الكتاب: در المنضود
المؤلف: السيد الگلپايگاني
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١٤
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤١٤
المطبعة: شرف
الناشر: دار القرآن الكريم - قم المقدسة
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني (وفاة ١٤١٤)

الدر المنضود
في أحكام الحدود
الجزء الثاني
تقرير أبحاث
سماحة آية الله العظمى زعيم الحوزة العلمية
الحاج السيد محمد رضا الگلپايگاني
قدس سره
بقلم
سماحة الحجة الشيخ علي الكريمي الجهرمي
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب: الدر المنضود في أحكام الحدود
تقريرات أبحاث الأستاذ الأكبر السيد
الگلپايگاني قدس سره الشريف
المؤلف: علي الكريمي الجهرمي
الناشر: دار القرآن الكريم - قم المقدسة
الطبعة: الأولى
العدد: 2000 نسخة
ليتوگراف: واصف - قم - تلفن 46180
المطبعة: شرف
التاريخ: رمضان المبارك 1414 ه‍
2

مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد الأولين والآخرين
محمد وعترته الطاهرين، الذين هم أساس الدين وعماد
اليقين وأبواب الوصول إلى جوار رب العالمين
واللعن على أعدائهم أجمعين
من الآن إلى قيام
يوم الدين
وبعد، فإن من أهم الوظائف التي جعلها الله سبحانه على عاتق كل فرد
مسلم على العموم وعلى عواتق من منحه الله علم الدين السعي في ترويج الدين
وإبلاغ الأحكام إلى الناس، فالعلماء مسؤولون تجاه أحكام الله تعالى، والدين
أمانة الله العظيمة في أيديهم، والناس رعايا تحت رعايتهم.
قال الإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام في ضمن خطبة له: وأنتم أعظم
الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تعون ذلك، بأن مجاري
الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه.. (1).
ولما كانت هذه المسؤولية الخطيرة مصيبة عظيمة، فأداؤها ومراعاتها

(1) تحف العقول عن آل الرسول ص 169.
3

والحفاظ عليها يصعد بالعالم المهتم بذلك مقاما رفيعا ويوجب له أجرا جزيلا
يعرف ذلك بينه وبين ملائكة الله المقربين ويدعى عظيما عند سكان السماوات
الروحانيين.
فعن حفص بن غياث قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: من تعلم العلم
وعمل به وعلم لله دعي في ملكوت السماوات عظيما، فقيل: تعلم لله
وعمل لله وعلم لله (1).
وعلى أساس هذه الفكرة السامية فقد قام العلماء الأكارم بحفظ شؤون الدين
وإحياء أحكامه ونشر آثاره بكل طاقاتهم وغاية جهودهم في أشكال مختلفة
وبمناسبة الظروف والأحوال الشخصية والاجتماعية فشكر الله مساعيهم
الجميلة.
وأما اليوم فالمسؤولية خطيرة والخطب عظيم، وأنتم ترون الأجيال في أقطار
العالم وشتى نواحيه قد قضي على سعادتهم ووقعوا في ويلات ومحاولات جهنمية
وتحرر زائف وأظل عليهم غمام الشقاء وأصبحوا حيارى سكارى، وأمة هابطة
لا يذوقون طعم الحياة ولا يجدون لذة الأمن والأمان، فذلك الضياع والفساد
والانحطاط قليل من كثير من تبعات الانحراف عن الدين والاستخفاف بأمور
الشرايع والمناهج السماوية واتخاذ غير الاسلام منهجا.
ومع ذلك فما بقي من الآفات والعاهات والويلات من أثر هذه الانحرافات
أكثر مما مضى وجرى عليهم، وغدهم أدهى وأمر من أمسهم - لا سمح الله بذلك
- إلا أن يهتدوا إلى ربهم سبيلا ويتخذوا محمدا صلى الله عليه وآله إماما وقائدا
ويلجأوا إلى الدين، قال الله تعالى (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا
عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا
يكسبون) (2).
نعم إن تلك الظروف القاسية والأجواء المظلمة الفاسدة تتطلب توسعة

(1) الكافي ج 1 ص 35 ح 6.
(2) سورة الأعراف الآية 96.
4

الجهود وبذل المجهود بأشكاله ليلا ونهارا سرا وإعلانا، بحيث يناسب مقاومة
تلك الدعايات الباطلة والنعرات الكافرة التي ملأت العالم.
فعلى العلماء الأعلام أن يجدوا بنشاط في تبيين معارف الاسلام ومناهجه
القويمة وكشف الغطاء عن أحكام الدين، وأن لا يعرضهم فتور في ترويج
الشريعة وإنقاذ الأمة، وتعليم الناس الحلال والحرام وشعائر الاسلام، كما أن
على الأمراء وذوي المقدرة أن يجتهدوا ويسارعوا إلى تنفيذ هذه الأحكام
والمقررات.
وعلى الشعب المسلم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعبدوا بتلك
(الأحكام - وخاصة عند تنفيذها - بقلب ملؤه الرضا واليقين ويكسبوا بذلك
المجد والسيادة والثناء الجميل في هذه الدنيا، والأجر والثواب ورحمة الله
الواسعة في دار النعيم.
ولعمري إن من يحس ويعي الأخطار الموحشة المتوجهة إلى الاسلام وأجيال
المسلمين الآتية سوف يندفع دون توان إلى الذب عن الاسلام ونصرة الدين
والأمة وتوجيههما إلى الله سبحانه.
وإني أرجو الله تعالى الذي لا يخيب من رجاه أن يجعل عملنا القليل وتأليف
كتابنا حول حدود الاسلام خطوة متواضعة إلى تحقيق هذه المهمة.
وقد خرج الجزء الأول منه إلى النور قبل بسنتين تقريبا وصار في متناول
العلماء الأعلام والفقهاء العظام وأحرز بمن الله ولطفه العميم مكانه لديهم وتلقاه
الأفاضل بالقبول وطلب كثير من المشتغلين إخراج ما بقي من تلك المباحث إلى
الطباعة وحثني عدة من العلماء الأعلام والأفاضل الكرام لطبع باقي مجلدات هذا
الكتاب، فقررت إجابة طلبهم السامي وهيأت مما كتبته في الحدود والتعزيرات
هذه المجموعة، التي هي أيضا نتيجة ما تلقيته في محفل علمي عظيم ومعهد فقهي
ثقافي كبير - كان يقام صبيحة كل يوم في مسجد الزعيم العالمي الراحل السيد
البروجردي قدس الله أسراره، وكنا نتلقى دروسها من رجل كبير عبقري، وهو
5

بقية السلف وأستاذنا الأكبر المرجع الأعلى وآية الله العظمى السيد الگلپايگاني
دام ظله العالي.
وقد كان دام ظله قبل أن يغلب عليه الضعف - إلى جانب المرجعية الكبرى
العامة التي أتاحها الله له وأنعم الله بها عليه منذ سنوات عديدة - مهتما بأمر
التدريس وتربية العلماء والمجتهدين ولم يزل دؤوبا على ذلك متأهبا صباح كل
يوم للذهاب إلى مجلس درسه العظيم الحافل بالأعلام والأفاضل وكان يرقى
منبر التدريس ويلقي دروسه العالية بشوق وافر ونشاط بالغ، ولم يعرض له
فتور في ذلك حتى بلغ كتاب الحدود قريبا من نهايته. أدام الله أيامه ومن الله
على المسلمين بطول بقائه.
فهذه الدراسة التي نقدمها إليكم أيها القراء الكرام والعلماء الأجلاء كانت من
إفاضاته، وهي تحتوي على المواضيع التالية: حد اللواط وحد السحق وحد
القيادة وحد القذف وحد شرب الخمر.
نسأل الله تعالى أن يجعله بمنه وأياديه خطوة إلى التعرف إلى قوانين الاسلام
الراقية، وأحكامه السياسية والاجتماعية التي هي من أقوى العوامل لحفظ
المجتمعات وتأسيس مجتمع قائم على العفة والسعادة والمجد والكرامة، فإن
تلك الأهداف الراقية والجو المطمئن لا يتحقق إلا في ظلال الدين والتمسك بحدود
الاسلام وأحكامه وسياساته.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قم - الحوزة العلمية
13 ربيع الثاني 1414 علي الكريمي الجهرمي
6

في حد اللواط
قال المحقق قدس سره: الباب الثاني في اللواط والسحق والقيادة، أما
اللواط فهو وطي الذكران بإيقاب وغيره.
أقول: اللواط في اللغة: قال في مجمع البحرين: لاط الرجل ولاوط إذا عمل
عمل قوم لوط، ومنه اللواط أعني وطي الدبر، وفي الحديث: اللواط ما دون
الدبر والدبر هو الكفر، وفيه أيضا: إن أصل اللوط اللصوق، وهذا شئ لا
يلتاط بقلبي أي لا يلصق به. انتهى.
وقد عرفه المحقق كما رأيت بوطئ الذكران سواء كان بالايقاب أي
الادخال، أو غيره.
والظاهر أن مقصوده اللواط الذي هو موضوع البحث في الفقه.
في حرمة اللواط
ثم إنه لا شك في حرمة اللواط بل إن حرمته من ضروريات الدين ودل
عليها الكتاب المبين (1) وسنة سيد المرسلين وأهل بيته الطاهرين صلوات الله

(1) فمن جملة تلك الآيات الكريمة قوله تعالى: ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما
سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم
مسرفون... فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف
كان عاقبة المجرمين. الأعراف - 80...
ومنها قوله سبحانه: ولوطا إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئنكم لتأتون
الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا
آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين
وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين. النمل - 54...
ومنها قوله تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون... فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون. سورة المؤمنون - 7، المعارج - 31.
7

عليهم أجمعين. وقد خرج في الوسائل ثلاث عشرة رواية تحت عنوان تحريم
اللواط على الفاعل وإحدى عشرة رواية في تحريم اللواط على المفعول ونحن
نقتصر على ذكر بعضها:
فمنها رواية الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: من جامع غلاما جاء يوم القيامة جنبا لا ينقيه ماء الدنيا
وغضب الله عليه ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا - ثم قال - إن الذكر
يركب الذكر فيهتز العرش لذلك (1) وإن الرجل ليؤتى في حقبه فيحبسه الله على
جسر جهنم حتى يفرغ الله من حساب الخلائق ثم يؤمر به إلى جهنم فيعذب
بطبقاتها طبقة طبقة حتى يرد إلى أسفلها ولا يخرج منها (2).
وعن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته
يقول: حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج وإن الله أهلك أمة لحرمة الدبر ولم
يهلك أحدا لحرمة الفرج (3). والمقصود من الأمة التي أهلكهم الله في الدبر قوم
لوط عليه السلام.
وعن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام في قوم لوط: (إنكم لتأتون
الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين) فقال: إن إبليس أتاهم في صورة
حسنة فيها تأنيث وعليه ثياب حسنة فجاء إلى شباب منهم فأمرهم أن يقعوا به،
ولو طلب إليهم أن يقع بهم لأبوا عليه ولكن طلب إليهم أن يقعوا به فلما وقعوا به

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرم ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 14 ب 18 من أبواب النكاح المحرم ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرم ح 2.
8

التذوه ثم ذهب عنهم وتركهم فأحال بعضهم على بعض (1) إلى غير ذلك من
الروايات.
كلام حول قيود التعريف
ثم إنه قد خرج بقيد الذكران الوطئ في دبر غير الانسان كالحيوانات كما أنه
قد خرج بذلك الوطئ في دبر المرأة من الانسان.
ثم إنه بعد أن الايقاب المذكور في تعريف اللواط كان بمعنى الادخال فهل
المعتبر إدخال تمام الحشفة أو أنه يكفي في جريان الحكم إدخال بعضها؟ بعد أنه
لا إشكال في عدم اعتبار أزيد من ذلك.
فنقول: اقتصر المحقق على ذكر الايقاب بلا تعرض للمتعلق ولكن العلامة
أعلى الله مقامه ذكر المتعلق قائلا في القواعد عند تعريف اللواط: وهو وطي
الذكر من الآدمي، فإن كان بإيقاب وحده غيبوبة الحشفة في الدبر وجب القتل
على الفاعل والمفعول إلخ.
وفي المسالك تعرض لما هو مورد البحث فقال بشرح عبارة المحقق المذكورة:
أراد بالايقاب إدخال الذكر ولو ببعض الحشفة لأن الايقاب لغة الادخال
فيتحقق الحكم و إن لم يجب الغسل.
ثم رد على العلامة بقوله: واعتبر في القواعد في الايقاب غيبوبة الحشفة،
ومطلق الايقاب لا يدل عليه. انتهى.
وقال السيد في الرياض: ادخال الذكر في دبره ولو بمقدار الحشفة وفي
الروضة إن ظاهرهم الاتفاق على ذلك وإن اكتفوا ببعضها في تحريم أمه وأخته
وبنته انتهى.
وفي كشف اللثام بشرح عبارة القواعد المذكورة آنفا: لعله احتاط بذلك وإلا

(1) وسائل الشيعة ج 14 من أبواب النكاح المحرم ح 3
9

فالنصوص والفتاوى مطلقة يشتمل ما دونه، ويمكن تعميم الحشفة للكل
والبعض.
فاختلفت كلماتهم في خصوص غيبة بعض الحشفة في هذا المقام فظاهر كلام
المحقق هو الاكتفاء بالبعض في الحكم بالحد كما أنه الظاهر جدا من عبارة
المسالك في حين أن مقتضى كلام العلامة والروضة والرياض هو اعتبار غيبوبة
الحشفة كلها وإن أمكن أن يقال: إن مراد العلامة بغيبوبة الحشفة غيبوبتها ولو
ببعضها لكن ذلك خلاف الظاهر.
وكيف كان فلو قلنا بكون إدخال الحشفة أعم كما لعله ظاهر لفظ الايقاب و
لا خلاف على الظاهر في كفاية الأعم فهو، كما أنه لو ثبت الاتفاق الذي ادعاه
الشهيد الثاني وقيل باعتبار التمام فلا كلام.
أما لو شك في اعتبار ذلك وعدمه فالمرجع هو قاعدة درء الحدود بالشبهات.
هذا بالنسبة للايقاب وأما: غيره المذكور في التعريف في كلام المحقق فالمراد
منه هو التفخيذ أو الادخال بين الأليتين حيث إنه يطلق عليهما اللواط مجازا.
وفي الجواهر بعد ذكر اختلاف كلماتهم في ذلك: وعلى كل حال فالظاهر أن
إطلاق اللواط على غيره من التفخيذ أو الفعل بين الأليتين من المجاز، وإدراج
المصنف له في تعريفه تبعا للنصوص التي منها ما سمعته بل ربما كان الظاهر من
بعضها كونه المراد من الوطي. إنتهى.
الكلام في طريق ثبوته
قال المحقق: وكلاهما لا يثبتان إلا بالاقرار أربع مرات أو شهادة أربعة
رجال بالمعاينة.
أقول: يعني إنه لا يثبت الايقاب وغيره أي التفخيذ مثلا إلا بأن يقر الانسان
بنفسه أربع مرات بهذا العمل أو أن يشهد على ذلك أربعة شهود فلا يثبت بأقل
من ذلك ولا بغيره.
10

وفي الجواهر بالنسبة إلى الاقرار: الذي قطع به الأصحاب.
أقول: ودلت على ذلك الروايات الشريفة كصحيح مالك بن عطية أو حسنه
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام في ملأ من
أصحابه إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهرني، فقال
له: يا هذا امض إلى منزلك لعل مرارا هاج بك فلما كان من غد عاد إليه فقال له:
يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهرني فقال له: اذهب إلى منزلك لعل
مرارا هاج بك حتى فعل ذلك ثلاثا بعد مرته الأولى فلما كان في الرابعة قال: يا
هذا إن رسول الله صلى الله عليه وآله حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيهن
شئت قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما
بلغت أو إهداب - إهداء - من جبل مشدود اليدين والرجلين، أو إحراق بالنار.
قال: يا أمير المؤمنين أيهن أشد علي؟ قال: الاحراق بالنار قال: فإني قد
اخترتها يا أمير المؤمنين فقال: خذ لذلك أهبتك فقال: نعم، قال: فصلى ركعتين
ثم جلس في تشهده فقال: اللهم إني قد أتيت من الذنب ما قد علمته وإني
تخوفت من ذلك فأتيت إلى وصي رسولك وابن عم نبيك فسألته أن يطهرني
فخيرني ثلاثة أصناف من العذاب اللهم فإني اخترت أشدهن اللهم فإني أسألك
أن تجعل ذلك كفارة لذنوبي وأن لا تحرقني بنارك في آخرتي ثم قام وهو باك حتى
دخل الحفيرة التي حفرها له أمير المؤمنين عليه السلام وهو يرى النار تتأجج
حوله، قال: فبكى أمير المؤمنين عليه السلام وبكى أصحابه جميعا فقال له أمير
المؤمنين عليه السلام: قم يا هذا فقد أبكيت ملائكة السماء وملائكة الأرض
فإن الله قد تاب عليك فقم ولا تعاودن شيئا مما فعلت (1).
قوله عليه السلام: لعل مرارا هاج بك أي لعله غلب عليك الصفراء، فلذا
تهجر وتهذو.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 423 ب 5 من أبواب حد اللواط ح 1 وموردها وإن كان هو
الإيقاب إلا أن الظاهر عدم الفرق بينه وبين التفخيذ في ذلك ولم ينقل خلاف فيه.
11

وقد اختلف في كونها صحيحة أو حسنة وذلك لأجل علي بن إبراهيم عن أبيه
ولكن الأقوى أنها صحيحة كما وأنها تدل على اعتبار أربع مرات في الاقرار
وعلى أن التوبة تقبل في درء الحد إذا كان قد ثبت بالاقرار، في حين أنه لا تقبل
إذا ثبت بالشهادة.
ثم إنه كما يثبت ذلك بالاقرار أربع مرات كذلك يثبت بشهادة أربعة رجال
بالمعاينة ولا خلاف في ذلك كما في الزنا.
شرائط المقر
قال المحقق: ويشترط في المقر البلوغ وكمال العقل والحرية والاختيار فاعلا
كان أو مفعولا.
أقول: أما الصبي والمجنون والمكره فلا تكليف عليهم فلا أثر يترتب على
إقرارهم.
وأما اشتراط الحرية فلأن اقرار العبد على نفسه يكون بضرر المولى والاقرار في
حق الغير غير مسموع.
تعزير من أقر دون أربع
قال المحقق: ولو أقر دون أربع لم يحد وعزر.
أقول: قد تقدم أن الاقرار أربع مرات موجب للحد وعليه فلو أقر دون ذلك
فهو لا يوجب الحد وإنما يوجب تعزير المقر وذلك لاقراره بالفسق فيشمله إقرار
العقلاء على أنفسهم جائز، وثبوت الفسق ليس كثبوت اللواط في الافتقار إلى
الأربع فلا يشترط فيه ذلك، ولا تلازم بين عدم ثبوت الحد وعدم ثبوت
التعزير، وعلى الجملة فحيث إنه أقر بمعصية كبيرة فلذا يثبت عليه التعزير.
والانصاف أنه يشكل تصوير ذلك لأن التعزير إذا كان لأجل الاقرار
12

بالمعصية الكبيرة فليس هي إلا اللواط ولم يثبت ذلك فلو كان يثبت ذلك لوجب
الحد وإلا فلا تعزير أيضا.
ويمكن أن يقال: إن الأمر هنا يتصور على وجهين:
أحدهما أن ثبوت المعصية محتاج إلى الأربع فبدونه لا يثبت، ولا حد هناك.
ثانيهما أن يقال بثبوته بذلك إلا أنه لا يقام الحد بدون الأربع فإن كان إثبات
المعصية منوطا بالأربع فبدونه لا يثبت فلا وجه للحد لعدم ثبوت الفسق.
وأما إنه يثبت إلا أن الحد كان منوطا بالأربع فهو بعيد جدا لأن الحد متعلق
باللواط والزنا على ما هو لسان الأدلة كقوله تعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا
كل واحد منهما مأة جلدة) (1).
هذا مضافا إلى منافاة هذا لما يظهر من صحيح مالك بن عطية المذكورة آنفا
حيث إن الإمام عليه السلام لم يعزره في المرة الأولى مثلا وهل أنه لو كان المقر لا
يرجع بعد إقراره الأول كان الإمام يستحضره ويعزره؟ بل الظاهر أنه كان يخلي
سبيله ويتركه وترى أنه عليه السلام أمر بالذهاب إلى منزله.
وعلى الجملة فظاهر هذه الرواية خصوصا بقرينة قوله: اذهب إلى منزلك
وقوله: لعل مرارا هاج بك، هو تخصيص إقرار العقلاء على أنفسهم جائز وعدم
قبول الاقرار مرة واحدة وإنه لا يؤثر شيئا فكما أنه لا يوجب الحد كذلك لا
يوجب التعزير وإلا لكان يلزم التعزير على كل إقرار من أقاريره وإن كان يلزم
الحد بتمام الأربع وقد استشكل السيد صاحب الرياض قدس سره في الحكم
بالتعزير بذلك فراجع.
والحاصل أن المستفاد من الأخبار هو استثناء الزنا واللواط عن سائر
المعاصي في أنه يكتفى فيها بشاهدين أو إقرارين فلا يكتفى فيهما بذلك بل لا بد
من أربعة شهود أو أربعة أقارير فقد جعل الشارع الطريق إلى إثباتهما ذلك،
ودون ذلك ليس بحجة ولا أثر له حتى التعزير كما أنه جعل علم الحاكم طريقا إليه

(1) سورة النور الآية 2.
13

فإذا علم مع قطع النظر عن البينة فهناك يعمل بعلمه وإذا لم يكن كذلك وأريد
الاثبات من طريق الشهود فلا بد من الأربعة حتى ولو حصل العلم من الشهادة
قبل تمام الأربعة كما أنه كان يحصل العلم غالبا بشهادة بعض الشهود وبأقل من
الأربعة ومع ذلك كانوا يحكمون بالأربعة لا بدونها. فتحصل أن التعزير بالاقرار
مرة واحدة محل الاشكال.
تعزير الشهود إذا كانوا دون أربع
قال المحقق: ولو شهد بذلك دون الأربعة لم يثبت وكان عليهم الحد للفرية.
أقول: بعد أن تحقق أنه في الشهادة في المقام لا بد من شهادة أربعة شهود فهنا
نقول: إذا شهد أقل من ذلك فإن شهادتهم لا تؤثر في إثبات الزنا وإقامة الحد
على المشهود عليه إلا أنها حيث كانت قذفا وفرية فإنها توجب حد القذف على
من شهد بذلك وإن انضمت إلى ما دون الأربعة النساء وذلك لأنه لا أثر
لشهادتهن في باب الحدود منفردات أو منضمات لدلالة الأخبار على ذلك.
نعم قد تقبل شهادتهن في الزنا على بعض الوجوه (1) ولكن القبول هناك لا
يستلزم القبول في المقام لورود الدليل هناك وعدم وروده في المقام وإن قال به
الصدوقان وابن زهرة لكن لا دليل يعتمد عليه ويتمسك به في المورد والقياس
باطل عندنا معاشر الإمامية والأصل عدم الثبوت في غير ما دل عليه الدليل مع
أن الحدود تدرء بالشبهات، وخلاف هؤلاء غير قادح فإن المتبع هو الدليل.
قال المحقق: ويحكم الحاكم فيه بعلمه إماما كان أو غيره على الأصح.
أقول: قد تقدم البحث في ذلك في كتاب القضاء.

(1) فإنه يثبت الزنا بثلاثة رجال وامرأتين وبرجلين وأربع نساء في مورد الجلد فقط راجع
الجواهر ج 41 كتاب الشهادات ص 155.
14

وأما: ما ذهب إليه الحلبي قدس سره من حجية الشهرة في المقام قائلا: (وإذا
تزيا الذكر بزي المرأة واشتهر بالتمكين من نفسه وهو المخنث في عرف العادة قتل
صبرا وإن فقد البينة والاقرار بإيقاع الفعل به لنيابة الشهرة منابهما (1) فلم يقم
عليه دليل والأصل عدم وجوب الحد ما لم يبلغ حد العلم للحاكم أو الشهود وإن
كانت الشهرة حجة عند العرف فإن المثبت هنا غير المثبت العرفي وذلك لحكمة
عدم وقوع الحد كثيرا فهنا لا يكتفي بعدم الردع بل يحتاج إلى الامضاء.
الايقاب يوجب القتل على الفاعل والمفعول
قال المحقق: وموجب الايقاب القتل على الفاعل والمفعول إذا كان كل منهما
بالغا عاقلا.
أقول: أي إذا ثبت الايقاب والدخول فهناك يقتل الفاعل والمفعول - وسيأتي
كيفية القتل وظاهره أن الحكم ذلك سواء كان محصنا أم غير محصن.
وفي الجواهر بعد لفظة المفعول: بلا خلاف أجده فيه نصا وفتوى بل الاجماع
بقسميه عليه انتهى.
ولا ندري أن ادعاءه عدم الخلاف والاجماع متعلق بكل الجملة السابقة أو أنه
يختص بالأخير فقط أي قوله: والمفعول (2) ولو كان متعلقا بالجميع ففيه تحقق
الخلاف خصوصا في النصوص كما سترى ذلك.
وفي المسالك: لا خلاف في وجوب قتل اللائط الموقب إذا كان مكلفا
والأخبار به متضافرة إلخ.
وفي الرياض بعد ذكر شمول الحكم للعبد ولغير المحصن أيضا: بلا خلاف على

(1) الكافي في الفقه ص 409.
(2) لو احتمل ذلك في هذا المقام فما يصنع بقوله - عند قول المحقق: ويستوي في ذلك... والمحصن وغيره - لا خلاف فيه بل الإجماع بقسميه عليه.
15

الظاهر المصرح به في السرائر بل ظاهرهم الاجماع عليه كما في جملة من العبائر
ومنها الانتصار والغنية وهو الحجة (ثم قال:) مضافا إلى النصوص المستفيضة
الآتي إلى جملة منها الإشارة ولكن بإزائها نصوص أخر دالة على أن حد اللوطي
حد الزاني إن كان قد أحصن رجم وإلا جلد إلا أنها شاذة لا عامل بها موافقة
للتقية كما صرح به شيخ الطائفة حاملا لها عليها تارة وأخرى على غير الايقاب
لتسميته لواطا أيضا اتفاقا فراجع.
فترى أنه لم يدع اتفاق النص بل إنما ادعى استفاضة النصوص وصرح
بوجود نصوص أخر على خلافها.
كما وأنه رحمه الله لم يدع عدم الخلاف فتوى بل وصرح باختيار بعض
متأخري المتأخرين باشتراط الاحصان مضافا إلى الايقاب، في قتل الفاعل أو
رجمه فراجع وهذا أحسن من قول الجواهر، وذلك لوجود الاختلاف فيهما.
وكيف كان فكلمات العلماء هنا مختلفة فالمستفاد من بعضها أن اللواط موجب
للقتل سواء كان بالايقاب أو بغيره إذا كان محصنا والمراد من الغير هو التفخيذ
مثلا ومن بعضها أن القتل مختص بصورة الايقاب أما في غيرها فالجلد.
وإليك بعض الكلمات:
قال الشيخ قدس سره - بعد أن قسم اللواط على ضربين أحدهما الايقاع في
الدبر ثانيهما إيقاع الفعل فيما دونه وإن الحكم في الأول القتل بالصور الخاصة -:
والضرب الثاني من اللواط وهو ما كان دون الايقاب فهو على ضربين: إن
كان الفاعل أو المفعول به محصنا وجب عليه الرجم وإن كان غير محصن كان
عليه الجلد مأة جلدة (1).
وتبعه ابن البراج وابن حمزة على ما في المختلف.
وقال الشيخ المفيد قدس سره: إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين ففيه
جلد مأة للفاعل والمفعول به إذا كانا عاقلين بالغين، ولا يراعى في جلدهما عدم

(1) النهاية ص 704.
16

الاحصان ولا وجوده كما يراعى ذلك في الزنا بل حدهما الجلد على هذا الفعل
دون ما سواه (1) وذكر رحمه الله أن في الايلاج في الدبر القتل سواء كان
المتفاعلان على الاحصان أو على غير الاحصان (2) فهو قدس سره أفتى بجلد
غير الموقب مطلقا سواء كان محصنا أو غيره.
وقال العلامة أعلى الله مقامه في المختلف: وبه قال السيد المرتضى وابن أبي
عقيل وسلار وأبو الصلاح، وقال الصدوق وأبوه في رسالته: وأما اللواط فهو ما
بين الفخذين فأما الدبر فهو الكفر بالله العظيم، ومن لاط بغلام فعقوبته أن يحرق
بالنار أو يهدم عليه حائط أو يضرب ضربة بالسيف، ثم قال بعد ذلك أبوه: فإذا
أوقب فهو الكفر بالله العظيم، وهذا يعطي أن القتل يجب بالتفخيذ وكلام ابن
الجنيد يدل عليه أيضا، وابن إدريس اختار ما ذهب إليه المفيد وهو الأقرب (3).
وظاهر كلام هذين هو القتل في غير الموقب بواحد من الأنحاء الثلاثة محصنا
أو غير محصن وأما الايقاب فقد قالا بأنه كفر بالله، وهذا من باب التأكيد
والتشديد في هذه المعصية.
والحاصل أن الحكم في صورة الايقاب هو القتل مطلقا بلا خلاف في ذلك إلا
عن بعض متأخري المتأخرين على ما حكاه في الرياض، وقد ذهب إليه بعض
المعاصرين للجمع بين الروايات بنظره.
وإنما الخلاف في موضعين: أحدهما في أن الفخذين والأليين كالدبر في الحكم
كما ذهب إليه الصدوقان أم لا.
ثانيهما في أنه هل أنه يفرق بين الاحصان وعدمه على ما ذهب إليه بعض في
غير الايقاب أم لا؟.
واللازم هو المراجعة إلى الأخبار واستفادة الحكم منها إن أمكن ذلك وإلا
فالمرجع هو الاجماع إن كان وإلا فيتمسك بقاعدة الدرء.

(1) المقنعة ص 785.
(2) المقنعة ص 785.
(3) مختلف الشيعة ص 764.
17

قال الشيخ المحدث الحر العاملي: باب أن حد الفاعل مع عدم الايقاب كحد
الزنا ويقتل المفعول به على كل حال مع بلوغه وعقله واختياره.
عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: الملوط حده حد الزاني (1).
ظاهره وقوع الايقاب لا التفخيذ مثلا على ما يستعمل فيه اللواط في بعض
المواقع فمقتضى ذلك عدم الفرق بين الاحصان وغيره.
وعن سليمان بن هلال عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يفعل بالرجل
قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد وإن كان ثقب أقيم قائما ثم ضرب بالسيف
ضربة أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له: هو القتل؟ قال: هو ذاك (2).
وهنا ذكر أن حد الايقاب هو القتل بصورة مطلقة.
.. عن العلاء بن الفضيل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: حد اللوطي مثل
حد الزاني، وقال: إن كان قد أحصن رجم وإلا جلد (3).
وعن حماد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام رجل أتى رجلا؟
قال: عليه إن كان محصنا القتل وإن لم يكن محصنا فعليه الجلد قال: قلت فما على
المأتي به؟ قال: عليه القتل على كل حال محصنا كان أو غير محصن (4).
عن الحسين بن علوان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه السلام.
إنه كان يقول في اللوطي: إن كان محصنا رجم وإن لم يكن محصنا جلد الحد (5).
وعن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه إن علي بن أبي طالب عليه

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 3.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ص 416 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 4 قال دام ظله والوجه في
الفرق بين الفاعل والمفعول به هو أن الفاعل يدفع شهوته فإذا كانت له زوجة فالحجة قائمة عليه
دون ما إذا لم تكن له زوجة وهذا لا يجري في المفعول به.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 6.
18

السلام كان يقول: حد اللوطي مثل حد الزاني، إن كان محصنا رجم وإن كان عزبا
جلد مأة ويجلد الحد من يرمي به بريئا (1).
وعن يزيد بن عبد الملك قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الرجم
على الناكح والمنكوح ذكرا كان أو أنثى إذا كانا محصنين وهو على الذكر إذا كان
منكوحا أحصن أو لم يحصن (2).
وهذه الروايات صريحة في التفصيل بين المحصن وغيره إلا أن بعضها صرح
في المحصن بالقتل، وبعضها بالرجم، ولا بأس بذلك لأنه يحمل على التخيير كما
أن في بعض الروايات الأهداب من الجبل أيضا.
وهنا بعض الأخبار الذي قد يقال بأنه مطلق كرواية مالك بن عطية عن أبي
عبد الله عليه السلام في حديث: إن أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل أقر
عنده باللواط أربعا: يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وآله حكم في مثلك
بثلاثة أحكام فاختر أيهن شئت قال: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة
بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت، أو إهداب (إهدأ) من جبل مشدود اليدين
والرجلين أو إحراق بالنار (3).
وفيه إن عد هذه من المطلقات غير صحيح وذلك لأن الرواية حكاية عن
واقعة شخصية ولا إطلاق لها فلو كان قد قيل بأنه رجل أوقب فهو يقتل مثلا
لكان يصح الأخذ بإطلاقه أما حكم القتل مثلا بالنسبة إلى الرجل الذي أقر
عنده باللواط أربعا فلا فلذا لو احتمل كونه محصنا فلا طريق إلى الحكم بكون
غير المحصن أيضا مثله.
نعم يصح أن يقال بأن الإمام عليه السلام لم يستفصل عن أنه كان محصنا أو
غيره، وترك الاستفصال يقتضي عدم الفرق بين المحصن وغيره وإلا لو كانت

(1) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 7.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 418 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 8.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد اللواط ح 1.
19

للمحصن خصوصية لكان اللازم الاستفصال.
لكن فيه أن ترك الاستفصال يفيد الاطلاق إذا لم يحتمل جري كلامه على
علمه بالحال والحال أن احتمال كونه عليه السلام عالما بأنه محصن ولذا حكم
بالقتل الذي هو حكم المحصن، قائم، وعلى هذا فلا يتم ما ذكره بعض
المعاصرين من أن رواية مالك بن عطية مطلقة غير مقيدة بكونه محصنا ومقتضى
الجمع تقييدها بالمقيدات.
فإنه قد ثبت أنه لا إطلاق لها بل إنه لا يمكن التمسك فيها بترك الاستفصال،
ولو كانت مطلقة لكان يتم أنها تقيد بالمقيدات وحينئذ فلا منافاة بينها وبين
المقيدات بل رواية ابن عطية مجملة وهذه الروايات بيان لها.
نعم يمكن أن يكون المراد من قوله عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه
وآله حكم في مثلك إلخ مثلك في الايقاب، وعليه فتكون الرواية مطلقة وأما لو
كان المراد منه مثلك في الاحصان فلا إطلاق بل يكون الحكم هو التفصيل
وحيث إن احتمال كون الرجل محصنا قائم فلذا ليست الرواية مطلقة لأن المعنى
حينئذ مثلك في الاحصان.
وأما رواية أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتي أمير
المؤمنين عليه السلام بامرأة وزوجها قد لاط زوجها بابنها من غيره وثقبه
وشهد عليه بذلك الشهود فأمر عليه السلام به فضرب بالسيف حتى قتل
وضرب الغلام دون الحد وقال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لامكانك إياه من
نفسك بثقبك (1).
فهي متعلقة بمورد المحصن ولا دلالة لها على التفصيل والاطلاق.
ويستفاد من الرواية أن حكم المفعول به القتل وأن عدم قتل الغلام كان مستندا
إلى كونه غير بالغ.
وعن سيف التمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتي علي بن أبي طالب

(1) التهذيب ج 10 ص 55 و 56.
20

عليه السلام برجل معه غلام يأتيه فقامت عليهما بذلك البينة فقال: يا قنبر
النطع والسيف ثم أمر بالرجل فوضع على وجهه ووضع الغلام على وجهه ثم أمر
بهما فضربهما بالسيف حتى قدهما بالسيف جميعا (1).
وهذه أيضا لا إطلاق لها ولعله كان الرجل محصنا.
وأما قتل الغلام فمحمول على بلوغه نعم هو ظاهر في عدم كونه محصنا وإلا لم يعبر
عنه بالغلام أو أنه بعيد وإن كان ذلك لا ينفعنا في المقام حيث إنه كان مفعولا به لا
فاعلا.
ثم إن مقتضى الروايات كما علمت هو التفصيل بين المحصن وغيره والحكم
بالقتل بواحد من الصور في الأول والجلد في الثاني وقد ذكر الشيخ: بعض الأخبار الدالة على التفصيل وذكر أنها تحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد بها
إذا كان الفعل دون الايقاب فإنه يعتبر فيه الاحصان وغير الاحصان...
والوجه الآخر أن نحملها على ضرب من التقية لأن ذلك مذهب بعض العامة.
وفيه أن بعض الأخبار المفصلة واردة بذلك في مورد الايقاب.
وأما بالنسبة إلى الوجه الثاني ففيه أنه لو كان فتوى العامة بذلك بحيث يحمل
عليها هذه الروايات المقيدة فهو، لكن من جملتها النقل عن أمير المؤمنين عليه
السلام وهو لا يساعد التقية (2).
لكن المشهور لم يقولوا بذلك ولم يفصلوا بين المحصن وغيره بل أفتوا بالقتل
مطلقا بلا فرق بينهما. حتى أن الشيخ المفيد الذي قال بالتفصيل فإنما فصل هو
بينهما في مورد عدم الايقاب وهذا يكشف عن كون تلك الروايات الدالة على
التفصيل معرض عنها ولم يعمل بها فمن كان لا يعتني بمخالفة المشهور وعدم
عملهم فهو في فسحة وراحة فيفتي بأن الموقب المحصن يقتل وغير المحصن يجلد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد اللواط ح 2.
(2) أقول: لم نقف على رواية حاكية عن التفصيل مشتملة على نقل فعل أمير المؤمنين عليه
السلام.
21

وأما من كان معتنيا بنظر المشهور ويقول بأنه لا يتجاوز عن خط الأصحاب
والعلماء الأكابر فلا يمكنه الافتاء بالتفصيل.
فالصحيح هو ما ذهب إليه المحقق رضوان الله عليه من الافتاء بالقتل مطلقا.
فإن هذه الروايات المفصلة كانت بأعينهم وفي أيديهم ولم يكن هناك إطلاق
محكم وثيق في قبالها فكيف إنهم أفتوا بالقتل مطلقا؟ هذا كله بالنسبة إلى المقام
الأول.
وأما الاختلاف الآخر فهو أنه هل الادخال بين الأليتين أو الفخذين أيضا
حكمه حكم الايقاب أعني القتل أم لا؟ بل إن حكمه الجلد؟
ذهب الصدوقان إلى الأول وخالف فيه الآخرون.
وقال الشيخ المفيد: واللواط هو الفجور بالذكران وهو على قسمين: أحدهما
إيقاع الفعل فيما سوى الدبر من الفخذين ففيه جلد مأة للفاعل والمفعول به إذا
كانا عاقلين بالغين ولا يراعى في جلدهما عدم الاحصان ولا وجوده كما يراعى
ذلك في الزنا بل حدهما الجلد على هذا الفعل دون ما سواه.. (1).
قال الشيخ في المبسوط: وإن كان الفجور بالذكور وكان دون الايقاب فإن
كان محصنا رجم وإن كان بكرا جلد الحد (2).
وقال في الخلاف: وإن كان دون الايقاب فإن كان محصنا وجب عليه الرجم
وإن كان بكرا وجب عليه مأة جلدة (3) (ومثله في النهاية).
فالشيخ المفيد يقول بالجلد مطلقا (4) والشيخ الطوسي يفصل بين المحصن
وغيره.
والمحقق في الشرايع قد عمم اللواط للايقاب وغيره إلا أنه خص القتل بما إذا

(1) المقنعة ص 785.
(2) المبسوط ج 8 ص 7.
(3) الخلاف كتاب الحدود ص 151 مسألة 22.
(4) قال في السرائر ج 3 ص 459: بأنه مذهب شيخنا المفيد والسيد المرتضى وغيرهما من
المشيخة رحمهم الله وهو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة القاهرة إلخ.
22

كان هناك إيقاب.
وقد ورد في بعض الروايات أن غير الموقب أيضا يقتل، مثل رواية حسين
بن سعيد قال: قرأت بخط رجل أعرفه إلى أبي الحسن عليه السلام وقرأت
جواب أبي الحسن عليه السلام بخطه: هل على رجل لعب بغلام بين فخذيه حد؟
فإن بعض العصابة روى أنه لا بأس بلعب الرجل بالغلام بين فخذيه فكتب: لعنة
الله على من فعل ذلك.
وكتب أيضا هذا الرجل ولم أر الجواب: ما حد رجلين نكح أحدهما الآخر
طوعا بين فخذيه ما توبته؟ فكتب: القتل.. (1).
وهذا الخبر مستند الصدوقين كما أن بعض الروايات دالة على الجلد مطلقا
وذلك كرواية سليمان بن هلال عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يفعل
بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد وإن كان ثقب أقيم قائما ثم ضرب
بالسيف أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له: هو القتل؟ قال: هو ذاك (2).
وهذه صريحة في اعتبار الجلد في قبال الثقب الذي يوجب القتل وقد اختار
هذا القول جمع من أكابر الأصحاب وفي المسالك إنه المشهور، وصريح الانتصار
والغنية الاجماع عليه.
وفي الرياض مضافا إلى أصالة البراءة والشك في وجوب الزائد فيدرء
للشبهة.
وفي الجواهر للأصل والاحتياط وخبر سليمان بن هلال.
وأما التفصيل فقد ذهب إليه جماعة جمعا بين الروايات الدالة على أن حده
حد الزاني وبين ما دل على قتله، بحمل الأول على غير الموقب والثاني على
الموقب.
وفيه أن الجمع فرع التكافؤ المفقود في المقام وعلى ذلك فالأول وهو وجوب

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 5.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من حد اللواط ح 1.
23

الجلد مطلقا أشبه بأصول المذهب وقواعده كما في الجواهر.
وأضعف من ذلك قول الصدوق والإسكافي من وجوب القتل، فقد جعل
القائل جميع ما دل على القتل، فيما دون الثقب، وأما الايقاب والادخال فهو
الكفر.
لكن الظاهر أن التعبير بالكفر تأكيد للحرمة.
ويمكن أن يقال بأنه إذا لم يكن ترجيح أخبار القتل على الجلد منجزا فهناك
يتمسك بقاعدة الدرء فإنه يعلم إجمالا بوجوب القتل أو الجلد فلا يمكن القول
بتساقط كلتا الطائفتين من الروايات فلا شئ، فإنه خلاف الاجماع وهو مخالفة
يقينية كما وأنه لا يمكن الاحتياط بالجمع بينهما فيؤخذ بأقل العقوبتين.
تساوي الأفراد في ذلك
قال المحقق: ويستوي في ذلك الحر والعبد والمسلم والكافر والمحصن
وغيره.
أقول: لا فرق في الحكم هنا بين الحر والعبد كما قال في المسالك: لا خلاف في
وجوب قتل اللائط الموقب إذا كان مكلفا والأخبار به متضافرة (ثم قال:)
والعبد هنا كالحر بالاجماع وإن كان الحد بغير القتل وليس في الباب مستند ظاهر
غيره.
وفي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه.
أقول: لو كان في المقام ما يدل بنحو كلي على أن حكم اللواط هو القتل فهذا
العموم يكفينا في إثبات تساوي العبد مع الحر في الحكم ولا حاجة معه إلى دليل
خاص في مورد العبد إلا أن الكلام في وجود مثل هذا العام.
ويمكن أن يكون منه قول أمير المؤمنين عليه السلام في رواية مالك بن عطية:
إن رسول الله صلى الله عليه وآله حكم في مثلك بثلاثة أحكام إلخ (ب 3 من
حد اللواط ح 1).
24

تقريبه إن يكون المراد من مثلك، مثلك في هذه المعصية وعلى هذا فلا فرق
بين الحر والعبد كما أنه لا فرق عليه بين الكافر والمسلم ولا بين المحصن وغيره.
نعم لو كان المراد منه مثلك في جميع الخصوصيات حتى الحرية فهناك لا
يشمل العبد.
لكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر.
وعلى هذا فلا ينحصر المستند بالاجماع بل الدليل اللفظي أعني العموم أيضا
يدل على ذلك وإنما ينحصر فيه إذا لم يكن دليل لفظي يدل عليه كما أنه لو لم يكن
إجماع أيضا وشك في المقام فإن الحد يدرء بالشبهة.
ثم إن من جملة العمومات التي يكتفى بها في المقام ما ورد في رواية سليمان بن
هلال عن أبي عبد الله عليه السلام: إن كان دون الثقب فالجلد وإن كان ثقب
أقيم قائما ثم ضرب بالسيف (1).
فإن قوله: وإن كان ثقب أقيم إلخ يشمل الحر والعبد خلافا لباب الزنا الذي
كان حد العبد هناك على النصف.
ولا ينافي ذلك ما ورد في الروايات من أن حد اللوطي مثل حد الزاني ب 1
ح 3 و ح 7 وذلك لأن المراد طبعا أن حد غير الموقب هو حد الزنا وأما الموقب
فلا، بل حكمه القتل مطلقا حرا كان أو عبدا.
إيقاب البالغ بالصبي أو العاقل بالمجنون
قال المحقق: ولو لاط البالغ بالصبي موقبا قتل البالغ وأدب الصبي وكذا لو
لاط بمجنون.
أقول: ويدل على الحكم بالنسبة إلى الصبي خبر أبي بكر الحضرمي عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأة وزوجها، قد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 1.
25

لاط زوجها بابنها من غيره وثقبه وشهد عليه بذلك الشهود فأمر به عليه
السلام فضرب بالسيف حتى قتل وضرب الغلام دون الحد وقال: أما لو كنت
مدركا لقتلتك لامكانك إياه من نفسك بثقبك (1).
فهذا صريح في قتل الزوج اللائط وضرب الغلام دون الحد.
ولا يخفى أن ضرب الصبي وتأديبه يجري فيما إذا كان له نوع شعور ينفعه
التأديب وإلا فهو لغو لا يترتب عليه أثر وعلى الجملة فحيث إنه ليس بمكلف
فلذا يضرب دون الحد كما أنه يستفاد من قوله عليه السلام: لو كنت مدركا
لقتلتك إلخ.. أن شرط القتل هو الادراك أعني البلوغ بل يستفاد منه حكم
المجنون والمكره أيضا فتعدى الحكم من الصبي إلى المجنون من باب عموم
التعليل وإلا فلا ذكر عن المجنون إلا أنهما يشتركان في عدم التكليف غاية الأمر
من جهة الصبا في الطفل ومن جهة عدم الادراك في المجنون. والمستفاد من قوله
فضرب بالسيف حتى قتل، أنه لو لم يقتل بالضربة الأولى يضرب هكذا حتى
يقتل.
حكم ما إذا لاط المولى بعبده
قال المحقق: ولو لاط بعبده حدا قتلا أو جلدا.
أقول: أي القتل إذا كان قد أوقب والجلد إذا لم يوقب.
ولعل وجه تعرضه لذلك هو أن بعض العامة نفي الحد هنا لشبهة عموم تحليل
ملك اليمين وهو باطل فإنه لا يحل العبد لمولاه وأما قوله تعالى: أو ما ملكت
أيمانهم (2) فإنما هو يختص بالأمة لمولاها والاجماع من الأصحاب قائم على ذلك
والقول بجواز وطي العبد لأنه ملك اليمين من المستقبحات والمستكرهات عند

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد اللواط ح 1.
(2) المؤمنون - 6 والمعارج - 30.
26

الإمامية.
سقوط الحد عن العبد إذا ادعى الاكراه
قال: ولو ادعى العبد الاكراه سقط عنه دون المولى.
أقول: إذا ادعى العبد أنه قد أكرهه المولى على ذلك فإن دعواه مسموعة
والنتيجة سقوط الحد عنه وأما المولى فإنه يقتل. ويمكن أن يكون الوجه في سماع
دعواه هو أنه ذو اليد فيقبل ما يدعيه بالنسبة إلى نفسه.
وفيه أن ذلك غير تام وذلك لأن كل واحد منهما ذو اليد فلو ادعى المولى
إكراه العبد له فلا بد من أن يقبل قوله.
فالصحيح هو ما تمسكوا به من قيام القرينة على صدق ما يدعيه وكأنها
موجبة للظن النوعي فإن العبد بالنسبة إلى مولاه مقهور ومطيع، والمولى بالنسبة
إلى العبد مسلط ومطاع والعبد تابع والمولى متبوع ولا عكس، فبحسب الظاهر
والعادة يمكن أن يكون المولى قد أكرهه على ذلك، وقوله مقبول عند العرف
ومسموع عند العقلاء ولا أقل من أنه يوجب الشبهة، والحدود تدرء بالشبهات
بخلاف ما لو ادعى المولى إكراه العبد له على ذلك فإن العرف لا يصدقه على ذلك
فلا شبهة، فلا درء هناك.
نعم لو ادعى المولى إكراه الغير له على ذلك وأمكن ذلك في حقه فإنه يحصل
الشبهة فيدرء عنه الحد بذلك.
يحد العاقل إذا لاط به مجنون
قال المحقق: ولو لاط مجنون بعاقل حد العاقل وفي ثبوته على المجنون قولان
أشبههما السقوط.
أقول: أما ثبوت الحد على العاقل فلعموم دليل الحد ولا إشكال فيه ولا
27

خلاف فقد لاط البالغ العاقل المختار.
وإنما الكلام في المجنون الذي كان لاطيا ففيه قولان:
أحدهما ثبوت الحد عليه وقد حكي ذلك عن الشيخين المفيد والطوسي
وأتباعهما مستندين في ذلك إلى وجوب الحد على المجنون مع الزناء.
ثانيهما سقوط الحد عنه وهو قول الباقين، وهو الحق فإن المجنون لو كان
بحيث لا يتعقل شيئا فمعلوم أنه لا حد عليه لعدم ترتب أثر عليه والظاهر أن
العلمين وأتباعهما أيضا لا يقولون بذلك.
ولو كان بحيث يؤثر إجراء الحد عليه في الجملة فهو وإن كان كذلك إلا أن
الاعتبار العقلي لا يجوز تكليف المجنون لعدم قابليته لذلك فلا حد عليه لا في
باب اللواط ولا في باب الزنا.
لا يقال إن المجنون كالصبي فكما أنه يعزر الصبي مع عدم تكليفه كذلك يحد
المجنون.
وذلك لأن الصبي قد أسقط الله عنه التكليف لطفا وإلا فهو ليس ممن لا
يتحمله أصلا بل هو لائق لذلك وهذا بخلاف المجنون الذي ليس قابلا للتكليف
ولا يؤثر فيه الحد وإلا لكان مكلفا وعلى الجملة فتسليم إجراء الحد عليه مشكل
في الغاية ولا أدري كيف تفوها بذلك.
والقول باستثناء باب الزنا مثلا غير صحيح كاحتمال استثناء حده وإن لم يكن
مكلفا، ولا يمكن الالتزام بهذه الأمور في المجنون نعم يصح القول بإجراء الحد
على قليل العقل لكنه غير المجنون ولذا قال المحقق قدس سره بأن الأشبه هو
السقوط أي أن الأشبه بقاعدة عدم تكليف المجنون وكذا الشك في التكليف،
ودرء الحدود هو السقوط.
فرع في المقام
وهنا فرع آخر لم يتعرض له المحقق وهو أنه لو لاط الصبي ببالغ فإنه يقتل
28

البالغ خاصة ويؤدب الصبي وذلك لعموم الأدلة وإطلاقاتها الدالة على أن
الايقاب موجب للقتل فإنها شاملة لهذا البالغ الذي تمكن للصبي بعد أنه لا عموم
في البين يدل على اعتبار البلوغ في الطرفين.
وأما ما ورد في رواية أبي بصير في امرأة محصنة زنى بها غلام صغير من أنها
لا ترجم لأن الذي نكحها ليس بمدرك.. (1) فلا يدل على سقوط القتل في المقام
وذلك لخروج الفرض المزبور عن العمومات بالنص ويبقى غيره تحت العمومات.
نعم لو استفيد من النص سقوط الرجم مطلقا إذا كان الواطي غير مكلف
فهناك لم يكن على الموطوء رجم وعليه فيمكن تعميم الحكم وانسحابه من
الموطوءة إلى الموطوء ولعله يستفاد ذلك من عموم التعليل الدال على توقف
الرجم على إدراك الناكح لكن الظاهر أن المستفاد من النصوص عكس ذلك.
قتل الذمي إذا لاط بمسلم مطلقا
قال المحقق: ولو لاط الذمي بمسلم قتل وإن لم يوقب.
أقول: إذا لاط الذمي بمسلم بالايقاب فهناك يقتل بلا كلام كما أن المسلم
الموقب بمسلم كان يقتل وليس هو بأخف من هذا.
وأما إذا لاط الذمي بمسلم بلا إيقاب فالحكم بالقتل هنا ليس كالفرض الأول
في الوضوح وذلك لأن المسلم اللائط غير الموقب ليس حكمه هو القتل حتى
يقال بأن حال الذمي ليس أخف وأدون من المسلم فيقتل هو أيضا فلا بد
من دليل يعتمد عليه.
ويمكن أن يتمسك في ذلك بوجوه:
منها أنه قد هتك حرمة الاسلام.
وفيه أنه وإن كان ذلك غير قابل للانكار إلا أن الكلام في كون حده هو القتل

(1) وسائل الشيعة - 18 - ب 9 من أبواب حد الزنا ح 1.
29

وأنه يقتل الهاتك كما يقتل الموقب.
ومنها أنه خرج بذلك عن الذمة.
وفيه أنه خرج بذلك عن كونه ذميا ويدخل تحت عنوان الحربي ويجوز قتله
بذلك حيث إنه لم يعمل بشرائط الذمة ولكن كون حده هو القتل ووجوب قتله
من أين؟
ومنها الاجماع كما ادعاه في الجواهر بقوله: بلا خلاف أجده فيه انتهى فعلى
فرض تحقق الاجماع فلا كلام عليه (1).
لواط الذمي بالذمي
قال المحقق: ولو لاط بمثله كان الإمام مخيرا بين إقامة الحد عليه وبين دفعه
إلى أهله ليقيموا عليه حدهم.
أقول: إن ما ذكر في الفرض الأول من الخروج عن الذمة أو الهتك لا يجري
هنا فيبقى أنه إذا رفع الأمر إلى الإمام فهو بولايته مخير بين إجراء حكم الاسلام
عليه أو إرجاع الأمر إلى حكامهم حتى يحكموا عليه بمقتضى دينهم.
أما إجراء حكم الاسلام فللأولوية أو تنقيح المناط حيث لا نص بالخصوص
في المقام.
وأما إرجاعه إلى حكامهم فلأن من فعل وأتى بالقبيح غير مسلم فيمكن
إرجاعه إلى أهل ملته كي يحكم عليه حسب مذهبه وملته كما أن الأمر في
الزنا (2) أيضا كذلك وإلا فلا نص عليه.
هذا كله إذا كان قد أتي به إلى الإمام ورفع أمره إليه وأما بدون ذلك فلا يجوز

(1) يقول المقرر: وقد استدل في المسالك بقوله: كما لو زنى على وجه يوجب الجلد على المسلم
لما روي من أن حد اللواط مثل حد الزنا ولمناسبة عقوبة الزنا. انتهى.
(2) راجع الدر المنضود في أحكام الحدود. ج 1 ص 349.
30

له إجراء حكم الاسلام أي القتل مثلا في حقه لأنه يخالف الأمن.
في قتل الموقب وجلد غير الموقب
قال المحقق: وكيفية إقامة هذا الحد القتل إن كان إيقابا وفي رواية إن كان
محصنا رجم وإن كان غير محصن جلد والأول أشهر.
أقول: إن الروايات في باب الموقب على قسمين:
أحدهما ما يدل على قتله بواحد من أنحاء القتل المذكورة فيها. منها رواية
مالك بن عطية عن أبي عبد الله عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام قال
لرجل أقر عنده باللواط أربعا: يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وآله حكم
في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيهن شئت قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال:
ضربة بالسيف في عنقك بالغة منك ما بلغت أو إهداب من جبل مشدود اليدين
والرجلين أو إحراق بالنار (1).
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على القتل.
ثانيهما ما يدل على التفصيل بين المحصن وغير المحصن وإليك قسم منها:
عن العلاء بن الفضيل قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: حد اللوطي مثل
حد الزاني وقال: إن كان قد أحصن رجم وإلا جلد (2).
وعن حماد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل أتى
رجلا؟ قال: عليه إن كان محصنا القتل وإن لم يكن محصنا فعليه الجلد.. (3).
وفي رواية قرب الإسناد.. عن علي عليه السلام أنه كان يقول في اللوطي:
إن كان محصنا رجم وإن لم يكن محصنا جلد الحد (4).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد اللواط ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 3.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 4.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 6.
31

وعن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه إن علي بن أبي طالب عليه
السلام كان يقول: حد اللوطي مثل حد الزاني إن كان محصنا رجم وإن كان عزبا
جلد مأة ويجلد الحد من يرمي به بريئا (1).
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن في كتاب
علي عليه السلام: إذا أخذ الرجل مع غلام في لحاف مجردين ضرب الرجل
وأدب الغلام وإن كان ثقب وكان محصنا رجم (2).
ثم إنه لا إشكال في أن مقتضى الجمع بين الطائفتين هو حمل المطلق على المقيد
ولازم ذلك هو الحكم بقتل اللاطي الموقب المحصن وجلد غير المحصن.
إلا أن الروايات المفصلة معرض عنها ولم يعمل بها الأصحاب كما أن الشرايع
قال: والأول أشهر انتهى وقال في الجواهر بعد ذلك: رواية في العمل بل قد
عرفت عدم الخلاف فيه بيننا بل الاجماع بقسميه عليه إلخ.
وعلى الجملة فحيث إن هذه الروايات لم يعمل بها الأصحاب (3) والعامل بها
إن كان فهو شاذ فلذا لا تقاوم ولا تعارض القسم الأول منها فالحكم في اللاطي
الموقب مطلقا هو القتل.
قتل الموقب بكيفيات مختلفة
قال المحقق: ثم الإمام مخير في قتله بين ضربه بالسيف أو تحريقه أو رجمه أو
إلقائه من شاهق أو إلقاء جدار عليه.
أقول: الوجه في ذلك الروايات ففي رواية مالك بن عطية المذكورة آنفا

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 7.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد اللواط ح 7.
(3) وهذا مضافا إلى ما أفاده في المسالك بقوله: وهذه الأخبار مع كثرتها مشتركة في ضعف
السند ففي طريق... الخ.
32

التخيير بين ثلاثة: الضرب بالسيف أو إهداب من جبل.. أو الاحراق
بالنار (1).
وأما الرجم ففي رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير
المؤمنين عليه السلام: لو كان ينبغي لأجد أن يرجم مرتين لرجم اللوطي (2).
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن في كتاب
علي عليه السلام: إذا أخذ الرجل مع غلام في لحاف مجردين ضرب الرجل
وأدب الغلام وإن كان ثقب وكان محصنا رجم (3).
وعن ابن أبي عمير عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام في
الذي يوقب إن عليه الرجم إن كان محصنا وعليه الجلد إن لم يكن محصنا (4).
إلى غير ذلك من الروايات.
نعم التقيد بالاحصان في قسم من هذه الروايات غير معمول به.
وأما إلقاء الجدار عليه فيدل على ذلك ما عن فقه الرضا عليه السلام: وفي
اللواطة الكبرى ضربة بالسيف أو هدمة أو طرح الجدار وهي الايقاب وفي
الصغرى مأة جلدة (5).
والرواية وإن كانت ضعيفة إلا أن الشهرة جابرة لها وقد صرح في الجواهر
بأن التخيير بين الخمسة هو المشهور.

(1) وسائل الشيعة 18 ب 3 من حد اللواط ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حد اللواط ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حد اللواط ح 7.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حد اللواط ح 8.
(5) مستدرك الوسائل ج 18 ب 1 من حد اللواط ح 5.
33

الجمع بين التحريق وواحد من البواقي
قال المحقق: ويجوز أن يجمع بين أحد هذه وبين تحريقه.
أقول: قد مر ما كان يدل على جواز الاحراق أولا وأما ما يدل على ذلك بعد
أن أجري عليه واحد من الأمور فروايتان:
إحديهما رواية العزرمي عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليهما السلام
قال: أتي عمر برجل قد نكح في دبره فهم أن يجلده فقال للشهود: رأيتموه يدخله
كما يدخل الميل في المكحلة؟ قالوا: نعم فقال لعلي عليه السلام: ما ترى في هذا؟
فطلب الفحل الذي نكح فلم يجده فقال علي عليه السلام: أرى فيه أن تضرب
عنقه قال: فأمر فضربت عنقه ثم قال: خذوه فقد بقيت له عقوبة أخرى قال:
وما هي؟ قال: ادع بطن من حطب فدعا بطن من حطب فلف فيه ثم أحرقه
بالنار (1).
والأخرى رواية العزرمي أيضا قال: سمعت أبا عبد الله يقول: وجد رجل مع
رجل في أمارة عمر فهرب أحدهما وأخذ الآخر فجئ به إلى عمر فقال للناس:
ما ترون في هذا؟ فقال هذا: اصنع كذا، وقال هذا: اصنع كذا قال: فما تقول يا
أبا الحسن؟ قال: اضرب عنقه، فضرب عنقه، قال: ثم أراد أن يحمله فقال: مه
إنه قد بقي من حدوده شئ قال: أي شئ بقي؟ قال: ادع بحطب فدعا عمر بحطب
فأمر به أمير المؤمنين عليه السلام فأحرق به (2).
ثم إنه قد يقال بأنه قد ذكر في الروايات: الاحراق، فما هو كيفيته وهل يجب
أن يحرق إلى أن لا يبقى شئ أو غير ذلك؟.
فنقول: الظاهر أن الاحراق إذا كان في بد الأمر وبعنوان واحد من الأمور
التي يفعل بالحي فهو صادق بمجرد موته بذلك وأما لو كان ذلك بعنوان العمل

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من حد اللواط ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب اللواط ح 4.
34

المركب أي الذي يفعل به بعد أن قتل فإنه لا يصدق إلا إذا صار كالفحم والرماد.
حد اللواط غير الايقابي
هذا كله في الايقاب وأما إذا لم يوقب وإنما فعل ذلك بين الأليتين أو بين
الفخذين.
فقال المحقق: وإن لم يكن إيقابا كالتفخيذ أو بين الأليتين فحده مأة جلدة
وقال في النهاية: يرجم إن كان محصنا ويجلد إن لم يكن والأول أشبه.
أقول: في المسألة أقوال:
أحدها: أن حده هو الجلد مأة بالنسبة إلى كل واحد منهما واختار هذا القول
جمع من أكابر الأصحاب بل في المسالك بعد أن ذكر أنه المشهور: ذهب إلى
ذلك: المفيد والمرتضى وابن أبي عقيل وسلار وأبو الصلاح وابن إدريس
والمصنف وسائر المتأخرين انتهى.
وفي الرياض: على الأصح الأشهر بل عليه عامة من تأخر وفي صريح
الانتصار وظاهر الغنية الاجماع عليه وهو الحجة.
وقد استدل على ذلك بوجوه:
1 - أصالة البراءة عن القتل.
2 - الشك في وجوب الزائد فيكون شبهة يدرء بها.
3 - الاحتياط فإنه بعد أن الشبهة مربوطة بالدماء فلا مورد لاجراء البراءة
كما أن من المسلم أنه يجري البراءة في الشبهات الموضوعية إذا لم تكن من قبيل
الأعراض والنفوس وغيرها مما يماثلها فإنه لا بد من الاحتياط فيها.
4 - الاجماع كما مر في كلام صاحب الرياض.
5 - خبر سليمان بن هلال عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يفعل
بالرجل قال: فقال: إن كان دون الثقب فالجلد وإن كان ثقب أقيم قائما ثم ضرب
35

بالسيف ضربة أخذ السيف منه ما أخذ فقلت له هو القتل؟ قال: هو ذاك (1).
ثانيها: أنه يرجم مع الاحصان ويجلد بدونه وقد ذهب إلى ذلك الشيخ
الطوسي قدس سره في النهاية (2) والتهذيب (3) والاستبصار (4) والخلاف (5)
والمبسوط (6) والقاضي ابن البراج (7) وكذا جماعة من الفقهاء (8).
وذلك للجمع بين الروايات الدالة على القتل في اللعب والتفخيذ والدالة على الجلد
بحمل الأولى على المحصن والثانية على غيره (9).
لكن الجمع فرع التكافؤ المفقود في المقام فإن الرواية المفصلة معرض عنها
فلذا ذكر المحقق أن القول الأول أشبه، انتهى، أي بأصول المذهب وقواعده.
ثالثها: ما عن الإسكافي والصدوقين من وجوب القتل فيهما أي سواء كان
محصنا أو غير محصن وذلك لأنهم فرضوا اللواط في غير الايقاب. وأما الايقاب
فهو الكفر بالله والرواية تدل على القتل في اللواط.
والسر في فرضهم ذلك الروايات.
فعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه
السلام: اللواط ما دون الدبر، والدبر هو الكفر (10).
وعن حذيفة بن منصور قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اللواط
فقال: ما بين الفخذين وسألته عن الذي يوقب فقال: ذاك الكفر بما (لما) أنزل

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من حد اللواط ح 2.
(2) النهاية انتشارات قدس ص 704 (3) التهذيب ج 10 ص 55.
(4) الإستبصار ج 4 ص 221.
(5) الخلاف ج 3 كتاب الحدود حد اللواط مسألة 22.
(6) المبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 7.
(7) المهذب ج 2 ص 530.
(8) كابن حمزة في الوسيلة ص 413.
(9) قال في الرياض: بحمل ما دل منها على القتل مطلقا على الموقب وما دل منها على التفصيل
بين المحصن وغيره على غيره إلخ.
(10) وسائل الشيعة ج 14 ب 20 من النكاح المحرم ح 3.
36

الله على نبيه صلى الله عليه وآله (1).
لكن الظاهر أن التعبير بالكفر تأكيد للذنب ومبالغة للحرمة (2).
لا فرق بين الأشخاص في هذا الحد أيضا
قال المحقق: ويستوي فيه الحر والعبد والمسلم والكافر والمحصن وغيره.
أقول: وذلك لاطلاق أدلة الباب فلا ينصف الحد هنا في العبد بالاجماع
وعموم الروايات هنا وعدم ما يدل على التفصيل ولا ينافي ذلك ما ورد من أن
حد اللواط حد الزنا (3) وذلك لتخصيص العبد الموقب وبتعبير آخر أن هذا
الخبر ناظر إلى قوله تعالى " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مأة
جلدة " (4) إلا أنه قد استثنى العبد في حكم المأة في باب الزنا بالخصوص دون
باب اللواط ففي باب الزنا كان حد العبد نصف حد الحر للدليل.
وهكذا يتساوى المسلم والكافر إذا كان اللائط والملوط مسلمين أو كافرين
لا ما إذا كان الفاعل كافرا والمفعول مسلما فإنه يقتل الفاعل.
وقد يوجه القتل هنا بأنه قد هتك حرمة الاسلام ولإهانته به.
كذا علل في الرياض.
وفيه أنه لو كان الملاك الهتك لجرى ذلك في كل المعاصي فالعمدة هو الاجماع
وهكذا الأولوية أو تنقيح المناط بالنسبة إلى الزنا لأنه كما تقدم في باب الزنا يقتل
الزاني الذمي بالمسلمة فإن اللواط إما أكبر وأعظم من الزنا - كما هو الظاهر من
رواية يونس عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول:

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 20 من أبواب النكاح المحرم ح 3.
ويمكن أن تحمل على المستحل مع أن حذيفة بن منصور ضعيف. كذا في المسالك.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد اللواط ح 3.
(4) سورة النور الآية 2.
37

حرمة الدبر أعظم من حرمة الفرج وأن الله أهلك أمة لحرمة الدبر ولم يهلك أحدا
لحرمة الفرج (1) - أو أنه يساويه فلا محالة يقتل الكافر اللائط بالمسلم إما
للأولوية أو بتنقيح المناط القطعي.
وكذا لا فرق في المقام بين المحصن وغيره وذلك لشمول إطلاق الرواية فيه
أيضا.
قتل اللائط غير الموقب في الثالثة أو الرابعة
قال المحقق: ولو تكرر منه الفعل وتخلله الحد مرتين قتل في الثالثة وقيل في
الرابعة وهو أشبه.
أقول: أما القتل في الثالثة بعد تكرار مرتين فهو مقتضى بعض الروايات
الدالة على قتل مرتكب الكبائر في الثالثة مثل ما رواه يونس عن أبي الحسن
الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلها إذا أقيم عليهم الحد مرتين قتلوا
في الثالثة (2).
وأما القول بقتله في الرابعة فقد استدل عليه بالاحتياط في الدماء وبالاجماع
على عدم الفرق بينه وبين باب الزنا في ذلك. وبالاجماع المدعى على قتله في
الرابعة وبرواية أبي بصير قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الزاني إذا زنى يجلد
ثلاثا ويقتل في الرابعة يعني جلد ثلاث مرات (3) وقد مر البحث في ذلك في باب
الزنا فراجع.

