الكتاب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المؤلف: مركز الرسالة
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٠
المطبعة: مهر - قم
الناشر: مركز الرسالة - قم - ايران
ردمك: ٩٦٤-٣١٩-١٦٤-٨
ملاحظات:

الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
تأليف
مركز الرسالة
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 1 سلسلة المعارف الاسلامية 19
1

الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
مركز الرسالة
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

مقدمة المركز:
الحمد لله المتعال بما هو أهله، وأتم الصلاة وأزكى التسليم على نبينا محمد وآله
الطاهرين، وصحبه المخلصين، ومن اتبع الهدى إلى يوم الدين.
وبعد...
فإن الشريعة التي اعتبرت جسد الأمة المؤمنة كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى
له سائر الجسد بالسهر والحمى، خليقة باقتفاء منهجها، جديرة باقتداء سلوكها،
قمينة بالتحلي بآدابها وأخلاقها، أهل للهداية بقبول ما جاء فيها من الدعوة الصريحة
إلى كل ما فيه الصلاح والامر به، والتحذير من الفساد والنهي عنه.
ولكي يعلم أفراد الأمة المسلمة هذه الحقيقة، ويفهموا جيدا ما هو دورهم في
الحياة، فلابد وان يدركوا بأن نطق الشهادتين بلا عمل والاهتمام بالوسائل واغفال
المقاصد ليس من الايمان المطلوب في شئ، وإنما هو من اسلام المنافقين الذين قال
الله تعالى فيهم: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم
إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون).
فوعي الظواهر السلبية وادراكها إذن لا يكفي دون بيانها للناس كافة كما بينها الله
تعالى لرسوله الكريم، وأما التغاضي عنها فلا ريب انه سيؤدي إلى تفاقم المنكر بشتى
سبله وألوانه.
ولا شك أن من أهم الأسباب التي أدت إلى ضعف المسلمين بعد قوتهم، وتمزيق شملهم
بعد وحدتهم، وما آل إليه أمر شرذمتهم من ضياع شوكتهم، وتبديد كلمتهم، وتفتيت
أوصالهم، وانكسار عزيمتهم حتى وصلوا إلى هذه الحال المؤلمة، إنما هو فقدان الصدق
والصراحة إزاء ظواهر النفاق ونظائرها في المجتمع الاسلامي كالمسامحة في اختراق أدب
الشريعة، وطغيان المجاملة على حساب الدين الحنيف، فبنيت بذلك أسس الافعال
القبيحة، وتوفرت مصادرها، فأقعدت الأمة عن معرفة الكثير من الحقائق، والتبس
الامر على أفرادها، وأصبح للباطل وجه مقبول نتيجة السكوت عليه، وألفه،
5

واستحسانه، والتغاضي عن قول الحق.
ولعل من أشد الأمور رذيلة التساهل مع الظالم الفاسق بالاغماض عن جوره وعتوه،
ثم ازدياد الطين بلة بمدحه واطرائه، حتى ليخيل إليه ان الأمة لا ترضى بسوى
الطغيان بدلا، لأنه الحق الذي تنشده!! فيزداد عتوا وفسادا، فيتوهمه المغفل
حقيقة ويرضاه المنافق وسيلة، ويسكت عنه الآخرون خوفا وطمعا، وعندها ترى الأمة
القبيح حسنا، والضار نافعا، والخائن أمينا... وكفى بهذا دلالة على ضرورة
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يحفظ للأمة بقاءها ويصون لكل حقه.
ونحسب ان في هذا وغيره مبررا كافيا لبحث الامر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وإن الفرصة التي ينبغي ان لا تضيع انما هي في احياء هذه الشعيرة، بل ركن الشريعة
الوطيد الذي لو ساد بين أفراد الأمة لنالت ما ترجوه من حياة حرة كريمة، خصوصا بعد
عجز سائر الحلول الوضعية في إصلاح ما فسد من أخلاق وما اعوج من شؤون، مما يعني هذا
انحصار الامر بالرجوع إلى منابع الاسلام الصافية، وإحياء ما في دستور الشريعة
الغراء من مثل ونظم وقوانين وفرائض وشعائر، ويأتي الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر في طليعتها لما فيه من حل متين لمشاكل الفرد والمجتمع، وصراط مستقيم
لنهضتها ورقيها.
وقد حاول الكتاب الماثل بين يديك عزيزي القارئ استنطاق ما في شريعتنا الغراء من
نصوص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبينا غاياتها وأهدافها وما تنطوي عليه
من فوائد كثيرة لها دورها الكبير في افشاء الطمأنينة والعدل والمساواة والقضاء على
كل الظواهر السلبية التي مني بها مجتمعنا المسلم.
آملين أن يكون تدارك ما فات بالتطلع نحو أفق الاسلام الأرحب والتعلق بأسبابه نحو
حياة أفضل بتدبر ما في دستوره العظيم من ضرورة التمسك بالامر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
والله ولي الرشاد والتوفيق
مركز الرسالة
6

المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله
الطيبين الطاهرين، وبعد:
جاءت الرسالة الاسلامية الخاتمة لهداية الانسان، وتحريره من جميع ألوان
الانحراف في فكره وسلوكه وتحريره من ضلال الأوهام وظلمة الخرافات، وتحريره من
عبادة الالهة المصطنعة، وتحريره من الانسياق وراء الشهوات والمطامع، وتهذيب نفسه
من بواعث الأنانية والحقد والعدوان، وتحرير سلوكه من الرذيلة والانحطاط، بتهيئة
العقول والقلوب للتلقي والاستجابة للمنهج الإلهي المرسوم، واستتباعها بالعمل
الايجابي - وفق المفاهيم والقيم الإلهية الثابتة - الذي يترجم الآراء والنصوص إلى
مشاعر وعواطف وأعمال وممارسات وعلاقات متجسدة في الواقع، لكي يكون الانسان
والمجتمع بمستوى المسؤولية المناطة به في الحياة، والمتمثلة بحمل الأمانة وخلافة
الله تعالى في الأرض، والترقي في سلم الكمال والسمو الروحي والسلوكي.
وهداية الانسان تعني تغيير محتواه الداخلي في عقله وقلبه وارادته لينسجم مع
المنهج الإلهي في الحياة، ويكون فكره وعاطفته وسلوكه وحدة واحدة لا ازدواجية فيها
ولا تناقض.
والتغيير ليس أمرا هينا إذا نظرنا إلى طبيعته، وطبيعة الميدان الذي يحل فيه
وهو ميدان النفس البشرية، فهو يواجه محدودية الانسان
7

وضعفه وعجلته، ويواجه شهوات النفس ونزواتها المتجذرة والطارئة والمتقلبة، ويواجه
كبرياء النفس وغرورها، ويواجه اعتزاز الناس بمفاهيمهم وقيمهم التي أنسوا بها،
وأصبحت جزءا من كيانهم الموروث والمكتسب، ويواجه ما يتلبس بتلك المفاهيم والقيم
من مصالح ذاتية ومطامع شخصية، ويواجه المغريات الخارجية التي تناغي الرغبات
والشهوات وتهتف بالانسان لاشباعها، ويواجه أصنافا من الناس تختلف بعدا أو قربا
من الدين والتدين، وتختلف مواقفها من حملة التغيير اندفاعا وانكماشا.
وتتجسد عملية التغيير بأداء مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أداء ينسجم
مع ضخامة الواقع البشري، وضخامة الأهداف المراد - من الآمرين بالمعروف والناهين عن
المنكر - تحقيقها في الواقع.
فلا بد من عمل دؤوب وحركة متواصلة تبدأ بتغيير النفس أولا ثم المجتمع ثانيا،
ولا بد من اطلاع دقيق وتشخيص واع لمستويات الناس الفكرية والعاطفية والسلوكية،
والمعرفة الواعية للظروف والعوامل المتحكمة في المجتمع، والقوى المؤثرة فيه، ليضع
الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر لكل مستوى ولكل ظرف خطة، يصلون بها إلى
تحقيق الأهداف، وأسلوبا ينفذون من خلاله إلى خلجات القلوب ويجعلونها تتهيأ
للتلقي والاستجابة، ثم الانتقال إلى مرحلة العمل الايجابي بعد مرحلة التأثر
الوجداني.
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم التكاليف التي ينبغي القيام بها، فيه
تقام الفرائض ويتوجه الانسان إلى الله تعالى بكل كيانه ومقومات شخصيته، وبه تتحقق
الاستقامة في الفكر والعاطفة والسلوك
8

ويكون المنهج الإلهي هو الحاكم على العقول والقلوب والإرادة الانسانية.
وفي هذا البحث - ومن خلال استقراء آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة وسيرة
المعصومين عليهم السلام ومن خلال التجربة العملية - نتطرق إلى الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر في أربعة فصول: نتناول في الفصل الأول: حكم الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر وأهميتهما، ثم نستعرض في الفصل الثاني: وسائل الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر ومراحلهما، ونتناول في الفصل الثالث: خصائص وصفات الآمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر - الذاتية والعملية - ونتناول في الفصل الرابع: آثار
ونتائج الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث الأداء وعدمه.
وحاولنا جهد الامكان استخدام العبارات والمصطلحات الواضحة الميسر فهمها من قبل
جميع المستويات، لتعم الفائدة المتوخاة من متابعة فصوله والامعان في مباحثه.
والله ولي التوفيق
9

الفصل الأول
حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأهميتهما
تمهيد في معناهما:
جاء في كتب اللغة أن المعروف: ما يستحسن من الافعال، وكل ما تعرفه النفس من
الخير وتطمئن إليه (1).
والمنكر: كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه (2).
وقيل عن المعروف: هو اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه. والمنكر: ما
ينكر بهما (3)، أي كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه
واستحسانه، فتحكم بقبحه الشريعة (4).
وجاء في مجمع البيان أن المعروف: الطاعة، والمنكر: المعصية.

1) لسان العرب / ابن منظور 9: 239.
2) لسان العرب 5: 233
3) مفردات ألفاظ القرآن / الراغب الأصفهاني: 331
4) مفردات ألفاظ القرآن: 505.
11

وكل ما أمر الله ورسوله به فهو معروف، وما نهى الله ورسوله عنه فهو منكر (1).
موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
لا يختص الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمورد من الموارد، ولا مجال من
المجالات، بل هو شامل لجميع ما جاء به الاسلام من مفاهيم وقيم، فهو شامل
للتصورات والمبادئ التي تقوم على أساسها العقيدة الاسلامية، وشامل للموازين
والقيم الاسلامية التي تحكم العلاقات الانسانية، وشامل للشرائع والقوانين،
وللأوضاع والتقاليد، وبعبارة أخرى هو دعوة إلى الاسلام عقيدة ومنهجا وسلوكا،
بتحويل الشعور الباطني بالعقيدة إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى
عادة ثابتة متفاعلة ومتصلة مع الأوامر والارشادات الاسلامية، ومنكمشة ومنفصلة عن
مقتضيات النواهي الاسلامية.
وقد بين الإمام الحسين عليه السلام موارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
قائلا:... بدأ الله بالامر بالمعروف، والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه
بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هينها وصعبها، وذلك أن الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام، مع رد المظالم ومخالفة الظالم،
وقسمة الفئ والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها، ووضعها في حقها... (2).
وقد تجلت هذه الشمولية بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل
حينما

1) مجمع البيان في تفسير القرآن \ الطبرسي 1: 483.
2) تحف العقول \ ابن شعبة الحراني: 168.
12

ولاه على أحد البلدان: يا معاذ علمهم كتاب الله وأحسن أدبهم على الأخلاق
الصالحة، وانزل الناس منازلهم - خيرهم وشرهم - وانفذ فيهم أمر الله... وأمت أمر
الجاهلية إلا ما سنه الاسلام، وأظهر أمر الاسلام كله، صغيره وكبيره، وليكن
أكثر همك الصلاة فإنها رأس الاسلام بعد الاقرار بالدين، وذكر الناس بالله
واليوم الآخر واتبع الموعظة (1).
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يستتبع جميع مقومات الشخصية الانسانية في
الفكر والعاطفة والسلوك، لتكون منسجمة مع المنهج الإلهي في الحياة، وتكون هذه
المقومات متطابقة مع بعضها، فلا ازدواجية بين الفكر والعاطفة ولا بينهما وبين
السلوك، وهي وحدة واحدة يكون فيها الولاء والممارسة العملية لله وحده ولمنهج
التوحيد الذي دعا إليه في جميع مفاهيمه وقيمه.
المبحث الأول
حكم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن الاسلام ليس مجرد تفكير وتدبر وخشوع يتحرك في داخل العقول والقلوب، وإنما
هو منهج حياة واقعي، يدعو إلى استنهاض الهمم والعزائم وتقوية الإرادة، لتنطلق في
الواقع مجسدة للمفاهيم والقيم الإلهية بصورة عملية، وهو يدعو إلى النهوض بالتكاليف
الإلهية في عالم الضمير وعالم الواقع على حد سواء، والاستقامة على ضوئها.

1) تحف العقول: 19.
13

وبما ان الانسان يحمل في جوانحه الاستعدادات المختلفة للخير والشر وللفضيلة
والفجور، ويتأثر بالعوامل الخارجية كالمغريات والمثيرات المتنوعة، إضافة إلى دور
الشيطان في الوسوسة والاغراء، فهو بحاجة إلى من يهديه ويرشده ويقوم له تصوراته
وعواطفه وممارساته العملية، لتكون موصولة بالعقيدة والشريعة الاسلامية، ولهذا
شرع الاسلام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ليقوم به الانسان المسلم إيقاظا
للقلوب البشرية الغافلة، وتحريكا للارادات الضعيفة لتستقيم على أساس المفاهيم
والموازين الإلهية.
فأوجب سبحانه وتعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله من التكاليف
الأساسية، لأنه غاية الدين كما عبر عنه الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام: غاية الدين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود (1).
وقال عليه السلام: قوام الشريعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة
الحدود (2).

1) تصنيف غرر الحكم: 332.
2) تصنيف غرر الحكم: 332.
14

أدلة الوجوب:
أولا: القرآن الكريم:
اعتمد أغلب الفقهاء على الآيات القرآنية في اثبات الوجوب دون ذكر تفاصيل الاستدلال
(1)، اقرارا منهم بوضوح دلالتها حتى قيل: (إن وجوب الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر ضرورة دينية عند المسلمين يستدل بها، ولا يستدل عليها) (2).
وفيما يلي نستعرض الآيات القرآنية الواقعة في مقام الاستدلال على الوجوب.
الآية الأولى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (3).
المخاطب بهذه الآية القرآنية هم المؤمنون كافة، فهم مكلفون بأن (ينتخبوا منهم
أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في ايجادها)
(4).
وهي واضحة الدلالة على الوجوب، فإن قوله تعالى: (ولتكن) أمر، وظاهر الامر
الايجاب هذا من جهة، ومن جهة أخرى حصرت الآية الفلاح بهذا العمل.

1) التبيان 2: 549. وكشف الغطاء: 419. وجواهر الكلام: 419. وروح المعاني 4:
21.
2) التفسير المبين: 80.
3) سورة آل عمران: 3 / 104.
4) تفسير المراغي 2: 22
15

و (من) في (منكم) للتبعيض (1)، لذا استدل أغلب الفقهاء على أن الوجوب كفائي
(2) فإذا قام به البعض سقط عن الآخرين.
الآية الثانية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف
وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) (3).
قرنت الآية القرآنية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالايمان بالله تعالى،
وقدمتهما عليه (لأنهما سياج الايمان وحفاظه) (4).
ومعنى الآية: (صرتم خير أمة خلقت، لامركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر
وإيمانكم بالله، فتصير هذه الخصال على هذا القول شرطا في كونهم خيرا) (5).
وهذه الخيرية (لا يستحقها من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج
البيت الحرام، والتزم الحلال، واجتنب الحرام مع الاخلاص الذي هو روح الاسلام،
إلا بعد القيام بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر...) (6).
واستدل الفقهاء بهذا الثناء الذي انحصر بهذه المزايا الثلاث على الوجوب (فمدحهم
بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما مدحهم

1) الكشاف 1: 452.
2) التبيان 2: 549. وفتح القدير 1: 369. والكشاف 1: 452.
3) سورة آل عمران: 3 \ 110.
4) تفسير المراغي 4: 30.
5) مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 486.
6) تفسير المنار 4: 58.
16

بالايمان بالله تعالى، وهذا يدل على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) (1).
وقد اكتفى كثير من الفقهاء بذكر الآية دليلا دون تفصيل (2)، لاقتران الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر بالايمان بالله تعالى، ووقوعهما في مستواه، وتخصيص
الثناء والمدح بالخيرية بهذه الصفات الثلاث.
الآية الثالثة: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون
آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات
وأولئك من الصالحين) (3).
جعل الله تعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من علامات القيام بالواجبات،
ومن علامات الصلاح، فلم يشهد الله تعالى لهم بالصلاح بمجرد الايمان بالله واليوم
الآخر حتى أضاف إليه الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (4).
ومفهوم الآية هو ان الذين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر لا يعدون من
الصالحين، ولولا الوجوب لما نفى صفة الصلاح عنهم.
الآية الرابعة: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
ويطيعون الله

1) المقنعة: 808.
2) كشف الغطاء: 419. وجواهر الكلام 21: 352.
3) سورة آل عمران: 3 / 113 - 114.
4) المحجة البيضاء 4: 96
17

ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) (1).
جعل الله تعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأوصاف الخاصة بالمؤمنين،
وهما من شؤون ولاية بعض المؤمنين على بعض.
وعلى هذا فالذي يهجر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون خارجا عن (هؤلاء
المؤمنين المنعوتين في هذه الآية) (2).
واخراج التاركين للامر بالمعروف والنهي عن المنكر من جماعة المؤمنين لا يصح ولا
يستقيم إلا إذا كانا واجبين، وعليهما تترتب الرحمة.
ويؤيد ثبوت الوجوب ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وردا في سياق الواجبات
كإقامة الصلاة وايتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهما
واجبان بدلالة وحدة السياق، وتكرر اقترانهما مع الواجبات يفيد الاطمئنان بوجوبهما
.
الآية الخامسة: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم
الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) (3).
ذم الله تعالى ووبخ بني إسرائيل لقولهم الاثم وأكلهم السحت، وذم علماءهم
لعدم قيامهم بنهيهم، فذم (هؤلاء بمثل اللفظة التي ذم بها أولئك، وفي هذه الآية
دلالة على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه) (4).

