز،
ولو شرطنا النقض جاز، ولو أطلقوا احتمل النقض لأنا ملكنا الأرض بالصلح وهو
يقتضي صيرورة الجميع لنا وعدمه عملا بقرينة حالهم لافتقارهم إلى مجتمع لعبادتهم، ولو
262

صالحناهم على أن الأرض لهم ويؤدون الخراج فلهم تجديد الكنائس فيها، وكل موضع
منعنا من الإحداث لم يمنع من إصلاح القديم نعم لو انهدم ففي الإعادة نظر، ولا يجوز
توسيع خطتها.
ب: عدم تعلية بنائه المستجد على جاره المسلم وإن كان دار جاره في غاية الانخفاض
وفي المساواة إشكال، ولا يجب أن يقصر عن بناء جميع المسلمين في البلد بل بناء محلته ولو
كانوا في موضع منفرد فلا حجر، ولا يمنع من شراء دار مرتفعة ولا يهدم لو ملكها نعم لو
شراها من ذمي ظلم بالارتفاع هدم المرتفع، ولو شراها المسلم من هذا الظالم لم يهدم،
فلو باعها المسلم فالأقرب إقراره على العلو، ولو انهدمت المرتفعة مطلقا لم يجز له أن يعلو
في الإعادة ولا يلزمهم إخفاء العمارة.
ج: عدم دخول المساجد للاستيطان ولا للاجتياز سواء أذن لهم مسلم أو لا.
د: عدم استيطان الحجاز - والمراد به مكة والمدينة وهي داخلة في جزيرة العرب لأن
حدها من عدن إلى ريف عبادان طولا ومن تهامة وما والاها إلى أطراف الشام عرضا -
ويجوز لهم الاجتياز بالحجاز والامتيار منه ولا يمكن من الإقامة أزيد من ثلاثة أيام على
موضع سوى يوم الدخول والخروج ويمنع من الاجتياز بالحرم فلو جاء لرسالة خرج إليه
من يسمعها، فلو دفن به نبش قبره وأخرج، ولو مرض وخيف موته بنقله نقل.
ه‍: التزام جميع ما تقدم من الشرائط.
نكتة:
حكم انتقاض العهد بالقتال الاغتيال وما عداه يرد إلى مأمنه، ولو نبذ إلينا العهد
ألحق بالمأمن أيضا، ولو كذب بعد إسلامه على رسول الله ص عزر فإن
كذبه فهو مرتد وإن نسبه إلى الزنى فهو مرتد فإن أسلم لم يلزمه شئ واحتمل القتل لأن
حد قذف النبي القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة ووجوب الثمانين لأن قذف النبي
ارتداد وقد سقط حكمه بالتوبة وبقي حد القذف.
263

المطلب الرابع: في المهادنة:
وهي المعاهدة على ترك الحرب مدة من غير عوض وهي جائزة مع المصلحة للمسلمين
وواجبة مع حاجتهم إليها إما لقلتهم أو لرجاء إسلامهم مع الصبر أو ما يحصل به
الاستظهار فإن لم تكن حاجة ولا مضرة لم تجب الإجابة بل ينظر إلى الأصلح فإن كان
في طرف الترك لم تجز المهادنة.
وإنما يتولاها الإمام أو من نصبه لذلك ويشترط خلوها عن شرط فاسد كشرط ترك
مسلم أو ماله في أيديهم وشرط دفع مال إليهم إلا مع الخوف والتظاهر بالمناكير وإعادة
المهاجرات، ثم إن لم يكن الإمام مستظهرا لضعف المسلمين وقوة شوكة العدو لم تتقدر
المدة بل بحسب ما يراه ولو عشر سنين، ولو انعكس الحال لم يجز الزيادة على سنة لقوله
تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين، ويجوز إلى أربعة أشهر لقوله
تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، وفيما بينهما خلاف أقربه اعتبار الأصلح. ولو
عقد مع الضعف على أزيد من عشر سنين بطل الزائد، ولا بد من تعيين المدة فلو شرط مدة
مجهولة لم يصح ولو أطلقها بطلت الهدنة إلا أن يشترط الخيار لنفسه في النقض متى شاء.
وحكم العقد الصحيح وجوب الوفاء به إلى آخر المدة أو إلى أن يصدر منهم خيانة
وعلموها فإن لم يعلموا أنه خيانة فينذر ولا يغتال، ولو استشعر الإمام خيانة جاز له أن
ينبذ العهد إليهم وينذرهم ولا يجوز نبذ الجزية بمجرد التهمة، ولو شرط مع الضعف عشر
سنين فزال الضعف وجب الوفاء بالشرط.
وحكم الفاسد ألا يغتال إلا بعد الإنذار ويجب الوفاء بالشرط الصحيح، والعادة أن
يشرط رد من جاءنا منهم عليهم وهو سائغ إلا في المرأة إذا جاءت مسلمة ومن لا يؤمن
أن يفتن عن دينه إذا جاء مسلما لقلة عشيرته، ولو أمنا أن يفتنوه عن دينه لكثرة رهطه
جاز رده.
فإذا هاجرت منهم امرأة مسلمة لم يجز ردها وإن كانت ذات عشيرة إذ رهطها لا
يمنعوها عن التزويج بالكافر بخلاف الرجل، فإذا هاجرت وأسلمت لم ترد على زوجها
فإن طلبها زوجها دفع إليه ما سلمه إليها من مهر خاصة دون غيره من نفقة وهبة، ولو
264

كان المهر الذي دفعه إليها محرما كخمر وشبهه أو لم يكن قد دفع إليها شيئا لم يدفع
إليه شئ ولا قيمة المحرم وإن كانت قبضته كافرة، ولو جاء أب الزوج أو أخوه وشبهه
لم يدفع إليه شئ أيضا،
والدافع في موضعه إنما هو الإمام من بيت المال لأنه من المصالح هذا إذا قدمت إلى
بلد الإمام أو خليفته ومنع من ردها، ولو قدمت غير بلدهما فمنعها غير الإمام وغير خليفته
لم يدفع إليه شئ سواء كان المانع العامة أو رجال الإمام.
فروع
أ: لو قدمت مجنونة أو عاقلة فجنت لم يجب الرد لجواز تقدم إسلامها، ثم إن علم
تقدم الاسلام دفع إليه مهرها ولو اشتبه لم يجب فإن أفاقت واعترفت بتقدم إسلامها أعيد
عليه وإن قالت: لم أزل كافرة، ردت عليه.
ب: لو قدمت صغيرة فوصفت الاسلام لم ترد لجواز الافتتان ولا المهر إلى أن تبلغ فإن
بلغت وأقامت على الاسلام رد المهر وإلا ردت هي.
ج: لو قدمت مسلمة فجاء زوجها يطلبها فارتدت لم ترد لأنها بحكم المسلمة فيجب
أن تتوب أو تحبس ويرد عليه المهر للحيلولة.
د: لو جاء زوجها يطلبها فمات قبله أو ماتت كذلك فلا شئ له وإن مات أحدهما
بعد المطالبة أعيد عليه أو على وارثه.
ه‍: لو قدمت مسلمة فطلقها بائنا أو خالعها قبل المطالبة لم يكن له المطالبة لزوال
الزوجية فتزول الحيلولة ولو كان رجعيا فراجعها عادت المطالبة.
و: لو قدمت مسلمة فجاء زوجها وأسلم في العدة الرجعية ردت إليه، فإن كان قد
أخذ منا المهر استعدناه لأن المهر للحيلولة ولم نحل بينهما، وإن أسلم بعدها ترد عليه فإن
كان قد طالب بالمهر قبل انقضاء العدة فمنعناه كان له المطالبة لحصول الحيلولة، ولو
طالب بعد الانقضاء لم يكن له لأنه التزم حكم الاسلام وليس من حكمه المطالبة بعد
البينونة.
265

ز: لو قدمت أمة مسلمة ذات زوج لم ترد عليه لأن إسلامها يمنع من ردها ويحكم
بحريتها فإن كان الزوج حرا فله المطالبة بمهرها وإلا فلسيده وأما سيدها فلا ترد عليه ولا
قيمتها.
ح: لو قدمت مسلمة فادعى زوجيتها مشرك لم يحكم إلا باعترافها أو بشاهدين
عدلين ولو ادعى دفع المهر قبل فيه شاهد وامرأتان وشاهد ويمين.
ط: لا اعتبار بالمهر الذي وقع عليه العقد بل بالمقبوض منه، فلو اختلفا قدم قولها مع
اليمين فإن أقام بينة بالزائد أعطي.
ي: لو شرط إعادة الرجال مطلقا بطل الصلح لتناوله من يؤمن افتتانه لكثرة عشيرته
أو لقوته ومن لا يؤمن، وكل من وجب رده لا يجب حمله بل يخلى بينه وبينهم، وإذا رد من
له عشيرة لم نكرهه عليه ولا نمنعه إن اختاره ولا نمنع عنه من جاء ليرده ونوصيه أن يهرب
فإذا هرب منهم ولم يكن في قبضة الإمام لم يتعرض له.
خاتمة:
ما يؤخذ من أموال المشركين في حال الحرب فهو للمقاتلة بعد الخمس، وما يأخذه
سرية بغير إذن الإمام فهو للإمام، وما يتركه الكفار فزعا ويفارقونه من غير حرب فهو
للإمام، وما يؤخذ صلحا أو جزية فهو للمجاهدين ومع عدمهم لفقراء المسلمين، وما
يؤخذ سرقة من أهل الحرب في زمان الهدنة يعاد عليهم وفي غير زمانها لآخذه وفيه
الخمس.
ومن مات من أهل الحرب وخلف مالا ولا وارث له فهو للإمام، وإذا نقض الذمي
العهد ولحق بدار الحرب فأمان أمواله باق فإن مات ولا وارث له مسلم ورثه الذمي
والحربي فإذا انتقل إلى الحربي زال الأمان عنه وصغار أولاده باقون على الذمة، فإن بلغوا
خيروا بين عقد الذمة بأداء الجزية و بين الانصراف إلى مأمنهم.
266

تتمة:
إذا انتقل الذمي إلى دين لا يقر أهله عليه ألزم بالإسلام أو قتل، ولو انتقل إلى ما يقر
أهله عليه ففي القبول خلاف ينشأ من كون الكفر ملة واحدة ومن قوله تعالى: ومن يبتغ
غير الاسلام دينا. فإن عاد ففي قبوله قولان فإن أصر فقتل قيل: لا يملك أطفاله
للاستصحاب.
ولو فعل الذمي السائغ عندهم خاصة لم يعترض إلا أن يتجاهر فيعمل معه بمقتضى
شرع الاسلام، ولو فعل ما ليس بسائغ عندهم أيضا فالحكم فيه كالمسلم وللحاكم دفعه
إلى أهل ملته ليقيموا الحد بمقتضى شرعهم، ولا يصح للكافر شراء المصحف وإن كان
ذميا والأقرب كراهية كتب الأحاديث، ولا يصح وصيته ببناء بيعة أو كنيسة أو بصرف
شئ في كتابة التوراة والإنجيل، ولو أوصى للراهب جاز، ومانع الزكاة مستحلا مرتد
وغيره يقاتل حتى يدفعها.
المطلب الخامس: في أحكام البغاة:
كل من خرج على إمام عادل فهو باع ويجب قتاله على كل من يستنفره الإمام أو من
نصبه عموما أو خصوصا على الكفاية، فمن امتنع فعل كبيرة إن عينه الإمام أو لم يقم
به من فيه كفاية.
والفرار هنا كالفرار في حرب المشركين بل يجب الثبات لهم إلى أن يفيئوا أو يقتلوهم
وهم قسمان: من له فئة يرجع إليها فيجوز أن يجهز على جريحهم ويتبع مدبرهم ويقتل
أسيرهم، ومن لا فئة له فلا يتبع لهم مدبرهم ولا يقتل لهم أسير ولا يجهز على جريحهم ولا
تسبى ذراري الفريقين ولا نساؤهم ولا يملك أموالهم الغائبة وإن كان مما ينقل ويحول.
وفي قسمة ما حواه العسكر بين الغانمين قولان أقربهما المنع، وعلى الجواز يقسم للراجل
سهم وللفارس سهمان ولذي الأفراس ثلاثة، وساب الإمام العادل يقتل، وإذا عاون
الذمي البغاة خرق الذمة، وللإمام الاستعانة بأهل الذمة في قتل البغاة، ولو أتلف الباغي
مال عادل أو نفسه حال الحرب ضمن، ولو فعل ما يوجب حدا واعتصم بدار الحرب أقيم
267