(1) وسائل الشيعة ج 14 ب 17 من أبواب النكاح المحرم ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب حد الزنا ح 3.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
38

تعزير المجتمعين تحت إزار واحد
قال المحقق: والمجتمعان تحت إزار واحد مجردين وليس بينهما رحم يعزران
من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا.
أقول: لا خصوصية لكونهما تحت إزار بل الحكم في اللحاف والثوب والستر
أيضا كذلك ولذا زاد صاحب الجواهر لفظة (مثلا) بعد قول المحقق: تحت إزار
واحد.
والمراد من التجرد هو التجرد عن السروال لا مطلقا فإذا ثبت اجتماعهما
كذلك يجب إقامة الحد الواجب المقرر في الشرع. وههنا أبحاث:
الأول في أن الواجب هنا هو الحد أو التعزير وعلى الثاني ما هو المقدار المعتبر
شرعا من الجلد؟.
الثاني في القيود المعتبرة في المقام كالتجرد والضرورة والرحم أو المحرمية.
أما الأول فنقول: اختلفت الأخبار والأقوال في ذلك فمقتضى بعض الأخبار
أن الثابت في حقهما هو الحد التام أي المأة، ومقتضى بعضها الآخر أنه التعزير إما
بثلاثين كما هو مفاد بعضها وإما بتسعة وتسعين سوطا كما أنه مفاد قسم آخر
منها.
وذهب جمع كالصدوق وابن الجنيد إلى إقامة الحد عليهما كما صرح بذلك في
المختلف.
وجمع إلى تعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة وتسعين وذلك كالشيخ وابن البراج
وابن إدريس وأكثر المتأخرين وجزم بذلك المحقق في الشرايع والنافع.
وقال بعض بأنه يعزران من عشرة إلى تسعة وتسعين، وقد نسبه العلامة في
المختلف إلى الشيخ المفيد.
واللازم هنا المراجعة إلى الروايات والنظر فيها:
وقد عقد في الوسائل بابا عنوانه: باب ثبوت التعزير بحسب ما يراه الإمام
على الرجلين والمرأتين والرجل والمرأة إذا وجدا في لحاف واحد أو ثوب واحد
39

مجردين من غير ضرورة ولا قرابة ويقتلان في الرابعة.
عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: حد الجلد أن يوجدا في لحاف
واحد والرجلان يجلدان إذا وجدا في لحاف واحد الحد.. (1).
وعن عبد الرحمان بن الحجاج قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخل
عليه عباد البصري ومعه أناس من أصحابه فقال له: حدثني عن الرجلين إذا
أخذا في لحاف واحد فقال له: كان علي عليه السلام إذا أخذ الرجلين في لحاف
واحد ضربهما الحد فقال له عباد: إنك قلت لي: غير سوط. فأعاد عليه ذكر
الحديث (الحد) حتى أعاد ذلك مرارا فقال: غير سوط. فكتب القوم الحضور عند
ذلك الحديث (2).
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: حد
الجلد في الزنا أن يوجدا في لحاف واحد والرجلان يوجدان في لحاف واحد.. (3).
وعن عبد الرحمان بن الحجاج قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان
علي عليه السلام إذا وجد الرجلين في لحاف واحد ضربهما الحد.. (4).
وعن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان علي عليه السلام إذا
وجد رجلين في لحاف واحد مجردين جلدهما حد الزاني مأة جلدة كل واحد
منهما... (5).
وعن عبد الله بن مسكان عن أبي عبد الله عليه السلام: (حد الجلد في الزنا أن

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 1، وقال سيدنا الأستاذ دام ظله إن
النائب للفاعل في (يوجدا) وإن لم يذكر لكن المراد الرجل والمرأة الأجنبيان.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 4.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 6.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 15.
40

يوجدا في لحاف واحد) والرجلان يوجدان في لحاف واحد (1).
فهذه الروايات تدل على لزوم الحد التام في المقام.
وفي قبالها أخبار تدل على التعزير بما دون الحد:
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام في رجلين يوجدان في
لحاف واحد، قال: يجلدان غير سوط واحد (2).
وعن سليمان بن هلال قال: سأل بعض أصحابنا أبا عبد الله عليه السلام
فقال: جعلت فداك، الرجل ينام مع الرجل في لحاف واحد فقال: ذوا محرم؟
فقال: لا. قال: من ضرورة؟ قال: لا، قال: يضربان ثلاثين سوطا... (3).
وعن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: المرأتان تنامان
في ثوب واحد؟ فقال: تضربان فقلت: حدا؟ قال: لا. قلت: الرجلان ينامان
في ثوب واحد؟ قال: يضربان. قلت: الحد؟ قال: لا. (4).
ومقتضى الرواية الأخيرة هو نفي الحد فقط بخلاف رواية ابن سنان فإن
مقتضاها جلدهما غير سوط واحد ورواية سليمان فإنها تصرح بضربهما ثلاثين
سوطا.
وقد جمع بعض العلماء بين الروايات الدالة على الحد وما تدل على التعزير
بحمل الأولى على التقية.
وربما يستظهر ذلك من خبر عباد البصري حيث إن الإمام عليه السلام حكم
أولا بضرب الحد ناسبا له إلى علي عليه السلام ولما قال له عباد: إنك قلت: لي
غير سوط أعاد عليه ما حكاه أولا عن علي عليه السلام من إجراء الحد وتكرر
ذلك مرارا حتى قال عليه السلام: غير سوط، فقد حكم أولا بمقتضى التقية ثم

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 23.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 18.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 21.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 16.
41

ذكر أخيرا الحكم الواقعي.
وفيه أن الحمل على التقية موقوف على كون فتوى العامة على لزوم الحد
والحال أن الأمر على خلاف ذلك كما يشهد بذلك كلام الشيخ في الخلاف في
رجل وجد مع امرأة في فراش واحد - المتحد حكمه للمقام - حيث قال هناك بعد
الحكم بأن عليهما مأة جلدة: وقال جميع الفقهاء: عليه التعزير (1) إلخ.
فقد نسب وجوب التعزير إلى جميع الفقهاء والظاهر من تعبيره هذا هو فقهاء
العامة. إلى غير ذلك مما لا يساعد الحمل على التقية فراجع ما تقدم في باب الزنا.
وقد يجمع بينهما بحمل الحد في الطائفة الأولى من الروايات على المقدار المقرر
عليهما في باب التعزير فلا تنافي بينها وبين الروايات الدالة على تعزيرهما.
وفيه أن (الحد) ظاهر جدا في الحد التأم وهو جلدهما مأة ولا يصح رفع اليد
عن هذا الظهور البالغ بلا دليل (2).
ونظير هذا الحمل في البعد ما أفاده شيخ الطائفة قدس سره في رواية عبد
الرحمن بن أبي عبد الله - قال: قال أبو عبد الله عليه السلام إذا وجد الرجل
والمرأة في لحاف واحد.. جلد كل واحد منهما مأة جلدة (3) من أن الوجه فيه أن
نحمله على من أدبه الإمام وزبره دفعة ودفعتين فعاد إلى مثل ذلك.. (4).
وكذا ما ذكره المحدث الحر العاملي في رواية الحذاء - قال: سمعت أبا عبد الله
عليه السلام يقول: إذا وجد الرجل والمرأة في لحاف واحد جلدا مأة جلدة (5) -
بقوله: هذا يحتمل الحمل على أنه يجلد كل واحد منهما خمسين جلدة لوجود

(1) الخلاف ج 3 كتاب الحدود مسألة 9.
(2) أقول: هذا مضافا إلى عدم جريان هذا الكلام في مثل رواية ابن سنان ورواية أبي عبيدة
وذلك لمكان التصريح بحد الزنا وحد الزاني فيهما.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 9.
(4) تهذيب الأحكام ج 10 ص 44 بتفاوت يسير.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 5.
42

التصريحات الكثيرة السابقة والآتية بأنه يجلد دون الحد.
وكيف كان فما ذكروه في المقام من وجوه الجمع غير تام كما أن الجمع بالتخيير
بينهما أيضا لا يخلو عن كلام ولم أجد من قال بالتخيير بين الحد والتعزير.
والذي يبدو في النظر أن الروايات هنا من باب العام والخاص فيخصص
بعضها ببعض، وما دل على الحد التام المصرح بالمأة بما دل على نقصان واحد
فيكون نظير قول القائل: أعتق عشر رقبات إلا واحدا في تخصيص العشرة
بالواحد، واستثناء الواحد عنها مذكور في كلماتهم.
ولعل هذا الوجه أحسن الوجوه وإن لم أعثر على من تعرض له وذكره.
ولا يخفى أنه لا يلزم من ذلك، القول بضربهما بخصوص تسعة وتسعين، وذلك
لأنه إذا نقص واحد فمعناه أنه تعزير لا حد ويكون هذا العدد هو الحد الأعلى منه
وأما أقله فهو الثلاثون وذلك لرواية سليمان بن هلال.
وبذلك أفتى الشيخ قدس سره قائلا: ومتى وجد رجلان في أزار واحد
مجردين أو رجل وغلام وقامت عليهما بذلك بينة أو أقرا بفعله ضرب كل واحد
منهما تعزيزا من ثلاثين سوطا إلى تسعة وتسعين سوطا يحسب ما يراه الإمام
فإن عادا إلى ذلك ضربا مثل ذلك فإن عادا أقيم عليهما الحد على الكمال مأة
جلدة (1).
وأما ما ذكره المفيد قدس سره من تعزيرهما عشرا إلى تسعة وتسعين فلعل
ذكر العشر من باب كلي التعزير وإلا فلم يرد به رواية بالخصوص على ما نعلم.
قال: فإن شهد الأربعة على رؤيتهما في إزار واحد مجردين من الثياب ولم
يشهدوا برؤية الفعال كان على الاثنين الجلد دون الحد تعزيرا وتأديبا من عشرة
أسواط إلى تسعة وتسعين سوطا بحسب ما يراه الحاكم من عقابهما في الحال
وبحسب التهمة لهما والظن بهما السيئات (2).
ثم إن مقتضى ما ذكرناه من حمل رواية ابن سنان على أكثر مقدار التعزير

(1) النهاية ص 705.
(2) المقنعة ص 785.
43

ورواية سليمان على أقله أن الحكم في الغايتين وما بينهما منوط بنظر الإمام.
نعم يبقى الكلام في إن مستند الحكم في الطرفين ضعيف. لكن قال في الجواهر:
وما فيهما من الضعف منجبر بما عرفت..
ومراده من (ما عرفت) هو ما ذكره في صدر المسألة من حكاية الحكم بالجلد
من ثلاثين إلى تسعة وتسعين عن الشيخ وابن إدريس وأكثر المتأخرين.
وما ذكره إنما يتم إذا كان الشهرة بين المتأخرين كافية في جبر ضعف الرواية.
ثم إن تم التمسك بهما للانجبار فنقول بتعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة وتسعين.
وأما لو استشكل في ذلك أو أنه قيل بتعارض الروايات وتساقطها ولم يمكن
استفادة الحكم منها ووصلت النوبة إلى التمسك بالأصل فهناك نقول: إن التسعة
والتسعين معلوم الجواز والزائد مشكوك فيه فالأصل البراءة من الزائد بل
الأصل عدم الجواز هذا من ناحية الأكثر وأما من ناحية الأقل فحيث إن الجلد
من باب التعزير فلا بد - من أن يكون أمره موكولا إلى نظر الحاكم إلا أن مقتضى
تصريح بعض الروايات بثلاثين هو عدم الاكتفاء بأقل منها فلو جلدا ثلاثين فقد
عمل بالتكليف بخلاف الأقل فإنه لا يقطع بذلك لأنه من قبيل الشك في الامتثال
مع العلم بالتكليف المقتضي للخروج عنه يقينا.
وبعبارة أخرى إنه من باب الدوران والترديد بين التعيين والتخيير لأن
الثلاثين واجبة إما معينا أو بعنوان أحد أفراد التخيير إلى الواحد فلو أخذ
بالثلاثين فقد أخذ بما هو الواجب مطلقا بخلاف الأقل من ذلك.
وإن شئت فقل: إن وجوب الأقل في ضمن الثلاثين معلوم وبنفسه غير معلوم
فيؤخذ بالمعلوم ويترك غير المعلوم.
وقد تحصل أن مقتضى الأصول أيضا يتحد ويتوافق مع ما هو نتيجة
الاستظهار من الروايات فإن الأخذ بالمتيقن والتمسك بأصالة عدم الامتثال
بأقل من ثلاثين في ناحية الأقل وأصالة عدم جواز الزائد في ناحية الأكثر
يوجب القول بتعزيرهما من ثلاثين إلى تسعة وتسعين.
44

ثم إنه قد تعرض المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد للطائفتين من الروايات
ولوجوه الجمع بينهما ولم يرجح شيئا بل احتاط وقال: فينبغي العمل بالاحتياط
التام في الحدود خصوصا القتل لادرءوا، وبناء الحد على التخفيف مهما أمكن.
هذا كله بالنسبة إلى أصل الحكم وأما بالنسبة إلى القيود فنقول: أما التجرد
فقد ذكر ذلك في كلام المحقق وكذا بعض آخرين. وأما الروايات فهي خالية عن
ذكره سوى رواية أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام - ففيها: - إن أمير
المؤمنين عليه السلام كان إذا وجد رجلين في لحاف واحد مجردين جلدهما.. (1).
فإنه ربما يستفاد منها بحسب المفهوم أنه لم يكن يجلدهما إذا لم يكونا مجردين.
وفيه أن دلالتها بالمفهوم أولا ومفهوم الفعل ثانيا.
وربما يقال: إن التعبير بالثوب الواحد في مثل رواية معاوية بن عمار: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام:.. الرجلان ينامان في ثوب واحد قال:
يضربان.. (2) يفيد أن هذا الثوب الواحد هو الإزار فقط الذي كانا تحته
فيكون الحكم متعلقا بما إذا كانا مجردين.
وفيه أن الثوب الواحد المذكور هنا كاللحاف الواحد المذكور في رواية عبد
الله بن سنان (3) مثلا وكما أنه يمكن أن يكونا مجردين تحت اللحاف والثوب
كذلك يمكن أن يكونا لابسين.
ويمكن أن يقال: إن رواية أبي خديجة: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف
واحد إلا وبينهما حاجز... (4) ربما تدل بلحاظ وحدة حكم الرجلين والمرأتين
- على اعتبار التجرد بناء على كون المراد من الحاجز هو الثوب واللباس.
وأما لو كان المراد منه ما يحجزهما عن فعل الحرام فلا دلالة لها على ما نحن

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 15.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 16.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 4.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 25.
45

بصدده.
نعم إن المتيقن الذي يجري عليه الحكم قطعا هو ما إذا كانا مجردين بخلاف ما
إذا كان عليهما ثياب ولباس فإن وجوب تعزيرهما بل جوازه مشكوك فيه
والأصل هو العدم.
اللهم إلا أن يقال بأن مجرد نومهما جنبا بجنب يكون حراما فيجب التعزير من
باب الاتيان بالمعصية.
وهذا موقوف على أن لا يتردد في كون ذلك معصية كبيرة - أو القول بأن
ارتكاب كل حرام يوجب التعزير وإن لم يكن كبيرة، والأمر موكول إلى محله -.
وقد وجه بعض اعتبار قيد التجرد بأنه يوجب التهمة بخلاف ما إذا لم يكونا
مجردين فإنهما ليسا في معرض التهمة.
لكن في الرياض: لا وجه لاعتبار الأخير (أي التجرد) أصلا حيث يحصل
التحريم بالاجتماع الذي هو مناط التعزير من دونه ولعله لذا خلا أكثر النصوص
من اعتباره وبعض النصوص المعترض له غير صريح في التقييد به لكنه ظاهر فيه
مع صحة سنده إلخ.
وأما التقييد بنفي الرحمية الذي قد يعبر عنه بنفي المحرمية فهو بظاهره لا معنى
له في المقام ولا في بعض نظائره كالمرأتين المضطجعتين تحت إزار واحد.
إذا فلا بد من أن يكون المراد من الرحم هو القرابة ومع ذلك فلا وجه
لاعتباره ولا أثر له.
ولذا قال في المسالك: وليس فيها - النصوص - التقييد بعدم المحرمية بينهما
وعدم القيد أجود لأن المحرمية لا يجوز الاجتماع للمذكرين وإن لم تؤكد التحريم.
ثم قال: والمراد بالرحم حيث يطلق مطلق القرابة وهي أعم من المحرمية التي
هي عبارة عن تحريم النكاح مؤبدا وهي تؤيد عدم فائدة هذا القيد لأن القرابة
لا دخل لها في تحقق هذا الحكم انتهى.
وكذا قال صاحب الرياض قدس سره: إن التقييد بنفي الرحمية والضرورة لم
46

يوجد في أكثر روايات المسألة.
ثم استدرك وأتى بخبر سليمان بن هلال الذي فيه: الرجل ينام مع الرجل في
لحاف واحد فقال: ذوا محرم؟ فقال: لا إلخ (1).
قال: وفيه إيماء إليه لكنه مع قصور السند يشكل في الأول بأن مطلق الرحم
لا يوجب تجويز ذلك فالأولى ترك التقييد به أو التقييد بكون الفعل محرما إلى
آخر كلامه.
أقول: إنه يحتمل أن يكون الوجه في هذا التقييد هو أنه مع المحرمية وفي مورد
الرحم يحصل الاطمينان بعدم الفساد بخلاف ما إذا لم يكن بينهما قرابة ومحرمية،
فالأب والابن مثلا المجتمعين تحت إزار واحد لا يظن بهما السوء.
وفيه أنه لو كان الأمر في الأعصار الماضية كذلك ففي عصرنا ليس كذلك كما
يظهر ذلك من بعض الاستفتاءات الواردة علينا في زنا الأب بابنته مثلا وقد ورد
علينا السؤال عن ذلك لا مرة بل مرارا عديدة.
وعلى الجملة فالظاهر أنه لا فرق بين الموردين بل لعله يكون الأمر في المحرم
آكد كما في الزناء بذات المحارم.
ثم لو صح هذا الوجه لزم إسراؤه إلى غير الأقرباء والمحارم أيضا.
وأما التقييد بعدم الضرورة كما في كلام صاحب الرياض (2) فهو صحيح فإنه
قد يوجب الضرورة والحاجة الشديدة كالبرد الشديد اضطجاعهما تحت إزار
واحد وهذا لا يوجب التعزير وذلك لجريان مثل لا حرج هنا وإن لم يجر في مثل
الزنا.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 21.
(2) أقول قد ذكر هذا القيد في رواية سليمان بن هلال وقد مرت آنفا وفي رواية جابر بن عبد
الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن المكاعمة والمكاعمة فالمكاعمة أن يلثم
الرجل الرجل والمكاعمة أن يضاجعه ولا يكون بينهما ثوب من غير ضرورة، والوسائل ج 14
ب 21 من أبواب النكاح المحرم ح 4.
47

والظاهر انصراف الروايات عن صورة الضرورة فالأولى ترك التقييد به نعم
يحسن التقييد بكون الفعل محرما فإن كان اضطجاعهما تحت إزار واحد حراما
فهناك يعزران وإلا فلا.
وأما الاحصان وعدمه فلا فرق في الحكم من هذه الجهة ولذا لا ذكر له في
الأخبار الواردة في الباب.
كما أنه لا فرق من جهة كونها محرمين أو محلين وإن كان الاحرام يوجب
التغليظ لكنه لا يبلغ الأمر به إلى وجوب الحد ولا يبدل التعزير حدا.
هذا كله إذا وقع ذلك مرة واحدة وأما لو تكرر ذلك فله حكم آخر وهو:
قتلهما في الثالثة بعد تخلل التعزيرين
قال المحقق: ولو تكرر ذلك منهما وتخلله التعزير حدا في الثالثة.
أقول: وقد ذهب إليه الشيخ في النهاية وابن إدريس وابن البراج وابن سعيد
والعلامة في القواعد والتحرير.
ومستندهم في ذلك فحوى رواية أبي خديجة قال: لا ينبغي لامرأتين تنامان
في لحاف واحد إلا وبينهما حاجز فإن فعلتا نهيتا عن ذلك فإن وجدهما بعد النهي
في لحاف واحد جلدتا كل واحد منهما حدا حدا فإن وجدتا الثالثة في لحاف حدتا
فإن وجدتا الرابعة قتلتا (1).
لكن فيها الاشكال من وجوه وإنها لا تنطبق على مدعاهم كاملا فإنها مع
ورودها في المرأتين تدل على أن اللازم تكرار العمل أربع مرات وليس في المرة
الأولى سوى النهي لا غير.
اللهم إلا أن يحمل ذلك على صورة جهلهما بالحرمة فإنه يصح حينئذ عدم

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 25، وفي الكافي ج 7 ص 202 نقلها عن
أبي خديجة عن أبي عبد الله... فإن وجدتا الثالثة قتلتا.
48

ترتب شئ عليه سوى النهي.
ويشكل الأمر في المرة التي وقعت بعد النهي حيث إن الرواية تقول: جلدتا
كل واحد منهما حدا حدا، وظاهر ذلك هو الحد التام لا التعزير كما أنه يرد هذا
الاشكال بعينه بالنسبة إلى المرة الثالثة، لمكان التعبير بالحد الظاهر في الحد
الكامل لا التعزير وأين هذا مما يقوله هولا من أن الواجب عقيب الأولى هو
التعزير وهكذا عقيب المرة الثانية ثم لو تكرر ثالثة فهناك القتل، والحكم بالحد
عقيب المرة الأولى والثانية غير معمول به كما أن إرادة صورة العلم والعمد من
قوله: فإن فعلتا نهيتا عن ذلك أيضا غير صحيح ولم يقولوا به (1).
نعم يمكن التمسك في المقام بالدليل الكلي الساري في جميع الكبائر من أنه يعزر
المرتكب أولا وثانيا وثالثا ثم يقتل في الرابعة.
تعزير من قبل غلاما بشهوة
قال المحقق: وكذا يعزر من قبل غلاما ليس له بمحرم بشهوة.
أقول: إن كلامه هذا بظاهره محل الاشكال وذلك لإفادته عدم وجوب تعزير
من قبل غلاما بشهوة وهو محرم له أي كان من أرحامه وذوي قرابته.
ولكن من المسلم المقطوع به عدم كون ذلك مرادا له بل المقصود بيان ما يمكن
أن يتحقق في الخارج غالبا فإن التقبيل بالشهوة لا يتفق بالنسبة إلى المحرم إلا
نادرا، والمتجري على الله العاصي له لا يقبل بالشهوة الغلام الذي كان من
أقربائه وأبناء بيته وإنما يقبل الأباعد ومن ليس بينه وبينه رحم وقرابة وعلى
الجملة فالقيد وارد مورد الغالب ولا مفهوم له كما في قوله تعالى: وربائبكم اللاتي
في حجوركم (2).

(1) أقول: هذا مضافا إلى أخصية الدليل بالنسبة إلى المدعى كما في الرياض.
(2) سورة النساء الآية 23.
49

كما أن التشبيه المستفاد من قوله،: (وكذا..) لا يراد منه التشبيه في كون
التعزير من ثلاثين إلى تسعة وتسعين المذكور آنفا وإنما المراد التشبيه في أصل
التعزير في قبال الحد وذلك لأن التحديد المزبور مختص بالمسألة السابقة
لاختصاص الدليل بها فيؤخذ في غيرها بما هو مقتضى القاعدة الجارية في
التعزيرات.
وعلى هذا فيكون أمر المقبل موكولا إلى نظر الحاكم فيعزره على حسب
ما يراه من الواحد إلى ما دون الحد.
وفي الرياض والجواهر: بلا خلاف أجده فيه، أي في تعزيره وذلك لأنه فعل
محرما فيستحق فاعله التعزير كما في غيره من المحرمات بلا فرق بين المحرم
وغيره أي الأجنبي وذلك لاطلاق الدليل. بل لعل الأمر في المحرم آكد والفحش
والشناعة أشد.
ولا يخفى أن عبارة الجواهر في المقام غير صحيحة فإنه قال: لا فرق بين المحرم
وغيره في ذلك بل لعله في الأخير آكد انتهى.
والحال أن الأخير هو غير المحرم أي الأجنبي ومن المعلوم أن الحرمة ليست
في تقبيل الأجنبي بآكد وإنما الأمر بالعكس.
ثم إن المحقق وإن عبر بالغلام، وهو ظاهر في غير البالغ إلا أن الظاهر عدم
الفرق في ذلك بين الصغير والكبير بل ولا بين المذكر والمؤنث كل ذلك لوحدة
الملاك وعموم المناط وهو تحقق التقبيل المحرم.
ثم إنه تدل على حرمته الأخبار الشريفة:
فمنها ما رواه طلحة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله: من قبل غلاما بشهوة ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار (1).
ومنها ما عن فقه الرضا عليه السلام: وإذا قبل الرجل غلاما بشهوة لعنته
ملائكة السماء وملائكة الأرض وملائكة الرحمة وملائكة الغضب وأعد له

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 257 ب 21 من أبواب النكاح المحرم ح 1.
50

جهنم وساءت مصيرا (1) إلى غير ذلك من الروايات.
وعلى الجملة فهو من المحرمات الأكيدة فيجب تعزير فاعله والمرتكب له
على حسب ما يراه الحاكم.
نعم هنا رواية تنافي بظاهرها ذلك وهي: عن إسحاق بن عمار قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: محرم قبل غلاما من شهوة قال: يضرب مأة
سوط (2).
فإنها تدل بظاهرها على وجوب الحد على من ارتكب هذا الحرام.
لكن الظاهر أن الزيادة على التعزير للتغليظ لمكان الاحرام كما صرح بذلك
الأصحاب عموما وابن إدريس في السرائر في خصوص المقام.
وقد ذكر ذلك صاحب الرياض قدس سره واستحسنه لولا أن المشهور
اشتراط عدم بلوغ التعزير الحد ولذا أن الحلي لم يصرح في مورد الخبر بأكثر من
التغليظ انتهى كلامه (3).
وأورد عليه صاحب الجواهر بقوله: وفيه منع ذلك مع فرض اجتماع جهات
التعزير كما هو واضح.
والفرض أن التعزير من حيث هو وفي حد ذاته مشروط بعدم بلوغ الحد
وذلك لا ينافي أن يقرنه التغليظ لجهة كالاحرام وبلغ بذلك الحد ولا يلزم منه أن

(1) مستدرك الوسائل ج 14 ص 215 ب 18 من أبواب النكاح المحرم ح 3 أقول: وفي نفس
الموضع أيضا: وفي خبر آخر: من قبل غلاما بشهوة ألجمه الله بلجام من النار. وأيضا: عن
عوالي اللئالي عن النبي صلى الله عليه وآله قال: من قبل غلاما بشهوة عذبه الله ألف عام
في النار.
(2) وسائل الشيعة ج 14 ص 258 ح 3، الكافي ج 7 ص 200 ح 9، التهذيب ج 10 ص 57.
(3) وإليك عبارته في السرائر ج 3 ص 461: ومن قبل غلاما ليس بمحرم له على جهة الإلتذاذ
والشهوة وميل النفس وجب عليه التعزير، فإن فعل ذلك وهو محرم بحج أو عمرة غلظ عليه تأديبه كي ينزجر عن مثله في مستقبل الأحوال انتهى.
51

يتبدل التعزير حدا.
ثم إنه قد وقع في عبارة الجواهر هنا أيضا تصحيف حيث إنه حكى عبارة
الرياض هكذا: (لولا أن المشهور عدم اشتراط بلوغ التعزير الحد) ومن المعلوم
أن هذا خلاف المقصود والواقع، فإن المشهور هو اشتراط العدم لا عدم
الاشتراط.
ويحتمل كون النسخة الموجودة عنده من الرياض مشتملة على العبارة بالنحو
الذي حكاه، وكيف كان فهو غير صحيح، والصحيح ما ذكرناه.
الكلام في توبة اللائط
قال المحقق: وإذا تاب اللائط قبل قيام البينة سقط الحد ولو تاب بعده لم
يسقط ولو كان مقرا كان الإمام مخيرا في العفو والاستيفاء.
أقول: الحكم هنا كما في باب الزنا وقد تقدم أنه قال المحقق هناك: ومن تاب
قبل قيام البينة سقط عنه الحد ولو تاب بعد قيامها لم يسقط حدا كان أو رجما
انتهى.
كما وأنه قال هناك أيضا: ولو أقر بحد ثم تاب كان الإمام مخيرا في إقامته رجما
كان أو جلدا انتهى.
وقد تقدمت أيضا الأخبار التي تدل على التفصيل بين ثبوت الحد بالبينة أو
الاقرار والتفصيل في البينة بين ما إذا تاب قبلها أو بعدها فراجع.
52

حد السحق
قال المحقق: والحد في السحق مأة جلدة حرة كانت أو أمة مسلمة أو كافرة
محصنة أو غير محصنة للفاعلة والمفعولة وقال في النهاية: ترجم مع الاحصان
وتحد مع عدمه والأول أولى.
أقول: الكلام أولا في تفسير السحق ثم في حكمه أما الأول فقد فسر بأنه
وطئ المرأة مثلها، وفي النصوص اللواتي مع اللواتي، والنساء بالنساء كما سيأتي
ذلك ومن المعلوم أنه لا يراد بالوطئ معناه المعهود بل المراد أن تسحق المرأة
عورتها بعورة الأخرى كما أفيد كذلك في خبر هشام الصيدناني أنه سأله رجل
عن هذه الآية: (كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس (1) فقال بيده هكذا
فمسح إحداهما بالأخرى فقال: هن اللواتي باللواتي يعني النساء بالنساء (2).
ولا خلاف في حرمته ولا إشكال فيها (3).

(1) سورة ق الآية 12.
(2) وسائل الشيعة ج 14 ص 261 ب 24 من أبواب النكاح المحرم ح 2.
(3) أقول: يدل على حرمته الاجماع والآية الكريمة: فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون، سورة المؤمنون - 7، والأخبار الكثيرة. مثل رواية إسحاق بن جرير عن أبي عبد
الله عليه السلام في جواب سؤال امرأة عن ذلك: إذا كان يوم القيامة يؤتى بهن - اللواتي
باللواتي - قد ألبسن مقطعات من نار وقنعن بهن في النار وسرولن من نار وأدخل في
أجوافهن إلى رؤوسهن أعمدة من نار وقذف بهن في النار أيتها المرأة إن أول من عمل هذا
العمل قوم لوط فاستغنى الرجال فبقي النساء بغير رجال ففعلن كما فعلن رجالهن
الوسائل - 14 ب 24 من النكاح المحرم ح 3.
53

وإنما البحث في حد ذلك وقد اختلفت الأقوال والروايات فيه فذهب المحقق
إلى وجوب الجلد مطلقا أي مع الاحصان وعدمه حرة كانت أو أمة مسلمة كانت
أو كافرة فاعلة كانت أو مفعولة، وفاقا للأكثر كما في كشف اللثام والجواهر بل
المشهور كما في الرياض، وقال في المسالك هو المشهور بين الأصحاب ذهب إليه
المفيد والمرتضى وأبو الصلاح وابن إدريس والمتأخرون.
بل السيد نسب ذلك إلى الإمامية قائلا:. مما انفردت به الإمامية القول بأن
البينة إذا قامت على امرأتين بالسحق جلدت كل واحدة منهما مأة جلدة مع فقد
الاحصان ووجوده انتهى كلامه رفع مقامه (1).
وخالف في ذلك شيخ الطائفة قدس سره ففصل بين المحصنة وغيرها، قال:

(1) وعن بشير النبال قال: رأيت عند أبي عبد الله السلام رجلا فقال له: ما تقول في اللواتي
مع اللواتي فقال: لا أخبرك حتى تحلف لتحدثن بما أحدثك النساء، قال: فحلف له، فقال: هما
في النار عليهما سبعون حلة من نار فوق تلك الحلل جلد جاف غليظ من نار عليهما نطاقان
من نار وتاجان من نار فوق تلك الحلل وخفان من نار وهما في النار المصدر ح 4.
وعن يعقوب بن جعفر قال: سأل رجل أبا عبد الله عليه السلام أو أبا إبراهيم عليه السلام عن
المرأة تساحق المرأة وكان متكيا فجلس وقال: ملعونة ملعونة الراكبة والمركوبة وملعونة
حتى تخرج من أثوابها فإن الله وملائكته وأولياؤه يلعنونها وأنا ومن بقي في أصلاب الرجال
وأرحام النساء، فهو والله الزنا الأكبر ولا والله ما لهن توبة قاتل الله لاقيس بنت إبليس ماذا
جاءت به فقال الرجل: هذا ما جاء به أهل العراق، فقال: والله لقد كان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله قبل أن يكون العراق وفيهن قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لعن الله
التشبهات بالرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال وهم المخنثون واللاتي
ينكحن بعضهن بعضا. المصدر ح 6.
وروى الصدوق... مثله وزاد: وإنما أهلك الله قوم لما عمل النساء مثل ما عمل الرجال
يأتي بعضهم بعضا المصدر ح 7 (1) الإنتصار ص 253.
54

إذا ساحقت المرأة أخرى وقامت عليهما البينة بذلك وجب على كل واحدة منهما
الحد مأة جلدة إن لم تكونا محصنتين فإن كانتا محصنتين كان على كل واحدة منهما
الرجم (1).
وفي قبالهما قول آخر حكاه الشهيد الثاني في مسألة ما لو وطئ زوجته
فساحقت بكرا فحملت البكر أنهما تحدان حد السحق،: وقيل ترجم الموطوئة
استنادا إلى رواية ضعيفة السند مخالفة لما دل على عدم رجم المساحقة مطلقا من
الأخبار الصحيحة انتهى (2).
هذا بالنسبة إلى الأقوال وأما الأخبار فهي على ثلاث طوائف:
إحداها ما يدل على جلدهما مأة.
ثانيتها ما يدل على التفصيل بين المحصنة وغيرها فترجمان مع الاحصان
وتجلدان مع عدمه فيكون حده حد الزنا.
ثالثتها ما يدل على أنهما تقتلان أو تحرقان فيكون كاللواط.
وكيف كان فقد استدل على القول الأول بروايات.
منها موثق أبان بن عثمان عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:
السحاقة تجلد (3).
وذلك لأن ظاهر الجلد هو الحد التام أي الضرب مأة كما أن إطلاقه يقتضي
عدم الفرق بين الموارد كالمحصنة وغيرها والحرة والأمة.
ومنها مرسل دعائم الاسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال: السحق
في النساء كاللواط في الرجال ولكن فيه جلد مأة لأنه ليس فيه إيلاج (4).
وهذه صريحة في الحد أي ضرب المأة وتزيد التعليل في جلد المأة بعدم إيلاج
فيه.

(1) النهاية ص 706 (2) الروضة البهية ج 2 ص 343.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 425 ب 1 من حد السحق ح 2.
(4) مستدرك الوسائل ج 18 ص 86 ب 1 من أبواب حد السحق ح 4.
55

بل ظاهر كلام الشهيد الثاني فيما نقلناه عنه دلالة أخبار صحيحة على عدم
الرجم في السحق، وإن كان ذلك محل الاشكال كما أنه قد أورد عليه في الجواهر
بقوله: وإن كان فيه ما فيه.
واستدل للثاني أي الشيخ في النهاية أيضا بروايات:
منها الحسن بل الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام إنه دخل عليه نسوة
فسألته امرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزاني فقالت المرأة: ما ذكر الله
ذلك في القرآن، فقال: بلى، قالت: وأين هن؟ قال: هن أصحاب الرس (1).
فإن ظاهر قوله عليه السلام: حدها حد الزاني هو الرجم في مورد الاحصان
فكما أن حد الزنا هو التفصيل بين المحصن وغيره كذلك في حد السحق يفصل
بينهما.
وأما ما قد يقال من أن حده حد الزنا أي في الجلد دون الرجم.
ففيه أنه بعيد جدا وخلاف ما هو الظاهر من التشبيه والتنزيل.
ثم إن المراد من قولها: ما ذكر الله ذلك في القرآن هو السحق نفسه لا حده وإن
كان السؤال عقيب ذكر الحد.
وذلك لأنه عليه السلام أجابها بأنهن أصحاب الرس، وهي قد رضيت بذلك
الجواب ومن المعلوم أنه ليس في القرآن الكريم ذكر عن حد السحق فهذا
الجواب مع سكوتها وسكوت غيرها من النسوة بعد ذلك يدل على أن المقصود
من السؤال هو مجرد ذكر السحق.
قال في المسالك: وقد روي أن ذلك الفعل كان في أصحاب الرس كما كان
اللواط في أصحاب لوط.
ومنها رواية إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: إن
امرأة قالت له: أخبرني عن اللواتي باللواتي ما حدهن فيه؟ قال: حد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد السحق ح 1.
56

الزنا.. (1).
ومنها الأحاديث المتعددة الواردة في امرأة وطأها زوجها فنقلت الماء بالسحق
إلى جارية بكر فحملت وإليك هذا الخبر:
.. عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام
يقولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام إذ أقبل قوم
فقالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين. قال: وما حاجتكم؟ قالوا: أردنا أن
نسأله عن مسألة قال: وما هي تخبرونا بها؟ قالوا: امرأة جامعها زوجها فلما
قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت النطفة فيها
فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة وأبو الحسن لها وأقول: فإن
أصبت فمن الله ومن أمير المؤمنين وإن أخطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطى
إن شاء الله: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة لأن الولد
لا يخرج منها حتى تشق فتذهب عذرتها ثم ترجم المرأة لأنها محصنة وينظر
بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد
الجارية الحد. قال: فانصرف القوم من عند الحسن عليه السلام فلقوا أمير
المؤمنين عليه السلام فقال: ما قلتم لأبي محمد وما قال لكم؟ فأخبروه فقال: لو
أنني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني (2).
ولا إشكال في ظهور هذه الأخبار في أن حد السحق هو حد الزنا جلدا
ورجما فترى أنه عليه السلام حكم في مورد المرأة التي جامعها زوجها بالرجم
وعلل بأنها محصنة و قابل ذلك في مورد الجارية بحكمه بجلدها الحد.
والتحقيق أن أخبار الجلد ظاهرة في إقامة الجلد دون حد الزنا وليست
صريحة في ذلك نعم ما رواه في دعائم الاسلام كان صريحا لكنه كما عرفت كان
ضعيف السند مرسلا، في حين أن الأخبار الدالة على أن حده حد الزنا صريحة

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 261 ب 24 من أبواب النكاح المحرم ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد السحق ح 1.
57

في ذلك فيمكن الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد والقول بأن أخبار الجلد
متعلقة بما إذا لم تكن محصنة.
وحيث إن هناك أخبارا تدل على رجم المساحقة أو إحراقها أو قتلها فنقول:
إنها تحمل على ما إذا كانت محصنة وإليك هذه الأخبار.
في الاحتجاج عن سعد بن عبد الله عن صاحب الزمان عليه السلام قال:
قلت له: أخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا أتت المرأة بها في أيام عدتها حل
للزوج أن يخرجها من بيته؟ قال عليه السلام: الفاحشة المبينة هي السحق دون
الزنا فإن المرأة إذا زنت وأقيم عليها الحد ليس لمن أرادها أن يمتنع بعد ذلك من
التزويج بها لأجل الحد وإذا سحقت وجب عليها الرجم، والرجم خزي ومن قد
أمر الله عز وجل برجمه فقد أخزاه ومن أخزاه فقد أبعده ومن أبعده فليس لأحد
أن يقربه، الحديث (1).
وعن بنان بن محمد عن العباس غلام لأبي الحسن الرضا عليه السلام يعرف
بغلام ابن شراعة عن الحسن بن الربيع عن سيف التمار عن أبي عبد الله عليه
السلام في حديث، قال: أتي أمير المؤمنين عليه السلام بامرأتين وجدتا في لحاف
واحد وقامت عليهما البينة أنهما كانتا تتساحقان فدعا بالنطع ثم أمر بها فأحرقتا
بالنار (2).
وفي رواية الطبرسي في مكارم الأخلاق عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
السحق في النساء بمنزلة اللواط في الرجال، فمن فعل ذلك شيئا فاقتلوهما ثم
اقتلوهما (3).
فإن الأولى تدل على الرجم والثانية على الاحراق والثالثة على وجوب
القتل فتحمل على أنها كانت محصنة.

(1) وسائل الشيعة ج 15 ص 440 ب 23 من أبواب العدد ح 4.
وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد السحق ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد السحق ح 3.
58

لكن الانصاف أن عدم وحدة لسان هذه الأخبار، وهذا الاختلاف الفاحش
المستفاد منها في مورد المساحقة المحصنة - على فرض حملها على ذلك - يوجب
الاشكال والابهام في الاستفادة من الروايات.
ولذا ترى أن صاحب الجواهر استراح بالأخذ بروايات الجلد للشهرة وغير
ذلك فإنه بعد الخدشة في دلالة الصحيح وفي سند الصريح - حيث احتمل في
الصحيح الدال على أن حده الزنا، إرادة المماثلة في الجلد، والايراد على رواية
الاحتجاج وكذا رواية سيف التمار بقصور السند وعدم الجابر - لجأ إلى القول
الأول.
قال بعد ذكر روايتي الاحتجاج وسيف: إلا أنهما مع قصور سندهما ولا جابر
واشتمال الأول (رواية الإحتجاج) على ما لا يقول به الأصحاب من تفسير
الفاحشة بذلك كالاحراق بالنار في الثاني - قاصران عن المقاومة لما عرفت.
أقول: مراده (بقوله: ما عرفت) هو ما أفاده في صدر البحث من أن الجلد مأة
موافق للأكثر أو المشهور أو كونه إجماعيا فراجع.
ثم قال: ومن ذلك كله بأن لك أن الأول أولى وأحوط خصوصا بعد درء الحد
بالشبهة انتهى.
والظاهر أن الأمر كذلك لو كانت الشهرة محققة وبالغة الحد المعتبر لجبر
الضعف.
وأما كونه أحوط فلعله لا يخلو عن كلام وذلك لعدم جريان الاحتياط في
الدوران بين المتباينين (1) والحاصل أن البحث يقتضي مزيد التأمل.
ثم إن مقتضى الاطلاق كما أفتى وصرح به المحقق هو أنه لا فرق بين الحرة

(1) أقول: الظاهر أنه من باب الأقل والأكثر لا المتباينين كما قد عرفت أنه رحمه الله قد أفتى
من قبل بأن الأشبه أن المحصن يجلد ويرجم
ثم إنه دام ظله لم يزد على قاعدة الدرء شيئا والظاهر أنه اختار القول الأول. أعني وجوب
الجلد مطلقا.
59

والأمة وإن كان حدها في غير المقام هو النصف على ما يدل عليه قوله تعالى:
فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب (1).
لكن الظاهر عدم الفرق بين المقام وغيره وذلك لأن النسبة بين هذه الآية
الكريمة الناطقة بالتنصيف والرواية الدالة على أن حد السحق هو المأة، العموم
من وجه فإنه لا نزاع في الحرة السحاقة لأنه يجب عليها الحد التمام كما لا نزاع في
الأمة الزانية فإنه ينتصف حدها وإنما النزاع في الأمة السحاقة حيث إن مقتضى
الآية نصف الحد ومقتضى الخبر تمامه.
وهنا قال صاحب الجواهر قدس سره: والترجيح لما هنا لما عرفت، انتهى
ومراده من: (ما عرفت) هو كون عمل المشهور على الاطلاق وعدم الفرق بين
الحرة والأمة.
وفيه أنه وإن كان يجبر السند بالشهرة إلا أن الدلالة لا تتم، مع أن دلالة الآية
على تنصيف الحد في الأمة لا غبار عليها.
إلا أن يستشكل في شمول الفاحشة للسحق.
وهو في غير موضعه فإن في بعض الروايات تطبيق الفاحشة على السحق
كما مر في خبر الاحتجاج.
وعلى الجملة فتقديم إطلاق المأة مشكل وذلك لأن لسان دليل التنصيف
بالنسبة إلى أدلة الحد لسان الحكومة فيقدم الحاكم وإن كانت النسبة العموم من
وجه.
هذا مضافا إلى أن إجراء الحد الكامل في مورد الأمة خلاف الاحتياط،
والمقام من قبيل الأقل والأكثر وعند الشك يرتفع الزائد بالأصل كما أن قاعدة
درء الحدود بالشبهات أيضا تقتضي ذلك والحاصل أنا لا نقول بعدم الفرق من
هذه الجهة نعم لا فرق بين المسلمة والكافرة والفاعلة والمفعولة.

(1) سورة النساء الآية 25.
60

حكم تكرار المساحقة
قال المحقق: وإذا تكررت المساحقة مع إقامة الحد ثلاثا قتلت في الرابعة.
أقول: وحيث إن هذه المسألة من مصاديق من أتى بكبيرة مكررا وحد بعد
كل مرة يقتل في الرابعة أو الثالثة على الاختلاف المتقدم فلذا أضاف صاحب
الجواهر بعد عبارة المحقق المذكورة - قوله: أو الثالثة على القولين السابقين
وظاهر ذلك عدم خصوصية للمقام بل إن حكمة هو الحكم الجاري في
ارتكاب الكبائر.
لكن قال الشهيد في اللمعة: وتقتل في الرابعة لو تكرر الحد ثلاثا انتهى.
مع أنه قدس سره قال في مورد الزنا واللواط - غير الموجب للقتل ابتداءا -
بالقتل في الثالثة.
وقال الشهيد الثاني بشرح العبارة: وظاهرهم هنا عدم الخلاف وإن حكمنا
بقتل الزاني واللائط في الثالثة كما اتفق في عبارة المصنف انتهى.
إلا أنه محل الاشكال كما وأن صاحب الجواهر أورد عليه بقوله: وإن كان
لا يخفى عليك ما فيه إلخ.
وذلك لأنه مخالف لما هو الظاهر من كلام غير واحد بل صريح آخرين من أن
المسألة كنظائرها المتقدم ذكرها بل مخالف لما قاله الشهيد الثاني بنفسه في المسالك
حيث قال: تقتل في الثالثة أو الرابعة مع تخلل الحد كما تقدم في نظائره من الكبائر
إلخ.
وعلى الجملة فلا دليل في مقامنا بخصوصه فلذا يجري فيه ما جرى في غيره من
الكبائر، والدليل في المقامين واحد.
وإن كان أمر الشهيد الثاني وإفتائه في كتاب منه بخلاف ما أفتى به في كتابه
الآخر يوجب الشبهة خصوصا وإنه قد بالغ في الروضة في استظهار عدم الخلاف
في كون الملاك هو الرابعة حتى وإن قيل في الزنا واللواط بالثالثة.
ويمكن أن يقال: إذا كان تأليفه للروضة متأخرا عن المسالك - كما قد يقال
61

ذلك - فلعله وقف بعد تأليف المسالك على إجماع أو دليل آخر على ما أفاده في
الروضة.
وكيف كان فمقتضى الرواية الواردة في أهل الكبائر هو القتل في الثالثة إلا أن
القتل في الرابعة هو الأحوط، وادعاء عدم الخلاف في القتل هنا في الرابعة
يوجب الشبهة، والاحتياط يقتضي تأخير ذلك عن الثالثة إلى الرابعة فإن
الحدود تدرء بالشبهات.
وحينئذ فيمكن الترديد في الحكم في المرحلة الثالثة بأن يقال: إذا لم يجز القتل
فهل يجب الجلد أم لا؟.
ولكن الظاهر قيام الاجماع على عدم الخلو منهما رأسا فإذا لم يجب القتل في
الثالثة فلا محالة يجب الجلد (1).
سقوط الحد بالتوبة وعدمه
قال المحقق: ويسقط الحد بالتوبة قبل البينة ولا يسقط بعدها ومع الاقرار
والتوبة يكون الإمام مخيرا.
أقول: إذا ثبت السحق بالبينة لا بالاقرار وفرض وقوع التوبة منها فإن كانت
قبل ثبوته بالبينة يسقط الحد وإن كانت بعد ذلك فلا يسقط.
كما أنه رحمه الله قال في المختصر النافع: ويسقط الحد بالتوبة قبل ثبوته
كاللواط ولا يسقط بعد البينة.
وفي الرياض: ويجب على الإمام إجراؤه إن ثبت بالثاني - البينة - وليس له
العفو عنه فيه ويتخير بين الأمرين إذا ثبت بالأول - الاقرار - بعين ما مر في الزنا
لاشتراك الجميع في هذه الأحكام وأمثالها كما يستفاد من ظاهر الأصحاب من

(1) أقول: الظاهر أنه لا مجال للترديد المذكور أصلا بعد أن القتل في الرابعة مشروط بالجلد في
المرات السابقة وقد ذكرت هذا في مجلس الدرس أيضا.
62

غير أن يعرف بينهم في ذلك خلاف وبه صرح في الغنية مدعيا عليه الاجماع
انتهى.
هنا مسائل:
أحدها أنه يسقط الحد بالتوبة قبل البينة.
وقد استدل على ذلك بمرسل جميل بن دراج عن أحدهما عليهما السلام في
رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم بذلك منه ولم يؤخذ حتى تاب
وصلح فقال: إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحد قال ابن أبي عمير:
قلت: فإن كان امرءا غريبا لم تقم؟ قال: لو كان خمسة أشهر أو أقل وقد ظهر
منه أمر جميل لم تقم عليه الحدود (1).
وهو وإن كان ضعيفا إلا أنه منجبر بعمل الأصحاب فقد ادعى صاحب
الجواهر في باب الزنا عدم خلاف يجده، وادعى كاشف اللثام هناك الاتفاق
عليه - مضافا إلى أن المرسل هو جميل الذي مراسيله في حكم المسانيد.
وقد استفادوا من قوله: (حتى تاب) أنه تاب قبل قيام البينة وإلا فلا ربط له
بمسئلتنا.
ولم يكن في هذا الرواية ذكر عن السحق لكنهم استفادوا من ذكر السرقة
وشرب الخمر والزنا إنها مذكورة من باب أحد مصاديق ما يوجب الحد ولذا
اكتفوا عن البحث في المسألة بما مر.
ومثلها رواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل أقيمت عليه
البينة بأنه زنى ثم هرب قبل أن يضرب قال: إن تاب فما عليه شئ وإن وقع في يد
الإمام أقام عليه الحد وإن علم مكانه بعث إليه (2).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدمات الحدود ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدمات الحدود ح 4.
63

ورواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: السارق إذا جاء
من قبل نفسه تائبا إلى الله ترد سرقته على صاحبها ولا قطع عليه (1).
وعلى الجملة فيأتي الحكم في مطلق الموجب، لاتحاد المناط ثم إن الظاهر أنه
لا حد عليها من رأس لا أنه يثبت عليها ثم يعفى عنها.
ثانيها، أنه لو حضرت الشهود لإقامة الشهادة وقبل إقامتها تابت وأبدت
توبتها هناك فهل يسقط الحد عنها أم لا؟ وهكذا في كل مجرم كذلك؟.
الظاهر سقوط الحد عنها وذلك لصدق التوبة قبل إقامة البينة وما ورد في
سرقة رداء صفوان بن أمية وأنه لما حكم رسول الله صلى الله عليه وآله بقطع يد
السارق قال الرجل: تقطع يده لأجل ردائي قال: نعم قال: فإني أهبه له فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله فهلا كان هذا قبل أن ترفعه إلي... (2) فقد يتوهم
أن مفهومه أنه بعد الرفع إلى الحاكم فلا يفيد العفو.
وفيه أن الظاهر أن المراد الرفع مع الحكم كما أن المورد كان كذلك.
ثالثها: أنه إذا ادعت بعد قيام البينة أنها قد تابت قبلها وبعد ارتكاب المعصية
فهل يقبل منها أم لا؟ ولا بد من أن يفرض إقامة البينة عن غيابها فتدعي التوبة
قبلها من عند نفسها.
الظاهر أنه يقبل ذلك منها بلا بينة ولا يمين وذلك لأن التوبة ربما تكون من
الأمور التي لا يعلم بها إلا من قبل شخص التائب فيقبل قولها فيها ويرد الحد
بذلك وإن كان الشهود قد شهدوا بمعصيتها الموجبة للحد (3).
هذا مضافا إلى قاعدة در الحدود بالشبهات.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
(3) أقول: قد قرأت في كتاب أن المرحوم آقا الإصفهاني قدس سره قد أتي عنده بمن
شهدوا عليه بما يوجب الحد فقال هو: إني قرأت في الليلة الماضية دعاء الكميل، فأطلقه آقا
نجفي ولم يقم عليه الحد واكتفى بما في الدعاء من طلب التوبة والإنابة.
64

وقد قال في كشف اللثام: ولو تابت قبل البينة سقط عنها الحد وكذا لو ادعت
التوبة قبلها.
رابعها: أنه لو تابت بعد قيام البينة فإنه لا يسقط الحد عنها.
وقد استدل على ذلك بأمور:
منها خبر أبي بصير حيث دل على وجوب القتل إذا وقع في يد الإمام
ووجوب رده إن عرف مكانه.
نعم قد يستشكل فيه من جهة دلالة صدره على أنه إذا تاب بعد البينة فليس
عليه شئ.
لكنهم حملوه على أن قول الإمام عليه السلام: إن تاب فما عليه شئ، يعني
تاب قبل قيام البينة وإن كان مورد السؤال هو أنه قد هرب بعد أن أقيمت عليه
البينة.
ويمكن أن يقال في توجيه ذلك بأنه كان قد تاب بينه وبين الله سبحانه إلا أن
الشهود لم يعلموا ذلك ولذا أقدموا على إقامة الشهادة ولما رأى أنه لا يتمكن من
إثبات توبته من قبل هرب وفي الفرض لا شئ عليه بنفسه فليس يجب عليه
الحضور لاجراء الحد عليه وإنما الحاكم موظف بإقامة الحد عليه إذا وقع هو في
يده بل يبعث إليه إن علم بمكانه.
ومنها رواية الحلبي (1) الواردة في سرقة رداء صفوان المذكورة آنفا فإنها
صريحة في أنه لا دافع للحد بعد الرفع وإثبات الجرم عند الحاكم فراجع.
ومنها استصحاب بقاء وجوب الحد ما لم يدل دليل على سقوطه.
ودعوى عدم ثبوت الحد في الذمة بمجرد قيام البينة ليستصحب فقد رد عليه
في الجواهر واستضعفه معللا بقوله: ضرورة دلالة النص والفتوى على تعلقه

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
65

بالبدن بقيام البينة وأقصى القائل السقوط بالتوبة (1).
ونقول: لا يعتبر في الاستصحاب تعلقه بالذمة بل يستصحب أصل وجوب
الحد على الحاكم نظير سائر الواجبات.
هذا كله فيما إذا تابت مع ثبوت العمل بالبينة وأما إذا تابت مع ثبوت ذلك
بالاقرار فهنا أيضا صور ومسائل.
أحدها: توبتها قبل الاقرار، والظاهر عدم خلاف في أن ذلك يسقط الحد كما
في باب الزنا.
ويمكن التمسك له بذيل رواية أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام (في
رجل أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأقر أربع مرات بالزنا فأمر صلوات
الله عليه برجمه فرجم): لو استتر ثم تاب كان خيرا له (2).
ثانيها: توبتها مع الاقرار وهناك يتخير الإمام في إجراء الحد والعفو عنها وقد
صرح بذلك في الشرايع.
وقال صاحب الجواهر في شرح العبارة: على حسب ما سمعته في الزناء
واللواط إذ هي مثلهما في ذلك وأولى.
بيان الأولوية أنه إذا كان الإمام مخيرا بينهما في مورد الزنا واللواط عندما
ثبت ذلك بالاقرار مع كون هاتين المعصيتين في غاية الأهمية والعظمة فهو أولى
بأن يكون مخيرا بينهما في مورد السحق إذا ثبت ذلك بالاقرار حيث إنه ليس
مثلهما وبمثابتهما - في حين كونه معصية كبيرة -.
ويدل على جواز عفو الحاكم حينئذ الخبران بل الأخبار أنه: جاء رجل إلى
أمير المؤمنين عليه السلام فأقر بالسرقة فقال له: أتقر شيئا من القرآن؟ قال:
نعم سورة البقرة قال: قد وهبت يدك لسورة البقرة قال: فقال الأشعث: أتعطل
حدا من حدود الله؟ فقال: وما يدرك ما هذا؟ إذا قامت البينة فليس للإمام أن

(1) جواهر الكلام ج 41 ص 308.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حد الزنا ح 2.
66

يعفو وإذا أقر الرجل على نفسه فذاك إلى الإمام إن شاء عفا وإن شاء قطع (1).
ورواه الصدوق بإسناده إلى طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد وقصور
الأسانيد مجبور بالتعدد مع عمل الأكثر بل الكل عدا الحلي وهو شاذ كما صرح به
بعض الأصحاب، كذا في الرياض (2) وقال أيضا:
وأخصية المورد مدفوعة بعموم الجواب مع عدم قائل بالفرق بين الأصحاب
مع ورود نص آخر باللواط متضمنا للحكم أيضا على العموم من حيث التعليل.
وهو المروي عن تحف العقول عن أبي الحسن الثالث عليه السلام في حديث
قال: وأما الرجل الذي اعترف باللواط فإنه لم يقم عليه البينة وإنما تطوع
بالاقرار من نفسه وإذا كان للإمام الذي من الله أن يعاقب عن الله كان له أن يمن
عن الله أما سمعت قول الله: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (3).
عفو الحاكم مشروط بتحقق التوبة؟
ثم إنه هل يعتبر في جواز عفو الحاكم وعدم إجراءه الحد تحقق التوبة أم لا؟.
ظاهر المحقق وجماعة منهم ذلك لكن لا تعرض في الروايات لهذا القيد كما
عرفت ذلك من هذه الأخبار المنقولة آنفا.
نعم بعض الروايات قد ورد في مورد التوبة وذلك كرواية مالك بن عطية عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين عليه السلام في ملأ من أصحابه
إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهرني فقال له: يا
هذا امض إلى منزلك لعل مرارا هاج بك. فلما كان من غد عاد إليه فقال له: يا
أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهرني فقال له: اذهب إلى منزلك لعل

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدمات الحدود ح 3.
(2) راجع ج 2 ص 467 في بحث الزناء.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 331 ب 18 من مقدمات الحدود ح 4.
67

مرارا هاج بك حتى فعل ذلك ثلاثا بعد مرته الأولى فلما كان في الرابعة: قال له:
يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه حكم في مثلك بثلاثة أحكام فاختر أيهن
شئت. قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف على عنقك بالغة
ما بلغت أو إهداب - إهداء - من جبل مشدود اليدين والرجلين أو إحراق بالنار
قال: يا أمير المؤمنين أيهن أشد علي؟ قال: الاحراق بالنار قال: فإني قد
اخترتها يا أمير المؤمنين فقال: خذ لذلك أهبتك فقال: نعم قال: فصلى ركعتين
ثم جلس في تشهده فقال: اللهم إني قد أتيت من الذنب ما قد علمته وأني
تخوفت من ذلك فأتيت إلى وصي رسولك وابن عم نبيك فسألته أن يطهرني
فخيرني ثلاثة أصناف من العذاب. اللهم فإني أخذت أشدهن. اللهم فأني
أسئلك أن تجعل ذلك كفارة لذنوبي وأن لا تحرقني بنارك في آخرتي ثم قام وهو
باك حتى دخل الحفيرة التي حفرها له أمير المؤمنين عليه السلام وهو يرى النار
تتأجج حوله، قال: فبكى أمير المؤمنين عليه السلام وبكى أصحابه جميعا فقال
له أمير المؤمنين عليه السلام: قم يا هذا فقد أبكيت ملائكة السماء وملائكة
الأرض فإن الله قد تاب عليك فقم ولا تعاودن شيئا مما فعلت (1).
فإنه لا إشكال في أنه قد تاب وناجى الله تعالى بتلك الفقرات المهيجة
والكلمات المحرقة. فعفى عنه الإمام عليه السلام بعد أن حكم بإحراقه بالنار.
ولكن هل هذا يوجب التقييد حتى يكون عفو الإمام بعد إقرار المجرم مقيدا
بما إذا تاب عن ذنبه ولا يجوز له ذلك لو لم يتب عن ذنبه؟.
الانصاف أنه وإن لم تكن الرواية المذكورة خالية عن نوع من الاشعار بذلك
إلا أنه لا يوجب التقييد.
ويمكن أن يقال إن نفس الحضور عند الحاكم وفي موضع إجراء الحد لتطهيره
عن المعصية والاقرار عنده توبة في الحقيقة وهو حاك عن ندامته الباطنة إذا
كانت التوبة مجرد الندامة.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد اللواط ح 1.
68

إلا أن يقال: إن اللازم هو التوبة الخاصة لا مجرد الندامة.
نعم قال السيد صاحب الرياض قدس سره: ليس في شئ منها - أي
الروايات - اعتبار التوبة كما هو ظاهر الجماعة ولعل اتفاقهم عليه كاف في
تقييدها انتهى.
وكيف كان فالمتيقن هو الاكتفاء بما إذا كانت مع الاقرار التوبة. فإذا شك في
جواز العفو بدون التوبة فمقتضى الاكتفاء بالقدر المتيقن عدم جواز ذلك.
وإن شئت فقل: إنه مع إقراره وتوبته كان الإمام مخيرا فمع عدم توبته يشك
في جواز العفو ومن المعلوم أنه لم يكن العفو واجبا حتى مع ثبوت توبته فكيف بما
إذا لم يكن قد تاب، وعلى هذا فالاحتياط هو إجراء الحد لاحتمال وجوبه
بخصوصه ولا مورد للتمسك بحرمة إيذاء المؤمن، وفي الحقيقة أن الشك بالنسبة
إلى العفو راجع إلى الشك في الجواز والحرمة وأما بالنسبة إلى الحد فهو راجع إلى
الشك في الجواز والوجوب والاحتياط يقتضي اختيار الحد هذا.
هل التخيير يختص بالإمام؟
ثم إنه هل هذا التخيير يختص بالإمام أو يعم الإمام وغيره؟.
قال في الرياض: وظاهره - أي خبر تحف العقول - كباقي النصوص والفتاوى
قصر التخيير على الإمام فليس لغيره من الحكام، وعليه نبه بعض الأصحاب
واحتمل بعض ثبوته لهم أيضا وفيه إشكال والأحوط إجراء الحد أخذا بالمتيقن
لعدم لزوم العفو انتهى.
أقول: إذا كان المراد من الغير هو الحاكم الجامع للشرائط فإلحاقه بالإمام
غير بعيد.
نعم لو كان المراد به الأعم منه ومن غيره فيشكل الالحاق، والاحتياط
يوجب إقامة الحد وذلك لأن العفو ليس بلازم حيث إنه قد تقدم وتحقق أنه مع
إقراره وتوبته يتخير الإمام بين إقامة الحد والعفو عنه، فهنا نشك في هذا التخيير
69

وفي جواز العفو والأصل عدمه.
بماذا يثبت السحق؟
بقي الكلام هنا في أن السحق يثبت بماذا وقد قال صاحب الجواهر بعد تقريره
تخيير الإمام: بل هي أيضا مثلهما في الثبوت بالاقرار أربعا قطعا وبشهادة الأربع
رجال بل كاللواط في عدم الثبوت إلا بشهادة الرجال خاصة للأصل وغيره
إلخ.
يعني كما أن السحق تكون كالزنا واللواط في تخيير الإمام عند الاقرار،
والتوبة، كذلك تكون مثلهما في الاثبات بالاقرار أربعا...
وقد ذهب إلى ذلك غيره من العلماء.
قال في كشف اللثام (عند قول العلامة: ويثبت بشهادة أربعة رجال لا غير):
خلافا لابني زهرة وحمزة وقد مر في القضاء (ثم قال): واشتراط هذا العدد مجمع
عليه في الظاهر (ثم قال):
ويدل عليه قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة من نساؤكم فاستشهدوا
عليهن أربعة منكم (1) وقوله تعالى: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء.. (2).
وقد جعل رحمه الله الفاحشة في الآية الأولى أعم من الزنا وغيرها مما
يناسبها ويلحق بها.
وهذا خلاف ما هو الظاهر من بعض التفاسير ففي تفسير الصافي للكاشاني
رحمة الله عليه: قيل: الفاحشة: الزنا سمي بها لزيادة قبحها وشناعتها انتهى
ولم أقف بعد على ورود ذلك في الروايات الشريفة.
وكيف كان فقد خالف في ذلك المحقق الأردبيلي قدس سره وذهب إلى كفاية

(1) سورة النساء الآية 15.
(2) سورة النور الآية 4.
70

الاقرار مرتين في إثبات السحق.
أقول: وما أفاده ليس ببعيد وذلك لظهور الآيتين في الزنا لا الأعم منها ومما
يلحق بها وكأنه قيل في الآية الأولى: واللاتي يأتين الزنا من نساءكم وفي الآية
الثانية: والذين يرمون المحصنات، بالزنا...، وإذا لم يكن دليل على اعتبار
الأربع في المقام فلا محالة يرجع إلى عموم أدلة الشاهدين كقوله تعالى:
واستشهدوا شهيدين من رجالكم (1) وغير ذلك وعلى هذا فيكتفى في إثبات
السحق بشهادة شاهدين.
هذا بالنسبة إلى الشهادة، وأما بالنسبة إلى الاقرار فيكفي الاقراران في إثبات
ذلك - لأنه بحكمها - بل يمكن. ن يقال بكفاية الاقرار الواحد.
حكم الأجنبيتين في إزار واحد
قال المحقق: والأجنبيتان إذا وجدتا في إزار مجردتين عزرت كل واحدة دون
الحد.
أقول: البحث هنا هو البحث في اضطجاع الرجلين تحت إزار واحد كما
صرح بذلك في المسالك.
وفي الجواهر: ومقتضاه أن المشهور حينئذ من ثلاثين إلى تسعة وتسعين
انتهى. (وقد مر أن مقتضى الجمع بين خبر سليمان بن هلال وخبر معاوية بن عمار
ذلك أي ما بين الثلاثين إلى تسعة وتسعين).
واختار ذلك شيخ الطائفة قدس سره في النهاية وابن البراج: وإذا وجدت
امرأتان في إزار واحد مجردتين من ثيابهما وليس بينهما رحم ولا أحوجهما إلى
ذلك ضرورة من برد وغيره كان على كل واحدة منهما التعزير من ثلاثين سوطا

(1) سورة البقرة الآية 282.
71

إلى تسعة وتسعين حسب ما يراه الإمام أو الوالي.. (1)
لكن قال الشيخ في أشربة الخلاف: لا يبلغ بالتعزير حدا كاملا بل يكون دونه
وأدنى الحدود في جنية الأحرار ثمانون فالتعزير فيهم تسعة وسبعون جلدة وأدنى
الحدود في المماليك أربعون والتعزير فيهم تسعة وثلاثون... (2)
وظاهر عبارته أنه قائل بذلك في مطلق الحد وأي حد كان في حين صرح
البعض (3) بأنه إذا كان الموجب للتعزير مما يناسب الزنا ونحوه مما يوجب مأة
جلدة فالتعزير فيه دون المأة وإن كان مما يناسب شرب الخمر أو القذف مما
يوجب ثمانين فالتعزير فيه دون الثمانين.
وقد حمل ابن إدريس رضوان الله عليه كلام الشيخ في أشربة الخلاف على
ذلك وجعل الملاك هو الحد الكامل الذي هو المأة فالتعزير مطلقا دونه وقد عد
ما يظهر مما ذكره الشيخ، من أقوال المخالفين واجتهاداتهم وقياساتهم قال:
والذي يقتضيه أصول مذهبنا وأخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحد الكامل الذي
هو المأة أي تعزير كان سواء كان مما يناسب الزنا أو القذف وإنما هذا الذي لوح
به شيخنا، من أقوال المخالفين وفرع من فروع بعضهم ومن اجتهاداتهم
وقياساتهم الباطلة وظنونهم العاطلة انتهى (4).
وكيف كان فمقتضى الجمع بين الأخبار هو الحكم بتعزير هما من ثلاثين إلى
تسعة وتسعين، والاختيار فيهما وما بينهما إلى الحاكم.