1) سورة التوبة: 9 / 71.
2) المحجة البيضاء 4: 97.
3) سورة المائدة: 5 / 63.
4) مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 218
18

فالتوبيخ شامل لمرتكب المنكر والساكت عن النهي عنه، فقد وبخ الله تعالى
(الربانيين والأحبار في سكوتهم عنهم، وعدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام
والمعاصي، وهم عالمون بأنها معاص وذنوب) (1).
فقد بين الله تعالى ان الربانيين والأحبار أثموا بترك النهي عن المنكر والدلالة
واضحة على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو لم يكونا واجبين لما ترتب
الاثم على تركهما، ولما وبخهم الله تعالى على سكوتهم، لان التوبيخ يستتبع
العمل السيئ، وترك النهي عن المنكر هو أحد مصاديقه.
الآية السادسة: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان
داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا
لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) (2).
لعن الله تعالى بني إسرائيل بعصيانهم واعتدائهم، ثم بين حالهم، فقال: (
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه) أي لم يكن ينهى بعضهم بعضا، ولا
ينتهون أي لا يكفون عما نهوا عنه (3).
وقد علل الله تعالى استحقاقهم اللعنة (بتركهم النهي عن المنكر) (4).
فلو لم يكن النهي عن المنكر واجبا لما استحقوا اللعنة بتركهم إياه، لان

1) الميزان في تفسير القرآن 6: 31.
2) سورة المائدة: 5 / 78 - 79.
3) مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 231.
4) المحجة البيضاء 4: 97.
19

اللعنة تختص بترك الواجب.
ويؤيد الوجوب ما روي عن ابن عباس في تفسير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
للآية، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر،
ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على
بعض ويلعنكم كما لعنهم (1).
الآية السابعة: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا
وقودها الناس والحجارة...) (2).
وقاية الأهل من النار تتم (بدعائهم إلى الطاعة وتعليمهم الفرائض، ونهيهم عن
القبائح، وحثهم على أفعال الخير) (3).
والوقاية هي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما روي عن الإمام الصادق عليه
السلام قال: لما نزلت هذه الآية... جلس رجل من المسلمين يبكي، وقال: أنا عجزت
عن نفسي، كلفت أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك أن تأمرهم
بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهى عنه نفسك (4).
وفعل الامر (قوا) يدل على الوجوب، ويتحقق هذا الفعل ان قام الانسان بالامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان، لأنهما مقدمة من مقدمات الهداية
والانقاذ من النار.
وقد وردت آيات في غير موضع من القرآن الكريم قرنت الامر

1) مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 231.
2) سورة التحريم: 66 / 6.
3) مجمع البيان في تفسير القرآن 5: 318.
4) الكافي 5: 62.
20

بالمعروف والنهي عن المنكر مع سائر الواجبات الشرعية، كما ورد في سورة الحج (1)،
وسورة لقمان (2).
ثانيا: الروايات الشريفة:
الروايات الدالة على وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مستفيضة ومتواترة عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، وقد أكدت السيرة على
ذلك، حتى أصبح سكوت المعصوم عليه السلام عن عمل معين دليلا على جوازه، فلو كان
محرما لنهى عنه، وكانت سيرة المعصومين عليهم السلام تجسيدا للامر بالمعروف
والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى، بتصحيح اعتقاد الناس وتربية نفوسهم
وتهذيب سلوكهم.
عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الاسلام ثمانية أسهم
: الاسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، وحج البيت سهم،
والامر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب
من لا سهم له (3).
فقد عد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في
جملة الواجبات وجعل الخيبة والخسران نتيجة لمن لا سهم له.
وسلب صلى الله عليه وآله وسلم صفة الاسلام والايمان ممن لا يأمر بالمعروف وينهي
عن المنكر فقال: ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر

1) سورة الحج: 22 / 41.
2) سورة لقمان: 31 / 17.
3) الترغيب والترهيب 3: 232.
21

بالمعروف، وينهى عن المنكر (1) ومعنى السلب هو قلة الحظ من الدين. وصفة
الاسلام والايمان لا تسلب إلا ممن لا يؤدي واجبا.
ودلت الروايات على وجوب نشر العلم وتعليم الجهال، ونشر العلم يتحقق بتبيان
العقيدة الصحيحة وأحكام الشريعة كما أنزلت وهي مظهر من مظاهر الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أخذ الله سبحانه على
الجاهل أن يتعلم حتى أخذ على العالم أن يعلم (2).
ومن مظاهر الامر بالمعروف والنهي عن المنكر محاربة البدع وذلك عن طريق اثبات
مخالفتها للعقيدة والشريعة، ثم تبيان الرأي الأصوب والحكم الأصوب والسلوك
المنسجم مع المبادئ والقيم الاسلامية. ومحاربة البدع واجبة كما أكد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: إذا ظهرت البدعة في أمتي فليظهر العالم علمه،
فإن لم يفعل فعليه لعنة الله (3).
فلو لم يكن اظهار العلم واجبا لما استحق تاركه اللعنة.
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض العظيمة التي تتوقف عليها إقامة
جميع الفرائض كما بين ذلك الإمام محمد الباقر عليه السلام: إن الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها
تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض،
وينتصف من الأعداء، ويستقيم الامر، فأنكروا

1) الترغيب والترهيب 3: 232. وبنحوه في: جامع أحاديث الشيعة 14: 396.
2) تصنيف غرر الحكم: 45.
3) المحاسن: 231.
22

بقلوبكم، وألفظوا بألسنتكم، وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم...
أوحى الله إلى شعيب النبي عليه السلام: اني لمعذب من قومك مئة ألف: أربعين ألفا
من شرارهم، وستين ألفا من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار، فما بال
الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه أنهم داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي
(1).
فقد بين عليه السلام ان الساكتين عن المعاصي بعدم مواجهتها بنهي عنها أو أمر
بمعروف فقد استحقوا العذاب وان كانوا أخيارا، لأنهم تركوا واجبا ولم يؤدوه.
وقد تظافرت الروايات على أن الله تعالى يبغض من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
، وعلى نزول العذاب عليه، فلو لم يكن واجبا لما ترتب بغض الله تعالى لمن تركه أو
نزول عذابه عليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف
الذي لادين له، فقيل له: وما المؤمن الذي لا دين له؟، قال: الذي لا ينهى عن
المنكر (2).
فقد اجتمع فيه بغض الله له، وسلب الدين منه.
وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: إذا أمتي تواكلت الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلتأذن
بوقاع من الله تعالى (3).

1) تهذيب الأحكام 6: 180 - 181.
2) الكافي 5: 59.
3) تهذيب الأحكام 6: 177.
23

ورتب الإمام جعفر الصادق عليه السلام نصر الله تعالى لمن نصر الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وخذلانه لمن خذلهما، أي بالأداء والترك، فقال عليه السلام:
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى، فمن نصرهما أعزه الله
تعالى، ومن خذلهما خذله الله تعالى (1).
وجعل عليه السلام عدم القيام بانكار المنكر مبارزة لله بالعداوة، فقال:
... وإذا رأى المنكر فلم ينكره، وهو يقوى عليه، فقد أحب أن يعصى الله، ومن أحب
أن يعصى الله، فقد بارز الله بالعداوة... (2).
وتترتب على ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر آثار وخيمة يوم القيامة، بحيث
لا تنفع الانسان سائر عباداته ان كان غافلا عن المواعظ الإلهية، فلم يقم بأدائها
أو الترويج لها واشاعتها بين الناس، قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: وقد
سبق إلى جنات عدن أقوام كانوا أكثر الناس صلاة وصياما، فإذا وصلوا إلى الباب
ردوهم عن الدخول، فقيل: بماذا ردوا؟ ألم يكونوا في دار الدنيا قد صلوا وصاموا
وحجوا؟ فإذا بالنداء من قبل الملك الاعلى جل وعلا: بلى قد كانوا ليس لأحد
أكثر منهم صياما ولا صلاة ولا حجا ولا اعتمارا، ولكنهم غفلوا عن الله مواعظه
(3).
ثالثا: سيرة المعصومين عليهم السلام:
صدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله تعالى، بنبذ عبادة
الأصنام، والاستسلام له في العبودية، والتعالي على مفاهيم وقيم الجاهلية، فقد

1) الكافي 5: 59.
2) معاني الأخبار: 253.
3) ارشاد القلوب: 13.
24

دعا صلى الله عليه وآله وسلم إلى المعروف الأكبر وهو الايمان بالله تعالى وتوحيده
، ونهى عن المنكر الأكبر وهو الكفر والشرك، فخاطب العقول ثم القلوب ثم الإرادة،
ليكون الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليكون السلوك والممارسات
الأخلاقية منسجمة مع ما أراده الله تعالى.
فدعا إلى البر والتقوى، وإلى الصدق والأمانة، وإلى العدل والرحمة، وحفظ العهد،
ومطابقة القول للفعل.
ونهى عن الشر والعصيان، وعن الكذب والخيانة، وعن الظلم والاعتداء، وعن الخداع
والغش، وعن سائر الموبقات.
ودعا إلى حسن العلاقات الاجتماعية ونهى عن التقاطع والتدابر.
وكان يدعو الكفار كما يدعو أهل الكتاب، وكان يذكر المسلمين بالفضائل والمكارم،
وينهاهم عن الرذائل وسوء الافعال، ولم يتوقف عن ذلك في جميع مراحل حياته صلى الله
عليه وآله وسلم، وفي جميع الظروف.. في مرحلة العهد المكي حينما كان مضطهدا
ومطاردا من قبل المشركين، وفي مرحلة العهد المدني بعد تأسيسه للدولة الاسلامية.
وتابع أمير المؤمنين عليه السلام سيرته صلى الله عليه وآله وسلم في القيام بأداء
مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع مراحل حياته، إلى أن وصل إلى
مرحلة المجابهة بالسيف على من ارتكبوا المنكر الأكبر وهو التمرد على الإمامة الحقة
، وأرادوا شق عصا المسلمين، فأجاب عليه السلام من اعترض عليه في مواجهته العسكرية
للبغاة في صفين:... ولقد أهمني هذا الامر وأسهرني، وضربت أنفه وعينيه، فلم
أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
25

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 2
إن الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون، لا
يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون علي من معالجة الأغلال
في جهنم (1).
ومن وصيته عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية:... وكن آخذ الناس بما تأمر به،
وأكف الناس عما تنهى عنه، وأمر بالمعروف تكن من أهله، فإن استتمام الأمور عند
الله تبارك وتعالى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (2).
وحينما وجد الإمام الحسين عليه السلام أن المنكر قد استحوذ على الحاكم وعلى
أجهزته الحكومية، وتفشى في الأمة، بتحريف المفاهيم وتغيير معالم الدين،
وارتكاب الموبقات بشكل علني دون مراعاة للحرمات والمقدسات، قام بأداء مسؤوليته في
أعلى مراتبها، وهي القيام بالسيف لأنه الأسلوب الأمثل للحفاظ على مفاهيم وقيم
الرسالة الاسلامية.
وقد أعلن عن أهداف ثورته في وصيته الخالدة:... واني لم أخرج أشرا ولا بطرا
ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب النجاح والصلاح في أمة جدي محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي
محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبي علي بن أبي طالب... (3).
وفي جميع مراحل تحركه كان يدعو إلى أداء الواجب في الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر، فقد خطب في جيش الحر بن يزيد الرياحي قائلا: أيها الناس إن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطانا جائرا

1) وقعة صفين: 474.
2) من لا يحضره الفقيه 4: 387 / 5834.
3) الفتوح 5: 33.
26

مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير ما عليه بفعل ولا قول كان
حقا على الله أن يدخله مدخله (1).
وكان بقية الأئمة عليهم السلام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مستخدمين مختلف
الأساليب في اصلاح الأمة وتغييرها، بنشر الأحاديث الشريفة عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وبنشر العلم، وبإقامة المناظرات مع التيارات المنحرفة،
وببناء الكتلة الصالحة لتوسيع دائرة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. وقد
تعرضوا لشتى ألوان الأذى والمضايقة والاعتقال ثم القتل الهادئ عن طريق السم،
لان حكام زمانهم لا يروق لهم أن يقوم أحد بمهمة الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر وان كانت بالقول فقط.
شروط الوجوب:
يختلف الناس فيما بينهم من حيث الطاقات والامكانيات البدنية والعقلية والروحية،
وفي ضوء ذلك يختلفون في مراتب التكليف والمسؤولية التي تتناسب طرديا مع الطاقات
والامكانيات.
ومن هنا فوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعين على القادرين على القيام
به وأدائه بالصورة التي تحقق الهدف المناط به، ومن شروط الوجوب:
أولا: العلم بالمعروف وبالمنكر: يجب الامر بالمعروف والنهي عن

1) الكامل في التاريخ 4: 48.
27

المنكر على العالم بهما، الذي يعرف مصاديقهما ومواردهما، وقادر على التشخيص
والتمييز بين الأقوال والافعال والممارسات السلوكية، ويتناسب الوجوب مع درجة
العلم والاطلاع، فوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون آكدا على الفقيه ثم
المتفقه في الدين.
سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب
هو على الأمة جميعا؟ فقال: لا، فقيل له: ولم؟ قال: إنما هو على القوي
المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا إلى أي من
أي يقول من الحق إلى الباطل، والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل قوله: (
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر) (1)، فهذا خاص غير عام.
كما قال الله عز وجل: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه
يعدلون) (2)، ولم يقل: على أمة موسى ولا على كل قومه، وهم يومئذ أمم
مختلفة... (3).
ثانيا: القدرة على التأثير: يجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على من له
القدرة على التأثير، بان يكون قوي النفس قوي الإرادة، قوي البيان، له اطلاع كامل
على مستويات الناس وطاقاتهم العقلية والنفسية، ويستطيع الصمود أمام العقبات
والتعقيدات التي تواجهه، وله قوة في شخصيته يستطيع من خلالها التأثير على الآخرين
، بالقول والفعل،

1) سورة آل عمران: 3 / 104.
2) سورة الأعراف 7 / 159.
3) الكافي 5: 59 - 60.
28

وبالايحاء والتلقين.
لذا نجد ان على رأس الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم الأنبياء والأوصياء
والأئمة والفقهاء، ومن له سلطة روحية أو سياسية أو له مكانة اجتماعية مرموقة.
ومن مصاديق القدرة هي القدرة البدنية في خصوص مرتبة استخدام القوة، فالمريض
والعاجز والضعيف لا يتعين عليه العمل المتوقف على القوة.
وعليه فالامر بالمعروف والنهي عن المنكر يجبان باللسان واليد (إذا تمكن المكلف من
ذلك) (1).
ثالثا: القطع بالتأثير أو احتماله: إذا نظرنا إلى طبيعة الامر بالمعروف والنهي
عن المنكر نجده تكليفا ليس بالهين ولا باليسير، لأنه يصطدم بشهوات الناس
ونزواتهم، ويصطدم بمصالح البعض ومنافعهم الذاتية الضيقة، ويصطدم بالغرور
والكبرياء اللذين تحملهما النفس الانسانية.
والناس يختلفون فيما بينهم تجاه المعروف والمنكر، فالبعض يبحث عن الاستقامة في
العقيدة والسلوك، فهو يتأثر بما يقال له وبما يؤمر به أو ينهى عنه، والبعض مكابر
لا يذعن للحجة وإن قطع بها، والبعض منغمس في الانحراف، ويبغض الاستقامة، والبعض
قد آنس بالانحراف العقائدي والسلوكي حتى أصبح جزءا من كيانه، يجد فيه تحقيقا
لمصالحه ورغباته ويرفض من يعارضها ويخالفها.

1) النهاية: 299.
29

ومن هنا يكون الوجوب مختصا بمن يقطع أو يحتمل تأثير أمره ونهيه على المقابل.
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر
مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم، وأما صاحب سوط أو سيف فلا (1).
فإذا وجد المكلف مؤمنا أو جاهلا يبحث عن الحقيقة فيجب عليه الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، أما المكابر الذي لا يروم الاستقامة في العقيدة والسلوك، فلا
يجب على المكلف ان يأمره وينهاه، ما دام غالقا لمنافذ الهداية في فكره وعاطفته
وسلوكه.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حديث: إن أفضل الجهاد كلمة عدل
عند إمام جائر ما معناه؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: هذا على أن يأمره بعد
معرفته وهو مع ذلك يقبل منه وإلا فلا (2).
وقد قامت سيرة المعصومين عليهم السلام على هذه القاعدة، فأمير المؤمنين عليه
السلام أكثر من نصحه لعثمان بن عفان، وكان يأمره بالمعروف وينهاه عن الممارسات
التي يمارسها مع المسلمين خلافا لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتعيينه
الولاة الجائرين والفاسقين، وكان يحذره من مروان وأمثاله، ولكنه حينما يئس من
اصلاح وتغيير ممارساته قال له: ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك (3).
رابعا: الامن من الضرر: إن مهمة الدعوة الاسلامية المتجسدة بالامر

1) الكافي 5: 60.
2) الكافي 5: 60.
3) الكامل في التاريخ 3: 165 - 166.
30

بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة شاقة تواجه أصنافا من الناس يختلفون في الاستجابة
، فمنهم من يتفاعل معها ليغير مفاهيمه وقيمه وممارساته في ضوء ما يؤمر به وينهى
عنه، ومنهم من تصده شهواته ونوازعه عنها، فيعرض عنها معاندا لا ينفتح قلبه
لدلائل الهدى، مصرا على انحرافه الفكري والعقائدي يقابل الآمر بالمعروف والناهي
عن المنكر بسخرية واستهزاء أو بالاعراض وعدم الاستماع.
ومنهم من يترقى به العناد والغرور والكبرياء إلى المواجهة العنيفة، ويعمل على
الحاق الأذى بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وقد يصل الأذى إلى مرحلة الجرح أو
التعويق أو القتل، ففي مثل هذه الحالة فان الانسان يسقط عنه وجوب الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، لأنه مشروط بالأمن من الضرر سواء على نفسه أو على غيره.
قال الإمام الصادق عليه السلام: والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على
من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه ولا على أصحابه (1).
وكتب الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام للمأمون حينما سأله أن يكتب له محض
الاسلام:... والامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إذا أمكن، ولم يكن
خيفة على النفس... (2).
والضرر المقصود يحدد من قبل المكلف نفسه بعد تشخيصه للمصلحة والمفسدة المترتبة
على قيامه بالتكليف أو عدمه، فيقدم أهون الضررين.