عليه الحد مع الظفر.
المقصد الخامس: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ولا خلاف في وجوبهما مع وجوب المعروف وإنما الخلاف في مقامين: أحدهما أنهما
واجبان على الكفاية أو على الأعيان والثاني أنهما واجبان عقلا أو سمعا، والأول في
المقامين أقوى. ثم الأمر بالمعروف ينقسم بانقسام متعلقه إلى واجب وإلى ندب باعتبار
وجوب متعلقه وندبيته، ولما لم يقع المنكر إلا على وجه القبح كان النهي عنه كله
واجبا وإنما يجبان بشروط أربعة:
أ: علم الآمر والناهي بوجه الفعل لئلا يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
ب: تجويز التأثير فلو عرف عدم المطاوعة سقط.
ج: إصرار المأمور والمنهي على ما يستحق بسببه أحدهما فلو ظهر الإقلاع سقط.
د: انتفاء المفسدة عن الآمر والناهي فلو ظن ضررا في نفسه أو ماله أو بعض المؤمنين
سقط الوجوب.
ويجبان بالقلب مطلقا وأقله اعتقاد وجوب ما يتركه وتحريم ما يفعله وعدم الرضا به،
وكما لو علم الطاعة بضرب من الإعراض وإظهار الكراهية أو الهجران فيجب، وباللسان
بأن يعرف عدم الاكتفاء بذلك فيأمره نطقا وينهاه كذلك بالأيسر من القول فالأيسر
متدرجا مع عدم القبول إلى الأخشن منه، وباليد مع الحاجة بنوع من الضرب والإهانة فلو
افتقر إلى الجراح أو القتل ففي الوجوب مطلقا أو بإذن الإمام قولان.
وأما إقامة الحدود فإنها إلى الإمام خاصة أو من يأذن له ولفقهاء الشيعة في حال
الغيبة ذلك، وللمولى في حال الغيبة إقامة الحد على مملوكه وفي إقامته على ولده وزوجته
قول بالجواز، ولو ولى من قبل الجائر عالما بتمكنه من وضع الأشياء في مظانها ففي جواز
إقامة الحد له بنية أنه نائب عن سلطان الحق نظر، فإن ألزمه السلطان بها جاز ما لم يكن
قتلا ظلما فلا تقية وإن بلغ حد تلف نفسه.
وللفقهاء الحكم بين الناس مع الأمن من الظالمين وقسمة الزكاة والأخماس والإفتاء
268

بشرط استجماعهم لصفات المفتي وهي: الإيمان والعدالة ومعرفة الأحكام بالدليل
والقدرة على استنباط المتجددات من الفروع من أصولها، ويفتقر في معرفة الأحكام إلى
معرفة الآيات المتعلقة بالشرع وهي نحو من خمس مائة آية، وإلى ما يتعلق بالأحكام من
الأحاديث ومعرفة الرواة وأقاويل الفقهاء لئلا يخرج عن الاجماع، ومعرفة أصول الفقه
والكلام وشرائط البرهان وما يتعلق بالأخبار من النحو واللغة والتصريف، ولا يشترط
حفظ الآيات والأحاديث بل قدرته على الرجوع إليها من مظانها والإخلاد إلى أصل
مصحح وروايتها عن عدل بإسناد متصل كذلك إلى إمام.
ويجب على الناس مساعدتهم والترافع إليهم في الأحكام فمن امتنع على خصمه وآثر
المضي إلى حكام الجور كان مأثوما، ولا يحل لفاقد الشرائط أو بعضها الحكم ولا الإفتاء
ولا ينفذ حكمه ولا يكفيه فتوى العلماء ولا تقليد المتقدمين فإن الميت لا قول له وإن
كان مجتهدا، ولا يقدح في العدالة ولاية القضاء من قبل الظالمين بالإكراه ويعتمد الحق
ما أمكن فإن أكره على الحكم بمذاهب أهل الخلاف جاز ما لم يبلغ قتلا ظلما فلا يجوز
ارتكابه وإن خاف التلف.
269

اللمعة الدمشقية
للشيخ أبي عبد الله شمس الدين محمد بن الشيخ جمال الدين
مكي بن الشيخ شمس الدين محمد بن حامد بن أحمد المطلبي العاملي الثباطي الجزيني المشتهر بالشهيد الأول
734 - 786 ه‍ ق
271

كتاب الجهاد
ويجب على الكفاية بحسب الحاجة وأقله مرة في كل عام بشرط الإمام أو نائبه أو
هجوم عدو يخشى منه على بيضة الاسلام. ويشترط: البلوغ والعقل والحرية والبصر
والسلامة من المرض والعرج والفقر. ويحرم المقام في بلد الشرك لمن لا يتمكن من إظهار
شعائر الاسلام. ولأبويه منع الولد مع عدم التعين، والمدين يمنع الموسر مع الحلول،
والرباط مستحب دائما وأقله ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما، ولو أعان بفرسه أو غلامه
أثيب، ولو نذرها أو نذر صرف مال إلى أهلها وجب وإن كان الإمام غائبا.
وهنا فصول: الأول:
يجب قتال الحربي بعد الدعاء إلى الاسلام وامتناعه حتى يسلم أو يقتل، والكتابي
كذلك إلا أن يلتزم بشرائط الذمة وهي: بذل الجزية والتزام أحكامنا وترك التعرض
للمسلمات بالنكاح وللمسلمين بالفتنة وقطع الطريق وإيواء عين المشركين والدلالة على
عورة المسلمين وإظهار المنكرات في دار الاسلام. وتقدير الجزية إلى الإمام وليكن يوم
الجباية ويؤخذ منه صاغرا، ويبدأ بقتال الأقرب إلا مع الخطر.
ولا يجوز الفرار إذا كان العدو ضعفا أو أقل إلا لمتحرف لقتال أو متحيز إلى فئة،
وتجوز المحاربة بطرق الفتح كهدم الحصون والمنجنيق وقطع الشجر وإن كره، وكذا يكره
بإرسال الماء والنار، وإلقاء السم، ولا يجوز قتل الصبيان والمجانين والنساء وإن عاونوا
273

إلا مع الضرورة، ولا الشيخ الفاني والخنثى المشكل. ويقتل الراهب والكبير إن كان ذا
رأي أو قتال والترس ممن لا يقتل، ولو تترسوا بالمسلمين اجتنب ما أمكن ومع التعذر فلا
قود ولا دية، نعم تجب الكفارة.
ويكره التبيت والقتال قبل الزوال وأن تعرقب الدابة والمبارزة من دون إذن الإمام
ويحرم إن منع ويجب لو ألزم، وتجب مواراة المسلم فلو اشتبه فليوار كميش الذكر.
الفصل الثاني: في ترك القتال:
ويترك لأمور: أحدها: الأمان ولو من آحاد المسلمين لآحاد الكفار أو من الإمام أو نائبه للبلد.
وشرطه أن يكون قبل الأسر وعدم المفسدة كما لو أمن الجاسوس فإنه لا ينفذ.
وثانيها: النزول على حكم الإمام ومن يختاره فينفذ حكمه ما لم يخالف الشرع.
الثالث والرابع: الاسلام وبذل الجزية.
الخامس: المهادنة على ترك الحرب مدة معينة أكثرها عشر سنين وهي جائزة مع
المصلحة للمسلمين.
الفصل الثالث: في الغنيمة:
وتملك النساء والأطفال بالسبي، والذكور البالغون يقتلون حتما إن أخذوا والحرب
قائمة إلا أن يسلموا، وإن أخذوا بعد أن وضعت الحرب أوزارها لم يقتلوا، وتخير الإمام
فيهم بين المن والفداء والاسترقاق فيدخل ذلك في الغنيمة، ولو عجز الأسير عن المشي لم
يجز قتله، ويعتبر البلوغ بالإنبات وما لا ينقل و " لا " يحول لجميع المسلمين، والمنقول بعد
الجعائل والرضخ والخمس والنفل وما يصطفيه الإمام يقسم بين المقاتلة ومن حضر حتى
الطفل المولود بعد الحيازة قبل القسمة، وكذا المدد الواصل إليهم حينئذ للفارس سهمان
وللراجل سهم ولذوي الأفراس ثلاثة، ولو قاتلوا في السفن، ولا يسهم للمخذل والمرجف
ولا للقحم والضرع والحطم والرازح من الخيل.
274

الفصل الرابع: في أحكام البغاة:
ومن خرج على المعصوم من الأئمة ع فهو باع ويجب قتاله حتى يفيئ أو
يقتل كقتال الكفار، فذو الفئة يجهز عليهم ويتبع مدبرهم ويقتل أسيرهم وغيرهم يفرقون
والأصح عدم قسمة أموالهم مطلقا.
الفصل الخامس: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهما واجبان عقلا ونقلا على الكفاية، ويستحب الأمر بالمندوب والنهي عن
المكروه، وإنما يجبان مع علم المعروف والمنكر وإصرار الفاعل أو التارك والأمن من
الضرر وتجويز التأثير، ثم يتدرج في الانكار بإظهار الكراهية ثم القول اللين ثم
الغليظ ثم الضرب، وفي الجرح والقتل قولان، ويجب الانكار بالقلب على كل حال، ويجوز للفقهاء
حال الغيبة إقامة الحدود مع الأمن والحكم بين الناس مع اتصافهم بصفات المفتي وهي:
الإيمان والعدالة ومعرفة الأحكام بالدليل والقدرة على رد الفروع إلى الأصول. ويجب
الترافع إليهم ويأثم الراد عليهم، ويجوز للزوج إقامة الحد على زوجته والوالد على ولده
والسيد على عبده، ولو اضطر السلطان إلى إقامة حد أو قصاص ظلما أو الحكم جاز إلا
القتل فلا تقية فيه.
275

سلسلة الينابيع الفقهية
السبق والرماية
أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل
ألزمني وعلى تحقيقها وإخراجها وعمل قواميسها
على أصغر مرواريد
277

جواهر الفقه
للقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي
400 - 481 ه‍ ق
279

باب مسائل يتعلق بالسبق والرمي:
مسألة: إذا اجتمع الراميان فقال أحدهما للآخر: إن نضلتني فلك
عشرة وتدفع إلى قفيز حنطة أو شعير أو غيرهما، هل يصح ذلك أم لا؟
الجواب: لا يصح ذلك لأن موضوع النضال على أن الناضل يأخذ ولا
يعطي شيئا، وهذا قد شرط عليه إذا نضل أن يدفع ذلك وهو باطل.
مسألة: إذا قال أحدهما للآخر إن سبقتك عشرة، على أنك إن نضلتني
فلك العشرة ولا أرمي شهرا، ولا أرمي سنة أو لا أرمي أبدا يريد بذلك
أنفه، هل يصح ذلك أم لا؟
الجواب: لا يجوز ذلك لأنه شرط نفي مندوب مرغب فيه فكان باطلا
وإذا بطل الشرط بطل النضال.
مسألة: إذا قال إن تنضلني فلك عشرة إلا دانقا هل يصح ذلك أم لا؟
الجواب: هذا صحيح لأنه استثناء معلوم من معلوم وذلك يصح.
مسألة: إذا قال لك على عشرة إلا قفيز حنطة هل يصح ذلك أم لا؟
الجواب: هذا لا يصح لأن قيمة القفيز الحنطة مجهولة وإذا حذف من
المعلوم كان مجهولا وإذا كان كذلك بطل النضال.
281