(1) النهاية ص 707 والمهذب ج 2 ص 533، واللفظ للشيخ.
(2) الخلاف ج 3 كتاب الأشربة مسألة 14.
(3) كأبي الصلاح الحلبي فراجع الكافي ص 420.
(4) السرائر ج 3 ص 466، أقول: وقد رد عليه العلامة في المختلف ص 766 بقوله: وأماما
ذكره الشيخ من تقدير التعزير فهو جيد حسن لأنا لا نبلغ بما يناسب الفعل، وقرب منه،
وليس به حد ذلك الفعل وحاشا شيخنا أن يقلد غيره من علمائنا فكيف من لا يعتقد صحة مذهبه إلى آخر كلامه زيد في علو مقامه فراجع.
72

وأما ما ورد في بعض الروايات من تعزيرهما بما دون الأربعين كما في رواية
حماد بن عثمان (1) أو بالعشرة إلى العشرين كما في رواية إسحاق بن عمار (2) فهي
معرض عنها والعامل بها شاذ.
كما أن ما ورد فيها من أنهما يضربان الحد كما في صحيح الحلبي (3) فيمكن أن
يراد من الحد التعزير فإنه قد يستعمل في التعزير وقد يستعمل في الأعم من الحد
والتعزير وعلى الجملة، فإطلاق الحد هنا من باب المجاز.
هذا كله إذا صدر ذلك مرة فلو تكرر ذلك فإليك حكمه:
حكم وقوع هذا العمل مرارا
قال المحقق: وإن تكرر الفعل والتعزير مرتين أقيم عليهما الحد في الثالثة فإن
عادتا قال في النهاية: قتلتا والأولى الاقتصار على التعزير احتياطا في التهجم على
الدماء.
وفي الجواهر (بعد قول المصنف: في الثالثة): بلا خلاف أجده إلا ما يحكى عن
ظاهر الحلي من القتل فيها لأنه كبيرة وكل كبيرة يقتل فاعلها في الثالثة بعد تخلل
الحد أو التعزير
أقول: قال ابن إدريس بعد الحكم بتعزير الامرأتين اللتين وجدتا في إزار
واحد: فإن عادتا إلى مثل ذلك نهيتا وأدبتا فإن عادتا ثالثة أقيم عليهما الحد
كاملا مأة جلدة على ما روي.
ثم قال: أورده شيخنا في نهايته وقال: فإن عادتا رابعة كان عليهما القتل.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 3.
مستدرك الوسائل ج 18 ص 194 ب 6 من أبواب بقية الحدود ح 2: قال سألت أبا
إبراهيم عليه السلام عن التعزير، قلت: كم هو؟ قال: ما بين العشرة إلى العشرين.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد الزنا ح 1.
73

ثم قال: قال محمد بن إدريس: إن قتلهما في الرابعة لقولهم عليهم السلام:
أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة والصحيح أنهم يقتلون في الثالثة انتهى (1).
فمستند ابن إدريس القائل بالقتل في الثالثة بعد تحقق التعزير مرتين خبر
يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلها إذا أقيم
عليهم الحد مرتين قتلوا في الثالثة (2).
نعم قد خرج عن ذلك باب الزنا لرواية أبي بصير قال: قال: أبو عبد الله
عليه السلام: الزاني إذا زنا يجلد ثلاثا ويقتل في الرابعة، يعني يجلد ثلاث
مرات (3).
وقد قال الشيخ: الأول مخصوص بغير الزنا.
وعلى هذا ففي غير الزنا يحد أو يعزر في المرة الأولى وكذا الثانية ثم في الثالثة
يقتل.
لكن الشيخ في النهاية صرح في المقام بتعزيرهما ثلاثا ثم قتلهما في الرابعة (4)
ووافقه في ذلك ابن البراج وكذا العلامة في المختلف.
ومستنده في ذلك أمران:
إحداهما رواية أبي خديجة قال: لا ينبغي لامرأتين تنامان في لحاف واحد إلا
وبينهما حاجز فإن فعلتا نهيتا عن ذلك فإن وجدهما بعد النهي في لحاف واحد
جلدتا كل واحد منهما حدا حدا فإن وجدتا الثالثة في لحاف حدتا فإن وجدتا
الرابعة قتلتا (5).
ثانيهما أنه كبيرة وكل كبيرة يقتل بها في الرابعة.
ولكن فيه أن الرواية مع ضعف سندها لا تنطبق على ما ذكره كاملا فإن

(1) السرائر ج 3 ص 467
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
(4) النهاية ص 707.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب الزنا ح 25.
74

مقتضاها هو أنه لا شئ في المرة الأولى سوى النهي إلا أن يحمل على صورة الجهل
بالحكم، ويبقى مع ذلك التعبير بالحد بالنسبة إلى المرة الثانية والثالثة والحال أنه
لا يقول بالحد بل هو قائل بالتعزير اللهم إلا أن يراد من الحد التعزير وبعد ذلك
كله يكون الحكم بالقتل بحسب ذلك في المرة الثالثة لأن المرة الأولى لم تكن
مقتضية للتعزير على ما تقدم من الحمل على صورة الجهل وأين ذلك من القتل في
الرابعة الذي يقول به.
وأما الاستدلال الثاني ففيه ما أفاده في المسالك من أنه إن أراد مع إيجابها
الحد فمسلم لكن لا يقولون به هنا وإن أراد مطلقا فالظاهر منعه ومن ثم اختار
المصنف الاقتصار على التعزير مطلقا وهو الأوجه إن لم نقل بالحد كما اختاره
الصدوق وإلا كان القول بقتلهما في الثالثة أو الرابعة أوجه انتهى.
أقول: ولا يخفى عليك ما في نسبة المسالك إلى المحقق من الاشكال وذلك لأنه
نسب إليه اختيار الاقتصار على التعزير مع أنه قدس سره صرح بالحد في الثالثة.
وقد تعرض صاحب الرياض لذكر الدليلين ثم تنظر فيهما لما ذكره في المسالك
ثم قال: ومن ثم اختار الفاضلان والشهيدان وأكثر المتأخرين كما في المسالك
الاقتصار على التعزير مطلقا إلا في كل ثالثة فالحد ولا ريب أنه أحوط انتهى.
نعم أورد على صاحبي المسالك والرياض، في الجواهر بقوله: وفيه أولا إن
المتجه بناءا على ما ذكراه القتل في التاسعة أو الثانية عشر لتخلل الحد حينئذ لا
أن الحكم كذلك مطلقا وثانيا قد سمعت الصحيح ومعقد الاجماع الدالين على قتل
أصحاب الكبائر في الثالثة.
ثم قال: نعم يقال في المقام بالرابعة إلحاقا له بالزناء واحتياطا في الدماء.
أقول: فاللازم هنا البحث في أن المراد من قتل أصحاب الكبائر بعد إجراء
الحد عليهم مرتين مثلا هل هو الحد المصطلح وخصوصه أو المراد منه الأعم منه
ومن التعزير.
قال في المسالك: مقتضى الحكم بالتعزير عدم الحكم بالقتل مطلقا وإليه ذهب
75

أكثر المتأخرين انتهى.
وعلى هذا فتصل النوبة إلى البحث في أنه يعتبر التعاقب في الحد مرتين
أو ثلاث مرات بحيث لو حصل الانفصال لا يجوز القتل أو أنه يكفي في القتل
إجراء الحد مرتين أو ثلاث مرات مطلقا؟.
والظاهر هو الثاني وعليه فيتحقق في كل ثلاث مرات من وقوع الفعل حد
واحد مسبوق بتعزيرين فيكفي في الحكم بالقتل إجراء الحد عليهما ثلاث مرات
مثلا وإن لم تكن متعاقبة بل وقع كل منها عقيب تعزيرين.
وأما القول بتعزيره في المرة الأولى والثانية وإقامة الحد عليه في الثالثة مطلقا
بلغ ما بلغ ومهما تكرر منه الجرم، فهو خلاف الظاهر جدا وهو يفضي إلى أن
لا يقتل أصلا مهما أتى بهذا الفعل الشنيع والمعصية العظيمة.
والاجمال المذكور في خبر أبي خديجة وإن كان يقتضي الحكم بعدم القتل لأن
الأصل عدم جوازه، والاحتياط أيضا يقتضي ذلك إلا أن الروايات الدالة على
قتل مرتكب الكبيرة في المرة الثالثة، أو الرابعة كما في باب الزنا يوجب الحكم
بالقتل في المقام.
نعم لا يبعد الحكم بذلك في الرابعة والتأخير في قتله إليها وإن قلنا بالقتل في
الثالثة في سائر المعاصي والمحرمات، وذلك لأنه لا يقتل في الزنا إلا في الرابعة
وبعد أن أجرى عليه الحد ثلاث مرات فكيف يقال في المقام بالقتل في الثالثة
والحال أنه لم يكن شئ سوى كونهما تحت لحاف واحد.
ولعل نظر الشيخ قدس سره من الحكم بقتلهما في الرابعة هو إلحاقه بالزنا وإن
كان قد يورد عليه بأنه قياس مع الفارق ولكن الانصاف أن الحكم بالقتل في
الزنا في الرابعة، وفي المقام في الثالثة بعيد.
فتحصل أنه يحكم بقتلهما بعد ارتكاب هذا العمل اثنا عشر مرة وبعد أن
عزرا في المرتين الأوليين من كل ثلاث وحدا في كل ثالثة من الثلاثة الأولى
والثانية والثالثة.
76

الكلام في عدم جريان الكفالة في الحد
قال المحقق قدس سره: مسألتان: الأولى: لا كفالة في الحد ولا تأخير فيه مع
الامكان والأمن من توجه الضرر ولا شفاعة في إسقاطه.
أقول: قد ذكر قدس سره في المسألة الأولى ثلاثة من أحكام الحد أولها أنه
لا كفالة فيه.
والكلام هنا في علة ذلك ووجهه. فقال الشهيد الثاني قدس سره في المسالك
بعد التصريح بفورية وجوب الحد عندما ثبت موجبه: ومن ثم لم يجز فيه الكفالة
لأدائها إلى تأخيره وهو غير جائز مع إمكان تعجيله انتهى ورد عليه صاحب
الجواهر رضوان الله عليه فقال عند توجيه عدم الكفالة في الحد: لا لأدائه إلى
التأخير إذ قد يكون العذر حاصلا في تأخيره بل للحسن أو الصحيح عن
الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا كفالة في حد،
ونحوه عن أمير المؤمنين عليه السلام انتهى.
فقد علل هو بورود النصوص ووجه ذلك بالتعبد.
وتظهر الثمرة في أنه على الأول لو كان هناك عذر يمنع عن التعجيل فإنه يقبل
الكفالة حينئذ لجواز التأخير بخلاف ما لو كان العلة هو النص فإنه لا يجوز الكفالة
أصلا.
قال بعض معاصرينا قدس الله روحه عند بيان عدم الكفالة في الحد: وهذا
الكلام يمكن أن يراد منه أنه لا تقبل كفالة أحد إذا لزم الحد للزوم تأخير الحد فإذا
فرض لزوم التأخير كما لو لزم إرضاع ولد بحيث يموت الولد مع ترك الأم
الارضاع، ومن استحق الحد يمكن أن يهرب بحيث لا يمكن إجراء الحد عليه فإن
كان النظر إلى هذا فلا بد من التقييد وهذا كما يقال: لا يجوز تأخير الحد فمع جواز
التأخير لا مانع من الكفالة.
ثم قال: ويمكن أن يكون المراد أنه لا يصح الكفالة وضعا بحيث لو تعهد
الكفالة لا يصح وعلى هذا يكون الكفالة باطلة نظير البيع الغرري وعلى الأول
77

يكون نظير البيع وقت النداء يوم الجمعة (1).
أقول: الظاهر أنه لا يمكن حمل الكلام على الوجه الأول لأنه نظير: لا صلاة
إلا بفاتحة الكتاب الذي معناه أنه إذا كان جميع أجزاء الصلاة وشرائطها موجودة
فهناك لا تتحقق الصلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا يشمل الصلاة الباطلة مع قطع
النظر عن قراءة فاتحة الكتاب وعدمها فيها ففي المقام لا معنى للكفالة في الحد
الفوري وعند ما لم يكن التأخير جائزا لعذر من الأعذار فإنه لا بد حينئذ من
إجراء الحد بالفور وإنما يجري بحث الكفالة فيما كان يجوز التأخير، فهنا الذي
يتصور فيه الكفالة يقال: لا كفالة في الحد بمعنى عدم صحتها لا حرمتها، فإذا جاز
التأخير ولم يجب الفور فهنا وإن كان يتصور الكفالة بأن يتعهد الكفيل إحضار
في الوقت الخاص لكن تبطل هذه الكفالة شرعا لعدم مشروعية الكفالة في
الحدود.
وبعبارة أخرى معنى العبارة الشريفة أن الكفالة المشروعة في سائر الموارد
غير مشروعة في الحد.
ولعل الوجه في عدم جريان الكفالة في باب الحدود وسره أن لازم الكفالة
ومقتضاها هو جواز استيفاء الحق من الكفيل مع عدم إمكان استيفائه من
المكفول له وهذا لا يمكن في باب الحدود لأنه لا يحد أحد بمعصية غيره وإنما يتحقق
ذلك في باب الأموال ولذا ترى أنه لا كفالة في القتل وتكون في الدية.
والحاصل أنه يتعين الوجه الثاني من الوجهين وهو عدم مشروعية الكفالة في
الحد الذي لولا الدليل لصحت فيه الكفالة وليس هو إلا الحدود المؤجلة.
ثم إنه لو كان الحد شاملا للتعزير أيضا كما هو الظاهر فالأمر واضح، وأما لو
قلنا بأن المراد من الحد هو الحد المصطلح واختصاصه بالحد المخصوص أعني
غير التعزير فحينئذ نقول: إن المناط في كليهما واحد فكما لا يجوز ولا يمكن أن
يقام الحد على الكفيل كذلك لا يمكن أن يعزر الكفيل وعلى هذا فلا يجوز الكفالة

(1) جامع المدارك الطبع الأول ج 7 ص 87 و 88.
78

في التعزير.
عدم جواز التأخير في الحد
هذا كله بالنسبة إلى الحكم الأول أعني عدم جواز الكفالة.
وأما الحكم الثاني أي عدم جواز التأخير فنقول: إن التأخير في الحد غير
جائز وذلك للنهي عنه.
ففي رواية عمران أو صالح بن ميثم عن أبيه في حديث طويل: إن امرأة أتت
أمير المؤمنين عليه السلام فأقرت عنده بالزنا أربع مرات قال: فرفع رأسه إلى
السماء وقال: اللهم إنه قد ثبت عليها أربع شهادات وإنك قد قلت لنبيك صلى
الله عليه وآله فيما أخبرته من دينك: يا محمد من عطل حدا من حدودي فقد
عاندني وطلب بذلك مضادتي (1)
وعن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام في حديث قال: ليس
في الحدود نظر ساعة (2).
وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام
قال: إذا كان في الحد لعل أو عسى فالحد معطل. (3)
وهل يختص عدم الجواز بما إذا كان على نحو يصدق عليه التعطيل؟ قال في
الجواهر: وكذا لا تأخير فيه على وجه يصدق عليه التعطيل انتهى.
ولكن الظاهر أنه غير جائز مطلقا وإن فرض عدم صدق ذلك عليه بل مجرد
الامهال غير جائز (كما هو مقتضى الرواية الثانية) لو لم نقل بأن الامهال أيضا
نوع من التعطيل.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب مقدمات الحدود ح 6.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
79

ثم إنه يستثنى من ذلك ما إذا لم يمكن التعجيل أو لم يكن هناك أمن من الضرر،
وذلك كالمرض والحبل فإنه لا بد معهما من تأخير الحد إلى أن يبرأ أو تضع حملها.
ثم إن كون الاختيار بيد الإمام في بعض الموارد كما إذا ثبت بالاقرار فله العفو
والإقامة قد يوجب توهم جواز التأخير له.
وفيه عدم ملازمة بين كون الاختيار بيده وأن لا يجوز له التأخير في ذلك
فعليه أن يختار واحدا من الأمرين فورا.
عدم جواز الشفاعة في الحد
الثالث أنه لا شفاعة في إسقاط الحد.
وقد استدل على ذلك بوجهين:
أحدهما أن استيفائه حق واجب على الإمام ومن ثم لم تجز فيه الشفاعة لأنه
لا يشفع إلا فيما هو حقه - كذا في المسالك -.
أقول: وعلى هذا فلو فرض في مورد كون الأمر بيد الإمام وأنه جاز له العفو
كما في غير مورد ثبوته بالبينة فلا بد من جواز ذلك هناك.
ثانيهما الروايات:
فعن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان لأم سلمة زوج النبي
صلى الله عليه وآله أمة فسرقت من قوم فأتي بها النبي صلى الله عليه وآله
فكلمته أم سلمة فيها فقال النبي صلى الله عليه وآله: يا أم سلمة هذا حد من
حدود الله لا يضيع فقطعها رسول الله صلى الله عليه وآله (1)
وعن مثنى الحناط عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: لأسامة بن زيد: لا يشفع في حد (2)

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
80

وعن سلمة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أسامة بن زيد يشفع في
الشئ الذي لا حد فيه فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله بإنسان قد وجب عليه
حد فشفع له أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تشفع في حد. (1)
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه
السلام: لا يشفعن أحد في حد إذا بلغ الإمام فإنه لا يملكه واشفع فيما لم يبلغ
الإمام إذا رأيت الندم واشفع عند الإمام في غير الحد مع الرجوع من المشفوع له
ولا يشفع في حق امرئ مسلم ولا غيره إلا بإذنه. (2)
وظاهر هذه الأخبار أنه لا أثر للشفاعة في باب الحدود مطلقا وأن الحد مما
لا يقبل الشفاعة.
ولو كان المراد هو التحريم فهو أيضا كاف في إثبات المطلوب لأنه كيف
يترتب الأثر على ما هو حرام؟.
نعم ربما يستظهر من التعليل الوارد في خبر السكوني: (فإنه لا يملكه) أنه
لا شفاعة فيما ليس له العفو وليس هو مالكا للحد وأما إذا كان مالكا له كما إذا
ثبت الحد بالاقرار فهناك لا بأس بالشفاعة فيه.
فالأمر يدور بين تخصيص الروايات السابقة الدالة على أنه لا شفاعة في حد
بأن يقال: لا يشفع في حد إذا لم يكن الإمام مالكا للعفو والإقامة، أو يؤخذ
بالنكرة في سياق النفي ويوجه التعليل الوارد في المقام بأنه لا يملك الشفاعة وإن
كان مالكا للعفو.
وعلى الجملة فالاشكال الوارد في المقام هو أن العلة ليست صريحة في عدم
ملكه للعفو كي يقال: بأنه إذا كان مالكا للعفو يجري حينئذ الشفاعة، فلعل المراد
أنه لا يشفعن أحد فإن الإمام ليس مالكا لذلك أي لقبول الشفاعة ولا بعد أصلا
في إرادة هذا المعنى، وبناءا عليه فيقدم النكرة في تلو النفي ويحكم بأنه لا أثر

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدمات الحدود ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب مقدمات الحدود ح 4.
81

للشفاعة في باب الحدود.
قال في الجواهر: قد يقال: إن مقتضى التعليل المزبور جواز الشفاعة فيه في
مقام التخيير له إلا أن إطلاق الأصحاب ينافيه انتهى.
المسألة الثانية في المرأة التي وطئها زوجها فساحقت بكرا فحملت
قال المحقق: لو وطئ زوجته فساحقت بكرا فحملت قال في النهاية على
المرأة الرجم وعلى الصبية جلد مأة بعد الوضع ويلحق الولد بالرجل ويلزم المرأة
المهر.
أقول: إذا جامع الرجل زوجته ثم ساحقت هذه المرأة بكرا فحملت البكر
من مائها الذي كان من الزوج فهناك أحكام:
أحدها أنه ترجم المرأة والعلة في ذلك أنها محصنة فإن المفروض أن زوجها
قاربها عن قريب وقد تقدم أن الشيخ قال في باب السحق بأنه ترجم مع
الاحصان وتحد مع عدمه.
ثانيها أنه تجلد الصبية مأة جلدة، ووجهه أن المفروض رضاها بذلك فتجلد
مأة كما هي حدها والمفروض أنها بكر لا زوج لها، نعم يؤخر حدها إلى أن تضع
حملها.
ثالثها أنه يلحق هذا الولد بالرجل صاحب الماء وذلك لأنه قد تكون ونشأ
منه.
رابعها أنه يلزم المهر للبكر على المرأة المساحقة.
ذهب إلى ترتب هذه الأحكام الأربعة شيخ الطائفة في النهاية.
ويدل على ذلك صحيح محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله
عليهما السلام يقولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام إذ
أقبل قوم فقالوا يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين. قال: وما حاجتكم؟ قالوا أردنا
أن نسأله عن مسألة قال: وما هي تخبرونا بها؟ قالوا امرأة جامعها زوجها فلما
82

قام عنها قامت بحموتها فوقعت على جارية بكر فساحقتها فوقعت النطفة فيها
فحملت فما تقول في هذا؟ فقال الحسن: معضلة وأبو الحسن لها وأقول، فإن
أصبت فمن الله ومن أمير المؤمنين وإن أخطأت فمن نفسي فأرجو أن لا أخطي
إن شاء الله: يعمد إلى المرأة فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة لأن الولد
لا يخرج منها حتى تشق فتذهب عذرتها ثم ترجم المرأة لأنها محصنة وينتظر
بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة ثم تجلد
الجارية الحد قال: فانصرف القوم من عند الحسن عليه السلام، فلقوا أمير
المؤمنين عليه السلام فقال: ما قلتم لأبي محمد وما قال لكم؟ فأخبروه فقال: لو
أنني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني
وقد عمل بها الشيخ وأتباعه ولعل المسالك أيضا يرتضيه. وقد وافقه المحقق
قدس سره في ثلاثة من هذه الأحكام وخالف في واحد منها وهو الرجم وإليك
نصه في البحث الآتي:
رأي المحقق وابن إدريس حول المسألة
قال المحقق: أما الرجم فعلى ما مضى من التردد والأشبه الاقتصار على الجلد
وأما جلد الصبية فموجبه ثابت وهو المساحقة وأما لحوق الولد فلأنه ماء غير
زان وقد انخلق منه الولد فيلحق به وأما المهر فلأنها سبب في إذهاب العذرة،
وديتها مهر نسائها وليست كالزانية في سقوط دية العذرة لأن الزانية أذنت في
الافتضاض وليست هذه كذلك. انتهى
أقول: وابن إدريس خالف في المسألة ورد الأحكام كلها عدا إثبات الجلد
على البكر نظرا إلى وجود مقتضيه وهو المساحقة قال رحمة الله عليه: فإن عضد
هذه الرواية دليل من كتاب أو سنة متواترة أو إجماع وإلا السلامة التوقف فيها

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد السحق ح 1، وراجع أيضا ح 2.
83

وترك العمل بها والنظر في دليل غيرها لأنا قد قلنا إن جل أصحابنا لا يرجمون
المساحقة سواء كانت محصنة أو غير محصنة واستدللنا على صحة ذلك فكيف
نوجب على هذه الرجم، وإلحاق الولد بالرجل، فيه نظر يحتاج إلى دليل قاطع
لأنه غير مولود على فراشه والرسول عليه السلام قال: الولد للفراش، وهذه
ليست بفراش للرجل لأن الفراش عبارة في الخبر عن العقد وإمكان الوطئ
ولا هو من وطئ شبهة بعقد الشبهة، وإلزام المرأة المهر أيضا فيه نظر، ولا دليل
عليه لأنها مختارة غير مكرهة وقد بينا أن الزاني إذا زنا بالبكر الحرة البالغة
لا مهر عليه إذا كانت مطاوعة، والبكر المساحقة هاهنا مطاوعة قد أوجبنا عليها
الحد لأنها بغي، والنبي عليه السلام نهى عن مهر البغي فهذا الذي يقال على هذه
الرواية فإن كان عليها دليل غيرها من إجماع وغيره فالتسليم للدليل دونها،
فليلحظ ما نبهنا عليه ويتأمل ولا ينفي في الديانة أن يقلد أخبار الآحاد وما يوجد
في سواد الكتب انتهى (1).
ويؤل كلامه وإيراداته إلى إيرادين:
الأول أن الرواية من قبيل أخبار الآحاد التي لا يعمل بها.
الثاني أن الرواية على خلاف مقتضى القواعد فإن الحكم في السحق هو الجلد
مطلقا دون الرجم وإن فصل الشيخ قدس سره بين المحصنة وغيرها فأوجب
الرجم في الأولى، وهذه الرواية تتضمن الحكم بالرجم.
أما الأول فهو مما يقول به على خلاف المشهور.
وأما اشتمال الرواية على خلاف مقتضى القواعد فأما حكم السحق فهو وإن
كان الجلد دون الرجم على ما عليه جل الأصحاب إلا أنه لا يرد إشكال لو قيل
هنا بالرجم بمقتضى الرواية بعد البناء على العمل بخبر الواحد فإن هذه مخصصة
للروايات الدالة على أن حد السحق هو الجلد وإن كان هذا خلاف ظاهر
العموم، لكن يقال به عملا بهذه النصوص وجمعا بينها وبين ما تقدم من الدليل

(1) السرائر ج 3 ص 465.
84

على عدم رجم المساحقة مطلقا كما ذكره في الرياض.
سلمنا أن هذه الجملة غير معمول بها، وأنه لا بد من الأخذ بروايات الجلد في
السحق وترجيحها على رواية الرجم ولكن هذا لا ينافي العمل بباقي فقراتها،
وعدم العمل بقطعة من الرواية لا يضر بما سواها منها.
والانصاف أن احتمال العمل بتلك الرواية في خصوص المورد لا يجابه حمل
البكر، يدفعه اشتمالها على التعليل المقتضي تسرية الحكم إلى كل محصنة.
وأما ما أورده من عدم إلحاق الولد بالرجل معللا بأنه ليس مولودا على
فراشه كي يلحق به ففيه أنه مخلوق من مائه ومتكون من نطفته ولم يكن هو بزان
فيلحق به شرعا كما يلحق به لغة وعرفا، فإن ولد الرجل فيهما هو من تكون من
مائه مطلقا وإن كان من زنا غاية الأمر أن الشارع الأقدس نفى ولدية المتكون
من زنا في قسم من الأحكام كالإرث مثلا دون المحرمية وحرمة النكاح.
وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الولد للفراش فهو لا يفيد الانحصار
بل هو لبيان حكم ما إذا كان هناك شبهة بأن يتردد الولد بين شخصين فلا يفيد
أن المتكون في غير الفراش ليس بولد.
وعلى الجملة فخروجه بدوا من بين الصلب والترائب يقتضي إلحاقه بالرجل
فإنه منشأ حياته وتكونه وليس المقام من باب الزنا كي لا يلحق به شرعا.
وأما عدم الالحاق بالأب في باب الحيوانات فهو أمر عرفي لا يتعلق ببحثنا.
واستشكل صاحب الجواهر قدس سره في إلحاقه به بقوله: إن ذلك لا يكفي في
لحوق الولد شرعا ضرورة كون الثابت من النسب فيه الوطئ الصحيح ولو شبهة
وليس هذا منه وليس مطلق التولد من الماء موجبا للنسب شرعا ضرورة عدم
كون العنوان فيه الخلق من مائه والصدق اللغوي بعد معلومية الفرق بين الانسان
وغيره من الحيوان بمشروعية النكاح فيه دونه بل المراد منه تحقق النسب. إلى
آخر كلامه.
وفيه أن هذا خلاف اللغة والعرف بل وما هو المستفاد من الروايات فإن
85

النسب يحصل من الماء ولا مدخلية للوطي فيه، ولذا لا خلاف في أنه إذا لاعب
الرجل زوجته فسبق الماء وحملت من ذلك بدون وطي فإن الولد ملحق به، مع
أن الماء قد حصل في المقام من الوطي الصحيح وإنما المرأة عصت في نقله إلى
رحم البكر وإلحاق الولد بالصبية.
وهكذا بالنسبة إلى السؤال الوارد علينا والذي يستفتوننا فيه ولعله واقع
الآن أو أنه سيقع في القابل من الأزمان وهو أنه إذا أخذت نطفة الرجل وجعلت
في ظروف مساعدة مناسبة كالمكائن والمصانع الخاصة تحت حرارة لازمة
كحرارة الرحم فتكون منها ولد، فهل لا يكون هذا الولد ملحقا
بصاحب النطفة! (1)
قال قدس سره: ومن ذلك يظهر الاشكال في لحوق ولد المكرهة بها إذا لم
يثبت كون ذلك من الشبهة شرعا.
يعني مما ذكرنا من عدم كفاية مجرد التكون من الماء في صدق الولد واعتبار
تحقق النسب يظهر الاشكال في الحكم بلحوق ولد المكرهة على الزنا بها إذا لم
يثبت كون وطيها من الشبهة بحسب الشرع فإنه إذا أكره رجل امرأة على الوطي
بتصور أنها زوجته ثم بان أنها كانت أجنبية فحيث كان الوطي شبهة لا يرد
إشكال في لحوق الولد بها لمكان الشبهة بخلاف ما إذا أكرهها ولم يكن هناك شبهة
فإنه لا وجه للحوق الولد بالمرأة بعد أن كان الأب زانيا والأم مكرهة وذلك لعدم
الفراش الشرعي ولا الشبهة.
وفيه أنه لا وجه للاشكال هنا أيضا بعد صدق الولد لغة وعرفا نعم لا يلحق
بالأب شرعا كما مر لمكان الزنا.
ثم قال: كما أن من ذلك يظهر لك أن المتجه عدم لحوقه بالصبية وإن لم تكن
زانية كما في المسالك بل في القواعد: إنه الأقرب، بعد الاشكال فيه وكأن وجهه

(1) بل صرح بعض بأنه لو صب ماء الرجل بعد الوطي، من رحم زوجته ثم اجتذبه رحم
امرأة أخرى وتكون منه ولد فهو منتسب إلى هذا الرجل والمرأة الثانية دون الواسطة.
86

مما عرفت ومن صدق عدم الزناء مع الولادة ولا دليل على كونه بحكمه في ذلك
أيضا كما هو واضح نعم لا إشكال في عدم لحوقه بالكبيرة لعدم الولادة.
أقول: يرد عليه إن انتفاء الوطئ عن عقد صحيح ليس موجبا لعدم إلحاق
الولد بالصبية مع تولده منها فإن الله تبارك وتعالى ألحق عيسى على نبينا وآله
وعليه السلام بمريم وآبائها وأورثه منهم مع أنه لا عقد هناك ولا وطئ ولا ماء
منهم فإنه قد تكون بإرادة الله تبارك وتعالى كما قال الله سبحانه: فنفخنا فيها من
روحنا (1) ومع ذلك فانتسب في لسان الوحي وغيره إلى مريم وعده الله وجعله
من ولد الأنبياء وورثتهم بمجرد خلقه في رحم مريم بمشية الله تعالى وإرادته.
وعلى الجملة فالظاهر أنه لا إشكال في إلحاق الولد وأن مجرد تكون الولد في
رحم امرأة وبطنها كاف في نسبته إليها وإلحاقه بها. ففي المقام يلحق بالبكر
وينتسب إليها خصوصا بلحاظ إمكان تهييج منيها ودخلها في تكون الولد
مضافا إلى تكونه في جوفها والحاصل أن ما اختاره في الرياض من إلحاقه
بالصبية لا إشكال فيه.
نعم ما أفاده من عدم لحوقه بالكبيرة صحيح وذلك لأنه لم يتولد منها وإنما
كانت هي سببا لتكونه وتولده.
اللهم إلا أن يكون لمائها أيضا تأثير في تكون الولد وشركتها في تحققه بأن
يكون الولد متكونا من ماء الرجل وماء الكبيرة المنتقل بالمساحقة إلى البكر
ولكن هذا غير معلوم فيرفع.
وقال: إنها بعد الإذن بوضع النطفة فيها مع فرض علمها بوطئ الزوج أو
احتمالها لا تستحق المهر ضرورة كونها أقوى منها.
وحاصل إيراده أنه لا وجه لإلزام المهر على المساحقة لأن البكر رضيت
بذلك فكانت مختارة غير مكرهة، والزنا بالمختارة لا يوجب المهر وهي كانت
عالمة بأن المرأة حاملة لماء الزوج ولا أقل من أنها تحتمل ذلك فإذا أذنت والحال

(1) سورة الأنبياء الآية 91.
87

ذلك فهي بغي ولا مهر لبغي.
وفيه أن البكر قد رضيت بالمساحقة لا في الحمل الذي هو سبب لإزالة
عذرتها، ولا يقاس المقام بباب الزنا للفرق بينهما وهو أن الزانية رضيت وأذنت
في الافتضاض وإذهاب العذرة فلا عوض لها، وهذه لم تأذن في ذلك وإنما
رضيت وأذنت في المساحقة والملاصقة (1).
وإلى إشكال ابن إدريس نظر المحقق بقوله في عبارته الآتية:
رأي بعض المتأخرين
قال المحقق: وأنكر بعض المتأخرين ذلك وظن أن المساحقة كالزانية في
سقوط دية العذرة وسقوط النسب.
أقول: وقد ظهر الجواب عنه.
ثم إنه قد أورد صاحب الجواهر على النص - بعد أن أقر بأن العمدة حينئذ
العمل بالنص المزبور - بقوله: بل قد يشكل ما فيه أيضا من تعجيل المهر بأنه
غرامة قبل تحقق السبب المحتمل للعدم بالموت والتزويج ونحوه.
يعني كيف يحكم على الكبيرة بالمهر الآن ومعجلا والحال أنه غرامة لم يتحقق
سببه ويحتمل أن لا يحصل أصلا بالموت أو تزويجها مثلا وبعبارة أخرى إنه
كالحكم بالقصاص قبل الجناية وذلك لأن المفروض أنه لم يخرج الحمل بعد
فالعذرة باقية فلا مهر ولا غرامة.
وهذا أيضا قابل للدفع لإمكان أن يكون المراد بيان أصل الاستحقاق فيكون
تنجزه بالولادة وزوال البكارة كما أنه قدس سره أجاب بذلك أيضا.
وقد تبين بما ذكر في المقام أنه ليس في تلك الأحكام ما يخالف القواعد أصلا

(1) قال في كشف اللثام: واحتمالها الحمل مع علمها بأن وطئها روجها أو احتمالها ذلك لا يكفي
في الإذن. انتهى.
88

ولو فرض كونها خلاف القاعدة فنحن في فسحة بعد ورود النص الصحيح الدال
على ذلك مع عمل الأكثر به.
نعم ابن إدريس رحمة الله عليه فهو معذور على حسب مبناه من عدم العمل
بأخبار الآحاد.
ثم إنه يتفرع على الحكم بالالحاق أي لحوق الولد بالرجل أنه تجب نفقة
الصبية في مدة الحمل على هذا الرجل الذي هو زوج المساحقة (1) بناء على أن
النفقة للحمل إذا بانت من زوجها.
ويتفرع عليه أيضا وجوب الاعتداد ما دام الحمل إلى أن تضع حملها إن
تزوجت بغير زوج الكبيرة.
ومن الفروع المتعلقة بالمقام أنه لا يجوز إقامة الحد عليها ما دامت حاملا بل
توخر في الجلد إلى أن تضع ويستغني الطفل. إلى غير ذلك من الفروع
والأحكام، كل ذلك لترتب أحكام الولد كلها على هذا الحمل كما في الحمل
الصحيح ومن حملت عن زوجها.

(1) قال في كشف اللثام ج 2 ص 229: والنفقة على الصبية مدة الحمل على زوج المساحقة إن
قلنا إن النفقة على الحمل إذا بانت من زوجها للحمل وإلا فلا.
وأقول: راجع الجواهر أيضا ج 31 ص 321.
89

الكلام في القيادة
قال المحقق: وأما القيادة فهي الجمع بين الرجال والنساء للزناء أو بين
الرجال والرجال للواط.
أقول: وزاد بعض العلماء على العبارة المذكورة: أو بين النساء والنساء
للسحق (1).

(1) قال السيد أبو المكارم بن زهرة في الغنية: فصل في حد القيادة: من جمع بين رجل وامرأة
أو غلام وبين المرأتين للفجور فعليه جلد خمسة وسبعين سوطا رجلا أو امرأة حرا أو عبدا
مسلما أو ذميا.. الجوامع الفقهية ص 622
وقال ابن سعيد في الجامع ص 557: ويحد الجامع بين الرجال والنساء والنساء والرجال
والغلمان للفجور خمسا وسبعين جلدة رجلا كان أو امرأة عبدا أو حرا مسلما أو كافرا..
وقال في كشف اللثام (بعد قول العلامة: القواد هو الجامع بين الرجال والنساء للزنا أو بين
الرجال والصبيان للواط): وبين النساء والنساء للسحق انتهى
ويقرب من ذلك عبارة صاحب الرياض قدس سره فراجع كما أن علم التقى الشيخ المرتضى
قدس سره قال: القيادة حرام وهي السعي بين الشخصين لجمعهما على الوطئ المحرم وهي من
الكبائر.
أقول: وقد وردت في حرمتها روايات منها ما رواه في الوسائل ج 12 ص 314 ب 27 من أبواب
آداب التجارة ح 11 عن جبرئيل عليه السلام قال: اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنم يغلي فقلت
يا مالك لمن هذا؟ فقال: لثلاثة المحتكرين والمدمنين الخمر والقوادين.
ومنها ما رواه في ج 14 ص 266 ب 27 من أبواب النكاح المحرم ح 1 عن إبراهيم بن زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله:
الواصلة والمستوصلة يعني الزانية والقوادة.
ومنها رواية سعد الإسكاف قال: سئل أبو جعفر عن القرامل التي يضعها النساء في رؤوسهن
يصلن شعورهن قال: لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها قال: فقلت له: بلغنا أن رسول
الله صلى الله عليه وآله لعن الواصلة والمستوصلة فقال: ليس هناك إنما لعن رسول الله صلى
الله عليه وآله الواصلة التي تزني في شبابها فإذا كبرت قادت النساء إلى الرجال فتلك
الواصلة والموصولة. المكاسب ص 21.
90

ولكن قال في الجواهر بعد نقل ذلك عن جمع منهم: لم أتحققه لغة بل ولا عرفا
انتهى.
وذلك لأن الظاهر من القيادة هو الدلالة والوساطة في الزنا.
كما قال في مجمع البحرين: القواد بالفتح والتشديد هو الذي يجمع بين الذكر
والأنثى حراما.
والروايات الدالة على حرمتها لا تتعرض لغير الجمع بين الرجال النساء للزنا
مثل ما رواه الصدوق في عقاب الأعمال عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ومن
قاد بين امرأة ورجل حراما حرم الله عليه الجنة ومأواه جهنم وساءت مصيرا ولم
يزل في سخط الله حتى يموت (1).
وكذلك ما ورد في حد القواد وهو خبر عبد الله بن سنان (2) الآتي فإنها لم
تتعرض لبيان ماهية القيادة (3) ومجرد إطلاق القيادة على الجمع بين الرجل
والمرأة لا يفيد الانحصار.
وخبر ابن سنان وإن كان مسبوقا بسؤال الراوي عن القواد لكن مع ذلك

(1) وسائل الشيعة ج 14 ص 266 ب 27 من النكاح المحرم ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ص 429 ب 5 من أبواب حد السحق والقيادة ح 1 أقول: وظاهر
هذا الخبر وهو خبر عبد الله بن سنان هو حصر القيادة في ذلك فراجع.
(3) أقول: إذا كان ذلك تاما في رواية الصدوق فإنه لا يتم جدا في خبر ابن سنان فإن ظاهره
الحصر.
91

يمكن تعرض الإمام عليه السلام لواحد من أفراده الشايع بين أهل العصيان وهو
الجمع بين الرجل والمرأة للزنا كما أنه يمكن إرادة الخصوص.
ولا يخفى أن الحكم في جميع الصور معلوم وهو الحرمة بل لعلها من
الضروريات كما أن الحكم في القيادة هو الحرمة والحد إلا أن النزاع في أن الجمع
بين الذكرين أو بين الأنثيين أيضا من باب القيادة أم لا؟ وقد علم أن تعميم حكم
القواد في الفرضين الأخيرين لا يستفاد من الروايات لعدم تعرضها لهما.
إذا فلو شك في شمول الحكم للموردين فلا يجوز إجراء حكم القيادة أعني
الحد بل لا بد من الحكم بالتعزير.
نعم تمسك بعض المعاصرين رضوان الله عليه في إلحاق الجامع بين الذكر
والذكر، بالأولوية القطعية (1).
وفيه أن الجزم بالحد بالأولوية مشكل، لأن استفادة حكم الجامع بين
الرجلين من حكم الجامع بين الرجل والمرأة - وإن كان اللواط أفحش وآكد
حرمة وأشد مبغوضية - بالطريق الأولى محل تأمل وشبهة والحدود تدرء
بالشبهات.
وحينئذ لم يبق ما يتمسك به لاثبات الحكم في الموردين إلا أن يكون هناك
إجماع فإن كان فيحكم بتساوي الموارد في هذا الحكم أعني الحد وإلا فلا بد من
الحكم بالتعزير فيهما.
ولعل الاجماع قائم على وحدة الحكم واشتراك الموارد في الحد، ولو كان
إشكال فإنما هو في الاطلاق اسما والشمول مفهوما وإلا فالظاهر أن الحكم مجمع
عليه بين الأصحاب.

(1) راجع جامع المدارك ج 7 ص 90.
92

فيما تثبت به القيادة ومنها الاقرار
قال المحقق: ويثبت بالاقرار مرتين مع بلوغ المقر وكماله وحريته واختياره.
وفي الجواهر بعد ذلك: بلا خلاف أجده فيه وكأنه لفحوى اعتبار الأربع في
ما تثبته شهادة الأربع ولذا قال في محكي المراسم: كل ما يثبته شاهدان من
الحدود فالاقرار فيه مرتان ونحوه عن المختلف.
أقول: فقد تمسك قدس سره باعتبار خصوص المرتين في المقام دون الأقل
بفحوى ما ورد في باب الزنا من قيام أربعة أقارير مقام الشهادات الأربعة فإنه
يستفاد منه أن الميزان والملاك في الاقرار هو الشهادة فلو كانت القيادة تثبت
بالشاهدين فهي تثبت بالاقرارين أيضا.
وفيه أنه لا محصل لهذه الفحوى كما لا يخفى لأنه على ذلك لم يبق مورد يكفي فيه
الاقرار الواحد ويلزم أن لا يقبل الاقرار مرة واحدة أبدا فإن أي مورد فرض
لا أقل في الشهادة به من اثنين، فأين يقبل الاقرار الواحد؟.
وقد تمسك أيضا ببناء الحدود على التخفيف وأن الأصل عدم ثبوته إلا
بالمتيقن الذي هو الاقرار مرتين..
وفيه أنه لا مورد لهذا البناء والأصل مع حجية أدلة الاقرار مرة واحدة في
الموارد بإطلاقها ولا مجال لهما بعد هذا الظهور العام.
وفي الرياض ومقتضى العموم الثبوت بالاقرار ولو مرة ولكن لا قائل به
أجده بل ظاهرهم الاتفاق على اعتبار المرتين ومستندهم من دونه غير واضح.
كما أن صاحب الجواهر أيضا اعترف بالاجماع بقوله بلا خلاف أجده فيه.
وعلى هذا فلو أقر مرة واحدة فإنه لا يحد نعم يعزر لاعترافه بالكبيرة.
ثم إنه اعتبر في المقر أمور - على ما تقدم في عبارة الشرايع -:
أحدها البلوغ فلا بد أن يكون المقر بالغا وذلك لكون الصبي مسلوب العبارة
نعم لو أقر بالقيادة فإنه يؤدب فإن لضربه عنوان التأديب لا التعزير.
ثانيها كماله بالعقل فلا عبرة بإقرار المجنون أيضا فإنه كالصبي مسلوب
93

العبارة.
ثالثها الحرية فلا يقبل إقرار العبد فإنه وإن لم يكن العبد كالصبي والمجنون -
مسلوب العبارة بل إقراره حجة في حد ذاته إلا أنه لا بد في الاقرار أن يكون في
حق نفسه لا في حق الغير وبضرره، وهذا الشرط مفقود في إقرار العبد لأنه مال
المولى فإقراره إقرار في حق المولى يتوجه به الضرر إليه فهو غير مقبول.
رابعها الاختيار فلو كان مكرها على الاقرار فلا حد عليه كما في كل ما
يوجب الحد وفي سائر الموارد وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع ما
استكرهوا عليه (1).
هذا لو كان مكرها في الاقرار، ولو أقر مختارا بالقيادة مستكرها يقبل منه
ولا يحد.
يثبت القيادة بشهادة الشاهدين
قال المحقق: وبشهادة شاهدين.
أقول: فكما تثبت بالاقرار كذلك بشهادة شاهدين، ومن المعلوم اعتبار
اجتماع شرائط القبول كالعدالة.
ومقتضى العبارة أنه لا تثبت بشهادة غير الرجلين العدلين مع العلم بأنه تقبل
شهادة رجل وامرأتين عن شهادة الرجلين في بعض الموارد كما في الدين حيث
قال الله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان (2).
قال في الجواهر (بعد كلام المحقق): بلا خلاف ولا إشكال بعد إطلاق ما دل
على حجيتها الشامل للمقام، ولا تثبت بشهادة النساء منفردات أو منضمات لما
عرفته في محله انتهى.
ولا بد من المراجعة إلى الأدلة كي يعلم أنه هل الأدلة الدالة على قيام المرأتين

(1) توحيد الصدوق ص 413.
(2) سورة البقرة الآية 282.
94

مقام الرجل الواحد قد خصصت في المقام فلا أثر لشهادة المرأة هنا مطلقا أو أن
الموارد التي صرحت بجواز شهادة المرأة فيها قد خرجت بالدليل وإلا فالقاعدة
عدم نفوذ شهادة النساء والاقتصار في الشهادة على الرجال وإنما خصصت
بالدليل في تلك الموارد الخاصة. ولعل الظاهر هذا وأنه لا خلاف فيه كما يظهر من
عبارة الجواهر المذكورة آنفا.
في حكم القيادة
قال المحقق: ومع ثبوته يجب على القواد خمس وسبعون جلدة...
أقول: وهذا ثلاثة أرباع حد الزاني. واستدل على ذلك بالاجماع والأخبار
أما الاجماع ففي المسالك: اتفق الجميع على أن حد القيادة مطلقا خمس وسبعون
جلدة انتهى.
وقال في الانتصار: ومما انفردت به الإمامية القول بأن من قامت عليه البينة
بالجمع بين الرجال والنساء أو الرجال والغلمان للفجور وجب أن يجلد خمسا
وسبعين جلدة (إلى أن قال): والحجة لنا فيه إجماع الطائفة انتهى.
وقال في الغنية: من جمع بين رجل وامرأة أو غلام وبين المرأتين للفجور فعليه
جلد خمسة وسبعين سوطا رجلا أو امرأة (إلى أن قال:) كل ذلك بدليل إجماع
الطائفة انتهى.
وأما الأخبار ففي خبر عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله عليه
السلام: أخبرني عن القواد ما حده؟ قال: لا حد على القواد أليس إنما يعطى
الأجر على أن يقود؟ قلت: جعلت فداك إنما يجمع بين الذكر والأنثى حراما قال:
ذاك المؤلف بين المذكر والأنثى حراما فقلت: هو ذاك قال: يضرب ثلاثة أرباع
حد الزاني خمسة وسبعين سوطا وينفى من المصر الذي هو فيه (1).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد السحق ح 1.
95

وهو وإن كان ضعيفا لأن في طريقة محمد بن سليمان وهو مشترك بين جماعة
منهم الثقة ومنهم غيرها إلا أنه بناءا على القول بانجبار الخبر الضعيف بعمل
المشهور فهو مجبور وبهذا الاعتبار يكون قويا.
وعلى الجملة فلا خلاف ولا كلام في وجوب ذلك وإنما اختلفوا في ثبوت حكم
آخر معه كالنفي والحلق والشهرة وقد كان النفي مذكورا في خبر عبد الله بن سنان
وسيأتي حكم الحلق والشهرة.
في حلق رأس القواد وتشهيره
قال المحقق: وقيل يحلق رأسه ويشهر
أقول: وممن أفتى بذلك الشيخ في النهاية فقال: الجامع بين النساء والرجال
والغلمان للفجور إذا شهد عليه شاهدان أو أقر على نفسه بذلك يجب عليه ثلاثة
أرباع حد الزاني خمسة وسبعون جلدة ويحلق رأسه ويشهر في البلد ثم ينفى عن
البلد الذي فعل ذلك فيه إلى غيره من الأمصار (1).
ثم إن المحقق قدس سره قد عبر بلفظ المجهول إشعارا بضعفه، لكن في
الجواهر أنه مشهور بين الأصحاب الذين منهم ابن إدريس ثم نقل الاجماع
المنقول عن السيدين في الانتصار والغنية، ثم قال: ولعل ذلك كاف في ثبوت
مثله مضافا إلى إشعار النفي المراد منه شهرته بذلك.
فاعتمد هنا واطمأن بلزوم الأمرين أولا بالشهرة والاجماع المنقول ثم بذكر
النفي في رواية ابن سنان المشعر باعتبار الشهرة بسبب نفيه عن البلد وحلق
رأسه، وأن اللازم صيرورته مشهورا بالشناعة. وحيث اعتمد على ذلك أورد
على المحقق وغيره بقوله: فما عساه يظهر من المصنف من التردد في ذلك بل عن
ابن الجنيد الاقتصار على مضمون الخبر المزبور بل مال إليه في المسالك في غير

(1) النهاية ص 710.
96

محله انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: والظاهر أن تردد المحقق المستفاد من نسبة ذلك إلى القيل في محله وهو
أحسن وأولى من تجزم الجواهر على اعتبار الحلق، وما ذكره من الوجهين لا يتم
بهما المطلوب.
أما الأول فإثبات الحكم في مثل هذه الموارد بمجرد الشهرة والاجماع المنقول
في غاية الاشكال وذلك لأنه لا شك في كون كل من الحلق أو الشهرة موجبا
لايذاء المؤمن وهتك عرضه ويشكل الجزم بذلك بهما. نعم لو حصل الجزم
والقطع بهذا الاجماع يؤخذ به لكنه مشكل خصوصا وأن السيد ابن زهرة ينقل
الاجماع كثيرا مع عدم تحققه في كثير من الموارد التي يدعيه. وأما الثاني ففيه أن
مجرد نفي البلد غير مستلزم لذلك لامكان تبعيده عن مصره بلا ترتب الشهرة
عليه. ولو شك في وجوب شئ زائدا على أصل الحد فقاعدة درء الحدود تقتضي
الاقتصار على المتيقن.
هذا كله بالنسبة إلى الحلق والشهرة وأما النفي من البلد فقد مر التصريح به في
رواية ابن سنان.
الكلام في أنه ينفى في أول مرة أم لا
نعم هنا بحث في أنه هل ينفى في أول مرة أتى بهذا الفعل الشنيع أو أنه ينفى في
المرة الثانية؟.
قال المحقق: وهل ينفى بأول مرة؟ قال في النهاية: نعم، وقال المفيد: ينفى في
الثانية، والأول مروي.
أقول: ظاهر الروايات كخبر ابن سنان هو الأول وقد تقدم ذكره، وفي خبر
فقه الرضا عليه السلام: وإن قامت بينة على قواد جلد خمسة وسبعين ونفي عن
المصر الذي هو فيه، وروي: النفي الحبس سنة أو يتوب (1) وقد أفتى به الشيخ

(1) مستدرك الوسائل ج 18 ص 87 ب 5 من حد القيادة والسحق ح 1.
97

الطوسي قدس سره في النهاية كما مر كلامه آنفا وتبعه بعض الأعلام، خلافا
للشيخ المفيد قدس سره حيث إنه أفتى بنفيه في المرة الثانية. وقد ذهب إليه جمع
آخر من الأعلام كابن زهرة وابن حمزة وسلار وغيرهم.
ففي المقنعة بعد الحكم بجلد القواد وحلق رأسه وتشهيره في البلد: فإن عاد
المجلود على ذلك بعد العقاب عليه جلد كما جلد أول مرة ونفي عن المصر الذي
هو فيه إلى غيره انتهى (1) وقد قال المحقق بأن الأول مروي انتهى وظاهره الميل
إليه.
وفي الجواهر: لا ريب أن الأحوط الثاني بل عن الغنية الاجماع عليه.
وفيه: أنه لا مورد للاحتياط بعد الاعتراف بأن الأصل في المسألة الخبر
والاعتراف بظهوره في النفي بأول مرة.
ولو سلم أنه مجمل فالأمر يدور بين وجوب تعجيل النفي بأول مرة وحرمته
إلى أن يتكرر ومن المعلوم أنه لا معنى للاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب
والحرمة، اللهم إلا أن يقال: إنه لما ذهب جمع إلى عدم جواز النفي إلا في المرة
الثانية فلا محالة يصير النفي في المرة الأولى مشكوكا وموردا للشبهة والحدود
تدرء بالشبهات. ولكن فيه أنه لا وجه للترديد والشبهة بعد ظهور الرواية
المعمول بها في النفي بأول مرة.
وبذلك يظهر ما في الرياض من قوله: والأحوط القول الثاني بل لعله المتعين
للأصل ودعوى الاجماع عليه في الغنية وهو أرجح من الرواية المذكورة من
وجوه منها صراحة الدلالة فتقيد به الرواية انتهى.
أما الاحتياط فقد تقدم ما فيه من الاشكال. وأما الأصل فلا مورد له مع
وجود الرواية. وأما الاجماع المنقول فالكلام في حجيته فضلا عن تقدمه على
الرواية.
ويمكن أن يقال بالنسبة إلى عمل المشهور بأنا لا نجزم بعمل المشهور بهذه

(1) المقنعة الطبع الجديد ص 791.
98

القسمة أيضا من الرواية إذا فيزول الوجوب بدرء الحدود.
وكيف كان فلا وجه للتمسك بالاحتياط في المقام.
الكلام في منتهى أمد النفي
ثم إنه وإن كان أصل النفي مذكورا في رواية عبد الله بن سنان إلا أنه لا تعرض
فيها لمدته ونهاية أجله ولم يتعرض العلماء لتحديده كما رأيت ذلك في عبارة
المحقق نعم في عبارة الجواهر نوع تعرض له كما سيأتي. وقال ابن إدريس:
وينفى عن البلد إلى غيره من الأمصار من غير تحديد لمدة نفيه انتهى.
فنقول: إنه بعد عدم التعرض لذلك في الأدلة والكلمات يأتي هنا احتمالات:
أحدها: تحقق مجرد النفي وصدق ذلك وعليه فيكفي أن ينفى من قم مثلا إلى
طهران، ومجرد وصوله إليها كاف في ذلك وله أن يرجع ويعود بمجرد وصوله
إليها. لكن هذا الاحتمال واضح الفساد ولا يصار إليه.
ثانيها: ما ذكره صاحب الجواهر رضوان الله عليه من أنه لا بد أن يكون
هناك إلى أن يتوب فإذا تاب يجوز له العود إلى وطنه. قال: ليس في الخبر تحديد
له فينبغي أن يكون حده التوبة إذ بدونها يصدق عليه اسمه (1) وحاصل التعليل
أنه ما دام لم يتب يصدق عليه (القواد) وبقاء الاسم وصدق العنوان موجب لبقاء
الحكم. وأما الحد فقد أقيم عليه فلا يتكرر بدون تكرار الفعل - بلا خلاف -
وفيه أن الحكم ليس متعلقا بالاسم وجاريا عليه بل الموجب له هو عمل
القواد، والملاك هو الفعل المحرم الخاص وهو قد انعدم بعد وجوده، ولأجل أن
الحكم متعلق بذات الفعل فلو عاد إلى فعل القيادة ثانيا يجلد ثانيا وينفى من

(1) الظاهر أن أصل هذا المطلب من كشف اللثام فإنه قال: ولم يحد أحد منهم مدة النفي
لإطلاق الخبر، وحده المصنف إلى أن يتوب لأنه قضية الإطلاق لدلالة اللفظ على نفي القواد
وما لم يتب يصدق عليه اسمه فيجب نفيه انتهى.
99

البلدة المنفي إليها إلى غيرها أيضا. اللهم إلا أن يقرر المطلب بأن علة الحدوث
علة البقاء فإذا وجدت علة الحدوث وهو صرف الوجود من القيادة الموجب
لاخراجه من بلده فهو كاف في استمرار هذا النفي إلى أن يتوب فهذا الفعل كاف
في استمرار النفي إلى أن يحصل العلة الرافعة له وهي التوبة وحينئذ تنقطع العلة
وإن كان الصدق الاسمي باقيا بعد تلبسه بالمبدأ أولا فإن هذا لا يوجب دوام
الحكم أي النفي.
وإن أمكن الاشكال بأنه على فرض كفاية الحدوث في البقاء وكون علة
الحدوث علة البقاء والاستمرار يلزم الحكم مطلقا وقطع هذا الحكم بالتوبة
يحتاج إلى دليل.
لكن الانصاف عدم وروده لأن مقتضى قوله صلى الله عليه وآله: التائب من
الذنب كمن لا ذنب له (1) هو صيرورته كمن لم يأت بهذا العمل القبيح فلا عقوبة
عليه سواء كان أخرويا كالعذاب أو دنيويا كالنفي ولا وجه لاحتمال كون المراد
من عدم ذنب عليه هو العقوبة والعذاب وذلك لكون النفي أيضا نوعا من العقوبة
فهو كالعذاب الأخروي.
لا يقال: فعلى هذا فلا قضاء على من ترك صلاته وصيامه بعد أن تاب إلى الله
تعالى والحال أنه لا شك في لزوم القضاء عليه.
لأنا نقول: إن مسألة القضاء مسألة أخرى غير العقوبات والذي يرتفع
بالدليل المزبور هو العقوبات وحدها.
وعلى الجملة فرفع النفي عنه بسبب التوبة وقطع هذا الحكم عنه بذلك أمران
بينهما كمال المناسبة والملائمة فإن التوبة كالماء بعينه الذي يزيل النجاسة، وتعمل
التوبة في نفس الانسان بالنسبة إلى المعصية ما يعمله الماء في بدن الانسان أو ثوبه
بالنسبة إلى القذارة أو النجاسة الحاصلة فيهما.
ثالثها ما ورد في خبر من التحديد بالسنة أو يتوب ففي خبر الفقه الرضوي

(1) بحار الأنوار طبع بيروت ج 6 ص 21.
100

المتقدم آنفا: وروي: النفي هو الحبس سنة أو يتوب (1) قال في كشف اللثام: وفي
بعض الأخبار النفي هو الحبس سنة. وفيه أنه مرسل يفسر النفي بالحبس سنة
ولا يصح رفع اليد عن الظاهر به.
قال في الرياض: وظاهر النفي في الفتوى والنص إنما هو الاخراج من البلد
ولكن في الرضوي وغيره: روي أن المراد به الحبس سنة أو يتوب، والرواية
مرسلة فلا يعدل بها عن الظاهر بلا شبهة انتهى.
أقول: بل إن رواية ابن سنان التي هي الأصل في الحكم بالنفي كالصريحة
بخلاف ذلك، وذلك لأن لفظها: وينفى من المصر الذي هو فيه، فكيف يقال بأن
النفي هو الحبس سنة، والحال هذه؟.
إلا أن يقال: إن غرض الشارع من نفيه عن البلد عدم كونه في المجتمع الذي
ارتكب فيه هذا العمل الشنيع وهذا الفرض كما يحصل بإخراجه من البلد كذلك
يحصل بالحبس. وهو كما ترى (2).
لا فرق في حكم القواد بين الحر والعبد...
قال المحقق: ويستوي فيه الحر والعبد والمسلم والكافر.
أقول: وقد استدل لذلك بالاطلاق وذلك لأن لسان رواية عبد الله بن سنان:
أن الجامع بين الذكر والأنثى حراما يضرب ثلاثة أرباع حد الزاني خمسة
وسبعين سوطا إلخ وهذا مطلق شامل للحر والعبد وهكذا يشمل المسلم والكافر.
لكن لا يخفى أن هذا لا يساعد ولا يلائم الروايات الناطقة بأن حد العبد نصف
الحر وهي أيضا بإطلاقها شاملة للمقام. ففي رواية سليمان بن خالد عن أبي عبد

(1) مستدرك الوسائل ج 18 ص 87 ب 5 من حد القيادة والسحق ح 1.
(2) أقول: ويمكن أن يقال إن كمية مقدار النفي موكول بنظر الحاكم بل هو وجه وجيه وإن لم
يذكره سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله.
101

الله عليه السلام قال: قيل له فإن زنى وهو مكاتب ولم يؤد شيئا من مكاتبته؟
قال: هو حق الله يطرح عنه من الحد خمسين جلدة ويضرب خمسين (1).
وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله
عليه السلام في عبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه ثم إن العبد أتى حدا من
حدود الله قال: إن كان العبد حيث أعتق نصفه قوم ليغرم الذي أعتقه نصف
قيمته، فنصفه حر يضرب نصف حد الحر، ويضرب نصف حد العبد، وإن لم
يكن قوم فهو عبد يضرب حد العبد (2) فإن ظاهر هاتين وأمثالهما هو العموم
وإن الملاك هو حد من حدود الله سبحانه فإنه ينصف ومن المعلوم أن الحدود
كلها حق الله، وحدود الله، ومن جملتها حد القيادة.
وهذه الرواية إما حاكمة أو مخصصة وذلك لأنه إن كان موضوعها الحد
فتكون ناظرة إلى أدلة الحدود المقررة على المعاصي الخاصة كالدليل الدال على
أن حد شرب الخمر ثمانون جلدة وحد الزنا مأة إلى غير ذلك من الحدود.
فروايات العبد تقول بأن حد العبد في الموارد المختلفة هو النصف فتكون حاكمة
ولو كان الموضوع فيها هو العبد فهي مخصصة وكأنه قيل: كل من زنى يجلد مأة
إلا العبد فإنه يضرب خمسين وكل من شرب الخمر فإنه يجلد ثمانين إلا العبد فإنه
يجلد أربعين وهكذا.
هذا مضافا إلى اشتمال بعض الأخبار الواردة في المقام على التعليل في الحكم
بالنصف، فعن مروان بن مسلم عن عبيد بن زرارة أو بريد العجلي قال: قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: أمة زنت، قال: تجلد خمسين جلدة، قلت: فإنها
عادت قال: تجلد خمسين، قلت: فيجب عليها الرجم في شئ من الحالات؟
قال: إذا زنت ثماني مرات يجب عليها الرجم قلت: كيف صار في ثماني مرات؟
فقال: لأن الحر إذا زنى أربع مرات وأقيم عليه الحد قتل، فإذا زنت الأمة ثماني

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 31 من أبواب حد الزنا ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 33 من أبواب حد الزنا ح 6.
102

مرات رجمت في التاسعة قلت: وما العلة في ذلك؟ قال: لأن الله عز وجل رحمها
أن يجمع عليها ربق الرق وحد الحر قال: ثم قال: وعلى إمام المسلمين أن يدفع
ثمنه إلى مواليه من سهم الرقاب (1).
قال المحدث الحر العاملي: ورواه الصدوق بإسناده عن إبراهيم بن هاشم
نحوه إلا أنه قال: في عبد زنى.
فقد علل تنصيف الحد في المملوكة بأن الله رحمها ولم يجمع عليها حبل الملكية
وحد الحرية.
فمقتضى هذه الروايات وهذا التعليل هو الحكم بالنصف في المقام أيضا ولم
يتعرض العلماء لهذا البحث في المقام.
نعم قد تعرض له بعض المعاصرين إشارة وبصورة الترديد والاجمال قال
قدس سره: وإطلاق الحد على فرض الحجية يشمل جميع ما ذكر فلا بد
من ملاحظة ما دل على تنصيف الحد بالنسبة إلى المملوك هل يشمل المقام
أولا؟... (2).
والتحقيق أنه لو كان المعتمد في الحكم بعدم الفرق إطلاق رواية ابن سنان
فمقتضى القاعدة تقديم روايات العبد خصوصا بلحاظ التعليل المزبور، واللازم
العمل بها والحكم بالنصف في المقام أيضا وعلى ذلك فليس الاطلاق وجها في
الحكم بتساوي الحر والعبد وعدم الفرق بينهما في الحكم.
نعم يمكن أن يقال إن المعتمد هو الشهرة أو الاجماع كما عن الانتصار والغنية
ادعاؤه على عدم الفرق بينهما.
وفي الرياض: بلا خلاف عليه بل الاجماع في الانتصار والغنية وهو الحجة
انتهى. وفي الجواهر: لا خلاف، أيضا إلى غير ذلك من الكلمات وعلى الجملة
فهم قد صرحوا هنا بعدم الفرق بين الحر والعبد (3) ولولا ذلك فقاعدة الدرء

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 32 من حد الزنا ح 1.
(2) جامع المدارك ج 7 ص 90.
(3) يقول المقرر: وممن صرح بذلك أبو الصلاح الحلبي في الكافي ص 410 والمحقق في
الشرايع والنافع، والعلامة في التحرير ص 225.
103

أيضا تقتضي العمل بروايات العبد.
متى يقتل القواد
قال السيد أبو المكارم ابن زهرة قدس سره في الغنية، بعد أن ذكر حكم
القواد في المرة الأولى وأنه في الثانية يجلد وينفى عن المصر: وروي أنه إن عاد
ثالثة جلد، فإن عاد رابعة عرضت عليه التوبة فإن أبى قتل، وإن أجاب قبلت
توبته وجلد فإن عاد خامسة بعد التوبة قتل من غير أن يستتاب انتهى.
فقد نسب ذلك إلى الرواية وأرسلها. وأفتى بذلك الحلبي في الكافي قال: فإن
عاد رابعة استتيب فإن تاب قبلت توبته وجلد، وإن أبى التوبة قتل، وإن تاب
ثم أحدث بعد التوبة خامسة قتل على كل حال انتهى. (1).
وقد تعرض العلامة أعلى الله مقامه لنقل كلام أبي الصلاح وقال بعد ذلك:
ونحن في ذلك من المتوقفين (2) فتوقف ولم يوافقهما على ذلك.
وقال في الجواهر: بل ينبغي العمل بما دل على قتل أصحاب الكبائر في الثالثة
أو الرابعة بعد تخلل الحد.
حكم المرأة
قال المحقق: وأما المرأة فتجلد وليس عليها جز ولا شهرة ولا نفي.
أقول: إن ما ذكر إلى الآن كان حكم الرجل وأما لو كان القواد امرأة فهي
أيضا تجلد الحد المخصوص ولكن ساير الأحكام كالجز والشهرة والنفي فلا تجري
في حقها.