1) الخصال 2: 609.
2) عيون أخبار الرضا 2: 121، 125.
31

والضرر لا يتحدد بوقت من الأوقات، قال الشيخ الطوسي: - في ذكره لشروط الوجوب -:
(... وعلم أنه لا يؤدي إلى ضرر عليه ولا على أحد من المؤمنين لا في الحال ولا في
مستقبل الأوقات) (1).
شروط الترك:
شرع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لهداية الناس وارشادهم، وتغيير المحتوى
الداخلي للنفس البشرية وما تحمل من أفكار ومشاعر، لتكون حاكمة على الممارسات
العملية من سلوك صالح وأخلاق فاضلة وعلاقات حسنة.
والغاية منهما تخليص النفوس من ظلمات الأوهام والانحرافات العقائدية، وتحريرها من
ربقة الشهوات، لتنتصر على الهوى وتتغلب على الشهوة، عن طريق استحثاث الطاقة
الكامنة في كيان الانسان، وانماء القدرات الممكنة النماء.
كل ذلك يتم عن طريق الانذار والايقاظ بالحجة والبرهان والترغيب بالاستقامة والسمو
والتكامل، فإذا أغلق الانسان منافذ الهداية في كيانه، ورفض الاستماع أو التلقي
غرورا وكبرا، ولم يستجب للموعظة المراد منها تطهير القلب وتزكية النفس وتحسين
الأخلاق، أو آنس بواقعه العقائدي والسلوكي، أو كان جاهلا بما يصلحه جهلا مركبا
مطبقا على كيانه، فإذا لم توقظه موحيات الايمان وموجبات الهداية، ورفضت نفسه
الوضيعة السمو إلى الكمال، فان المواعظ والارشادات المصحوبة بعدم الاستجابة ستكون
إضاعة للوقت، وصرفا للجهد في غير محله.

1) النهاية: 299.
32

وفي هذه الحالة فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر سيكون مخيرا بين
الاستمرار في أداء مسؤوليته، وبين تركها من تحين الفرص المناسبة لها.
ويمكن تحديد شروط ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنقاط التالية:
أولا: تجذر الانحراف: إذا تجذر الانحراف وأصبح جزءا من كيان الانسان، ويئس
المكلف من اصلاحه وتغييره، فيجوز له ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر،
لأنه لا يغير من الواقع شيئا، بل قد يؤدي إلى نتائج سلبية على المكلف نفسه.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ائتمروا بالمعروف، وتناهوا عن المنكر
، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، واعجاب كل ذي رأي
برأيه، ورأيت أمرا لا يدان لك به، فعليك خويصة نفسك، فإن من ورائكم أيام الصبر
. الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر. للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون
بمثل عمله (1).
ثانيا: انحراف الأكابر: من طبيعة النفس البشرية أنها تذعن وتخضع للأكابر
والمتنفذين وتقتبس المفاهيم والقيم من الشخصيات البارزة في المجتمع، والمؤثرة فيه
، لامتلاكها خصائص التأثير الذاتية والعملية، كالملوك والعلماء ورؤساء القبائل
والوجودات الاجتماعية، فإذا انحرف هؤلاء انحرف المجتمع، وهذه حقيقة ثابتة في جميع
المجتمعات.

1) سنن ابن ماجة 2: 1331 / 4014.
33

ففي مثل هذه الحالة يتفشى الانحراف ويستشري ويصعب اصلاحه وتغييره، ولا يكون
للامر بالمعروف والنهي عن المنكر أي تأثير في العقول والنفوس.
وفي مثل هذا الظرف يكون الواجب على كل مؤمن عالم بالمعروف والمنكر أن يحافظ على
نفسه بأن يروضها بالعمل بالمعروف والترك للمنكر حتى لا يؤثر فيه الجو العام في
المجتمع، وأن يحافظ أيضا على أهله وذويه ومن يهمه أمره الذين ينصاعون لأوامره
ونواهيه، صونا لهم من الانحراف والانجراف.
ثالثا: وقوع الفتن: حينما تكون الأهواء حاكمة على الأفكار والمواقف دون الرجوع
إلى الأسس الثابتة للمنهج الاسلامي، وحينما تبتدع الاحكام المخالفة لكتاب الله
تعالى، ويتحكم التعصب بولاء الانسان والمجتمع بعيدا عن أسس الولاء التي حددتها
الشريعة الاسلامية، فان الفتن ستكون هي الظاهرة القائمة المتفشية في المجتمع
الاسلامي، قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع
، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالا، على غير
دين الله... (1).
وإذا وقعت الفتن فسيعيش المجتمع ظاهرة الاضطراب الفكري والنفسي والسلوكي بتبادل
النظرة السلبية، والموقف المتشنج، ويدخل في صراع دائم مستمر بتبادل الاتهامات
ودفعها، ويصبح النبز بالكفر والانحراف والفسق هو الحاكم على العلاقات دون الاستناد
إلى الأصول الواضحة للمنهج الاسلامي.

1) نهج البلاغة: 88، الخطبة / 50.
34

ويدفع التعصب أفراد المجتمع إلى اتخاذ المواقف تبعا للمتعصبين له، ويختلط الحق
بالباطل، وتلتبس المفاهيم والقيم على الناس، فيندفعون دون روية ودون بحث عن
الحقيقة أو رغبة في المعرفة، ويتخلل اندفاعهم جدال لا ينتهي إلى شئ، تصحبه
المواقف المتشنجة من اتهامات وتعيير وتحقير، فتعمى بصائر المتعصبين وتنغلق منافذ
الهدى في عقولهم ونفوسهم ومواقفهم، ففي مثل هذه الحالة لا تنفع معهم المواعظ
والارشادات والنصائح، ولا يدركون الخطر المحدق بهم، بل يحسبون انهم يحسنون صنعا
، فإذا أغلقوا قلوبهم وانفصلوا عن مصدر الاشعاع الفكري والسلوكي، فلا يجب على
المكلفين حينئذ القيام بدورهم في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم يرون
المجتمع يعيش في غبش الأوهام وضباب الأهواء، واضطراب الولاء القائم على أساس
التعصب للأشخاص.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ستكون فتن لا يستطيع المؤمن أن يغير
فيها بيد ولا لسان، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: وفيهم يومئذ مؤمنون،
قال: نعم.
قال عليه السلام: فينقص ذلك من ايمانهم شيئا؟.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا، الا كما ينقص القطر من الصفا، أنهم
يكرهونه بقلوبهم (1).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رأيت
الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا - وشبك بين أنامله - فالزم

1) مستدرك الوسائل 12: 19.
35

بيتك، وأملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بخاصة أمر نفسك، ودع
عنك أمر العامة (1).
والفتن المقصودة هي التي تقع بين أهل الضلال، وإلا فالذي يقع بين أهل الحق وأهل
الباطل لا يسمى فتنة بالمعنى الحقيقي، لان الموقف واضح لا شبهة فيه، ويستطيع
الانسان ان يشخص موقفه من الرجال ومن الوجودات ومن الاحداث، ويجب عليه أن يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر لارجاع المخالفين إلى المنهج السليم والموقف الصحيح.
المبحث الثاني
أهمية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
جاء الاسلام من أجل هداية المجتمع الانساني، وايصاله إلى قمة التكامل والسمو
والارتقاء، بتقرير المنهج الإلهي في واقع الحياة، وجعله الحاكم على أفكار الناس،
ومشاعرهم، ومواقفهم، لتتحول الأفكار والتصورات والمفاهيم إلى صور متجسدة في
الواقع، ذات معالم ومواقف منظورة ومحسوسة.
ولا تتحقق هذه الهداية بمجرد نزول المفاهيم والقيم على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ما لم يقم بتبليغها للناس ومتابعة تطبيقها وتجسيدها في الواقع، وخير
وسيلة للتطبيق العملي هو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذا جعل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بأمر من الله تعالى اثني عشر إماما عدلا للقرآن، وهم
القرآن

1) الفتح الكبير 1: 112.
36

القران الناطق الذي يقوم بمهمة التطبيق في الواقع، وفي جميع مجالات المنهج الإلهي
العقيدي والسلوكي، وفي جميع مجالات مقومات الشخصية الانسانية: الفكر والعاطفة
والسلوك.
فلأهمية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي هو بحاجة إلى من يتبناه ويقوم
به ليواصل المسيرة ويحقق البناء والاصلاح والتغيير الشامل، لم يترك رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم القرآن وحده بمفاهيمه وقيمه وتشريعاته المجملة والظاهرة
والباطنة - وهو المرشد الأول للمعروف والناهي عن المنكر - عرضة للأهواء والتفسير
بالرأي..، بل ترك بجانبه ثقلا آخر وهم أهل البيت عليهم السلام للنهوض بمهمة
البيان واستمرار أداء الرسالة، وتوجيه الأمة لصالح الأعمال وردعها عن منكر
الفعل والقول.
قال الإمام محمد الباقر عليه السلام: إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
سبيل الأنبياء ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب،
وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء، ويستقيم
الامر.. (1).
وتتناسب أهمية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تناسبا طرديا مع أهمية الأهداف
والغايات التي تتحقق من خلال القيام به، والتي يمكن اجمالها بما يلي:
أولا: نشر المفاهيم العقائدية والقيم التشريعية: بالامر بالمعروف والنهي عن
المنكر يهتدي الانسان إلى الفطرة السليمة، بالايمان بالله تعالى وتوحيده في
التصورات والمشاعر والمواقف، والايمان برسول الله

1) تهذيب الأحكام 6: 180.
37

الله صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء به، والايمان بإمامة أهل البيت عليهم
السلام، والايمان باليوم الآخر، قال أمير المؤمنين عليه السلام:... بعث فيهم
رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته،
ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول... ولم يخل الله سبحانه خلقه
من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة، أو محجة قائمة... إلى أن بعث
الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم... فهداهم به من الضلالة، وأنقذهم
بمكانه من الجهالة... (1).
وبرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهتدي الانسان إلى القيم التشريعية ويطلع
على أسسها وقواعدها، وبه يزاول الاحكام في واقعه السلوكي، وإلى ذلك أشار أمير
المؤمنين عليه السلام بقوله: إن الله سبحانه لم يخلقكم عبثا، ولم يترككم
سدى... أنزل عليكم الكتاب تبيانا لكل شئ، وعمر فيكم نبيه أزمانا، حتى
أكمل له ولكم - فيما أنزل من كتابه - دينه الذي رضي لنفسه، وأنهى إليكم - على
لسانه - محابه من الأعمال ومكارهه، ونواهيه وأوامره، وألقى إليكم المعذرة،
واتخذ عليكم الحجة، وقدم إليكم بالوعيد، وأنذركم بين يدي عذاب شديد،
فاستدركوا بقية أيامكم... (2).
وبالعقيدة والشريعة الإلهية تصل الأمة إلى التكامل والارتقاء والخير والسعادة،
وهي متوقفة على أداء الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر،
وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم
على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في

1) نهج البلاغة: 43 - 44، الخطبة / 1.
2) نهج البلاغة: 117، الخطبة / 86.
38

السماء (1).
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتم القضاء على البدع وتحجيم الانحراف
العقائدي والتشريعي، وتثبيت الايمان في القلوب.
ثانيا: اصلاح الأخلاق: بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر تتهيأ الأجواء
الروحية والنفسية للانتصار على الأهواء والشهوات، والتعالي على أثقال المطامع،
لأنه يتتبع دخائل النفوس، وينفذ إليها بالكلمة الطيبة والقول السديد.
فإن النفوس تتلقى وتستجيب لمن يريد تربيتها واصلاحها، وإنها لتتطلع إلى أفق
أرحب واهتمامات أرفع، وتتوجه إلى الفضائل والمكارم وحسن السيرة إذا ما تم تعاهدها
بالمعروف، وإبعادها عن ساحة المنكر.
والامر بالمعروف يدفع إلى العمل الصالح بعد التعالي على جميع أغلال الانحراف
والفساد، فيصبح الانحراف والفساد فلتة عارضة وحادثة منقطعة، تعود إلى الأصل وهو
الاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى.
عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من الناس ناسا مفاتيح
للخير مغاليق للشر، وإن من الناس ناسا مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل
الله تعالى مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه.
ويعني صلى الله عليه وآله وسلم بذلك: ان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو

1) المقنعة: 808.
39

مفتاح للخير ومغلاق للشر (1).
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يساعد على العودة إلى الاستقامة بعد الانحراف،
وإلى الامل بعد اليأس، فبه يتم الحث على التوبة والاستغفار، واستثمار الفرص
الجديدة لاصلاح النفس وتهذيب الأخلاق.
ثالثا: نصرة المظلومين وردع الظالمين: شرع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
للحفاظ على سلامة العلاقات وعلى الحفاظ على الحرمات، بالدعوة إلى العدل والرحمة
والنهي عن الجور والظلم، واعطاء كل ذي حق حقه دون اعتداء أو اضطهاد أو استغلال،
فإذا وجد الظالم والجائر من يردعه بقول أو بفعل، فإنه سيخفف من ممارساته
العدوانية أو يتخلى عنها، وسيجد الناس إن لهم سندا يدافع عن حقوقهم، فيعيشون
الامن والطمأنينة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يكونن أفضل ما نلت من دنياك بلوغ لذة
وشفاء غيظ، وليكن إحياء حق وإماتة باطل (2).
وقال عليه السلام: رحم الله امرءا أحيى حقا وأمات باطلا وأدحض الجور وأقام
العدل (3).
وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلمة العدل عند السلطان الجائر من أفضل
الجهاد، لأنها وسيلة لردعه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الجهاد كلمة
عدل عند

1) تنبيه الغافلين: 94.
2) تصنيف غرر الحكم: 69.
3) تصنيف غرر الحكم: 69.
40

سلطان جائر (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى
إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله (2).
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر شرع لمصلحة العموم، وبه ردع للسفهاء لكي لا
يتمادوا في سفاهتهم، قال أمير المؤمنين عليه السلام:... والامر بالمعروف
مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعا للسفهاء (3).
رابعا: الحفاظ على عزة المسلمين: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يقرر مدى
تماسك المسلمين وتعاونهم على تكاليف الايمان، ويجعلهم يشعرون جميعا شعورا
واحدا بضرورة القيام بأعباء الأمانة المناطة بهم، ويثبت بعضهم بعضا
فلا يتخاذلون، ويقوي بعضهم بعضا فلا يتراجعون أمام المشاق والعقبات، فيتآزرون على
ثقل المسؤولية، ومشقة الطريق، منطلقين نحو الهدف السامي وراء وجودهم وكيانهم،
ويتناصرون لمواجهة الاخطار والتحديات المحدقة بهم، ويستصغرون كل قوة، وكل عقبة،
وكل كيد، وهم يشعرون بأن الله تعالى معهم إن أدوا مسؤوليتهم في الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: من أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، من نهى عن
المنكر أرغم أنوف الفاسقين (4).