مسألة: إذا اتفق لأحد المتناضلين من العوارض ما يضطرب رميه له،
مثل كسر القوس أو قطع الوتر أو يكون قد أعرف الرعن فخرج السهم من
اليمين إلى اليسار أو عرض في الطريق عارض من طائر أو انسان أو استلبت
الريح السهم، هل تعتد بذلك السهم في المناصلة أم لا؟
الجواب: لا يعتد بذلك، لأن الخطأ لا يكون لسوء رميه. فأما إن
كان الاتفاق عارض مما ذكرناه، فليس هو بسوء رميه.
مسألة: إذا كان الرشق عشرين والإصابة خمسة فرمى الواحد منهما
عشر فأصاب سهمين ثم قال الواحد منهما للآخر ارم سهمك فإن أصبت فقد
نصلتني، هل يجوز ذلك أم لا؟
الجواب: لا يجوز ذلك، لأن موضوع النضال والمراد به أن يعرف
الأحذق فيهما فإذا فعلا ذلك لم يصح، لأنه ربما نضل من ليس بحاذق
الأحذق، ويؤدي أيضا إلى أن يكون الناضل منضولا والمنضول ناضلا وهذا
لا يجوز. مثال ذلك أن يكون الواحد منهما له إصابة أربعة والآخر إصابة
واحد. فيقول صاحب الأربعة لصاحب الواحد ما قدمناه، ويرمي فيصيب
فإذا أصاب فقد نضل صاحب الأربعة وهو أكثر منه، ويكون صاحب الأقل
ناضلا وهذا فاسد.
مسألة: إذا اقتسم المتناضلون مرس ووقف عندهم في وقت القسمة
رجل غريب فذكر أنه من أهل الرماية، فقسموه فيهم وهم يعرفونه. ثم ظهر
أنه ليس من أهلها ولا يحسنها هل يجوز العقد فيه أم لا؟
الجواب: إذا كان الأمر على ما ذكر في الرجل الغريب، كان العقد فيه
باطلا، لأنه إنما عقد عليه وقسم فيهم على أنه من أهل الرمي، فإن أبان أنه
ليس من أهلها بطل ذلك فيه، وإذا بطل فيه بطل في الذي كان مقابله كان
القسمة رجل ورجل وإذا بطل فيهما بقي الباقون على ما هم عليه، ولم يبطل
ذلك فيهم ببطلانه في هذين الرجلين.
282

مسألة: المسألة وكان الرجل الغريب من أهل الرمي وأكثر من
الإصابة، فقال الحزب الآخر: لا نرضى يكون هذا معكم لأننا ظننا أنه مثل
واحد منا هل لهم خيار في ذلك أم لا؟
الجواب: لا خيار لهم في ذلك، لأن الشرط أن يكون من أهل
الرماية، وهو من أهلها. فإذا كان من أهلها لم يعتبر في ذلك الأحذق فلا
خيار لهم في ذلك لما ذكرناه، ولأنه لو كانت إصابته قليلة لم يكن لحزبه خيار
للشرط الذي ذكرناه.
مسألة: إذا فضل أحد المتناضلين على الآخر بزيادة، فقال له الآخر:
اطرح الفضل بدينار أو أكثر أو أقل حتى يتساوى في عدد الأصل به. هل
يصح ذلك أم لا؟
الجواب: لا يصح ذلك لأن موضع النضال على أن ينضل أحدهما
الآخر بحذقه لا لغيره، وهذا إذا فعل ربما فضله الآخر لا لحذقه وذلك لا
يجوز.
283

المهذب
للقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي
400 - 481 ه‍ ق
285

كتاب السبق والرماية
قد ذكرنا في أول كتاب الجهاد قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن
رباط الخيل الآية وروي عن رسول الله ص أنه قال: ألا أن القوة في
الرمي، ثلاث دفعات، وروي عنه ص أنه مر بقوم من الأنصار يترامون
فقال: أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع، فأمسك الحزب الآخر
وقالوا: لن يغلب حزب فيه رسول الله ص، فقال: ارموا فإني أرمي معكم، فرمى مع كل واحد
منهم رشقا فلم يسبق بعضهم بعضا، فلم يزالوا يترامون وأولادهم وأولاد أولادهم لا يسبق
بعضهم بعضا.
وروي أيضا أنه ص كان يسابق على ناقته العضباء، وأن أعرابيا جاءه
على بكر فسابقه فسبقها فاغتم المسلمون، فقيل: يا رسول الله سبقت العضباء، فقال: حق
على الله أن لا يرفع شيئا في الأرض إلا قد وضعه. وروي عنه ص أنه قال:
تناصلوا واحتفوا واخشوشنوا وتمعددوا، فقوله: تناصلوا فمعناه تراموا بالنصال وقوله:
احتفوا، معناه امشوا حفاة، وقوله: اخشوشنوا، يعني ألبسوا الخشن من الثياب، وقوله:
تمعددوا، يعني تكلموا بلغة معد بن عدنان فإنها أفصح اللغات، وروي عنه ص
أنه قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر.
287

باب ما يجوز المسابقة عليه وما لا يجوز
وما يتعلق بذلك من أحكام النضال:
النصل ضربان: نشابة وهي للعجم والآخر سهم وهو للعرب والمزاريق وهي
الردينيات والسيوف والرماح كل ذلك من النصل، ويجوز المسابقة عليه بعوض لقوله
سبحانه وتعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل، الآية ولقوله
ع: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر، وجميع ذلك يتناوله اسم النصل.
وأما الخف فضربان: إبل وفيل، فالإبل تجوز المسابقة عليها لقوله تعالى: من خيل ولا
ركاب والركاب الإبل ولما قدمنا ذكره من أنه ص كان يسابق بناقته
العضباء، وأما الفيل: ففيه خلاف والأظهر جواز ذلك فيه لعموم الخبر فيما تضمنه من ذكر
الخف.
وأما المسابقة على الخيل فلا خلاف فيه ولقوله ع: أو حافر، وأما البغال
والحمير ففيها خلاف والأظهر جواز ذلك لعموم الخبر، فأما ما عدا ما يتناوله الخبر فلا يجوز
عندنا المسابقة عليه لأن الخبر تضمن نفي ذلك فيما لا يتناوله، فإن كانت المسابقة فيما
ذكرناه جائزة فمن شرط صحتها أن تكون الغاية التي تجري المسابقات إليها والانتهاء الذي
يجريان إليه معلوما لما روي عن رسول الله ص: سابق الخيل المضمرة من
الحفياء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، وأن تكون
الغاية التي تجريان إليها واحدة لا تختلف الغايتان فتكون إحداهما أبعد من الأخرى.
وأما في المناضلة: فإذا تناضلا على الإصابة جاز وإن تناضلا على أيهما أصاب جاز
عندنا وعند غيرنا لا يجوز، فإذا كان كذلك وقيل لاثنين: أيكما سبق إلى كفين فله عشرة
دراهم، صح لأن كل واحد منهما يجتهد في السبق وحده، فإن قال لاثنين: فمن سبق فله
عشرة دراهم ومن صلى فله مثل ذلك، فإن لم يدخل بينهما ثالث فإن ذلك لا يصح لأن
كل واحد منهما لا يجتهد ولا يكد نفسه لأنه إن سبق كانت العشرة له وإن صلى فكذلك له
العشرة.
288

فإذا دخل بينهما ثالث، وقال: الثلاثة سبق أو صلى فله عشرون صح ذلك، لأن كل
واحد منهما يجتهد ويكد خوفا من أن يكون ثالثا غير سابق ولا مصلى، فإن لم يستو بينهما
وجعل في العطية فاضلا فقال: للسابق عشرة وللمصلي خمسة جاز فإن دخل بينهما ثالث
صح لأن كل واحد منهم يخشى من أن يكون ثالثا لا يأخذ شيئا، فإن لم يدخل بينهما ثالث
قال قوم: لا يصح والصحيح جوازه لأن كل واحد منهما يكد ويجتهد في تحصيل الأكثر.
هذا إذا كان المسبق غيرهما فإن كان هو أحدهما فقال: أينا سبق فله عشرة إن سبقت
أنت فلك عشرة وإن سبقت أنا فلا شئ عليك كان جائزا، وفي الناس من قال: لا يجوز
فإن أخرج كل واحد من المستبقين عشرة ويقول: من سبق فله عشرون فإن لم يدخلا بينهما
محللا لم يجز ذلك لأنه يكون قمارا وإن أدخلا بينهما محللا فسبقهما المحلل أحرز السبقين، وإن
سبق أحدهما الآخر والمحلل أحرز سبقه وسبق صاحبه ولم يكن على المحلل شئ في ماله
وكذلك لو سبق المحلل وتساوى المستبقان رجع إليهما سبقاهما ولم يكن على المحلل أيضا في
ماله شئ.
ولا يجوز أن يدخلا بينهما إلا أن يكون ليس بمأمون أن يسبق فرسيهما، فإن أدخلا فرسا
دون فرسيهما يأمنان عليه أن يسبقهما كان ذلك حيلة وقمارا، وينبغي أن يخط في النهاية
خط معترض فأي الفرسين أو الأكثر خرج فيها طرف أذنه قبل الآخر حكم بالسبق له.
فأما المناضلة في الرمي فلا يصح إلا بشروط كل واحد منها يجب أن يكون معلوما
وهي: الرشق وعدد الإصابة والمسافة وقدر العوض والسبق وشرط المبادرة والمحاطة، وأما
الرشق - بكسر الراء - فهو عدد الرمي وأما الرشق بفتحها فهو الرمي.
وأما عدد الإصابة فمثل أن يقال: الرشق عشرون والإصابة خمسة وما جرى هذا
المجرى، وأما صفة الإصابة فمثل أن يقال: حوابي أو خواصر أو خوارق أو خواسق، فالحوابي
ما وضع بين يدي الغرض، والخواصر ما كان في جانبي الغرض، والخوارق ما أخذ من
الغرض ولم يثبت فيه، والخواسق ما وقع في الغرض وثبت فيه.
وأما المسافة: فهي ما بين الهدفين مثل أن يقول: مائتا ذراع أو ثلاث مائة ذراع وما
289

أشبه ذلك، وأما الغرض: فهو الذي ينصب في الهدف ويقصد إصابته بالرمي وقد يكون
من جلد أو قرطاس أو ورق أو خشب أو من شف، وقيل: إنه الرقعة وأما قدر الغرض: فهو
مثل أن يقال: شبر في شبر أو أربع أصابع في مثل ذلك.
وأما السبق: فهو المال الذي يخرج في المناضلة، وأما المبادرة: فإن يبادر أحدهما إلى
الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي، وأما المحاطة: فإن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع
تساويهما في عدد الرمي بعد اسقاط ما تساويا في الإصابة فجميع هذه يجب في كل واحد
منهما أن يكون معلوما ومتى لم يكن كذلك لم يصح، والهدف هو التراب الذي يجمع
وينصب الغرض فيه وقد يجوز أن يعمل من لبن وما أشبهه.
فإن شرط أحد المتناضلين أن يرمي بجنس من القسي ويرمي الآخر بجنس غيره كان
جائزا ولكل واحد منهما أن يتخير من الجنس ونصاله ما أراد، فإن رمى لم يكن له إبداله
من غير ذلك الجنس، وينبغي أن ينصب الرماة بينهم عدلا يخط لهم خطا في مقام الرمي
يقفونه دونه.
وللرامي الوقوف حيث أراد من ذلك الخط من مقابلة المسبق أو يمينه أو يساره ولا
يجوز لصاحب السبق أن يبتدئ بالرمي ولا أن يبتدئ به من يريد هو أن يبتدئ إن لم
يشترط ذلك، فإن شرطه جاز وإن لم يشترطه ووقعت المشاحة في ذلك بين الرماة أقرع
بينهما، فمن أصابه القرعة كان هو المبتدئ بالرمي مثل العدد الذي رمى البادئ به.
ولا ينبغي للمسبق أن يقطع الرمي إلا من عذر يمنع من ذلك لعلة تناله في يده أو
بصره أو أمر يضر بالرمي أو غير ذلك مما يكون العذر واضحا فيه، وليس لأحد المتناضلين
أن يقول للآخر: اجعل الاختيار إلي في من أريد من الرماة أن يكون في حزبي ويكون
السبق علي ولا له أيضا أن يقول: ارم أنا وأنت فأينا نضل صاحبه سبقه، والسبق يلزم
الباذل له دون من معه في حزبه، فإن دخلوا معه في الضمان لزمهم منه ما يذكره ويفض
ذلك عليهم على الرؤوس.
فإن قال أحد المتناضلين لصاحبه: سبقتك عشرة على أنك إن نضلتني فلك العشرة
290