(1) الكافي ص 410.
(2) المختلف ص 767.
104

واستدل على ذلك في الرياض بقوله: بلا خلاف أجده بل عليه الاجماع وفي
الانتصار والغنية: وهو الحجة، ومضافا إلى الأصل، واختصاص الفتوى
والرواية بحكم التبادر بالرجل دون المرأة، مع منافاة النفي والشهرة لما يجب
مراعاته من ستر المرأة انتهى كلامه رفع مقامه. كما أنه في الجواهر قال: اتفاقا
على الظاهر منهم كما اعترف به في كشف اللثام، كما أنه وافقه في الأصل لكن
أورد عليه فيما أفاده بعد ذلك بأنه لا دليل حينئذ على جلدها يعني إذا كان المتبادر
من الفتوى والرواية، والموضوع فيهما هو الرجل فكما أنه لا شهرة ولا حلق
ولا نفي في غيره أعني الرجل كذلك لا وجه لجلد غيره أي المرأة ولا دليل عليه.
ونحن نقول: إن السؤال في خبر عبد الله بن سنان عن القواد وهو بظاهره هو
الرجل القواد وليس السؤال عن القوادة فلا حاجة إلى التبادر بعد هذا الظهور.
إلا أن الظاهر من أمثال هذه الأسئلة والكلمات هو أنه لا خصوصية للرجل
ولا اختصاص عند السائل والمسؤول للرجل بما هو رجل بل المقصود هو المكلف
حتى فيما إذا ذكر لفظ الرجل والتصريح به كما في قولهم: رجل شك بين الثلاث
والأربع، فإن السؤال راجع إلى الشاك والمكلف من دون نظر إلى الرجل، بل إن
خصوصية الرجولية ملغاة وحينئذ فالملاك الكلي والمعيار الأصلي في المقام هو
القيادة والوساطة بين شخصين لاجتماعهما على الحرام وحصول العمل الشنيع
سواء كان المقدم عليه رجلا أو امرأة وبلحاظ المناط نعلم أن الموضوع هو الأعم
وإن كان لفظه ظاهرا في الخاص وعلى هذا فالجلد حكم مطلق من صار واسطة
لاقتراف الزنا مثلا لا لخصوص الرجل الذي كان كذلك، ولا تبادر في مثل المقام.
وأما عدم جريان الحلق والشهرة والنفي بالنسبة إليها فلعله لما هو معلوم من
مذاق الشارع في أمر النساء، واهتمامه البالغ في سترهن وعفافهن وعدم تبرزهن
وأن النساء عي وعورة فإن جز رأسهن وإبرازهن والإطافة بهن في البلد وكذا
إخراجهن إلى بلد آخر ينافي هذا المقصد السامي، فالشارع الذي يجد ويهتم في
ستر النساء بحيث يحكم مثلا بتجريد الرجل للحد دون المرأة فإنه لا يرضى بتلك
الأمور المنافية له.
105

في حد القذف
قال المحقق: والنظر في أمور أربعة الأول في الموجب وهو الرمي بالزناء أو
اللواط كقوله: زنيت أو لطت، أو ليط بك أو أنت زان أو لائط وما يؤدي هذا
المعنى صريحا.
أقول: القذف في اللغة الرمي يقال: قذف بالحجارة أي رماها وفي
الاصطلاح رمي الغير بالزنا أو اللواط، وكأن الساب يرمي المسبوب بالكلمة
المؤذية ولم يتعرض المحقق لتعريف القذف وتفسيره لأن مورد الحاجة ومحل
الابتلاء هو ما يوجب الحد المذكور هنا.
وقد عرفه في الرياض بقوله: وشرعا قيل رمي المسلم الحر الكامل المستتر
بالزنا أو اللواط.
وفي مجمع البحرين: القذف الرمي يقال: قذفت بالحجارة قذفا من باب
ضرب رميت بها وقذف المحصنة رماها بالفاحشة.
ويدل على حرمته وحده الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فهو قوله تعالى: والذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات
لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (1) وقوله تعالى: والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة
أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور
رحيم (2).
وأما الأخبار فهي كثيرة وسيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

(1) سورة النور الآية 23.
(2) سورة الآية 4 و 5.
106

وكيف كان فالكلام هنا في الموجب وقد ذكر أنه الرمي بالزنا أو اللواط
ولا شك في أن الرمي بهذين موجب للحد (1).
وأما الرمي بالسحق فهو وإن كان حراما بلا كلام إلا أن في إيجابه الحد كلاما
واستشكل فيه العلامة في القواعد، قال في اللواحق من باب القذف: ولو قذفه
بالاتيان بالبهيمة عزر وكذا لو قذفه بالمضاجعة أو التقبيل أو قذف امرأة
بالمساحقة على إشكال. وهذا الاشكال ناش من جريان وجهين في المقام
أحدهما يقتضي الحد والآخر عدمه فمن حيث إنه كالزنا ولذا كان فيه حد الزنا
واعتبرت في شهادة الأربع أو الاقرار أربعا فيعمه آية الرمي فيحكم على الرمي
بالمساحقة الحد، ومن حيث إن الأصل هو العدم والبرأة فلا حد كما أن خبر
عبد الله بن سنان أيضا يدل على الوجه الثاني وسيأتي ذكره.
قال فخر المحققين قدس سره عند تقرير الاشكال: قال المصنف: فيه
إشكال، ينشأ من أن المساحقة كالزنا ومن أصالة البراءة والأقوى عندي
اختيار المصنف في المختلف وهو التعزير (2).
وأما الرواية فعن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: قضى
أمير المؤمنين عليه السلام أن الفرية ثلاث يعني ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل
الرجل بالزنا، وإذا قال: إن أمه زانية، وإذا دعا لغير أبيه، فذلك فيه حد
ثمانون (3) تقرير الاستدلال بها إفادتها حصر الفرية في ثلاث، وليس المقام
منها.
وفيه: إن الرواية ليست في مقام الحصر ولذا لا تعرض فيها للرمي باللواط
بل إنما هي في مقام التعرض لبيان وجوه نسبة الزنا فلا يتم التمسك بها في إثبات

(1) يقول المقرر: ولكن المستفاد من كلمات بعض العلماء أن القذف خصوص الرمي بالزنا
قال سلار في المراسم ص 255: ومن قذف لا بالزنا عزر وقال في ص 256: وما عدا الرمي
بالزنا ففيه التعزر.
(2) إيضاح الفوائد ج 4 ص 509.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد القذف ح 2.
107

عدم كون الرمي بالسحق قذفا موجبا للحد.
والظاهر منها أن الرمي لا ينحصر في رمي شخص المخاطب بنفسه وقذفه
بالزنا بل يتحقق القذف إذا تكلم بكلام كان معناه رمي غير المخاطب فإذا رمى
أم المخاطب بالزنا أو ادعى لغير والده فقد تحقق القذف ويوجب الحد وكان
ذو الحق هو المنسوب إلى الزنا دون المخاطب.
وأما الأصل فإن كان المقصود أصالة عدم الحد ففيه أنه معارض بأصالة عدم
التعزير فإن كان المقصود أصالة عدم الحد ففيه أنه معارض بأصالة عدم التعزير
فإن الأصل في كل منهما العدم. نعم لو كان المقصود من الحد الجلد والتعزير
فيمكن أن يقال: إن ما دون الحد معلوم، والزائد حتى يبلغ الحد مشكوك فيه
والأصل عدمه.
وبعبارة أخرى إن العلم الاجمالي حاصل بأنه إما أن يلزم عليه ثمانون جلدة
لو كان الرمي بالسحق كالرمي بالزنا، وإما أنه يجب عليه دون ذلك بعنوان
التعزير بناءا على أن كل معصية كبيرة يجب فيها التعزير، والمتيقن هو الأقل.
وأما الوجوه التي تمسك بها لتقريب الوجه الأول أي إلحاق الرمي بالمساحقة
بالرمي بالزنا وإقامة الحد على الرامي هنا أيضا، فلا يصح التمسك بها أيضا
لاثبات المطلوب فإن إثبات ذلك بوحدة الحد في الزنا والمساحقة واعتبار
الأربعة في الشهادة والاقرار في كلا الموردين يشبه القياس، وكيف يمكن إثبات
حكم الله تعالى به.
وعلى الجملة فإثبات أصل السحق بالأربعة شهادة وإقرارا وعدم إثباته بأقل
منها كما في باب الزنا بعينه وكذا كون حد أصل السحق كحد الزنا لا يدلان على
أن الرمي بالسحق كالرمي بالزنا. وليس في المقام تنقيح مناط قطعي كما أن
التمسك بإطلاق الزنا على المساحقة في بعض الروايات أيضا لا يوجب إثبات
حد الرمي بالزنا للرمي بالمساحقة فإن هذا الاطلاق من باب المبالغة وإظهار
شدة فظاعة هذه المعصية. أضف إلى ذلك أن الرواية المتضمنة لهذا التشبيه ليست
108

في المجاميع الروائية الأصلية الصحاح بل هي منقولة في المستدرك والجعفريات
مثلا.
وعلى الجملة فلا دليل على كون الرمي بالسحق كالرمي بالزنا وإيجابه الحد
ولذا قوى صاحب الجواهر عدم ترتب الحد عليه وفاقا للمحكي عن السرائر
والمختلف فيبقى أنه حيث كان من الكبائر يجب فيه التعزير، بناء على وجوب
التعزير على ارتكاب كل كبيرة.
ثم لا يخفى أن إشكال العلامة كما هو صريح عبارته أو ظاهرها متعلق بالتعزير
حيث إنه حكم أولا بالتعزير في القذف بإتيان البهيمة وكذا على القذف
بالمضاجعة أو التقبيل ثم استشكل في قذف المرأة، والحال أن ظاهر عبارة
الجواهر أن الاشكال في الحد. فالعلامة رحمه الله يستشكل في جريان التعزير
لاحتمال الحد، وصاحب الجواهر ينسب إليه أنه استشكل في الحد المستفاد منه أنه
يحتمل التعزير. ثم إن تعبير الآيات الكريمة هو الرمي إلا أنه لما ورد في الروايات
التعبير بالقذف فلذا صار عنوان الباب في كلمات الفقهاء بالقذف نعم ورد في
الروايات التعبير بالفرية والافتراء أيضا.
ولعله يبدو في الذهن أنه لماذا سمي بالفرية والحال أن القاذف رأى وعلم ذلك
من المقذوف؟ لكنه مدفوع بأنه افتراء تعبدا كما في الآية الكريمة: فأولئك عند
الله هم الكاذبون (1) حيث أطلق على الذين جاءوا بالإفك ولم يأتوا بأربعة
شهداء: الكاذبين.
ثم إن المحقق قدس سره ذكر مصاديق للقذف الموجب للحد:
منها أن يقول القاذف للمقذوف: زنيت بفتح التاء - أي بلفظ المخاطب -
ومنها أن يقول له: لطت، كذلك حتى يكون خطابا ونسبة إلى المخاطب.
ومنها أن يقول: ليط بك، بلفظ المجهول.
ومنها قوله: أنت زان.

(1) سورة النورة الآية 13.
109

ومنها قوله: أنت لائط.
ومنها قوله: أنت منكوح في دبره. ثم قال رحمه الله: وما يؤدي هذا المعنى
صريحا.
ومثل له صاحب الجواهر بقوله بعد ذلك: كالنيك وإدخال الحشفة حراما
انتهى وظاهر كلام المحقق الذي اعتبر الصراحة في المعنى أنه لو كان اللفظ ظاهرا
في الرمي ونسبة الفاحشة إليه فهو لا يؤثر في إيجاب الحد.
والظاهر أنه خلاف التحقيق ولذا قال في الجواهر: ولعل المراد بالصراحة
ما يشمل الظاهر عرفا وإن أشكل بوجود الاحتمال الذي يدرء به الحد لكن
ظاهرهم كما اعترف به الاتفاق على الحد بذلك، ولعله للنصوص المزبورة
ولصدق الرمي انتهى.
والتحقيق أن الظاهر معنى مستقل ومفهوم بحياله في قبال النص، والمتعارف
في المحاورات والتفاهمات العرفية هو الظهورات بل لعل الصريح أقل قليل،
فانصراف الرمي إلى الصريح منه خلاف الظاهر، فهذه الأخبار والرويات
العديدة التي هي ظهورات، لا تنافي احتمال الخلاف فاشتراط الصراحة في المقام
لا وجه له بل كما يؤخذ بالصريح كذلك يؤخذ بالظهور ولذا قال رضوان الله
عليه: لعل المراد بالصراحة ما يشتمل الظاهر عرفا.
لا بد من معرفة القائل باللغة التي رمي بها
قال المحقق: مع معرفة القائل بموضوع اللفظ بأي لغة اتفق.
أقول: لا بد في تحقق القذف أن يكون القاذف عارفا بمعنى اللفظ الموضوع له
كي يصدق أنه قد نسب هذه النسبة القبيحة إلى المقذوف فإذا لم يكن عارفا
بالمعنى وتفوه بالكلمة السيئة فهو وإن ذكر اللفظة لكنه حيث لا يعلم معناها بل
ربما تخيلها كلمة حسنة ونسبة فأخرة فلا حد عليه. نعم لو كان يعلم إجمالا أن
هذه الكلمة تؤذي المخاطب أو توجب وهنه فحينئذ يجب تعزيره للايذاء
110

والتوهين.
قال في النافع بعد ذكر بعض ألفاظ القذف: إذا كانت مفيدة للقذف في عرف
القائل ولا يحد مع جهالته فائدتها.
وأورد عليه بعض المعاصرين بقوله: وأما ما ذكر من أنه لا يحد مع جهالته
فائدتها ففي إطلاقه نظر فإن الجاهل تارة لا يخطر بباله أن كلامه رمي فلا إشكال
فيه، وأخرى يحتمل، فمع الاحتمال كيف يكون معذورا وهذا كما لو قال أحد في
مقام العداوة: قل لفلان كذا وكذا من الألفاظ الصريحة في الرمي أو الشتم وقال
الواسطة: الألفاظ المذكورة، لفلان المذكور مع احتمال الواسطة أن يكون القول
المذكور رميا أو شتما فهل يكون الواسطة معذورا؟ كما لو أمر كاتبه: اكتب لفلان
كذا وكذا بلغة لا يعرفها الكاتب مع احتمال الرمي والشتم، فالكاتب ليس معذورا
عند المكتوب إليه.
وحاصل كلامه وإشكاله الفرق بين الجاهل المركب والبسيط فلو كان جاهلا
محضا لا يلتفت إلى المطلب فالأمر كما ذكر، وأما إذا كان جاهلا شاكا متوجها إلى
جهله وملتفتا إليه فإنه يحتمل عند نفسه أن يكون كلامه شتما وقذفا فهنا لا يتم
القول بأنه معذور للجهالة.
ثم تعرض لاشكال وجوابه بقوله: لا يقال: مع الاحتمال يكون القائل معذورا
لكون الشبهة بدوية كسائر الشبهات البدوية لأنه مع صدق الرمي يترتب الحكم
كما لو رأى الزنا أو اللواط وتخيل أنه مع الرؤية يجوز الرمي، وكما لو رأى الأربعة
وبناءهم على الشهادة مجتمعين فشهد بعضهم ولم يشهد بعض آخر مع الاجتماع،
وثانيا الجواز معلق على جواز ما يحتمل كونه إيذاءا للمؤمن ولا أظن أن يلتزم به
والبناء على الاستحلال إذا صدر كلام فيه شبهة إساءة الأدب (1).
ونحن نقول: إن الاحتمال هنا وإن كان منجزا للتكليف حيث إن عرض
المسلم كدمه ويتوجه عدم المعذورية للاهتمام البالغ بذلك ووجوب الاحتفاظ

(1) جامع المدارك ج 7 ص 92 و 93.
111

به، إلا أن الكلام في إجراء الحد فهل مجرد ذلك كاف في الحكم بالحد؟ وكيف
يحكم بذلك والحال أن الموضوع مشكوك فإن الموضوع للحد هو القذف والآن
يشك في كونه قذفا فإنه حين إلقاء الكلمة لا يقطع بذلك بل يشك فيه وعلى
الجملة فمع كون الشبهة بدوية موضوعية كيف يترتب أحكام الموضوع؟ وهل
يحد من شرب مشكوك الخمرية؟ فمن ارتكب ما لا يعلم أنه قذف لا يترتب عليه
الأحكام كالحد.
وما ذكره قدس سره من شهادة بعض وإباء بعض آخر مع اجتماعهم لذلك
ووجوب حد من أقدم على الشهادة. ففيه: أن الرمي هناك قد تحقق، غاية الأمر
أنه كان يزعم أن رميه هذا حلال وجائز لتخيل أن الشهادات تتم بالأربعة
فكانت شهادته الرمي والقذف بخلاف المقام فإنه لا يعلم أن قوله هذا رمي أم لا
وهكذا في مثال رؤية الزنا واللواط.
فتحصل أنه مع معرفة اللافظ أن لفظة كذا رمي فهي لا توجب الحد، نعم إذا
علم أنه سب وتوهين للمؤمن فهو يوجب التعزير كما تقدم آنفا.
ثم إنه هل يعتبر مضافا إلى معرفة القاذف باللغة ومعناها القصد إلى الرمي أو
يكفي في القذف مجرد إلقاء اللفظ ولو لم يقصد المعنى كما إذا سأل أحد عن تفسير
القذف فأجاب المسؤول: هو أن أقول لك: يا زاني، فإن القائل لم يقصد بهذه
الكلمة الرمي وإنما ألقاها قاصدا المثال. من المعلوم أن هذا ليس قذفا لعدم
صدق الرمي والحال هذه، لكن إذا ألقى تلك الكلمة مزاحا لا جدا كما هو دأب
جهلة الناس والفئة غير المبالين فهل هذا يعتبر رميا بعد أن كان حراما بلا ترديد
وإشكال؟.
يمكن أن يقال: إن مقام الفحش والشتم غير مقام النسبة حقيقة ألا ترى أنه لو
واجه إنسانا بقوله: يا كلب بن كلب كما قد اتفق ذلك بالنسبة إلى بعض
الأعلام (1) فإن هذا قد شتم المخاطب لا أنه أراد أن يقول إنه كلب وأبوه كلب

(1) في الفوائد الرضوية ص 609: في ترجمة خواجة نصير الدين: أن ورقة حضرت إليه من
شخص من جملة ما فيها: يا كلب بن كلب فكان الجواب: أما قوله: يا كذا فليس بصحيح لأن
الكلب من ذوات الأربع وهو نابح طويل الأظفار وأما أنا فمنتصب القامة بادي البشرة عريض
الأظفار ناطق ضاحك فهذه الفصول والخواص غير تلك الفصول والخواص وأطال في نقض
كل ما قاله هكذا رد عليه بحسن طوية وتأنى غير منزعج ولم يقل في الجواب كلمة قبيحة
انتهى.
112

وقد يرى من يتفوه بكلمة خبيثة وحين ما يعترض عليه المخاطب في قوله هذا
يجيب بأني قد أردت المزاح لا الجد، والحاصل أن الفحش والشتم غير القذف
فإن القذف هو النسبة فإلقاء الكلمة فحشا لا يؤثر في إيجاب الحد.
ومع ذلك كله من الممكن أن يقال: إنه يحسب قذفا لترتب الأثر على الظاهر
إلا أن يأتي قرينة على ذلك عند إلقائه. كما وأنه قد أجاب بعض عن الكلام
الأول بأن كونه فحشا باعتبار النسبة ولولاها لم ينتزع الفحش أصلا.
وعلى الجملة فلو ألقى اللفظ الصريح في الزنا لكن بلا قصد للرمي بل قاصدا به
المجاز فهل هو كالانشاءات التي لا تتحقق بدون القصد فلا يحصل الملك مثلا
بدون قصده؟ الظاهر أن هذه اللفظة لفظة الرمي والقذف فإن الرمي ليس شيئا
وراء ما يوجب فضيحة المخاطب مثلا وهي قد حصلت بهذه اللفظة ويصدق
قوله تعالى: والذين يرمون إلخ على من ألقى تلك الكلمة سواء قصد القذف
أم لا.
والحق أن المسألة محل الاشكال وإني أقول في هذا المقام ما قاله العلامة أعلى
الله مقامه في بعض المسائل والمقامات: إني في ذلك من المتوقفين.
ثم إنه لو كان اللفظ مجملا فلا يترتب عليه الحد.
ولو عادى أني ما كنت أعرف معناه أو ما قصدت ذلك فإنه يقبل منه ويصدق
في ذلك إن أمكن ذلك في حقه بأن أمكن عدم معرفته بذلك مثلا وأما إذا كان
ناشئا بين العارفين بها لم يقبل قوله. وأما صدق القاذف أو كذبه فلا دخل له في
القذف وإجراء الحد عليه.
113

ثم إن صاحب الجواهر مثل (لقول المحقق: وما يؤدي هذا المعنى صريحا)
بقوله: كالنيك وإدخال الحشفة حراما انتهى. ويشبه ذلك كلام بعض آخرين (1).
والغرض من قيد (الحرام) في لفظ الجواهر وغيره، اعتبار نسبة الرامي الفعل
القبيح إلى المقذوف مع كونه حراما على المقذوف فلو نسب إليه الزنا مكرها عليه
أو صغيرا أو مجنونا فليس على القاذف حد في ذلك كما أنه إذا قال له أنت منكوح
في دبره مقهورا عليه ومكرها عليه فلا حد عليه وإن كان يعزر إذا كان ذلك
إيذاءا وتوهينا للمخاطب.
واستشكل في ذلك بعض المعاصرين رضوان الله عليه بقوله: ثم إن المذكور
في كلماتهم اشتراط كون ما رمي به على الوجه المحرم وأما لو كان على وجه
يكون الرمي معذورا ككونه مقهورا أو نائما فلا يترتب عليه الحد مع كون المذكور
إيذاءا وتوهينا للمرمي يكون الكلام حراما لكونه إيذاءا ويترتب عليه التعزير.
ثم قال: واستفادة هذا من الأخبار مشكل ففي حسنة عبد الله بن سنان قال:
قال أبو عبد الله عليه السلام: قضى أمير المؤمنين صلوات الله عليه أن الفرية
ثلاثة يعني ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل بالزنا وإذا قال: إن أمه زانية وإذا
دعاه لغير أبيه فذلك فيه حد ثمانون، وقال أيضا في خبر عباد بن صهيب: كان
علي عليه السلام يقول: إذا قال الرجل للرجل: يا معفوج ومنكوحا في دبره فإن
عليه حد القاذف. وفي خبر وهب بن وهب عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما
السلام: إن عليا عليه السلام: لم يكن يحد في التعريض حتى يأتي بالفرية
المصرحة مثل يا زان ويا ابن الزانية أو لست لأبيك، ونحوه خبر إسحاق بن
عمار. ثم قال في مقام استظهار الاطلاق من هذه الأخبار: فإن المرمي يمكن أن
يكون مقهورا أو مكرها بنحو يكون معذورا (2). وكأنه رضوان الله عليه يقول:
ليس مجرد عدم استفادة ما ذكر من الأخبار بل يستفاد ويستظهر منها خلاف

(1) راجع تحرير العلامة ص 237 ج 2 وكشف اللثام ج 2 ص 231.
(2) جامع المدارك ج 7 ص 93 و 94.
114

ذلك فإن إطلاق هذه الأخبار تدل على عدم اعتبار هذا الشرط وإنما الملاك هو
مجرد النسبة فهو كاف في إيجاب الحد عليه.
وفيه: أنه ولو فرض إطلاق لهذه الروايات فشرط الأخذ بالاطلاق عدم
قيام دليل في قباله يقيده، وما نحن فيه ليس كذلك لأن تلك المطلقات مقيدة
بروايات منها عموم: من لا حد عليه لا حد له، المراد منه أن من لم يكن عمله
كقذفه للغير موجبا للحد فهذا العمل الصادر من الغير بالنسبة إليه لا يوجب حدا
كما إذا قذفه الغير فعن أبي مريم الأنصاري قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن
الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال: لا وذاك لو أن رجلا قذف الغلام لم
يجلد (1). ترى أنه نفى عن الغلام القاذف، الحد لأنه لو قذفه رجل لما كان على
هذا الرجل حد.
وعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقذف
الجارية الصغيرة قال: لا يجلد إلا أن يكون قد أدركت أو قاربت (2).
وقد عنون الشيخ الكليني قدس سره بابا باسم: باب أنه لا حد لمن لا حد
عليه، فيه روايتان: عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
لا حد لمن لا حد عليه وتفسير ذلك: لو أن رجلا مجنونا قذف رجلا لم يكن عليه
شئ ولو قذفه رجل لم يكن عليه حد (3)، والثانية عن الفضيل بن يسار قال:
سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا حد لمن لا حد عليه. يعني لو أن مجنونا
قذف رجلا لم أر عليه شيئا ولو قذفه رجل فقال له: يا زان - يا زاني - لم يكن
عليه حد (4).
ويمكن أن يقال إن ما نسبه إلى العلماء رضوان الله عليهم أجمعين هو ما يستفاد

(1) الكافي ج 7 ص 205 ح 5.
(2) الكافي ج 7 ص 209 ح 22.
(3) الكافي ج 7 ص 253 ح 1.
(4) الكافي ج 7 ص 253 ح 2 وفي مرآة العقول ج 23 ص 393 إن التفسير من إسحاق أو ابن
محبوب، وفي تذييلات الوسائل ج 18 ب 19 من مقدمات الحدود إنه من إسحاق أو الفضيل.
115

من الآية الشريفة من اعتبار كون المقذوف محصنا وقد ذكروا أن الاحصان
عبارة عن البلوغ والعقل وغير ذلك (1) فلا بد من أن يكون العمل الذي رماه به
حراما في حقه.
والتحقيق أن المقصود من هذا البحث كون القاذف بصدد نسبة فعل الحرام إلى
المقذوف بحيث لو كان المقذوف عادلا اقتضى هذا الفعل فسقه وهذا يستفاد من
بعض الأخبار جدا فعن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن ابن
المغصوبة يفتري عليه الرجل فيقول: يا بن الفاعلة فقال: أرى أن عليه الحد
ثمانين جلدة ويتوب إلى الله مما قال (2).
فإن المغصوبة هي التي غصبت وأجبرت على الزنا وحيث إن عملها لم يكن
محرما عليها لهذه الجهة فلذلك يحد المفتري ثمانين جلدة لأنه نسب إليها الحرام مع
أنه لم يكن كذلك.

(1) أقول: إن سيدنا الأستاذ الأكبر دام ظله قد عدل في تقرير المطلب إلى هذا البيان حتى
تستقيم النسبة إلى العلماء التي صرح بها في جامع المدارك، والحال أنه يشكل من جهة أخرى
وذلك لأنه لو كان المقصود من هذا البحث هو الذي ذكروه في شرائط المقذوف فقد تعرض في
جامع المدارك تبعا لمختصر النافع لشرائط المقذوف وذكر هناك روايات لا حد لمن لا حد عليه
ولسائر الأخبار فكيف قال قدس سره هنا: واستفادة هذا من الأخبار مشكل انتهى؟
فالظاهر أن البحث في المقام أمر وراء ما ذكروه من شرائط المقذوف وأن الكلام هنا في أنه
لا بد من أن يكون القاذف قد نسب إلى المقذوف الزنا المحرم فلو نسبه إلى الزنا حلالا بالإكراه
مثلا لم يكن عليه حد وإن كان يعزر للإيذاء وغيره. وهذا مذكور في كلام جمع من الأعلام
كالعلامة في التحرير والإصبهاني في كشف اللثام وصاحب الجواهر فيه فلا يرد ما كان يؤكد دام
ظله عليه من أن جامع المدارك نسب ذلك إلى العلماء والحال أنه ليس ذلك في كلماتهم.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب القذف ح 4، أقول: ومثله الرواية 6 عن ابن محبوب
عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل وقع على جارية لأمه فأولدها فقذف رجل ابنها فقال:
يضرب القاذف الحد لأنها مستكرهة.
116

إذا نفى ولده عن نفسه
قال المحقق: ولو قال لولده الذي أقر به: لست ولدي، وجب عليه الحد،
وكذا لو قال لغيره: لست لأبيك.
أقول: إذا نفى عن نفسه ولدية من أقر بكونه ولدا له فهو قذف لأمه ويوجب
الحد (1) ومثله ما لو قال لمن ثبت بحكم الشرع أنه ولده: لست ولدي، وذلك لأنه
لا خصوصية للاقرار بل يكفي في ذلك مجرد كون الولد محكوما بأنه ولده ولذا
أضاف صاحب الجواهر قوله: أو حكم له به شرعا انتهى.
ومثله أيضا كل ما كان في حكم الاقرار كما إذا لم يتلفظ ولم ينطق بأنه ولده
إلا أنه أقام لولادته حفلة التهنئة ومراسم الفرح والسرور مثلا إلى غير ذلك من
الوجوه التي توجب إلحاق الولد به لأنه لا خصوصية للاقرار القولي كما أنه إذا
قال لشخص آخر: لست لأبيك فهو أيضا قذف ويوجب الحد ولا شك أن توجيه
هذا الخطاب إلى من عرف بين الناس بأنه ولد فلان يحسب قذفا.
وفي الجواهر بعد ذكر اللفظين من عبارة المحقق: بلا خلاف أجده فيه بيننا.
والظاهر أنه ادعى عدم الخلاف من الإمامية بالنسبة إلى الفرضين كما يدل

(1) فعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أقر بولد ثم نفاه جلد الحد وألزم
الولد، الوسائل الشيعة ج 18 ب 23 من أبواب القذف ح 1 وأما خبر علاء بن فضيل عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: قلت له: الرجل ينتفي من ولده وقد أقر به قال: إن كان الولد
من حرة جلد الحد خمسين سوطا حد المملوك وإن كان من أمة فلا شئ عليه. الوسائل ج 18
ب 23 من أبواب حد القاذف ح 2، الدال على عدم الحد ففيه ما ذكره في كشف اللثام ج 2 ص
231 بقوله: وهو ضعيف متروك انتهى.
وقال الشيخ في الإستبصار ج 4 ص 233: الوجه في هذا الخبر أن نحمله على أنه وهم من
الراوي - في قوله خمسين سوطا -
وفي الوسائل: ويمكن حمله على التعزير مع عدم التصريح بالقذف.
117

على اتحاد حكمهما الأخبار.
وقال الشهيد الثاني قدس سره في المسالك: عند ذكر اللفظة الأولى: وهذه
الصيغة عندنا من ألفاظ القذف الصريح لغة وعرفا فيثبت بها الحد لأمه انتهى.
ولكن قد اختلف بعض العامة وفرق بين الصيغتين فجعل الثانية قذفا بلا كلام
دون الأولى. واستند في ذلك إلى أن الأب يحتاج إلى مثل ذلك في تأديب ولده
زجرا له عما لا يليق بنسبه ولو ما له على أنه ليس مثله في الخصال الحسنة التي
يتوقعها منه وليست فيه. وأورد عليه في الجواهر بأن الظاهر عدم الحد مع فرض
إرادة ذلك كما هو مستعمل في العرف كثيرا ضرورة عدم الرمي بمثله عرفا، وإنما
الكلام في ثبوت القذف به مع عدم القرينة على إرادة التجوز المزبور به ولا ريب
في صدق القذف عرفا به انتهى.
أقول: ويمكن دفع هذا الايراد بأن الأبوة كالبنوة دائمية فهي قرينة على عدم
إرادة المعنى الحقيقي. وإن شئت قلت: إن المقام نظير إرادة الاستحباب من صيغة
الأمر الذي قال صاحب المعالم رضوان الله عليه: يستفاد من تضاعيف أحاديثنا
المروية عن الأئمة عليهم الصلاة والسلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان
شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة إلخ (1) فكأن شيوع
الاستعمال وكثرة إطلاق الصيغة في مقام الزجر وحمل الولد على مكارم الصفات
ومحامد أخلاقه صار سببا لرجحان هذا المجاز على الحقيقة فهو من المجازات
الراجحة التي لا تحتاج إلى القرينة ولا أقل من كونها مساوية للمعنى الحقيقي فلو
فرض أنه ورد في الروايات أو الكلمات أن هذه الصيغة تكون قذفا فهو محمول
على ما إذا كان هناك نزاع ومرافعة، وآل الأمر إلى إلحاق الولد به ونسبته إليه ثم
بعد ذلك قد نفاه عن نفسه في طي نزاع ومرافعة مثلا وقال لست ولدي فإن
القرينة حاصلة على أن المقصود ليس هو التأديب وتعييره على عدم اتصافه
بمحامد أخلاقه ومعالي شيمة، وإلا فالحق مع هذا البعض وإن كان عاميا فإن

(1) معالم الأصول للشيخ حسن بن زين الدين ص 44.
118

عدم اتصاف الولد بصفات والده يحمل كثيرا له على أن ينفيه عنه بل قد يقع ذلك
بالنسبة إلى الغير أيضا نظير ما ورد في القرآن الكريم حكاية عن بني إسرائيل
خطابا لمريم: يا أخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أمك بغيا (1)
ونحن جميعا نعلم أنه إذا كان هناك رجل عظيم ذو وجهة عالية ومكانة معنوية
سامية وكان ولده على سبيل النشئ والاحداث غير مبال بالآداب ولا معتن
بمبادئ الدين فإنه يقال له: إنك لست ولد أبيك أو ولد فلان، والقرائن تشهد بأن
هذا ليس رميا بل تستعمل الكلمة المزبورة تعييرا وزجرا له، وفي مقام النصحية
فلا يوجب ذلك حدا.
صور من القذف
قال المحقق: ولو قال زنت بك أمك أو يا بن الزانية فهو قذف للأم وكذا لو
قال زنى بك أبوك أو يا بن الزاني فهو قذف لأبيه ولو قال: يا بن الزانيين فهو
قذف لهما ويثبت به الحد ولو كان المواجه كافرا لأن المقذوف ممن يجب له الحد.
أقول: اللفظان الأولان يحسبان رميا للأم وإن كان المواجه هو الابن لأن
النسبة كانت إلى الأم، والرمي قد تعلق بهما. وأما الثالث والرابع فهما قذف لأبيه
لأنه نسب الزنا إلى أب المخاطب تارة بلفظ الماضي وأخرى بلفظ اسم الفاعل
كالصورتين السابقين. وأما اللفظ الخامس فهو قذف لكليهما حيث أتى بلفظ
التثنية فيجب الحد إذا ففي جميع الصور الخمس قد تحقق القذف بالنسبة إلى
الغائب ولا خلاف في ذلك ولا فرق بين كون المواجه مسلما أو كافرا فإن القذف
ليس بالنسبة إليه ولا الحد ليس لأجله وهذا هو فائدة تمييز المواجه عن
المقذوف، فإن الحد يتعلق بالقذف وهو حق للمقذوف فلا بد من أن يعلم من هو
صاحب الحق هل هو المخاطب أو أبوه أو أمه أو كلاهما، وإجراء الحد موقوف

(1) سورة مريم الآية 28.
119

على طلب صاحب الحق فإن لم يكن القذف متوجها إلى المخاطب كالولد فليس
له طلب ذلك نعم يعزر القاذف لأجله إذا كان المواجه مسلما وقد أوذي أوهتك
بذلك.
نعم هنا بحث وهو أنه هل التعزير حق للمواجه كالقذف حتى يسقط بعفوه
ويحتاج إلى المطالبة أو أنه حق الله تعالى ولا يسقط بعفوه ويقام بلا حاجة إلى
مطالبة أحد؟.
من المعلوم أن التعزير على المعاصي وترك الواجبات وارتكاب المحرمات
عند عدم تعيين حد هناك حق الله محضا لا يتوقف على شئ فلو ترك الصلاة أو
أفطر صيامه بلا عذر فإنه يعزره الحاكم بلا حاجة إلى مطالبة أحد لأنه لا حق
هناك لأحد سوى الله تعالى. وإنما البحث فيما إذا كان للعمل تعلق بالغير مثل
الغيبة والتهمة فهل التعزير فيه حق الناس حتى يحتاج إلى مطالبة المغتاب
(بالفتح) مثلا وله أن يعفو عنه أو أنه حق الله محضا يقيمه الحاكم بلا توقف على
المطالبة؟ ومن هذا الباب ما نحن فيه.
ولا بد من التحقيق في ذلك ولم أجد في هذه العجالة من تعرض لهذا المطلب
ولا يبعد الثاني لو لم يدل هناك دليل (1).

(1) أقول: قول العلامة في القواعد في المطلب الخامس من باب القذف: لو كان المقذوف
عبدا كان التعزير له لا لمولاه فإن عفى لم يكن لمولاه المطالبة وكذا لو طلب انتهى.
ويستفاد من هذا أن أمر التعزير هنا بيد صاحب الحق لكن يظهر من كلام سيدنا الأستاذ دام
ظله في مجمع المسائل ج 3 ص 206 في جواب سؤال 65 خلاف ذلك.
120

اللفظ المشتبه في الرمي
قال المحقق: ولو قال: ولدت من الزناء ففي وجوب الحد لأمه تردد لاحتمال
انفراد الأب بالزناء ولا يثبت الحد مع الاحتمال.
أقول: الظاهر أن المراد أنه لو كان هناك حد فهو للأم وذلك لأن النسبة
بمقتضى العبارة إلى الأم لكون الولادة منتسبة إليها ومقتضى ذلك رمي الأم إلى
الزنا.
لكن فيه إشكال وذلك لانتساب الولادة إليهما فإن نسبة الولد إلى الوالدين
واحدة وليس له مزيد اختصاص بأحدهما ومن المعلوم أن نشئ ولد الزنا تارة
يكون بزناء الأب وأخرى بزناء الأم وثالثة بزناء كليهما والقذف والرمي إلى
الزنا أيضا كذلك. فإذا ألقى الصيغة الخاصة فيمكن أن يكون بصدد رمي الأب أو
رمي الأم، أو رميهما جميعا وذلك لامكان كون واحد منهما مكرها أو مشتبها
عليه بأن يكون الأب مثلا زانيا والأم مكرهة على الزنا ويمكن عكس ذلك كما
أنه يمكن كون كل واحد منهما زانيا واقعا وعلى ذلك فلا يعلم أنه قد قذف هذا
بالخصوص أو ذلك بالخصوص أو كليهما فالمقذوف بخصوصه غير معلوم
والمستحق بشخصه غير معين فتحصل الشبهة الدارئة للحد، وصراحة اللفظ في
القذف لا تنفع مع اشتباه المقذوف لأنها لا توجب الحق لتوقف الاستيفاء على
المطالبة، والمطالبة لا بد أن تكون من ناحية المستحق للحق وهو غير معلوم.
والتحقيق أن في المسألة ثلاثة وجوه:
أحدها: أن الصيغة المزبورة توجب الحد لأنها قذف صريح ومتعلقه هو الأم
لاختصاصها بالولادة ظاهرا وقد تعدت الولادة إلى الزنا بحرف الجر ومقتضاه
نسبة الأم إلى الزنا. وقد ذهب إلى هذا الشيخان والقاضي والمحقق في نكت
النهاية وجماعة أخرى.
ثانيها أنه قذف صريح إلا أن متعلقه الأبوان كلاهما لأن نسبته إليهما واحدة
ولا اختصاص لأحدهما دون الآخر لأن الولادة إنما تتم بهما فيكون كل منهما
121

مطالبا مستقلا وهو أحد قولي العلامة والشهيد في شرح الإرشاد.
ثالثها: أنه لا حد أصلا لا للمواجه ولا لأي واحد من الوالدين أما المواجه
فواضح لأنه ليس بمقذوف وأما الأبوان فلاحتمال الاشتباه والاكراه في الأم أو
الأب فلا يعلم كونه قذفا لأحدهما بالخصوص ولا المستحق فتحصل الشبهة.
واستشكل في ذلك الشهيد الثاني في المسالك قائلا: ويمكن الفرق بانحصار
ذلك الحق في المتنازع في الأبوين فإذا اجتمعا على المطالبة تحتم الحد لمطالبة
المستحق قطعا وإن لم يعلم عينيته. ثم قال: لعل هذا أجود نعم لو انفرد أحدهما
بالمطالبة تحقق الاشتباه واتجه عدم ثبوت الحد حينئذ لعدم العلم بمطالبة المستحق
به، انتهى.
فقد فصل قدس سره بين ما إذا طالب كلاهما الحد وبين ما إذا كان المطالب
واحدا منهما فأثبت الحد في الأول ونفاه في الثاني، وذلك لأنه في الثاني لا يعلم أن
صاحب الحق قد طالب به بخلاف الأول فإنه لا شك في أن صاحب الحق قد
طالب بحقه وإن لم يعرف بشخصه.
ورد عليه صاحب الجواهر بقوله: قلت: قد يمنع ظهور الأدلة في ثبوت الحد في
الفرض الذي ذكره أيضا والأصل العدم مضافا إلى بنائه على التخفيف وسقوطه
بالشبهة انتهى.
أقول: وهذا هو الأقوى لو لم نقل بالقول الأول أي قول الشيخين فإن النسبة
مرددة لم تتحقق بالأب ولا بالأم بل النسبة إلى كل منهما ليس إلا احتمال الزنا
ولا أظن أحدا يقول إنه يحد من قال يحتمل أن يكون زيد زانيا، والمقطوع هو
الفرد المردد لا كل واحد منهما معينا وإذا كان نسبة احتمال الزنا إلى رجل يوجب
الحد فلا بد من أن يقال في المقام بوجوب حدين لأنه نسب إلى كل منهما احتمال
الزنا ولا يلتزم به وعلى الجملة فإن حد القذف لا بد من أن يطالبه مستحقه
والمستحق مردد حسب الفرض وقد ظهر بما ذكرنا أنه لا مجال للتمسك بالعلم
الاجمالي ولزوم مخالفته.
122

ثم إنه قد اتضح أنه لا تردد في المطلب على الوجه الأول والثاني لأنه على
الأول قذف صريح بالنسبة إلى الأم، وفي الثاني بالنسبة إلى كل واحد منهما
مستقلا. وإنما الترديد والاشكال جار على الوجه الثالث حيث يحتمل الاكراه
والاجبار والاشتباه فلا حد هناك وإن طالب به كل منهما فإن الصيغة مرددة بين
زنا هذا أو زنا ذاك وهو في الحقيقة في حكم أن يقال لأحد أنت من زنا أبيك أو
أمك، وبوجه نظير أن يقول أحد لغيره: يحتمل أنك زنيت، وذلك لأن الزنا
بالنسبة إلى كل واحد منهما محتمل، ومطالبة كل منهما بالحد لا يؤثر شيئا لأن معنى
مطالبة الأب أنه إن كان القذف قذفا لي فإني أطالب القاذف بالحد كما أن معنى
مطالبة الأم أنه إن كان القذف قذفا لي فأنا أطالب بالحد فليس إلا أن كل واحد
منهما محتمل المقذوفية ومن المعلوم أن موضوع الحد هو القذف المسلم لا
المحتمل، وكما يعتبر في القذف اللفظ الصريح كذلك يعتبر في المقذوف التعين
وعلى ذلك فالشك في تحقق القذف لا في المستحق حتى يقال إن كل واحد منهما
مطالب بالحق والحد، فيجب إقامته،، فإن الاستحقاق مشروط بالقذف
والمفروض الشك في تحققه. وقد ظهر بذلك أنه لا يتم ما أفاده في الجواهر بقوله:
قد يمنع ظهور الأدلة في ثبوت الحد في الفرض الذي ذكره أيضا والأصل العدم
إلخ. فإن الحق أنه لا يصدق القذف والحال هذه ولا تصل النوبة إلى البحث عن
ظهور الأدلة وعدمه (1).
ثم إن مما ذكر في المقام يتضح الحال في فرع آخر ذكره العلامة في القواعد
حيث قال - في البحث عن المقذوف وعند الكلام عن مثل: يا خال الزاني أو
الزانية مثلا -: فإن اتحد المنسوب إليه فالحد له وإن تعدد وبين فكذا، وإن أطلق
ففي المستحق إشكال ينشأ من المطالبة له بالقصد أو إيجاب حد لهما وكذا لو قال:

(1) أقول: لا يخفى أن صاحب الجواهر قدس الله نفسه قد تفطن لذلك ولذا قال في آخر البحث
ص 406 ج 41: الإنصاف تحقق الاشتباه موضوعا وحكما انتهى.
123

أحدكما زان أو لائط (1).
قال في الجواهر بعد اختيار عدم الحد في الفرع السابق لا للمواجه ولا للأب
ولا للأم: ومن ذلك يعلم الحال في ما لو قال أحدهما زان، لا على التعيين الذي
استشكل فيه في القواعد من ثبوت حق في ذمته وقد أبهم فلنا المطالبة بالقصد
ومن أن في ذلك إشاعة الفاحشة وزيادة في الإيذاء والتعيير فليس إلا إيجاب
حد لهما لا يقام إلا عند اجتماعهما لانحصار الحد فيهما وفي كشف اللثام: وهو
الأقوى: وفيه ما سمعته انتهى.
أقول: الكلام في هذا الفرع هو الكلام في الفرع السابق والظاهر عدم تحقق
القذف وليس إلا احتماله بالنسبة إلى كل واحد منهما. وأما مطالبته بالبيان
وتوضيح المراد والقصد ففيه أنه لا داعي إلى ذلك ولا دليل على جوازه وليس
وظيفة الحاكم التجسس عن ذلك بعد أن فيه إشاعة الفحشاء ومزيد الايذاء
حيث إنه إذا طولب بالبيان وشرح ما قصد فيؤول الأمر إلى استحقاق الحد بعد أن
استحق التعزير بالكلام المبهم وعلى هذا فيكتفي بالتعزير ويختم الدعوى. وأضف
إلى ذلك أنه لا يجري المطالبة بالقصد في جميع صور المسألة بل إنما يجري في
بعضها.
توضيح ذلك إن رمى غير المعين قسمان: فتارة يعرف هو الشخص المجرم

(1) قال فخر الدين قدس سره في الإيضاح ص 503 عند البحث في كلام العلامة المذكور: إذا
قال له يا خال الزاني وتعدد ولد أخته أو يا عم الزاني وتعدد أولاد أخيه أو يا جد الزاني وتعدد
ولد ولده، فإن بين من مراده، بالقذف كان حق الحد له وإن لم يبين ففيه إشكال يحتمل أن يلزم
بالبيان لأن في ذمته حقا قد أبهم مستحقه فليزم تبيانه بحيث يستوفي له وهذا ضعيف لأنه أمر
بإشاعة الفاحشة والأولى عندي أن يتوقف على مطالبتهما واجتماعهما فيقام الحد عليه لأنه
لا يخرج الحق عنهما انتهى.
وفي كشف اللثام ج 2 ص 233 ذكر الوجهين واختار الثاني بقوله: وهو الأقوى، وقد ذكر
وجهه قبل ذلك بقوله: لانحصار الحق فيهما.
124

لكنه لا يعينه بل يرميه مبهما، وأخرى لا يعلم ولا يعرف هو أيضا المجرم بعينه
كما إذا علم ورأي أن أحدهما قد زنى ولم يدر أيا منهما كان هو الزاني، وما ذكر
من المطالبة بالقصد إنما يتم ويأتي في الفرض الأول دون الثاني لأنه إذا لم يكن
يعرفه فكيف يطالب بقصده فهو في الحقيقة لم يقصد إلا الواحد المردد لا المعين.
وقد تحصل من جميع الأبحاث أن الأقوى عندنا أنه لا حد في المقام وإنما يعزر
الرامي.
مخالفة سيدنا الأستاذ للشرايع والجواهر
قال المحقق: أما لو قال: ولدتك أمك من الزناء فهو قذف للأم وهذا
الاحتمال أضعف ولعل الأشبه عندي التوقف لتطرق الاحتمال وإن ضعف. انتهى
وذكر في الجواهر أنه لا يخلو عن قوة.
وفيه أن العبارة المذكورة وإن كان يجري فيها احتمال كون زنا الأم عن إكراه
مثلا إلا أن هذا الاحتمال ضعيف كما صرح بذلك المحقق قدس سره، فإن اللفظة
ظاهرة عرفا في أنها زنت باختيارها لا أنها كانت مكرهة على ذلك، ومع الظهور
العرفي لا يعتنى باحتمال الخلاف ولا يؤخذ بالامكان العقلي.
وعلى الجملة فقوله: ولدتك أمك من الزنا ليس كقوله: ولدت من الزنا وذلك
لتحقق الظهور العرفي، في المقام دونه فلذا يجب حد الرامي.
رمي المنسوب إليه لا المواجه
قال المحقق: ولو قال: يا زوج الزانية فالحد للزوجة وكذا لو قال: يا أبا
الزانية أو يا أخا الزانية فالحد لمن نسب إليها الزناء دون المواجه.
أقول: وهذا واضح فإن نسبة الزنا في المثال الأول إلى زوجة المخاطب دونه
وفي الثاني إلى بنت المخاطب دونه وفي الثالث إلى أخت المخاطب دونه فالحد
125

للزوجة وللبنت وللأخت دون المواجه نعم يعزر القاذف لحق المواجه.
قذف واحد أو قذفان؟
قال قدس سره: ولو قال: زنيت بفلانة أو لطت بفلان فالقذف للمواجه
ثابت وفي ثبوته للمنسوب إليه تردد قال في النهاية والمبسوط: يثبت حدان لأنه
فعل واحد متى كذب في أحدهما كذب في الآخر ونحن لا نسلم أنه فعل واحد لأن
موجب الحد في الفاعل غير الموجب في المفعول وحينئذ يمكن أن يكون أحدهما
مختارا دون صاحبه.
إذا قال القاذف لمخاطبة: زنيت بفلانة أو لطت بفلان فرماه إلى الزنا في الأول
واللواط في الثاني. وقد اتفقوا على تحقق القذف بالنسبة إلى المخاطب لدلالة
لفظه على وقوعه منه اختيارا وإنما اختلفوا في أنه قذف واحد فيجب حد واحد أو
قذفان: قذف المخاطب وهو معلوم وقذف الرجل المنتسب إليها الزنا، وفلان
المنتسب إليه اللواط؟.
ذهب الشيخ المفيد والشيخ الطوسي في النهاية والمبسوط والخلاف (1) إلى
الثاني ومال المحقق وجمع آخر إلى الأول.
واستدل للقول بوجوب الحدين لتحقق القذفين بأن الزنا فعل واحد يقع بين
اثنين ونسبة أحدهما إليه بالفاعلية والآخر بالمفعولية فيكون قذفا لهما ولأن كذبه
في أحدهما يستلزم كذبه في الآخر لاتحاد الفعل.
وقد رد على ذلك، المحقق قدس سره بعدم تسلم وحدة الفعل حيث إن
موجب الحد في الفاعل غير الموجب في المفعول.
ووجهه كما في المسالك أن الموجب في الفاعل التأثير وفي المفعول التأثر وهما

(1) راجع المقنعة ص 793 والنهاية 725 والمبسوط ج 8 ص 16 والخلاف كتاب الحدود
مسألة 49.
126

متغايران، وجاز أن يكون أحدهما مكرها والآخر مختارا فتحقق القذف بالنسبة
إلى المخاطب لا يستلزم ذلك بالنسبة إلى المنسوب إليه أيضا.
ووافق الشهيد الثاني الشيخين والأتباع قال: والأقوى ثبوته لهما إلا مع
تصريحه بالاكراه فينتفي بالنسبة إلى المكره وحيث يحكم بثبوته لهما يجب لهما
حدان وإن اجتمعا في المطالبة لأن اللفظ هنا متعدد بدليل أنه لو اقتصر على قوله:
زنيت من دون أن يذكر الآخر تحقق القذف للمواجه فيكون قذف الآخر
حاصلا بضميمة لفظ كذا ذكره المصنف في النكت انتهى.
وفي كشف اللثام عند بيان إشكال العلامة في مورد المنسوب إليه: ينشأ من
احتمال الاكراه بالنسبة إليه ولا تحقق الحد مع الاحتمال، وهو خيرة الدروس
ومال إليه في التحرير، ومن أن كلا من الزنا واللواط فعل واحد فإن كذب فيه
بالنسبة إلى أحدهما كذب بالنسبة إلى الآخر، ووهنه واضح، ولعدم الاعتداد
بشبهة الاكراه في الشرع، ولذا يجب الحد إجماعا على من قال: يا منكوحا في
دبره، ولتطرق الاحتمال بالنسبة إلى كل منهما فينبغي اندراء الحد عنه بالكلية
انتهى.
وقد ذكر في كلامه عند توجيه الوجه الثاني الذي هو مختار الشيخين ثلاثة
أمور:
1 - إن الزنا مثلا فعل واحد فإن كان هناك كذب بالنسبة إلى المنسوب إليها
فهو كذب بالنسبة إلى المواجه به قضاءا لوحدة الفعل.
2 - إن احتمال الاكراه لا يعتنى به في الشرع كما أن لفظة يا منكوحا في دبره،
توجب الحد مع كونه مساويا للعبارة المبحوث عنها.
3 - إنه إذا كان تطرق الاحتمال بالنسبة إلى غير المواجه موجبا لسقوط الحد
عنه فإن الاحتمال جار بالنسبة إلى المواجه أيضا فيلزم أن لا يحد هو أيضا، وعلى
هذا فيلزم الحكم بحد كل واحد منهما.
ثم استشكل في ذلك بقوله: وفيه أن المكره على الزنا أو اللواط ليس زانيا ولا
127

لائطا.
أقول: وهذا كلام عجيب.
أما أولا فلأنه إذا لم يكن المكره زانيا ولا أنه يطلق عليه الزاني فكيف يقول:
يكره على الزنا ويعبر بأن المكره على الزنا أو اللواط كذا فهو بنفسه قد جمع بين
التعبير بالزنا والاكراه.
وثانيا إن هذا الاطلاق عرفي والعرف ينسب المكره إلى الزنا كالمختار بعينه.
وعلى الجملة فالظاهر أنه يطلق هذا اللفظ عند العرف على الفعل المخصوص
سواء صدر من الفاعل أو المفعول اختيارا أو إكراها وإن لم يترتب على المكره
أحكام الزنا المحرم شرعا.
لا يقال: إن الاشكال الثاني وإن كان واردا إلا أن الايراد الأول قابل للدفع
وذلك لأن الزنا المذكور في كلامه قد ذكر باعتبار الفاعل المكره دون القابل
المكره ولا شك في تحقق الزنا بالنسبة إلى الأول (1).
لأنا نقول: إن الاكراه لا يتعلق بفعل الفاعل بل إكراهه يتعلق بفعل القابل فإذا
الاشكال بحاله.
ثم إن الحق في المقام هو ظهور الصيغة المبحوث عنها في الزنا الاختياري
وإمكان كون الزنا في جانب المنسوب إليها بالاكراه لا يدفع الظهور العرفي.
وبعبارة أخرى لا إشكال فيما أفادوا من إمكان اختلاف الزانيين في زناء
واحد بأن يكون أحدهما مختارا والآخر مكرها إلا أن مجرد إمكان ذلك لا ينافي
كون اللفظ ظاهرا في رمي الطرفين ونسبة الزنا إلى الشخصين بنحو واحد
وباختيار الطرفين وإلا لجرى هذا الاحتمال بالنسبة إلى المواجه المخاطب بهذا
الخطاب فإن ظاهر النسبة أنها بالنسبة إليهما على وزان واحد وحد سواء بلا
تفاوت بينهما أصلا فالصيغة المبحوث عنها نظير قولك: صافحت زيدا وباحثت
عمروا وغير ذلك من التراكيب فهل يحتمل أحد أن زيدا كان مكرها على

(1) أورده هذا العبد وقد أجاب دام ظله العالي بما في المتن.
128

المصافحة أو أن عمروا كان مقهورا على المباحثة (1)؟.
ثم إن صاحب الجواهر أعلى الله مقامه قال (تقريبا وتأييدا لما ذهب إليه
المحقق من ثبوت قذف واحد وحد واحد لامكان أن يكون أحدهما مختارا دون
صاحبه): فهو حينئذ إن لم يكن متعددا حقيقة فحكما باعتبار اختلاف الحكم فلا
أقل من تحقق الشبهة الدارئة بذلك.
(ثم قال:) بل قيل: إنه يدل عليه ظاهر الصحيح الوارد في نظير البحث.
أقول: والصحيح الذي ذكره صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه
السلام في رجل قال لامرأته يا زانية، أنا زنيت بك، قال: عليه حد واحد لقذفه

(1) يقول المقرر: الذي بدا لي في المقام أن النسبة الفاعلية نسبة الصدور والبروز وهي
ظاهرة في الاختياري بلا كلام كما في كل فعل يستند إلى الفاعل إلا في موارد خاصة وهذا
بخلاف النسبة المفعولية فإن المفعول هو من يقع عليه وكأنه أشرب في معنى المفعول القهر
والغلبة كالمقتول والمضروب فهو غير ظاهر في الاختيار لو لم يكن ظاهرا في غير الاختيار.
ثم إني قد وقفت بعد ذلك على كلام لفخر الدين قدس سره يناسب ما ذكرناه قال في
الإيضاح ج 4 ص 504 بعد أن نقل عن ابن إدريس أنه ليس عليه إلا حد واحد للمواجه إذا
نسب إليه فعل الزنا أو اللواط وأما الذي نسب إليه بأنه فعل به لا فعل هو فإنه لا حد عليه) فهنا
قال: أما الأول فلأنه نسبة إلى فاعل قادر عليه عالم به أنه فعله وذلك يكفي في وجوب الحد
إجماعا لأن هذه النسبة تقتضي صدور الفعل منه حقيقة وأما الثاني فلأنه نسب المزني بها إلى
الانفعال لا إلى الفعل وهو أعم من المطاوعة على ذلك لصدقة حقيقة في المكرهة والعام لا دلالة
له على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث ولا حد مع الاحتمال فكيف مع عدم السبب المقتضي
له واختار المصنف في المختلف قول الشيخ في النهاية لأنه هتكه ولو لم يجب في ذلك الحد لم يحب
في قوله: يا منكوحا في دبره، والتالي باطل فالمقدم مثله والملازمة ظاهرة لأن دلالة اللفظ على
النسبة إليهما واحدة فإنه كما تحتمل أن تكون هي مكرهة في صورة النزاع يحتمل في قوله: يا
منكوحا في دبره، فلو اقتضى المنع ثمة لاقتضاه هنا وأما بطلان التالي فبالإجماع للاتفاق على
وجوب حد القذف به ولأن الأصل المطاوعة ولدلالته عرفا على نسبة الفعل إليهما والأقوى ما
اختاره المصنف في المختلف انتهى.
129

إياها، وأما قوله: أنا زنيت بك فلا حد فيه إلا أن يشهد على نفسه أربع شهادات
بالزنا عند الإمام (1).
قال قدس سره في وجه دلالته: من حيث نفي الحد فيه أصلا وإن كان فيه ما
فيه، وترتب الحد بقوله: منكوح في دبره، للاجماع والنص أو للدلالة العرفية
لا يقتضي ثبوته في الفرض انتهى.
أقول: أما حديث الشبهة ففيه أنه لا مجال بعد ما ذكرنا من الاستظهار.
وأما الرواية ففيها أن قوله: يا زاني قد أوجب الحد للقذف فقوله بعد ذلك بلا
فصل: أنا زنيت بك لا يزيد شيئا بعد أن قذف ولم يحد بعد.
وقد علم بما ذكرنا أن قوله عليه السلام: وأما قوله: أنا زنيت بك لا يراد به
فرض آخر فإنه ليس إلا فرض واحد وهو قول الرجل: يا زاني أنا زنيت بك
وكأنه عليه السلام قال: إنه يحد حدا لرميه بقوله: يا زاني وأما ذيل الكلام فلا
يوجب شيئا آخر.
وأما ما ذكره صاحب الجواهر بقوله: وإن كان فيه ما فيه انتهى فهو لأن
الاقرار بالزنا ليس رميا حتى يترتب عليه حد القذف، والزنا لا يثبت بالاقرار
إلا إذا وقع أربع مرات.
وأما ما أفاده من الفرق بين المقام فلا حد وبين قول القاذف: فلان منكوح في
دبره، فيجب الحد مع أنه بعينه كالمزني بها في جملة زنيت بفلانة وكالمنكوح
والملوط في جملة: لطت بفلان بأن ذلك للاجماع... يعني إنه للدليل الخارجي
وإلا فهو أيضا كمحل البحث ومقتضى القاعدة أن يقال إنه يحتمل كونه مكرها في
صيرورته منكوحا في دبره.
ففيه: أن الاجماع لو كان فهو لأجل الظهور العرفي في كونه باختياره وأما
كونه إجماعا تعبديا بلا لحاظ هذه الجهة فهو بعيد جدا وإجراء الحد تعبدا من دون
الرمي مقطوع العدم، وأما الدلالة العرفية فهي صحيحة لكن لا فرق بين الجملتين

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حد القذف ح 1.
130

في ظهورهما في وقوع الفعل عن اختيار لا عن إكراه.
فتحصل أنه كما كانت نسبة الزنا أو اللواط في محل البحث إلى المخاطب ظاهرة
في الاختياري فكذلك بالنسبة إلى المنسوب إليها أو إليه.
قذف الملاعنة
قال المحقق: ولو قال لابن الملاعنة: يا بن الزانية فعليه الحد.
إذا لاعن الرجل امرأته ثم بعد ذلك نسب رجل ابن هذه المرأة إلى الزنا بأن
يقول له: يا بن الزانية فإنه يوجب الحد وذلك لصدق القذف الموجب له وكذا لو
قال لهذه المرأة نفسها: يا زانية، وقد ادعى عدم الخلاف في وجوب الحد عليه.
والوجه في وجوب الحد على القاذف في الفرضين أن هذه المرأة محصنة ونسبة
الزوج لها إلى الزنا لا يخرجها عن ذك ولذا ترى أن لها أن تدافع عن نفسها
وتدفع الحد عنها باللعان وذلك لعدم ثبوت الزنا عليها فقاذفها قاذف المحصنات
الذي يقام عليه الحد بنص الكتاب. سواء قذفها بلا واسطة أو بواسطة ابنها.
وتدل على وجوب الحد على القاذف، عدة روايات:
عن سليمان يعني ابن خالد عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: يجلد
قاذف الملاعنة (1).
وعن ابن محبوب عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يحد
قاذف اللقيط ويحد قاذف الملاعنة (2).
وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام في رجل قذف ملاعنة قال: عليه
الحد (3).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حد القذف ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حد القذف ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حد القذف ح 3.
131

وعن أبي بصير عن أبي عن عبد الله عليه السلام عن رجل قذف امرأته
فتلاعنا ثم قذفها بعد ما تفرقا أيضا بالزنا أعليه حد؟ قال: نعم عليه حد (1)
وهذه الروايات كما ترى صريحة في وجوب الحد على القاذف.
قذف المحدودة قبل التوبة أو بعدها
قال المحقق: ولو قال لابن المحدودة قبل التوبة لم يجب به الحد وبعد التوبة
يثبت الحد.
أقول: إذا زنت امرأة وأقيم عليها الحد ثم نسبت إلى الزنا بلا واسطة كما إذا
قال الرامي لها: يا زانية أو بواسطة ولدها بأن قال له: يا بن الزانية فلا يخلو عن
أنه قال بذلك قبل أن تتوب أو بعد ذلك فعلى الأول لا حد على القاذف وعلى
الثاني يجب حد القذف عليه أما الأول فللأصل ولأنه لا فرية هنا لأن المفروض
قيام البينة على زناها، وثبوت الزنا بذلك وحدت عقيب ذلك وهي لم تتب بعد
فقد خرجت عن المحصنات فلا تشملها آية الرمي الواردة في قذف المحصنات
العفيفات وعليه فلا يترتب على قذفها شئ وأما الثاني فلأنه وإن أقيمت
الشهادة على زناها وقد ثبت ذلك بشهادة الأربع وحدت لكنها قد تابت من
عملها الشنيع وصارت بذلك محصنة فيكون قذفها قذف المحصنات الموجب
للحد.
ويدل على ذلك خبر فضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه قال: سألت أبا عبد
الله وأبا الحسن عليهما السلام عن امرأة زنت فأتت بولد وأقرت عند إمام
المسلمين بأنها زنت وأن ولدها ذلك من الزنا فأقيم عليها الحد وإن ذلك الولد
نشأ حتى صار رجلا فافترى عليه رجل هل يجلد من افترى عليه؟ فقال: يجلد
ولا يجلد فقلت: كيف يجلد ولا يجلد؟ فقال: من قال له: يا ولد الزنا لم يجلد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حد القذف ح 2.
132

ويعزر وهو دون الحد ومن قال له: يا بن الزانية جلد الحد كاملا قلت له: كيف
(صار) جلد هكذا؟ فقال: إنه إذا قال له: يا ولد الزنا كان قد صدق فيه وعزر
على تعييره أمه ثانية وقد أقيم عليها الحد فإن قال له: يا ابن الزانية جلد الحد
تاما لفريته عليها بعد إظهار التوبة وإقامة الإمام عليها الحد (1).
ثم إنه قد اتضح مما تقدم، الفرق بين الملاعنة والمحدودة قبل التوبة ووجه
الحكم بثبوت حد القذف في الأولى دون الثانية فإن اللعان ليس طريقا لثبوت
الزنا بل هو سبب لسقوط الحد فهي بعد لم تخرج عن كونها محصنة وهذا بخلاف
المحدودة غير التائبة فإنها خرجت عن كونها محصنة بإقامة الشهود الشهادة
على زناءها، وإجراء الحد عليها مع عدم توبتها فلا يوجب قذفها حدا لأنها
ليست من المحصنات والحال هذه.
إذا قال لامرأته: زنيت بك..
قال المحقق: ولو قال لامرأته: زنيت بك فلها حد على التردد المذكور
ولا يثبت في طرفه حد الزنا حتى يقر أربعا.
أقول: وجه التردد هو احتمال كونها مكرهة فليست العبارة المذكورة قذفا لها
وهذا التردد هو الذي قد ذكره في ما لو قال لمخاطبة: زنيت بفلانة، فراجع.
وفي المسالك: والأقوى ثبوته ما لم يدع الاكراه بتقريب ما سبق ثم تعرض
لصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في رجل قال لامرأته: يا
زانية أنا زنيت بك قال: عليه حد واحد لقذفه إياها وأما قوله: أنا زنيت بك فلا
حد فيه إلا أن يشهد على نفسه أربع شهادات بالزنا عند الإمام (2) فإن ظاهره
أنه لا أثر لقوله: أنا زنيت بك.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب القذف ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 13 من أبواب حد القذف ح 1.
133

وأجاب قدس سره عن ذلك بقوله: لا يدل على ثبوت الحد بقوله أنا زنيت
بك ولا نفيه لأن حد القذف ثابت على المذكور في الرواية بالكلمة الأولى وهي
قوله: يا زانية ويبقى حكم الآخر على الاشتباه ولا يلزم من تعليق الحكم على
الاشتباه ولا يلزم من تعليق الحكم على اللفظين ثبوته مع أحدهما إلا أنه ثابت
بالأول من دليل خارج انتهى.
أقول: ويمكن إثبات ظهور اللفظة ولزوم حد القذف برواية السكوني عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا سألت الفاجرة
من فجر بك فقالت: فلان فإن عليها حدين حدا من فجورها وحدا من فريتها
على الرجل المسلم (1).
وذلك لعدم الفرق بين: فجر بي فلان، وزنيت بك. وأنت ترى أن الإمام عليه السلام حكم في الأول بالحد للفجور فلو لم يكن (زنى بي) ظاهرا في
اختيارها فكيف تستحق حد الفجور مع إمكان أن يكون المزني بها مكرهة
وحيث إنه لا فرق بين هذا الكلام وبين قوله: زنيت بك فلا محالة يكون هو أيضا
ظاهرا في الاختيار أي اختيارها فيكون قذفا لها، واحتمال الاكراه لا يؤثر شيئا
كما أنه لا ينفع بالنسبة إلى حد فجورها فقد حكم بذلك الحد أيضا مع احتمال
كونها مكرهة على الزنا.
لا يقال: إن الموضوع في رواية السكوني هو الفاجرة وهذا العنوان ظاهر جدا
في الإرادة والاختيار فلا يكون الخبر شاهدا للمقام.
لأنا نقول: إن الفاجرة أيضا قد تكون مكرهة فإن حالها تتفاوت بالنسبة إلى
الأشخاص وبالنسبة إلى ما يبذل لها.
وأما ما يتوهم من أن الرواية تدل على إقامة حد الفجور بالاقرار مرة
واحدة.
ففيه أنها ساكتة عن هذه الجهة لعدم كونها في مقام البيان بالنسبة لها فالمراد

(1) التهذيب ج 10 ص 67 ح 12 وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من حد القذف ح 3.
134

أنها تحد حد الفجور بشرائطه.
ألفاظ خاصة
قال المحقق: ولو قال: يا ديوث أو يا كشخان أو يا قرنان أو غير ذلك من
الألفاظ فإن أفادت القذف في عرف القائل لزمه الحد وإن لم يعرف فائدتها أو
كانت مفيدة لغيره فلا حد ويعزر إن أفادت فائدة يكرهها المواجه.
أقول: ظاهر عبارته أن هذه الألفاظ إن أفادت القذف في عرف القائل يلزم
هناك الحد وإن لم يفد في عرف المواجه ولذا قال صاحب الجواهر بعد ذلك: وكذا
لو كانت مفيدة في عرف المواجه وقالها له جريا على عرفه انتهى.
وفيه أن الظاهر أن الأدلة محمولة على المتعارف بين الناس وهو ما إذا قاله
الرامي وفهم منه المخاطب والمقول فيه ذلك، وإلا فالذي يلقي الكلمة الخبيثة
بلا سامع أصلا فهو أيضا مشمول للأدلة وهو بعيد.
وعلى الجملة فصدق الرمي بمجرد الإفادة في عرف القائل غير معلوم بل لو
كان في عرف المتكلم غير مفيد وفي عرف المواجه صريحا فصدق الرمي عليه
أولى.
والأولى أن يقال إن كان اللفظ مفيدا في عرفهما فلا إشكال في كونه رميا وأما
في غير هذه الصورة فصدق الرمي بنحو الاطلاق ممنوع ولا أقل من كونه
مشكوكا فيه ويدرء الحد للشبهة (1).
نعم يمكن أن يوجب الكلمة الخاصة تعزير القائل مع عدم تحقق القذف إذا
أوجب إكراه المواجه وإيذاءه.