1) سنن ابن ماجة 2: 1329 / 4011.
2) الترغيب والترهيب 3: 225.
3) نهج البلاغة: 512، الحكمة / 252.
4) تصنيف غرر الحكم: 332.
41

وبالتعاون على أداء المسؤولية تتحقق العزة للمؤمنين، بأن يكونوا أقوياء متماسكين
متآزرين، مرتبطين بمصدر القوة والعزة وهو الله تعالى.
وإذا تخلوا عن هذه المسؤولية، فإنهم سيعيشون في ذل مستسلمين لغيرهم لا يقوون
على النهوض، ويفقدون مصدر الاسناد كأمر طبيعي لمخالفة أوامره تعالى.
قال الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: لتأمرن بالمعروف، ولتنهن عن
المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم (1).
ولأهمية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مدح الله تعالى في كتابه العزيز
الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر - كما تقدم - وجعله سببا للفلاح والصلاح.
ولأهميته أكد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته على فضائله، وعلى
فضائل القائمين به، وفيما يلي نستعرض جملة من هذه الفضائل:
فضائل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الاسلام ليس مجرد تفكير وتدبر، وليس مجرد خشوع وتذلل لله تعالى، وليس مجرد
التوجه إلى الله تعالى للفوز بالجنان والنجاة من النيران، بل هو - مع ذلك - العمل
الايجابي الذي ينشأ عن هذا التفكير وعن هذا الخشوع وهذا التوجه، ليكون كل ذلك
واقعا حركيا ملموسا، ولا يتحقق ذلك إلا بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر،
الذي يهيئ الأجواء لتحويل النظرية والمفاهيم العقائدية والقيم التشريعية والسلوكية

1) الكافي 5: 56.
42

إلى واقع.
ومن هنا ففضائل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مساوقة للدور البارز والايجابي
المهم الذي يقوم به.
ففي وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام قال:
يا علي لان يهدي الله على يديك نسمة خير مما طلعت عليه الشمس (1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل الأعمال بعد الصلاة المفروضة، والزكاة
الواجبة، وحجة الاسلام، وصوم شهر رمضان: الجهاد في سبيل الله، والدعاء إلى دين
الله، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر (2).
وبنحو ذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: الامر بالمعروف أفضل أعمال الخلق
(3).
وبما ان للامر بالمعروف والنهي عن المنكر دورا كبيرا في خلق الأجواء لإقامة
الفرائض والسنن بما في ذلك الجهاد، فقد وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بالقول:
... وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله، عند الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر، إلا كنفثة في بحر لجي، وإن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لا
يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كله كلمة عدل عند امام
جائر (4).
ومن أجل اثبات فضيلته نرى الإمام الحسين عليه السلام يتوجه إلى العراق تاركا

1) مجمع البيان في تفسير القرآن 3: 75.
2) مسند الامام زيد: 314.
3) تصنيف غرر الحكم: 331.
4) نهج البلاغة: 542، الحكمة / 374.
43

مراسيم الحج، فيخرج في يوم التروية، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وبما ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد أعمدة الاسلام، جعله رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم مساوقا للصلاة، فقال: أمرك بالمعروف، ونهيك عن
المنكر صلاة (1).
ومن الفضائل أن جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صدقة، فعن أبي ذر رضي
الله عنه قال: إن أناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور - يعني المال
الكثير - بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم
.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن
بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة،
وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما تصدق مؤمن بصدقة أحب إلى الله من موعظة
يعظ بها قوما، يتفرقون وقد نفعهم الله بها، وهي أفضل من عبادة سنة (3).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما أهدى المسلم لأخيه هدية أفضل من كلمة حكمة،
تزيده هدى، أو ترده عن ردى (4).
وتتجسد فضائل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أن جعله الله تعالى

1) الترغيب والترهيب 3: 224.
2) الترغيب والترهيب 2: 224.
3) ارشاد القلوب: 13.
4) ارشاد القلوب: 13.
44

بابا إلى الرحمة والفلاح، وجعل تركه سببا لنزول العقاب والعذاب في دار الدنيا،
وفي دار الآخرة.
فضائل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر:
تقدمت الآيات القرآنية الدالة على فضل الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر - ضمن
أدلة الوجوب - فقد وصفتهم بالخيرية والفلاح، والصلاح، وأكد القرآن الكريم على أن
لهم البشرى والرحمة وحسن الثواب.
والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر خليفة الله ورسوله وكتابه كما وصفه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهو خليفة الله في
أرضه، وخليفة رسول الله، وخليفة كتابه (1).
ولا أعظم من مقام الخلافة بالنسبة للانسان، فهو محور التكريم والرحمة.
وهو خير الناس لقيامه بحمل الدعوة والانطلاق بها في واقع الحياة من أجل تقريرها
وتحكيمها في العقول والقلوب والإرادة.
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وهو على المنبر - فقال: يا رسول
الله من خير الناس؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: خير الناس أتقاهم للرب عز
وجل، وأوصلهم للرحم، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر (2).
وذكر عنده صلى الله عليه وآله وسلم رجلان، كان أحدهما يصلي المكتوبة، ويجلس

1) الفردوس بمأثور الخطاب 3: 586.
2) الترغيب والترهيب 3: 230.
45

فيعلم الناس الخير، وكان الآخر يصوم النهار، ويقوم الليل، فقال صلى الله عليه
وآله وسلم: فضل الأول على الثاني كفضلي على الأنام... (1).
وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآمر بالمعروف كفاعل المعروف في الاجر
فقال: الآمر بالمعروف كفاعله (2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: من أمر بمعروف أو نهى عن منكر، أو دل على خير
، أو أشار به فهو شريك، ومن أمر بسوء، أو دل عليه، أو أشار به، فهو شريك (3)
.
وللناهين عن المنكر أجر الأوائل كعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والمقداد،
وأبي ذر الغفاري، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من أمتي قوما
يعطون مثل أجور أولهم ينكرون المنكر (4).
وجعل أمير المؤمنين عليه السلام من يقوم بهذه المهمة في عداد الأتقياء الذين ذكرهم
عليه السلام في إحدى كلماته وعدد صفاتهم بقوله:... يأمر بالمعروف وينهى عن
المنكر، لا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق (5).
وللآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر منازل ومقامات عالية في يوم القيامة تجعلهم
موضع غبطة من قبل الأنبياء والشهداء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ألا أخبركم بأقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء؟ يغبطهم يوم

1) ارشاد القلوب: 13.
2) كنز العمال 3: 73.
3) الخصال 1: 138.
4) مجمع الزوائد 7: 271.
5) مكارم الأخلاق: 477.
46

القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله، على منابر من نور يعرفون.
قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الذين يحببون عباد
الله إلى الله، ويحببون الله إلى عباده، ويمشون على الأرض نصحاء.
ثم وضح صلى الله عليه وآله وسلم كيفية تحبيب عباد الله إلى الله فقال:
يأمرونهم بما يحب الله، وينهونهم عما يكره الله، فإذا أطاعوهم أحبهم الله عز
وجل (1).
وجعل صلى الله عليه وآله وسلم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بمنزلة الشهيد
فقال صلى الله عليه وآله وسلم:... والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر شهيد
(2).

1) كنز العمال 3: 685.
2) مسند الامام زيد: 316.
47

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 3
الفصل الثاني
وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومراحلهما
المبحث الأول
وسائل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
وكما ذكرنا غير مرة فإن مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية عظيمة
وشاقة لأنها تصطدم بالأهواء والشهوات التي أصبحت جزءا من كيان الكثير من الناس،
وتصطدم بالاعتزاز بالقيم السائدة الموروثة والطارئة وما يتلبس بها من مصالح مادية
ونفعية، وتصطدم مع أعداء الاسلام الذين يرفضون الهداية ويكيدون لمن حمل لواءها،
وتصطدم مع ما يحمله الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من رغبات في حب الراحة،
والخلود إلى الرخاء، لذا فالأسلوب الأفضل لانجاح هذه المسؤولية هو تكوين الكتلة
الصالحة كما يعبر عنها القرآن الكريم: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى
الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
49

وأولئك هم المفلحون) (1).
فالمسؤولية بحاجة إلى تجميع الطاقات وتكثيف الجهود، وتنسيق الخطط والبرامج،
وتنظيم الأعمال، وتوزيع المسؤوليات، ولا يتم ذلك إلا عبر تكوين الأمة الآمرة
بالمعروف والناهية عن المنكر.
وبتكوين هذه الأمة أو الجماعة، التي ينبغي أن تكون لافرادها الخبرة بأحوال
المجتمع المراد اصلاحه وتغييره، من حيث الأفكار والعادات والتقاليد، ومن حيث
الاطلاع على الأشخاص والوجودات المؤثرة في حركة المجتمع، وعلى الحالة النفسية التي
يعيشها المجتمع إزاء القضايا والاحداث.
وبهذه الخبرة يتم اختيار الوسائل المنسجمة مع الأوضاع، ومع الأشخاص، فيتخذ كل
فرد من أفراد الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر الوسيلة المناسبة
المنسجمة مع طاقاته وامكانياته، ومع المستويات المراد اصلاحها وتغييرها، ويغير
الوسائل من ظرف لآخر، ومن محيط لآخر، أو ينوع الوسائل مع المراد اصلاحهم وتغييرهم
، تبعا لاختلاف الأمزجة، واختلاف مستويات التلقي والقبول، واختلاف الأجواء.
ولهذا تعددت وسائل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهم هذه الوسائل:
أولا: أسلوب الخطاب:
إن آيات القرآن الكريم والسنة النبوية حافلة بالخطابات، والبيانات التي تخاطب
العقول، وتخاطب المشاعر، وتخاطب الإرادة، لتنفتح أمام

1) سورة آل عمران: 3 / 104.
50

الحقائق وأنوار الهداية، وتستجيش عناصر الخير والصلاح، وتطارد عناصر الشر
والانحراف، وتستثير حالة الحذر من مزالق الشيطان والنفس الامارة بالسوء.
ففي بداية الدعوة الاسلامية جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشيرته
الأقربين وكانوا يومئذ أربعين رجلا وقال: يا بني عبد المطلب، اني والله ما
أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا
والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه... (1).
ثم صدع بأمر الدعوة، وكان يخاطب المشركين في أماكن تجمعهم، وفي المسجد الحرام،
يدعوهم إلى التوحيد وإلى اصلاح نفوسهم وأعمالهم.
وكان يخاطب القبائل في منازلهم، ونواديهم التي يجتمعون فيها، وهكذا استمر في
استخدام هذه الوسيلة بعد قيام الدولة الاسلامية.
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعلمهم موارد المعروف وموارد المنكر، ثم يحثهم
على الالتزام بالمعروف، والانتهاء عن المنكر، ويتابعهم في سيرتهم، ويستطلع قربهم
وبعدهم عما دعاهم إليه.
وكان للمنبر دور في تهيئة الأجواء لممارسة الخطابات النبوية، ولا زال إلى يومنا
هذا.
واستمر أهل البيت عليهم السلام على هذا النهج في استخدام الخطاب لتعليم الناس
وارشادهم وحثهم على تبني المفاهيم السليمة وممارسة الأعمال

1) تاريخ الطبري 2: 319.
51

الصالحة.
والخطاب أهم وسيلة لتحريك العقل الجمعي وتوجيهه الوجهة الصالحة، وبه يتم اللقاء
بأكبر عدد من الناس.
ويمكن عن طريقه ممارسة بقية الوسائل الاصلاحية الأخرى، فهو شامل لها جميعا
ومتنوعا بتنوعها.
ثانيا: القصص:
القصص بطبيعتها تشد المستمع إليها وتجعله متعلقا بسمعه ووجدانه بفصولها، متتبعا
لأحداثها وتسلسلها المنتظم، وتجعله دائم التأمل في مفاهيمها ومعانيها، والتأثر
بأبطالها وشخصياتها، وتبقى عالقة في ذهنه ووجدانه، لسهولة حفظها ونقلها.
وقد حفلت الآيات القرآنية بأحسن القصص منذ النشأة الأولى للبشرية، وتطرقت إلى قصص
الأنبياء والصالحين وخصومهم وأعدائهم، وإلى مواقفهم وممارساتهم العملية، وما
قدموه للبشرية من أعمال في طريق هدايتها.
وللقصة دور كبير في تحريك العقول للتفكر، والوصول إلى الحقيقة وتجسيدها في
الواقع، قال تعالى: (... فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (1).
ولكل نبي ورسول قصصا في مسيرته إلى الله تعالى، لها دور في ارشاد الناس
واصلاحهم، لما فيها من مفاهيم وقيم متنوعة في جميع مجالات

1) سورة الأعراف: 7 / 176.
52

الحياة الفردية والاجتماعية، وفي جميع مجالات النفس الانسانية في أفكارها وعواطفها
وارادتها.
ولو تابعنا قصة يوسف عليه السلام - مثلا - لوجدناها حياة واقعية كاملة، ابتداء
بحسد إخوانه له، لتفضيل أبيه له عليهم، وتحول الحسد إلى حقد ثم تآمر على يوسف،
ثم الكذب على أبيهم، وإلقائه في البئر. فيتوجه يوسف - وهو في هذه الحال - بكل
كيانه إلى الله تعالى، فينقذه مما هو فيه، ويعيش الغربة والفراق صابرا، ثم
تتسلسل القصة وتصل إلى رفض الانسياق للشهوة، والاعتصام من الانحراف، وتحمل السجن
، وفي داخل السجن يبقى متعلقا بالله تعالى طالبا منه العون، ثم تنفتح له الحياة
فيصبح في مقام حكومي عال، ويعفو عن إخوانه ويجمع الله تعالى شمله مع والديه.
وهنالك قصص من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام في
الاخلاص لله تعالى، والصبر على المصائب، والعمل من أجل المصلحة الاسلامية الكبرى
، وحسن الخلق مع الموالين والمخالفين، وهي بنفسها أمر بمعروف ونهي عن منكر.
ثالثا: الأمثال:
استخدم القرآن الكريم ضرب الأمثال كوسيلة من وسائل الدعوة إلى الهداية وإلى
الاستقامة، والحث على الالتزام بأوامر الله ونواهيه، قال تعالى: (... ويضرب
الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) (1).
فقد مثل القرآن الكريم الذين اتخذوا من دون الله أولياء في عقيدتهم

1) سورة إبراهيم: 14 / 25.
53

ومنهجهم في الحياة (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت
لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) (1).
وضرب الله تعالى مثلا للموحدين لله تعالى ولغير الموحدين التائهين في التوجيهات
المتناقضة (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا
سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون)
(2).
وضرب الله مثلا في عبد أتاه الله الآيات فانسلخ منها واستسلم للشيطان: (ولو
شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك
مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا...) (3).
ومثل القرآن الكريم العلماء الذين لم يجسدوا علومهم في سلوكهم العملي بالحمار
يحمل أسفارا: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل
الحمار يحمل أسفارا...) (4).
والقرآن الكريم ملئ بالأمثال، وكذا السيرة النبوية وسيرة أهل البيت عليهم
السلام.
وضرب الأمثال يقرب المعنى إلى الأذهان ويجعله متفاعلا في الضمير والوجدان
البشري، وهو سهل الحفظ والنقل، وله تأثير محسوس على جميع مقومات الشخصية، لذا
استخدم كوسيلة من وسائل الامر

1) سورة العنكبوت: 29 / 41.
2) سورة الزمر: 39 / 29.
3) سورة الأعراف: 7 / 176.
4) سورة الجمعة: 62 / 5.
54

بالمعروف والنهي عن المنكر.
رابعا: العبرة والموعظة:
المنهج الاسلامي يتخذ من العبرة والموعظة مادة تنبيه وتوجيه وتنوير للعقل والقلب
، تستلخص منها المفاهيم والقيم الكامنة وراء المواقف والحوادث التاريخية المتسلسلة
، فهو يستحضرها ليعمقها في أغوار النفس الانسانية.
وبالعبرة والموعظة يعي الانسان مداولة الأيام، وتعاقب الشدة والرخاء، وأسباب
التقدم والتأخر للمجتمعات والحضارات وهي تربية للنفوس واعداد لها لشق طريقها متوجهة
إلى الله تعالى.
وبالعبرة والموعظة يرتدع الانسان عن الانحراف والرذيلة وانتهاك المقدسات، وينطلق
لاصلاح نفسه ومجتمعه، حينما يرى مسيرة الأمم السابقة، فقد أغرق الله تعالى قوم
نوح ونجى المؤمنين، وعذب قوم لوط وأهلكهم، وأهلك ملوكا واستخلف آخرين.
ومن مظاهر الموعظة التذكير بالموت والهلاك، والتذكير بما يصيب الأمم المتمردة
على المنهج الإلهي من قلق واضطراب عقلي ونفسي ومن نقص في الثمرات والأنفس.
والقرآن الكريم والسنة النبوية وامتدادها في أهل البيت عليهم السلام مليئة
بالعبر والمواعظ، وقد ورد في نهج البلاغة كثير منها فكان عليه السلام يدعو
للاعتبار بالأنبياء والصالحين، وبالأقوام السالفة، ويحذر المسلمين مما أصاب
الأقوام المتمردة على طول التاريخ.
55

خامسا: التمثيل العملي:
التمثيل العملي يوصل المفاهيم والأفكار إلى العقول أو يقربها إليها، ويوصل القيم
كذلك، والناس يتفاعلون مع المظاهر الحسية أكثر من المفاهيم النظرية، إضافة إلى
ذلك فان التمثيل العملي يستشري في المجتمع أكثر فأكثر عن طريق الانتقال من لسان إلى
لسان، ومن محفل لآخر.
ومن الأمثلة على ذلك قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، فحينما كسر الأصنام وضع
المعول في رقبة صنم كبير، فلما جاء المشركون واجتمع الناس معهم: (قالوا أأنت
فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا
فاسألوهم إن كانوا ينطقون * فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم
أنتم الظالمون) (1).
وبهذه العملية استطاع إبراهيم عليه السلام ان يشككهم في معتقداتهم، حينما أيقنوا
أن الأصنام لا تنطق ولا تضر ولا تنفع.
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل
بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء
ما بها من حطب، قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه
، بعضه على بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا تجتمع الذنوب، ثم
قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شئ طالبا، ألا وإن طالبها يكتب
ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين (2).

1) سورة الأنبياء: 21 / 62 - 64.
2) الكافي 2: 288.
56

وقد يدخل الفن والتمثيل المسرحي والسينمائي في هذه الوسيلة، لذا نجد ان أعداء
الاسلام استخدموها للتشكيك في العقيدة الاسلامية وإشاعة الفساد الأخلاقي في
مجتمعاتنا.
سادسا: الحوار:
الحوار من الوسائل المفضلة في أداء مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر،
فبه يتم إيقاظ العقول والقلوب، وتحريك العواطف والمشاعر، وخصوصا لمن يبحث عن
الحقيقة، فهو يساعد على معرفة مستويات المشاركين في الحوار، وما يطرحونه من شبهات
فكرية وسلوكية، فيطالب المحاور غيره بالحجة والدليل، ويعلمه في الوقت نفسه
طريقة الاستدلال الصحيح، ويأخذ عليه طريق الادعاء بلا بينة أو ببينة مضطربة.
وينبغي أن يكون الحوار في مفهوم أو موقف واقعي، لا في الألفاظ والتعاريف، وان
يبدأ الحوار من القضايا المشتركة ثم إلى القضايا المختلف فيها.
والحوار وسيلة استخدمها جميع الأنبياء والمرسلين في مسيرتهم، كحوار نوح عليه
السلام مع قومه، وإبراهيم عليه السلام مع النمرود، وموسى عليه السلام مع فرعون،
وعيسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع
المشركين من قريش ومن أهل الكتاب، ومع المسلمين أنفسهم، وأهل البيت عليهم السلام
مع حكام زمانهم ومع أئمة المذاهب الأخرى.
وقد دعا القرآن الكريم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحوار مع الآخرين
بطريقة
57

(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي
هي أحسن) (1)
والحوار يختلف حسب اختلاف المعتقدات، فهو يتركز على المفاهيم والأفكار مع غير
المسلمين، وعلى إثارة العواطف مع المسلمين الذين آمنوا بالاسلام فكرا وعاطفة
وسلوكا.
فقد كان حوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين حول التوحيد والنبوة
واليوم الآخر، أما حواره مع المسلمين فقد كان حول الممارسات العملية بإثارة
عواطفهم اتجاه الأفكار والمفاهيم الاسلامية لتجسيدها في الواقع العملي، فحينما
وزع صلى الله عليه وآله وسلم الأموال على المؤلفة قلوبهم، اعترض الأنصار وكثر
الكلام، فحاورهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: أما ترضون أن يذهب
الناس بالأموال، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم... لولا الهجرة لكنت امرأ من
الأنصار...، فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ربا ورسوله
قسما (2).
سابعا: الاقتداء:
من الثوابت في حركة الناس أنهم يقتدون بمن له القدرة على التأثير على عقولهم
وقلوبهم وإراداتهم، وأصحاب القدرة هم الشخصيات التي يحترمهم الناس، ويكرمونهم،
ويبجلونهم، وهم الطبقة العليا في المجتمع، كالرؤساء والقادة وجميع من يتصدر
المناصب الحساسة السياسية والدينية والاجتماعية.