ولا أرمي شهرا أو لا أرمي أبدا لم يجز ذلك لأنه شرط ما ندب ورغب فيه فإن قال: إن
نضلتني فلك دينار حال وقفيز من بر بعد شهر صح ذلك، فإن قال: إن نضلتني كان ذلك
على عشرة وتعطيني قفيزا من بر لم يجز ذلك، إذ من حق الناضل أن يأخذ ولا يعطي، فإذا
اشترط ذلك فقد شرط على الناضل أن يعطيه وذلك فاسد، فإن قال: إن نضلتني فلك
عشرة إلا أربعا كان صحيحا لأن قوله: إلا أربعا، استثناء معلوم من جملة معلومة، فإن
قال: إن نضلتني فلك عشرة إلا قفيزا من بر كان ذلك فاسدا لأن قيمة القفيز مجهولة وإذا
حذفت من المعلوم كان مجموعه مجهولا فلم يجز النضال.
فإن سبق أحد المتناضلين الآخر وشرط أن يطعم السبق أصحابه كانت المناضلة
صحيحة وكان مخيرا في أخذه وإطعامه، وإذا خرج أحد المتناضلين السبق كان له أن
يبتدئ بالرمي، وقال بعض الناس: ليس له ذلك إلا أن يشترطه، فإن شرطه كان
جائزا وهذا هو الأقوى لأن من النضال أن لا يكون للسبق مزية على الآخر وإن كان هو
المخرج للعوض.
وينبغي أن لا يقتصر أهل النضال على هدف واحد بل يرتبوا لهم هدفين يبدؤون
بالرمي من أحدهما ويمشون على الآخر، فإذا وصلوا إليه وقفوا عنده ورموا منه إلى الذي
بدؤوا بالرمي منه، فإذا بدأ واحد بالرمي من الهدف الأول فليس له أن يبتدئ بالرمي
من الآخر بل يبدأ غيره لأن موضع المناضلة على المساواة بين أهلها.
واعلم أن من عادة الرماة أن يرمي المتناضلان سهما وسهما حتى ينفد الرشق
فينبغي أن يكون رميهما كذلك، فإن شرطا من عشرة وعشرة رشقا ورشقا كان ذلك جائزا
وقد ذكرنا فيما تقدم أنه ليس لأحدهما إذا بدأ بالرمي أن يقطعه إلا لعذر واضح، فإن
حصل هذا العذر ورمى فأخطأ لم يعد عليه بذلك من الخطأ لأن الخطأ ما كان لسوء منه
وإن أصاب وحاله ما ذكرناه لم يعد له بذلك.
وقد ذكرنا فيما تقدم الفرق بين الخاسق والخارق، فإذا شرط الإصابة خواسق ورمى
فأصاب الغرض وثقبه وثبت فيه نصله حسب خاسقا لأن صفته قد حصلت وهي
291

ما ذكرناه، فإن أصاب الغرض وخدشه ولم يثقبه وثبت فيه لم يحسب إصابة لأنه شرط
خواسق وهذا خارق ليس بخاسق، فإن ثقب الغرض ثقبا يصلح للخسق إلا أن السهم لم
يثبت فيه وسقط لم يحسب خاسقا لأن صفة الخاسق لم يحصل فيه، فإن شرط الإصابة
مطلقة فأصاب الغرض فإن خرق أو خرم أو خسق أو مرق أو حبي كان كل ذلك إصابة
ينبغي أن يحتسب بها لأنه شرط الإصابة بالإطلاق.
وإذا كانت الإصابة خواسق ورمى أحدهما فأصاب الغرض وسقط السهم ثم ادعى
الرامي أنه خسق إلا أنه سقط ولم يثبت في الغرض لبعض علل فيه من حصاة أو
غلظ أو ما جرى هذا المجرى وأنكر الآخر ذلك ولم يعلم موضع الإصابة كان القول قول المصاب
عليه بغير يمين، فإن لم يكن فيه مانع يمنع من الثبات فيه كان القول قول المصاب عليه وإن
كان فيه مانع يمنع من ذلك ولم يكن السهم خرق كان القول قول المصاب عليه أيضا،
وإن كان فيه شئ من ذلك كان القول قوله مع يمينه لأن ما يدعيه الرامي ممكن.
وإذا عرف موضع الإصابة ولم يكن في الغرض ما يمنع السهم من الثبوت كان القول
قول المصاب عليه أيضا، وإن كان في الغرض شئ من ذلك ولم يكن السهم خرق كان
القول قول المصاب لأن الأمر لو كان على ما ذكر الرامي لكان السهم قد خرق ففتح
الموضع وظهر ما وراءه من المانع، وإن كان السهم قد خرق ما هو في وجه المانع وبلغ النصل
إلى المانع فالأولى أن يعدله فإنه خاسق.
وإذا كانت الإصابة خواسق ورمى أحد المتناضلين فوقع السهم في ثقب كان في
الغرض أو في موضع خلق منه فثقب الموضع وثبت السهم في الهدف وكان الغرض ملتصقا
بالهدف وكان الهدف قويا لقوة الغرض مثل أن يكون حائطا أو طينا يابسا فهو خاسق،
وإن كان الهدف ضعيفا ولم يكن بقوة الغرض مثل الطين الرطب والتراب لم يحتسب به
لا له ولا عليه.
وإذا شرط الخواسق فخرم والخرم هو أن يقع السهم في حاشية الغرض فخرمه، وثبت
فيه مثل أن يقطع من حاشيته قطعة وثبت فيه أو يسبق الحاشية وثبت فيه وكان الغرض
292

محيطا ببعض السهم وغير محيط ببعض آخر منه لم يحسب خاسقا لأن الخاسق ما ثبت فيه،
ويكون الغرض محيطا يدور السهم وليس ما ذكر في هذا الحزم كذلك، وإن شرط الخواسق
ورمى أحدهما فمرق سهمه والمارق هو أن يصيب الغرض ويثقبه وينفذ السهم من ورائه،
حسب خاسقا، وإذا شرط إصابة الغرض فأصاب الشن أو السير المحيط به أو العرى حسب
ذلك إصابة لأنه غرض كله، فإن أصاب العلاقة لم يكن ذلك إصابة لأن العلاقة غير
الغرض.
وإذا تناضلا وعقدا ذلك على أن الرشق عشرون والإصابة خمسة ثم أراد أحدهما
الزيادة في عدد الرشق أو عدد الإصابة ولم يجبه الآخر إلى ذلك وكان بعد الابتداء بالرمي
لم يجز ذلك وإن كان قبل ذلك جاز إذا اتفقا عليه، وإذا قال أحدهما لصاحبه ارم عشرين
فإن كان إصابتك أكثر من خطئك فلك علي دينار صح ذلك، فإن قال له: ارم عشرين
وناضل نفسك فإن كانت إصابتك أكثر فلك علي دينار، لم يجز ذلك، لأن الانسان إنما
يناضل غيره فأما أن يناضل نفسه فلا يصح.
فإذا رمى أحدهما فأصاب فوق سهم في الغرض وكان السهم الذي في الغرض قد
ثبت نصله فيه وثقبه بطوله إلى جانب الرمي لم يحتسب له ولا عليه لأن بينه وبين الغرض
مقدار طول السهم فليس يعلم ما يكون منه لو لم يقع في فوق السهم، فإن كان السهم الذي
في الغرض قد أنفذ الغرض إلى فوقه فوقع الثاني في فوقه فإن كان الشرط في الإصابة حسب
ذلك إصابة لأنا نعلم أنه لولا الأول أصاب الغرض، فإن كان خواسق لم يحتسب ذلك له
ولا عليه لأنا لا نعلم هل يخسق أم لا؟ فإن كان نصل الأول ثبت في الغرض وبقية طوله
خارجا منه فأصاب فوقه وسبح عليه فأصاب الغرض حسب ذلك إصابة لأنه إنما أصاب
بجودة رميه.
إذا شرطا حوالي على أن ما كان منها إلى الشن أقرب أسقط الذي كان منه أبعد صح
ذلك، فإذا رمى أحدهما سهما فوقع في الهدف ويقرب الغرض ورمى الآخر خمسة أسهم
فوقعت أبعد ورمى الأول سهما فوقع أبعد من الخمسة سقطت الخمسة بالأول الذي هو
293

أقرب وسقط الذي بعد الخمسة لأن الخمسة أقرب إلى الغرض، فإن رمى أحدهما خمسة
إلى الهدف بعضها أقرب إلى الغرض من بعض ثم رمى الثاني كلها أبعد من الخمسة
الأول سقطت الخمسة الثانية بالأول لأنها أقرب إلى الغرض وبقيت الخمسة الأول
لا يسقط ما هو أقرب منها إلى الغرض ما كان منها من الغرض أبعد.
فإن رمى أحدهما الغرض والآخر الهدف فالذي في الغرض يسقط الذي في الهدف،
فإن أصاب أحدهما الغرض وأصاب الآخر العظم وهو الذي في وسط الغرض لم يسقط
الذي في العظم ما هو أبعد منه لأن جميع الشن موضع إصابة وقد ذكر بعض الناس أنه
يسقط بذلك.
وقد بينا فيما سلف معنى المبادرة والمحاطة، فإذا اشترطا الرشق عشرين والإصابة خمسا
فرمى كل واحد منهما عشرة وأصاب كل واحد منهما خمسة فقد تساويا في عدد الرمي
والإصابة، فلم يفضل أحدهما عن صاحبه ولا يرميان الباقي من الرشق لأنه يخرج عن
المبادرة، فإن رمى أحدهما عشرة فأصاب خمسة ورمى الآخر أربعة فقد فضل صاحب
الخمسة، فإن رمى كل واحد منهما خمسة عشر فأصاب كل واحد منهما خمسة فما فضل
أحدهما الآخر ولا يرميان ما بقي، وإن أصاب أحدهما خمسة وصاحبه أربعة فقد فضل
صاحب الخمسة وعلى هذا أبدا.
وأما المحاطة فإن يكون الرشق عشرين والإصابة خمسة ورمى أحدهما
عشرة فأصاب خمسة ورمى الآخر عشرة فأصاب خمسة فتحاطا خمسة بخمسة
ونضل الآخر بكمال الرشق وعلى هذا أبدا، فإن بادر أحدهما إلى الإصابة مع
تساويهما في عدد الرمي بعد اسقاط ما تساويا فيه من الإصابة لم يخل من أحد أمرين: إما
أن يكون هذا بإكمال الرشق فقد فضل المنفرد بالإصابة، مثال ذلك: رمى كل واحد
منهما العشرين فأصاب الواحد كلها وأصاب الآخر خمسة عشر تحاطا خمسة عشر وانفرد
الواحد بخمسة فقد فضله.
فأما إن حصل ذلك قبل إكمال العشرين بأن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما
294

في عدد الرمي بعد اسقاط ما تساويا فيه من الإصابة فطالب صاحب الأقل صاحب
الأكثر بتكميل الرشق فليس يخلو صاحب الأقل من أن يكون له فائدة في تكميل الرشق أو
فائدة له فيه، فإن لم يكن له في ذلك فائدة فقد فضله صاحب الأكثر ولا يجب إكمال
الرشق وإن كان له فائدة فقد ذكر جواز ذلك وذكر أنه لا فائدة فيه.
295

فقه القرآن
لسعيد بن عبد الله بن الحسين بن هبة الله بن الحسن الراوندي
المتوفى 573 ه‍ ق
297