(1) وقد أوردت عليه ظله بأنه كيف لم تتعرضوا لهذا الإشكال في أول بحث القذف الذي
صرح المحقق بقوله: مع معرفة القائل، فأجاب بورود الإشكال هناك أيضا.
135

الكلام في التعريض
قال المحقق: وكل تعريض بما يكرهه المواجه ولم يوضع للقذف لغة ولا عرفا
يثبت به التعزير لا الحد...
أقول: إن التعريض على ما قالوا خلاف التصريح وهو الايماء والتلويح ولعل
معناه الظاهر هو الكناية وكون الكلام موهما (1).
قال صاحب الجواهر بعد عبارة المحقق: بلا خلاف أجده فيه بيننا. ثم قال:
نعم عن مالك أنه يجعله قذفا عند الغضب دون الرضا انتهى.
وكأنه رحمه الله كانت له عناية بنقل ذلك عن مالك.
وكيف كان فعنده أن التعريض إذا كان عند الغضب فهو قذف وهذا الذي
ذكره لا بأس به، وذلك لتحقق الدلالة العرفية عند إلقائه في حال الغضب دون
مقام الرضا.
قال في الجواهر توجيها لما ذكره مالك من كونه قذفا: يمكن إرادته الدال منه
عرفا على ذلك لا غيره مما لم يكن كذلك.
ثم قال: اللهم أن يقال: إن التعريض الذي نفوا الحد فيه دال عرفا بدلالة
التعريض إلا أنها غير معتبرة في ثبوت القذف للأصل واعتبار التصريح في
ما سمعته من الخبر وبناء الحد على التخفيف وغير ذلك، ومن هنا صرح في
الرياض بعدم اعتبار التعريض.
وفيه أنه قد تقدم عدم خصوصية للصريح بمعناه اللغوي بل كان يكفي مطلق
الدلالة وإن كان بالظهور لا بالصراحة وحينئذ فإذا كان التعريض دالا عرفا على

(1) في مجمع البحرين: الكناية بالكسر وهي ما دل على معنى يجوز حمله على جانبي الحقيقة
والمجاز بوصف جامع بينهما ويكون في المفرد والمركب وهي غير التعريض فإنه اللفظ الدال
على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي بل من جهة التلويح والإشارة فيختص باللفظ
المركب كقول من يتوقع صلة: والله إني لمحتاج، فإنه تعريض بالطلب انتهى.
136

نسبة الزنا مثلا إليه فكيف يقال بعدم الحد بعد أن حكم الشارع كتابا وسنة
مترتب على ما يفهم من اللفظ أي القذف فإن خطابات الشرع منزلة على
المفاهيم العرفية وعلى الجملة فلو كانت الدلالة بالتأويل والتوجيه فهو وأما إذا
كان لفظ التعريض دالا عرفا فهو من أقسام المصرح ويترتب عليه الحد.
وعلى هذا فيكفي في تحقق القذف الظهور العرفي ولا حاجة إلى الصريح.
وقد يتمسك لاعتبار التصريح برواية إسحاق بن عمار عن جعفر عليه
السلام: إن عليا عليه السلام كان يعزر في الهجاء ولا يجلد الحد إلا في الفرية
المصرحة أن يقول: يا زان أو يا بن الزانية، أو لست لأبيك (1).
وفيه أنه مع التصريح باعتبار الفرية المصرحة فقد مثل عليه السلام بقوله:
لست لأبيك، مع أنه ليس بصريح في الزنا بل هو ظاهر فيه لاستعماله في ولد
الشبهة أيضا وعلى هذا فالموارد التي نفى الإمام عليه السلام الحد فيها لم يكن
فيها ظهور عرفي.
إن قلت: إن النسب التعريضية مثل قوله القائل: لست بحمد الله بزان أيضا
ظاهر في نسبة المخاطب مثلا إلى الزنا (2).
نقول: ليس لهذا التركيب ظهور عرفي في ذلك كما أن قولنا: أنت لا تأكل
أموال الناس، لا يدل على أننا نأكل أموال الناس.
ثم إن المستفاد من عبارة المحقق هو أن الملاك في التعريض الموجب للتعزير
هو كونه بما يكرهه المواجه.
وفيه أنه لا خصوصية للمواجه فربما لا يكون النسبة متوجهة إليه بل النسبة
متوجهة إلى شخص آخر لا تعلق له بالمواجه به أو أنه وإن كانت بينهما علقة
وقرابة لكنها لا توجب كراهية المواجه فهل يمكن أن يقال: إنه ليس بتعريض أو

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 6.
(2) من المقرر، وقد أجاب دام بقاه بما في المتن ولعل مراده أن قول: لست بزان دال على عدم
زناه قطعا ولا يدل على زنا الغير قطعا بل يريد أن يقول هناك احتمال ذلك وهذا لا يوجب الحد.
137

أنه لا يوجب التعزير استنادا إلى عدم إيجابه كراهية المواجه؟
وعلى الجملة فلم يتعرض بحسب ظاهر كلامه لما يكرهه المنسوب إليه لو سمعه
مع أنه أيضا كالأول ولا خصوصية له.
بل لعل ذلك خلاف المستفاد من الروايات، فإن الظاهر منها أن مطلق السب
والهجاء وما يوجب كراهية من قيل فيه يقتضي تعزيره وإليك قسما من الروايات
الدالة على أن السب مطلقا أو الهجاء للمؤمن حرام وفسوق أو أنه يوجب
التعزير وقد ذكر قسم منها في أبواب أحكام العشرة من كتاب الحج وقسم آخر
منها في أبواب القذف:
فمنها عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكل لحمه معصية وحرمة ماله
كحرمة دمه (1).
وعن معلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: قال الله
عز وجل: ليأذن بحرب مني من أذل عبدي المؤمن وليأمن من غضبي من أكرم
عبدي المؤمن (2).
وهذه الروايات تدل على الحرمة وأما ما دل على التعزير أيضا:
ففي صحيح عبد الرحمان بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن رجل سب رجلا بغير قذف يعرض به هل يجلد؟ قال: عليه تعزير (3).
وعن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا قال الرجل: أنت
خبيث (خنث) أو أنت خنزير فليس فيه حد ولكن فيه موعظة وبعض العقوبة (4).

(1) وسائل الشيعة ج 8 ص 610 ب 158 من أحكام العشرة ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 8 ص 591 ب 147 من أحكام العشرة ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ص 452 ب 19 من أبواب حد القذف ح 1.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 2، وفي المنجد: خنث الرجل فهو
خنث، كان فيه لين وتكسر وتثن فكان على صورة الرجال وأحوال النساء.
138

وعن أبي مخلد السراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين
عليه السلام في رجل دعا آخر: ابن المجنون، فقال له الآخر: أنت ابن المجنون
فأمر الأول أن يجلد صاحبه عشرين جلدة وقال: اعلم أنه مستعقب مثلها
عشرين فلما جلده أعطى المجلود السوط فجلده عشرين نكالا ينكل بهما (1).
وعن النعمان بن عبد السلام عن أبي حنيفة قال: سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن رجل قال لآخر: يا فاسق، قال: لا حد عليه ويعزر (2).
وعن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه
السلام في الهجاء التعزير (3).
وعن إسحاق بن عمار عن جعفر عليه السلام: إن عليا عليه السلام كان يعزر
في الهجاء ولا يجلد الحد إلا في الفرية المصرحة أن يقول: يا زان، أو يا ابن الزانية
أو لست لأبيك (4).
وفي قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه في رجل قال لرجل: يا شارب
الخمر يا آكل الخنزير قال: لا حد عليه ولكن يضرب أسواطا (5).
وعن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين
افترى كل واحد منهما على صاحبه؟ فقال: يدرأ عنهما الحد ويعزران (6).
وعن أبي ولاد الحناط قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أتى أمير
المؤمنين عليه السلام برجلين قذف كل واحد منهما صاحبه بالزنا في بدنه، قال:

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 4.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 5.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 6.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 10.
(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 2.
139

فدرأ عنهما الحد وعزرهما (1).
إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على المقصود وسيأتي بعض آخر منها في طي
الأبحاث وعلى الجملة فلا شك في أن إيذاء المؤمن من المعاصي الكبيرة ولا في أن
سبه أو تعريضه موجب لايذاءه وهو موجب للتعزير فإذا سب مؤمنا فإنه يعزر
على ذلك سواء كان سبه له بالمواجهة أو في غيابه.
نعم لو اغتابه بلا سب فربما يكفره مجرد الاستحلال منه بلا حاجة إلى التعزير
إلا أن يثبت في محله وجوب التعزير لكل كبيرة ولا أقل من إثبات وجوبه للغيبة.
وأما وجوب التعزير لسب المؤمن إذا لم يكن مقرونا بالقذف فهو المصرح به
في هذه الروايات.
وقد اتضح أن الأخبار متعرضة للتعزير في موارد وعند حصول عناوين
مختلفة:
أحدها: السب كما في رواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله المذكورة آنفا.
ثانيها وثالثها: قول يا خبيث، أو يا خنث أو يا خنزير كما في رواية المدائني.
رابعها: قول: يا ابن المجنون كما في رواية السراج
خامسها قول: يا فاسق كما في رواية أبي حنيفة.
سادسها: الهجاء كما في رواية أبي مريم ورواية إسحاق بن عمار.
سابعها وثامنها قول: يا شارب الخمر، يا آكل الخنزير كما في رواية قرب الإسناد.
تاسعها: افتراء كل منهما الآخر كما في رواية عبد الله بن سنان.
عاشرها: قذف كل منهما الآخر كما في رواية الحناط.
لكن لا يخفى أن التعزير هنا مخصوص بما إذا كان قذف كل بالنسبة إلى
صاحبه. وأما إذا كان بالنسبة إلى والد الآخر أو والدته كما إذا قال: يا بن الزاني

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من أبواب حد القذف ح 2 - قوله: في بدنه، الظاهر أنه بدنة
أي قذف صاحبه في نزاع بينهما في بدنة. راجع الوافي ج 2 أبواب الحدود ص 56.
140

أو يا بن الزانية فهنا لكل من المقذوفين أن يطالب حد القاذف فدرء الحد،
مخصوص بما إذا قال كل للآخر: يا زاني مثلا.
وهنا روايات مشتملة على عناوين أخر في هذا المقام فنقول:
حادي عشرها وثاني عشرها: لا أب لك ولا أم لك ففي رواية مسعدة بن
صدقة عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام قال: من قال لصاحبه: لا أب لك
ولا أم لك يتصدق بشئ ومن قال: لا وأبي فليقل أشهد أن لا إله إلا الله فإنها
كفارة لقوله (1).
أقول: الظاهر أن المراد بقوله: لا أب ولا أم لك هو أنه ليس لك أب وأم
وجيهان لا أن يكون المقصود كونه من الزنا.
ثالث عشرها: احتلمت بأمك أي رأيتها في المنام وحصل لي الاحتلام بها.
كما في رواية حسين بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رجلا
لقي رجلا على عهد أمير المؤمنين عليه السلام فقال: إن هذا افترى علي قال:
وما قال لك؟ قال: إنه احتلم بأم الآخر قال: إن في العدل إن شئت جلدت ظله
فإن الحلم إنما هو مثل الظل ولكنا سنوجعه ضربا وجيعا حتى لا يؤذي المسلمين،
فضربه ضربا وجيعا (2).
وعن محمد بن علي بن الحسين بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين عليه السلام:
إن رجلا قال له: إن هذا زعم أنه احتلم بأمي فقال: إن الحلم بمنزلة الظل فإن
شئت جلدت لك ظله ثم قال: لكني أؤدبه لئلا يعود يؤذي المسلمين (3).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب حد القذف ح 7 وحيث إن اللفظين كان من السب
فلذا قال: فليتصدق وأما قول: وأبي فهو بغير الله تعالى وفيه شائبة الشرك فلذا يكفره
بقول: لا إله إلا الله وقد ورد في تفسير آية: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون، يوسف
106 عن الباقر عليه السلام: من ذلك قول الرجل: لا وحياتك، راجع تفسير الصافي ج 1 ص
860.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب حد القذف ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب حد القذف ح 2.
141

رابع عشرها: قول الرجل لامرأته: لم أجدك عذراء كما في روايات عديدة
وسيأتي الكلام فيه.
خامس عشرها الايذاء وهو الكلي الجامع الذي يشمل الموارد المذكورة
ويجمعها وهذا العنوان مذكور في هاتين: رواية حسين بن أبي العلاء ورواية
قضايا أمير المؤمنين عليه السلام ففي الأولى حتى لا يؤذي المسلمين، وفي
الأخيرة: لئلا يعود يؤذي المسلمين.
ثم إن في بعض الروايات تعزير من افترى على أهل الذمة وأهل الكتاب،
وعليه فمن العناوين: الافتراء عليهم.
فعن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الافتراء
على أهل الذمة وأهل الكتاب هل يجلد المسلم الحد في الافتراء عليهم؟ قال: لا
ولكن يعزر (1).
ثم إن مقتضى التعليل الوارد في رواية حسين بن أبي العلاء ورواية القضايا هو
أن الملاك الكلي الايذاء ومن المعلوم أن إيذاء المسلم حرام يوجب التعزير سواء
كان لفظيا أم فعليا وسواء كان بالنسبة إلى المواجه أو الغائب إذا كان هناك
مخاطب وإن لم يكن النسبة إليه ولا إلى من يلوذ به بل إلى أجنبي عنه.
نعم هو منصرف عما إذا قال في حق أحد كلمة سوء ولم يكن هناك أحد
يستمعه وإنما ذكر ذلك وتفوه بها تحت لحافه مثلا.
ثم إنه بعد ما استفدنا أن الملاك الكلي هو استخفاف المؤمن وإيذائه فالظاهر
أنه لا اختصاص بتلك الكلمات الواردة في الروايات فدقق النظر في رواية حسين
بن أبي العلاء تجد أنه لا خصوصية للرؤيا في المنام ولا للتفوه بتلك الكلمة الخاصة
أي احتلمت بأمك بل تمام المعيار هو إيذاء المسلم وعليه فالأمثلة الواردة في
الروايات كانت من باب المثال لا لخصوصية فيها فلذا لو قال له: يا آكل الربا أو
يا آكل الدم أو الميتة وغير ذلك فالأمر كما ذكر.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حد القذف ح 4.
142

قال المحقق الأردبيلي (عند قول العلامة في الإرشاد: وكل تعريض بما يكرهه
المواجه يوجب التعزير كانت ولد حرام...): والظاهر أن كل ما يؤذي المسلم
بغير حق بل كل ذنب غير موجب للحد موجب للتعزير وليس بمخصوص
بالخطاب إلى مواجه بما يكرهه كما يفهم من تضاعيف الأبحاث ولأنه
لا خصوصية له بالمخاطب بل باللفظ والكلام أيضا بل سببه كونه معصية وذنبا
فيؤخذ أينما وجد، وأما الدليل على الكلية فلا يكاد أن يوجد ما يكون نصا فيه
نعم قد يوجد في الأخبار ما يمكن فهمه منها وقد مر بعضها مثل صحيحة عبد الله
بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام إلخ فراجع.
وقد ذكر العلماء رضوان الله تعالى عليهم أمثلة كثيرة ينطبق على كثير منها
السب أو ما يؤذي المؤمن من جهة دلالتها على فعل المحرم أو على ما هو وهن
وتحقير له مثل يا خبيث ويا وضيع.
وقد مثل المحقق قدس سره لذلك بقوله: أنت ولد حرام، أو حملت بك أمك
في حيضها أو يقول لزوجته لم أجدك عذراء أو يقول: يا فاسق أو يا شارب الخمر
ونحو ذلك وهو متظاهر بالفسق، أو يا خنزير أو يا كلب أو يا حقير أو يا وضيع
فإن الجملة الأولى ليست صريحة ولا ظاهرة في الزنا لاستعماله في غير هذا
المعنى أيضا كالحمل في حال الحيض أو الصوم أو الاحرام.
والجملة الثانية صريحة في معنى آخر غير ما هو ملاك القذف لكنها نسبة
توجب الاستخفاف والفضيحة.
والجملة الثالثة أيضا ليست صريحة في نسبة الزنا إليها ولا ظاهرة في ذلك فإن
العذرة قد تزول بأسباب أخر غير المجامعة كما صرح بذلك في مرسلة الصدوق:
إن العذرة قد تسقط من غير جماع قد تذهب بالنكبة والعثرة والسقطة (1).
ويدل على لزوم التعزير في خصوص هذا القول رواية يونس عن أبي بصير

(1) وسائل الشيعة ج 15 ب 17 من أبواب اللعان ح 6 أقول: قال في مجمع البحرين: النكبة في
قوله: العذرة يعني البكارة قد تذهب بالنكبة، يعني الطفرة والعثرة.
143

عن أبي عبد الله عليه السلام قال: في رجل قال لامرأته: لم أجدك عذراء قال:
يضرب، قلت: فإن عاد قال: يضرب فإنه يوشك أن ينتهي (1).
قال الشيخ المحدث الحر العاملي بعد نقل هذا الخبر: ورواه الكليني عن علي
بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن عبيد عن يونس... وزاد: قال يونس:
يضرب ضرب أدب ليس يضرب الحد لئلا يؤذي امرأة مؤمنة بالتعريض.
وأما باقي الألفاظ الذي ذكره المحقق قدس سره فقد صرح ببعضها في
الروايات المتقدمة كرواية المدائني والسراج. مضافا إلى أن نسبة الفسق أو فسق
خاص إلى المسلم يوجب إيذاءه وهو يوجب التعزير.
نعم هذا مخصوص بمن يواظب على الستر والاخفاء ويأبى عن التجاهر
بالفسق فلو كان متجاهرا بالفسق فلا بأس برميه به وهو مستحق لذلك ولا تعزير
عليه كما سيأتي البحث في ذلك.
وهل إطلاق الكلب والخنزير على الفاسق أيضا كذلك؟ لا يبعد ذلك،
والتعدي عن جواز غيبته إلى إطلاق هذه الكلمات عليه لا يخلو عن كلام.
وقد يقال (2) إنه قد ورد في خصوص المورد ما يفيد الجواز مثل قول رسول
الله صلى الله عليه وآله لمروان: الوزغ بن الوزغ (3).
وقول الإمام أبي جعفر عليه السلام لمن قال له: إني أصوم يوما وأفطر يوما
فهل يكون هذا كفارة لذاك؟: يا بازنة تعمل عمل أهل النار وتريد أن تدخل
الجنة (4).
فقد أطلق في الأول لفظ الوزغ على مروان وأبيه وفي الثاني لفظ بازنة المراد
منه بوزينه، على الشخص الذي كان يزني يوما ويصوم يوما.
أقول: ولعله كذلك كما أن رسول الله عليه وآله شتم بني قريظة بأمثال هذه

(1) وسائل الشيعة ج 15 ب 17 من أبواب اللعان ح 2.
(2) قاله هذا العبد.
(3) الغدير ج 8 ص 260 نقلا عن مستدرك الحاكم - 4 - 479.
(4) الوافي ج 2 باب الحدود والتعزيرات ص 34.
144

الكلمات فقد ورد أنه كان كعب بن أسيد يشتم رسول الله ويشتم المسلمين فلما
دنى رسول الله صلى الله عليه وآله من حصنهم قال: يا إخوة القردة والخنازير
وعبدة الطاغوت أتشتموني إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباحهم - صباح
المنذرين - فأشرف عليهم كعب بن أسيد من الحصن فقال: والله يا أبا القاسم ما
كنت جهولا ولا سبابا فاستحيى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى سقط الرداء
من ظهره حياءا مما قال (1).
ثم إنه بعد أن ثبت أن إيذاء المسلم حرام قطعا وبلا ترديد يأتي هنا سؤال
وهو أنه هل يمكن الحكم بحرمة كل ما يتأذى منه المسلم وإن كان تأذيه على
خلاف القاعدة لكونه بنفسه خلاف المتعارف وكان له شذوذ وحالات خاصة؟.
الظاهر خلاف ذلك وأن المعيار هو تأذيه المناسب بحيث كان عند متعارف
الناس في موضعه ويحكم العرف بأنه كان حقيقا بأن يتأذى لا ما إذا كان يتاذي
لكونه كثير التوقع سريع التأثر ينتظر من الناس ما لا يطيقونه ويتوقع منهم ما لا
يتحمله المجتمع في محاوراتهم ومراوداتهم.
ومنه قد اتضح حال فرع آخر وهو أن بعض الناس يتأذون بمدحهم
وبالكلمة الحسنة التي يقال فيهم فإنه لا مجال للحكم بالحرمة والتعزير هنا.
وعلى الجملة فالمعيار هو ما كان متعارفا فإيذاءه بهذا النحو وإلقاء كلمة إليه
توجب ذلك يوجب التعزير.
وأما أن كل كبيرة أو كل معصية يوجب التعزير أم لا فهو يحتاج إلى مزيد
التتبع ومراجعة الأدلة وسيأتي البحث عن ذلك إن شاء الله تعالى.

(1) بحار الأنوار ج 2 ص 234 و 262، وفي السفينة في رواية الطبرسي قال بعد قوله: فساء
صباح المنذرين: يا عباد الطواغيت اخسأوا أخساكم الله فصاحوا يمينا وشمالا: يا أبا القاسم
ما كنت فحاشا فما بدا لك؟ قال الصادق عليه السلام: فسقطت العنزة من يده وسقط رداؤه
من خلفه ورجع يمشي إلى ورائه حياءا مما قال لهم.
145

إذا كان المقول له مستحقا فلا شئ على من عرضه
قال المحقق: ولو كان المقول له مستحقا للاستخفاف فلا حد ولا تعزير.
وفي الجواهر في بيان وجه استحقاق الاستخفاف وموجبه: لكفر أو ابتداع أو
تجاهر بفسق.
وحاصل الكلام أنه لو كان الرامي كافرا أو مبتدعا في الدين أو متجاهرا
بالمعصية فهو مستحق للاستخفاف والإهانة به ولا بأس بذلك.
وقال عند قول المحقق: فلا حد ولا تعزير،: بلا خلاف بل عن الغنية الاجماع
عليه بل وإشكال بل يترتب له الأجر على ذلك (1).
أقول: أما الكافر فهو وإن كان يدل على جواز قذفه بعض الروايات إلا أن
في بعضها الآخر ما يخالف ذلك فعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه
السلام إنه نهى عن قذف من ليس على الاسلام إلا أن يطلع على ذلك منهم
وقال: أيسر ما يكون أن يكون قد كذب (2).
وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه نهى عن قذف من كان على
غير الاسلام إلا أن تكون قد اطلعت على ذلك منه (3).

(1) أقول: محل البحث هنا غير منقح وذلك لأن الظاهر بمناسبة المطالب السابقة هو ألقاء
الألفاظ والعناوين الموهنة إلا أن نفي الحد في كلام المحقق ينافي ذلك ولذا قال في المسالك:
ويظهر من قوله: فلا حد ولا تعزير أن بعض المذكورات يوجب الحد وإلا لما كان لنفيه فائدة
وليس كذلك لأنها في جميعها يوجب التعزير إلا أن يريد بنفي الحد في حقه على تقدير قذفه
بالزناء مع تظاهره به فإن القذف مما يوجب الحد في غيره ولكن سيأتي أنه يوجب التعزير
والأولى ترك الحد، والاقتصار على نفي هذا التعزير كما صنع في القواعد انتهى. أقول: وسيأتي
كلام عن سيدنا الأستاد الأكبر في ذلك الشأن.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد القذف ح 2.
146

فمقتضى هاتين الروايتين أن قذف غير المسلم منهي عنه مع عدم اطلاع على
فعله وأما مع الاطلاع فلا بأس به.
وعليه فالفرق بين المسلم والكافر في أنه لا يجوز القذف بالنسبة إلى المسلم
مطلقا صادقا أو كاذبا وأما بالنسبة إلى كافر فلا يجوز بدون الاطلاع أي كاذبا
وأما صادقا كما إذا كان قد رأى ذلك منه فلا بأس به، ومع ذلك فلا تعرض فيهما
للتعزير وعدمه.
وعن أبي الحسن الحذاء قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسألني رجل
ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة فنظر إلي أبو عبد الله عليه السلام نظرا
شديدا قال: فقلت: جعلت فداك إنه مجوسي أمه أخته فقال: أو ليس ذلك في
دينهم نكاحا؟ (1).
وهنا أيضا وإن لم يكن تعرض بالنسبة إلى الحد أو التعزير إلا أنه ظاهر في
الحرمة والمعصية.
وعن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله إني قلت لأمتي: يا زانية فقال: هل
رأيت عليها زنا؟ فقالت: لا، فقال: أما إنها ستقاد منك يوم القيامة فرجعت
إلى أمتها فأعطتها سوطا ثم قالت: اجلديني فأبت الأمة فأعتقتها ثم أتت إلى
النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته فقال: عسى أن يكون به (2).
ويستظهر من هذا ترتب الحد أو التعزير مضافا إلى الحرمة، كما يستفاد منه
أيضا أنه لو عفى صاحب الحق فلا بأس به ويسقط بذلك الحد.
لا يقال: إنه يستفاد منه أيضا أن أمر الحد أو التعزير يكون بيد غير الحاكم
أيضا لأنه يقال: لا دلالة له على ذلك لأنه وقع الأمر وتحقق تحت نظر النبي
الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وبإمضائه صلوات الله عليه.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد القذف ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد القذف ح 4.
147

وكيف كان ليس المقصود من جواز قذف الكفار جوازه على الاطلاق بل في
الجملة فإن الأخبار على طوائف مختلفة، وسيأتي كلام آخر في ذلك - في البحث
عن المقذوف فانتظر.
هذا بالنسبة إلى الكافر وأما المبتدع فيجوز ذكره بسوء لأنه مستحق
للاستخفاف ففي رواية داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا
البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في
الفساد في الاسلام - ويحذر هم الناس - ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم
بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة (1).
ترى أنه قد جوز بمقتضاها البهتان والافتراء عليهم وحيث إن الكذب غير
جائز فلا بد من القول بأنه قد جوز الكذب هنا للمصلحة وهي سقوط اعتبار
المبتدع وكسر جاهه في أنظار الناس كيلا يميلوا إليه فيضلوا به وإلا فالبهتان
والكذب ليسا بجائزين (2).

(1) وسائل الشيعة ج 11 ب 39 من أبواب الأمر بالمعروف ح 1.
(2) كأنه دام ظله العالي كان قاطعا بأن قوله عليه السلام: باهتوهم بمعنى البهتان والحال أنه
محل البحث فإنه أن: بهته بهتا أي أخذه بغتة.
وقال العلامة المجلسي قدس سره في مرآة العقول ج 11 ص 81 بشرح الخبر: والظاهر أن
المراد بالمباهتة إلزامهم بالحجج القاطعة وجعلهم متحيرين لا يحيرون جوابا كما قال تعالى:
فبهت الذي كفر، ويحتمل أن يكون من البهتان للمصلحة فإن كثيرا من المساوي يعدها أكثر
الناس محاسن خصوصا العقائد الباطلة والأول أظهر قال الجواهري: بهته بهتا أخذه بغتة
وبهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير إلخ.
وقال في رسالته الفارسية الموسومة ب حدود وقصاص وديات ص 28: عند ذكر الرواية:
وبر ايشان حجت تمام كنيد تا ايشان طغيان نكنند در فاسد كردن دين اسلام.
وترى أن صاحب الرياض بعد نقل الرواية قال: ولا تصح مواجهته بما يكون نسبته إليه
كذبا لحرمته وإمكان الوقيعة فيه من دونه إلخ.
148

وأما المتجاهر بالفسق فجواز إهانته مما نص عليه في الأخبار (1).
ففي رواية هارون بن الجهم عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام: قال:
إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة (2).
(وعن قرب الإسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: ثلاثة
ليس لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع والإمام الجائر والفاسق المعلن
بالفسق) (3).
نعم غيبته في غير ما تجاهر به من المعاصي مشكل فيقتصر في غيبته على
المعصية المتجاهر بها.
فتحصل أن التعريض والنسبة السوء إلى الأشخاص يوجب التعزير إن
حصل شرائط التعريض لا مع عدمه وهو في مورد الكافر الرؤية والاطلاع على
ما رأيت في بعض الأخبار الماضية (4) وفي مورد الفساق الفسق المتجاهر بها وفي
غيرهما البدعة في الدين.
ثم لا يخفى أن المحقق رحمه الله نفى في هذا المقام كلا من الحد والتعزير فقال:
لا حد ولا تعزير، وقال في البحث عن المقذوف وعند اشتراطه فيه البلوغ وكمال
العقل والحرية والاسلام والعفة: فمن استكملها وجب لقذفه الحد ومن فقدها أو
بعضها فلا حد وفيه التعزير انتهى.
فحيث إنه صرح بلزوم تعزير القاذف إذا قذف الكافر مثلا فلا بد أن يكون
قوله في المقام: (فلا حد ولا تعزير) متعلقا ومربوطا بالتعريض وعليه فمعنى
الكلام أن التعريض الذي لو كان بالنسبة إلى المسلم لكان موجبا للتعزير

(1) وعن الغنية الإجماع عليه.
(2) وسائل الشيعة ج 8 ب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 4
(3) وسائل الشيعة ج 8 ب 154 من أبواب أحكام العشرة ح 5.
(4) وقد علمت أن تلك الأخبار واردة في قذف الكافر ومتعلقة بحدة لا تعزيره اللهم إلا أن
يتمسك بتنقيح المناط.
149

فلا يوجب ذلك إذا كان بالنسبة إلى الكافر فلا تعزير هنا كما لا حد.
تعزير من قال ما يوجب الأذى
قال المحقق: وكذا كل ما يوجب أذى كقوله: يا أجذم ويا أبرص.
أقول: إن ذكر هذه الجملة هنا زائد لا حاجة إليها أصلا بعد أن صرح بأن
الملاك الكلي هو كراهة المواجه فكان ينبغي له أن يقتصر على ذكر المثالين عطفا
على الأمثلة المتقدمة.
ومجرد كونهما راجعين إلى العيوب الجسمانية ومن باب نسبة المواجه إلى عيب
في بدنه لا يوجب أداء المطلب على النحو المزبور (1).
ثم إنه لا يبعد عدم الفرق في حرمة التعريض بين ما إذا كان المواجه فطنا
متوجها وما إذا كان بحيث لا يدرك الخير والشر أو كان بحيث لا يبالي بما قال ولا
ما قيل فيه (2).
بحث في التعزير
ثم إنه لما انجر الكلام إلى تعزير من رمى بما فيه تعريض وإيذاء للغير فقد
ناسب أن نبحث في التعزير مطلقا سواء كان من هذا المورد أو غيره.
فنقول: هل يمكن القول بوجوب التعزير في كل الذنوب والمعاصي أم لا؟ ولا
أقل أن نقول: إنه يترتب على كل الكبائر أم لا؟ بعد أن علم ترتب التعزير على

(1) قاله دام ظله العالي جوابا عما أوردته من أن هذا البحث ممتاز عن سابقه باعتبار تعلقه
بنسبة أحد غيره إلى ما كان من عيوبه الجسمانية.
(2) إذا كان الملاك هو الإيذاء فلا يخلو ما أفاده دام ظله في الفرضين الأخيرين عن كلام
فتأمل.
150

الايذاء والإهانة بمقتضى الأخبار السابقة. يمكن أن يقال باستفادة ذلك منها
بلحاظ ذكر أشياء أخر فيها أيضا يوجب التعزير كما هو المصرح به فيها.
ففي رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: آكل الميتة
والدم ولحم الخنزير عليه أدب فإن عاد أدب فإن عاد أدب وليس عليه حد (1)
وعن أبي بصير قال: قلت: آكل الربا بعد البينة قال: يؤدب فإن عاد أدب
فإن عاد قتل (2).
بل لعله ورد التعزير (3) في بعض الصغائر أيضا كما أنه قد ورد موارد لم يقع
هناك تعزير فقد روى أن الخثعمية أتت رسول الله عليه وآله في حجة الوداع
تستفتيه في الحج وكان الفضل بن عباس رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
فأخذ ينظر إليهما وأخذت تنظر إليه فصرف النبي صلى الله عليه وآله وجه
الفضل عنها وقال: رجل شاب وامرأة شابة فخشيت أن يدخل بينهما
الشيطان (4).
ترى أنه صلوات الله عليه صرف وجه الفضل ولم يعزره.
وعلى الجملة فلم يرد نص يدل على أن كل من فعل ذنبا وأتى بمحرم يعزر بل
من يقول بذلك فإنما هو من باب الاستظهار والاستفادة من تلك الروايات

(1) الكافي ج 7 ص 247.
(2) الكافي ج 7 ص 242 ح 9.
(3) وهنا موارد أخر صرح في الروايات بالتعزير فيها، منها: مطاوعة المرأة لزوجها في إفطار
رمضان فإنه يضرب كل واحد منهما خمسة وعشرين سوطا. الكافي 7 ص 242 ح 12.
ومنها: إتيان الأهل وهي حائض فإنه يضرب خمسة وعشرين سوطا الكافي 7 ص 242 ح 13.
ومنها: شهود الزور كما في رواية سماعة ح 16 إلى غير ذلك من الموارد بل ذكر المجلسي
قدس سره في رسالته الفارسية في الحدود والقصاص ح 60 أن التعزير على خمسين نوعا ثم
ذكر تلك الموارد وبعد أن فرغ منها قال في ص 66: لم يضبط التعزيرات على النهج المذكور في
هذه الرسالة في كتاب أحد من علماء السلف رضوان الله عليهم بل لم يذكروا عشرا منها وإنما
ذكروا بعضا منها متفرقة.
(4) المبسوط ج 4 ص 160.
151

ونظائرها والأمثلة المذكورة فيها وعلى هذا فيترتب التعزير على فعل المعصية بما
يراه الحاكم مصلحة.
وحينئذ فلو استفيد من تلك الأخبار الواردة في المعاصي الخاصة أن الملاك
الكلي والمعيار الوحيد هو الذنب وإنما كان ذكر هذه الأمور من باب المثال فلا
كلام وإلا فيشكل الأمر في التعزير على مطلق المعاصي.
والانصاف أن مجال الاشكال في استفادة ذلك منها واسع وذلك لوجهين:
أحدهما ما ذكره البعض من أنه لا يستفاد منها ترتب التعزير على كل ذنب من
جهة اختلاف المراتب.
وهذا الاشكال وارد جدا فترى الاختلاف الفاحش في المعاصي بحسب
العقوبات والفساد المرتب عليها فمنها ما يوجب الرجم، ومنها ما يوجب القتل
ومنها ما يوجب القطع، ومنها ما يوجب الجلد، ومنها ما يترتب عليه عقوبة
واحدة، ومنها ما يترتب عليه عقوبتان، بل وربما يختلف عقوبات أقسام من
معصية واحدة وهكذا ولا شك في أن هذه الاختلافات كاشفة عن اختلاف
مراتب المعاصي ومبغوضيتها وأنها ليست على نسق واحد فالقول بأن الملاك هو
الذنب وأن ما ذكر في الروايات كان من باب المثال بلا خصوصية أصلا وإنما
ذكرت هذه الأمثلة لمصالح وجهات عارضية مثلا لا يخلو عن إشكال
بل ومن هذا يظهر الاشكال فيما ذكرناه سابقا من ترتب التعزير على الايذاء
فإن هذا أيضا بإطلاقه غير تام ويشكل الالتزام بأن كل أذية قليلة كانت أو
كثيرة وفي أي حالة من الحالات توجب التعزير نعم لا شك في حرمة إيذاء
المؤمن وأما التعزير مطلقا فمشكل لاختلاف مراتب الأذية ولذا قد صار أمر
التعزير موكولا إلى الحاكم حتى يختار ما هو الأصلح والمناسب قليلا أو كثيرا بل
وجودا وعدما.
والحاصل أنه يشكل الحكم بأن ملاك التعزير هو جامع الذنب، وذلك لأنه
ربما لا يصلح له إلا التعزير وآخر لا يصلح له إلا التوبة.
152

ثانيهما: ثبوت موارد قد تحققت المعصية ولم يحكم المعصوم عليه السلام
بالتعزير ومنها ما تقدم سابقا في مسألة: لا يرجم من كان لله عليه حد (1) من نداء
الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله عند رجم المرأة التي أقرت بالزنا:
إن من لله عليه حد مثل الحد الذي عليها فإنه لا يقيم الحد، وقد ورد هناك أنه
انصرف الناس كلهم ما خلا أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام.
وقد وقع مثل ذلك في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام غير مرة. ترى
التصريح في هذه الأخبار بانصراف الناس ورجوعهم جميعا ولم يرد فيها أن
الإمام عليا عليه السلام قد أمر بتعزيرهم مع إقرارهم بالمعصية عملا.
استدلالان آخران على وجوب التعزير لكل معصية
ثم إن هنا أمران آخران قد يستدل بهما في إثبات التعزير على كل ذنب.
أحدهما حفظ النظام. تقريره أن الاسلام قد اهتم بحفظ النظام المادي و
المعنوي وإجراء الأحكام على مجاريها ومن الطبيعي أن هذا يقتضي أن يعزر
الحاكم كل من خالف النظام.
ثانيهما: الروايات الدالة على أن لكل شئ حدا ومن تعدى ذلك الحد كان
له حد (2).
وقد حكى بعض المعاصرين قدس سره الأمر الأول ثم قال: ويدل عليه
أيضا النصوص الخاصة الواردة في موارد مخصوصة الدالة على أن للحاكم التعزير
والتأديب حتى في الصبي والمملوك إلخ (3).
ومع ذلك فقد أورد عليه بقوله: ويمكن أن يقال: ما ذكر في حفظ النظام يمكن

(1) راجع الدر المنضود ج 1 ص 433 ووسائل الشيعة ج 18 ب 31 من مقدمات الحدود ح 1
و 2 و 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
(3) جامع المدارك الطبع 1 ج 7 ص 97 و 98.
153

فيه الاكتفاء بالنهي عن المنكر وأما لزوم التعزير فلا يستقل به العقل.
ونحن أيضا نقول: إنه وإن كان أصل الكلام والكبرى الكلية جيدا لا يقبل
الانكار والاشكال فإنه لا شك في أنه لا بد من الاحتفاظ على نظام أمور الأمة
مادية ومعنوية وإقامة قوائم عرشه على الكاهل ولا يجوز لأحد أن يحدث ما يخل
بنظام الأمة الاسلامية فإن القوانين الإلهية والمناهج الدينية والأنظمة الشرعية
كلها مجعولة ومقررة لايجاد النظم في المجتمع واستقراره في العالم الاسلامي فإن
القتل يوجب تلف النفوس، والزنا يوجب ضياع النسل وهكذا سائر المحرمات
الشرعية يوجب خللا في ناحية من العيش وبالجملة فهذا مما لا ريب فيه ولا شبهة
تعتريه. إلا أن الله تعالى قد قرر طرقا ومناهج لحفظ النظام وصيانته كالحدود
المقررة والعقوبات الخاصة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراحلهما
ومراتبهما المختلفة، وأما حفظه بشئ آخر غير ما جعله الشارع من الحدود،
والتعزيرات في موارد منصوصة في الكتاب أو السنة، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر في غير تلك الموارد فلا يستقل به العقل، ويشكل جدا - في موارد لم
يجعل له الشارع عقوبة حدا أو تعزيرا ولم ينص بها - القول بوجوب هذه العقوبة
الخاصة أعني التعزير مع عدم العلم بوصوله من الشارع أو العلم بالعدم.
وعلى الجملة فالعقل مستقل بقبح الاخلال في النظام ومنعه ولزوم حفظه
وبقائه لكن الشارع قد أقدم على طرق الاحتفاظ به - بإتيان الواجبات وترك
المحرمات - بما قرره بلسان القرآن الكريم: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير
ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (1) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة
والروايات الشريفة الواردة في هذا الموضوع فإن الهدف من الأمر والنهي هو
الحفاظ على الواجبات وردع الناس عن المحرمات كما أن من الطرق التي سلكها
الشارع للوصول إلى هذا الهدف هو ما أوعد به من العقوبات في الآخرة والعذاب
الأليم والنكال الدائم، ومن العقوبات هي التي قررها في هذا العالم على بعض

(1) سورة آل عمران الآية 104.
154

المعاصي بعنوان الحدود وفي قسم منها بعنوان التعزير فعلى الحاكم أن يمنع من
ترك الواجبات واقتراف المحرمات بالطريق المقرر المجعول بلا شبهة وهو الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر عندما لم يكن من موارد الحد والتعزير المنصوصة في
لسان الكتاب أو السنة وأما أنه هل أجاز جعل طريق آخر لذلك مع أنه لم يرد
دليل من الشارع فهو مشكل.
وبتعبير أوضح من هذا: إن دفع الاختلال الواجب عقلا إذا أمكن بإجراء
ما قرره الشارع وإقامة مقرراته فلا يمكن القول بدفعه من طريق آخر غير
واصل من الشارع الحكيم فإن مجرد حكم العقل بلزوم حفظ النظام ودفع ما يخل
به لا يقتضي ذلك أصلا.
اللهم إلا أن يثبت للحاكم ولاية مطلقة تشمل جعل الأحكام أيضا وهو
مشكل بالنسبة إلى النبي والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين فضلا عمن
سواهما.
ومما ذكرنا في هذا المقام يتضح الأمر في كيفيات التعزيرات وأنه هل يجوز
التعدي عما ورد إلى مطلق ما يوجب ردعه عن المعصية ويؤثر في حفظ النظام
كالحبس والجريمة المالية وغير ذلك؟.
فإن الظاهر عدم ذلك لأن الفقيه ليس بيده الجعل وإلا فلو فرض في مورد أن
قطع أذن السارق أنفذ وأشد تأثيرا من قطع يده المذكور المقرر في القرآن
الكريم، أو أن أخذ مبلغ كثير من الزاني كان أشد تأثيرا عليه من جلده مأة،
لكان اللازم أن نقول: إن له أن يعدل من قطع اليد إلى قطع الأذن ومن الجلد إلى
أخذ مال كثير منه، وهل يمكن الالتزام بذلك والتفوه به؟.
فتحصل أنه لو نص في موارد على حد معين وعقوبة خاصة فهو، كما أنه في
موارد قرر الشارع فيها تعزيرا خاصا أو أنه أوجب أو أجاز الحبس أو حكم
بالكفارة التي هي نوع جريمة مالية، يقال بمقتضاها أما في غير ذلك فلا بد من
الأخذ بالمقرر العام وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا مجال للتمسك
155

بحفظ النظام في تجويز التعزير عند عدم ورود ذلك من الشرع وما لم يثبت ولاية
عامة للفقيه تشمل جعل الأحكام.
ثانيهما: الروايات الدالة على أن لكل شئ حدا فعن سماعة عن أبي عبد الله
عليه السلام قال: إن لكل شئ حدا ومن تعدى ذلك الحد كان له حد (1).
وفيه أن إثبات المطلوب بهذه مشكل وذلك لأنه أولا أن الخبر بحسب ظاهره
شامل لكل شئ ومن المعلوم أنه ليس كل الأشياء كذلك إلا أن يكون المراد من
كل شئ كل معصية من فعل الحرام وترك الواجب. وثانيا إن الرواية مجملة لعدم
معلومية المراد من الحد فهل هو الحد المصطلح أو المراد منه المقدار فإن ما كان له
مقدار معين وكان له انتهاء فله حد وهو محدود ومن المعلوم أن كل ما هو غير الله
تعالى فله حد ومقدار وبداية ونهاية وإنما الله سبحانه هو الذي ليس له حد
محدود ولا ابتداء ولا انتهاء، أو أن المراد من الحد هو ما يقال: إن للبذل والانفاق
حدا وللمحبة حدا وللعداوة حدا؟ ومع هذا الاجمال كيف يتمسك بها.
فلو كان المراد من الحد العقوبة المقررة على المعاصي من الله تعالى لكانت
الرواية دالة على المقصود، وأما مع احتمال شئ آخر - على ما ذكرنا - كاحتمال
(كل شئ) لغير ما ذكر فلا.
وبعبارة أخرى الأمر دائر بين أن يكون الحد قرينة على كون المراد من
الشئ، المحرم أو أن يكون (كل شئ) قرينة على كون المراد من الحد الانتهاء
فلو لم تكن القضية ظاهرة في الثاني فلا أقل من إجمالها المانع من التمسك بها.
إن قلت: إن الظاهر من الرواية تركيبها من صغرى وكبرى فإن مفادها أن
كل شئ أي أي موضوع من الموضوعات محكوم بحكم من الأحكام الإلهية

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدمات الحدود ح 2 أقول: إنه ذكر دام ظله وجهين
في الإشكال على التمسك بهذه الروايات وقد ذكرهما بعض أكابر العصر قدس سره في جامع
المدارك ج 7 أحدهما في ص 121 والآخر في ص 98 فراجع نعم في بيان سيدنا الأستاذ الأكبر
دام ظله مزيد احتمال وبيان كما لا يخفى.
156

ومن تجاوز هذا الحكم والحد والقانون فأخرج المباح إلى الحرام أو الواجب أو
بالعكس مثلا فإن عليه الحد. فالحد الأول هو القانون والحكم، والحد الثاني هو
العقوبة الإلهية الشاملة للحد والتعزير، وإطلاق الحد على الأعم ليس بنادر (1).
نقول: إن إطلاق الحد في الجملة الأولى على الحكم مجاز وخلاف الظاهر
فلا يصار إليه بدون دليل وقرينة.
هذا تمام الكلام في المقام، وغير خاف عليك أن المحقق قدس سره قال في
أول البحث في القذف بأن النظر في أمور أربعة الأول في الموجب إلخ فهذه
المطالب كانت بالنسبة إلى النظر الأول وهنا تصل النوبة إلى النظر الثاني.
الكلام في القاذف وما يعتبر فيه
قال المحقق: الثاني في القاذف ويعتبر فيه البلوغ وكمال العقل فلو قذف الصبي
لم يحد وعزر وإن قذف مسلما بالغا حرا.
أقول: وادعى في الجواهر عدم الخلاف بل الاجماع بقسميه على اعتبار

(1) أورده هذا العبد يوم 20 من الربيع الثاني سنة 1408 ه‍ في مجلس الدرس وأجاب دام ظله
بما أتينا به المتن ومع ذلك ففي النفس شئ وذلك لأنه قد وردت الجملة المزبورة في رواية
أخرى وهي تشتمل على جملات تشهد أو تؤيد كون المراد ما ذكرته وهي رواية عمرو بن
قيس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا عمرو بن قيس أشعرت أن الله أرسل رسولا
وأنزل عليه كتابا وأنزل في الكتاب كل ما يحتاج إليه وجعل له دليلا يدل عليه وجعل لكل
شئ حدا ولمن جاوز الحد حدا (إلى أن قال:) قلت: وك ف جعل لمن جاوز الحد حدا؟ قال: إن
الله حد في الأموال أن لا تؤخذ إلا من حلها فمن أخذها من غير حلها قطعت يده حدا لمجاوزة
الحد وإن الله حد أن لا ينكح النكاح إلا من حله ومن فعل غير ذلك إن كان عزبا حد وإن كان
محصنا رجم لمجاوزة الحد انتهى بل ويشعر بذلك خير علي بن رباط فراجع ب 2 من مقدمات
الحدود ح 3 و 2.
157

البلوغ والعقل في القاذف.
ويدل على عدم حد الصبي إذا قذف غيره حديث رفع القلم فإنه يدل على أنه
لا تكليف عليه إذا فلا يقام عليه هذا الحد ولا غيره من الحدود.
ولا يخفى عليك أن مقتضى رفع القلم الذي معناه رفع قلم التكليف أنه
لا عقاب عليه ولا تكليف إلا أنه لا يدل على رفع ما كان مقدمة لترك المعصية في
القابل وإلا فلما ذا حكم بتعزيره؟ ومن المعلوم أن حديث الرفع ليس مما يقبل
التخصيص بل هو بظاهره آب عن ذلك فلا بد من عدم شموله من أول الأمر
لذلك.
واستشكل بعض المعاصرين قدس سره في دلالة حديث الرفع على اعتبار
البلوغ وعدم الحد على الصبي بأن رفع التكليف لا يلازم رفع الحد قال: أما
التمسك بحديث الرفع فمع ثبوت التعزير والتأدب عليه لا يخلو عن الاشكال
وبعبارة أخرى يمكن أن يقال: إن القذف سبب لاستحقاق الحد وإن كان جائزا
كما لو اجتمع أربعة شهود على الشهادة بالنسبة إلى رجل بالزنا واتفق تردد
واحد منهم وقت الشهادة فالثلاثة معذورون في الشهادة لجوازها باعتقادهم
ومع ذلك يحدون فسقوط التكليف لا يوجب سقوط الحد كلزوم الجنابة من جهة
المباشرة قبل البلوغ فتأمل (1).
لكن الظاهر عدم ورود ما أورده، وذلك لأن العرف يفهم من التكليف رفع
الحد أيضا وإن أمكن التفكيك بينهما عقلا.
وأما ما أفاده من النقض ففيه أنه فرق بين المقام وبين مادة النقض أي الثلاثة
الذين شهدوا مع تردد الرابع الذي حكموا فيه بحد الثلاثة.
بيان الفرق أنهم كانوا على يقين من جواز الشهادة حيث كانوا يرون تمام
الشهود فقد أقدموا على إقامتها من باب الجهل المركب لأنهم كانوا يعتقدون
كونهم موضوعا للشهادة مع عدم كونهم في الواقع، موضوعا فلم يكن يجوز لهم

(1) جامع المدارك ج 7 ص 99.
158

الشهادة في الواقع وحيث إنه كان إقدامهم للجهل المركب فلا تكليف ولا عقاب
لكن ذلك لا ينافي لزوم الحد عليهم لعدم كونهم موضوعا للشهادة.
وهذا بخلاف المقام فإن الظاهر من قوله صلوات الله عليه: رفع القلم عن
الصبي حتى يحتلم (1) أن الصبي قبل الاحتلام لا شئ عليه أصلا فلا تكليف
ولا حد ولا تعزير والحاصل أنه لا إشكال في التمسك بروايات الرفع لرفع الحد عن
الصبي.
ثم إنه استدل على عدم الحد على الصبي بقذفه برواية فضيل بن يسار قال:
سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لا حد لمن لا حد عليه يعني: لو أن مجنونا
قذف رجلا لم أر عليه شيئا ولو قذفه رجل فقال: يا زان لم يكن عليه حد (2).
والظاهر أن جملة: يعني إلخ من كلام الإمام عليه السلام فإنه يبعد أن يكون
الرواي قد أدخل رأيه وفتوى نفسه المستفاد من قوله: لم أر عليه شيئا، في قول
الإمام عليه السلام.
وكيف كان فهو من باب المثال وذكر أحد المصاديق وإلا فالملاك هو الكلي
المذكور في الصدر، ولا شك أن الصبي أيضا من مصاديق هذا الكلي الجامع.
ويدل على المطلب أيضا خبر أبي مريم الأنصاري قال: سألت أبا جعفر عليه
السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال: لا وذلك لو أن رجلا
قذف الغلام لم يجلد (3).
وكذا خبر يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل بالغ
من ذكر أو أنثى افترى على صغير أو كبير أو ذكر أو أنثى أو مسلم أو كافر أو حر
أو مملوك فعليه حد الفرية وعلى غير البالغ حد الأدب (4).

(1) وسائل الشيعة ج 1 ب 4 من أبواب مقدمة العبادات ح 11 عن أمير المؤمنين عليه
السلام.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من مقدمات الحدود ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد القذف ح 1.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد القذف ح 5.
159

نعم مقتضى هذا الخبر أن البالغ إذا قذف الصغير يحد كما إذا قذف الكبير ومن
المعلوم أن قذف الصغير لا يوجب الحد ولذا قال الشيخ قدس سره: ما تضمن
هذا الخبر من إيجاب الحد على من قذف صبيا محمول على أنه قذفه بنسبة الزنا
إلى أحد والديه كأن يقول: يا بن الزاني أو الزانية أو زنت بك أمك أو أبوك، لأن
ذلك يوجب عليه الحد على الكمال... (1).
لكن فيه أنه خلاف الظاهر جدا فإن الظاهر من العبارة هو افتراء الكبير على
الصغير وكون الصغير بنفسه مفترى عليه، والحق أن طرح هذا الخبر أولى من
الجمع كذلك لدلالة أخبار متعددة على عدم حد من قذف الصبي.
وكيف كان فإذا قذف القاذف غير البالغ فلا يقام عليه الحد وأما لزوم تعزيره
أو تأديبه وعدم ذلك فهو أمر آخر لسنا بصدده في هذا المقام - وقد مر ما يناسب
ذلك فراجع.
ثم إنك قد علمت أن صاحب الجواهر استدل لقول المحقق باعتبار البلوغ في
الحد بعدم الخلاف، والاجماع وحديث رفع القلم وغير ذلك وحيث إن المحقق
حكم بتعزيره - أي تعزير القاذف الذي كان صبيا -
قال في الجواهر: مع تمييزه على وجه يؤثر التعزير فيه، كفا عن مثل ذلك
انتهى فقد جعل الدليل على لزوم تعزيره هو كفه عن مثل ما فعله، فليس هو
كالأول أي عدم حده الذي دلت عليه النصوص فليس في ما ذكر من الروايات
ذكر عن التعزير.
هذا مضافا إلى عدم تحقق سيرة المتشرعة على تعزير أطفالهم على كل ما
يفعلونه من الآثام والذنوب.
وعلى الجملة فهذا البحث جدير بالتأمل والتحقيق، وحقيق بالنظر والتدقيق
كي يتضح ما هو الوظيفة الآن بالنسبة إلى الصغار من الأولاد وأنه هل يلزم
تعزيرهم على كل ما يصدر عنهم من الذنوب والمعاصي أم لا؟.

(1) التهذيب ج 10 ص 89.
160

والظاهر هو الثاني فلم يعهد من حال المتشرعة أنهم كانوا يعزرون أطفالهم
على ذلك بل وربما يظهر من بعض الكلمات خلاف ذلك.
وترى أن السيد الفقيه الطباطبائي قدس سره يقول عند البحث عن أكل
النجس والمتنجس: وأما المتنجسات فإن كان من جهة كون أيديهم نجسة
فالظاهر عدم البأس به وإن كان التنجس من جهة تنجس سابق فالأقوى جواز
التسبب لأكلهم وإن كان الأحوط تركه، وأما ردعهم عن الأكل أو الشرب مع
عدم التسبب فلا يجب من غير إشكال انتهى (1).
إن قلت: قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مروا صبيانكم
بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا تسعا... (2).
نقول: نعم ولكن هل ورد: اضربوهم على الصوم مثلا وغير ذلك؟.
لا يقال: إن الأمر مختص بباب القذف فلو قذف صبي وجب تعزيره لا أنه
يعزر الصبي على مطلق الذنوب التي أتى بها مثلا.
لأنا نقول: من أين يحكم بذلك في قذفه إذا لم يرد فيه خبر أو أي دليل؟.
وليعلم أنا لسنا بصدد إثبات عدم ورود تعزير الأطفال أصلا بل المقصود أنه
لا وجه لتعزيرهم على كل ما صدر عنهم من الذنوب، وذلك لعدم إمكان إثبات
ذلك وإلا فقد ورد النص بتعزيرهم في بعض الموارد كباب اللواط والسرقة.
ففي رواية أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أتي أمير
المؤمنين عليه السلام بامرأة وزوجها، قد لاط زوجها بابنها من غيره وثقبه
وشهد عليه بذلك الشهود فأمر به عليه السلام فضرب بالسيف حتى قتل
وضرب الغلام دون الحد وقال: أما لو كنت مدركا لقتلتك لامكانك إياه من
نفسك بثقبك (3).