1) سورة النحل: 16 / 125.
2) صحيح البخاري 4: 37 باب مناقب الأنصار.
58

والاقتداء بالأسلاف أكثر من الاقتداء بالطبقة العليا، لان الناس يتأثرون
بالتراث الفكري والسلوكي لأسلافهم.
وإذا كانت الشخصية المؤثرة تتصف بصفات فريدة ونادرة فإنها تساعد على تشبه الناس
بها في جميع المقومات إلى أن يصل الامر إلى التشبه بها في المظاهر الخارجية
كاللباس وطريقة العيش.
ويمكن للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقوم بواجبه من خلال دعوته الصامتة
ليقتدي به المجتمع في أقواله وأفعاله، إن كان يملك الموقع الذي يؤهله للتأثير.
فحينما يجد أفراد المجتمع القدوة الصالحة فإنهم يقتبسون منه ما يمارسه من أعمال
وأفعال، ويتشبهون به، ويحاكونه في سيرته ليصبح الاقتباس والتشبه والمحاكاة
تقليدا، في علاقته بالله تعالى، وفي ارتباطه بالقرآن وولائه لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، وفي زهده وتقواه وتواضعه وصدقه وايثاره.
قال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: من نصب نفسه للناس إماما، فعليه أن
يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه (1).
وكلما ازداد عدد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حتى إذا كانوا أمة
وجماعة، فإن الاقتداء بهم سيكون آكد وأشد.
وخير أسلوب لتعميق الاقتداء هو الترويج المتزايد والمستمر لسيرة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام والسلف الصالح من أتباعهم.

1) شرح نهج البلاغة 18: 220.
59

المبحث الثاني
مراحل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
المرحلية سنة تاريخية أودعها الله تعالى في الكون والحياة والمجتمع، فكل أمر
وظاهرة لا تتم إلا عن طريق المراحل، والتدرج في النشوء، والتكوين، والترعرع،
والاستمرار في الوجود باتجاه السمو والارتقاء.
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر يخضع لهذه السنة، فقد قام بأدائه الأنبياء
والمرسلون على مراحل من حيث اللين والشدة، والاندفاع والانكماش، والأساليب
والوسائل.
وتختلف مظاهر المرحلية باختلاف الظروف التي يعيشها المجتمع من حيث درجات القرب
والبعد عن المفاهيم والقيم الاسلامية وباختلاف الامكانيات والطاقات التي تملكها
الأمة والجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، وباختلاف المؤهلات التي
يتصف بها المنضوون تحت لوائها، وطبيعة الانحراف الذي تواجهه، وخصائص المخالفين
والمعارضين - للامر بالمعروف والنهي عن المنكر - كما ونوعا، إضافة إلى الزمن
المستغرق في أداء التكليف للوصول إلى الهدف.
وسنستعرض مراحل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن مجموعتين هما:
أولا: المراحل الوقائية:
ويتم العمل بها ابتداء، بدعوة غير المسلمين إلى الاسلام، أو دعوة المسلمين إلى
التمسك بما آمنوا به من مفاهيم وقيم، ومن خلالها يتم
60

تقرير مبادئ الاسلام في واقع الحياة بصورة عملية منظورة ومحسوسة عن طريق:
1 - تفنيد أسس المفاهيم والعقائد الجاهلية: إن غريزة التدين من الغرائز
المشتركة بين جميع الأجناس البشرية، وان الاهتمام بمعنى الاله وبما فوق الطبيعة
هو (إحدى النزعات العالمية الخالدة للانسانية) (1).
وتختلف مظاهر هذا التدين من انسان إلى آخر ومن مجتمع لآخر. ومن يؤمن بالخالق
بالكيفية التي ورثها أو اقتبسها، فإنه يشعر بالانتماء، فيكون عقله وقلبه مشدودين
لهذا الايمان وان كان خاطئا، ولهذا يصعب ابعاده عن إيمانه في الوهلة الأولى،
وهو بحاجة إلى تفنيد تصوراته الخاطئة، ومتبنياته العقائدية الواهية، عن طريق
الأدلة والبراهين والحجج، وتبيان نقاط الضعف في الأسس التي تقوم عليها، عن طريق
اللفتات والاضاءات والاثارات التي تخاطب العقل لتوقظه.
وقد كانت سيرة الأنبياء والمرسلين والأئمة والصالحين قائمة على أساس تفنيد أسس
المفاهيم والعقائد الباطلة، كالشرك بالله تعالى، والايمان بالأوهام والخرافات،
وبالوجودات الوهمية المتحكمة في الكون. فإذا ثبت بطلانها، فإن الانسان سيتخلى
عنها ان كان طالبا للحقيقة.
2 - الحيلولة بين الناس ومعتقداتهم الباطلة: الاستئناس بالمعتقدات أمر طبيعي في
داخل الشخصية الانسانية، حتى إن عواطف الانسان وأحاسيسه كلها تدور حول محور
تلك المعتقدات التي يتبناها، وبذلك

1) الدين / محمد عبد الله دراز: 82، دار القلم - الكويت 1390 ه‍، عن: معجم لاروس
للقرن العشرين.
61

يتم الاستقرار داخل النفس بوحدة الأفكار والعواطف والممارسات.
وتزداد الألفة والانس بمرور الوقت، وخصوصا إذا أصبح الامر جزءا من التراث
ومن معتقدات الأسلاف.
قال تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل
نتبع ما ألفينا عليه آباءنا...) (1).
وتزداد كلما كان المتبني لها من الشخصيات المؤثرة في نفوس الناس، كالرؤساء
والقادة والابطال، وتزداد أيضا كلما وجد الانسان أن جمهورا غفيرا من الناس
يتبنى نفس معتقداته تأثرا بالعقل الجمعي.
وإذا أطبق الانس على عاطفته، فإنه سيغلق منافذ الهداية، وفي هذه الحالة فان
المرحلة الثانية لا بد أن تنحصر بكسر هذا الانس، وتحطيم الأواصر المألوفة بين
الانسان ومعتقداته الباطلة.
ويتم كسر الألفة والانس عن طريق استخدام وسائل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
- التي تقدمت - والعمل على ابعاد الانسان عن المحيط الذي ألفه، بإحاطته بمجموعة
من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ليتأثر بما يسمى بالعقل الجمعي المحيط به
.
فإذا آمن بخطأ معتقداته السابقة، فإن كسر الألفة والانس بها سيكون أسهل.
3 - تحطيم الحواجز النفسية بين الناس والعقيدة الاسلامية: حينما يؤمن الانسان
بعقيدة جاهلية أو منحرفة ويأنس إليها ويألفها، فإن ذلك يؤدي إلى أن تشكل هذه
العقيدة حاجزا نفسيا بينه وبين غيرها، وهو أمر

1) سورة البقرة: 2 / 170.
62

طبيعي، خاصة إذا كانت تحقق رغباته وشهواته.
فعلى المكلف بتحمل مسؤولية الهداية أن يحطم هذه الحواجز النفسية عن طريق التدرج
في الحجة والبرهان، والتدرج في التلقين، وزرع الايمان في قلب ذلك الانسان الذي
يراد هدايته، عن طريق الشواهد الحسية، ثم تبيان مظاهر التوحيد، وتحريك العقل
للايمان بان لطف الله تعالى يتجسد ببعثة الأنبياء، ليؤمن بالنبي الخاتم صلى الله
عليه وآله وسلم، إيمانا حقيقيا من حيث العصمة والتسديد الإلهي، ثم يتم التدرج
في اقناعه بضرورة الإمامة في كل زمان، مصحوبا كل ذلك بتركيز البعث والنشور
والايمان باليوم الآخر، وبالتدريج تتحطم الحواجز النفسية بينه وبين العقيدة
الاسلامية، فيتقبل ما يقال له بأسلوب شيق وجذاب.
وخير أسلوب على هذا التحطيم هو أسلوب الترغيب والترهيب بالجنة والنار، وبابراز
نماذج من الشخصيات التي سعدت واستقرت نفسيا، لايمانها بالله تعالى وبالعقيدة
الاسلامية.
4 - إبعاد الناس عن السلوك الجاهلي: السلوك تتحكم به الأفكار والعواطف، فإذا آمن
الانسان بخطأ أفكاره ومعتقداته، وانكسرت الألفة معها، وتحطمت الحواجز النفسية
بينه وبين العقيدة السليمة، عندها يسهل إبعاده عن السلوك الجاهلي، لأنه سيتبع
ما تمليه عليه عقيدته الجديدة وعواطفه اتجاهها. وقد حفلت الآيات القرآنية
والأحاديث الشريفة بالأوامر والنواهي الهادية للانسان في سلوكه وممارساته العملية
، فقد بينت الآثار السلبية للسلوك الجاهلي كالكذب والغيبة والبهتان والتنابز
بالألقاب، وبينت مضار الخمر والزنا، ومضار التقاطع والتدابر، ثم زرعت الخوف من
العقاب الإلهي في الدنيا والآخرة في نفوس الناس، وقصت
63

عليهم قصص الغابرين الذين تعرضوا له.
وأبرز القرآن الكريم والأحاديث الشريفة نماذج من الشخصيات التي يمكن الاقتداء بها
في السلوك والخلق الرفيع.
وينبغي على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ان يوجه الناس طبقا للارشادات
والتعاليم القرآنية، وتعاليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم
السلام، وان يوضح لهم آثار الانحراف السلوكي على الفرد والمجتمع الذي يبتعد عن
الاسلام، حيث الأمراض البدنية والروحية، من اضطراب وبلبلة وفقدان الاستقرار
والاطمئنان والسعادة، وخصوصا في البلدان الغربية.
وإذا عرف الانسان مضرة السلوك الجاهلي، وابتعد عنه فإنه سيتوجه إلى الالتزام
بالسلوك الاسلامي.
قال الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: من لم يعرف مضرة الشر
لم يقدر على الامتناع عنه (1).
لن تتحقق الخير حتى تتبرأ من الشر (2).
من ترك الشر فتحت عليه أبواب الخير (3).
للعادة على كل انسان سلطان (4).

1) تصنيف غرر الحكم: 106.
2) تصنيف غرر الحكم: 106.
3) تصنيف غرر الحكم: 106.
4) تصنيف غرر الحكم: 322.
64

غيروا العادات تسهل عليكم الطاعات (1).
لن تهتدي إلى المعروف حتى تضل عن المنكر (2).
5 - تمرين الناس على السلوك الاسلامي: السلوك الاسلامي يستدعي التحرر من ضغط
الشهوات، وثقلة المطامع، وتهذيب العواطف والانفعالات، والابتعاد عن المثيرات
والمغريات الخارجية التي تدعو إلى اشباع الشهوات والمطامع بأسلوب غير مشروع.
وهذه بدورها تحتاج إلى تمرين متدرج، ورياضة متسلسلة، لكي يكون السلوك الاسلامي
جزءا من شخصية الانسان، ويتحقق ذلك عن طريق الدعوة لامتثال التكاليف كالصلاة
الناهية عن الفحشاء والمنكر والداعية إلى السلوك الصالح، والصوم الذي يهذب الغريزة
، والزكاة التي تزرع في القلب روح الايثار وحب الانفاق وهكذا في بقية التكاليف،
والتي هي تكاليف هينة يسيرة، ثم التدرج لتحمل التكاليف الأكبر للوصول إلى السمو
والكمال السلوكي.
وينبغي ربط الانسان بالشخصيات التي جعلها الله تعالى موضع قدوة، وتبيان مظاهر
سلوكها وخلقها.
والتركيز على الآثار الايجابية للسلوك الرفيع في دار الدنيا والآخرة، وما يحصل
جراؤه من ثواب ورضوان من الله تعالى.
الأجواء المساعدة في المرحلة الوقائية:
إذا ترك الانسان لوحده فإنه قد تهجم عليه الشكوك، وتنتابه

1) تصنيف غرر الحكم: 322.
2) تصنيف غرر الحكم: 322.
65

الهواجس، وتطغى عليه الغرائز، وتثيره المغريات، فهو بحاجة إلى أجواء فكرية
وسلوكية تساعده على اصلاح وتغيير أفكاره وعواطفه وممارساته، ومن هذه الأجواء:
1 - حلقات الذكر: هنالك تجمعات يذكر فيها اسم الله تعالى، وتسودها أجواء
الايمان والتقوى، فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يشجع الآخرين على
حضورها، أو يصطحبهم معه إليها.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بادروا إلى رياض الجنة، قالوا: وما
رياض الجنة، قال: حلق الذكر (1).
وتتنوع حلقات الذكر بتنوع الظروف، كمجالس العلماء الأتقياء، ومجالس الصالحين،
وجلسات الدرس، وجلسات حفظ القرآن وتلاوته، والجلسات الدوارة التي تنعقد في بيوت
مختلفة.
ومنها مجالس العزاء على الإمام الحسين عليه السلام، ويلحق بها الاحتفالات
والمهرجانات التي تقام على مدار السنة في الأعياد ومناسبات ولادة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام، ويوم المبعث، ويوم الغدير وغير ذلك.
2 - ارتياد المساجد: المسجد من أهم الأجواء الايمانية التي لها دور كبير في
اصلاح الانسان وتغييره.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخا
مستفادا في الله، أو علما مستطرفا، أو آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو كلمة
ترده عن ردى، أو يسمع كلمة تدله على هدى، أو يترك ذنبا خشية

1) أمالي الصدوق: 297.
66

أو حياء (1).
3 - زيارة قبور الأنبياء والأئمة عليهم السلام والصالحين: لزيارة قبور
الأنبياء والأولياء المعصومين وعباد الله الصالحين تأثير واضح محسوس على الانسان
، حيث يرتبط من خلالها بأرقى الشخصيات الاسلامية، ويندفع للاقتداء بها في أفكارها
وعواطفها وسلوكها، ويستمد منها روح السمو والارتقاء، ويعاهدها على التقيد
بسيرتها.
وقد وردت أحاديث عديدة في الحث على زيارة قبور الأئمة الأطهار وأولياء الله
الأخيار والصالحين من عباده وأفضل من الزيارة الفردية القيام بزيارات جماعية من
قبل المؤمنين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلى تلك الأماكن المتبركة،
فإن لها وقعا أشد، وتأثيرا أكبر على الانسان المراد إصلاحه، لأنه سيتأثر
حينئذ بهذا الجمع المؤمن المتجه إلى الله تعالى بالدعاء وبالتوسل بأوليائه الصالحين
.
4 - الجليس الصالح: من وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذر الغفاري
قال: الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء، واملاء الخير
خير من السكوت، والسكوت خير من املاء الشر (2).
ويلحق بهذه الأجواء المشاركة في السفرات الجماعية، والحضور في المكتبات
الاسلامية العامة وأمثال ذلك.

1) آمالي الصدوق: 319، وينسب هذا القول إلى الإمام الحسن عليه السلام كما ورد في
: تحف العقول: 166.
2) مكارم الأخلاق: 466.
67

ثانيا: المراحل العلاجية:
وهي المراحل العملية المقارنة واللاحقة لوقوع الممارسات السلبية في الواقع الخارجي
، وهي خطوات علاجية الهدف منها معالجة الواقع المنحرف، بإيقاف المنكر أو تطويقه
وتحجيمه، لمنع استشرائه في العقول والقلوب والإرادة.
ويمكن تصنيفها إلى صنفين:
1 - المراحل العلاجية المقارنة للتلبس بالمنكر:
إن الله تعالى فتح للانسان أبواب الهداية من خلال البينات الظاهرة، والبراهين
الواقعية، وانزل الكتاب لارشاده وتوجيهه إلى الاستقامة والاعتدال، ودعا إلى تكوين
الأمة والجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، ووضع منهجا متكاملا
لوقايته من الانحراف عن طريق غلق منافذه إلى النفس، ومعالجة الأسباب المؤدية إليه
، وتهيئة الأجواء لتهذيب السلوك والخلق، فإذا خالف الانسان جميع هذه المؤهلات،
وانحرف عن الاستقامة في سلوكه غرورا منه أو استسلاما لشهواته وغرائزه، وارتكب
المنكر بصورة علنية متحديا قيم المجتمع، فيجب على الآخرين ردعه وايقاف أو تحجيم
انحرافه، وأول مراحل الردع هي التغيير باليد التي تعبر عن القوة، ثم باللسان،
ثم بالقلب.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن
لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان (1).