باب السبق والرماية
قال الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
ترهبون به عدو الله وعدوكم:
وروى عقبة بن عمار: أن النبي ع قال:
ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي.
ووجه الدلالة أن الله تعالى أمر بأعداد الرمي ورباط الخيل للحرب ولقاء
العدو، والإعداد لذلك ولا يكون كذلك إلا بالتعلم والنهاية في التعليم المسابقة
كذلك ليكد كل واحد نفسه في بلوغ النهاية والحذق فيه، وكان في ضمن الآية
دليل على ما قدمناه.
وروي عن النبي ع أنه قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو
حافر.
وروي أن النبي ع سابق بين الخيل المضمرة من الحقباء إلى ثنية
الوداع، وكان للرسول ناقة يقال لها الغضباء، إذا سابقت سبقت، فجاء أعرابي
على بكر فسبقها، فاغتم المسلمون فقيل يا رسول الله: سبقت الغضباء
فقال: حق على الله ألا يرفع شيئا في الأرض إلا وضعه.
وروي عنه ع أنه قال: تناضلوا، واحتفوا، واخشوشنوا
وتمعددوا.
قوله: تناضلوا بعني تراموا والنضال الرمي. واحتفوا بعني امشوا حفاة
واخشوشنوا، ألبسوا الخشن من الثياب، وأراد أن يعتادوا الحفا، وتمعددوا،
تكلموا بلغة معد بن عدنان فإنها أفصح اللغات.
299

وعليه إجماع الأمة وإنما الخلاف في أعيان المسائل.
فإذا تقرر جواز ذلك فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه وما لا يجوز فما
تضمنه الخبر من النصل والحافر والخف يجوز المسابقة عليه.
فالنصل ضربان: نشابة وهي للعجم والآخر السهم وهو للعرب،
والمزاريق وهي الزبينات والسيوف، وكل ذلك من النصل، ويجوز المسابقة
عليه بعوض لقوله ع: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر، وكل
ذلك يتناوله اسم النصل.
فأما الخف فضربان: إبل وفيلة وكلاهما يجوز عندنا المسابقة عليه
بعوض.
فأما الحافر والخيل والبغال والحمير فيجوز المسابقة عليها
لقوله ع أو حافر وهذه الأجناس ذوات حوافر.
فأما ما لم يرد فيه الخبر فمذهبنا أنه لا يجوز المسابقة. لأن النبي ع
نهى أن يكون المسابقة إلا في الثلاثة الأشياء. فعلى هذا التحرير لا
تجوز المسابقة بالطيور ولا على الأقدام وشبل الأحجار ودحوها والمصارعة
والسفن ونطاح الكباش وغير ذلك. فإذا أثبت ذلك فإذا قال الانسان لاثنين:
أيكما سبق بفرسه إلى كذا فله عشرة دراهم صح لأن كل واحد منهما يجتهد أن
يسبق وحده، فأما إذا كان السبق لأحدهما فقال: أينا سبق فله عشرة، إن
سبقت أنت فلك العشرة وإن سبقت أنا فلا شئ عليك فإنه جايز عندنا لأن
الأصل جوازه، فإن أخرج كل واحد منهما عشرة ويقول: من سبق فله العشرون
معا فإن لم يدخلا بينهما محللا فإن المخالف لا يجيزه ويجعله قمارا وعندنا جنة
لا يمتنع جوازه لأن الأصل الإباحة فأما إن أدخلا بينهما ثالثا لا يخرج شيئا وقالا:
إن سبقت أنت فلك السبقان معا فإنه يجوز ذلك عندنا لأن الأصل الجواز.
300

والاعتبار بالسبق الكتد أو الهادي عند الأكثر فقال قوم كذا شاذ الاعتبار بالأذن.
ولا يجوز المسابقة حتى يكون ابتداء الغاية التي تجريان منهما، والانتهاء
التي تجريان إليهما معلوما. وأما في المناضلة بالسهام والنشاب فإذا تناضلا على
الإصابة جاز وإذا تناضلا على أيهما أبعد مرميا جاز أيضا عندنا.
والنضال اسم يشتمل على المسابقة بالخيل والرمي معا، ولكل واحد
منهما اسم ينفرد به، فالمناضلة في الرمي والرهان في الخيل، وجميع أحكام
الرهان معتبرة في النضال إلا من وجه واحد وهو أن المسابقة لا تصح حتى تعين
الفرس ومتى تعين لم يستبدل صاحبه غيره، وفي النضال لا يحتاج إلى تعيين
القوس، ومتى عينها لم يتعين، ومتى انكسرت كان له أن يستبد بها لأن
المقصود من النضال والآية معرفة حذق الرامي وهذا لا يختلف باختلاف
القوس، والقصد في المسابقة معرفة السابق فلذا اختلف باختلاف الفرس.
لا يصح المناضلة إلا بسبع شرائط وهو أن يكون الرشق معلوما، وعدد
الإصابة معلومة، وصفة الإصابة معلومة، وقدر الغرض معلوما، والسبق
معلوما.
فالرشق بكسر الراء عبارة عن عدد الرمي، قال شيخنا في مبسوطه:
الخازق ما خدش الغرض ولم يثبت فيه، والخواسق ما فتح الغرض وثبت فيه.
وقال الجوهري في كتاب الصحاح: الخازق من السهام المفرطس وقد
خرق السهم يخرق ويقال خرقتهم بالنبل أي أصبتهم بها، وقال: الخاسق لغة
في الخازق من السهام وهو بالخاء المعجمة والزاء المعجمة والقاف، والخاسق
بالخاء المعجمة أيضا والسين غير المعجمة.
والهدف هو التراب المجموع الذي ينصب فيه الغرض والغرض هو الذي
301

ينصب فيه الهدف ويقصد إصابته ويكون من ورق أو جلد أو ورق قرطاس فأما
السبق فعبارة عن المال المخرج في المناضلة.
اختلف الناس في عقد المسابقة هل هو من العقود اللازمة أو الجائزة؟ قال
قوم: هو من العقود الجائزة وهو الذي اختاره شيخنا في مسائل خلافه. وقال
آخرون: هو من العقود اللازمة وهو الذي يقوى في نفسي لقوله تعالى: أوفوا
بالعقود، وهذا عقد يجب الوفاء به.
إذا تلبسنا بالنضال ففضل لأحدهما إصابة فقال المفضول: اطرح الفضل
بدينار حتى يكون في عدد الإصابة سواء لم يجز لأن موضوع النضال على أن
يفضل أحدهما بحذقه فإذا طرح ربما فضله لما طرح من عدد الإصابة لا
لحذقه. وإذا لم يصح فعله رد ما بذله ويعود إلى عدد الإصابة فيكون على الرمي
على إكمال الرشق ليتبين الفاضل منهما.
302

إصباح الشيعة
بمصباح الشريعة
لنظام الدين أبي الحسن سلمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي
303

كتاب السبق والرماية
روي عن النبي ص أنه قال: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر.
يجوز المسابقة على الخيل والبغال والحمير والإبل والفيل لعموم الخبر، وكذا على
النشابة والسهم والمزاريق والرماح والسيوف لتناول اسم النصل ذلك، ولا يجوز على ما
عدا ذلك، ولا يجوز المسابقة حتى يكون ابتداء الغاية وانتهاؤها معلومين، ومن شرط ذلك
أن تكون الغاية التي يجريان إليها واحدة، ولا يكون إحدى الغايتين أبعد من الأخرى.
إذا قيل لاثنين: من سبق فله عشرة ومن صلى فله عشرة، فسد لأن كلا منهما لا
يجتهد، وإذا قيل لثلاثة: أيكم سبق وصل فله عشرون، صح لأن كلا يخاف أن يكون ثالثا لا
يأخذ شيئا. وإن أخرج كل منهما عشرة وقال: من سبق فله العشرون معا، فإن لم يدخلا بينهما
محللا فهو القمار بعينه، وإن أدخلا ثالثا لا يخرج شيئا وقالا: إن سبقت أنت فلك السبقان
معا جاز، وإن أدخلا بينهما محللا - فرسه دون فرسيهما فهو قمار، وإن كان فرسه كفؤا
لفرسيهما جاز.
إذا سبق كل منهما عشرة وأدخلا بينهما محللا لا يخرج شيئا وقالا: أي الثلاثة سبق
فله السبقان، فسبق أحد المستبقين فله كلاهما، وإن وصلوا معا فلكل منهما نصيبه ولا شئ
305

للمحلل، وكذا إن سبق المسبقان معا وتأخر المحلل، وإن سبق المحلل وحده أخذهما معا،
وإن سبق أحدهما والمحلل فالمسبق السابق يأخذ عشرته والعشرة الأخرى بينه وبين
المحلل بنصفين.
إذا سابق الفرسان وكانا متساويين في الخلقة في القد وطول العنق فمتى سبق
أحدهما الآخر بالهادي أو ببعضه أو بالكتد فقد سبق، وإن كانا مختلفين في الخلقة كأن يكون
طول عنق أحدهما ذراعا والآخر ذراعا وشبرا فإن سبق القصير الطويل بالهادي أو
ببعضه فقد سبق، وكذا إن كان الرأسان سواء، فإن سبق الطويل القصير، فإن كان بقدر
الزيادة في الخلقة لم يكن سابقا لأن ذلك لطول خلقته لا لسرعة عدوه، وإن كان بأكثر من
ذلك كان سابقا.
فصل:
المناضلة لا تصح إلا بعد معرفة الرشق وعدد الإصابة وصفتها والمسافة وقدر
الغرض والسبق وشرط المبادرة والمحاطة. أما الرشق فعدد الرمي وبالفارسية دست،
وعدد الإصابة كأن يقال: الرشق عشرون والإصابة خمسة، وصفة الإصابة كأن يقال: تصيب
ما بين الغرض أو جانبيه أو يثبت في الغرض أو لا يثبت فيه، والسبق المال، والمبادرة أن
يبادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما في عدد الرمي كأن يشترطا الرشق عشرين والإصابة
خمسة فرمى كل منهما عشرة وأصاب خمسة فقد تساويا ولا يرميان ما بقي، وإن أصاب
أحدهما خمسة والآخر أربعة فقد نضله، والمحاطة أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع تساويهما
في عدد الرمي بعد اسقاط ما تساويا كأن يرمي في الصورة المذكورة كل منهما عشرة فأصاب
خمسة تحاطا ذلك وأكملا الرشق، وإن أصاب أحدهما سبعة والآخر خمسة تحاطا خمسة
بخمسة فيكملان.
والسبق والنضال من العقود الجائزة كالجعالة أيهما أراد اخراج نفسه من السباق
جاز له ذلك.
إذا قال: ارم بسهمك هذا فإن أصبت فلك دينار، صح لأنها جعالة فيما له فيه
306

غرض صحيح، وكذا إن قال: ارم عشرين سهما فإن كان صوابك أكثر من خطائك فلك
دينار، صح، وإن قال: ارم عشرين وناضل نفسك فإن كان صوابك أكثر فلك كذا، بطل لأنه
لا يصح أن يناضل نفسه.
إذا شرطا نوعا من القسي كالعربية والعجمية تعين ذلك النوع ولم يكن لأحدهما
العدول عنه، وإن عين قوسا من النوع كان له العدول إلى غيرها، وأما المسابقة فلا تصح
حتى تعين الفرس، ومتى نفق لم يتبدل صاحبه غيره بخلاف النضال فإن القوس متى
انكسرت كان له أن يستبدل وإن عين لأن المقصود من النضال الإصابة ومعرفة حذق
الرامي وهذا لا يختلف لأجل القوس والقصد في المسابقة معرفة السابق ويختلف
الفرسان.
إذا قال: إن أصبت ذلك فلك عشرة وإن أخطأت فعليك عشرة، بطل.
307

السرائر
الحاوي لتحرير الفتاوى
لأبي منصور محمد بن إدريس محمد العجلي الحلي
558 - 598 ه‍ ق
309

كتاب السبق والرماية:
قال الله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدوكم.
وروي عقبة بن عامر أن النبي ع قال ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة
الرمي ألا إن القوة الرمي، ووجه الدلالة أن الله تعالى أمر بأعداد الرمي ورباط الخيل للحرب
ولقاء العدو، والإعداد لذلك لا يكون إلا بالتعلم والنهاية في التعلم المسابقة بذلك ليكد كل
واحد نفسه في بلوغ النهاية والحدق فيه وكان في ضمن الآية دليل على ما قدمناه.
وروي عن النبي ع قال: لا سبق ألا في نصل أو خف أو حافر. وروي: أن
النبي ع سابق بين الخيل المضمرة من الحقباء إلى ثنية الوداع وكان للرسول
ع ناقة يقال لها العضباء إذا سابقت سبقت فجاء أعرابي على بكر فسبقها فاغتم
المسلمون فقيل: يا رسول الله سبقت العضباء، فقال: حق على الله ألا يرفع شيئا في الأرض
إلا وضعه. وروي عنه ع أنه قال: تناضلوا واحتفوا واخشوشنوا وتمعددوا.
قوله: تناضلوا، يعني تراموا والنضال الرمي. واحتفوا. يعني امشوا حفاة. واخشوشنوا:
ألبسوا الخشن من الثياب، وأراد أن يعتادوا الحفا. وتمعددوا: تكلموا بلغة معد بن عدنان
فإنها أفصح اللغات. وعليه إجماع الأمة وإنما الخلاف في أعيان المسائل.
فإذا تقرر جواز ذلك فالكلام فيما يجوز المسابقة عليه وما لا يجوز.
فما تضمنه الخبر من النصل والحافر والخف يجوز المسابقة به.
فالنصل ضربان: نشابة وهي للعجم، والآخر السهم وهو للعرب والمزاريق وهي
311