(1) العروة الوثقى في أحكام النجاسات فصل يشترط في صحة الصلاة... مسألة 33.
(2) جامع أحاديث الشيعة ج 4 ص 42 ومثله في ص 43.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد اللواط ح 1.
161

ويستفاد من قوله عليه السلام: لامكانك إياه، أنه كان مميزا كما اشترط
تمييزه في الجواهر وإلا فليس عليه التعزير.
وأما الخبر الوارد في تعزيره على السرقة فهو عدة روايات مذكورة في ب 28
من أبواب السرقة ويأتي ذكرها في موضعه إن شاء الله تعالى.
والحاصل أنا نقول بتعزيره في هذه الموارد لكن لا يستفاد من الأخبار الواردة
في الموردين حكم كلي ينفعنا في جميع الموارد فالتعدي إلى كل المعاصي ومنها
المقام مشكل ولا دليل على ما ذكره المحقق من تعزيره فيه.
اللهم إلا أن يكون في ذلك إجماع كما نقل عن الغنية أو عدم خلاف يستكشف
منه ذلك.
لكن فيه إشكالا بل سيرة المتشرعة على خلاف ذلك ولا نرى أحدا يعزر
الصغار بترك الصوم مثلا قبل التكليف وإن كانوا يأمرونهم بالصلاة للتمرين
لكنهم لا يعزرونهم ولذا ترى أن صاحب الجواهر لم يتمسك هنا بالاجماع ولا
برواية كما أن صاحب الرياض قال في المقام: ووجه التعزير فيهما مع القيد - قيد
التميز - حسم مادة الفساد وهو الأصل في شرعية الحدود والتعزيرات وإلا فلم
أجد نصا بتعزيرهما هنا انتهى.
هذا ولكن قد علمت أن من جملة الأخبار الواردة في المقام خبر يونس - ب
5 ح 5 من باب القذف - وفيه: كل بالغ من ذكر أو أنثى افترى... فعليه حد
الفرية وعلى غير البالغ حد الأدب. وهو صريح بأن الصبي المفتري أي القاذف
يجب حده.
وأما اشتمال الخبر على الحكم المخالف للقواعد الشرعية فهو غير قادح في
المطلب لأنه لا يسقط الخبر بذلك عن حد الاعتبار بالنسبة إلى باقي أحكامه.
وقد تحصل من هذه الأبحاث أنه لا حد على الصبي وإن قذف مسلما بالغا
حرا فضلا عن غيره.
162

الكلام في المجنون
قال المحقق: وكذا المجنون.
أي إذا قذف أحدا وكان القاذف مجنونا فلا حد عليه فإنه كما رفع القلم عن
الصبي حتى يحتلم كذلك رفع القلم عن المجنون حتى يفيق وعدم الخلاف أو
الاجماع المذكور آنفا متعلق بكل واحد منهما، ورواية فضيل بن يسار المتقدمة
ناطقة بذلك فراجع.
لكنه يعزر على ذلك وإن كان لا بد من تقييد بتعزيره - كالصبي - بكونه ممن
يرجى منه الكف بتعزيره لحصول نوع من التميز له فإنه لولا ذلك لكان تعزيره
لغوا وقبيحا عقلا.
وهنا فروع:
منها: أنه لو كان جنونه أدواريا وقد قذف في دور الصحة حد.
قال في الجواهر بعد ذلك: ولو حال الجنون - ثم قال: - مع احتمال تأخره إلى
دور العقل.
ومثله ما لو قذف وكان عاقلا لكنه بعد ذلك وقبل إقامة الحد عليه جن، فقد
حكم قدس سره فيه بما حكم في المجنون الأدواري فيجوز حده ولو في حال
الجنون.
وهذا في الذهن عجيب وذلك لأنه لا فائدة في إجراء الحد على المجنون إلا أنه
قد دلت على ذلك الرواية.
فعن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل وجب عليه الحد فلم
يضرب حتى خولط فقال: إن كان أوجب على نفسه الحد وهو صحيح لا علة به
163

من ذهاب عقل أقيم عليه الحد كائنا ما كان (1). يعني أنه يقام عليه الحد مطلقا ولو
في حال جنونه. وهذه الرواية وإن ورد في عاقل عرض عليه الجنون بعد ما
أوجب عليه الحد لكن لا فرق بينه وبين الأدواري في دور عقله.
ولكن هنا احتمالان يرتفع بكل واحد منهما الاستبعاد المذكور عن إقامة الحد
في حال الجنون.
أحدهما: أنه يحتمل كون المراد من: (خولط) ضعف العقل وما هو كمقدمات
الجنون لا الجنون المحض فإنه لا معنى لجلد المجنون وهو لا يدرك لماذا يجلد وما
هو الأثر المترتب على ذلك؟.
ثانيهما: أنه وإن كان الجنون هو الجنون المصطلح الخالص إلا أن المراد من
قوله: كائنا ما كان، ليس هو ما ذكر من تعميم الحكم بالنسبة إلى حال العقل
والجنون بل المراد أن الحد لا يسقط عنه مطلقا وإن كان بعد، مجنونا إلا أن ذلك
لا يلازم إيقاع الحد وإقامته أيضا في حال الجنون فلو فرض ظهور (خولط) في
الجنون فلا بد من أن يكون المراد من: كائنا ما كان، ما ذكرنا، حتى يرتفع
الاشكال ولا يراد منه الجنون وغيره عقلا وإلا فليشمل حال النوم واليقظة بل
وحال الموت أيضا.
لا يقال: إن الاطلاق بمناسبة الحكم والموضوع يشمل خصوص حالتي
الجنون والعقل دون تلك الحالات المختلفة كالنوم والموت وغير ذلك (2).
لأنا نقول: إن الاطلاق منصرف عن الضرب في حال الجنون لأنه لغو وقبيح
عقلا إذا فلا بد من أن يراد من قوله: كائنا ما كان، أن الحد عليه مطلقا إلا أنه يقام
عليه بعد إفاقته.
وعلى الاجمال فلا بد من الأخذ بواحد من هذين الاحتمالين فإن الجلد في حال
الجنون المحض مما لا يساعده العقل بل ينكره أشد الانكار.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
(2) أورده هذا العبد...
164

ومنها: إنه لو قذف ولكن وقع هناك نزاع فادعى القاذف أنه كان حين
القذف صبيا وأنه وقع القذف حين صباه، وقال المقذوف بأنه قذف في حال
كبره، أو أنه مع اعتوار حال جنون قطعا ادعى القاذف صدور القذف عنه وهو
مجنون وأنكر ذلك المقذوف مدعيا أنه وقع منه حال الإفاقة والسلامة فما هو
الحكم هناك؟ - بعد وضوح الثمرة المترتبة على هذا الاختلاف لأنه لو ثبت
وقوعه في حال الكبر أو السلامة لو جب حده للقذف وإلا فلا -.
قال العلامة في القواعد: قدم قول القاذف ولا يمين انتهى.
وقد وجهه في الجواهر بقوله: ولعله للشبهة بعد عدم الالتفات إلى الأصول
هنا إلخ.
أقول: أما عدم اليمين في المقام فلعدم مشروعيته فيه - للروايات (1). ولابتناء
الأمر على التخفيف والاكتفاء بالشبهة في الدرء.
وأما التمسك بدرء الحدود للشبهة فلعله لتعارض الأصل في إحدى الناحيتين
بالأصل في الأخرى فيسقطان ويرجع إلى قاعدة الدرء.

(1) عن أبي عبد الله قال: أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام برجل فقال: هذا
قذفني ولم تكن له بينة فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه، فقال: لا يمين في حد ولا قصاص في
عظم. وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من مقدمات الحدود ح 1.
عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: قال لا يستحلف صاحب الحد، وسائل الشيعة
ح 2.
عن إسحاق بن عمار عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: إن رجلا استعدى عليا
عليه السلام على رجل فقال: إنه افترى علي فقال علي عليه السلام للرجل: أفعلت ما
فعلت؟ فقال: لا، ثم قال عليه السلام للمتعدي: ألك بينة؟ قال فقال: ما لي بينة فاحلفه لي
قال علي عليه السلام: ما عليه يمين وسائل الشيعة ح 3.
وقال رسول الله صلى عليه وآله: ادرأوا الحدود بالشبهات ولا شفاعة ولا كفالة
ولا يمين في حد. وسائل الشيعة ح 4.
165

ويمكن الاشكال بعدم التعارض في المقام حيث إن أصالة عدم كون القذف في
حال الصغر لا تثبت كون القذف في حال الكبر فإن هذا أثر عقلي لها وليس أثرا
شرعيا لها كي يترتب عليها وهذا بخلاف أصالة عدم القذف في حال الكبر فإنه
يترتب عليها عدم الحد فهذا الأصل جار دون الآخر.
نعم هنا كلام وهو أنه إذا توافق الأصل وقاعدة الدرء فهل هناك تقدم وتأخر
أم لا؟ والظاهر أن الأصل يقدم عليها وذلك لأن الدرء موقوف على الشبهة،
ولا شبهة مع جريان الأصل الموضوعي كي تدرء فإن مقتضاه الحكم بعدم قذفه
في حال الكبر فلم يكن هناك شبهة أصلا.
في اشتراط القصد
ثم إنه يعتبر في حد القاذف القصد فلو قذف بلا قصد كما في النائم والغافل
والساهي فلا يحد.
والمراد من السهو هو سبق اللسان بأن أراد أن يقول كلمة طيبة فسبق لسانه
وألقى كلمة سوء وتفوه بنسبة الفحشاء مثلا إلى أحد.
وفي الرياض: بلا خلاف بل عليه الاجماع في التحرير وغيره وهو الحجة
إلخ (1).
وفي الجواهر: وكذا يعتبر فيه أيضا القصد ضرورة عدم شئ على غير
القاصد كالساهي والنائم والغافل، وعلى كل حال فلا حد ولا تعزير على غير
القاصد إلخ (2).
نعم يشكل الأمر في بعض الموارد فإن هذا البحث ليس منقحا كاملا لأنه إذا
ألقى الكلمة الخبيثة كلفظ: يا زاني أو: أمك زانية، لكنه ليس بصدد النسبة بل في
مقام الفحش عند النزاع والجدال أو غير ذلك فاللافظ هنا لم يقصد النسبة ولذا

(1) الرياض المسائل ج 2 ص 485.
(2) جواهر الكلام ج 41 ص 414.
166

ربما لا يثور غضب المواجه أو المنسوب إليه بذلك لأنه يعلم أن مراد القائل ليس
هو النسبة وهذا شايع في غير المبالين من الناس فلا يرون أنه نسب العمل
الكذائي إليه بل يرى أنه أتى بكلمة الفحش أو بكلام لغو فلا يرتب على ذلك أثرا
ولو كان يستظهر منها النسبة لما كان يدعه بل ربما يقدم على قتله كما وقع ذلك من
شخص كان له سلاح فقال له قائل: إن أختك كذا، فذهب وأتى بسلاحه وقتله
به.
وكيف كان فلو لم يحصل القطع بأنه من باب الفحش لا من باب القذف فلا
أقل من حصول الشبهة فيجري الأصل ويدرء عنه الحد. هذا.
ثم إنه قد أورد علينا بعض بأن مقتضى رواية زرارة هو عدم اشتراط القصد،
فإن الرواية هذه:
عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: إن عليا عليه السلام كان
يقول: إن الرجل إذا شرب الخمر سكر، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى
فاجلدوه حد المفتري (1).
فقد ذكر فيها أن السكران يحد حد القذف لأنه يفتري.
ولكن فيه أن الرواية بصدد بيان حكمة كون حد شارب الخمر ثمانين فحيث
إن السكران قد يقذف فلذا يكون حد شرب الخمر هو حد القذف لا أن يكون
هذا الحد حد قذفه بل هو حد شربه ولذا ترى أنه لو شرب الخمر وسكر لكنه لم
يقذف ولم يفتر فإنه يجلد والحال أنه على قولكم يلزم أن لا يكون عليه حد
حينئذ.
اشتراط الاختيار
ومن جملة ما اعتبروه شرطا في حد القاذف هو الاختيار فلا حد على من
أكره على القذف فأقدم عليه لذلك كما في سائر الأمور الواقعة عن إكراه فليس
الحد من قبيل الأثر الوضعي كالنجاسة التي تحصل وتحتاج إلى التطهير سواء

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد السكر ح 4.
167

تحققت بالاختيار أو بالاكراه بأن أخذ يد غيره ولوثه بالنجاسة، بل هذا يحتاج
إلى الاختيار ولم يردد أحد في سقوط الحد والتعزير إذا قذف مكرها على ذلك.
وقد ادعى في الرياض عدم الخلاف في ذلك بل الاجماع في التحرير وغيره
كالسابق.
اشتراط الحرية
قال المحقق: وهل يشترط في وجوب الحد الكامل الحرية؟ قيل: نعم،
وقيل: لا يشترط فعلى الأول يثبت نصف الحد وعلى الثاني يثبت الحد كاملا وهو
ثمانون.
ويمكن التعبير عن المسألة بأنه هل عبودية القاذف توجب نقص الحد إلى
النصف أم لا؟.
وفي المسألة قولان:
أحدهما: ما ذهب إليه الشيخ في المبسوط وابن بابويه في الهداية (1) وهو أنه
يشترط ذلك.
ثانيهما: ما ذهب إليه أكثر الأصحاب كما عبر كذلك في المسالك قال: ومنهم
الشيخ في النهاية والخلاف والمصنف في النافع وإن توقف هنا، وهو أنه لا يشترط
الحرية في ثبوت الحد الكامل بل ادعى عليه جماعة الاجماع.
وقد استدل للقول الأول بالكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على
المحصنات من العذاب) (2).
وأما السنة ففي خبر القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام

(1) الهداية ص 76 والمبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 16.
(2) سورة النساء الآية 25.
168

عن العبد إذا افترى على الحر كم يجلد؟ قال: أربعين وقال: إذا أتى بفاحشة
فعليه نصف العذاب (1).
واستدل المشهور أيضا بالكتاب والسنة:
أما الكتاب فقوله تعالى: (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم
الفاسقون) (2).
وجه الاستدلال أن لفظة: (الذين) جمع معرف باللام وهو يفيد العموم
فيشمل الحر والعبد.
وأما السنة فهي أخبار مستفيضة بل لعلها فوق ذلك وإليك هذه الأخبار:
.. عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: في الرجل: إذا قذف المحصنة
يجلد ثمانين حرا كان أو مملوكا (3).
وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحر جلد ثمانين
وقال: هذا من حقوق الناس (4).
وعن سماعة قال: سألته عن المملوك يفتري على الحر قال: يجلد ثمانين.
قلت: فإنه زنى، قال: يجلد خمسين (5).
وعن سماعة قال: إذا قذف المحصنة فعليه أن يجلد ثمانين حرا كان أو
مملوكا (6).
وعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن عبد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب القذف ح 15.
سورة النور الآية 4.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 1.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 4.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 5.
(6) وسائل الشيعة ح 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 6.
169

افترى على حر قال: يجلد ثمانين (1).
وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في مملوك قذف حرة محصنة قال:
يجلد ثمانين لأنه إنما يجلد بحقها (2).
وعن أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مملوك قذف
حرا قال: يجلد ثمانين هذا من حقوق الناس فأما ما كان من حقوق الله فإنه
يضرب نصف الحد (3).
وعن بكير عن أحدهما عليهما السلام أنه قال: من افترى على مسلم ضرب
ثمانين يهوديا أو نصرانيا أو عبدا (4).
وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا قذف العبد الحر جلد ثمانين
حد الحر (5).
ولا يخفى أن الروايات الدالة على التساوي وعدم الفرق بين الحر والعبد هنا
أكثر عددا وأجود سندا.
وأما آية الفاحشة التي أستدل بها على التنصيف ففيها أنه قد فسرت الفاحشة
فيها بالزنا أو ما يناسبه فلا تعلق لها بالمقام.
هذا مضافا إلى أنها نكرة في مقام الاثبات فلا تعم (6) وآية: (والذين يرمون
المحصنات...) إلخ مشتملة على الجمع المحلى بالألف واللام وعليه فهذه مقدمة
عليها.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 7.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 8.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 10 ومثله ح 14 فراجع.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 13.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 22 أقول: ويدل على ذلك أيضا، ح 5
من الباب اللاحق، ولا يضره عدم عمل الأصحاب بالنسبة إلى المقذوف.
(6) كما في المسالك ومفاتيح الفيض الكاشاني فراجع إن شئت.
170

وقد حملت الرواية الدالة على التنصيف على التقية (1).
قال الشيخ قدس سره: إن هذا الخبر شاذ مخالف لظاهر القرآن وللأخبار
الكثيرة التي قدمناها وما هذا حكمه لا يعمل به ولا يعترض بمثله (2).
وقال الشيخ الحر العاملي رحمة الله عليه: يمكن حمله على التقية وعلى
التعريض دون التصريح. انتهى.
ومما يوجب ترجيح الأخبار الكثيرة الدالة على التساوي هو أن بعض هذه
الروايات مشتملة على التعليل أي ذكر العلة في لزوم الحد الكامل وذلك كرواية
الحلبي ورواية الحضرمي وغيرهما فقد علل وجوب الثمانين بأن حد القذف من
حقوق الناس لا من حقوق الله حتى ينصف في العبد.
فحينئذ فالمرجح في النظر والأقوى هو القول بعدم اشتراط الحرية في المقام
وأن الثمانين حد الفرية أي القذف سواء أكان القاذف حرا أم عبدا.
نظرة أخرى في الروايات وتحقيق آخر في المقام
ثم إنا قد ذكرنا أن في المسألة قولين وآيتين وطائفتين من الأخبار. لكن
التحقيق أن روايات الباب على خمسة أصناف:
أحدها: ما يدل على التساوي بين الحر والعبد وعدم الفرق بينهما في المقام
وهو أكثرها عددا - حيث يبلغ ثلاث عشرة رواية - وأصرحها دلالة.
ثانيها: ما يدل على أن حد القذف في المملوك أربعون وهو روايتان:
إحديهما رواية القاسم المذكورة آنفا.
والأخرى رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له:
كم التعزير؟ فقال: دون الحد قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا ولكن دون

(1) أقول: قد أستشكل في سند رواية القاسم حيث إنه مجهول فلا يمكن التمسك بها ونسبه
الشيخ في التهذيب إلى الشذوذ.
(2) تهذيب الأحكام ج 10 ص 73.
171

أربعين فإنها حد المملوك إلخ (1).
لكنهما لا تقاومان الأخبار الكثيرة الدالة على أن حده هو الحد التام مع جودة
سندها ووضوح دلالتها وخصوصا اشتمالها على التعليل على ما تقدم.
ويمكن حمل خبر القاسم على عدم كون القذف هو القذف المصطلح الموجب
للحد بل كان من قبيل التعريض الموجب للتعزير، ولو لم يقبل هذا الحمل فلا بد
من الطرح - كما أن خبر حماد قابل للحمل أيضا -.
ثالثها: ما يدل على جلد العبد خمسين ففي خبر سماعة قال: سألته عن المملوك
يفتري على الحر قال: عليه خمسون جلدة (2).
وهذه أيضا معرض عنها فلا تقاوم تلك الأخبار الكثيرة ويمكن حملها على
عدم الافتراء المصطلح الموجب للحد بل ما دون ذلك.
رابعها: ما يدل على تعزير العبد في قبال الحر الذي يحد.
فعن حماد عن حريز عن محمد عن أبي جعفر عليه السلام في العبد يفتري على
الحر قال: يجلد حدا إلا سوطا أو سوطين (3).
وظاهره أنه ينقص من حد القذف الذي هو ثمانون، سوط أو سوطان لا من
حد الزنا الذي هو مأة. لكنها أيضا غير معمول بها وقد حملها الشيخ على ما لم
يبلغ القذف فلا يجب الحد بل التعزير.
خامسها: ما يدل على أن للمقذوف أن يعرى جلده.
ففي رواية محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين
عليه السلام في المملوك يدعو الرجل لغير أبيه قال: أرى أن يعرى جلده قال:
وقال في رجل دعي لغير أبيه: أقم بينتك أمكنك منه فلما أتى بالبينة قال: إن أمه

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 20.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح.
172

كانت أمة قال: ليس عليك حد سبه كما سبك واعف عنه إن شئت (1).
والظاهر أن المراد من يعرى جلده أنه ينزع ثوبه ويخلعه من ثيابه وعلى هذا
فهو نوع تعزير له.
وفي الجواهر ضبط يفري وقال في توضيحه: والفري بالفاء والراء المهملة
الشق.
ثم قال: وعن الاستبصار بالعين المهملة وأوله باحتمال أن يكون إنما يعرى
جلده ليقام عليه الحد.
ثم قال: ولا يخفى عليك بعده مع أنه لا تعرى في حد القذف انتهى.
وكيف كان فهذا الخبر أيضا غير معمول به.
قال الشيخ قدس سره: هذا الخبر ضعيف مخالف لما قدمناه من الأخبار
الصحيحة ولظاهر القرآن فلا ينبغي أن يعمل عليه على أن فيه ما يضعفه وهو أن
أمير المؤمنين عليه السلام أمر الخصم أن يسب خصمه كما سبه ولا يجوز منه عليه
السلام أن يأمر بذلك بل الذي إليه أن يأخذ له بحقه من خصمه بأن يقيم عليه
الحد إن كان ممن وجب عليه ذلك أو يعزره إن لم يكن فأما أن يأمره بالسباب قد
لك مما لا يجوز على حال (2).
وقال المحدث العاملي: ويمكن حمله على التهديد والترغيب في العفو انتهى.
أقول: ولا يمكن رفع الاشكال وتأييد هذا الخبر بمثل قوله تعالى: (لا يحب الله
الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) (3) فإن هذا متعلق بباب الغيبة مثلا لا في كل
مقام كما لا يصح التمسك في تأييده بمثل قوله تعالى: (فاعتدوا عليه بمثل ما
اعتدى عليكم) (4) فإن هذا متعلق بمثل باب القصاص والقتل والجرح،
ولا إطلاق له يشمل المقام وإلا فليقل: كل من أتى بفعل بالنسبة لكم فانتقموا منه

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 16 و 17 ورواه في التهذيب ج
10 صفحة 88 بصورة رواية واحدة.
(2) تهذيب الأحكام ج 10 ص 88.
(3) سورة النساء الآية 148.
(4) سورة البقرة الآية 194.
173

بمثل ذلك وإن كان العمل من الفحشاء (1).
وعلى الجملة فهذا الخبر فيه ما فيه ولا يمكن الأخذ به فهو أيضا مطروح.
وقد علم من هذه الأبحاث أن ما عمل به من الطوائف الخمسة هو ما دل على
الثمانين مطلقا وما دل على الأربعين في العبد إلا أن روايات الثمانين مطلقا
روايات عديدة كثيرة وأفتى بها أكثر الأصحاب حتى أن المحقق الذي توقف في
الشرايع فقد أفتى بها في المختصر النافع، في حين أنه يدل على الأربعين في العبد
رواية أو روايتان ولم يذهب إليه إلا الصدوق في الهداية والشيخ في المبسوط وهو
أيضا قد وافق المشهور في النهاية والخلاف كما صرح بذلك في المسالك إذا
فالمعول هو هذا.
لو ادعى المقذوف حرية القاذف وأنكر هو ذلك
ثم إنه على فرض اشتراط الحرية في إقامة الحد الكامل فلو تنازع القاذف
والمقذوف فادعى المقذوف حرية القاذف كي يحكم عليه بثمانين ولكن القاذف
أنكر ذلك كي ينصف الحد عليه فما هو الحكم؟.

(1) أقول: في النفس شئ وذلك لأن الأمر بالسب في جواب السب ليس مربوطا بالعبد وإنما
هو حكم مطلق شامل للحر والعبد فيبقى أن الرواية شاملة لحكمين واحد منهما خلاف الضوابط
الشرعية وقد مر مرارا أن اشتمال الخبر على حكم مخالف للقواعد والضوابط الشرعية غير
قادح بالنسبة إلى سائر فقرات الرواية وأحكامها وهذا هو مذهب سيدنا الأستاذ دام ظله
هذا لو كانت الرواية واحدة كما هو ظاهر نقل التهذيب، وأما لو كانت روايتين كما هو ظاهر
نقل الوسائل فالأمر أوضح لأن اشتمال رواية على حكم غير صحيح لا تعلق له بالحكم المذكور
في رواية أخرى وعلى الجملة فالحكم بالسب لا يوجب وهنا في الحكم بأن يعرى جلده ولا يرد
إشكال عليه من هذه الناحية كي يحتاج إلى التأييد بالآيات الكريمة حتى يجاب بأن الآيات
غير مرتبطة بالمقام فافهم.
نعم عدم عمل الأصحاب كلام صحيح وهو يوجب الوهن.
174

قال المحقق قدس سره: ولو ادعى المقذوف الحرية وأنكر القاذف فإن ثبت
أحدهما عمل عليه وإن جهل ففيه تردد أظهره أن القول قول القاذف لتطرق
الاحتمال.
أقول: وجه التردد كما في الجواهر أصل الحرية وأصل البراءة ولذا كان للشيخ
في المسألة قولان فاختار في الخلاف تقديم قول القاذف عملا بأصالة البراءة من
ثبوت الزائد على الأربعين.
لكنه في المبسوط لم يقدم أحدهما بل نقل القولين في مثل المسألة (1) وعلل
تقديم قول القاذف بما ذكر وتقديم قول المقذوف بأصالة الحرية قال: وهما جميعا
قويان.
وفي المسالك: والأقوى ما اختاره المصنف من تقديم قول القاذف لتعارض
الأصلين المقتضي لقيام الشبهة في الزائد فيسقط.
ولنا مع هؤلاء الأعلام الأفذاذ كلام وهو أنه لا مجال في المقام لجريان البراءة
وذلك لأن أصالة الحرية لا تخلو عن كونها إما عاما وأمارة كما هو الحق وإما
أصلا بلحاظ حال الشك.
فعلى الأول فهي قاعدة كلية وعام كالعمومات الأخرى فكل إنسان حر إلا
أن يعرضه ما أوجب عبوديته فلم يخلق الله تعالى الانسان عبدا إلا في خصوص
ما إذا كان الأبوان مملوكين مثلا إن لم نقل في خصوص هذا الفرد أيضا بأن كون
الأبوين مملوكين أيضا من جملة الأسباب الطارئة كما أن استصحاب العبودية
الثابتة في حق الأبوين بالنسبة إلى الولد غير صحيح لاختلاف الموضوع.
وعلى الجملة فالمقام من قبيل العام والخاص لأن كل أحد فهو حر إلا إذا ثبت
عبوديته بواحد من الطوارئ والعوارض فالحرية لا تحتاج إلى دليل وإنما المحتاج
إليه هو العبودية فهذا حكم واقعي عام وأمارة يؤخذ بها ويعمل على وفقها

(1) راجع المبسوط ج 8 ص 17.
175

بخلاف أصالة البراءة فإنها أصل أي حكم في مورد الشك وبلحاظه، ومن
المعلوم أنه مع وجود الأمارة لا تصل النوبة إلى الأصل ولا معارضة بينهما أصلا
لعدم وحدة الرتبة وعلى هذا فالحجة هو خصوص أصالة الحرية دون غيرها،
هذا على فرض كونها أمارة.
وأما على الثاني أي كونها أصلا بلحاظ حال الشك، ووظيفة للشاك بلا عناية
إلى الواقع فيجري الاشكال من ناحية أخرى وهي أنه وإن كانت أصالة الحرية
مجعولة لحال الشك إلا أنها استصحاب موضوعي، والحال أن أصالة البراءة
أصل حكمي ومن المعلوم تقديم الأول على الثاني كما في سائر المقامات فلا يجري
أصالة البراءة عن غسل ثوب شك في نجاسته وطهارته بعد أن مقتضى
الاستصحاب نجاسته بأن علم حالته السابقة وأنها كانت هي النجاسة، لتعيين
النجس بهذا الاستصحاب.
ففي المقام لا يعارض أصل البراءة أصل الحرية وإن قلنا بكونه أصلا لا
أمارة.
والحاصل أنه لا تصل النوبة إلى درء الحدود بالشبهات وذلك لعدم شبهة أصلا
أما على الأول فواضح وأما على الثاني فلتقدم الأصل الموضوعي على قاعدة
الدرء فإن بجريانه لا تبقى شبهة كي تجري قاعدة الدرء.
ثم إنه يجري كل ما ذكر هنا، في ما إذا اختلف القاذف والمقذوف بأن قال
القاذف: أنت عبد فلا حد علي وادعى المقذوف خلافه وقال: أنا حر فعليك
الحد. وذلك لأن الملاك واحد وإنما الفرق في أن مآل النزاع في السابق إلى
الاختلاف في كمال الحد ونصفه وفي هذا الفرض إلى لزوم الحد وعدمه فيجب
التعزير حيث إن قذف المملوك لا يوجب سوى التعزير.
وبعبارة أخرى: البراءة في الأول عن الأربعين الزائد وفي الثاني عن الحد،
وهذا الفرق ليس بفارق للحكم بل كان مفروض كلام الشيخ في الخلاف
والمبسوط هو خصوص هذا الفرض، ولوحدة الملاك تعرض الجواهر لكلامه في
176

الفرض السابق (1).
ثم إنه قد ورد نظير هذه المسألة في باب الجنايات أيضا حيث إنه لا يقتل الحر
بالعبد وقال بعض هناك بما حكم به في مسألة القذف.
قال الشيخ في الخلاف: إذا قذف رجلا ثم اختلفا فقال المقذوف: أنا حر
فعليك الحد وقال القاذف: أنت عبد فعلي التعزير، كان القول قول القاذف وقال
الشافعي في كتبه مثل ما قلناه في القاذف وقال في الجنايات: القول قول المجني
عليه واختلف أصحابه على طريقين: منهم من قال: المسألتان على قولين
أحدهما: القول قول القاذف والثاني: القول قول المجني عليه وهو المقذوف
ومنهم من قال: القول قول القاذف في القذف والقول المجني عليه في الجناية.
(ثم قال:) دليلنا أن الأصل براءة الذمة للقاذف ولا تشغل ولا يوجب عليها
شئ إلا بدليل انتهى.
أقول: ويرد على التمسك بالبراءة في مسألة الجناية أنه ليس النزاع هناك في
الأقل والأكثر، كي تجري البراءة بالنسبة إلى الأكثر فإن القصاص والدية ليسا
من قبيل الأقل والأكثر بل هما من قبيل المتباينين ولا مورد لأصل البراءة هناك.
اللهم إلا أن يقال: بأن القصاص أهم، والقيمة غير أهم وهما كالأقل والأكثر.
هذا تمام الكلام في القاذف.
الكلام في المقذوف وما يعتبر فيه
قال المحقق: الثالث في المقذوف ويشترط فيه الاحصان وهو هنا عبارة عن
البلوغ وكمال العقل والحرية والاسلام والعفة فمن استكملها وجب بقذفه الحد
ومن فقدها أو بعضها فلا حد وفيه التعزير.
أقول: شرط الحد في القذف كون المقذوف محصنا فإذا كان كذلك يوجب

(1) فراجع المسألة 17 من قذف المبسوط ج 8 والمسألة 52 من حدود الخلاف.
177

قذفه الحد.
والاحصان قد ورد لمعان متعددة كالتزويج والاسلام والحرية وغيرها لكن
المراد منه في المقام هو مجموعة أمور: البلوغ وكمال العقل والحرية والاسلام
والعفة فلا حد على القاذف إذا كان المقذوف غير واجد لهذه الأوصاف بأن كان
صبيا أو مملوكا أو كافرا أو متظاهرا بالزنا.
ويدل على اعتبار الاحصان في المقذوف قول الله تعالى في صريح الكتاب:
(والذين يرمون المحصنات...) (1) بعد أن لا فرق بين الرجل والمرأة إذا كانا
محصنين.
وادعى في الجواهر عدم خلاف يجده في اشتراط تلك الأمور في المقذوف
حتى يثبت الحد على القاذف بل الاجماع بقسميه عليه. كما أنه لا خلاف فيما
وجدنا من كلمات أصحابنا في إثبات التعزير عند فقد كل واحد من هذه الأمور
إلا في الأخير فإنه مورد الاشكال، ويستظهر من الجواهر عدم التعزير فيه أيضا.
ثم إنه يتحصل من المطالب المذكورة أمور ومطالب:
أحدها: وجوب الحد على من قذف جامع الصفات المزبورة.
ثانيها: عدم الحد على قاذف من فقد جميعها أو بعضها.
ثالثها: وجوب تعزير الفاقد.
رابعها: أن من فقد الصفة الأخيرة أي العفة فهل قذفه يوجب التعزير
كالبواقي أو أنه لا تعزير فيه كما لا حد؟
أما الأول فمضافا إلى الاجماع المذكور آنفا قد دلت الروايات على اعتبار
تلك الصفات في وجوب الحد.
فتدل على اعتبار البلوغ في المقذوف صحيحة أبي مريم الأنصاري قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن الغلام لم يحتلم يقذف الرجل هل يجلد؟ قال:

(1) سورة النور الآية 4، وقد ورد التقييد بذلك في عدة من الروايات كمعتبرة سماعة ح 1
ب 4 من أبواب القذف.
178

لا وذلك لو أن رجلا قذف الغلام لم يجلد (1).
ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يقذف الصبية
يجلد؟ قال: لا حتى تبلغ (2).
وروايته الأخرى عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل يقذف الرجل بالزنا
قال: يجلد هو في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله قال: وسألت أبا عبد
الله عليه السلام عن الرجل يقذف الجارية الصغيرة فقال: لا يجلد إلا أن تكون
قد أدركت أو قاربت (3).
وصدر رواية الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:
لا حد لمن لا حد عليه (4).
ثم إن الظاهر أنه لا فرق بحسب الأخبار في سقوط الحد عمن قذف غير البالغ
بين من قارب البلوغ أم لا.
وأما قوله عليه السلام في رواية أبي يصير: أدركت أو قاربت فالظاهر أن
المراد بالادراك هو رؤية الحيض وبالقرب من ذلك هو إكمالها تسع سنين
فالنتيجة: أن تكون بالغة.
وأما اعتبار كمال العقل فتدل عليه صحيحة الفضيل المذكورة آنفا فإن فيها
بعد ما نقلناه من صدرها: يعني لو أن مجنونا قذف رجلا لم أر عليه شيئا ولو قذفه
رجل فقال: يا زان لم يكن عليه حد.
وأما الحرية فتدل على اعتبارها في المقذوف رواية عبيد بن زرارة قال: سمعت
أبا عبد الله عليه السلام يقول: لو أتيت برجل قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد القذف ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد القذف ح 4.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد القذف ح 3.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب مقدمات الحدود، ح 1.
179

إلا خيرا لضربته الحد حد الحر إلا سوطا (1).
قوله: لا نعلم منه إلا خيرا يراد به أنه غير متجاهر، وقوله: إلا سوطا يراد به
الاستثناء من الحد - فإن الحد في معنى ثمانين سوطا -.
وأما ما قد يورد عليه بأن هذا هو حد القاذف إذا كان المقذوف عبدا بقرينة
قوله: ضربته الحد حد الحر.
ففيه أنه خلاف الظاهر فلا يكون هذا حدا مستقلا في قبال الحدود الأخر.
وعلى الجملة فحيث إنه لم يكن المقذوف حرا فلذا حكم الإمام عليه السلام
بتعزير القاذف.
ورواية حمزة بن حمران عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن رجل
أعتق نصف جاريته ثم قذفها بالزنا قال: قال: أرى عليه خمسين جلدة ويستغفر
الله عز وجل، قلت أرأيت إن جعلته في حل وعفت عنه؟ قال: لا ضرب عليه إذا
عفت عنه من قبل أن ترفعه (2).
نعم فيها إشكال وهو أنه إذا كان نصفها معتقا فاللازم أن يكون عليه أربعون.
قال في الوسائل: حمله الشيخ على ما لوا عتق خمسة أثمانها وإلا لاستحق
أربعين جلدة. وحاصله أنه حمل النصف على غير الحقيقي. وجوز حمله على كون
العشرة تعزيرا لأن من قذف عبدا يستحق التعزير.
أقول: وبتعبير آخر إما أن يحمل النصف الذي أعتق على الحقيقي أو المجازي
فعلى الأول يكون الأربعون من خمسين حد حريتها وأما العشرة فهي من باب
التعزير بالنسبة إلى النصف الآخر، وعلى الثاني يحمل على ما لو أعتق خمسة
أثمانها.
وعن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليها السلام في الحر يفتري على

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب القذف ح 3.
180

المملوك قال: يسأل فإن كانت أمه حرة جلد الحد (1).
ومفهومها أنه لا حد لو لم تكن أمه حرة.
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من افترى على مملوك عزر
لحرمة الاسلام (2).
وأما الاسلام فتدل على اعتباره في المقذوف رواية إسماعيل الفضل قال:
سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الافتراء على أهل الذمة وأهل الكتاب هل
يجلد المسلم الحد في الافتراء عليهم؟ قال: لا ولكن يعزر (3).
وأما الستر وعدم كونه متظاهرا بالزناء فقد استدل على اعتباره بمعتبرة
سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال في الرجل: إذا قذف المحصنة يجلد ثمانين
حرا كان أو مملوكا (4).
ورواية عبيد بن زرارة (5) المذكورة آنفا.
هذا كله في المقام الأول وأما الثاني أي عدم حد القاذف إذا لم يكن المقذوف
واجدا لكل هذه الأوصاف فلدلالة تلك الأخبار.
وأما وجوب التعزير عند عدم الحد فلأدلة التعزير.
وأما الرابع أي أن قذف الزاني المتجاهر بزناه هل يوجب التعزير أو أنه
لا تعزير فيه كما لا حد؟.
قال في المسالك: وأما قذف غير العفيف فمقتضى العبارة إيجاب التعزير أيضا
وبه صرح في القواعد والتحرير وتنظر فيه شيخنا الشهيد من حيث دلالة

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب القذف ح 11 أقول: الظاهر منها أنه كان قد نسب
المملوك إلى كونه ولد زنا فكان القذف بالنسبة للأم.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 12.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 ب 4 من أبواب حد القذف ح 4.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 1.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 2.
181

الخبرين السابقين على سقوط حرمته ولعل القذف بالزنا مستثنى لفحشه وإطلاق
النهي عنه. انتهى.
وقال في القواعد: وإذا قذف المسلم صبيا أو عبدا أو مجنونا أو كافرا أو
مشهورا بالزنا فلا حد بل التعزير. انتهى.
وقال في اللمعة: ويشترط في المقذوف الاحصان وأعني: البلوغ والعقل
والحرية والاسلام والعفة فمن اجتمعت فيه هذه الأوصاف وجب الحد بقذفه وإلا
فالواجب التعزير انتهى.
وقال الشهيد الثاني بشرحه: كذا أطلقه المصنف والجماعة غير فارقين بين
المتظاهر بالزناء وغيره ووجهه عموم الأدلة وقبح القذف مطلقا بخلاف مواجهة
المتظاهر به بغيره من أنواع الأذى كما مر وتردد المصنف في بعض تحقيقاته في
التعزير بقذف المتظاهر به ويظهر منه الميل إلى عدمه محتجا بإباحته استنادا إلى
رواية البرقي عن أبي عبد الله عليه السلام: إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له
ولا غيبة، وفي مرفوع محمد بن بزيع: من تمام العبادة الوقيعة في أهل الريب، ولو
قيل بهذا كان حسنا انتهى.
أقول: الوقيعة بالفارسية بد گوئى مردم.
وقد بان بهذا الكلام أن مراد المسالك من الخبرين رواية البرقي ومرفوع ابن
بزيع.
ثم إن الظاهر من تعبيره بالجماعة - محلا ة باللام - دون (جماعة) هو أنه نسب
ذلك إلى جميع الأصحاب (1) فهم كالشهيد الأول لم يفرقوا بين المتظاهر وغيره في
الزنا في أن قذفه يوجب التعزير في غير المتظاهر كالحد في المتظاهر.
ووجه ذلك شدة قبح الزنا واهتمام الشرع بعدم شيوعها - فإنها الفاحشة -
حتى بذكرها وذكر من ارتكبها بذلك.
وأما الخبران فالظاهر أن التمسك بهما في جواز قذف غير المتجاهر بالزنا أو

(1) أقول: لكن في الرياض: وظاهر العبارة وجماعة تعزير قاذف المتجاهر بالزنا إلخ.
182

اللواط وإن كان متجاهرا بغيرهما من الفسوق مشكل بل يختص جواز ذلك أي
الغيبة وكذا عدم الحرمة والأمر بالوقيعة بخصوص الذنب الذي كان متجاهرا به
فلو كان يتجاهر بشرب الخمر ولكنه يأبى عن التجاهر بالزنا أو اللواط فإنه
يشكل غيبته والوقيعة فيه بغير شرب الخمر فضلا عن قذفه بالزنا.
وقد وجه في الرياض تعزير قاذف المتجاهر بهما بالأولوية قال - بعد
الاشكال في تمسك الشهيد الثاني بعموم الأدلة في قبح القذف مطلقا -: نعم ربما
يؤيده فحوى ما دل على تعزير قاذف الكافر (1).
توضيح كلامه أنه إذا كان قذف الكافر موجبا للتعزير فكيف لا يكون قذف
المتجاهر بالزنا موجبا للتعزير؟ فهو أولى بذلك؟ فهو أولى بذلك لأنه بعد فاسق
وذاك كافر.
لكن ما ذكره من الأولوية محل تأمل وإشكال وذلك لأنه وإن كان المسلم
أولى وأكرم - ولا يقاس هو بالكافر كما قال الله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن
كان فاسقا لا يستوون) (2) - لكن هذا لا يستلزم أن يحكم على قاذف المسلم
المتجاهر بما حكم به على قاذف الكافر.
بيانه أن المسلم المتجاهر قد أقدم بنفسه على فضيحة نفسه وعرف نفسه
بالعمل القبيح فلم يفضحه غيره بل هو الذي فضح نفسه وهذا بخلاف الكافر
المتعفف فإنه يتأبى عن فضيحة نفسه بالتجاهر بالزنا فقذفه يوجب فضيحته
فيمكن أن يحكم على قاذفه بالتعزير وهذا لا يلازم تعزير قاذف مسلم قد أقدم
بفضيحة نفسه بالتجاهر بفسقه وعلى هذا فالتمسك بالروايتين وبالأولوية في
إثبات تعزير قاذف المتجاهر في محل المنع ولا يتم شئ منهما بعد أن المسلم من
عدم حرمة المتجاهر وعدم الغيبة له هو ذلك في خصوص ما يتجاهر به دون
غيره ومنع الأولوية بما ذكرناه.
ولو شك في ذلك أي لزوم تعزير قاذف المتجاهر بالزنا ولو بسبب ترديد

(1) رياض المسائل ج 2 ص 485.
(2) سورة السجدة الآية 18.
183

العلماء فالأصل عدم وجوبه.
بقي أنه لم ينقح الكلام بالنسبة إلى الكافر فيحتاج تنقيحه إلى مزيد البحث
والتأمل.
فنقول: إن مقتضى رواية إسماعيل بن الفضل المذكورة آنفا الواردة في أهل
الذمة وأهل الكتاب هو أنه لا يحد المسلم المفتري عليهم بالزنا وإنما يعزر على
ذلك، في حين أن رواية عبد الله بن سنان ورواية الحلبي تدلان على النهي عن
قذف من ليس على الاسلام أو كان على غير الاسلام إلا مع الاطلاع على ما
ينسب إليه وهذا بظاهره يوجب تقييد المطلق بالمقيد.
فعن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه نهى عن قذف من
ليس على الاسلام إلا أن يطلع على ذلك منهم وقال: أيسر ما يكون أن يكون قد
كذب (1).
وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه نهى عن قذف من كان على غير
الاسلام إلا أن تكون قد اطلعت على ذلك منه (2).
والنتيجة أنه يحرم الفرية عليهم لأنهم أهل الكتاب أو كونهم في ذمة الاسلام
فإذا كان قذفهم حراما يتم الحكم بالتعزير كما صرح بذلك في خبر إسماعيل إلا
إذا كان مطلعا على ذلك وقذفه به فإنه ليس بمنهي عنه فليس بحرام فلا تعزير
عليه طبعا فالحكم مختص بأهل الكتاب وأما الكافر الحربي فالحكم بتحريم قذفه
وتعزير قاذفه مشكل.
وربما يورد عليه بأن المذكور في كلمات العلماء هو الكافر لا الكافر من أهل
الكتاب.
ويمكن الجواب عنه بأنه لا بأس بأن يكون مرادهم أهل الكتاب لقرائن
ومناسبات.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب القذف ح 2.
184

نعم هنا إشكال آخر الذي قد أورد بعض علينا فيما ذكرناه من وجه الجمع
وهو أنه لا أثر من التفصيل بين الاطلاع وعدم الاطلاع في كلماتهم.
وفيه أن الأمر ليس كذلك فترى صاحب الوسائل الذي يفتي بعناوين أبواب
كتابه قد فصل هنا وقال في أول باب القذف: باب تحريمه حتى قذف من ليس
بمسلم مع عدم الاطلاع.
وكذا صاحب الجواهر قال - عند قول المحقق: ولو كان المقول له مستحقا
للاستخفاف فلا حد ولا تعزير -: نعم ليس كذلك ما لا يسوغ لقاؤه به من الرمي
بما لا يفعله.
ثم تمسك برواية الحلبي المفصلة بين الاطلاع وعدم الاطلاع.
وعلى الجملة فالفرق بين المسلم وأهل الكتاب في أن قذف المسلم مطلقا
حرام وموجب للحد وإن كان مع الاطلاع إلا بالاتيان بأربعة شهداء وأما
بالنسبة إلى أهل الكتاب فلا، بل لو كان مع الاطلاع فلا حرمة ولا تعزير.
نعم هنا رواية تعارض ما ذكرناه وهي رواية يونس عن بعض رجاله عن
أبي عبد الله عليه السلام قال: كل بالغ من ذكر أو أنثى افترى على صغير أو كبير
أو ذكر أو أنثى أو مسلم أو كافر أو حر أو مملوك فعليه حد الفرية وعلى غير البالغ
حد الأدب (1).
ولكنها لا تقاوم للمعارضة وذلك لأنها مرسلة ولم تجتمع فيها شرائط الحجية
ولذا قال صاحب الجواهر: هو مطرح لفقدها شرائط الحجية فضلا عن صلاحية
المعارضة.
وقال الشيخ قدس سره: إيجاب الحد على من قذف غير البالغ محمول على
من نسب الزنا إلى أحد أبويه، وإيجابه على من قذف كافرا محمول على من كانت
أمه مسلمة أو على التعزير.
لا يقال إن ذكر المسلم في الرواية ينافي هذا الحمل وذلك لأن قذف المسلم

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد القذف ح 5.
185

موجب للحد التام كما أن ذكره يوجب كون القذف متوجها إلى نفسه (1).
لأنا نقول: إنه لا حاجة إلى الحمل والتوجيه بالنسبة إليه أصلا فما ذكر من
الحمل متعلق بمورد لا يتم الحكم بظاهره وهو غير المسلم.
وهنا روايات أخر دالة على عدم الجواز كرواية الحذاء قال: كنت عند أبي
عبد الله عليه السلام فسألني رجل: ما فعل غريمك؟ قلت: ذاك ابن الفاعلة فنظر
إلي أبو عبد الله عليه السلام نظرا شديدا قال: فقلت: جعلت فداك إنه مجوسي
أمه أخته فقال: أو ليس ذلك في دينهم نكاحا؟ (2).
ترى أنه قال: نظر إلي أبو عبد الله نظرا شديدا، وهذا يدل على عدم الجواز.
عدم اشتراط الاسلام والحرية في القاذف
قال المحقق: سواء كان القاذف مسلما أو كافرا حرا أو عبدا.
يعني أنه بعد استكمال الشرائط المعتبرة في المقذوف، والمعتبرة في القاذف
يجب الحد على القاذف بلا فرق بين كونه مسلما أو كافرا، حرا أو عبدا وذلك
لأن الاسلام والحرية كانا من شرائط المقذوف دون القاذف.
ثم إنه قد أورد علينا في مورد القاذف الكافر بأنه كيف يحكم عليه بالحد إذا
قذف مسلما والحال أن خبر فضيل بن يسار صرح بأنه لا حد لمن لا حد عليه (3)
يعني إن كل من لا يحد إذا قذف فلا يحد قاذفه وبعبارة أخرى من لا حد بضرره
لا حد بنفعه وعلى ذلك يقال أيضا: ومن كان يحد لو قذف فله الحد على من
قذفه، والكافر لو قذف أقيم عليه الحد فيلزم أن يكون له حق الحد على من قذفه
والحال أنه ليس له حق الحد على القاذف لاشتراط الاسلام في المقذوف.

(1) أورده بعض وأجاب دام ظله بما ذكرناه ولكن الظاهر أنه غير تام للزوم استعمال اللفظ في
أكثر من معنى.
(2) وسائل الشيعة ح 18 ب 1 من أبواب حد القذف ح 3.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
186

وفيه أن القضية صادقة من طرف واحد وهو من لا يقام عليه الحد لا حد له
على غيره فالكافر خارج عن تحت القضية لأنه ليس ممن لا يقام عليه الحد بل
يقام عليه إذا قذف.
فهو يدل على أن المجنون أو الصغير الذين لا حد عليهما إذا قذفا - لعدم
التكليف - لا حد لهما إذا قذفهما أحد، ولكن لا يدل على أن من لا حد له كالكافر
والمملوك لا حد عليه.
إذا نسب أمه إلى الزنا وكانت هي أمة أو كافرة
قال المحقق: ولو قال للمسلم: يا بن الزانية أو أمك زانية وكانت أمه كافرة
أو أمة قال في النهاية: عليه الحد تاما لحرمة ولدها والأشبه التعزير.
وقد تبع الشيخ في ذلك جماعة كما في المسالك والجواهر.
وقد استدل على ذلك بأمرين:
أحدهما: حرمة ولدها.
وقد أورد عليه الشهيد الثاني في المسالك بأن حرمة الولد غير كافية في
تحصين الأم لما تقدم من أن شرطه الاسلام وهو منتف.
ثانيهما: خبر عبد الرحمان بن أبي عبد الله عن الصادق عليه السلام أنه سئل
عن اليهودية والنصرانية تحت المسلم فيقذف ابنها قال: يضرب القاذف لأن
المسلم قد حصنها (1).
قال في المسالك بعد العبارة السابقة: والشيخ استند في قوله بثبوت الحد إلى
رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله انتهى.
وهو أيضا ظاهر عبارة صاحب الجواهر.
أقول: راجعنا النهاية ولم يكن فيها ذكر عن الرواية، فالمراد هو اعتماد الشيخ

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من أبواب حد القذف ح 6.
187

عليها في هذه الفتوى.
وكيف كان ففي المسالك في مقام الايراد على التمسك بالرواية: وفيها قصور
السند والدلالة، أما الأول فلأن في طريقها بنان بن محمد وحاله مجهول وأبان
وهو مشترك بين الثقة وغيره. وأما الثاني من وجهين أحدهما قوله: فيقذف
ابنها، فإنه أعم من كونه بنسبة الزنا إليها وإن كان ظاهر قوله: إن المسلم قد
حصنها يشعر به، ولأن القذف بذلك ليس قذفا لابنها بل لها ومن ثم كان المطالب
بالحد هو الأم. والثاني من قوله: يضرب القاذف فإنه أعم من كونه حدا أو
تعزيرا لاشتراكهما في مطلق الضرب ونحن نقول: يثبت بذلك التعزير، هذا على
ما رواها الشيخ في التهذيب، وأما الكليني فإنه رواها بطريق آخر وليس فيه
بنان وذكر في متنها بدل قوله: (ويضرب القاذف) (ويضرب حدا) وعليه ينتفي
الايراد الأخير ويؤيده التعليل بالتحصين انتهى (1).
أقول: فقد استشكل في الرواية سندا ودلالة. أما من حيث السند فمن
جهتين:
إحديهما أن في طريقها بنان بن محمد وهو مجهول الحال. والأخرى أن في
طريقها أيضا أبان وهو مشترك بين الثقة وغيرها هذا.
وأما من حيث الدلالة فمن وجهين أيضا:
أحدهما من جهة أن قوله: يقذف ابنها ليس صريحا في نسبة الزنا إليها فلعله
كان بشئ آخر ثانيهما من جهة أن قوله: يضرب القاذف، يمكن أن يراد منه
التعزير لصدق الضرب عليه وعلى الحد واشتراكهما في مطلق الضرب.
ثم أبدى ما يخفف الاشكال وهو أنه قد نقل الخبر في الكافي وليس في طريقه
بنان كما أنه نقل هناك: (يضرب حدا) لا: (يضرب القاذف) ومن المعلوم أن
(يضرب حدا) ظاهر في الحد ولا يشمل التعزير. كما أن التعبير بالتحصين في
قوله: لأن المسلم قد حصنها، يشعر بأن النسبة في القذف كانت نسبة الزنا.

(1) مسالك الأفهام ج 2 ص 437.
188

وعلى هذا فقد ارتفع معظم الاشكالات الواردة على الرواية ومع ذلك بقي
بعض الاشكالات الواردة على الاستدلال بها مثل كون أبان المجهول في
طريقها.
ثم قال قدس سره: ووافق الشيخ على ذلك جماعة وقبله ابن الجنيد وذكر أنه
مروي عن الباقر عليه السلام وروى الطبرسي: أن الأمر لم يزل على ذلك إلى أن
أشار عبد الله بن عمر على عمر بن عبد العزيز بأن لا يحد مسلم في كافر، فترك
ذلك.
أقول: وعلى هذا فقد استدل مضافا إلى الدليلين المذكورين بدليل ثالث وهو
هذا الخبر المروي عن الباقر عليه السلام.
وفيه أن هذا الخبر مرسل، وذكر في الجواهر موردا عليه: لم نتحققه.
وعلى هذا فلم يكن في المقام شئ يعتمد عليه في ذلك ومجرد إسلام الولد
لا يقتضي تمامية الحد على القاذف بعد أن الولد ليس هو المقذوف.
فتحصل أن الأقوى كما في المسالك هو القول الأول وهو الذي قال المحقق:
والأشبه التعزير، وفي كشف اللثام مزجا: والأقرب ما في الشرايع من أن عليه
التعزير، للأصل وعدم صحة الخبر ومعارضته بما دل على التعزير بقذف الكافر
انتهى.
في تعزير الأب لقذفه ولده
قال المحقق: ولو قذف الأب ولده لم يحد وعزر
أقول: فمن جملة شرائط المقذوف هو انتفاء بنوته للقاذف وقد ذكر ذلك
بعض، من جملة الشرائط وفي عدادها فترى العلامة أعلى الله مقامه قال في
القواعد في شرائط المقذوف: الاحصان وانتفاء الأبوة.
وقد أورد عليه كاشف اللثام بأن الأولى البنوة وفسر كلام العلامة بانتفاء
الأبوة عن القاذف.
189

وكيف كان فلو كان القاذف أبا له فلا يقام عليه الحد، وما كان سببا للحد في
غير الأب لا يكون سببا لذلك إذا كان أبا وذلك للمكانة المعلومة عند الشرع
للوالد نعم يعزر هو على ذلك.
وقد ذكروا بأن وجوب التعزير أيضا ليس من باب إثبات حق للولد على
الوالد كما في سائر الموارد بل إنما هو لكون عمله حراما وأن التعزير حق الله
تعالى ولذا لا يحتاج إلى المطالبة ولا يسقط بالعفو فإنه لا يثبت للابن على الأب
عقوبة حدا كان أو تعزيرا. وقد علل في الجواهر عدم الحد بالأصل وعدم ثبوت
عقوبة للولد على أبيه ولو قتله.
وفيه أما الأصل فهو دليل حيث لا دليل فمع وجود الاطلاقات الشاملة
للمقام لا مجال للتمسك به.
وأما عدم ثبوت العقوبة للابن على أبيه فهو أيضا ليس وجها كافيا في إثبات
المطلب لو لم يدل عليه دليل بالخصوص.
وأما قوله: ولو قتله، فالمقصود به هو الأولوية.
وفيه أنه لو لم يكن دليل يدل على المطلب فإنه لا أولوية قطعية وذلك لأنه
وإن كان عدم قتل الأب بالابن معلوما مسلما لكنه لا يدل على أنه لا يحد الأب
للابن فإن في القتل إزهاق الروح وإعدام للشخص ولا بد فيه من كمال المواظبة
والمراعاة، بخلاف الجلد الذي هو مجرد الضرب وليس بتلك الأهمية ومن الممكن
جواز ضرب الأب للابن فعدم قتل الوالد للولد لا يدل على عدم ضربه له وإلا
للزم عدم ضمان الوالد إذا سرق مال ولده وهكذا سائر الأحكام.
نعم يدل على المطلب صحيح محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر عليه
السلام عن رجل قذف ابنه بالزنا قال: لو قتله ما قتل به وإن قذفه لم يجلد له
قلت: فإن قذف أبوه أمه؟ قال: إن قذفها وانتفى من ولدها تلاعنا ولم يلزم ذلك
الولد الذي انتفى منه وفرق بينهما ولم تحل له أبدا قال: وإن كان قال لابنه وأمه
حية: يا ابن الزانية ولم ينتف من ولدها جلد الحد لها ولم يفرق بينهما قال: وإن
190

كان قال لابنه: يا بن الزانية، وأمه ميتة ولم يكن لها من يأخذ بحقها منه إلا
ولدها منه فإنه لا يقام عليه الحد لأن حق الحد قد صار لولده منها فإن كان لها ولد
من غيره فهو وليها يجلد له وإن لم يكن لها ولد من غيره وكان لها قرابة يقومون
بأخذ الحد جلد لهم (1).
وهذا الخبر وإن قال المجلسي قدس سره في المرآة بأنه مجهول، لكن الظاهر
أنه معتبر ومعمول به عندهم وقد عبر عنه بعض كالشهيد الثاني في المسالك
والفاضل الأصفهاني في كشف اللثام بالحسنة وبعض كصاحب الجواهر بالحسن
أو الصحيح، كما أن دلالتها على المطلوب واضحة لتصريحه عليه السلام بأنه
لا يجلد وقرب ذلك بأنه لو قتله ما قتل به هذا بالنسبة إلى صدر الخبر الذي هو
عين محل الكلام.
وأما الفرض الثاني المذكور في الخبر فهو أن يقذف أبوه أمه ونفى ولدها عنه
فهنا يتلاعنان وبعد الملاعنة ينتفي منه الولد ولم يجبر بقبول هذا الولد وفرق بين
الرجل والمرأة أي والدي الطفل ولا تحل له أبدا كما هو مقتضى الملاعنة شرعا.
وأما الفرض الثالث فهو أن يقول لابنه: يا بن الزانية ولكنه لم ينتف ولدها
وكانت أمه حية.
ولا بعد في تحقق الفرض بأن ينسب الأم إلى الزنا ولكنه لم ينتف ولدها
لامكان زناها في غير مورد هذا الولد، وعلى الجملة فهنا يجلد الأب، والحق للأم
الحية ولكن لا يفرق بينهما لأنه لم ينتف ولدها وإنما نسبها إلى الزنا فيكون لها حق
الجلد عليه.
وأما الفرض الرابع فهو أن يقول لابنه: يا بن الزانية مع كون الأم ميتة ولم
يكن لها ذو حق بالنسبة إلى حد هذا القذف سوى هذا الولد فهنا لا يقام على
الوالد الحد، وذلك لأن صاحب الحق فعلا هو هذا الولد الذي هو منه ومنها،
ولا يقام الحد على الوالد لابنه، والقذف وإن كان بالنسبة إلى الأم إلا أن الولد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حد القذف ح 1.
191

حينئذ هو صاحب الحق وطالبه لفرض موت الأم.
وأما الفرض الخامس فهو أن يكون لها ولد من غير هذا الرجل القاذف وهنا
يكون الولد المزبور وليها والمطالب بحقها فيجلد القاذف.
وأما الفرض السادس فهو أنه لم يكن لها ولد من غيره ولكن كانت لها قرابة
يقومون بأخذ الحد ويطالبونه وهنا أيضا يجلد القاذف، لحق الأقرباء.
والحاصل أنه لا فرق بين أن يقذف الوالد ولده بنفسه وبين أن يقذف أمه إلى
الزنا عندما كان هذا الولد وليها في أخذ الحق والمطالبة بالحد فهما سيان في عدم
إقامة الحد على الأب.
في قذف زوجته الميتة
قال المحقق: وكذا لو قذف زوجته الميتة ولا وارث لها إلا ولده نعم لو كان لها
ولد من غيره كان لهم الحد تاما.
أقول: وقد ظهر وجه ذلك من رواية ابن مسلم فإن هذا هو الفرض الرابع
من فروض الرواية والفرض الخامس منها.
قذف الولد أباه والأم ولدها
ثم قال: ويحد الولد لو قذف أباه، والأم لو قذفت ولدها وكذا الأقارب.
أقول: وذلك لدلالة العمومات على أن القذف مطلقا يوجب الحد غاية الأمر
أنه قد خرج عنها مورد واحد وهو قذف الأب ابنه فيبقى الباقي بحاله تحت
العمومات.
ثم إنه هل الجد للأب أيضا كسائر الأرحام والأقارب أو أنه داخل تحت
عنوان الأب وملحق به؟.
قال العلامة في القواعد: والأقرب أن الجد للأب أب بخلاف الجد للأم.
192

وقال في التحرير: لو قذف الأب ولده المحصن وإن نزل لم يحد كاملا بل عزر
إلخ.
وفي كشف اللثام تقريرا لقول العلامة: لأنه لا يقتل به وللمساواة في الحرمة
وعموم له عرفا - ثم قال: - ويحتمل العدم للعمومات ومنع عموم الأب له حقيقة.
انتهى كلامه.
أقول: الظاهر من لفظ الأب وقذفه لولده الواردين في الرواية هو الأب
بلا واسطة، ولو أريد تعميم الحكم للجد أيضا لكان يذكر الجد مع الأب فلو كان
في المقام دليل كالاجماع يدل على أن حكم الجد هو حكم الأب فهو وإلا
فالرواية لا تشمل إلا الأب وحده دون الجد.
نعم وردت عدة روايات في باب القتل ناطقة بأنه لا يقتل الأب في الابن
لكنها لا تدل على المراد في المقام.
وأما الاستدلال على ذلك بعموم الأب له عرفا وإطلاقه عليه، ففيه أنه وإن
كان يصح ذلك فقد أطلق عليه الأب في بعض الموارد وببعض المناسبات إلا أنه
لا يطلق عليه حقيقة، والمتبادر منه هو الأب ولذا لو قيل لصبي كان له الأب
والجد منه: جاء أبوك فلا يبدو في ذهنه سوى أبيه وليس ذلك إلا للمنع عن كونه
أبا حقيقة.
وعلى هذا فقد أفتى الفقهاء بأن قضاء صلوات الأب الفائتة منه يختص بالأب
نفسه ولا يشمل الجد أيضا.
هذا بالنسبة إلى الجد للأب، وأما الجد للأم فهو يحد بقذفه ابن بنته بلا كلام
وذلك لأن الأم بنفسها تحد إذا قذفت ولدها فكيف بأبيها، ولأنه لا يسبق إلى
الفهم من الأب وإن كثر إطلاق الابن على السبط هكذا استدل في كشف اللثام.
ويرد عليه أنه لو كان مجرد الاطلاق كافيا كما ذكر في الجد الأبي فهنا أيضا
يطلق الأب فترى أنه يستعمل (ابن رسول الله صلى الله عليه وآله) ويطلق على
الهاشميين والعلويين ويخاطبون بخطاب: يا بن رسول الله، ويقول الشاعر:
193

أولئك آبائي فجئني بمثلهم (1) أو لو شك في إيجابه الحد هنا ولم يكن دليل فقاعدة
الدرء جارية.
ثم إنا بعد ما ذكرناه من الاشكال رأينا أن فخر المحققين أيضا قد تنظر في
المطلب وتعرض لما ذكرناه فإنه عند قول والده العلامة أعلى الله مقامه:
والأقرب أن الجد للأب أب بخلاف الجد للأم انتهى. قال: يعني إذا قذف الجد
للأب ولد ابنه فالأقرب أنه كالأب لا يحد له. (ثم استدل على ذلك بقوله:) لوجود
المقتضي لانتفاء الحد وهو حرمة الأبوة ولأنه لا يقتل به ولأنه يصدق عليه لفظ
الأب حقيقة.
ثم قال: وفيه نظر للمنع من كونه أبا حقيقة فإنه يصدق عليه السلب ولا شئ
من الحقيقة كذلك.
أقول: إنه قدس سره ذكر ثلاثة وجوه لتقرير قول والده العلامة وإثبات
سقوط الحد:
الأول: وجود المقتضي لانتفاء الحد، والمراد به هو حرمة الأبوة فإن الحرمة
الثابتة للأب ثابتة للجد وهذا يقتضي أن لا يحد، كما لا يحد الأب.
الثاني: إن الجد لا يقتل بابن الابن كما لا يقتل الأب بابنه.
الثالث: صدق الأب حقيقة على الجد.
وقد تعرض في مقام الاشكال للوجه الثالث وأجاب عنه بعدم الاطلاق عليه
حقيقة وذلك لصحة سلب الأبوة عن الجد فيقال: إنه ليس أبا ومن المعلوم أن
الحقيقة ليست كذلك بل هي علامة المجاز وخلاف الحقيقة. وهذا هو عين ما
أوردناه آنفا.
وأما الوجه الأول فيرد عليه أن حرمة الأبوة وإن كانت محققة للجد فإنه كان
سببا لوجوده ووجود أبيه لكنها لا تدل على أن الجد لا يضرب في ابن الابن فلعل

(1) وبعده: إذا جمعتنا يا جرير المجامع، وهو من قصيدة للفرزدق يهجو بها جرير بن عطية
التميمي. راجع جامع الشواهد باب الألف بعده الواو.
194

تساويهما في الحرمة يقتضي عدم قتله لو قتل ابن الابن كما لا يقتل الأب بقتله
ولده، وأما في الجلد فلا.
وأما الوجه الثاني وهو أن الجد لا يقتل بقتل ابن ابنه كالأب بعينه فكذلك
لا يجلد في ابن ابنه كما لا يجلد الأب في ولده.
ففيه أنه على فرض تسليم ذلك أي عدم قتل الجد كالأب، فإثبات عدم جلد
الجد في ابن ابنه بسبب عدم جلد الأب في ابنه إما بالقياس أو الأولوية أو بتنقيح
المناط.
والأول معلوم البطلان في المذهب، ولا يقول هذا العلم النحرير بذلك قطعا.
والثاني غير صحيح لأنه لا أولوية في البين بل الأولوية بالعكس يعني لو كان
الدليل يدل على أن الجد لا يضرب في ابن الابن كما لا يضرب الأب في ابنه لكان
يقال: فالجد لا يقتل في ابن الابن كما لا يقتل الأب في ابنه وأما العكس فلا.
والثالث موقوف على الجزم بالمناط والقطع بحصوله.
كما أن ما قد يتوهم بعض من أن الولاية الثابتة للجد الأبي تقتضي أن لا يجلد
هو بقذف ابن ابنه كما لا يجلد في قذف ولده.
وفيه أنه لا يدل على المطلوب إلا بتنقيح المناط الموقوف على العلم به ومع
عدمه لا بد من الأخذ بعموم ما دل على حد من قذف.
وعلى الجملة فحيث كان دليل سقوط الحد عنده محل النظر فلذا قال بعد ذلك:
ومن هنا احتمل عدم السقوط لوجود المقتضي للحد وهو القذف ولم يعلم ثبوت
المانع والأصل عدمه.
أقول: إنه هنا صار بصدد تقريب احتمال الخلاف أي عدم سقوط الحد عن
الجد وذكر أن المقتضي موجود والمانع مفقود بالأصل، ومراده من المقتضي
الموجود هو الرمي بالزنا الذي يقتضي الحد، ومن المانع الذي علم بعدمه
بالأصل هو الأبوة فحينئذ يؤثر المقتضي أثره وهو إيجاب الحد.
ثم قال: قالوا شبهة.
195

أقول: يعني: قالوا بأنه يسقط الحد لأجل الشبهة.
فأجاب بقوله: قلنا يسقط حق الله لا حق الآدمي وهو الأغلب هنا.
يعني أن الذي يسقط بالشبهة هو حق الله تعالى لا حق الناس، والأغلب في
باب القذف هو هذا أي: حق الناس كما يدل على ذلك جواز العفو عن ذلك الحد
ولو كان حق الله تعالى لم يكن قابلا لذلك هكذا ذكره رحمه الله، ولسنا بصدد
كلامه الأخير، والبحث في صحة ما ذكره من عدم ورود الدرء هنا وسقم ذلك.
وكيف كان فمع أنه ضعف دليل السقوط فقد قال في الآخر: والأقوى عندي
أنه لا حد عليه. ولعل ذلك لأجل أن الوارد في الخبر هو السؤال عن الابن حيث
قال: عن رجل قذف ابنه بالزناء إلخ واستعمال الابن في ابن الابن بل وفي ابن
البنت في المحاورات العرفية كثير فأنتم لا تزالون تقرؤون بالليل والنهار في
زيارة الأئمة الطاهرين عليهم السلام: السلام عليك يا بن رسول الله، فلو لم
يكن استعمال الأب في الجد وإطلاقه عليه سائغا في العرف، فإن إطلاق الابن
على ابن الابن شايع عندهم.
لا يقال: إن الأب والابن من قبيل المتضايفين، والنسبة فيهما على نهج واحد،
وحد سواء، فلو صدق الابن على ابن الابن لصدق الأب أيضا على أب الأب
وحيث لم يصدق ذاك فلا يصدق هذا، فيجب الحد (1).
فإنا نقول: إن واقع الأمر كذلك فإن النسبة بينهما هو التضايف إلا أن الكلام
في المحاورات العرفية، والشايع فيها إطلاق الابن على الابن بالواسطة أيضا
دون إطلاق الأب، فلو حصل من هذا الشيوع ظهور لكفى في سقوط الحد عن
الجد وإلا فلا أقل من كونه موجبا للشبهة ولكانت موجبة لدرء الحد.