1) صحيح مسلم 1: 69، كتاب الايمان باب 20 / 78.
68

والتغيير باليد مقدم على غيره، لأنه يقتلع المنكر من جذوره ويمنع من استمراره
الذي قد يضر بالمصلحة العامة وخصوصا ما يتعلق بالاعتداء على حقوق الآخرين،
كالاعتداء على أرواحهم أو أعراضهم أو أموالهم، فلا يجوز التهاون به، والسكوت عنه
، وهو يتوقف على القدرة والطاقة التي يمتلكها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر،
التي تساعده على العمل الفوري في التغيير، ولذا فإن الحكمة من تكوين الأمة أو
الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، هي تظافر الطاقات والجهود لإزالة
المنكر الواقع، وردع المتلبس به.
وإذا عجزت الطاقات والجهود المتاحة من تغيير المنكر باليد، فتأتي مرحلة الانكار
باللسان عن طريق تبيان أضرار المنكر، وتحقير فاعله، وترذيله وتقبيحه، وتخويفه من
العواقب السيئة المترتبة على هذا المنكر، وتهديده وتخويفه من ردعه بالقوة أو
تخويفه بالاستعانة بالغير لانزال العقاب الصارم به، أو تهديده بالمحاصرة
الاقتصادية والاجتماعية، وكل كلام يساعد على ردعه.
وإذا عجز الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عن التغيير باللسان ينتقل إلى مرحلة
التغيير بالقلب وهو الانكار والاشمئزاز وعدم الرضا بعمل المنكر، والتصميم على
اعداد القوة البدنية والبيانية لتغييره في الظروف المؤاتية.
وملاك التكليف هو القدرة، وهي التي تحدد مراحل التغيير باليد واللسان والقلب،
وقد تجتمع هذه المراحل لتنطلق في آن واحد تبعا لقدرة الافراد، فتستخدم اليد من
قبل البعض واللسان من قبل البعض الآخر، والقلب من قبل البقية المتبقية.
69

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي،
إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم انها
تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم
بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس
وراء ذلك من الايمان حبة خردل (1).
ويجب استخدام القوة المناسبة للردع وتغيير المنكر، فالمنكرات الفردية التي يقوم
بها الافراد، قد لا تحتاج إلى مزيد من القوة، أما المنكرات الجماعية التي يرتكبها
جمع من الناس أو كتلة منهم، أو تقوم بها مؤسسات أو جمعيات تمتلك طاقات متنوعة
اعلامية ومالية وبشرية، فإنها لا ترتدع إلا باستخدام القوة الموازية لها.
وتختلف القوة المستخدمة باختلاف نوعية المنكر المرتكب، من الناحية الفكرية
والسلوكية، فهنالك منكر له تأثير ملحوظ على أصل الوجود الاسلامي كيانا وقيادة
وافرادا، وهنالك منكر له تأثير على اضطراب المعتقدات وبلبلة الأفكار، وهنالك
منكر له تأثير على أخلاق المجتمع بإفساده لافراده، ومن هنا شرع الله تعالى
الجهاد لايقاف المنكر الأكبر الذي يستهدف القضاء على الوجود الاسلامي.
نماذج من السيرة النبوية:
إن الموقف من المنكر بتغييره باليد أو اللسان أو القلب تحدده عدة عوامل:

1) صحيح مسلم 1: 70، كتاب الايمان، باب 20 / 80.
70

الأول: الظروف.
الثاني: مصلحة الاسلام كعقيدة وتشريع.
الثالث: مصلحة المسلمين الآنية والمستقبلية.
ففي العهد المكي لم تكن الظروف مؤاتية لاستخدام القوة في القضاء على المنكر، ولا
مصلحة في ذلك لأنها تؤدي إلى قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظرف لا يملك
القوة اللازمة للقضاء على رؤوس الكفر أو ردعهم عن منكراتهم، فاكتفى صلى الله عليه
وآله وسلم بالتغيير باللسان.
وحينما هاجر إلى المدينة تغير الموقف حيث امتلك القوة اللازمة لخوض مهمة التغيير
بقوة اليد، فاستخدمها صلى الله عليه وآله وسلم لردع العدوان على الاسلام
والمسلمين.
كما استخدم صلى الله عليه وآله وسلم القوة لإزالة المنكرات الواقعية، فأمر بطرد
بعض المنافقين من المسجد، وأمر باحراق منزل سويلم اليهودي لاجتماع المنافقين به،
وأمر باحراق مسجد ضرار (1).
وحينما تمادى رأس المنافقين عبد الله بن أبي سلول في نفاقه بخلقه للفتن داخل
المجتمع الاسلامي، رفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقتراح البعض في قتله،
لان قتله يؤدي إلى حدوث الخلل في تماسك جبهة المسلمين لان له أنصارا وأعوانا
وعشيرة مترامية الأطراف، وقد أثبت صلى الله عليه وآله وسلم صحة موقفه قائلا لمن
حرضه على قتله: أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله لأرعدت له

1) السيرة النبوية / ابن هشام 4: 160 - 177.
71

أنف، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته (1).
فالظروف والمصلحة الاسلامية هي التي تحدد الموقف العملي من تغيير المنكر، فقد
يؤدي استخدام القوة أحيانا إلى إلحاق الضرر بالاسلام والمسلمين فلا يجب بل لا
يجوز استخدامها، ويجب أن تؤجل إلى الظرف المناسب، وقد يؤدي التخلي عن استخدامها
إلى الحاق الضرر بالاسلام والمسلمين، فيجب النهوض بها، كما هو الحال في تنوع
مواقف أئمة أهل البيت عليهم السلام من رؤوس المنكر وأجهزتهم الممتدة في المجتمع
الاسلامي، بين هدنة وحركة ملحة، واعداد العدة للظرف المناسب.
2 - المراحل العلاجية اللاحقة لوقوع المنكر:
إن اتخاذ الموقف من المرتكبين للمنكر، وتصنيفه أو توزيعه على مراحل، يعتمد على
اكتشاف الواقع وإدراكه، وليس على وضع مراحل نظرية متدرجة، فالظرف والواقع الذي
يعيشه المكلف ويعيشه المرتكب للمنكر، ونوعية المنكر كما ونوعا، ومن حيث
التكرار وعدمه، كل ذلك له مدخلية في تحديد المراحل والخطوات.
وللوهلة الأولى تحدد هذه المراحل من خلال استقراء مسيرة المصلحين والمغيرين على
طول التاريخ، والتي تكون قريبة من الواقع:
1 - اظهار الكراهية والتعريف بالمنكر: اظهار الكراهية للمنكرات والموبقات
المرتكبة يساهم في ردع المرتكب لها، أو على الأقل التستر بها كخطوة أولى،
واظهار الكراهية يبدأ بالوجه ثم باللسان الكاشف عن

1) السيرة النبوية / ابن هشام 3: 305.
72

الكراهية القلبية.
والتعريف بالمنكر غالبا ما يكون مقارنا في مقطعه الزمني لاظهار الكراهية، فهو
تذكير لمن يعرفه، وتعليم لمن لا يعرفه ويرتكبه جهلا منه بحرمته.
قال تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما
لكم من إله غيره... * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقيت
الله خير لكم إن كنتم مؤمنين...) (1).
ومن سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه كان يظهر كراهيته لبعض الممارسات
الخاطئة، ويرتقي المنبر من أجل ذلك، فحينما بعث صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن
الوليد إلى بني جذيمة داعيا لا مقاتلا، فلما وضعوا السلاح أمر بقتلهم، فلما
انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال:
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد (2).
وحينما سمع بريدة يقع في علي عليه السلام قال له صلى الله عليه وآله وسلم: لا
تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي (3).
فقد أظهر صلى الله عليه وآله وسلم كراهيته لهذا العمل، ثم عرف بريدة بكون ما
ارتكبه منكرا.
فالبعض قد يرتكب ما ينافي الأوامر الإلهية ولا يعلم بحرمة ذلك،

1) سورة هود: 11 / 84 - 86.
2) السيرة النبوية / ابن هشام 4: 72.
3) كنز العمال 11: 608.
73

فلابد من توضيح ذلك إليه.
2 - الوعظ والنصح: بعد التعريف بالمنكر أو التذكير به يأتي دور الوعظ والنصح،
فإن الموعظة والنصيحة لها تأثير ملموس على الانسان، لذا فإن الأنبياء والأئمة
عليهم السلام لم يتوقفوا عن ابداء المواعظ والنصائح لاتباعهم وللمخالفين لهم.
ويتم ذلك عن طريق التنبيه لمضار الانحراف الفكري والسلوكي وآثاره السلبية على
الفرد والمجتمع. والتنبيه إلى الرقابة الإلهية المحيطة بالانسان والعالمة بسكناته
وحركاته، وما يسر وما يعلن. وتذكيره بالثواب والعقاب يوم القيامة، وتخويفه من
غضب الله تعالى في دار الدنيا. وتذكيره بحقوق الله تعالى وحقوق الناس، وتوجيهه
إلى الآثار الايجابية للاستغفار والتوبة والعودة إلى الاستقامة، وابداء المعونة له
للتغلب على الأسباب التي تدفعه للانحراف، والمساهمة في معالجة المشاكل التي تواجهه
.
وقد حفل القرآن الكريم وكتب السيرة بالمواعظ والنصائح للمنحرفين. وأفضل أسلوب في
هذا المجال هو الترغيب والترهيب.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: من اشتاق إلى الجنة سلا عن
الشهوات.
من أشفق من النار اجتنب المحرمات.
من خاف العقاب انصرف عن السيئات.
74

ذكر الآخرة دواء وشفاء (1).
وقال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: يا هشام ثم وعظ أهل العقل ورغبهم في
الآخرة.. ثم خوف الذين لا يعقلون عذابه (2).
3 - الزجر والتغليظ بالكلام: حينما يصر مرتكب المنكر على انحرافه، ولم تنفع
معه المواعظ والنصائح المتكررة من قبل الفرد أو الجماعة الآمرة بالمعروف والناهية
عن المنكر، فلا بد من استخدام الأساليب الرادعة له، والانتقال مع الأساليب من
الأسهل إلى الأشد.
وكثيرا ما يكون الكلام اللاذع مؤثرا في ردع الانحراف، لأنه سيكون بمثابة
المطرقة الموقظة التي تنبه العقل والضمير والإرادة، وتدفع المنحرف إلى التخلي عن
انحرافه تجنبا للزواجر الموجهة إليه.
ومن ذلك قول إبراهيم عليه السلام - كما ورد في القرآن الكريم -: (قال
أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم * أف
لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) (3).
وقد سمى القرآن الكريم أصنافا من المسلمين بالفاسقين والمنافقين لكي يرتدعوا.
وفي السيرة النبوية بعض الشواهد على ذلك، فحينما عصى بعض الصحابة أوامره صلى الله
عليه وآله وسلم بالتوجه إلى جيش أسامة، غضب صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

1) تصنيف غرر الحكم: 146.
2) تحف العقول: 287.
3) سورة الأنبياء: 21 / 66 - 67.
75

جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه (1).
وقد يرتدع البعض خوفا من الصاق الألقاب المذمومة بهم.
4 - المقاطعة والهجران: حينما يتمادى المنحرف في انحرافه تاركا للمعروف عاملا
بالمنكر، عنادا منه واصرارا، ولم يستجب لكل موحيات الهداية والاستقامة، ولم
تنفعه الزواجر والتهديدات، وأغلق منافذ الهداية في قلبه وارادته، تأتي مرحلة
المقاطعة والهجران لاشعاره بأنه عنصر غير مرغوب فيه من قبل الصالحين، والاستفادة
من الوقت للتفرغ إلى هداية الآخرين وتغييرهم.
قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: لو أنكم إذا بلغكم عن الرجل شئ تمشيتم
إليه، فقلتم: يا هذا إما أن تعتزلنا وتجتنبنا، وإما أن تكف عن هذا، فإن فعل
وإلا فاجتنبوه (2).
وقال عليه السلام لقوم من أصحابه: إنه قد حق لي أن آخذ البرئ منكم بالسقيم،
وكيف لا يحق لي ذلك، وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه، ولا
تهجرونه، ولا تؤذونه حتى يتركه (3).
وقال عليه السلام: من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى إلى هدم الاسلام (4)
.
والمقاطعة كان معمولا بها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته
عليهم السلام.

1) الملل والنحل / الشهرستاني 1: 29. وشرح نهج البلاغة 6: 52.
2) وسائل الشيعة 16: 146.
3) المقنعة: 809.
4) بحار الأنوار 2: 304.
76

فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمقاطعة ثلاثة من الصحابة تخلفوا عن
غزوة تبوك وقال لبقية أصحابه: لا تكلمن أحدا من هؤلاء الثلاثة فاعتزلوهم
خمسين يوما، ثم أبلغهم صلى الله عليه وآله وسلم بتوبة الله عليهم (1).
وقاطع أهل البيت عليهم السلام الغلاة والواقفة وبعض التيارات الهدامة بعد أن
يئسوا من اصلاحهم.
5 - اظهار التكفهر والعبوس: بعد مرحلة الهجران والمقاطعة تأتي مرحلة التكفهر
والعبوس في وجوههم أثناء اللقاء في الطرقات والأماكن العامة، لكي يرتدعوا ويعودوا
إلى الاستقامة.
قال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة (2).
وقال عليه السلام: أدنى الانكار أن يلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة (3).
وهذه المراحل أو الخطوات يتوقف أسلوب العمل بها على طبيعة المجتمع من حيث درجة
قربه وبعده عن الاسلام، وعلى عدد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وطبيعة
أصحاب المنكرات وعددهم، فإذا كان الاسلام هو القاعدة الفكرية للنظام القائم
وللمجتمع فإن هذه المراحل ستكون أقرب إلى تحقيق الهدف، أما إذا كان الاسلام
مقصيا عن الحياة، وكان المجتمع بعيدا عنه في فكره وعاطفته وسلوكه، فلا تحقق
هذه المراحل أهدافها في الآن وفي المستقبل القريب إلا بمضاعفة

1) السيرة النبوية / ابن هشام 4: 175، 179، 180.
2) الكافي 5: 58.
3) تهذيب الأحكام 6: 176.
77

الجهود، والاقدام الدائم على أداء المسؤولية دون تردد أو تراجع أمام المعوقات
والمصائب، والصبر على الأذى والبلاء، فكل ذلك يؤدي إلى الاصلاح والتغيير ولو بعد
حين.
6 - التهديد والتخويف: حينما يزداد الانحراف، ولا يرتدع مرتكبه بشتى الأساليب
المعمول بها معه، فقد يكون التهديد والتخويف نافعا بحقه، والتهديد والتخويف لا
ينحصر بأسلوب معين، بل يتناسب مع شخصية المنحرف ومدى انعكاسه عليها، كالتهديد
بالمحاصرة الاقتصادية أو الاجتماعية أو كليهما، أو التهديد بالحاق الأذى البدني به
، أو التهديد بكشف انحرافاته، أو التهديد بالسجن وأحيانا بالقتل تبعا لدرجات
انحرافه.
فحينما اشتد اذى المنافقين والمنحرفين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وللمسلمين، هددهم القرآن الكريم بالقول: (لئن لم ينته المنافقون
والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم
ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) (1).

1) سورة الأحزاب: 33 / 60.
78

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 4
الفصل الثالث
خصائص وصفات
الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية كبيرة وتكليف شاق، لأنه ليس مجرد
ألفاظ تردد أو كلام يقال، وليس مجرد أمر ونهي، وإنما هو اصلاح وتغيير للمحتوى
الداخلي للانسان، وصياغة جديدة للأفكار والعواطف والسلوك.
ولهذا فلابد ان يتصف الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بخصائص وصفات متميزة،
تؤهلهم لخوض غمار المسؤولية إلى نهاية الشوط في تغيير ذهنية المجتمع إلى ذهنية
اسلامية، وتغيير سلوكه إلى سلوك اسلامي.
وبما إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو تكليف شرعي فيجب أن يكون المكلف -
في جميع أحواله وفي جميع مراحل المسؤولية - مخلصا لله تعالى، وان يتوكل عليه،
ويستمد العون والنصرة منه وحده، وان يستخدم الأساليب المشروعة في أدائه للتكليف
والمسؤولية، وان
79

يكون متفائلا بالنجاح، وان يندفع ذاتيا للعمل لا ينتظر أجرا ولا جزاء بشريا
من أحد، وإنما أجره على الله تعالى.
ويمكن تصنيف الخصائص والصفات إلى:
أولا: خصائص وصفات ذاتية.
ثانيا: خصائص وصفات عملية أو سلوكية.
ونبحثها تباعا في مبحثين:
المبحث الأول
الخصائص والصفات الذاتية
أولا: العلم والمعرفة:
من أهم الخصائص والصفات أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالما بقواعد
وأسس المنهج الاسلامي، ليصلح ويغير على ضوئها، والحد الأدنى من العلم أن يكون
مطلعا اطلاعا إجماليا على أصول العقيدة الاسلامية، وأصول العقائد السائدة
في المجتمع، وأن يكون على علم بالأحكام الشرعية التي تصنف إلى: معروف ومنكر،
وتصنف أيضا إلى: واجب ومستحب، وحرام ومكروه، ومباح، والحد الأدنى أن يكون
على علم بمسائل يبتلي بها أفراد المجتمع.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر
إلا من
80

كان فيه ثلاث:... عالما بما يأمر به عالما بما ينهى عنه (1).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إياك وخصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن
تفتي الناس برأيك أو تدين بما لا تعلم (2).
وينبغي أن يطلع المكلف على السيرة النبوية وسيرة أهل البيت عليهم السلام وسيرة
المصلحين، ليكون أكثر خبرة في أداء العمل.
وأن يكون على معرفة بأحوال المجتمع وخصائص أفراده من حيث أفكارهم وعواطفهم
وممارساتهم العملية، وأن يكون مطلعا على الاحداث والمواقف ليتخذ الأسلوب
الأنجح في حركته الاصلاحية، وأن يكون قادرا على تشخيص ما ينبغي أن يعمله تبعا
للظروف من حيث اللين والشدة، أو الحيطة والحذر، أو الاسراع والتأني. وأن يكون
مطلعا على الفوارق الطبيعية بين بلد وآخر، أو قوم وآخرين.
وعدم المعرفة بالأوضاع الاجتماعية والفردية، أو بعدم استخدام الأسلوب الأنجح،
أو عدم الاطلاع على أساسيات المفاهيم والقيم الاسلامية، قد تؤدي إلى نتائج عكسية
ومنها النفور من الاسلام أو من الداعين له.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر
مما يصلح (3).