الردينيات والسيوف كل ذلك من النصل ويجوز المسابقة عليه بعوض لقوله ع:
لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر وكل ذلك يتناوله اسم النصل.
فأما الخف فضربان: إبل وفيلة، وكلاهما يجوز عندنا المسابقة عليهما بعوض.
فأما الحافر: فالخيل والبغال والحمير، فيجوز المسابقة عليها لقوله ع: أو
حافر، وهذه الأجناس ذوات حوافر.
فأما ما لم يرد فيه الخبر فمذهبنا أنه لا يجوز المسابقة به لأن النبي ع نهى أن
تكون المسابقة إلا في هذه الثلاثة الأشياء، فعلى هذا التحرير لا تجوز المسابقة بالطيور ولا على
الأقدام وشيل الأحجار ودحوها والمصارعة والسفن ونطاح الكباش وغير ذلك.
فإذا ثبت ذلك فإذا قال انسان لاثنين: أيكما سبق بفرسه إلى كذا فله عشرة دراهم،
صح لأن كل واحد منهما يجتهد أن يسبق وحده، فأما إن كان المسبق أحدهما فقال: أينا سبق
فله عشرة إن سبقت أنت فلك العشرة وإن سبقت أنا فلا شئ عليك، فإنه جائز عندنا لأن
الأصل جوازه. فإن أخرج كل واحد منهما عشرة ويقول: من سبق فله العشرون معا، فإن لم
يدخلا بينهما محللا فإن المخالف لا يجيزه ويجعله قمارا وعندنا أنه لا يمتنع جوازه لأن الأصل
الإباحة، فأما إن أدخلا بينهما ثالثا لا يخرج شيئا وقالا: إن سبقت أنت فلك السبقان معا، فإنه
يجوز ذلك عندنا لأن الأصل الجواز والاعتبار بالسبق بالكتد أو الهادي عند الأكثر، وقال قوم
شذاذ: الاعتبار بالأذن ولا تجوز المسابقة حتى يكون ابتداء الغاية التي يجريان منها والانتهاء
التي يجريان إليها معلوما.
وأما في المناضلة بالسهام والنشاب فإذا تناضلا على الإصابة جاز وإن تناضلا على أيهما
أبعد رميا جاز أيضا عندنا، والنضال اسم يشتمل على المسابقة بالخيل والرمي معا ولكل
واحد منهما اسم ينفرد به، فالمناضلة في الرمي والرهان في الخيل، وجميع أحكام الرهان
معتبرة في النضال إلا من وجه واحد وهو أن المسابقة لا تصح حتى يعين الفرس ومتى نفق لم
يستبدل صاحبه غيره، وفي النضال لا يحتاج إلى تعيين القوس، ومتى عينها لم تتعين ومتى
انكسرت كان له أن يستبدل بها لأن المقصود من النضال والإصابة ومعرفة حذق الرامي
وهذا لا يختلف لأجل القوس، والقصد في المسابقة معرفة السابق فلهذا اختلف باختلاف
312

الفرس.
لا تصح المناضلة إلا بسبع شرائط: وهو أن يكون الرشق معلوما وعدد الإصابة معلوما
وصفة الإصابة معلومة والمسافة معلومة وقدر الغرض معلوما والسبق معلوما.
فالرشق بكسر الراء عبارة عن عدد الرمي.
قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطه: الخازق ما خدش الغرض ولم يثبت فيه، والخاسق ما فتح
الغرض وثبت. وقال الجوهري في كتاب الصحاح: الخازق من السهام المقرطس وقد خزق
السهم يحرق ويقال: خزقتهم بالنبل أي أصبتهم بها، وقال: الخاسق لغة في الخازق من السهام
وهو بالخاء المعجمة والزاء المعجمة والقاف، والخاسق بالخاء المعجمة أيضا والسين غير المعجمة.
والهدف هو التراب المجموع الذي ينصب فيه الغرض، والغرض هو الذي
ينصب في الهدف ويقصد إصابته ويكون من رق أو جلد أو قرطاس، فأما السبق فعبارة عن
المال المخرج في المناضلة.
اختلف الناس في عقد المسابقة هل هو من العقود اللازمة أو الجائزة؟
فقال قوم: هو من العقود الجائزة، وهو الذي اختاره شيخنا في مسائل خلافه. وقال آخرون:
هو من العقود اللازمة، وهو الذي يقوى في نفسي لقوله تعالى: أوفوا بالعقود، وهذا عقد يجب
الوفاء به
إذا تلبسا بالنضال ففضل لأحدهما إصابة فقال المفضول: اطرح الفضل بدينار حتى
نكون في عدد الإصابة سواء، لم يجز لأن موضوع النضال على أن ينضل أحدهما صاحبه
بحذقه فإذا طرح ربما نضله لما طرح من عدد الإصابة لا لحذقه، وإذا لم يصح فعليه رد ما بذله
ويعود إلى عدد إصابته فيكون على الرمي على إكمال الرشق ليتبين الناضل منهما.
313

شرائع الاسلام
في مسائل الحلال والحرام
لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا
يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي المشتهر بالمحقق وبالمحقق الحلي
602 - 676 ه‍ ق
315

كتاب السبق والرماية
وفائدتهما بعث العزم على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال، وهي معاملة
صحيحة مستندها قوله ع: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر وقوله ع:
إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش
والنصل، وتحقيق هذا الباب يستدعي فصولا.
الفصل الأول: في الألفاظ المستعملة فيه:
فالسابق هو الذي يتقدم بالعنق والكتد وقيل: باذنه، والأول أكثر والمصلي الذي
يحاذي رأسه صلوى السابق، والصلوان ما عن يمين الذنب وشماله، والسبق بسكون الباء
المصدر وبالتحريك العوض وهو الخطر، والمحلل الذي يدخل بين المتراهنين، إن سبق
أخذ وإن سبق لم يغرم، والغاية مدى السباق، والمناضلة المسابقة والمراماة، ويقال: سبق -
بتشديد الباء - إذا أخرج السبق وإذا أحرزه أيضا، والرض - بكسر الراء - عدد الرمي
وبالفتح الرمي، ويقال: رشق وجه ويد، ويراد به الرمي على ولاء حتى يفرع الرقش.
ويوصف السهم بالحابي والخاصر والخازق والخاسق والمارق والخارم، فالحابي ما زلج
على الأرض ثم أصاب الغرض، والخاصر ما أصاب أحد جانبيه، والخازق ما خدشه،
والخاسق ما فتحه وثبت فيه، والمارق الذي يخرج من الغرض نافذا، والخارم الذي تخرم
حاشيته، ويقال: المزدلف الذي يضرب الأرض ثم يثيب إلى الغرض، والغرض ما يقصد
317

إصابته وهو الرقعة، والهدف ما يجعل فيه الغرض من تراب أو غيره، والمبادرة هي أن يبادر
أحدهما إلى الإصابة مع التساوي في الرشق، والمحاطة هي اسقاط ما تساويا فيه من
الإصابة.
الفصل الثاني: في ما يسابق به:
ويقتصر في الجواز على النصل والخف والحافر وقوفا على مورد الشرع، ويدخل
تحت النصل السهم والنشاب والحراب والسيف، ويتناول الخف الإبل والليلة اعتبارا
باللفظ وكذا يدل الحافر على الفرس والحمار والبغل، ولا يجوز المسابقة بالطيور ولا على
القدم ولا بالسفن ولا بالمصارعة.
الفصل الثالث: في عقد المسابقة والرماية:
وهو يفتقر إلى إيجاب وقبول، وقيل: هي جعالة فلا تفتقر إلى قبول ويكفي البذل، وعلى
الأول فهو لازم كالإجارة، وعلى الثاني هو جائز شرع فيه أو لم يشرع، ويصح أن يكون
العوض عينا أو دينا، وإذا بذل السبق غير المتسابقين صح إجماعا، ولو بذله أحدهما أو هما
صح عند ولو لم يدخل بينهما محلل، ولو بذله الإمام من بيت المال جاز لأن فيه مصلحة، ولو
جعلا السبق للمحلل بانفراده جاز أيضا، وكذا لو قيل: من سبق منا فله السبق، عملا
بإطلاق الإذن في الرهان.
ويفتقر في المسابقة إلى شروط خمسة:
الأول: تقدير المسافة ابتداء وانتهاء.
الثاني: وتقدير الخطر.
الثالث: وتعيين ما يسابق عليه.
الرابع: وتساوي ما به السباق في احتمال السبق، فلو كان أحدهما ضعيفا تيقن
قصوره عن الآخر لم يجز.
الخامس: أن يجعل السبق لأحدهما أو للمحلل ولو جعل لغيرهما لم يجز.
318

وهل يشترط التساوي في الموقف؟ قيل نعم، والأظهر لا، لأنه مبني على التراضي.
وأما الرمي فيفتقر إلى العلم بأمور ستة: الرشق، وعدد الإصابة وصفتها، وقدر
المسافة والغرض والسبق تماثل جنس الآلة، وفي اشتراط المبادرة والمحاطة تردد، الظاهر
أنه لا يشترط وكذا لا يشترط تعيين القوس والسهم.
الفصل الرابع: في أحكام النضال: وفيه مسائل:
الأولى: إذا قال أجنبي لخمسة: من سبق فله خمسة، فتساووا في بلوغ الغاية فلا شئ
لأحدهم لأنه لا سبق، ولو سبق أحدهم كانت الخمسة له، وإن سبق اثنان منهم كانت لهما دون
الباقين وكذا لو سبق ثلاثة أو أربعة، ولو قال: من سبق فله درهمان ومن صلى فله درهم، فلو
سبق واحد أو اثنان أو أربعة فلهم الدرهمان، ولو سبق واحد وصلى ثلاثة وتأخر واحد كان
للسابق درهمان وللثلاثة درهم ولشئ ولا شئ للمتأخر.
الثانية: لو كانا اثنين وأخرج كل واحد منهما سبقا وأدخلا محللا وقالا: أي الثلاثة
سبق فله السبقان، فإن سبق أحد المستبقين كان السبقان له على ما اخترناه وكذا لو سبق
المحلل، ولو سبق المستبقان كان لكل واحد منهما مال نفسه ولا شئ للمحلل، ولو سبق
أحدهما والمحلل كان للمستبق ما لنفسه ونصف مال المسبوق ونصفه الآخر للمحلل،
لو سبق أحدهما وصلى المحلل كان الكل للسابق عملا بالشرط وكذا، ولو سبق أحدهما
وصلى الآخر وتأخر المحلل.
الثالثة: إذا شرطا المبادرة والرشق عشرين والإصابة خمسة فرمى كل واحد منهما
عشرة فأصاب خمسة فقد تساويا في الإصابة والرمي فلا يجب إكمال الرشق لأنه يخرج عن
المبادرة، ولو رمى كل واحد منهما عشرة فأصاب أحدهما خمسة والآخر أربعة فقد نضله
صاحب الخمسة ولو سئل إكمال الرشق لم يجب، أما لو شرطا المحاطة فرمى كل واحد منهما
عشرة فأصاب خمسة تحاطا خمسة بخمسة وأكملا الرشق، ولو أصاب أحدهما من العشرة
تسعة وأصاب الآخر خمسة تحاطا خمسة بخمسة وأكملا الرشق، ولو تحاطا فبادر أحدهما إلى
إكمال العدد، فإن كان مع انتهاء الرشق فقد نضل صاحبه وإن كان قبل انتهائه فأراد
صاحب الأقل إكمال الرشق نظر، فإن كان له في ذلك فائدة مثل أن يرجو أن يرجح عليه أو
319