(1) أورده بعض عليه وقد أجاب دام ظله بما نقلناه.
196

المسألة الأولى في قذف جماعة واحدا بعد واحد أو بلفظ واحد
قال المحقق: الرابع في الأحكام وفيه مسائل: الأولى إذا قذف جماعة واحدا
بعد واحد فلكل واحد حد ولو قذفهم بلفظ واحد وجاؤوا به مجتمعين فلكل حد
واحد وإن افترقوا في المطالبة فلكل واحد حد.
أقول: إن ما ذكر إلى الآن كان حكم القذف مع كون المقذوف واحدا،
والكلام حينئذ في القذف مع كون المقذوف متعددا، وله صور:
أحدها: أن يقذفهم تفصيلا واحدا بعد واحد سواء ذكر كلا باسمه أو قذفهم
وخاطبهم بصورة الخطاب وضميره. فالأول كما إذا قال: زيد زان وعمرو زان
وهكذا. والثاني كأن يقول كل واحد من جماعة: أنت زان، أنت زان وهكذا
فالنسبة هنا متعددة في كلتا الصورتين.
ثانيها: أن يكون اللفظ واحدا كما إذا خاطب جماعة وقال: أنتم زناة وهنا
تارة يأتون بالقاذف مجتمعين وأخرى متفرقين.
أما الأول وهو ما إذا قذفهم واحدا بعد واحد فلكل واحد منهم حد مستقل
على القاذف سواء أتوا به معا أو متفرقين.
وأما الثاني: وهو ما إذا كان القذف بلفظ واحد فهنا فصل بين إتيان المطالبين
به مجتمعين فإنه يحد حدا واحدا للجميع وبين إتيانهم به متفرقين فهو يحد لكل
واحد منهم على حدة.
ولنا في هذا التفصيل كلام فنقول: لا إشكال في أنه لو طالب واحد منهم بحقه
وأقيم على القاذف الحد فمن المسلم أن إجراء هذا الحد عليه لا يوجب سقوط حق
الباقين. وبعبارة أخرى أن إتيان الثاني مثلا لو كان بعد إتيان الأول به وإقامة
الحد عليه فللثاني أيضا حد آخر ولو كانت مطالبة الثالث بعد مطالبة الثاني
وإقامة حده فهو يحد للثالث أيضا مستقلا وهكذا.
وأما لو جاؤوا به متفرقين لكن بلا تخلل الحد بأن كان الأول قد أتى به
وطالب بحقه لكن لم يساعد الشرائط إقامة الحد عليه إلى الغد فأتى به الثاني
197

وهكذا فالظاهر أنه لا فرق بين الاتيان به متفرقين بهذا النحو وبين إتيانهم به
مجتمعين، ومجرد كون المطالبة مترتبة ومجيئهم واحدا بعد واحد لا يوجب التفرقة
بين القسمين. والمفروض وقوع القذف بلفظ واحد فإن كانت النسبة واحدة
لا متعددة يلزم توقف الحد على اجتماع الجميع فإذا حضر الجميع وطالب كل منهم
بالحد يقام عليه حد واحد فإن كل واحد منهم جزء في هذه النسبة القائمة
بالجميع.
وأما لو كانت الكلمة الواحدة منحلة إلى النسب المتعددة المختلفة على ما هو
مقتضى العام الاستغراقي المنحل إلى الأفراد الكثيرة والنسب المتعددة فهذا
لا فرق فيه بين إتيانهم بالقاذف متفرقين أو مجتمعين ولازم ذلك تعدد الحد. هذا
هو مقتضى القاعدة وذلك لأن النسب المتعددة أسباب متعددة وهي تطلب
وتقتضي مسببات متعددة فيتعدد الحد.
ونعم ما قال في كشف اللثام حيث قال مازجا: ولو تعدد المقذوف والقذف
تعدد الحد سواء اتحد القاذف أو تعدد، اتحد اللفظ أو تعدد لأن هذا الحد حق
المقذوف ولا يتسبب اجتماع مقذوف مع آخر لسقوط حده - حقه - ولكن أكثر
الأصحاب بل في السرائر والنكت إن جميعهم اتفقوا على أنه لو قذف جماعة بلفظ
واحد كقوله: زنيتم أو: لطتم أو: يا زناة أو: يا لاطة، فإن جاؤوا به الحاكم
مجتمعين فللجميع حد واحد وإن جاؤوا به متفرقين فلكل واحد حد ولو قذفهم
كل واحد بلفظ حد لكل واحد حدا سواء اجتمعوا في المجئ أو تفرقوا إنتهى
كلامه رفع مقامه (1).
وكيف كان فهم قد قالوا بذلك وإن كان مقتضى القاعدة عدم تمامية ما ذكروه.
ثم إن في قبال قول المشهور قول الإسكافي فإنه عكس الأمر وقال: لو قذف
جماعة بكلمة واحدة جلد حدا واحدا فإن سمى واحدا واحدا فأتوا به مجتمعين
ضرب به حدا واحدا وإن أتوا به متفرقين ضرب لكل واحد منهم حدا.

(1) كشف اللثام ج 2 ص 233.
198

ثم إن كلا من القولين مستند إلى الروايات فنحن نراجعها حتى نعلم ما
يستفاد منها، فعن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن
رجل افترى على قوم جماعة قال: إن أتوا به مجتمعين ضرب حدا واحدا وإن
أتوا به متفرقين ضرب لكل منهم حدا (1).
وظاهر قوله: افترى على قوم، هو افتراؤه عليهم بلفظ واحد لا النسبة إليهم
واحدا بعد واحد، كما أن الظاهر أن (جماعة) حال، وقد حكم عليه السلام بحد
واحد عند مجيئهم به مجتمعين، والمتعدد إن أتوا به متفرقين وقد ذكرنا أن هذا
الحكم لا يوافق القاعدة ولكنه تعبد لا كلام عليه.
وعن الحسن العطار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل قذف قوما
قال: بكلمة واحدة؟ قلت: نعم. قال: يضرب حدا واحدا فإن فرق بينهم في
القذف ضرب لكل واحد منهم حدا (2).
وقد جعل الملاك في هذا الخبر هو كون الكلمة واحدة أو متعددة فيتحد الحد
في الأول ويتعدد في الثاني.
وذيل هذا الخبر هو عين فتوى المشهور من أنه لو قذف واحدا بعد واحد
يتعدد الحد سواء أتوا به مجتمعين أو متفرقين.
وأما صدره فهو عام أو مطلق بالنسبة إلى صحيح جميل الدال على أنه إذا
قذف بكلمة واحدة يضرب حدا واحدا إذا كانوا قد أتوا مجتمعين فلذا يخصص
أو يقيد هذا بذاك، والنتيجة أن يقال: يضرب حدا واحدا إن اجتمعوا في المجئ
به.
وعن محمد بن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل
افترى على قوم جماعة قال: فقال: إن أتوا به مجتمعين به ضرب حدا واحدا وإن

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد القذف ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد القذف ح 2.
199

أتوا به متفرقين ضرب لكل رجل حدا (1).
ومفاد هذا الخبر كصحيح جميل.
وعن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه
السلام في رجل افترى على نفر جميعا فجلده حدا واحدا (2).
وهذا وإن دل على أن الحد في القذف على الجماعة هو حد واحد إلا أن هذا
الخبر حكاية فعل وليس من القول في شئ حتى يستظهر منه، ولا إطلاق للفعل
لأنه بلا ترديد ليس حكاية فعل استمراري وإلا كان يقول: كان يقضي، وإنما هو
حكاية فعل تحقق مرة واحدة وهذا لا يتحمل الأحوال المختلفة كإتيانهم به
مجتمعين ومتفرقين وإنما كان مقرونا بحال من الحالين فربما كان إتيانهم به مجتمعين
كما أن الشيخ قدس سره حمله على ما لو قذفهم بلفظ واحد وأتوا به مجتمعين.
وعلى هذا فلا تعارض بين هذا وبين ما سبق.
وما قد يقال من أنه حيث كان نقل الإمام الصادق عليه السلام هذا القضاء في
مقام بيان الحكم ولم يذكر خصوصية فيعلم أنه لا خصوصية أصلا فيؤخذ
بالاطلاق وحينئذ يحصل التعارض بين هذا وساير الروايات لأنه لو كان بين
الكلمة الواحدة والمتعددة أو المجئ به مجتمعين أو متفرقين فرق لكان اللازم ذكر
تلك الخصوصية وحيث لم تذكر يستكشف الاطلاق.
ففيه أنه ربما كانت هناك خصوصية لم يذكرها الإمام لجهة من الجهات
ولمصلحة من المصالح، أو أنه قد ذكرها الإمام عليه السلام لكن لم يذكرها
الراوي.
وعلى الجملة فالقضية شخصية وفعل خارجي ولا إطلاق لها لا في المقام ولا في
سائر المقامات، وبتعبير آخر، المقام من قبيل المردد لا من قبيل المطلق لتردده
بين هذه الحالة وتلك فلا بد من حمله على حال من الحالات مثل قذفهم بلفظ

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد القذف ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد القذف ح 4.
200

واحد مع إتيانهم به مجتمعين.
قال بعض المعاصرين قدس سره: ويظهر من معتبرة سماعة عن أبي عبد الله
عليه السلام لزوم حد واحد مطلقا.
(ثم قال): وقد حملت على ما إذا أتوا به جميعا. وفيه إشكال لأن قول أبي عبد
الله عليه السلام (قضى أمير المؤمنين صلوات الله عليه..) على المحكي إذا كان
في مقام بيان الحكم فهو بمنزلة المطلق، والقانون لا بد أن يكون الباقي فيه أكثر من
المخرج لا الأقل ولا المساوي. انتهى (1).
وفيه ما ذكرناه من أن الإمام الصادق عليه السلام قد نقل قضاء واحدا من
قضايا أمير المؤمنين عليه السلام ولو كان بصدد بيان جميع القضايا والأمر
المستمر لعبر بقوله: كأن يقضي، وهذه القضية الواحدة مرددة بين القذف بلفظ
واحد أو المتعدد جاؤوا به مجتمعين أو متفرقين وحيث علم أن قضاؤه المنقول
كان واحدا فلا يجوز التمسك بإطلاق فعله.
وعن بريد عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يقذف القوم جميعا بكلمة
واحدة قال: إذا لم يسمهم فإنما عليه حد واحد وإن سمى فعليه لكل رجل حد (2).
فإن كان المراد من التسمية هو ذكر أشخاصهم مع كون النسبة واحدة فالنسبة
بين هذه وبين ما دل على الاتيان به مجتمعين أو متفرقين هو العموم من وجه
ويتعارضان فيما لو سماهم بكلمة واحدة ولكن جاؤوا به متفرقين حيث إن
مقتضى دليل التسمية هو الوحدة، ومقتضى دليل الاتيان به هو تعدد الحد كما أنه
لو لم يسمهم وهم قد جاؤوا به متفرقين تعارضت الروايتان. وبعبارة أخرى محل
الاختلاف فرعان: أحدهما التسمية مع إتيانهم به مجتمعين. ثانيهما عدم التسمية
مع إتيانهم به متفرقين.
وحيث إن المشهور عملوا برواية التفصيل بين الاتيان به مجتمعين أو متفرقين

(1) جامع المدارك ج 7 ص 104.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد القذف ح 5.
201

فالترجيح معها.
فتحصل أن المشهور لم يفصلوا فيما إذا افترى قوما واحدا بعد واحد فإنهم
يقولون هنا بتعدد الحد بلا كلام وإنما فصلوا فيما إذا قذفهم بلفظ واحد بين ما إذا
أتوا به مجتمعين أو متفرقين.
وقد ذهب الإسكافي إلى عكس هذا بعينه لأنه قال: لو قذفهم بلفظ واحد كان
الحد واحدا سواء جاؤوا به مجتمعين أو متفرقين وأما لو قذفهم واحدا بعد واحد
فإن أتوا به مجتمعين فحد واحد وإن أتوا به متفرقين جلد متعددا.
قال العلامة في المختلف: إن ابن الجنيد احتج بخبر جميل (ثم قال) ولا بأس به
فإنه أوضح طريقا (1).
تقريب استدلاله به هو أن - جماعة - صفة للقذف المدلول عليه بالفعل أي
لفظ: افترى، وأريد بالجماعة القذف المتعدد فيكون المقصود قذف قوما قذفا
متعددا، وكان الجواب أنه إن أتوا به مجتمعين فحد واحد وإلا يتعدد الحد ومعلوم
أن هذا بعيد فإن الظاهر أن جماعة صفة للقوم (2).
وقد رد صاحب الجواهر على الإسكافي بأن ما حكي عنه غير واضح الوجه
على وجه تنطبق عليه جميع النصوص المزبورة خصوصا بعد ملاحظة الشهرة
العظيمة والاجماعين المزبورين.
ثم أورد على ما نقلناه عن المختلف بأنه لا يخلو من نظر ضرورة عدم ظهور
قوله: (جماعة) في إرادة القذف متعددا كي يتجه التفصيل المزبور إلخ.
ثم إن في المسألة قولا ثالثا ورابعا ففي الفقيه والمقنع أنه إن قذف قوما بكلمة
واحدة فعليه حد واحد إذا لم يسمهم بأسمائهم وإن سماهم فعليه لكل رجل سماه

(1) راجع المختلف ص 781 أقول: إن العلامة لم يبين وجه كون خبر جميل أوضح طريقا
ولكن قال الشهيد الثاني في المسالك: لأن في طريق الثاني - رواية حسن العطار - أبان وهو
مشترك بين الثقة وغيره والحسن وهو ممدوح خاصة انتهى.
(2) قال في الرياض: لأنه أقرب وأنسب بالجماعة لا للقذف انتهى.
202

حد وقال: روي أنه إن أتوا به متفرقين ضرب لكل رجل منهم حد وإن أتوا به
مجتمعين ضرب حدا واحدا.
وفي الهداية عكس الأمر فأفتى بما جعله في الكتابين رواية وجعل ما أفتى به
فيهما رواية.
ولكن الظاهر من الأخبار هو ما ذهب إليه المشهور.
في سب جماعة
قال المحقق: وهل الحكم في التعزير كذلك؟ قال جماعة: نعم.
أقول: بعد وضوح الحكم بحسب الأخبار في مورد الحد يأتي البحث في أنه
لو لم يقذف الجماعة بل سبهم كأن قال لجماعة: أنتم فاسقون فهل الحكم بالتعزير
هنا كالحكم بالحد هناك حتى ينتج أنه إن سب جماعة معا وبكلمة واحدة فإن
أتوا به متفرقين كان لكل واحد منهم تعزير وإلا فللجميع تعزير واحد، أم لا؟
في المسألة قولان: أحدهما أنه مثله وهو المشهور، قال الشهيد الثاني في
المسالك: المشهور بين الأصحاب أن حكم التعزير حكم الحد في التفصيل السابق
فيتعدد على فاعله إذا تعدد سببه بألفاظ متعددة لجماعة بأن قال لكل منهم: إنه
فاسق مثلا وكذا مع اتحاد اللفظ ومجيئهم به متفرقين ويتحد مع مجيئهم به مجتمعين
ثانيهما: ما ذهب إليه ابن إدريس فإنه قال في السرائر: وحكم تعريض
الواحد بالجماعة بما يوجب التعزير بلفظ واحد أو لكل منهم بتعريض يخصه ما
قدمناه في حكم القذف الصريح على ما اختاره شيخنا المفيد في مقنعته، والأولى
عندي أن يعزر لكل واحد منهم فإنه قد آلمه، وحمل ذلك على القذف الصريح في
الجماعة بكلمة واحدة قياس لا نقول به وشيخنا أبو جعفر رحمه الله غير قائل بما
قاله شيخنا المفيد رحمه الله في هذه الفتيا انتهى.
أقول: إن من المسلم أنه لم يرد في المسألة نص بالخصوص فحينئذ لا بد من
الفحص عن الدليل على القولين.
203

وقد استدل المشهور بالأولوية. بيانه أن تداخل الحد في باب القذف الثابت
بالروايات يقتضي تداخل التعزير في باب السب بطريق أولى وذلك لكون
التعزير أضعف من الحد.
وقد تمسك ابن إدريس بما هو مقتضى القاعدة بعد اختصاص النص بباب
القذف، وإسراء الحكم المنصوص الجاري في القذف بالنسبة إلى السب قياس
عنده، ومعلوم أن مقتضى القاعدة هو تعدد المسببات بتعدد الأسباب،
والتداخل خلاف الأصل ويحتاج إلى دليل.
قال المحقق: ولا معنى للاختلاف هنا.
والوجه في ذلك كما في الجواهر هو أن التعزير منوط بنظر الحاكم وليس له
بالنسبة إلى كل واحد حد محدود، فهو يؤدب بما يراه، فإذا كان أمره بيد الحاكم
قليلا أو كثيرا بل وعفوا وإيفائا فلا معنى للقول بأن حكمه حكم الحد.
أقول: إن فصل النزاع هو البحث في أن هذا التعزير هل هو حق الله أو حق
الناس؟ فلو كان من حقوق الله لتم ما ذكره من أن أمره بيد الحاكم ولا معنى
للاختلاف في الوحدة والتعدد. أما لو كان من قبيل حقوق الناس بأن كان حقا
للمسبوب كما أن حد القذف حق للمقذوف فلكل واحد من المسبوبين حق على
الساب ولا بد من القول بالتعدد إلا مع العفو عن ناحية صاحب الحق.
ويظهر من عبارة المحقق حيث حقق أنه لا معنى للاختلاف هنا أنه يرى
التعزير حق الله، فللحاكم الذي له ولاية التعزير اختيار الأقل أو الأكثر والزائد
والناقص بما يراه مصلحة، فربما يعزر لحق واحد أكثر مما يعزر لحق متعدد وربما
يعزر لحق أشخاص متعددين بأقل مما يعزر لحق شخص واحد فحينئذ لا معنى
ولا وجه للاختلاف في أن اجتماع المسبوبين في المطالبة يوجب تداخل التعزير
ووحدته أولا. وأما لو كان من حق الناس فلا يجري هذا الكلام.
وقد أورد عليه في المسالك بأن ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا زاد عدد المسبوبين
عن عدد أسواط الحد فإنه مع الحكم بتعدد التعزير يجب ضربه أزيد من الحد
204

ليخص كل واحد منهم سوطا فصاعدا. وعلى القول باتحاده لا يجوز له بلوغ الحد
بالتعزير مطلقا وقد يظهر الفائدة في طرف النقصان أيضا.
أقول: وهذه الثمرة أيضا منوطة بالبحث المزبور أعني كون التعزير حق الله أو
حق الناس.
ثم إنه قدس سره ذكر تقريبا للالحاق: ولا نص على حكم التعزير بخصوصه
لكن تداخل الحد يقتضي تداخل التعزير الأضعف بطريق أولى (1).
أقول: إن الأولوية التي تمسك بها في المقام لا تخلو عن كلام وذلك لأن
الأولوية إذا كانت في مورد الاتيان به مجتمعين لكنها لا تجري فيما إذا كان الاتيان
به متفرقين.
يعني: إنه يمكن أن يقال: إذا كان إتيان المقذوفين بالقاذف مجتمعين يوجب
التداخل والاكتفاء بحد واحد فإتيان المسبوبين بالساب كذلك يوجب الاكتفاء
بتعزير واحد بالأولوية لكون موجب الحد أعظم ذنبا إلا أن تعدد الحد في باب
القذف إذا كانوا قد أتوا به متفرقين لا يدل على تعدد التعزير إذا كان المسبوبون
قد أتوا بالساب متفرقين بل يحكم فيها بمقتضى القاعدة. لأنه ليس من قبيل
(ولا تقل لهما أف) (2).
ولعل الأحسن تقريب الأولوية وتقريرها بأنه إذا كان المجئ به للمطالبة
متفرقا يوجب تداخل العقوبة في الذنب الأكبر وهي الحد فهو يوجب تداخل
العقوبة في الأضعف وهي التعزير بطريق أولى (3).

(1) مسالك الأفهام ج 2 الافست ص 437.
(2) سورة الإسراء، الآية 23.
(3) أقول: الظاهر عدم ورود إشكاله دام ظله العالي على المسالك وذلك لأنه لم يعتمد على الأولوية في فرضي الإتيان به مجتمعين ومتفرقين حتى يورد عليه بذلك بل إنه تمسك به في
فرض الإتيان به مجتمعين للحكم بالتداخل فراجع عبارته قدس سره وهو دام ظله قد اعترف
بصحة الأولوية هنا
وإني أظن أنه اعتمد هنا على عبارة الجواهر حيث إن ظاهر نقل عبارة المسالك
في الجواهر هو أنه يقول بكون التعزير في الفرضين كالحد فيهما بالأولوية فراجع.
205

ثم بناءا على عدم تمامية الأولوية فحيث إن النص وارد في غير هذا المورد
فلا بد في المقام من الجري على حسب القواعد من تعدد المسببات بتعدد
الأسباب.
هذا بالنسبة إلى السب بكلمة واحدة وأما إذا كان السب متعددا بأن قذف
جماعة واحدا بعد واحد فهو على حسب القاعدة فيكون لكل واحد منهم تعزير
خاص.
قذف والدي المخاطب بلفظ واحد
قال المحقق: وكذا لو قال: يا بن الزانيين، فإن الحد لهما ويحد حدا واحدا مع
الاجتماع على المطالبة وحدين مع التعاقب.
أقول: وذلك لأنه لا فرق بين هذه الصورة والصورة المبحوث عنها آنفا إلا في
أن المقذوف هناك كان جماعة وهنا اثنان حيث نسب الزنا إلى أب المخاطب
وأمه.
المسألة الثانية في إرث حد القذف
قال المحقق: حد القذف موروث يرثه من يرث المال من الذكور والإناث
عدا الزوج والزوجة.
أقول: إن حد القذف ينتقل من المقذوف لو لم يستوفه ولا عفا عنه إلى من
يرث منه المال سوى الزوج والزوجة.
لكن لا يخفى أنه ليس على نحو إرث المال في توزيعه بما هو مقرر في الكتاب
206

والسنة كقوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) (1) بل لكل واحد من أولاده
هذا الحق بحيث لو عفى عنه جميعهم سوى واحد منهم فإن له استيفاءه بتمامه
لا بخصوص حصته. ثم إنه قد استدل على كونه موروثا بأمور:
الأول: الاجماع بقسميه عليه كما في الجواهر، وفي المبسوط نسبة ذلك إلى
أصحابنا.
الثاني: العمومات مثل كلما كان للميت من مال أو حق فهو لوارثه. وإن كان
يرد عليه أن عمومات الإرث غير وافية بالمطلب هنا لأنها لو دلت لدلت على
كونه كإرث المال في خصوصياته.
الثالث: روايات خاصة، منها: ذيل صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر
عليه السلام: وإن قال لابنه: يا بن الزانية وأمه ميتة ولم يكن لها من يأخذ بحقها
منه إلا ولدها منه فإنه لا يقام عليه الحد لأن حق الحد قد صار لولده منها، فإن
كان لها ولد من غيره فهو وليها يجلد له وإن لم يكن لها ولد من غيره وكان لها
قرابة يقومون بأخذ الحد جلد لهم (2).
ومنها: خبر عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لو أن
رجلا قال لرجل: يا بن الفاعلة يعني الزنا وكان للمقذوف أخ لأبيه وأمه فعفا
أحدهما عن القاذف وأراد أحدهما أن يقدمه إلى الوالي ويجلده أكان ذلك له؟
قال: أليس أمه هي أم الذي عفا؟ ثم قال: إن العفو إليهما جميعا إذا كانت أمهما
ميتة، فالأمر إليهما في العفو، وإن كانت حية فالأمر إليها في العفو (3).
نعم في بعض الروايات ما يوهم خلاف ذلك، وذلك كخبر السكوني عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: الحد لا يورث (4).

(1) سورة النساء الآية 11.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حد القذف ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حد القذف ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حد القذف ح 3.
207

ولكنه قد حمل على أنه لا يورث كإرث الأموال فإنها تورث على نظام
مخصوص وتوزع بين الورثة بصورة خاصة بخلاف حد القذف فإنه وإن كان
ينتقل إلى من نفي عن الميت ولكنه يكون لكل واحد من أولاده وأقربائه فهو في
الحقيقة ولاية مخصوصة لكل واحد من الأولاد مثلا وبذلك يجمع بين القسمين
من الأخبار.
كما يدل على ذلك رواية عمار الساباطي عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
سمعته يقول: إن الحد لا يورث كما تورث الدية والمال ولكن من قام به من
الورثة فهو وليه ومن تركه فلم يطلبه فلا حق له وذلك مثل رجل قذف
وللمقذوف أخ (أخوان) فإن عفا عنه أحدهما كان للآخر أن يطلبه بحقه لأنها
أمهما جميعا والعفو إليهما جميعا (1).
وعندي أنه لا منافاة بين القسمين بل مفاد أحدهما أنه ينتقل هذا الحق إلى
الأولاد مثلا ومفاد الآخر أنه ليس إرثا ولا تنافي بين هذين المفادين فإن الخبر
المثبت لا يقول إنه إرث وإنما يفيد مجرد أن هذا الحق لهم جميعا وأنه ليس كحق
الخيار الموقوف إعماله بعد الموت على طلب الجميع فالمصحح لاطلاق الإرث
عليه هو انتقاله إلى الورثة والأرحام بلا فرق بين وقوع القذف بعد الموت أو في
حياته ولم يستوف حتى مات.
ثم إن ذيل الخبر أي قوله عليه السلام: لأنها أمهما جميعا، قرينة على أن
المقذوف كان هو الأم وإنما نسب إلى الرجل مجازا.
ثم إنه قد استثني كما أشرنا إليه من ذوي الميراث، الزوج والزوجة وسائر
ذوي الأسباب فإنه ليس لهم هذه الولاية إلا الإمام.
قيل في معنى إرث الإمام ذلك: إن له ولاية الاستيفاء دون العفو فإنه ليس له
ذلك، وقيل: إن له العفو أيضا إذا كان فيه مصلحة.
بقي البحث في أنه هل لمطلق الأقارب والأرحام هذه الولاية أو أنها لخصوص

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب القذف ح 2.
208

الوارث منهم فإنه لم يتضح البحث من هذه الناحية (1).
نقول: حيث إنه لا تعرض لذلك في الأخبار فلذا يحمل على كيفية الإرث
بمقتضى قوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) (2) فيتقدم الطبقة
الأولى على الثانية وهكذا وذلك لا ينافي ما ورد من أنه ليس كإرث المال فإنه
متعلق بكيفية التوزيع والتقسيم، والأمر هنا ليس كذلك.
وأما الأشخاص القائمون بهذا الحق فحيث لم يبين هذه الخصوصية فيحمل
على طبقات الوارثين فليس لغير الوارث من الأرحام هذه الولاية.
المسألة الثالثة في قذف ابن المواجه أو بنته
قال المحقق: لو قال: ابنك زان أو لائط أو بنتك زانية فالحد لهما لا للمواجه
فإن سبقا بالاستيفاء أو العفو فلا بحث وإن سبق الأب قال في النهاية: له المطالبة
والعفو، وفيه إشكال لأن المستحق موجود وله ولاية المطالبة فلا يتسلط الأب
كما في غيره من الحقوق.
أقول: ما ذكره قدس سره على حسب القاعدة فإن المخاطب والمواجه وإن
كان هو الأب إلا أن النسبة متعلقة للابن أو البنت فلو سبقا إلى المطالبة
والاستيفاء أو العفو فهو فإن الحق لهما فيجوز الاستيفاء والعفو. وأما لو سبق
الأب فقد سبق غير صاحب الحق فعلى القاعدة لا ينفذ ذلك خلافا للشيخ
الطوسي قدس سره حيث صرح بأن له الاستيفاء والعفو، قال في النهاية: إن
قال: ابنك زان أو لائط، أو: بنتك زانية أو: قد زنت كان عليه الحد، وللمقذوف
المطالبة بإقامة الحد عليه سواء كان ابنه أو بنته حيين أو ميتين وكان إليه أيضا

(1) أورده هذا العبد وقد أجاب دام ظله بما قررناه ولا يخفى أنه صرح في المسالك بأن المطالبة
للذين يرثون ماله، وشبيه ذلك في الخلاف هنا وفي باب اللعان فراجع
(2) سورة الأنفال الآية 75.
209

العفو إلا أن يسبقه الابن أو البنت إلى العفو فإن سبقا إلى ذلك كان عفوهما جائزا
انتهى (1).
وفيه أن المقذوف هو الابن أو البنت لا أبوهما وهو قدس سره قد أطلق
المقذوف على الأب بشهادة قوله: سواء كان ابنه أو بنته حيين أو ميتين (2).
احتج الشيخ قدس سره كما في المختلف (3) بأن العار هنا لاحق للأب فكان له
المطالبة بالحد.
وقد أجاب عنه العلامة أعلى الله مقامه بالمنع من الملازمة. ونحن أيضا نقول:
بأن مجرد أن العار لاحق له فهو لا يصحح الاطلاق وإلا فالعار متوجه إلى سائر
الأرحام والأقارب أيضا.
ثم إنه يرد عليه أيضا أنه لو قلنا إن الأب أيضا ذو حق فله أن يستوفي وأن
يعفو، فلماذا قال بعد ذلك بأنه إن سبق الابن أو البنت إلى العفو كان جائزا
ونافذا؟ فإن هذا يفيد أنه ليس للأب حينئذ المخالفة، والحال أنه لو كان هو أيضا
صاحب الحق فعفو واحد من ذوي الحقوق لا يوجب سقوط حق الباقين بل له
استيفاؤه جميعا كما تقدم ذلك فلو كان للاشكال الأول مفر بتسويغ إطلاق
المقذوف على الأب فأي مفر عن هذا الاشكال؟.
وعلى الجملة فالظاهر أنه ليس على ما ذكره رحمه الله دليل يقوم به فإن الحق

(1) النهاية ص 724.
(2) أقول: إنه أطلق عليه المقذوف مجازا، والمسوغ هو ما ذكره المحقق في نكت النهاية ج 3
ص 341 من أن الولد قطعة من الأب وجزء منه فكان قذف الولد جاريا مجرى قذف الوالد.
هذا مضافا إلى ورود هذا الإيراد في موثق الساباطي حيث قال: وذلك مثل رجل قذف
رجلا وللمقذوف أخوان فإن عفى أحدهما عنه كان للآخر أن يطالبه بحقه لأنها أمهما جميعا فمع
أن المقذوف كان هو الأم بقرينة التعليل فقد أطلق على المواجه، المقذوف، والمصحح ما
ذكرناه، وقد أوردت ذلك في مجلس الدرس أيضا.
(3) المختلف ص 780.
210

متعلق بالابن أو البنت لا بالأب كي يستوفي أو يعفو.
ثم إنه استدرك في الجواهر بقوله: نعم له الاستيفاء إذا فرض ولايته عليها
على وجه لا يصلحان لاستيفائه كما إذا كانا صغيرين وورثاه بل لا يبعد أن له
العفو أيضا مع عدم المفسدة للاطلاق وإن استشكل فيه بعض انتهى.
أقول: المقصود من الاطلاق إطلاق أدلة الولاية.
ثم أقول: إن ولاية الأب على الصغير ولاية مشترطة برعاية المصالح فعفوه
موقوف على أن يكون في ذلك مصلحة للصغير كما إذا كان بحيث يخاف عليه من
ناحية القاذف بأن يضربه أو يضربه وأما بدون ذلك فليس له ذلك هذا أولا
وأما ثانيا فلأن غاية التقريب في ذلك هو أن له استيفاء الحد من القاذف لأنه حق
للصغير وحيث لا يمكنه الاستيفاء فالأب يتولى ذلك الحق الذي ورثه وانتقل من
أمه إليه فيطالب بحق الصبي الذي يتولى أمره والحال أن هذا خلاف ما هو
المستفاد من رواية فضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام: لا حد لمن لا حد
عليه (1) فإنها بإطلاقها تدل على أن من لا يحد عليه إذا قذف أحدا لعدم كونه
مكلفا فلا يحد أحدا ولا يحكم بأن له حق الحد سواء كان لنفسه أو لغيره وذلك
لأن الملاك والعلة في عدم كون الحق له هو أنه لا يقام عليه الحد إذا قذف، لعدم
كونه مكلفا وهذه العلة موجودة وهذا الملاك محقق في ما إذا كان الحد للأم وأريد
انتقاله إليه بل ويمكن أن يقال: إذا لم يكن قذف الغير له بنفسه موجبا لحق له على
القاذف وليس له أن يقيم عليه الحد فقذف أمه لا يوجب صيرورته ذا حق
بالأولوية ولا يكون له على القاذف حد بطريق أولى حتى يكون لأبيه إجراء هذا
الحد.
ولمزيد الوضوح وتحقيق المطلب نقول: إن الإمام عليه السلام فسر اللام وأنه
أعم من كونه له ابتداءا أو إرثا فإليك رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر
عليه السلام عن رجل قذف ابنه بالزنا قال: لو قتله ما قتل به وإن قذفه لم يجلد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 19 من مقدمات الحدود ح 1.
211

له. قلت: فإن قذف أبوه أمه؟ قال: إن قذفها وانتفى من ولدها تلاعنا ولم يلزم
ذلك الولد الذي انتفى منه وفرق بينهما... وإن قال لابنه: يا بن الزانية وأمه
ميتة ولم يكن لها من يأخذ بحقها منه إلا ولدها منه فإنه لا يقام عليه الحد لأن حق
الحد قد صار لولده منها... (1).
ترى أنه عليه السلام علل عدم إقامة الحد على القاذف بأن حق الحد قد تحول
من الأم إلى الابن وحيث إن الوالد لا يجلد في ولده فلا يجوز جلد الأب. فقد ظهر
من هذه العلة أنه لا فرق في تحقق معنى النفع المستفاد من اللام بين كونه له شخصا
وابتداءا أو إرثا وانتقالا من غيره إليه فكما لا يجوز للابن أن يجلد أباه لحقه
الشخصي بأن كان الأب قد قذفه بنفسه كذلك لا يجوز له أن يجلده لحقه الإرثي كما
إذا قذف الرجل زوجته الميتة وكان ولده منها أراد الاستيفاء فإنه لا يجوز ذلك.
وتعبيره عليه السلام بصيرورته له يراد به أنه صار له لولا المانع وهو هنا
الأبوة والبنوة.
وحينئذ نرجع إلى البحث في المقام وهو ما إذا قذف الابن أو البنت مع كونهما
صغيرين الذي قال صاحب الجواهر بأن للأب استيفاء حقهما إذا كانا صغيرين
ونقول: بأن مقتضى ما ذكرناه هو أن من لا حد عليه إذا قذف أحدا لصغره مثلا
فليس له حق الحد على من قذفه سواء كان الحق شخصيا بأن صار بنفسه
مقذوفا، أو إرثيا كما إذا قذفت أمه وماتت بلا استيفاء أو عفو، وكما أنه في المورد
الأول ليس للصغير حق الحد على ما اعترف به صاحب الجواهر فكذلك في
الثاني، فإنه أيضا حد له بشهادة رواية ابن مسلم، وعليه فليس له حق الحد
حتى يكون للأب حق الاستيفاء أو العفو ولاية على الصغيرين فإن مقتضى
الرواية المزبورة هو أن الحد الذي ينتقل إلى الطفل أيضا يعد حدا له، وقد دلت
رواية الفضيل على أن من لا يقام عليه الحد لعدم كونه مكلفا فليس له حق الحد
على غيره حتى يستوفي منه.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حد القذف ح 1.
212

المسألة الرابعة في عدم سقوط الحد بعفو بعض الورثة
قال المحقق: إذا ورث الحد جماعة لم يسقط بعفو البعض فللباقين المطالبة
بالحد تاما ولو بقي واحد، أما لو عفى الجماعة أو كان المستحق واحدا فعفا فقد
سقط الحد.
أقول: إن سقوط الحد بالعفو عنه منوط بعفو جميع من له هذا الحق فلا يتقسط
هذا الحق فلا أثر لعفو البعض. والسر في ذلك أنه ليس كإرث المال حتى يكون
لكل واحد من الورثة منه بحسابه، بل هو مجرد الولاية، وحيث إنها ثابتة للجميع
فلكل واحد منهم إعمال هذه الولاية ومطالبة هذا الحق.
وقد ادعى في الجواهر على ذلك عدم خلاف يجده، بل عن الغنية الاجماع
عليه.
ويدل عليه أيضا موثق عمار الساباطي عن الصادق عليه السلام المذكور
آنفا فإن فيه التصريح بأن من تركه لا حق له ومن قام به يكون هو وليه وأنه إذا
قذف امرأة ميتة فعفى واحد من ابنيها كان للآخر أن يطالبه بحقه وعلل ذلك بأنها
أمهما جميعا، فكما أنها أم للعافي فهي أم للمطالب، وفي الآخر صرح بأن العفو
إليهما جميعا (1). وأما نفوذ العفو إذا كان قد عفا الجميع أو كان المستحق واحدا
غير متعدد ففي الجواهر: بلا خلاف ولا إشكال ضرورة كونه من حقوق
الآدميين القابلة للسقوط بالاسقاط وغيره انتهى.
ويدل على ذلك خبر ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السلام قال:
لا يعفى عن الحدود التي لله دون الإمام فأما ما كان من حق الناس في حد فلا بأس
أن يعفى عنه دون الإمام (2).
نعم ليس له المطالبة بعد العفو كما يدل على ذلك خبر سماعة بن مهران عن أبي

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب حد القذف ح 1 و 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 من مقدمات الحدود ح 1.
213

عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الرجل يفتري على الرجل فيعفو عنه ثم
يريد أن يجلده بعد العفو قال: ليس له أن يجلده بعد العفو (1).
ومثله روايته الأخرى عن الصادق عليه السلام (2).
ثم إن مقتضى إطلاق الروايتين - موثقة سماعة وخبر ضريس - عدم الفرق
بين وقوع العفو قبل المرافعة أو بعدها ولا بين الزوجة وغيرها فكما أنه لو قذف
أجنبية وقد عفت عنه يسقط عنه الحد كذلك لو قذف زوجته وعفت هي، بلا
فرق بينهما أصلا وذلك لما مر من الاطلاق، وعدم الخلاف فيه. مع أنه موافق
للقاعدة لأنه حق للآدميين القابل للسقوط مع الاسقاط.
نعم خالف في ذلك الشيخ الطوسي في التهذيب والاستبصار، وكذا يحيى بن
سعيد وذلك لخبر محمد بن مسلم: قال سألته عن الرجل يقذف امرأته قال:
يجلد. قلت: أرأيت إن عفت عنه؟ قال: لا ولا كرامة (3).
قال الشيخ قدس سره في التهذيب بعد نقل هذه الرواية: هذا الخبر لا ينافي
خبر سماعة الذي يتضمن جواز العفو لأن هذا محمول على أنه ليس لها إلا العفو
بعد رفعها إلى السلطان وعلمه به، وإنما كان لها العفو قبل ذلك على ما نبينه فيما
بعد إن شاء الله انتهى كلامه رفع مقامه.
وقال ابن سعيد الحلي: وإن رمى زوجته بالزنا بولد على فراشه فلاعنها ثم
اعترف، أو أقر بالولد ثم رماها بالزنا به، أو قذفها بالزنا فلاعنها ثم اعترف
بكذبه حد (ثم قال:) ولا عفو عن الحد بعد الرفع إلى الإمام ويجوز قبله (4).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 21 من أبواب حد القذف ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 18 من مقدمات الحدود ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 20 من أبواب حد القذف ح 4.
(4) جامع الشرايع ص 565 أقول: وقد نقلت متن عبارته ليعلم أنه يمكن أن يكون مراده
المطلق دون خصوص الزوجة إلا يكون ذكر المطلب بعد الحث عن الزوجة قرينة على
إرادة المقيد وفيه أنه قال بعد أسطر بالنسبة إلى قذف المكاتب: فإن وهبه الحد قبل الرفع جاز.
214

وقد أورد صاحب الجواهر على الشيخ قدس سرهما (في حمله خبر ابن مسلم
على ما بعد المرافعة) بعدم الشاهد له وأن المتجه على تقدير العمل به هو تخصيصه
أو تقييده إطلاق ما دل على العفو.
أقول: إن ما ذكره جيد فإن ما دل على جواز العفو ونفوذه عام أو مطلق
فيخصص أو يقيد بخصوص مورد عفو الزوجة لزوجها الذي قذفها، ولذا أفتى
الصدوق في المقنع على طبقه مطلقا فقال: وإذا قذف الرجل امرأته فليس لها أن
تعفو عنه. هذا مضافا إلى عدم صراحة الرواية في عدم جوازه ونفوذه وإن كان
مقتضى قوله عليه السلام: (لا) هو ذلك إلا أن تعقيب ذلك بقوله: (ولا كرامة)
يضعف هذا الظهور وينقصه ولعله يكون قرينة على إرادة الكراهة والتنزيه دون
الالزام والتحريم خصوصا بلحاظ كونها مضمرة ومعرضا عنها عند المشهور،
وعلى هذا فيجوز العفو مطلقا.
نعم هنا خبران أمكن عنده تأييد ما ذكره الشيخ بهما:
أحدهما: خبر سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أخذ
سارقا فعفى عنه فذلك له فإذا رفع إلى الإمام قطعه، فإن قال الذي سرق له: أنا
أهبه له لم يدعه إلى الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه وإنما الهبة قبل أن يرفع إلى
إمام وذلك قول الله عز وجل: (والحافظين لحدود الله)، فإذا انتهى الحد إلى
الإمام فليس لأحد أن يتركه (1).
ثانيهما: خبر حمزة بن حمران عن أحدهما عليهما السلام قال: سئلته عن
رجل أعتق نصف جاريته ثم قذفها بالزنا قال: قال: أرى عليه خمسين جلدة
ويستغفر الله عز وجل. قلت: أرأيت إن جعلته في حل وعفت عنه؟ قال:
لا ضرب عليه إذا عفت عنه من قبل أن ترفعه (2) ومع ذلك فقد أورد قدس سره
عليهما بقوله: إلا أنه مع كون الثاني منهما بالمفهوم غير جامعين لشرائط الحجية.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 17 من مقدمات الحدود ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 3.
215

أقول: يعني في قبال الروايات الدالة بالمنطوق على جواز العفو مطلقا،
ولا شك في أن دلالة المنطوق الدال على الجواز أقوى من دلالة المفهوم الدال على
عدم جواز العفو بعد الرفع فإنه ضعيف. هذا. وكذا هما غير جامعين لشرائط
الحجية - لضعف الروايتين سندا (1) - خلافا لما دل على الجواز على ما تقدم.
ثم إنا نزيد على ما ذكره أن الرواية الأولى متعلقة بباب السرقة دون القذف
الذي هو محل الكلام.
وإن كان ربما يتوهم أن قوله عليه السلام: إنما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام إلخ
يشعر بالتعميم وإرادة مطلق الحد وإن لم يكن حد السرقة إلا أنه بعد تفصيل
الإمام أبي جعفر عليه السلام في خبر ضريس المذكور آنفا بأنه لا يعفى عن
الحدود التي لله سوى الإمام وأما ما كان من حقوق الناس فلا بأس بأن يعفى عنه
غير الإمام، فلا بد من أن يكون المراد هو هذا الحد أي حد السرقة الذي هو من
حقوق الله تعالى. فهذا الخبر يدل على عدم جواز العفو في حقوق الله تعالى وإن
كان بظاهره يفيد العموم لكن لا بد من الحمل على ذلك والمخصص هو خبر
ضريس، والنتيجة أنه إذا انتهى الحد إلى الإمام فليس لا حد أن يتركه إذا كان
حق الله سبحانه، وأين هذا من العفو عن حد القذف الذي هو حق الناس.
هذا مضافا إلى ما في متن الخبر الأخير من إيجاب خمسين جلدة عليه فإنه لا
يلائم ما هو المقرر من أن حد القذف ثمانون فنصفه يكون أربعين والمفروض في
الرواية هو عتق نصف الجارية المقذوفة فكيف يلزم جلد خمسين، وقد تقدم
توجيه ذلك بأنه إما أن يكون العشرة الزائدة من باب التعزير أو أن المراد من
النصف قسم منها وهو خمسة أثمانها، كما ذكره الشيخ قدس سره فقد أريد
بالنصف معناه المجازي.
وكيف كان فالحق ما هو المشهور من جواز العفو مطلقا بلا فرق بين الزوجة
وغيرها.

(1) فإن سماعة بن مهران واقفي على ما نقل عن الصدوق، وحمزة بن حمران لم تثبت وثاقته
وصرح في مرآة العقول ج 23 ص 319 بأنه مجهول.
216

لمستحق الحد المطالبة والعفو مطلقا
قال المحقق: ولمستحق الحد أن يعفو قبل ثبوت حقه وبعده وليس للحاكم
الاعتراض عليه ولا يقام إلا بعد مطالبة المستحق.
أقول: وجه ذلك قد اتضح من الأبحاث المتقدمة وأن حد القذف من حقوق
الناس فراجع.
المسألة الخامسة في ثبوت القتل في الثالثة مع تكرر حد القذف مرتين
قال المحقق: إذا تكرر الحد بتكرر القذف مرتين قتل في الثالثة وقيل في
الرابعة وهو أولى.
أقول: حيث إن القذف من الكبائر وقد ثبت أن أصحاب الكبائر يقتلون في
المرة الثالثة إذا أقيم عليهم الحد مرتين، فعلى هذا لو قذف مرة وأقيم عليه الحد ثم
عاد وقذف ثانيا وأجري عليه الحد أيضا ثم عاد إليه ثالثا فهناك يحكم بقتله.
والذي يدل على الكبرى هو صحيح يونس عن أبي الحسن الماضي عليه
السلام قال: أصحاب الكبائر كلها إذا أقيم عليهم الحد مرتين قتلوا في الثالثة (1).
نعم إن الصحيح المزبور قد خصص بباب الزنا فيقتل في الرابعة لخبر أبي بصير
عن أبي عبد الله عليه السلام، وخبر محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام (2)
وقد مر البحث في ذلك سابقا (3) وحيث إن المخصص مختص بباب الزنا فقد أفتوا
في باب القذف بقتل القاذف في الثالثة عطفا على سائر الكبائر واقتصارا في
التخصيص والاستثناء على القدر المنصوص عليه.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب مقدمات الحدود ح 2 و 3.
(3) راجع الدر المنضود بقلم هذا العبد ج 1 ص 339 و 340.
217

وأما وجه كون القتل هنا في الرابعة أولى كما في عبارة المحقق وأحوط كما في
عبارة بعض آخر فهو أن القذف في حول باب الزنا وليس بمعزل عنه بل هو من
مناسباته فمراعاة حق الدماء تناسب تأخير قتله إلى الرابعة. وعلى الجملة فحيث
يحتمل الالحاق بالزنا الذي ورد النص المعتبر بأنه يحد في الرابعة فيكون الأولى
قتل القاذف في الرابعة كما أن ذلك هو الأحوط.
وفي الجواهر (بعد ذكر أنه أولى وأحوط): لولا الصحيح - ومراده من
الصحيح هو صحيح يونس المذكور آنفا. ثم قال: اللهم إلا أن يكون من الشبهة
باعتبار احتمال إلحاقه بما دل عليه في الزناء الذي هو أولى منه انتهى.
تقريب هذه الأولوية أنه إذا كان الزنا مع تلك الأهمية البالغة بين المعاصي،
لا يقتل مرتكبه في المرة الثالثة فكيف بمن لم يزن وإنما نسب أحدا إلى الزنا فهو
أولى بأن لا يقتل في الثالثة بل يؤخر إلى الرابعة. فيكون المقام نظير: (لا تقل لهما
أف) (1) الدال على تحريم ضرب الوالدين بالأولوية.
فيما لو حكم القاذف ثانيا بصحة ما قذفه به أولا
قال المحقق: ولو قذف فحد فقال: الذي قلت كان صحيحا وجب بالثاني
التعزير لأنه ليس بصريح.
أقول: لا نزاع في أنه إذا قال لأحد: أنت زان، مثلا ثم بعد ذلك عاد إليه وقال
له: الذي قلت كان صحيحا، مثلا فهو لا يوجب حدا جديدا وإنما الموجب للحد
هو قوله الأول إلا أن البحث والنزاع في الدليل على ذلك.
فاستدل المحقق له بعدم صراحة اللفظ الثاني وقد تقدم منه في أول أبحاث
القذف اعتبار الصراحة فيه وأن التعريض لا يوجب إلا التعزير.
في حين أن صاحب الجواهر قد أنكر ذلك وصرح بأن ذلك لصحيح محمد بن

(1) سورة الإسراء الآية 22.
218

مسلم ويمكن أن يستفاد من عبارته أن اللفظ المزبور لعله يكون صريحا، فالمانع
ليس من هذه الناحية بل من جهة التعبد.
فلو كان النزاع بين العلمين في الصراحة وعدمها فالظاهر هو ما أفاده
المحقق، وذلك لأن القاذف لم يقل في المرة الثانية: أنت زان مثلا حتى يكون لفظا
صريحا في القذف بل إنه ألقى كلمة تلازم ذلك فهي قذف بلازمها لا بصريحها.
أما لو كان نظر صاحب الجواهر إلى إنكار صراحته والاعتراف بظهوره طبقا
لما ذهب إليه سابقا من كفاية الظهور في القذف، فالحق معه، وعلى هذا يؤول
الأمر إلى أنه وإن كان هذا اللفظ ظاهرا في القذف وهو يقتضي أن يترتب عليه
الحد إلا أن الرواية تمنع عن ذلك وهي:
محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يقذف الرجل فيجلد
فيعود عليه بالقذف فقال: إن قال له: إن الذي قلت لك حق، لم يجلد وإن قذفه
بالزنا بعد ما جلد فعليه الحد وإن قذفه قبل ما يجلد بعشر قذفات لم يكن عليه إلا
حد واحد (1). والفرض الأول من الرواية هو عين محل البحث وقد صرح الإمام
عليه السلام فيه بأنه لم يجلد.
والحق أن مفاد الرواية ليس هو الحكم بعدم الحد مع مفروغية الصراحة أو
الظهور الملحوظ في باب القذف حتى يكون الحكم على خلاف المتعارف ومبنيا
على التعبد المحض بأن يكون خصوص هذا الكلام موجبا للتعزير وإن كان قذفا
بل المراد أنه ليس من باب القذف تخصصا فلا يترتب عليه الحد بالطبع.
فرع آخر
وهنا فرع آخر يشبه الفرع المذكور وإن لم يكن مذكورا في كلماتهم وهو أنه لو
قال القاذف: أنت زان، وقال ثالث للمقذوف: إن الذي قاله فلان حق أو

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد القذف ح 1.
219

صحيح، فإذا كان الظاهر من الصحيحة عدم كون الكلام المزبور قذفا فإنه يجري
الحكم المذكور في فرض الرواية، في هذا الفرض أيضا، وعلى الجملة فالمثالان
نظير باب التعريض الذي لا يترتب عليه الحد على ما تقدم.
القذف المتكرر
قال المحقق: والقذف المتكرر يوجب حدا واحدا لا أكثر.
أقول: ويدل على ذلك ذيل صحيحة محمد بن مسلم المذكورة آنفا حيث
قال: وإن قذفه قبل أن يجلد بعشر قذفات لم يكن عليه إلا حد واحد. هذا مضافا
إلى أنه بعينه نظير موجبات الغسل أو الوضوء حيث إن غسلا واحدا أو وضوءا
واحدا يكفي لأحداث متعددة قال في الجواهر: ولصدق موجب الرمي وإن
تعدد.
وقال قدس سره بعد ذلك: نعم لو تعدد المقذوف تعدد الحد لكل واحد منهم.
ثم قال: بل لو تعدد المقذوف به للواحد كأن قذفه مرة بالزنا وأخرى باللواط
وثالثة بأنه ملوط به ففي كشف اللثام: عليه لكل قذف حد.
أقول: إن كاشف اللثام بعد أن حكم بأنه لو كرره بعد الحد حد ثانيها وثالثها
وهكذا لعموم، (الذين يرمون المحصنات)، والأخبار... قال: وكذا إذا اختلف
المقذوف به وإن اتحد المقذوف كأن قذفه مرة بالزنا وأخرى باللواط وأخرى بأنه
ملوط به فعليه لكل حد وإن لم يتخلل الحد فإن الاجماع والنصوص دلت على
إيجاب الرمي بالزنا الحد ثمانين اتحد أو تكرر وكذا الرمي باللواط وكذا بأنه ملوط
به ولا دليل على تداخلها انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: تعدد القذف تارة يكون مع اتحاد المقذوف به وأخرى مع تعدده،
ولا شك في تداخل الأسباب في الصورة الأولى على ما مر بيانه وأنه صريح ذيل
الصحيحة كما أنها صرحت بتكرر الحد مع تخلل الحد.
وأما الصورة الثانية وهي ما إذا تعدد المقذوف به فإن تخلل الحد بينها فالحكم
220

واضح وأما بدون ذلك فيمكن إلحاقها بالفرض المذكور في ذيل الصحيحة،
ويحكم فيها بعدم تكرار الحد وذلك بأن يقال: إن القذفات المتكررة المتعددة
كأسباب الوضوء والغسل، العديدة لا يزيد بالثاني منها على ما حدث بالأول
شئ فالوضوء مثلا قد انتقض بالحدث الأول وكذا بالنسبة إلى الغسل، وكذلك
الأمر بالنسبة إلى الخبث فالملاقاة للبول في المرة الأولى أوجبت نجاسة الملاقي
وأما المرات المتعاقبة المتأخرة فلا تؤثر شيئا.
نعم فيما إذا كانت الأسباب متفاوتة الأثر شدة وضعفا فلا محالة تتقدم الكيفية
الشديدة ويكون التقدم مع الأثر الأقوى كما لا يخفى.
ويمكن القول بعدم إلحاقه به فيحكم بتعدد الحد على حسب تعدد السبب بأن
يقال: إن التداخل خلاف القاعدة فإن كل سبب يطالب مسببا مستقلا وإنما
خرج مورد بالنص فالباقي باق تحت عموم القاعدة، والرمي إلى الزنا شئ وإلى
اللواط شئ آخر وهو فاعلا غيره مفعولا فلا وجه لتداخل تلك الأسباب
المختلفة وإلى ذلك كان نظر كاشف اللثام.
ولكن لعل الظاهر هو الاحتمال الأول وذلك لصدق القذف ورجوع الجميع
إلى اسم القذف، والرمي بالزنا في الصحيح وإن كان مذكورا في كلام الإمام عليه السلام دون الراوي إلا أن الظاهر كونه بملاك الرمي والقذف المحقق في القذف
باللواط أيضا مطلقا ولا خصوصية بحسب الظاهر للقذف بخصوص الزنا في هذا
الحكم.
وبعبارة أخرى: إن الآثار قد تكون آثارا لصرف وجود الشئ وقد تعتبر
آثارا للأفراد والماهية ففي الضمانات يكون الأمر على النحو الثاني، فإذا أتلف
من مال الغير عشر مرات فعليه ضمان كل واحد بنفسه ولا مورد للتداخل أصلا
بخلاف باب النجاسة والطهارة فإن طهارة واحدة كافية عن الأحداث المعددة،
والظاهر أن مورد البحث من هذا القبيل فالحد كالمطهر كما أن القذف كقذارة
باطنية للانسان، ويستظهر ذلك من صحيح ابن مسلم.
221

وعلى الجملة فيتداخل الحد فيما إذا تعددت النسبة والمقذوف به كلاهما
ولا أقل من طرو الشبهة الدارئة للحد فيقتصر على حد واحد.
المسألة السادسة في عوامل سقوط الحد عن القاذف
قال المحقق: لا يسقط الحد عن القاذف إلا بالبينة المصدقة أو تصديق
مستحق الحد أو العفو ولو قذف زوجته سقط الحد بذلك وباللعان.
أقول: حيث إنه قد جعل الله تبارك وتعالى الحد على رمي المحصنات فبعد
ثبوت الرمي بالنسبة إلى امرأة تكون بحسب الظاهر محصنة أو رجل محصن،
استحق المقذوف مطالبة حد القاذف. فهنا نقول إنه بعد ثبوت القذف لا يسقط
الحد عنه إلا بأمور:
1 - البينة المصدقة (1) للقاذف في فعل ما قذفه به وعلى وقوعه منه.
2 - تصديق المقذوف القاذف على ما نسبه إليه من الموجب للحد، وإن شئت
فقل: إقرار المقذوف بما رماه القاذف به ولو مرة واحدة مع أن الاقرار مرة
واحدة لا يوجب ثبوت العمل، ووقوع الفعل بل ذلك يحتاج إلى أربع مرات كما
في الشهود، إلا أنه يكتفى به في سقوط الحد عن القاذف.
3 - عفو المقذوف عنه كما تقدم البحث في ذلك آنفا.
4 - اللعان في خصوص مورد قذف الرجل زوجته فإنه يسقط به الحد عن
الزوج القاذف ففي مورد قذف الرجل لزوجته تجري الأربعة كلها وفي سائر

(1) أقول: المذكور في بعض المتون هو البينة المصدقة فيمكن أن يكون المراد منها البينة التي
تصدق القاذف كما أنه يمكن أن يراد منها: البينة التي صدقها الشارع وأنفذها وهي البينة التي
يثبت بها الزناء، فعلى الأول يقرء مكسورا وعلى الثاني مفتوحا فراجع شرح الإرشاد
للمحقق الأردبيلي قدس سره.
222

الموارد تجري الثلاثة الأول ولا يجري فيها اللعان (1).
وهنا بحث وهو أنه هل عدم الحد هنا من باب سقوط ما ثبت بأن كان الحد
ثابتا، لكون المقذوفة مثلا من المحصنات، أو أنه من باب عدم الثبوت والجعل
أصلا لعدم كونها من المحصنات التي يوجب رميهن الحد؟.
الظاهر هو الثاني وذلك لأن موضوع ثبوت حد القذف هو رمي المحصنات
فمن قذف من كان ظاهره العفة حكم عليه بحد القذف.
وبعبارة أخرى: إن الملاك هو قذف المتستر الذي يأبى عن إظهار القبائح
فإذا قذف القاذف أحدا فما لم يقم البينة مثلا يعتبر المقذوف عفيفا متسترا فكان
يجب على قاذفه الحد إلا أنه بعدما قامت البينة المعتبرة أي أربعة شهود على
الزنا، أو أقر هو بنفسه يظهر الخلاف ويعلم أنه لم يكن كذلك أي عفيفا متسترا
فلم يكن القذف قذف المتستر فلم يكن في الواقع ونفس الأمر حد أصلا على
القاذف وإنما كان عليه الحد بحسب الظاهر، وعلى هذا فليس السقوط بمعناه
المعروف.
نعم بالنسبة إلى العفو لا كلام أصلا فإن العفو هو إزالة ما ثبت ورفع ما تحقق
ووقع بحسب الواقع وفي نفس الأمر، فالتعبير بالسقوط هناك في محله لأن الحد
كان ثابتا وإنما أزاله عفو المقذوف.
وعلى الجملة فيمكن أن يقال بأن حكم القذف هنا نظير الحكم بالصلاة في

(1) وهنا أمور أخر يوجب سقوط حد القذف فنقول بالضميمة إلى ما في المتن:
5 - الصلح عنه بشئ.
6 - انتقال الحق من المقذوف إلى القاذف بالإرث وقد أوضحه في مناهج اليقين بالعبارة
المذكورة بعد إجماله في الجواهر ثم قال المامقاني رضوان الله عليه في المناهج: وفي سقوطه بموت
الزوجة تأمل نعم سقوطه مع انحصار الوارث في الوارث في الزوج لا يخلو من وجه.
وقال في الغنية: ولا يسقط حد القذف بالتوبة على حال وإنما يسقط بعض المقذوف أو وليه
من ذوي الأنساب خاصة انتهى.
223

الثوب المحكوم بالطهارة مع الجهل بنجاسته حيث إنه إذا انكشف كونه نجسا فإنه
لم ينكشف الخلاف بالنسبة إلى ما مضى بل تغير الحكم من هذا الحين لأن بطلان
الصلاة مترتب على النجس المعلوم. ففي المقام يكون النسبة إلى الزنا بدون
الاتيان بالأربع موجبة للحد مع الجهل بوقوعه فإذا قامت البينة أو أقر المقذوف
بالفعل فمن هذا الحين ينقطع الحكم بالحد.
وهذا بخلاف أن يقال إن الموضوع للقذف هو مورد التستر وإن كان القاذف
عالما بينه وبين الله بزناه فإنه لم يكن له إظهار ذلك فإذا قامت البينة أو اعترف
المقذوف فإنه ينكشف بذلك أن الموضوع لم يكن حاصلا وأنه كان يتخيل كون
الزاني متسترا وعليه فمن أول الأمر لم يكن الموضوع محققا ولم يكن الحكم بالحد
بالطبع ثابتا وإنما كان ذلك بحسب الظاهر فكأن نسبة الزنا إلى غير الزاني والزانية
موجبة للحد، والبينة كاشفة عن أنه كانت زانية مثلا، وكذا بالنسبة إلى الاقرار
وإنما كان بحسب الظاهر يتخيل أنها كانت محصنة يترتب على قذفها الحد. فعلى
الأول يتم التعبير ب‍ (يسقط) وهذا هو الوجه في تعبير العلماء كذلك وأما على
الوجه الثاني فلا وجه للتعبير به لأنه في الواقع لم يكن حتى يسقط.
وكيف كان فلا يقام على القاذف حد القذف في الموارد الأربعة.
وهل يعزر بعد سقوط الحد عنه؟
بقي الكلام هنا في أنه هل يعزر القاذف بعد أن سقط عنه الحد أو أنه يسقط عنه
التعزير أيضا فليس عليه شئ؟ وجهان.
فمن أن الثابت عليه كان هو الحد وقد سقط بأحد هذه الأمور ولا دليل على
ثبوت التعزير عليه بعد ذلك فليس عليه التعزير.
ومن أن ثبوت المقذوف به بالبينة أو الاقرار لا يجوز القذف وإن جوز إظهاره
عند الحاكم لإقامة الحد عليه، والعفو واللعان أيضا لا يكشفان عن إباحته
ولا يسقطان إلا الحد فيلزم أن يعزر على ما ذكروه من ثبوته في كل كبيرة.
224

وقد ذكر الوجهين في كشف اللثام واقتصر على ذلك فلم يرجح واحدا منهما
ولا اختار شيئا من مقتضاهما.
نعم قوى صاحب الجواهر الأول منهما فإنه قال بعد ذكر الوجهين: ولعل
الأول لا يخلو عن قوة.
وهو كذلك لأن أدلة الحد ظاهرة في أن المرتكب لموجبات الحد ليس عليه إلا
الحد ومقتضاها تخصيص ما دل على وجوب التعزير على كل معصية، واستثناء
تلك الكبائر التي جعل الشارع عليها الحد. وكأنه قيل، كل من فعل محرما يعزر
إلا إذا أتى بالزنا أو القذف أو السرقة أو غير ذلك من أسباب الحد فإنه لا تعزير
عليه وإنما يجب حده بالمقدار المقرر في تلك الموارد، غاية الأمر أنه قد حدث
ما أوجب سقوط هذا الحد في المقام فكيف يحكم بالتعزير (10).
وكأنه قد جعل الحد في تلك الموارد بدلا عن التعزير وليس التعزير فيها
مجعولا كما يشهد بذلك سيرة أمير المؤمنين عليه السلام بل وسيرة المسلمين في
طول الأعصار حتى الخلفاء، فلم يكونوا يجمعون بين الحد والتعزير في معصية
واحدة ولم يسمع إلى الآن أن سارقا قد قطعت يده حدا للسرقة وعزر هو
للحرمة مثلا.
نعم قد يجمع بينهما لجهة أخرى مثل وقوع العمل منه في مكان كذا أو زمان كذا

(1) أقول: ويحتمل التفصيل بين الموارد الأربعة. قال: في الروضة ج 2 ص 348 وسقوط الحد
في الأربعة لا كلام فيه لكن هل يسقط مع ذلك التعزير؟ يحتمله خصوصا في الأخيرين لأن
الواجب هو الحد وقد سقط والأصل عدم وجوب غيره، وتحتمل ثبوت التعزير في الأولين لأن
قيام البينة والإقرار بالموجب لا يجوز القذف لما تقدم من تحريمه مطلقا وثبوت التعزيز به
للمتظاهر بالزنا فإذا سقط الحد بقي التعزير علي فعل المحرم، وفي الجميع لأن العفو عن الحد لا
يستلزم العفو عن التعزير وله اللعان لأنه بمنزلة إقامة البينة على الزنا انتهى
قوله: وفي الجميع، يعني يحتمل ثبوته في الجميع أما الأولان فقد ذكر وجهه وأما الأخيران
فلما ذكر بعدهما.
225

فالحد للفعل والتعزير لهذه الجهة.
وعلى الجملة فلم يكن المجعول في مورد إلا أمرا واحدا وقد زال وارتفع
وإذا سقط الحد بالمسقط فلا دليل على تبديله بالتعزير.
226

المسألة السابعة حد القذف ثمانون مطلقا
قال المحقق قدس سره: الحد ثمانون جلدة حرا كان أو عبدا
أقول: ويدل على ذلك الكتاب والسنة والاجماع. أما الأول فهو قوله تعالى:
(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا
تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) (1).
وأما الثاني فروايات عديدة أخرجها الشيخ المحدث الحر العاملي في باب
عنوانه: باب ثبوت الحد على القاذف ثمانين جلدة إذا نسب الزنا إلى أحد أو إلى
أمه أو أبيه.
ومفاد العنوان أنه لا فرق في ترتب حد القذف وكونه ثمانين بين أن ينسب الزنا
إلى شخص أو إلى أبيه أو أمه. وهذا هو المستفاد من تلك الروايات التي أخرجها
في الباب:
عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في امرأة قذفت رجلا قال: تجلد
ثمانين جلدة (2).
وعن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: قضى أمير
المؤمنين عليه السلام أن الفرية ثلاث يعني ثلاث وجوه: إذا رمى الرجل الرجل
بالزنا وإذا قال: إن أمه زانية وإذا دعا لغير أبيه فذلك فيه حد ثمانون (3)
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا سألت الفاجرة من
فجر بك فقالت: فلان، فإن عليها حدين: حدا من فجورها وحدا من فريتها على
الرجل المسلم (4).