1) الجعفريات: 88.
2) الكافي 1: 42.
3) تحف العقول: 33.
81

وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير
الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا (1).
ثانيا: القدوة:
إن لم يكن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قدوة لغيره فإن عمله لا يثمر، ولا
يستطيع أن ينفذ إلى القلوب لتتبناه الجوارح في ممارسات عملية، فالناس ينظرون إلى
شخصية من يريد اصلاحهم وتغييرهم ومدى تجسيده للمفاهيم والقيم التي يدعوهم إلى
التمسك بها، ومقدار ابتعاده عن النواهي التي يدعو للانتهاء عنها.
قال تعالى: (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون) (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بن مسعود لا تكونن ممن يهدي
الناس إلى الخير ويأمرهم بالخير وهو غافل عنه (3).
ودعا أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى تجسيد المفاهيم والقيم في النفس والإرادة
والسلوك العملي قبل دعوة الناس إليها، فقال عليه السلام: ائتمروا بالمعروف
وأمروا به، وتناهوا عن المنكر وانهوا عنه (4).
احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك (5).

1) الكافي 1: 43.
2) سورة الصف: 61 / 3.
3) مكارم الأخلاق: 457.
4) تصنيف غرر الحكم: 332.
5) تصنيف غرر الحكم: 106.
82

كفى بالمرء غواية أن يأمر الناس بما لا يأتمر به، وينهاهم عما لا ينتهي عنه
(1).
وعدم الالتزام بموارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل الآمرين به
والناهين عنه يكون حجة عليهم، ولا ينتفع الناس بهم، قال الإمام الصادق عليه
السلام: من لم ينسلخ عن هواجسه، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها، ولم يهزم
الشيطان، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته، لا يصلح له الامر بالمعروف والنهي
عن المنكر، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة، فكلما أظهر أمرا كان حجة عليه، ولا
ينتفع الناس به (2).
وقال عليه السلام: فإن مثل الواعظ والمتعظ كاليقظان والراقد، فمن استيقظ عن
رقدته وغفلته ومخالفاته ومعاصيه، صلح أن يوقظ غيره من ذلك الرقاد (3).
وقال عليه السلام: كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد
والصلاة والخير، فإن ذلك داعية (4).
وقد جسد أهل البيت عليهم السلام دور القدوة في حركتهم الاصلاحية والتغييرية.
قال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: أيها الناس، إني والله ما أحثكم
على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم

1) تصنيف غرر الحكم: 333.
2) مستدرك الوسائل 12: 203.
3) مستدرك الوسائل 12: 203.
4) الكافي 2: 78.
83

عنها (1).
وحينما دعا الإمام الحسين عليه السلام إلى الجهاد تجسيدا للامر بالمعروف والنهي
عن المنكر، تقدم بنفسه وأهل بيته وعياله، فكان قدوة لأصحابه في جميع قيم
الايثار والتضحية، والاخلاص لله تعالى.
ثالثا: الشجاعة:
إن مواجهة الناس ومواجهة الاحداث والمواقف لتغييرها بالاسلام بحاجة إلى الشجاعة
والاقدام، لان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي له سيصطدم بشهوات البعض
، وبالضعف النفسي لهم، ويصطدم بالجاهلين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ويصطدم
بالمنحرفين الذين يبغضون الصلاح والسمو الروحي والسلوكي، ويصطدم بمخططات ومؤامرات
أعداء الاسلام أو التيارات الفكرية المنحرفة التي لا يروق لها انتشار مبادئ
الاسلام في المجتمع، ويصطدم بالقوى الشريرة التي تقابله بالأذى والتكذيب
والاستهزاء، ويصطدم بالمثبطين له عن الانطلاق في التكليف أو الاستمرار به.
ولذا فهو بحاجة إلى أن يتسلح بالشجاعة وأن تكون إحدى خصائصه وصفاته، لينطلق دون
خوف أو وجل أو تردد أو تراجع.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا: يا
رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم: يرى أمرا لله
عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك
أن تقول في كذا

1) نهج البلاغة: 250، الخطبة: 175.
84

وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى (1).
والشجاعة لها دور كبير في التغيير، لان الناس يتأثرون لا إراديا بالشجاع،
ويكون له تأثير لا شعوري على سلوكهم وممارساتهم العملية كما أثبتت التجارب
الاجتماعية.
رابعا: الايثار:
للايثار دور كبير في خلق الأجواء الروحية والنفسية لنمو حركة الامر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فالناس ستنشد عواطفهم ومشاعرهم للمتصفين بهذه الصفة، وهذا
الانشداد يمكن استثماره للتأثير على أفكارهم ومواقفهم العملية.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي ما كرهته لنفسك فأكره لغيرك،
وما أحببته لنفسك فاحببه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محببا في
أهل السماء، مودودا في صدور أهل الأرض (2).
وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: بالايثار يسترق الأحرار (3).
خامسا: الزهد:
الزهد في أموال الناس وممتلكاتهم، والزهد الذاتي في الحياة الدنيا، يساعد على
زرع ثقة الناس بالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فيشعرون بأنه لا يرجو دنيا ولا
جاها في قيامه وتبنيه لحركة الاصلاح

1) سنن ابن ماجة 2: 1328.
2) تحف العقول: 12.
3) تصنيف غرر الحكم: 396.
85

والتغيير، وإنما يعمل لذات المسؤولية تقربا إلى الله تعالى.
وبالزهد يكتسب محبة الناس، قال أمير المؤمنين عليه السلام: تحبب إلى الناس
بالزهد فيما بأيديهم تفز بالمحبة منهم (1).
وبمحبة الناس إليه يستطيع التأثير على قلوبهم وارادتهم، ليجعلها منسجمة مع مفاهيم
وقيم الاسلام.
والطمع يمنع من ابداء الآراء أو النهي عن بعض الممارسات التي تصطدم مع آراء
وممارسات الآخرين الذين يطمع المكلف بأموالهم خوفا من عدم الحصول عليها. قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: الطمع يذهب الحكمة من قلوب العلماء (2). وغير
الزاهد يستسلم للمغريات وقد يؤدي بالنهاية إلى تخليه عن الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر كلما ازدادت أمامه المغريات.
سادسا: البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام:
البشاشة وطلاقة الوجه ولين الكلام تساعد على جذب الناس وامتلاك عواطفهم ومشاعرهم،
وتوجيهها توجيها رساليا، لان الناس غالبا ما يتأثرون بالأشخاص قبل التأثر
بالأفكار والقيم.
وفي ذلك قال إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: طلاقة الوجه
بالبشر والعطية وفعل البر وبذل التحية داع إلى محبة البرية.
عليك بالبشاشة فإنها حبالة المودة.

1) تصنيف غرر الحكم: 437.
2) كنز العمال 3: 495.
86

عود لسانك لين الكلام وبذل السلام يكثر محبوك ويقل مبغضوك.
من عذب لسانه كثر إخوانه (1).
المبحث الثاني
الخصائص والصفات العملية والسلوكية
أولا: المداراة:
يجد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أصنافا من الناس يختلفون في طاقاتهم
وامكاناتهم الفكرية والعاطفية والسلوكية، فلابد وأن يتصف بالمداراة ليستطيع
التأثير على تعدد أصناف الناس المنتمين إلى مدارس عقائدية وفكرية متنوعة،
والمتوزعين على ولاءات متعددة قبلية وقومية وطائفية.
ومداراة الناس من أولويات العمل في أوساطهم، كما أكد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم على ذلك بقوله: أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض
(2).
رأس العقل بعد الايمان بالله مداراة الناس في غير ترك الحق (3).
رأس العقل المداراة، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في

1) تصنيف غرر الحكم: 434 - 436.
2) الكافي 2: 117.
3) تحف العقول: 29.
87

الآخرة (1).
وقال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: من سالم الناس كثر أصدقاؤه وقل
أعداؤه. المداراة أحمد الخلال. رأس الحكمة مداراة الناس (2).
وتتمثل المداراة بتكليم الناس على قدر عقولهم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم (3). وأن
يتحدث المكلف بكلام مفهوم من قبل الجميع بلا حاجة إلى استخدام العبارات الغامضة،
والمصطلحات غير الواضحة، قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: أحسن الكلام ما
زانه حسن النظام، وفهمه الخاص والعام (4).
ومن المداراة اختصار الكلام وعدم التطويل المؤدي إلى الملل، قال أمير المؤمنين
عليه السلام: الكلام كالدواء قليله ينفع وكثيره قاتل.
أقل المقال، وقصر الآمال، ولا تقل ما يكسبك وزرا وينفر عنك حرا (5).
ومن مصاديق المداراة، مراعاة الدوافع النفسية للانحراف، ومراعاة الضعف البشري
وعدم ترتيب الأثر في بعض الحالات، فحينما سرب حاطب بن أبي بلتعة أخبار مسير رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة إلى قريش دعاه صلى الله عليه وآله وسلم وقال
له: يا حاطب، ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول

1) كنز العمال 3: 407.
2) تصنيف غرر الحكم: 445.
3) أمالي الصدوق: 341.
4) تصنيف غرر الحكم: 210.
5) تصنيف غرر الحكم: 211.
88

الله، أما والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني كنت امرأ
ليس لي في القوم من أهل وعشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم،
ولم يستجب صلى الله عليه وآله وسلم لقول عمر بن الخطاب، حينما قال: (دعني فلأضرب
عنقه، فإن الرجل قد نافق) (1).
وينبغي ان تكون المداراة في (غير ترك الحق) كما تقدم الحديث عنه.
ومن المداراة كشف الحقائق في حال التشكيك بشخص الآمر والناهي، قال أمير المؤمنين
عليه السلام - في وصيته لاحد ولاته -: وان ظنت الرعية بك حيفا، فاصحر لهم
بعذرك، واعدل عنك ظنونهم باصحارك، فان تلك رياضة منك لنفسك، ورفق منك برعيتك،
واعذار تبلغ فيه حاجتك من تقويمهم على الحق في خفض واجمال (2).
ثانيا: الرفق:
الانسان غالبا ما يأنس بآرائه وأفكاره ومواقفه حتى تصبح جزءا من كيانه، يرى
فيها كرامته وكبرياءه، ولا يتنازل عنها أحيانا، لأنه يرى في ذلك تنازلا عن
كرامته، ولهذا فالتعامل مع هكذا إنسان يجب أن يكون برفق وهدوء، لذا كان الرفق صفة
وخاصية مستحسنة لدى المكلف بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث
: رفيقا بما يأمر به، رفيقا بما ينهى عنه... (3).

1) السيرة النبوية / ابن هشام 4: 41.
2) تحف العقول:.
3) الجعفريات: 88.
89

والرفق ييسر الصعاب ويذلل الشدائد، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: الرفق
ييسر الصعاب ويسهل شديد الأسباب.
من استعمل الرفق لان له الشديد (1).
وجعل الإمام علي بن الحسين عليه السلام الرفق من حقوق المستنصح فقال:... وحق
المستنصح: أن تؤدي إليه النصيحة، وليكن مذهبك الرحمة والرفق به (2).
وذكر الإمام جعفر الصادق عليه السلام آثار عدم الرفق في الدعوة إلى الاسلام في
قصة المسلم وجاره الكافر، فبعد أن آمن بالاسلام اصطحبه إلى المسجد ليصلي معه
الفجر في جماعة فلما صلى: قال له: لو قعدنا نذكر الله عز وجل حتى تطلع
الشمس فقعد معه، فقال له: لو تعلمت القرآن إلى أن تزول الشمس وصمت اليوم كان
أفضل، فقعد معه، وصام حتى صلى الظهر والعصر، فقال: لو صبرت حتى نصلي المغرب
والعشاء الآخرة كان أفضل، فقعد معه حتى صلى المغرب والعشاء الآخرة، ثم نهضا،
وقد بلغ مجهوده وحمل عليه ما لا يطيق، فلما كان من الغد غدا عليه، وهو يريد به
مثل ما صنع بالأمس فدق عليه الباب ثم قال له: اخرج حتى نذهب إلى المسجد، فأجابه
: أن انصرف عني، فإن هذا دين شديد لا أطيقه.
ثم قال عليه السلام: فلا تخرقوا بهم أما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف
والعسف والجور، وان أمارتنا بالرفق والتآلف والوقار والتقية وحسن الخلطة

1) تصنيف غرر الحكم: 244.
2) مكارم الأخلاق: 423.
90

والورع والاجتهاد، فرغبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه (1).
ومن الرفق طرح المفاهيم والقيم الاسلامية بشكل شيق وجذاب، وبمرونة ويسر، قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا
(2). فالاسلام واضح في عقيدته ومنهجه في الحياة فلا تعقيد ولا تعسير. قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حدثتم الناس عن ربهم، فلا تحدثوهم بما
يفزعهم ويشق عليهم (3).
فينبغي التحدث عن لطف الله تعالى ورأفته ورحمته وغفرانه أكثر من الحديث عن عقوبته
وغضبه، لكي لا يدب اليأس والقنوط في نفوس المذنبين والعاصين.
وقال الامام أمير المؤمنين علي عليه السلام: قولوا ما قيل لكم، وسلموا لما
روي لكم ولا تكلفوا ما لم تكلفوا، فإنما تبعته عليكم فيما كسبت أيديكم ولفظت
ألسنتكم، أو سبقت إليه غايتكم (4).
ومن الرفق عدم الإشارة إلى أسماء المخالفين لمفاهيم الاسلام وقيمه، وعدم تشخيصهم
أمام الناس، لمنحهم فرصة جديدة للاستقامة، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إذا أراد أن يوضح أخطاء البعض يقول: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا (5).

1) الخصال 2: 354 - 355.
2) مسند أحمد بن حنبل 3: 587.
3) الفتح الكبير 1: 101.
4) تحف العقول: 104.
5) مسند أحمد بن حنبل 4: 126.
91

ورخص صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الامر، فرغب عنه رجال، فقال صلى الله
عليه وآله وسلم: ما بال رجال آمرهم بالامر يرغبون عنه، والله إني لأعلمهم
بالله عز وجل وأشدهم له خشية (1).
ومن الرفق أيضا أن تكون الموعظة سرا، فإنها أكثر ايقاعا وقبولا، قال
الإمام الحسن العسكري عليه السلام: من وعظ أخاه سرا فقد زانه، ومن وعظه
علانية فقد شانه (2).
ثالثا: الاحسان:
الاحسان صفة محمودة يستطيع بها الانسان أن يؤثر على عواطف الآخرين ومن ثم عقولهم
وسلوكهم، لان النفس الانسانية مجبولة على حب من أحسن إليها.
والاحسان يؤدي إلى كسب ود الآخرين وثقتهم، كما قال الامام أمير المؤمنين عليه
السلام: بالاحسان تملك القلوب.
بالاحسان تسترق الرقاب.
من كثر احسانه كثر خدمه وأعوانه.
أحسن إلى المسئ تملكه (3).
فالاحسان الذي يرافق الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يساعده في استهواء الآخرين
وشدهم إلى ما يمليه عليهم من أفكار وقيم، ومن

1) مسند أحمد بن حنبل 7: 260.
2) تحف العقول: 368.
3) تصنيف غرر الحكم: 385 - 386، 388.
92

نصائح وارشادات، ويدفعهم لمراجعة نفوسهم وسلوكهم، واصلاحها حياء أو قناعة في
مقابل الاحسان إليهم.
فقد استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤثر على الكثيرين ويوجههم
للانتماء إلى الاسلام بالاحسان إليهم، فقد أسلم مالك بن عون كبير هوازن لاحسان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليه وأسلم عدي بن حاتم وأخته بسبب الاحسان
إليهم (1).
وقدم رجل المدينة وكان يبغض عليا عليه السلام فقطع به، ولم يكن له زاد ولا راحلة
، فشكا ذلك إلى بعض أهل المدينة، فقال له: عليك بحسن بن علي، فقال الرجل: ما
لقيت هذا إلا في حسن وأبي حسن، فقيل له: فإنك لا تجد إلا خيرا منه، فأتاه
فشكا إليه، فأمر له بزاد وراحلة، فقال الرجل: الله أعلم حيث يجعل رسالته، وقيل
للإمام الحسن عليه السلام: (أتاك رجل يبغضك ويبغض أباك فأمرت له بزاد وراحلة)؟!
، قال عليه السلام: أفلا اشتري عرضي منه بزاد وراحلة؟ (2).
رابعا: التعايش مع الناس:
من أهم الصفات التي تجعل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر قادرا على الاصلاح
والتغيير هي عدم الانعزال عن الناس، لان التكليف وأداء الواجب لا يقتصر على
إلقاء الخطب في مجالس محدودة، وإنما هو حركة وعمل دؤوب في وسط الناس، يشاركهم في
أعمالهم، ويعيش معهم كواحد منهم يفرح لأفراحهم ويحزن لأحزانهم، ويكون شريكا لهم
في

1) السيرة النبوية / ابن هشام 4: 133، 226.
2) مختصر تاريخ دمشق 7: 26.
93

آمالهم وآلامهم، وهذه الصفة تجعله قادرا على التأثير على أفكارهم وعواطفهم
وممارساتهم العملية، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعود المريض،
ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة المملوك (1).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعطي كلا من جلسائه نصيبه، حتى لا يحسب جليسه أن
أحدا أكرم عليه منه. وكان يضحك مما يضحكون ويتعجب مما يتعجبون (2).
فعن زيد بن ثابت قال: كنا إذا جلسنا إليه صلى الله عليه وآله وسلم إن أخذنا في
حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في
ذكر الطعام والشراب أخذ معنا (3).
وينبغي أن لا تكون لقاءاته مجرد أحاديث، وأقوال خطابية، مقتصرة على الامر
بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون الآخرون مجرد مستمعين، بل ينبغي أن يسمع منهم
مثل ما يسمعون منه، ويستمع إلى اقتراحاتهم وتوجيهاتهم، فلا ينبغي أن يكون الحديث
من جانب واحد يصدر من الأعلى إلى الأدنى.
خامسا: الصبر والحلم:
إن طريق الدعوة والاصلاح والتغيير طريق طويل ملئ بالمعوقات والعراقيل، فلا بد
وأن يتحلى من تبناه بصفة الصبر، ولابد وان يتحمل التكاليف المترتبة عليه، وان
يصبر على ردود الافعال الاجتماعية

1) مكارم الأخلاق: 15.
2) مكارم الأخلاق: 14 - 15.
3) مكارم الأخلاق: 21.
94

والدوافع النفسية التي تدعوه إلى الراحة والهدوء.
فعليه يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر صابرا على طول الطريق، رغم
كثرة المعوقات والمثبطات، يصبر على التكذيب والاستهزاء والأذى المادي والمعنوي،
ويصبر أمام ضغط النفس التي تروم حب الراحة والسكينة، وان يصبر على الوحشة في حالة
فقدان الناصر والمعين.
قال تعالى: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) (1).
وقال تعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) (2).
ولا بد من صبر على الشدائد المحيطة بالمصلح والمغير، فقد حدد رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم هذه الشدائد بقوله: المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده،
ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، وشيطان يضله، ونفس تنازعه (3).
كما أن عليه التصبر والاستمرار في حركته، قال تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
) (4).
وينبغي هنا أن يكون الصابر حليما حتى ينال احترام وتقدير الآخرين، ويملك قلوبهم
بحلمه.
قال الامام أمير المؤمنين عليه السلام: بالحلم تكثر الأنصار.