يساويه أو يمنعه أن ينفرد بالإصابة بأن يقصر بعد المحاطة عن عدد الإصابة أجبر صاحب
الأكثر، وإن لم يكن له فائدة لم يجبر كما إذا رمى أحدهما خمسة عشر فأصابها ورمى الآخر
فأصاب منها خمسة فيتحاطان خمسة بخمسة، فإذا أكملا فأبلغ ما يصيب صاحب الخمسة
ما تخلف وهي خمسة ويخطئها صاحب الأكثر فيجتمع لصاحب الخمسة عشرة فيتحاطان
عشرة بعشرة ويفضل لصاحب الأكثر خمسة فلا يظهر للإكمال فائدة.
الرابعة: إذا تم النضال ملك الناضل العوض وله التصرف فيه كيف شاء، وله أن
يختص به وأن يطعمه أصحابه، ولو شرط في العقد إطعامه لحزبه لم تستبعد صحته.
الخامسة: إذا فسد عقد السبق لم يجب بالعمل أجرة المثل ويسقط المسمى لا إلى
بدل، ولو كان السبق مستحقا وجب على الباذل مثله أو قيمته.
السادسة: إذا نضل أحدهما الآخر في الإصابة فقال له: اطرح الفضل بكذا، قيل:
لا يجوز لأن المقصود بالنضال إبانة حذق الرامي وظهور اجتهاده، فلو طرح الفضل بعوض
كان تركا للمقصود بالنضال فتبطل المعاوضة ويرد ما أخذ.
320

المختصر النافع
لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا
يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي المشتهر بالمحقق وبالمحقق الحلي
602 - 676 ه‍ ق
321

كتاب السبق والرماية
ومستندهما قوله ع: لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر. ويدخل تحت
النصل، السهام والحراب والسيف. وتحت الخف الإبل. وتحت الحافر الخيل والبغال
والحمير، ولا يصح في غيرها.
ويفتقر انعقادها إلى إيجاب وقبول. وفي لزومها تردد، أشبهه: اللزوم. ويصح أن يكون
السبق عينا أو دينا. ولو بذل السبق غير المتسابقين جاز. وكذا لو بذل أحدهما. أو بذل من
بيت المال. ولا يشترط المحلل عندنا. ويجوز جعل السبق للسابق منهما. وللمحلل إن سبق.
وتفتقر المسابقة إلى تقدير المسافة والخطر وتعيين ما يسابق عليه. وتساوى ما به السباق
في احتمال السبق. وفي اشتراط التساوي في الموقف تردد. ويتحقق السبق بتقدم الهادي،
وتفتقر المراماة إلى شروط:
تقدير الرشق وعدد الإصابة وصفتها وقدر المسافة والغرض والسبق. وفي اشتراط
المبادرة والمحاطة تردد. ولا يشترط تعيين السهم ولا القوس. ويجوز المناضلة على الإصابة
وعلى التباعد. ولو فضل أحدهما الآخر فقال: اطرح الفضل بكذا، لم تصح لأنه مناف
للغرض من النضال.
323

الجامع للشرائع
للشيخ أبي زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن الحسن
بن سعيد الهذلي
601 - 689 أو 690 ه‍ ق
325

باب السبق والرمي:
وهو عقد جائز من الطرفين كالجعالة وقيل: لازم كالإجارة، ويجوز السبق في النصل
والريش والخف والحافر وما عدا ذلك قمار.
فالنصل يقع على السهم والنشاب والسيف والرمح، والخف يقع على الإبل والفيلة
والحافر على الخيل والبغال والحمير، ولا يجوز على الأقدام ورفع الأحجار ودحوها
والصراع والسفن وشبه ذلك، ومن شرطه تعيين أول المدي وآخره وإن قال واحد لاثنين:
أيكما سبق بفرسه إلى كذا فله درهم، صح، فإن قال: أيكما جاء إليه فله كذا، لم يجز، وإن
قال: أيكما سبق وصلى فله كذا، جاز للخوف من أن يكون تاليا، فإن قال: للسابق عشرة
وللمصلي خمسة وللتالي درهمان، جاز والإمام والرعية في ذلك سواء، وإن قال أحدهما
لصاحبه: إن سبقت فلك كذا وإن سبقت أنا فلا شئ عليك، جاز، وإن أخرج كل واحد
عشرة دراهم وقال: من سبق فله العشرون، جاز إن أدخلا بينهما آخر بفرس كف ء لفرسهما
وإن لم يدخلاه كذلك لم يصح، وإن لم يخرج شيئا وقالا: إن سبقت أنت فلك السبقان معا،
جاز.
والسبق بالكتد أو الهادي مع تساوى الخلقة فإن سبق الطويل القصير بقدر الزيادة
في الخلقة لم يكن سابقا، والنضال والمناضلة في الرمي، والرهان في الخيل، ولا يصح حتى
يعين الفرس فإن مات فلا بدل له، ولا يصح النضال إلى تعيين القوس فإن انكسر جاز
بدلها لأن القصد الإصابة وفهم الحاذق وفي السبق معرفة السابق.
327

ومن شرط المناضلة كون الرشق - بكسر الراء - وهو العدد الذي يرمى به وعدد الإصابة
والمسافة والغرض والسبق معلوما، والغرض: الذي ينصب في الهدف وهو التراب
المجموع، والسبق المال المخرج في المناضلة - بفتح الباء - منهما أو من غيرهما، وفي دخول
المحلل بينهما كالمسابقة.
وإطلاق العقد يرجع إلى أن الإصابة في التعارف بالقرع، وقيل: من شرطه ذكر صفة
الإصابة من خرق وهو أن يثقب السن أو خسق وهو ثبوته فيه مع خرقة أو مرق وهو أن
ينفذ فيه أو خرم وهو أن يقطع طرفه وبعضه خارج منه وبعضه فيه.
وكذا إطلاقه يرجع إلى المتعارف وهو المبادرة، وقيل: يبطل إلا أن يبين مبادرة، وهي
العقد على أن من بدر إلى إصابة عدد معلوم مع تساويهما في الرمي نضل، أو محاطة وهي أن
يتحاطا ما استويا فيه من عدد الإصابة ويفضل لأحدهما عدد الإصابة فيكون باطلا، أو حوالي
وهي أن يشترطا إصابة عدد على اسقاط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الآخر،
فمن فضل له بعد ذلك ما اشترطا عليه من العدد فقد نضل، وإذا ثبت النضال ففضل
أحدهما بإصابة لم يجز أن يقول المفضول: أطرح الفضل بدينار حتى يصير سواء.
328

قواعد الأحكام
في مسائل الحلال والحرام
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين
علي بن محمد بن مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍ - ق
329

المقصد السابع: في السبق والرمي: وفيه بابان:
الباب الأول: في السبق:
مقدمة: السبق بسكون الباء المصدر وبالتحريك العوض وهو الخطر والندب
والرهن، يقال سبق بتشديد الباء إذا أخرج السبق وإذا أحرزه، والسابق هو
المتقدم بالعنق والكتد وقيل بالأذن، وهو المجلى والمصلى هو الثاني لأنه هو محاذي
رأسه صلوى المجلى - والصلوان عظمان نابتان عن يمين الذنب وشماله - والتالي
هو الثالث والبارع هو الرابع والمرتاح الخامس والحظي السادس والعاطف السابع
والمؤمل الثامن واللطيم التاسع والسكيت العاشر والفسكل الأخير والمحلل هو الذي
يدخل بين المتراهنين إن سبق أخذ وإن سبق لم يغرم، والغاية مدى السباق
والمناضلة المسابقة والمراماة.
وفي هذا الباب مطلبان:
المطلب الأول: في الشروط: وهي تسعة:
أ: العقد: ولا بد فيه من إيجاب وقبول، وقيل أنها جعالة يكفي فيها الإيجاب
وهو البذل.
ب: ما يسابق عليه: وإنما يصح على ما هو عدة للقتال وهو من الحيوان كل
ما له خف أو حافر ويدخل تحت الأول الإبل والفيلة وتحت الثاني الفرس
والحمار والبغل، فلا يصح المسابقة بالطيور ولا على الأقدام ولا بالسفن ولا
بالمصارعة ولا برفع الأحجار، وفي تحريم هذه مع الخلو عن العوض نظر.
ج: تقدير المسافة: ابتداء وانتهاء، فلو شرط للسابق حيث سبق من غير تعيين
غاية لم يجز لأن أحدهما قد يكون سريعا في أول عدوه مقصرا في انتهائه وبالعكس،
331

ولو شرط المال لمن سبق في وسط الميدان فإشكال، ولو استبقا بغير غاية لينظر أيهما
يقف أولا لم يجز.
د: تقدير الخطر: ويصح أن يكون دينا أو عينا حالا أو مؤجلا وأن يبذله
المتسابقان أو أحدهما أو غيرهما ويجوز من بيت المال.
ه‍: تعيين ما يسابق عليه بالمشاهدة: ولا يكفي العقد على فرسين بالوصف،
ومع التعين لا يجوز إبداله.
و: تساوى ما به السباق في احتمال السبق: فلو كان أحدهما ضعيفا يعلم
قصوره عن الآخر لم يجز.
ز: تساوى الدابتين في الجنس: فلا يجوز المسابقة بين الخيل والبغال ولا بين
الإبل والفيلة ولا بين الإبل والخيل، ولو تساويا جنسا لا صنفا فالأقرب الجواز
كالعربي والبرذون والبختي والعرابي.
ح: إرسال الدابتين دفعة: فلو أرسل أحدهما قبل الآخر ليعلم هل يدركه
الآخر أو لا لم يجز.
ط: جعل العوض للسابق منهما أو منهما ومن المحلل: ولو جعل لغيرهما لم يجز
ولا يجوز لو جعله للمسبوق ولا جعل القسط الأوفر للمصلي والأدون للسابق ويجوز
العكس، وهل يجوز جعله للمصلي لو كانوا ثلاثة؟ نظر وكذا الإشكال في جعل
قسط للفسكل، ولو جعلا العوض للمحلل خاصة جاز، وكذا لو قالا من سبق منا
فله السبق ولا يشترط المحلل، فالأقرب عدم اشتراط التساوي في الموقف.
المطلب الثاني: في الأحكام:
عقد المسابقة والرماية لازم كالإجارة وقيل جائز كالجعالة وهو الأقرب،
فلكل منهما فسخه قبل الشروع، وتبطل بموت الرامي والفرس ولو مات الفارس
فللوارث الإتمام على إشكال، ولو أراد أحدهما الزيادة أو النقصان لم تجب إجابته،
332

وإن كان بعد الشروع وظهور الفضل مثل أن يسبق بفرسه في بعض المسافة أو
يصيب بسهام أكثر فللفاضل الفسخ لا المفضول على إشكال، وعلى القول باللزوم
يجب البداية بالعمل لا بتسليم السبق ويجوز ضمانه والرهن به، فإن فسدت المعاملة
بكون العوض ظهر خمرا رجع إلى أجر مثله في جميع ركضه لا في قدر السبق وقيل
يسقط المسمى لا إلى بدل، ولو فسد لاستحقاق العوض وجب على الباذل مثله أو
قيمته ويحتمل أجرة المثل.
وليس لأحدهما أن يجنب إلى فرسه فرسا يحرضه على العدو ولا يصيح به في
وقت سباقه، ولو قال آخر: من سبق فله عشرة، فأيهم سبق استحقها ولو جاؤوا
جميعا فلا شئ لأحدهم، ولو سبق اثنان أو أربعة تساووا ويحتمل أن يكون لكل
واحد عشرة، ولو قال: من سبق فله عشرة ومن صلى فله خمسة، فسبق خمسة وصلى
خمسة فللخمسة عشرة أو لكل واحد على الاحتمال وللثانية خمسة أو لكل واحد، ويحتمل
البطلان على الأول لإمكان سبق تسعة فيكون لكل من السابقين درهم وتسع
وللمصلي خمسة.
ولو قال لاثنين: أيكما سبق فله عشرة وأيكما صلى فله عشرة، لم يصح ولو
قال: ومن صلى فله خمسة، صح ولو قال لثلاثة: من سبق فله عشرة ومن صلى فله
عشرة، صح ولو قال: من سبق فله عشرة ومن صلى فله خمسة، فسبق أحد الثلاثة
وصلى آخر وتأخر ثالث فلا شئ للمتأخر، ويجوز أن يخرج أحدهما أكثر مما يخرجه
الآخر ويختلفا، فلو قال أحدهما: إن سبقتني فلك على عشرة وإن سبقتك فلي
عليك خمسة أو قفيز حنطة، جاز.
ولو أخرجا عوضين وأدخلا المحلل وقالا: من سبق فله العوضان، فإن تساووا
أحرز كل منهما سبقه ولا شئ للمحلل وكذا لو سبقا المحلل، ولو سبق المحلل
خاصة أو أحدهما خاصة أحرزهما السابق، ولو سبق أحدهما والمحلل أحرز السابق
مال نفسه وكان مال المسبوق بين السابق والمحلل نصفين، ولو شرط السبق بأقدام
333

معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح لعدم ضبطه وعدم وقوف الفرسين عند غاية
بحيث يعرف المساحة بينهما.
الباب الثاني: في الرمي:
مقدمة: الرشق بفتح الراء الرمي وبالكسر عدده ويوصف السهم بالخابي
وهو ما وقع بين يدي الغرض ثم وثب إليه فأصابه وهو المزدلف، والخاصر وهو
ما أصاب أحد جانبي الغرض ومنه الخاصرة، والخاصل وهو المصيب للغرض كيف
ما كان، والخازق وهو ما خدشه ثم وقع بين يديه، والخاسق وهو ما فتح الغرض
وثبت فيه، والمارق وهو ما نفذ الغرض ووقع من ورائه، والخارم وهو الذي يخرم
حاشيته، والغرض ما يقصد إصابته وهو الرقعة المتخذة من قرطاس أو رق أو جلد أو
خشب أو غيره، والهدف ما يجعل فيه الغرض من تراب أو غيره، والمبادرة هي أن
يبادر أحدهما إلى الإصابة مع التساوي في الرشق، والمحاطة هي اسقاط ما تساويا
فيه من الإصابة.
وفي هذا الباب مطلبان:
المطلب الأول: في الشروط: وهي اثنا عشر بحثا:
أ: العقد وقد سبق.
ب: العلم بعدد الرشق وهو شرط في المحاطة قطعا وفي المبادرة على إشكال.
ج: العلم بعدد الإصابة كخمسة من عشرين.
د: العلم بصفتها فيقولان: خواصل أو خواسق أو غيرهما، ولو شرط الخواسق
والخوابي معا صح ولو أطلقا فالأقرب حمله على الخواصل.
ه‍: تساويهما في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي، فلو جعلا
رشق أحدهما عشرة والآخر عشرين أو إصابة أحدهما خمسة والآخر ثلاثة أو أحدهما
334

خواسق والآخر خواصل أو بحط أحدهما من إصابته سهمين أو بحط سهمين من
إصابته بسهم من إصابة صاحبه أو يرمي أحدهما من بعد والآخر من قرب أو يرمي
أحدهما وبين أصابعه سهم والآخر سهمان أو بحط أحدهما واحدا من خطائه لا له
ولا عليه لم يصح.
و: العلم بقدر الغرض إما بالمشاهدة أو بالتقدير لاختلافه في السعة والضيق.
ز: معرفة المسافة أو بالمشاهدة أو بالتقدير كمائة ذراع.
ح: تعيين الخطر.
ط: جعله للسابق.
ي: تماثل جنس الآلة لا شخصها ولا تعيين السهم ولو عينهما لم يتعين، ولو
لم يعينا الجنس انصرف إلى الأغلب في العادة فإن اختلف فسد.
يا: تعيين الرماة فلا يصح مع الإبهام لأن الغرض معرفة حذق الرامي، وفي
الحيوان يعتبر تعيين الحيوان لا الراكب لأن الغرض هناك معرفة عدو الفرس لا
حذق الراكب، وكل ما يعتبر تعيينه لو تلف انفسخ العقد وما لا يتعين يجوز إبداله
لعذر وغيره ولو تلف قام غيره مقامه، فلو شرطا أن لا يرميا إلا بهذا القوس أو هذا
السهم أو لا يركب إلا هذا الراكب فسد الشرط، ويصح المناضلة على التباعد كما
يصح على الإصابة فلا يعتبر شروط الإصابة.
يب: إمكان الإصابة المشروطة لا امتناعها كما لو شرط الإصابة من خمس مائة
ذراع أو إصابة مائة على التوالي ولا وجوبها كإصابة الحاذق واحدا من مائة، والوجه
صحة الأخير لفائدة التعليم والنادر الأقرب صحته كبعد أربع مائة، ولا يشترط
تعيين المبتدئ بالرمي بل يقرع ثم لا ينسحب في كمال الرشق ولا ذكر المبادرة ولا
المحاطة ولا يحمل المطلق على المبادرة.
335

المطلب الثاني: في الأحكام:
أقسام المناضلة ثلاثة:
المبادرة: مثل من سبق إلى إصابة خمس من عشرين فهو السابق، فلو أصاب
أحدهما خمسة من عشرة والآخر أربعة فالأول سبق ولا يجب الإكمال، ولو أصاب
كل منهما خمسة فلا سبق ولا يجب الإكمال أيضا، ويحكم بالسبق لو أصاب
أحدهما خمسة من تسعة والآخر أربعة منها بدون العاشر.
والمفاضلة: مثل من فضل صاحبه بإصابة أو اثنتين أو ثلاث من عشرين فهو
السابق ويجب الإكمال مع الفائدة، فلو شرطا ثلاثة فرميا اثنتي عشرة فأصابها
أحدهما أو أخطأها الآخر لم يجب الإكمال، ولو أصاب عشرا لزمهما رمى الثالث
عشر فإن أصاباها أو أخطأها أو أصابها الأول فقد سابق ولا إكمال، فإن أصابها
الثاني خاصة لزمهما الرابعة عشر وهكذا ولو رميا ثماني عشرة فأصاباها أو أخطأها
أو تساويا في الإصابة فيها لم يجب الإكمال.
والمحاطة: مثل من أصاب خمسا من عشرين فهو السابق، فلو أصابا خمسة من
عشرة تحاطا وأكملا وكذا لو أصاب أحدهما تسعة منها والآخر خمسة، ولو لم يكن
في الإكمال فائدة من رجحان أو مساواة أو منع عن التفرد بالإصابة بأن يقصر عن
العدد لم يجب الإكمال كما لو أصاب أحدهما خمسة عشر منها والآخر خمسة، ولو
أصاب الأول أربعة عشر وجب الإكمال ما لم ينتف الفائدة قبله، ولو شرطا جعل
الخاسق بإصابتين جاز.
ويجوز عقد النضال بين حزبين كما يجوز بين اثنين، ولا يشترط تساوى
الحزبين عددا بل تساوى الرميات فيرامي واحد ثلاثة يرمي هو ثلاثة وكل واحد
واحدا، فإن عقد النضال جماعة على أن يتناضلوا حزبين احتمل المنع - لأن التعيين
شرط - والجواز، فينصب لكل حزب رئيس يختار واحدا من الجماعة والآخر آخر
في مقابلة الأول، ثم يختار الأول ثانيا والثاني ثانيا في مقابلة ثاني الأول وهكذا إلى
336

أن ينتهيا على الجماعة، والابتداء بالقرعة، فإن شرط الزعيم السبق على نفسه لم يلزم
حزبه شئ وإلا كان عليهم بالسوية، ويكون للآخر بالسوية من أصاب ومن لم
يصب، ويحتمل القسمة على قدر الإصابة فيمنع من لم يصب، ويشترط قسمة الرشق
بين الحزبين بغير كسر، فيجب إذا كانوا ثلاثة الثلث وأربعة الربع.
ولو كان في أحد الحزبين من لا يحسن الرمي بطل العقد فيه وفي مقابله
ويتخير كل من الحزبين لتبعض الصفقة، ولو ظهر قليل الإصابة فقال حزبه: ظنناه
كثير الإصابة أو كثير الإصابة، فقال الحزب الآخر: ظنناه قليل الإصابة، لم يسمع
ولو قال المسبوق: اطرح فضلك وأعطيك دينارا، لم يجز، وإذا شرطا الخاصل وهي
الإصابة المطلقة اعتد بها كيف ما وجدت بشرط الإصابة بالنصل، فلو أصاب بعرضه
أو بفوقه لم يعتد به لأنه من سئ الخطأ.
ولو أطارت الريح الغرض فوقع في موضعه احتسب له، أما لو شرط الخاسق
فإن ثبت في الهدف وكان بصلابة الغرض احتسب له وإلا فلا يحتسب له ولا
عليه، ولو أصابه في الموضع الذي طار إليه فإن كان على صوب المقصد حسب له
وإلا عليه، ولو أخطأ لعارض مثل كسر قوس أو قطع وتر أو عروض ريح شديد لم
يحسب عليه، ولو أصاب ففي احتسابه له نظر، ولو شرطا الخاسق فمرق حسب له ولو
خزقه حسب عليه، ولو ثقبه ثقبا يصلح للخسق ووقع بين يديه فالأقرب احتسابه
له، ولو وقع في ثقب قديم وثبت احتمل الاحتساب له وعدمه، وإذا تم النضال
ملك الناضل العوض، وله التصرف فيه كيف شاء وله أن يختص به وأن يطعم
أصحابه، فلو شرط إطعامه لحزبه فالوجه الجواز.
ولو قال لرام: ارم خمسة عني وخمسة عنك فإن أصبت في خمستك فلك
دينار، لم يجز ولو قال: ارم فإن كانت إصابتك أكثر العشرة فلك دينار، صح ولو
شرطا احتساب القريب وذكرا حد القرب جاز، وإن لم يذكرا احتمل الفساد
والتنزيل على أن الأقرب يسقط الأبعد كيف كان، ولو شرطا ذلك لزم قطعا، ولو
337

شرطا اسقاط مركز القرطاس ما حواليه احتمل الصحة والبطلان لتعذره، ولو انكسر
السهم بنصفين فأصاب بالمقطع من الذي فيه الفوق حسب له، وإن أصاب بالنصل
من الآخر فإشكال.
338

اللمعة الدمشقية
للشيخ أبي عبد الله شمس الدين محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن الشيخ شمس الدين
محمد بن حامد بن أحمد المطلبي العاملي الثباطي الجزيني المشتهر بالشهيد الأول
734 - 786 ه‍ ق
339

كتاب السبق والرماية
إنما ينعقد السبق من الكاملين الخاليين من الحجر على الخيل والبغال والحمير والإبل
والفيلة، وعلى السيف والسهم والحراب لا بالمصارعة والسفن والطيور والعدو. ولا بد فيها
من إيجاب وقبول على الأقرب وتعيين العوض، ويجوز كونه منهما ومن بيت المال ومن
أجنبي، ولا يشترط المحلل، ويشترط في السبق تقدير المسافة ابتداء وغاية والخطر وتعيين
ما يسابق عليه واحتمال السبق في المعينين. فلو علم قصور أحدهما بطل، وأن يجعل
السبق لأحدهما أو للمحلل إن سبق لا لأجنبي، ولا يشترط التساوي في الموقف،
والسابق هو الذي يتقدم بالعنق، والمصلي هو الذي يحاذي رأسه صلوى السابق وهما
العظمان النابتان عن يمين الذنب وشماله.
ويشترط في الرمي معرفة الرشق كعشرين وعدد الإصابة وصفتها من المارق والخاسق
والخازق والحاصل وغيرها وقدر المسافة والغرض والسبق وتماثل جنس الآلة لا شخصها.
ولا يشترط المبادرة ولا المحاطة ويحمل المطلق على المحاطة. فإذا أتم النضال ملك
الناضل العوض، وإذا فضل أحدهما صاحبه فصالحه على ترك الفضل لم يصح، ولو ظهر
استحقاق العوض وجب على الباذل مثله أو قيمته.
341