1) سورة المزمل: 73 / 10.
2) سورة لقمان: 31 / 17.
3) المحجة البيضاء 5: 115.
4) سورة آل عمران: 3 / 200.
95

بالاحتمال والحلم يكون لك الناس أنصارا وأعوانا.
أحلم تكرم.
ضادوا الغضب بالحلم تحمدوا عواقبكم في كل أمر (1).
والصبر هو أهم وسائل الاستمرار في الدعوة، فقد صبر رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ثلاثة عشر عاما على التكذيب والاستهزاء والأذى، وصبر على المغريات
والمساومات، وصبر على أذى أهل الكتاب وأذى المنافقين، وأذى أصحابه في العهد
المدني، وصبر أمير المؤمنين عليه السلام على إزاحته من منصبه، وصبر الإمام الحسين
عليه السلام في حركته حتى أنه قدم أولاده وأهل بيته صابرا محتسبا من أجل
اعلاء كلمة الله تعالى.
سادسا: عدم الانشغال في أمور هامشية:
من الخصائص التي ينبغي أن يعتمدها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هي الاستمرار
في أداء التكليف والمسؤولية، وعدم الانشغال بأمور هامشية تقضي على الوقت وتصرف
العمل عن هدفه، وتحرفه عن مساره، وهو مدعو مع هذا للاعراض عن الأشخاص والمواقف
التي تشغله عن أداء الواجب. قال تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض
عن الجاهلين) (2).
والاعراض هو الترك والاهمال، وعدم الدخول في جدال يضيع معه الوقت والجهد دون ان
يحقق شيئا في طريق الواجب.

1) تصنيف غرر الحكم: 287.
2) سورة الأعراف: 7 / 199.
96

ونهى الامام أمير المؤمنين عليه السلام عن الدخول في الخصومات، والمراء فقال:
المخاصمة تبدي سفه الرجل ولا تزيد في حقه (1).
جماع الشر اللجاج وكثرة المماراة (2).
وللخصومة آثار سلبية أشار إليها الإمام جعفر الصادق عليه السلام بقوله: إياكم
والخصومة في الدين، فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل، وتورث النفاق،
وتكسب الضغائن، وتستجيز الكذب (3).
سابعا: القدرة على التقييم الموضوعي:
التقييم الموضوعي للأشخاص والوجودات يساهم في انجاح الأعمال والنشاطات المتعلقة
بمسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فينبغي لمن تحمل المسؤولية أن يقيم
الأشخاص على أسس وموازين اسلامية من حيث درجة قربهم وبعدهم عن الاسلام فكرا أو
سلوكا، فلكل فرد تقييمه الخاص ليكون الموقف اتجاهه منسجما مع شخصيته.
والتقييم الموضوعي الذي يصحبه التعامل الموضوعي يساهم في تشجيع المحسنين على
الاحسان والعمل الصالح، ودفع المسيئين والمذنبين إلى العودة إلى الاستقامة.
قال الامام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: لا يكونن المحسن
والمسئ عندك بمنزلة سواء، فإن ذلك تزهيد لأهل الاحسان في الاحسان،

1) تصنيف غرر الحكم: 461.
2) تصنيف غرر الحكم: 463.
3) أمالي الصدوق: 340.
97

وتدريب لأهل الإساءة على الإساءة، فألزم كلا منهم ما ألزم نفسه أدبا منك ينفعك
الله به، وتنفع به أعوانك (1).
فالتقييم الموضوعي يستنهض الهمم ويستجيش العزائم ليبدأ الانسان باصلاح وتغيير
شخصيته في جميع مقوماتها: في الفكر والعاطفة والإرادة، من سئ إلى حسن، ومن حسن
إلى أحسن، وموازين التقييم التي حددها القرآن الكريم هي: الايمان، والتقوى،
والعلم، والعمل الصالح.
فينبغي تقييم الأشخاص في ضوء من تلك الموازين، والتعامل مع الناس في ضوء درجات
قربهم وبعدهم عنها، فلكل تقديره المناسب واحترامه المناسب قدر ما يمتلك من تلك
المؤهلات.

1) تحف العقول: 87.
98

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 4
الفصل الرابع
آثار الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
ونتائج التخلي عنهما
المبحث الأول
آثار الأداء
من خلال ما تقدم من آيات كريمة وأحاديث شريفة نستطيع القول: إن أهم الآثار التي
يحققها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هي هداية الانسان فردا كان أم مجتمعا
هداية تجعله يحكم مفاهيم الاسلام وقيمه في عقله وقلبه وارادته، لتكون الأفكار
والعواطف والممارسات العملية مطابقة للمنهج الإلهي في الحياة، عن طريق إقامة فرائض
الدين القويم وشريعته السمحاء.
ومن خلال الالتزام بأداء المسؤولية يتعمق الايمان بالله تعالى في العقول والقلوب،
وتتوثق الصلة مع الله تعالى والتي تضفي السكينة والطمأنينة على جميع جوارح الانسان
ومقومات شخصيته في الفكر والعاطفة والسلوك، فيتحرر من الالحاد واللا انتماء، ومن
الضياع
99

والتخبط، ومن الضلال والعمى والحيرة، ويتخلص من الأوهام والخرافات، ويتوجه إلى
الله تعالى مستمدا منه العون والاسناد، فيستشعر الأمان والصفاء وهو عميق الصلة
بمنعم الوجود، وبالركن الركين الذي تتهاوى جميع مظاهر الاسناد أمامه، وتستقيم
نفسه ومشاعره.
ويكون الحفاظ على نظام الحياة على أحسن صورة عن طريق جلب المصالح ودرء المفاسد،
فيصبح المجتمع في قمة السعادة وهو يسعى إلى الاعمار والبناء الحضاري، ويعم الخير
والصلاح جميع مرافق الحياة، لسمو المقاصد ونبل الأهداف المراد تقريرها وتحقيقها في
الواقع.
والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ان قام به المجتمع فإنه يحقق الامن والسلام
والطمأنينة، فيقضى بواسطة أدائه على جميع ألوان العدوان والاضطهاد والاستغلال،
ويتحقق العدل، وتحفظ كرامة الانسان وحريته، ويتم الحفاظ على سلامة الأرواح
والاعراض والأموال، ويقضى من خلال أدائه على جميع ألوان الاعتداء فيعيش الناس
آمنين مطمئنين.
فمن آثار أداء مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر تعميق الأواصر الاسلامية
، وتوحيد الصف الاسلامي في ضوء وحدة العقيدة ووحدة السلوك ووحدة المصالح ووحدة
المصير، ويعيش المجتمع حياة الإخاء والتعاون والتآزر والتكاتف والتناصر.
ومن آثار أداء المسؤولية القضاء على جميع ألوان الانحراف والفساد، وإشاعة الأخلاق
الحسنة في العلاقات الاجتماعية لتقوم على قواعد وأسس الشريعة، حيث الصدق والوفاء،
والتراحم والتناصح، وأداء الأمانة، والرفق والاحسان، والانطلاق لاسعاد المجتمع.
100

ومن آثاره السياسية الشعور بالمسؤولية من قبل الجميع، وايصال عدول الفقهاء إلى
موقعهم الريادي، وتطبيق حكم الله في الأرض طبقا لقواعد الشريعة، وزوال الفوارق
بين الحكام والمحكومين، والتآزر من أجل الأهداف الواحدة، ومنع المنحرفين من
الوصول إلى المراكز الحساسة في السلطة السياسية.
ومن آثاره الاقتصادية إقامة التوازن الاقتصادي، الذي يتحقق عن طريق التكافل والحث
على الانفاق الطوعي في وجوه الخير، والدعوة إلى القناعة والكفاف وعدم التبذير،
والنهي عن الغش واكل الأموال بالباطل، وأداء الواجبات المالية كالزكاة والخمس،
إضافة إلى قيام الدولة بواجباتها في إقامة التوازن، فتتحقق الرفاهية للمجتمع
باشباع حاجات الفقراء والمستضعفين.
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزداد الوعي في صفوف المجتمع، وتتفتح آفاق
العقول لتنطلق نحو الابداع الخلاق، وتتقدم العلوم، لتكون خادمة للمفاهيم والقيم
الاسلامية.
ومن آثاره لطف الله تعالى بعباده ورحمته لهم، ورضوانه عليهم، قال تعالى: (
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من
السماء والأرض...) (1).
وقال تعالى: (ولو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا
) (2).

1) الأعراف: 7 / 96.
2) سورة الجن: 72 / 16.
101

وقد وردت آيات عديدة في فلاح الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وفي رحمة
الله لهم.
ومن آثاره القضاء على جميع الأمراض والاسقام التي تنتج من الانحراف السلوكي، كما
نشاهد عند غير الملتزمين بالاسلام، كالأمراض النفسية، والأمراض الجسدية المتعلقة
بالانحراف الجنسي، والادمان، والانتحار، والتشتت الأسري وغير ذلك كثير.
المبحث الثاني
آثار التخلي عن أداء مسؤولية
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن إرادة الله تعالى قد جعلت للحياة سننا ثابتة ونواميس راسخة لا تختلف ولا تتخلف
في جميع مراحل الحياة الانسانية، وان موافقة هذه السنن والنواميس والسير في ضوئها
تثمر ثمارها وتنتج نتائجها الايجابية في حركة المجتمع، كما أن مخالفتها وعدم السير
في دائرة ضوئها تنتج العكس والسلبية، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج.
ومن هذه السنن: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم) (1).
وقوله تعالى: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على
قوم حتى يغيروا

1) سورة الرعد: 13 / 11.
102

ما بأنفسهم) (1).
ويرتب الله تعالى في ضوء هذه السنن والنواميس آثارا ونتائج سلبية إن ترك الناس
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتخلوا عن أداء المسؤولية، ومن هذه الآثار
والنتائج:
أولا: العقاب الإلهي:
حين يتخلى الناس عن مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، سيزداد الانحراف
لفقدان الموجه والمرشد والرادع، فيفقد كل شئ استقامته، وتفقد الموازين سلامتها
، ولا يكون إلا العوج الذي لا يستقيم، وكل ذلك مدعاة إلى سلب الرحمة منهم،
وانزال العقاب بالجميع، المنحرفين والمتقاعسين عن الدعوة والاصلاح معا، والعقاب
يمثل الوخزة الموقظة التي تعيد الناس إلى الاستقامة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف
، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله ان يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه
فلا يستجاب لكم (2).
ويكون العذاب شاملا لا يختص بالمرتكبين للمنكر فقط، بل يعم غيرهم ممن لم
يرتكبه، لأنهم سكتوا عن تغييره.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عز وجل لا يعذب العامة
بعمل الخاصة

1) سورة الأنفال: 8 / 53.
2) كنز العمال 3: 68.
103

حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا
ذلك عذب الله العامة والخاصة (1).
والعقاب الإلهي له مظاهر وألوان مختلفة، فقد يكون بنزع البركات، أو بالآفات
السماوية، أو إذاقة البعض بأس البعض الآخر.
قال تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم
أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض...)
(2).
ثانيا: اللعنة الإلهية:
من آثار ونتائج التخلي عن مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، شمول الناس
اللعنة الإلهية، قال أمير المؤمنين عليه السلام: وإن عندكم الأمثال من بأس
الله وقوارعه، وأيامه ووقائعه، فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه، وتهاونا ببطشه
، ويأسا من بأسه، فإن الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين أيديكم إلا لتركهم
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك
التناهي... (3).
واللعنة إن نزلت على المجتمع جعلته يعيش بعيدا عن اللطف والرأفة والرحمة، فلا
يؤيدهم الله تعالى، ولا يثبتهم، ولا يؤنسهم، ويدعهم لوحدهم دون اسناد، ليواجهوا
مصيرهم بأنفسهم، حيث القلق والاضطراب والأزمات النفسية، بسبب الانحراف والظلم
والاعتداء وفقدان الطمأنينة.

1) مجمع الزوائد 7: 267.
2) سورة الأنعام: 6 / 65.
3) نهج البلاغة: 399، الخطبة: 192.
104

ثالثا: الهلاك:
إن تطبيق المنهج الاسلامي في الحياة هو احياء للعقل والقلب والإرادة، قال تعالى
: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما
يحييكم...) (1).
والاحياء هو الفاعلية والنمو والامتداد والبناء، والازدهار الحضاري، والتأثر
والتأثير في واقع الحياة.
ونقيض الاحياء هو الهلاك المتجسد بالسلبية والخمود وايثار الراحة والبلادة التي
تميت عناصر الحيوية في جميع مقومات الانسان العقلية والروحية والسلوكية، وخنق
الطاقات والقابليات.
ولذا فإن التخلي عن المسؤولية الهادفة إلى احياء الانسان في فكره وعاطفته وسلوكه
، يؤدي إلى الهلاك بالخمود والجمود ثم الاضمحلال، كما اضمحلت الأمم والحضارات في
التاريخ.
رابعا: الانقلاب:
إن التخلي عن مسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الانقلاب
والتراجع، حيث تنقلب المفاهيم والقيم، وتنقلب مقومات الشخصية الانسانية وينقلب كل
شئ في حياة الفرد والمجتمع، قال أمير المؤمنين عليه السلام: أول ما تغلبون
عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه
معروفا، ولم ينكر منكرا، قلب

1) سورة الأنفال: 8 / 24.
105

فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه (1).
فيبدأ الانقلاب بالفكر ثم العاطفة ثم السلوك، فيعود الانسان والمجتمع إلى حياة
الأوهام والخرافات، ويعيش أواصر الضلال والظلمات، ثم تنقلب عاطفته فيوالي من أمره
الله تعالى بالتبري منهم، وفي السلوك حيث يعيش الانحراف والانحطاط والرذيلة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم
، ولم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟،
فقال: نعم، وشر من ذلك، فكيف بكم إذا آتيتم المنكر ونهيتم عن المعروف؟،
فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك، فقال: نعم، وشر من ذلك كيف بكم إذا رأيتم
المعروف منكرا، والمنكر معروفا (2).
فتنقلب المفاهيم والقيم والموازين، ويكون هذا الانقلاب هو الحاكم على تقييم
الاحداث والمواقف والوجودات، وتقوم الحياة على أساسه، فلا يبقى مأمن من اضطراب
الأهواء واختلاف الأمزجة، وتصادم المصالح والمنافع.
خامسا: سيطرة الأشرار على مقاليد الأمور:
التخلي عن أداء الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، يؤدي إلى ازدياد عدد المنحرفين
والأشرار، وانحسار عدد الصالحين والأخيار، ويؤدي إلى خلق الظروف الملائمة لتمادي
المنحرفين والأشرار في انحرافهم وشرهم إثر غياب الرادع لهم، والمتابع عليهم
زلاتهم وفسادهم، حيث يأمنون من

1) نهج البلاغة: 542، الحكمة: 375.
2) مشكاة الأنوار: 49.
106

عدم الاعتراض وعدم الملاحقة، فتنطلق إرادتهم الضعيفة أمام الشهوات، وأنفسهم
الشريرة من عقالها، فيعملون ما يحلو لهم، ثم يكون الامر لهم ليسيطروا على مقاليد
الأمور، ويوجهون الناس حسبما يرون ويشاؤون، وتكون الكرة لهم لملاحقة ومطاردة
الأخيار والصالحين في جميع ميادين الحياة، ولا يبقى للأخيار والصالحين أي منفذ
للنجاة أو النهوض بالامر من جديد، فيعيشون الذل والامتهان إضافة إلى الأذى
والتعذيب، وأعظم من ذلك تخلي الرعاية الإلهية عنهم، وعدم استجابة الله تعالى
لدعائهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر،
أو ليسلطن الله عليكم شراركم فليسومنكم سوء العذاب، ثم ليدعو خياركم فلا يستجاب
لهم، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم من لا يرحم
صغيركم، ولا يوقر كبيركم (1).
وإذا تسلط الأشرار عم الظلم والجور والاعتداء على الأنفس والاعراض والأموال،
والاعتداء على جميع الحرمات والمقدسات، وعم فساد الأخلاق وتحللها، وضعف
العلاقات الاجتماعية، وتفكك كيان الأسرة التي هي نقطة البدء في اصلاح الجيل
الناشئ، والحفاظ على سلامته الروحية، وحينئذ سيفتقد الأمان والاستقرار
والطمأنينة.

1) كنز العمال 3: 687 / 8464.
107