(1) سورة النور الآية 4.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد القذف ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد القذف ح 2.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد القذف ح 3، وقوله عليه السلام: الفاجرة،
ظاهرة في التي زنت برضاها فصح أن يكون عليها حدان: حد من فجورها وحد من فريتها.
227

وعن محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه: وعلة ضرب
القاذف وشارب الخمر ثمانين جلدة لأن في القذف نفي الولد وقطع النسل وذهاب
النسب وكذلك شارب الخمر لأنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فوجب عليه
حد المفتري (1).
وعن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: القاذف يجلد ثمانين جلدة
ولا تقبل له شهادة أبدا إلا بعد التوبة أو يكذب نفسه... (2).
وأما الاجماع فقد صرح به في الجواهر، كما استدل به الأردبيلي في شرح
الارشاد.
ثم إنه لا شك في أن الثمانين هو حد الحر. وأما في مورد العبد فهو كذلك على
الأصح والرأي السديد وإلا فهو ليس كالأول بل فيه خلاف في الجملة وذهب
بعض كما تقدم إلى أن حد القاذف العبد هو النصف فيجلد أربعين جلدة وذلك
لقوله تعالى: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من
العذاب...) (3) ولخبر سليمان (4) وخبر حماد (5).
وقد مر أن الآية فسرت بحد الزنا وأما الروايات فهي مختلفة والتقديم
للروايات الدالة على عدم التنصيف فراجع فلذا أفتوا باختصاص تنصيف حد
المملوك بباب الزنا الذي هو من حقوق الله تعالى فلا يجري في القذف الذي هو
من حقوق الناس.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 أبواب حد القذف ح 4.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد القذف ح 5.
(3) سورة النساء الآية 25.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 15.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 3.
228

في ضرب القاذف بثيابه متوسطا وتشهيره
قال المحقق: ويجلد بثيابه ولا يجرد، ويقتصر على الضرب المتوسط ويشهر
القاذف لتجتنب شهادته.
أقول: هنا أحكام:
أحدها أنه يجلد القاذف مع ثيابه لا مجردا عنها.
ثانيها أنه من حيث كيفية الضرب وأنحائه شدة وضعفا يضرب متوسطا
لا شديدا جدا ولا ضعيفا وخفيفا كذلك.
ثالثها أنه يشهر القاذف كما يجلد حتى لا يعتمد على شهادته.
أما الأول فقد استدل عليه بأمور: عدم الخلاف بل الاتفاق كما ذكره في كشف
اللثام، وبالأصل والأخبار.
والظاهر أن التمسك بالأصل ليس في محله ولا يدرى ما هو المراد من الأصل
فإن كان المراد هو أصالة عدم الحد مجردا ففيه أن الأصل عدم الحد مع الثياب بلا
فرق بينهما وذلك لأن كلا منها حادث ليست له حالة سابقة كي يستصحب،
والعلم الاجمالي حاصل بوجوب واحد منهما وهما كالمتباينين، والاحتياط
يقتضي تكرار الحد مجردا ومع الثياب ولا يمكن الالتزام به. وإن كان المراد أصالة
عدم اشتراط الحد بكونه مجردا فهذا لا يوجب حرمة الضرب مجردا وإنما يفيد
هذا الأصل أنه يكفي لو لم يكن مجردا وأين هذا من إثبات اعتبار خصوص كونه
مع الثياب الذي هم بصدده.
لا يقال: إن المقام من قبيل الشك في التكليف الزائد فإنه لا شك في وجوب
حد ثمانين وإيلامه بذلك، وإنما يشك في لزوم تجريد جسده أيضا وفي اعتبار
إيلام أزيد على ضربه بتجريد بدنه والأصل عدمه.
لأنا نقول: قد ذكرنا أنهما من قبيل المتباينين: الجلد مجردا والجلد مع الثياب،
وكما يحتمل أن كان الشارع قد أراد التخفيف في الايلام فلا يعتبر التجريد،
كذلك يحتمل أن يكون قد أراد التشديد والتغليظ في حقه قلعا لهذه المعصية
229

العظيمة فقرر الجلد مجردا فأين الأقل والأكثر؟.
لا يقال: لعل المراد من الأصل قاعدة الدرء لأنا نقول: إنه خلاف ظاهر
الخبر: الحدود تدرء بالشبهات، فإنه متعلق بأصل الحد.
وأما الأخبار فمنها:
عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال: المفتري يضرب بين
الضربين يضرب جسده كله فوق ثيابه (1).
ومنها: ما عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير
المؤمنين عليه السلام: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا ينزع من ثياب
القاذف إلا الرداء (2). إلى غير ذلك من الأخبار، ويأتي بعضها في البحث الآتي.
نعم مقتضى الرواية الأخيرة استثناء الرداء. ولعل الوجه في ذلك هو أنه
بحسب الغالب لباس ضخيم غليظ يمنع عن إحساس ألم الضرب فلذا أمر عليه
السلام بنزعه عنه، وبعد نزع الرداء - لو كان عليه - فلا فرق بين أن يكون عليه
قميصان أو هو مع القباء أو غير ذلك من أنواع الملابس (3).
هذا ولكن هنا رواية صحيحة تدل على اعتبار التجريد وهي رواية محمد بن
قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في
المملوك يدعو الرجل لغير أبيه قال: أرى أن يعرى جلده (4).
قوله: يعرى جلده، من باب الأفعال من أعريته من ثيابه، وعري الرجل
عن ثيابه من باب تعب فهو عار وعريان.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حد القذف ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حد القذف ح 4.
(3) أقول: ويبدو في الذهن أن وجه استثناء الرداء أنه وإن كان من أنواع الثياب إلا أنه ليس
كسائر الأثواب فهو منفصل لعدم الأزرار فيه وليس له كم كأكمام الثوب حتى يتعلق
ويرتبط بالبدن.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف ح 16.
230

وقد ذكر صاحب الجواهر قدس سره في توجيه ذلك وجوها (1).
وأما الثاني وهو الاقتصار على ضربه متوسطا فهو أولا: مقتضى الأمر بالجلد
والضرب بلا تقييد بالشدة والخفة فإنه يحمل على المتعارف بين الناس. وثانيا:
تدل على ذلك الروايات الشريفة نصا.
فعن سماعة بن مهران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يفتري
كيف ينبغي للإمام أن يضربه؟ قال: جلد بين الجلدين (2).
وعن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال: يضرب المفتري
ضربا بين الضربين يضرب جسده كله (3).
وعن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن عليه السلام قال: المفتري يضرب بين
الضربين يضرب جسده كله فوق ثيابه (4).
وعن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يجلد الزاني أشد

(1) أقول: منها احتمال كونها قضية في واقعة، ومنها أنه تعزير منوط بنظر الحاكم لأن الدعوة
لغير الأب ليست قذفا، ومنها كونه من عراه يعروه إذا أتاه، والجلد بفتح الجيم أي أرى أن
يحضر الناس جلده حدا أو دونه ومنها أن يكون اللفظ بإعجام العين وتضعيف الراء والبناء
للفاعل من التغرية أي يلصق الغراء بجلده ويكون كناية عن توطين نفسه للحد أو التعزير
انتهى.
وقال في المنجد: الغراء والغيراء ما طلي به، ما ألصق به الورق أو الجلد ونحوهما انتهى وفي
مجمع البحرين: الغراء ككتاب شئ يتخذ من أطراف الجلود يلصق به وربما يعمل من السمك
والغراء كعصاء لغة انتهى.
ثم لا تخفى أن ما ذكره في الجواهر من التوجيهات مأخوذ من كشف اللثام فراجع ج 2 ص
224.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حد القذف ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حد القذف ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حد القذف ح 3.
231

الحدين قلت: فوق ثيابه؟ قال: لا ولكن يخلع ثيابه، قلت: فالمفتري؟ قال:
ضرب بين الضربين فوق الثياب يضرب جسده كله (1).
ثم إن في بعض هذه الأخبار ما يفيد اعتبار أمر آخر وهو الضرب على كل
جسده وتمام بدنه.
ولعل ذكر ذلك من جهة أنه إذا أمر بضرب أحد على جسده فبالطبع يضربون
على تمام بدنه دون موضع خاص منه الذي يوجب الجرح فيه وإيجاد إيلام زائد
وتبعات مؤلمة.
وأما الثالث وهو تشهير القاذف فهو لحكمة أن يعرفه الناس بأنه يقول بخلاف
الشرع فلا عبرة بأقواله إذا عاد إلى ما فعل ولا تقبل شهادته كما نص على عدم
قبول شهادته في الآية الكريمة فلا بد من أن يعرف فلا تقبل شهادته.
وكيف كان فلا نص هنا بخصوصه على ذلك إلا أنه لما ورد النص بذلك في
شاهد الزور كما في موثقة سماعة قال: سألته عن شهود زور فقال: يجلدون حدا
ليس له وقت فذلك إلى الإمام ويطاف بهم حتى يعرفهم الناس.. (2).
فبتنقيح المناط وتعميم التعليل المذكور واشتراكه يحكم بالتشهير في المقام
أيضا كي يعرفه الناس بذلك ولا يصير قوله في حق الآخرين موجبا لتفضيحهم
وسقوطهم في أعين الناس.
وبذلك يخرج المقام عن كونه إشاعة الفاحشة المبغوضة عند الله تبارك
وتعالى الموعود عليها العذاب بقوله سبحانه: (والذين يحبون أن تشيع الفاحشة
في الذين آمنوا لهم عذاب عظيم) (3). ولعل ذلك لكون الزنا مثلا من المعاصي
القائمة بشخصين يقع ذلك نوعا في الخفاء ويختم الأمر به في حين أن القذف من
المعاصي التي تورث فتنة وفسادا فإنه سبب لفضيحة الناس وهتكهم وإثارة

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 15 من أبواب حد القذف ح 6.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب بقية الحدود ح 1.
(3) سورة النور الآية 19.
232

العدوان في المجتمع وقطع روابطهم فلذا كانت إشاعة كون فلان زانيا مبغوضة
عند الله تعالى دون إشاعة كون فلان قاذفا فإنه ليست كذلك.
في طرق ثبوت القذف
قال المحقق: ويثبت القذف بشهادة العدلين أو الاقرار مرتين.
أقول: أما الأول فلعموم أو إطلاق دليل حجية البينة وحيث إنه ليس كالزنا
فلذا يكتفي فيه بشاهدين خلافا للزنا الذي لا بد فيه من أربعة شهود.
وأما الاقرار مرتين فليس فيه نص خاص وإنما الوارد هو الدليل الكلي، أي
إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، وفي الجواهر: لا أجد فيه خلافا.
ومقتضى التمسك به هو الاجتزاء بإقرار واحد أي مرة واحدة ولكنهم
اعتبروا هنا مرتين، ولعل ذلك لمكان أنهم جعلوا إقراره بمنزلة الشهادة فكما أنه
يعتبر في الاقرار بالزنا أربعة أقارير كما يعتبر في الشهادة أربعة شهود كذلك في
المقام يعتبر إقراران كما يعتبر في الشهادة فيه الشاهدان.
والحق أنه إن كان هنا إجماع كما هو الظاهر من صاحب الجواهر فهو وإلا
فللمناقشة مجال ومقتضى القاعدة هو الاكتفاء بالاقرار مرة واحدة.
وأما ما قد يقال من أن اعتبار المرتين في الاقرار من جهة بناء الحدود على
التخفيف فينزل إقراره منزلة الشهادة على نفسه فيعتبر فيه التعدد.
ففيه أنه يشبه المصادرة ومع ذلك فلا يخلو عن إشكال ولزم تنزيل بينة
القذف منزلة بينة الزنا والحكم باعتبار الأربعة أيضا في المقام.
وعلى الجملة فالظاهر أنه لا يصح التمسك بقاعدة بناء الحدود على التخفيف في
إثبات اعتبار التعدد مع دلالة دليل الاقرار بنفسه على كفاية المرة.
نعم يمكن أن يقال: إنه بعد ذهاب العلماء كلهم إلى اعتبار المرتين وعدم
الاجتزاء بمرة واحدة فهذا يوجب الشبهة ولا أقل من ذلك وحينئذ فيدرء الحد
بها، ولولا ذلك فما ذكره غير تام.
233

كما أن قوله بتنزيله منزلة الشهادة على نفسه فيعتبر فيها التعدد أيضا لا يخلو
عن إشكال لأنه على ذلك لزم اعتبار المرتين في كل الموارد ولم يبق مورد يكتفي
بالاقرار مرة واحدة لأنه لا بد في الشهادة من الاثنين.
شرائط المقر بالقذف
قال المحقق: ويشترط في المقر التكليف والحرية والاختيار.
أقول: إن ما ذكره هنا مبني على القواعد الكلية الجارية في غير المقام أيضا
من المقامات فإن التكليف شرط عام ولا بد في ترتب حد القذف على إقرار المقر
من بلوغه وعقله، ولا عبرة بإقرار الصبي ولا المجنون.
وكذا يعتبر فيه الحرية وذلك لأنه لو كان مملوكا للزم أن يكون إقراره على
نفس المولى لا نفسه حيث إنه مال وملك للمولى ويلزم بهذا الاقرار الضرر على
الغير أي المولى وهو غير ناقد.
ويعتبر أيضا فيه الاختيار فلا عبرة بإقرار من أكره على ذلك ولا يؤثر إقراره
هذا شيئا وإنما يفيد الاقرار بالقذف ترتب الحد عليه إذا نشأ عن اختيار كسائر
الأقارير، والدليل على ذلك هو حديث الرفع وغيره.
المسألة الثامنة في ثبوت التعزير إذا تقاذف اثنان
قال المحقق: إذا تقاذف اثنان سقط الحد وعزرا.
أقول: هذا للتعبد محضا ولا خلاف في الحكم كما في الجواهر.
ويدل على ذلك صحيح عبد الله ابن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن رجلين افترى كل واحد منهما على صاحبه. فقال: يدرأ عنهما الحد
ويعزران (1).

(1) وسائل الشيعة ج 18 باب 18 من أبواب حد القذف ح 1.
234

وصحيح أبي ولاد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أتي أمير
المؤمنين عليه السلام برجلين قذف كل واحد منهما صاحبه بالزنا في بدنه قال:
فدرأ عنهما الحد وعزرهما (1). وهما مضافا إلى كونهما صحيحين، معمول بهما
عند الأصحاب إذا فلا كلام هنا.
نعم قد ذكر صاحب الجواهر هنا فرعا لا يخلو عن كلام، وهو ما إذا تغايرا
وتعارضا بما يقتضي التعزير فإنه لا يسقط تعزيرهما. وذلك بمقتضى ما ورد في
تقاذف الاثنين من سقوط الحد دون التعزير، فكما أن التعزير هناك لا يسقط
بالتقاذف كما يسقط الحد كذلك تغايرهما وتعارضهما لا يوجب سقوط التعزير
عنهما.
هذا، ولكن يرد عليه أن عدم سقوط التعزير في مورد استحقاق الحد لولا
مانع كون القذف من الطرفين لا يقتضي استفادة حكم كلي بأن وقوع الفعل من
كل جانب بالنسبة إلى الآخر وإن أوجب سقوط الحد في مواضعه لكنه لا يقتضي
سقوط التعزير في مواقع المعارضة.
نعم يمكن أن يقال: إن عدم سقوط التعزير في مورد التقاذف ليس لخصوصية
تختص به حتى لا يجري الحكم في مورد التغاير والمعارضة وإنما هو لأجل كونه
حقا لله تعالى وهو لا يسقط وهذه الجهة محققة في مورد التغاير أيضا فلا يسقط
تعزيرهما.
لكن لا يخفى أن هذا من باب استفادة المطلب من الخارج دون الاستظهار
والاستفادة من الرواية الذي هو مراد صاحب الجواهر قدس سره حيث قال:
ومنه ومن غيره يعلم عدم سقوط التعزير عنهما لو تغايرا بما يقتضيه انتهى.

(1) وسائل الشيعة ج 18 من أبواب حد القذف ح 2.
235

المسألة التاسعة في عدم تعزير الكفار مع التنابز بالألقاب..
قال المحقق: قيل: لا يعزر الكفار مع التنابز بالألقاب والتعيير بالأمراض إلا
أن يخشى حدوث فتنة فيحسمها الإمام بما يراه.
أقول: هنا أبحاث:
أحدها: أنه هل عدم التعزير بعنوان الرخصة أو العزيمة؟ وبتعبير آخر: هل
المراد أنه لا يجب تعزيرهم أو أنه لا يجوز ذلك؟.
لعل ظاهر العبارة هو الثاني (1) لأنه لو كان المراد عدم الوجوب فهذا لا
يختص بتنابزهم بل يجري في غير ذلك من الأمور أيضا.
ثانيها: أنه هل المراد من الكفار هو أهل الذمة الذين يجوز للمسلمين
مؤاخذتهم على ما يفعلون من محرماتنا غاية الأمر أنه خصص ذلك بهذا المورد
أي تنابزهم بالألقاب أو أن المراد مطلق الكفار سواء كانوا ذميين أم لا؟.
ظاهر الكلمات هو الثاني فإني كلما تفحصت في كلماتهم لم أجد التعبير بغير
ذلك فراجع الشرايع والقواعد والمسالك وكشف اللثام والرياض وشرح
الأردبيلي على الارشاد وغير ذلك من الكتب ترى أن كلهم قد عبروا
بالكفار (2).
ثالثها: في أصل هذا الحكم فنقول: إن هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب
بل في الجواهر: لم أجد من حكى فيه خلافا انتهى. كما أنه قال في الرياض: ولعله

(1) أقول: لعل الظاهر خلاف ذلك فإن المحقق قال قبل ذلك بسطر واحد: إذا تقاذف اثنان
سقط الحد وعزر انتهى. ثم قال: قيل لا يعزر الكفار إلخ فالنهي في مقام توهم الوجوب وهو لا
يدل على أزيد من الجواز، وقد أوردت ذلك في مجلس الدرس.
(2) أقول: قد عثرنا في بعض كلماتهم على التعبير ب‍ أهل الذمة فهذا ابن البراج قدس سره
قال في المهذب ج 2 ص 458: وإذا تقاذف بعض أهل الذمة بعضا كان عليهم التعزير ولا حد
عليهم وكذلك الحكم في العبيد والصبيان انتهى.
236

لا خلاف فيه.
رابعها: في الدليل أو التعليل على ذلك: فنقول: إنه لا نص في المقام أصلا فلذا
صاروا قدس الله أسرارهم بصدد التعليل على ذلك وتوجيهه وإن كان كل منهم
ذكر ما ذكر وأفاد ما أفاد بعنوان لعل أو كأن. وما ذكروه أمور:
الأول: إن الكفار مستحقون للاستخفاف وعدم الحرمة لهم وقد ذكره في
الجواهر.
وفيه أنه على ذلك لا خصوصية في تنابزهم بالألقاب بل ولا للتنابز ووقوع
النبز بينهما ومن الطرفين كل بالنسبة إلى الآخر بل يجري في مجرد وقوعه من
طرف واحد، والحال أن ظاهر القائلين به هو اختصاص الحكم بالتنابز من
الطرفين ومن كل واحد بالنسبة إلى الآخر لظهور التنابز في ذلك دون نسبة واحد
منهما إلى الآخر.
وقد يقال: بأن المراد هو مطلق إلقاء الألقاب القبيحة والمؤذنة للعيب والذم
وتخاطبهم فيما بينهم بذلك وإن كان من طرف واحد، وباب التفاعل لا يختص
بوقوع الفعل من الطرفين كما أن قول الله تعالى: ولا تنابزوا بالألقاب (1) لا
يختص بذلك بل يشمل ما إذا كان ذلك من طرف واحد بالنسبة إلى الآخر.
ويؤيد ذلك ما في نفس عبارة المحقق حيث قال بعد ذلك: (والتعيير
بالأمراض) فإنه يتحقق من الواحد بالنسبة إلى الآخر، وقد جعله قدس سره
عبارة أخرى عن الأول أو مشابها ونظيرا له (2).
وفيه أن الأمر في الآية الكريمة وإن كان كما ذكر إلا أن عبارة الفقهاء يراد منها

(1) سورة الحجرات الآية 11.
(2) أورده هذا العبد وقد أجاب سيدنا الأستاذ الأكبر دام بقاه بما أتينا به في المتن، ولعله يمكن
المناقشة فيه وذلك لصراحة بعض العبارات ولا أقل من ظهوره في ما ذكرناه فترى الأردبيلي
قدس سره قال بعد ذكر الاستخفاف وعدم الحرمة لهم): فلا يلزم من كسر حرمة بعضهم بعضا
شئ حتى يلزم التعزير انتهى.
237

معناه المصطلح أي وقوع الفعل من الجانبين.
الثاني: تكافؤ السب والهجاء من الجانبين وقد تمسك به الشهيد الثاني في
المسالك قال: كما يسقط الحد عن المسلمين بالتقاذف لذلك.
وفيه أنه لو كانت المكافئة ومقابلة المخاطب للقائل موجبة لسقوط التعزير
وكانت هي العلة في ذلك لكان اللازم سقوط التعزير في المسلمين بل كان سقوطه
فيهما أولى مع أنه قد تقدم آنفا أنه إذا تقاذفا يسقط الحد بذلك ولكن يعزران.
فكيف يكون التكافؤ مسقطا للتعزير في مورد الكفار وليس بمسقط في مورد
المسلمين؟.
ولا يخفى أن التعليل بالتكافؤ ظاهر في أنه بمجرده هو العلة في السقوط ولولا
جهة المكافئة ورد المخاطب ما ألقاه إليه المتكلم لما كان وجه للسقوط بل هو
ظاهر في كون الحرمة مفروغا عنها وإنما أوجب التكافؤ السقوط. هذا.
الثالث: جواز الاعراض عنهم في الحدود والأحكام فهنا أولى فإذا جاز
للمسلم أن يعرض عنهم في موارد الأحكام والحدود ولا يتعرض لهم بل يخلي
سبيلهم ويتركهم بحالهم وإلى ما يقتضيه دينهم ومذهبهم ففي المقام أولى بعدم
التعرض لهم فإن التعزير ليس كالحد لأنه هو العقوبة العظمى.
وفيه أن هذا الوجه يناسب كونه وجها لعدم الوجوب ويلائم الجواز، في حين
أنهم بصدد بيان الوجه لعدم الجواز.
هذا مضافا إلى عدم تمامية الأولوية وذلك لأنه يمكن عدم جواز التعرض لهم
في الحكم الشديد بخلاف الحكم الضعيف كالتعزير فيتعرض لهم في ذلك ولا
ملازمة بينهما أصلا (1).
الرابع: الوجه المذكور في كلام صاحب الرياض، وسنتعرض لكلامه إن شاء

(1) يمكن أن يقال في بيان وجه الأولوية: إن الكفار لا يتعرض لهم في الأحكام والحدود مع
قطعيتها وعدم التخلف فيها فكيف يجوز التعرض لهم فيما ينوط بنظر الحاكم ويجري فيه
التسهيلات كالتعزير، بل لعل هذا التقريب أولى بملاحظة اقتران الأحكام بالحدود.
238

الله تعالى.
ثم إنه مع ما تقدم من عدم الخلاف في المسألة نرى أن المحقق نسبها إلى القيل
ولم يعين القائل.
قال في المسالك: ونسب الحكم إلى القيل مؤذنا بعدم قبوله، ووجهه أن ذلك
فعل محرم يستحق فاعله التعزير والأصل عدم سقوطه بمقابلة الآخر بمثله بل
يجب على كل منهما ما اقتضى فعله فسقوطه يحتاج إلى دليل كما يسقط الحد عن
المتقاذفين بالنص انتهى كلامه قدس سره الشريف.
وقال السيد في الرياض بعد أن احتمل عدم الخلاف في المطلب: ولكن نسبه
الماتن في الشرايع إلى القيل المشعر بالتمريض، وكأن وجهه أن ذلك فعل محرم
يستحق فاعله التعزير والأصل عدم سقوطه بمقابلة الآخر بمثله [إلى آخر ما كان
في المسالك] ثم قال: وله وجه لولا الشهرة القريبة من الاجماع المؤيدة بفحوى
جواز الاعراض عنهم في الحدود والأحكام فهنا أولى، وما دل على سقوط الحد
بالتقاذف كالصحيحين في أحدهما عن رجلين افترى كل واحد على صاحبه
فقال: يدرأ عنهما الحد ويعزران والتعزير أولى. وفي التأييد الثاني نظر بل ربما
كان في تأييد الخلاف أظهر فتدبر انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.
أقول: أما الشهرة فقد ذكرنا ذلك وأما الوجهان اللذان ذكرهما في تأييد
المطلب فالأول هو فحوى جواز الاعراض عنهم في الأحكام والحدود.
وفيه ما ذكرناه آنفا فلا يتم التأييد به.
وأما الثاني فبيانه أن صريح الصحيحين الواردين في رجلين افترى كل منهما
على الآخر هو سقوط الحد عنهما فإذا كان الحد يسقط عنهما بالمقابلة بالمثل في
القذف فالتعزير أولى بالسقوط بسبب المقابلة بالمثل في السب.
وفيه ما أورده بنفسه فإن سقوط الحد هناك لا يدل على سقوط التعزير هنا
فإن الحد أقوى وهذا بخلاف التعزير فإنه لا مؤونة في إقامته فربما يرفع الشارع
الأقوى وهو لا يقتضي سقوط العقوبة الأضعف.
239

هذا مضافا إلى الحكم هناك بتعزيرهما وهذا يؤيد أن يترتب على تنابز
الكافرين التعزير لا عدمه.
ثم إن هذا حكم تنابز الكفار من حيث هو وبلا ملاحظة الطواري
والعوارض. أما إذا وقع ذلك بينهم وكان بحيث يخشى منه حدوث فتنة وبروز
مفسدة بين الأمة ووقوع الاختلاف والتشاجر بين المسلمين أو كان مظنة
الاختلال في نظام المملكة الاسلامية فعلى إمام المسلمين حينئذ أن يحسم مادة
الفساد ويطفئ نيران الفتنة بما يراه من التعزير والعقوبة كما صرح بذلك المحقق
رضوان الله عليه.
ثم إنه يظهر من عبارة الجواهر والنقض الذي أورده على الوجه الأول من
الوجهين المذكورين في المسالك (أي تكافؤ السب من الجانبين) أنه استفاد من
عبارة الشرايع عدم الاختصاص بما إذا وقع التنابز من الجانبين حيث إنه أورد
على الوجه المزبور بأنه يقتضي اختصاص ذلك بالتنابز من الطرفين انتهى يعني
والحال أن الظاهر عدم الاختصاص به.
ويؤيد هذا أي عدم الاختصاص، ما ذكره بعض المفسرين بالنسبة إلى قوله
تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب) (1)، وهو قولهم في تفسيره: ولا يدع بعضكم
بعضا بلقب السوء (2) وعلى هذا فإيراده رحمه الله هو أن الدليل أخص من
المدعى.
ويظهر من إيراده الثاني على ثاني الوجهين (وهو جواز الاعراض عنهم) أنه
قدس سره استظهر من عبارة الشرايع الحرمة لأنه أورد على المسالك بأن جواز
الاعراض عنهم يقتضي جواز التعزير انتهى يعني والحال أن ظاهر: لا يعزر، هو

(1) سورة الحجرات الآية 11.
(2) هذا عين عبارة الفيض في الصافي وكذا البيضاوي ج 2 ص 190 ويقرب منه عبارة الشيخ
قدس سره في التبيان فراجع إن شئت. ثم إنه دام ظله كأنه قد مال هنا عما أفاده آنفا في جواب
إيرادنا.
240

الحرمة.
ثم إن صاحب الجواهر بعد أن ذكر أن نسبة المحقق المطلب إلى القيل يشعر
بالتردد فيه قال: ولعله لأنه فعل محرم يوجب التعزير في المسلم ففي الكافر أولى.
ثم قال: ويمكن منع الحرمة انتهى. يعني يمكن أن لا يكون تنابز الكفار حراما
أصلا.
ونحن نقول: وعلى هذا فلا بأس بأن ينابز المسلم الكفار أيضا ويلقبهم
بألقاب قبيحة كما تقدم ذلك في باب التعريض إلا أن ذلك في نفسه غير خال عن
الاشكال - كما قدمنا ذلك حيث ترددنا في جواز نسبة كل قبيح إلى الكافر
والفاسق - هذا مضافا إلى أنه لا وجه لذكره ثانيا في هذا المقام.
وكيف كان فلا دليل على المطلب من النصوص ولا علة في المقام يعتمد عليها
ويطمئن إليها فلم يبق إلا القول بذلك من باب الشهرة أو الاجماع.
241

المسائل الملحقة، المسألة الأولى في قتل ساب النبي
قال المحقق: ويلحق بذلك مسائل الأولى: من سب النبي صلى الله عليه وآله
جاز لسامعه قتله ما لم يخف الضرر على نفسه أو ماله أو غيره من أهل الايمان.
أقول: وفي المسالك: هذا الحكم موضع وفاق وبه نصوص إلخ وفي كشف
اللثام: اتفاقا متظاهرا بالكفر أو الاسلام فإنه مجاهرة بالكفر واستخفاف بالدين
وقوامه إلخ.
وفي الرياض: بلا خلاف بل عليه الاجماع في كلام جماعة وهو الحجة مضافا
إلى النصوص المستفيضة إلخ.
وفي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه إلخ.
وأما الروايات الواردة في المقام المستدل بها على المطلوب فهي:
حسن بن علي الوشا قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: شتم رجل
على عهد جعفر بن محمد عليهما السلام رسول الله صلى الله عليه وآله فأتي به
عامل المدينة فجمع الناس فدخل عليه أبو عبد الله عليه السلام وهو قريب
العهد بالعلة وعليه رداة له مورد فأجلسه في صدر المجلس واستأذنه في الاتكاء
وقال لهم: ما ترون؟ فقال له عبد الله بن الحسن والحسن بن زيد وغيرهما: نرى
أن تقطع لسانه فالتفت العامل إلى ربيعة الرأي وأصحابه فقال: ما ترون؟ قال:
يؤدب. فقال أبو عبد الله عليه السلام: سبحان الله فليس بين رسول الله صلى
الله عليه وآله وبين أصحابه فرق؟! (1).
قوله: رداء مورد أي صبغ على ألوان الورد وهو دون المضرج.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حد القذف ح 1.
242

وعن علي بن جعفر قال: أخبرني أخي موسى عليه السلام قال: كنت واقفا
على رأس أبي حين أتاه رسول زياد بن عبيد الله الحارثي عامل المدينة فقال:
يقول لك الأمير: انهض إلي فاعتل بعلة فعاد إليه الرسول فقال: قد أمرت أن
يفتح لك باب المقصورة فهو أقرب لخطوك قال: فنهض أبي واعتمد علي ودخل
على الوالي وقد جمع فقهاء أهل المدينة كلهم وبين يديه كتاب فيه شهادة على
رجل من أهل وادي القرى قد ذكر النبي صلى الله عليه وآله فنال منه، فقال له
الوالي: يا أبا عبد الله انظر في الكتاب قال: حتى انظر ما قالوا فالتفت إليهم
فقال: ما قلتم؟ قالوا قلنا: يؤدب ويضرب ويعزر [يعذب] ويحبس قال: فقال
لهم: أرأيتم لو ذكر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله ما كان الحكم
فيه؟ قالوا مثل هذا. قال: فليس بين النبي صلى الله عليه وآله وبين رجل من
أصحابه فرق؟ فقال الوالي: دع هؤلاء يا أبا عبد الله لو أردنا هؤلاء لم نرسل
إليك فقال أبو عبد الله عليه السلام: أخبرني أبي أن رسول الله صلى الله عليه
وآله قال: الناس في أسوة سواء من سمع أحدا يذكرني فالواجب عليه أن يقتل
من شتمني ولا يرفع إلى السلطان، والواجب على السلطان إذا رفع إليه أن يقتل
من نال مني فقال زياد بن عبد الله: أخرجوا الرجل فاقتلوه بحكم أبي عبد
الله (1).
وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن رجلا من هذيل كان
يسب رسول الله صلى الله عليه وآله فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله فقال:
من لهذا؟ فقام رجلان من الأنصار فقالا: نحن يا رسول الله فانطلقا حتى أتيا
عربة فسألا عنه فإذا هو يتلقى غنمه فقال: من أنتما وما اسمكما؟ فقالا له: أنت
فلان بن فلان؟ قال: نعم فنزلا فضربا عنقه. قال محمد بن مسلم: فقلت لأبي
جعفر عليه السلام: أرأيت لو أن رجلا الآن سب النبي صلى الله عليه وآله

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حد القذف ح 2.
243

أيقتل؟ قال: إن لم تخف على نفسك فاقتله (1).
وعن النهاية: إن العربة بالتحريك ناحية قرب المدينة وأقامت قريش بعربة
فنسب العرب إليها، وعن المراصد: قرية في أول وادي نخلة من جهة مكة.
وعن الفضل بن الحسن الطبرسي بإسناده في صحيفة الرضا عليه السلام عن
آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من سب نبينا قتل ومن سب
صاحب نبي جلد (2). إلى غير ذلك من الأخبار، وهذا الحكم مقطوع به عندهم
كما عرفت ذلك من قسم من كلماتهم.
نعم هنا بحث من ناحية وجوب القتل وجوازه فإذا كان ساب النبي يقتل في
الجملة فهل يجب ذلك أو أنه مجرد الجواز؟.
عبر المحقق كما علمت بالجواز، لكن صاحب الجواهر قال: بل وجب، وقد
ادعى عدم خلاف يجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه.
وظاهر النصوص المتقدمة أيضا هو الوجوب دون الجواز.
وقال الأردبيلي رضوان الله عليه - عند شرح قول العلامة في الارشاد:
وساب النبي وأحد الأئمة يقتله السامع مع أمن الضرر -: الدليل على قتل من
سب النبي معلومية وجوب تعظيمه من الدين ضرورة والذي يسبه منكر لذلك
ويفعل خلاف ما علم من الدين ضرورة مثل رمي المصحف في القاذورات
وإهانة الله وإهانة الدين والاسلام والعبادات وشعائر الله (ثم نقل بعض
النصوص الواردة في المقام ثم قال: إن الرواية تدل على وجوب قتله وكذا بعض
العبارات مثل المتن وقال في الشرايع: من سب النبي صلى الله عليه وآله جاز
لسامعه قتله ما لم يخف).
ثم صار قدس سره بصدد التوجيه ورفع التنافي وقال: فلعله يريد رفع
التحريم والمنع فيكون الجواز بالمعنى الأعم لارتفاع الحرمة الثابتة لقتل النفوس

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حد القذف ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حد القذف ح 4.
244

انتهى كلامه رفع مقامه. فبحمل الجواز المذكور في كلام المحقق، على معناه الأعم
الملائم للوجوب أيضا يندفع الاشكال ويرتفع التنافي بين كلام المحقق وغيره أو
بينه وبين ما هو المستفاد من النصوص وما هو مقتضى القواعد أي الوجوب.
نعم ما أفاده قدس سره من أن من سب النبي منكر لما هو الضروري أعني
وجوب تعظيمه صلى الله عليه وآله، لعله لا يخلو عن كلام وذلك لأنه وإن كان
وجوب تعظيمه ضروريا إلا أنه يمكن أن يكون سب الساب في بعض الأحايين
عصيانا لا إنكارا كما في معصية الله سبحانه فإنه ربما يرى العاصي أن الله تعالى
واجب الإطاعة ومع ذلك فلا يطيعه.
ثم إنه بعد أن ثبت وجوب قتل الساب لا بد من التنبيه على أن هذا الحكم مما
أشكل علينا الأمر في هذه الأزمنة التي قد يسمع إلقاء تلك الكلمات الخبيثة،
والإهانة بساحة النبي الأعظم الأقدس والعترة الزاكية الأئمة الطاهرين صلوات
الله عليهم أجمعين، فترى أن بعضا بمجرد أن شاهدوا من أهل العلم خصوصا
المتكفلين منهم للأمور السياسية والاجتماعية ومن هم منشأ الأمور وإدارة
المجتمع ومصدر الرتق والفتق والأمر والنهي، ما لا يلائم أميالهم ولا يساعد
أهواءهم أقدموا على التفوه بما فيه السب على النبي أو الاسلام أو القرآن فضلا
عن السلف الصالح والعلماء الأكابر فما يصنع مع وجوب قتل ساب النبي مثلا
وشيوع الأمر؟.
فعلينا توجيه الناس ولو بتنبيههم بأنه مثلا ليس مطلق ما نفعله ونأتي به إلهاما
عن النبي والأئمة عليهم السلام وإن حسابهم خاص بهم فلا يصح مؤاخذتهم
بما نقوله نحن ونفعله إذا لم يكن سديدا.
ثم إن التعابير الواردة في أخبار الباب مختلفة فقد يعبر بالسب وأخرى بالشتم
وثالثة بنال ورابعة بالذكر، ولكن الظاهر أن كلها يشير إلى معنى واحد وغرض
فأرد، والمقصود هو أداء عبارة تدل على التنقيص والتخفيف فإذا صدر ذلك
ووقع من أحد يجب على السامع أن يقتله.
245

نعم هذا هو حكم من سمع أحدا يسب النبي من حيث هو وبنفسه وبلا
حدوث ضرر على المقدم على قتله. أما لو خاف الضرر على نفسه أو ماله
الخطير أو على عرضه أو خاف على غيره من أهل الايمان فهناك يرتفع الوجوب
كما هو مقتضى أدلة الضرر ولذا قال المحقق: ما لم يخف إلخ وقال العلامة في
الارشاد: مع أمن الضرر، وقال في القواعد: مع الأمن عليه وعلى ماله وغيره
من المؤمنين. انتهى كلامه رفع مقامه.
وهل يجب حينئذ الترك أو يجوز ذلك ويتخير فيه؟ لا يبعد وجوب الترك بل
هو الظاهر فيكون بينه وبين إقدامه بنفسه على السب عند الاضطرار إليه فرق بأن
يكون ترك القتل في المقام واجبا دون الاقدام على السب في المقام الثاني فإنه
مخير بين التسليم للقتل فلا يسب وبين أن ينال ويخلص نفسه من القتل كما في
واقعة عمار بن ياسر وأبيه حيث أمرا بسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وسب عمار ولم يسب والده فخلوا سبيل عمار وقتلوا والده وقد استصوب النبي
صلى الله عليه وآله فعلهما.
ومثله حال رجلين من محبي أمير المؤمنين عليه السلام فعن عبد الله بن عطا
قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما أبريا
عن أمير المؤمنين عليه السلام فبري واحد منهما وأبى الآخر فخلي سبيل الذي
بري وقتل الآخر، فقال: أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه وأما الذي لم يبرء
فرجل تعجل إلى الجنة (1).
وعلى الجملة فهو متعلق بالاقدام على سبه صلى الله عليه وآله فيجوز تركه
ولو انجر إلى قتله وأما جواز قتل ساب النبي صلى الله عليه وآله أو وجوبه فهو
مخصوص بما إذا لم يخف على نفسه أو غيره.
وذلك لخبر محمد بن مسلم:.. فقلت لأبي جعفر عليه السلام أرأيت لو أن
رجلا الآن سب النبي صلى الله عليه وآله أيقتل؟ قال: إن لم تخف على نفسك

(1) وسائل الشيعة ج 11 ب 29 من أبواب الأمر بالمعروف ح 4.
246

فاقتله (1).
نعم المذكور فيه هو خصوص الخوف على نفسه. لكن الأصحاب لم يفرقوا
بينه وبين الخوف على المال الخطير وكذا الخوف على الغير نفسا أو مالا كذلك،
ولا خلاف في ذلك بينهم على ما صرحوا به فإن الضرر المالي المتوجه إلى
الانسان بقتل الساب ضرر يرفع بلا ضرر.
نعم في خصوص الضرر المالي المتوجه إلى الغير يشكل التمسك بلا ضرر
وذلك لأنه لم يورد ضررا كي يرتفع تكليفه بقتل الساب، وإنما يسبب ذلك أن
يورد آخر ضررا على الغير.
اللهم إلا أن يقال إنه بالنسبة للغير يتمسك بقاعدة الأهم والمهم.
ولكن يرد عليه أنه يتم ذلك في خصوص الضرر المتوجه إلى نفس الغير وأما
عند توجه الضرر إلى مال الغير بإقدامنا على قتل الساب وبعبارة أخرى عند
دوران الأمر بين قتل الساب وتوجه الضرر المالي إلى الغير، وترك القتل ورفع
الضرر المالي عن الغير فلا، لأن الظاهر أن الاقدام على قتل الساب أهم من
توجه ضرر مالي إلى الغير.
حكم سب الأئمة عليهم السلام
قال المحقق: وكذا من سب أحد الأئمة عليهم السلام
وفي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه أيضا بل الاجماع بقسميه عليه انتهى.
ويدل على المطلب أخبار عديدة قد أخرج ستة في الوسائل في باب عنونه
بقوله: (باب قتل من سب عليا عليه السلام أو غيره من الأئمة عليهم السلام
ومطلق الناصب مع الأمن).
عن هشام بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب القذف ح 3.
247

سبابة لعلي عليه السلام قال: فقال لي: حلال الدم، والله لولا أن تعم به بريئا
قال: قلت: فما تقول في رجل مؤذ لنا؟ قال: في ماذا؟ قلت: فيك، يذكرك قال:
فقال لي: له في علي عليه السلام نصيب؟ قلت: إنه ليقول ذاك ويظهره قال: لا
تعرض له (1).
قال الشيخ الحر العاملي: ورواه الصدوق في العلل عن أبيه عن أحمد بن
إدريس عن أحمد بن محمد مثله إلى قوله: تعم به بريئا قال: قلت: لأي شئ يعم
به بريئا؟ قال: يقتل مؤمن بكافر، ولم يزد على ذلك.
أقول: وفي الرواية جهة إجمال وهي قوله: له في علي عليه السلام نصيب،
فإنه ليس واضح المعنى.
قال العلامة المجلسي قدس سره بشرحه: يحتمل أن يكون المراد أنه هل
يتولى عليا ويقول بإمامته؟ فقال الراوي: نعم هو يظهر ولايته فقال عليه
السلام لا تعرض له، أي لأجل أنه يتولى عليا فيكون هذا إبداء عذر ظاهرا لئلا
يتعرض السائل لقتله فيورث فتنة وإلا فهو حلال الدم إلا أن يحمل على ما لم
ينته إلى الشتم بل نفي إمامته عليه السلام، ويحتمل أن يكون استفهاما إنكاريا أي
من يذكرنا بسوء كيف يزعم أن له في علي عليه السلام نصيبا فتولى السائل
تكررا لما قال أولا، ويمكن أن يكون الضمير في قوله: له، راجعا إلى الذكر أي
قوله يسري إليه أيضا، ومنهم من قال: هو تصحيف (نصب) بدون الياء
انتهى (2).
فعلى التوجيه الأول كان الرجل الموذي مع إظهار التشيع يذكر الإمام أمير

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حد القذف ح 1.
(2) مرآة العقول ج 23 ص 19 ثم إنه قال الأردبيلي في شرح الإرشاد بشرح الجملة
المزبورة: أي إن كان يحب أمير المؤمنين لا تعرض له ولا تقتل، فكأنهم لطفوا به وهبوه بذلك
وكأنه إشارة إلى أنه ليس من العداوة والبعض كما قيل في مستحل ترك الصلاة فتأمل انتهى
كلامه رفع مقامه.
248

المؤمنين عليه السلام بسوء وكان في الحقيقة مباح الدم لذلك إلا أن الإمام
الصادق عليه السلام أراد أن لا يتعرض هشام لقتله فيثير نار الفتنة ولذا ذكر ما
يكون بظاهره عذرا في ترك الاقدام على قتله.
ومفاد استدراكه رحمه الله بعد هذا التوجيه، هو أنه يمكن أن يكون ذاك
الشخص كان يذكر الإمام بسوء إلا أنه لم ينته ذكره إلى حد الشتم الموجب للكفر
والقتل بل كان مجرد إظهار الشكاية وعدم ارتضائه عنه عليه السلام.
وقوله: بل نفي إمامته يمكن أن يكون عطفا على مدخول إلى فيكون المراد أنه
لم ينته ذكره له إلى الشتم بل ولا إلى نفي إمامته بل كان في إطار الشكاية عنه.
وعلى الجملة فعلى هذا لم يكن مباح الدم وكان عليه السلام قد نهى عن قتله
جدا لا لعدم إثارة نار الفتنة.
وعلى التوجيه الثاني يحمل الاستفهام على الانكاري لا الحقيقي فكان عليه
السلام قد أنكر كون هذا الشخص ممن له نصيب من محبة أمير المؤمنين عليه
السلام على ما كان يظهره ويدعيه بعد أن كان يذكره عليه السلام بسوء.
وعليه فيكون قول الراوي بعد ذلك تكرارا لما ذكره أولا، لا جوابا عن
السؤال حيث إن الاستفهام لم يكن حقيقيا وبناءا على هذا أيضا كان هذا الشاتم
مباح الدم. وعلى الاحتمال الثالث أي رجوع ضمير (له) إلى (ذكره) يكون المراد
إنه هل يسري ذكره لي بسوء إلى جدي الأمجد أمير المؤمنين عليه السلام
فيذكرني ويذكر آبائي بسوء أو أنه يقتصر على ذكري بسوء وقد أجابه بأنه يذكر
أمير المؤمنين عليه السلام أيضا بسوء، فهذا أيضا مباح الدم. وعلى الوجه الرابع
فقد سئل الإمام عليه السلام عن أنه هل لهذا الشخص نصب العداوة لأمير
المؤمنين صلوات الله عليه حتى يكون ناصبيا ومن الذين نصبوا العداوة له عليه
السلام أم لا فقد وقع تصحيف في ضبط اللفظ فكتب (نصيب) بدل (نصب) وقد
أجاب الراوي بأنه يظهر العداوة والنصب، وعلى هذا أيضا كان هذا الشخص
مباح الدم وهو واضح.
249

وأما قوله عليه السلام بعد الحكم (في الفرض الأول أي الذي كان سبابة لعلي
عليه السلام) بأنه مباح الدم: لولا أن تعم به بريئا فالمعنى لولا أن تعم أنت
بسبب القتل من هو برئ منه، أو: لولا أن تعم البلية بسبب القتل من هو برئ
منه (1).
وعن سليمان العامري قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أي شئ تقول في
رجل سمعته يشتم عليا عليه السلام ويبرء منه؟ قال: فقال لي: والله هو حلال
الدم وما ألف منهم برجل منكم، دعه (2) ترى التصريح بأنه مباح الدم، نعم
ظاهر كلامه عليه السلام أنه كان المورد من موارد الخوف ولذا أمر عليه السلام
أن يدعه ويتركه وكأنه عليه السلام قال: لا تقتله فإنهم يقتلونك قودا وقصاصا،
ولا يساوي ألف رجل منهم واحدا منكم.
هذا، وجدير بكم أيها الموالون للعترة الطاهرة ويا أيتها الشيعة المحبون لأمير
المؤمنين أن تعرفوا مقامكم ورفعة قدركم وعظم شأنكم وموضعكم على ما بينه
الإمام الصادق عليه السلام من أن واحدا من الشيعة لا يوازن بألف من غيرهم.
وعن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: من قعد في
مجلس يسب فيه إمام من الأئمة يقدر على الانتصاف فلم يفعل ألبسه الله
عز وجل الذل في الدنيا وعد به في الآخرة وسلبه صالح ما من به عليه من
معرفتنا (3) ترى ما فيه من التشديد والتهويل في عذاب من لم يقاوم في رفع
السب عن الإمام عليه السلام، ومعلوم أنه كذلك بالنسبة إلى من كان قادرا على
ذلك وإلا فكان الإمام المجتبى عليه السلام جالسا وخطيب معاوية من أعلى

(1) أقول: وفي التهذيب ج 10 ص 86 ح 101: لولا أن يغمز بريئا. وقد ذكر في المنجد أن
غمزه يعني سعى به شرا انتهى. وفي كشف اللثام: لولا أن يعمر بريئا أي لولا أن يتسبب قتله
للطعن في برئ واتهامه وإضرار به.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حد القذف ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حد القذف ح 3.
250

المنبر يشتم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أولاده الطاهرين.
وعن محمد بن مرازم عن أبيه قال: خرجنا مع أبي عبد الله عليه السلام
حيث خرج من عند أبي جعفر من الحيرة فخرج ساعة أذن له وانتهى إلى
السالحين في أول الليل فعرض له عاشر كان يكون في السالحين في أول الليل
فقال له: لا أدعك تجوز فأبى إباءا وأنا ومصادف معه فقال له مصادف: جعلت
فداك إنما هذا كلب قد آذاك وأخاف أن يردك وما أدري ما يكون من أبي جعفر
وأنا ومرازم، أتأذن لنا أن نضرب عنقه ثم نطرحه في النهر؟ فقال له: كف
[كيف] يا مصادف فلم يزل يطلب إليه حتى ذهب من الليل أكثره فأذن لنا فمضى
فقال: يا مرازم هذا خير أم الذي قلتماه؟ قلت: هذا جعلت فداك. قال: إن
الرجل يخرج من الذل الصغير فيدخله ذلك في الذل الكبير (1).
الحيرة كما في مجمع البحرين هي البلد القديم بظهر الكوفة كان يسكنه النعمان
بن المنذر. والمراد من أبي جعفر، منصور الدوانيقي الخليفة العباسي في زمان
الإمام الصادق عليه السلام وقوله: السالحين يعني قراولان شب گرد، وقال
العلامة المجلسي رضوان الله عليه: في السالحين أول الليل أي الذين يدورون في
أول الليل من أهل السلاح كذا قيل، والأصوب أن السالحين في الموضعين اسم
موضع، قال في المغرب: السالحون اسم موضع على أربعة فراسخ من بغداد إلى
المغرب إلخ. (2) وقوله عليه السلام: إن الرجل يخرج من الذل الصغير إلخ يعني إن
ما تطلبون وتستأذنون مني وهو قتل الرجل العاشر الذي كان يمنع من الجواز
ويثقل عليكم منعه وترون أنه ذل، وتصرون على قتله مع أنه ربما يثور من قتله
فتنة عظيمة تصيب الإمام عليه السلام أيضا وربما يأخذ الخليفة الإمام عليه
السلام وشيعته وأصحابه ويقتلهم، فتحمل ذلك الذل القليل أولى من الوقوع في
هذه الفتنة العظيمة وهذا الذل الكبير.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حد القذف ح 4.
(2) مرآة العقول ج 25 ص 198.
251

والرواية ظاهرة جدا في أنه كان هناك خوف ضرر عظيم في الاقدام على قتل
ذاك الرجل وكان الإمام عليه السلام في تقية شديدة وإلا فربما كان عليه السلام
يأذن في قتله.
وعن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في قتل
الناصب؟ فقال: حلال الدم ولكني أتقي عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطا
أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل قلت: فما ترى في ماله؟ قال: توه ما
قدرت عليه (1).
وعن علي بن حديد قال: سمعت من سأل أبا الحسن الأول عليه السلام فقال:
إني سمعت محمد بن بشير يقول: إنك لست موسى بن جعفر الذي أنت إمامنا
وحجتنا فيما بيننا وبين الله قال: فقال: لعنه الله ثلاثا - أذاقه الله حر الحديد قتله
الله أخبث ما يكون من قتلة، فقلت له: إذا سمعت ذلك منه أو ليس حلال لي
دمه؟ مباح كما أبيح دم الساب لرسول الله صلى الله عليه وآله والإمام؟ قال:
نعم - حل والله حل والله دمه وأباحه لك ولمن سمع ذلك منه. قلت: أو ليس ذلك
بساب لك؟ قال: هذا سباب لله وسباب لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسباب لآبائي وسبابي وأي سب ليس يقصر عن هذا ولا يفوقه هذا القول
فقلت: أرأيت إذا أنا لم أخف أن أغمز بذلك بريئا ثم لم أفعل ولم أقتله ما علي من
الوزر؟ فقال: يكون عليك وزره أضعافا مضاعفة من غير أن ينقص من وزره
شئ، أما علمت أن أفضل الشهداء درجة يوم القيامة من نصر الله ورسوله
بظهر الغيب ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وآله (2).
ويستفاد من لحن الرواية وتعبيرات الإمام عليه السلام الشديدة أن
هذا الشخص - محمد بن بشير - كان يعرف الإمام موسى بن جعفر عليه السلام
وأنه هو الإمام وهادي الرشاد وحجة الله على العباد وإنما كان بصدد التشكيك

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حد القذف ح 5.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب حد القذف ح 6.
252

بين الناس وصرف القلوب عنه صلوات الله عليه.
وقد استظهر من الروايات وجوب قتل ساب النبي صلى الله عليه وآله وكذا
الأئمة عليهم السلام وقد علمت التهديد الوارد في الرواية الأخيرة بالنسبة إلى
من قدر على قتله ولم يفعل وأنه بصريح كلام الإمام عليه السلام يحمل عليه
أضعاف وزر من أقدم على هذه المعصية العظيمة كما أنه قد استفيد من الأدلة أن
هذا الحكم متعلق بما إذا لم يكن في إقدامه على قتله ضرر وإلا فليس عليه ذلك.
وأما خبر أبي الصباح قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن لنا جارا فنذكر
عليا عليه السلام وفضله فيقع فيه أفتأذن لي فيه؟ فقال: أو كنت فاعلا؟ فقلت:
إي والله لو أذنت لي فيه لأرصدنه فإذا صار فيها اقتحمت عليه بسيفي فخبطته
حتى أقتله فقال: يا أبا الصباح هذا القتل وقد نهى رسول الله صلى الله عليه
وآله عن القتل يا أبا الصباح إن الاسلام قيد القتل ولكن دعه فستكفي
بغيرك (1).
ففيه أن منع الإمام عليه السلام لعله كان من خوف قتله أو قتل غيره من
المسلمين.
هذا كله بالنسبة إلى قتل الساب وأما من أكره على السب فالظاهر الموافق
للأدلة هو جواز السب له بل في بعض الروايات الأمر بذلك كما في كلمات الإمام
أمير المؤمنين عليه السلام: أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم...
ألا وإنه سيأمر بسبي والبراءة مني أما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة
وأما البراءة فلا تبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الايمان
والهجرة (2).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 22 من أبواب ديات النفس ح 1 رواه عن الكافي، وفيه: يا أبا
الصباح هذا الفتك وقد نهى رسول الله عليه وآله عن الفتك.
قوله: خبطته أي ضربته.
(2) نهج البلاغة الخطبة 56 أقول: لكن في الكافي ج 2 ص 219 وتفسير العياشي ج 2 ص 271
عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يروون أن عليا عليه
السلام قال على منبر الكوفة: أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى
البراءة مني فلا تبرؤوا مني فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على علي عليه السلام ثم قال: إنما
قال: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم ستدعون إلى البراءة عني وإني لعلى دين محمد، ولم
يقل: لا تبرؤوا مني، فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال: والله ما
ذلك عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإيمان
فأنزل الله عز وجل فيه: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) فقال له النبي صلى الله عليه
وآله وسلم عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عز وجل عذرك وأمرك أن تعود إن
عادوا.
253

ولعل الفرق بين السب والبراءة حيث أمر بالأول ونهى عن الثاني، أن السب
صادر بالنسبة إلى المسلم أيضا بخلاف البراءة فإنها تكون عن المشركين
والكافرين كما قال الله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من
المشركين...) (1).
وكان من كان يأمر بالبراءة عن الإمام عليه السلام يريد أن يجعل الإمام في
عداد المشركين والخارجين عن الدين، ومن كان يتبرأ منه صلوات الله عليه
يعده من الكفار، وبهذه المناسبة علل الإمام عليه السلام نهيه عن البراءة بقوله:
فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الايمان والهجرة، وعلى هذا فلو أكره على
السب، فسب فلا شئ عليه بل وربما كان محمودا على فعله كما يشهد بذلك
حكاية عمار ونزول الآية الكريمة: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالايمان) (2).
ففي التفسير إن قريشا أكرهوا عمار وأبويه على الارتداد فأبى أبواه فقتلا
وهما أول قتيل في الاسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها فقيل يا

(1) سورة التوبة الآية 1.
(2) سورة النحل الآية 106.
254

رسول الله إن عمارا كفر فقال: كلا إن عمارا ملي إيمانا من قرنه إلى قدمه
واختلط الايمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وهو يبكي
فجعل النبي صلى الله عليه وآله يمسح عينيه وقال: ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما
قلت (1).
بل وربما يستفاد منه ومن غيره أن الأفضل له ذلك وإن كان لو لم يجبهم إلى
ذلك ولم يسب وقتل لذلك لم يكن آثما ومؤاخذا عليه بل هو مأجور وقد تعجل
إلى جنات النعيم وإلى جوار الله رب العالمين على حسب ما ورد في بعض
الروايات، إلا أن التقية أفضل.
ومع ذلك كله لا بد من ملاحظة المصالح والمفاسد والعمل على وفقها فربما
يترتب على ترك التقية وعلى قتله مثلا مفاسد عظيمة فهنا لا بد له من التقية.
ثم إنه قد يقال (2): كيف يمكن القول بأنه يجب قتل من سب النبي أو واحدا
من الأئمة الطاهرين عليهم السلام ونحن نجد موارد عديدة على خلاف ذلك بل
وقد وجدنا موارد كثيرة نهى النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام
عن قتل الساب.
فمن جملة الموارد قول الرجل للنبي صلى الله عليه وآله: إن النبي ليهجر.
ومنها قول الأعرابي للنبي صلى الله عليه وآله: أيها الساحر الكذاب الذي
ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على من هو أكذب منك.
ومنها قول رجل عندما سمع كلاما من الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
قاتله الله من كافر ما أفقهه (3) ولم يقتله الإمام.

(1) راجع تفسير الصافي ج 1 ص 941.
(2) قد قاله هذا العبد وأجاب دام ظله بما في المتن.
(3) روي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم
بأبصارهم فقال عليه السلام: إن أبصار الفحول طوامح وإن ذلك سبب هبابها فإذا نظر
أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله فإنما هي امرأة فقال رجل من الخوارج... نهج
البلاغة الكلمة 412.
255

ومنها كلمات الخوارج وشعارهم مع تلك العقائد الخبيثة الكافرة وأقوالهم
الفاضحة بالنسبة إلى ساحة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ومع ذلك قال
الإمام عليه السلام فيهم: لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه
كمن طلب الباطل فأدركه (1).
ومنها حكاية رجل من ولد الخليفة الثاني الذي كان يؤذي الإمام الهمام
موسى بن جعفر عليه السلام ويسبه إذا رآه ويشتم عليا عليه السلام فقال له
صلوات الله عليه بعض جلسائه: دعنا نقتل هذا الفاجر فنهاهم عن ذلك أشد
المنع إلى أن أتاه يوما في مزرعته وأعطاه مالا وأفضى الأمر إلى أن تاب على
يديه وصار من شيعته صلوات الله عليه. (2)
وفيه أنه يحمل تلك الموارد وأشباهها إما على الجاهل القاصر أو على خوف
وقوع الفتنة كما يشعر إلى ذلك ما ورد من نهيه عليه السلام عن صلاة التراويح
زمن خلافته وما وقع عقيب ذلك من غوغاء الناس ورفع أصواتهم بواعمراه...
وعلى الجملة فالموانع والمحاذير التي كانت لهم صلوات الله عليهم في زمن
الخلفاء كانت باقية بعدهم وما كان يقاسيه علي عليه السلام من المشكلات
والشدائد والآلام في حياتهم لم ترتفع بعدهم وبموتهم.
وأما قتله عليه السلام الخوارج فلا يدل على كمال بسط يده وقدرته وعدم
الموانع وذلك لأن مقاتلته لهم وقتلهم أمر طبيعي في زمن الحرب وعندما أثاروا
نار الفساد.
والحاصل أنه لا بد من الأخذ بمقتضى القواعد والأدلة، وحمل ما ينافيها على
وجود الموانع.

(1) نهج البلاغة الخطبة 60.
(2) ارشاد شيخنا المفيد ص 278 ودلائل الطبري ص 150.
256

سب باقي الأنبياء عليهم السلام
وهل الحكم في ساير الأنبياء كذلك أيضا أم لا؟.
قال في المسالك: وفي إلحاق باقي الأنبياء بذلك قوة لأن كمالهم وتعظيمهم علم
من دين الاسلام ضرورة فسبهم ارتداد ظاهر انتهى.
وقال في الرياض: وفي إلحاق باقي الأنبياء بهم عليهم السلام وجه قوي لأن
تعظيمهم وكمالهم قد علم من دين الاسلام ضرورة فسبهم ارتداد فتأمل مع أن
في الغنية ادعى عليه إجماع الإمامية (1).
وعبارة السيد ابن زهرة في الغنية هذه: ويقتل من سب النبي وغيره من
الأنبياء أو أحد الأئمة... كل ذلك بدليل إجماع الطائفة انتهى.
ويدل على ذلك ما رواه الطبرسي بإسناده في صحيفة الرضا عليه السلام عن
آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: من سب نبيا قتل ومن سب
صاحب نبي جلد (2).
نعم في بعض الروايات ما يدل على خلاف ذلك، والأمر بجلد ساب غير النبي
من الأنبياء، مأة وستين، ضعف ساير الناس ففي المبسوط: روي عن علي عليه
السلام أنه قال: لا أوتي برجل يذكر أن داود صادف المرأة إلا جلدته مأة وستين
فإن جلد الناس ثمانون وجلد الأنبياء مأة وستون (3).
قوله: صادف المرأة يشير به إلى قصة أوريا. وأورد عليه في الجواهر بقوله:
لكنه كما ترى انتهى.
وهو كذلك فإن من المعلوم أن العمل كان على الأول وهذا متروك لم يعمل به.

(1) رياض المسائل ج 2 ص 487 أقول: عبارته إلى قوله: ارتداد، عين عبارة الروضة ج 2
ص 303.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 25 من أبواب حد القذف ح 4.
(3) المبسوط ج 8 ص 15 باب القذف.
257

الكلام في سباب أم النبي وبناته وأزواجه
وهل يلحق بهم عليهم السلام أم النبي وبناته وأزواجه أم لا؟.
قال العلامة أعلى الله مقامه في التحرير: لو قذف أم النبي صلى الله عليه وآله
أو سبه أو قذف فهو مرتد.
وقال الشهيد الثاني في الروضة: وألحق في التحرير بالنبي صلى الله عليه وآله
أمه وبنته من غير تخصيص بفاطمة عليها السلام ويمكن اختصاص الحكم بها
عليها السلام للاجماع على طهارتها بآية التطهير (1).
وقال في الرياض: وألحق في التحرير وغيره بالنبي صلى الله عليه وآله أمه
وبنته من غير تخصيص بفاطمة قيل: ويمكن اختصاص الحكم بها للاجماع على
طهارتها وهو حسن.
وقال في الجواهر بالنسبة إلى اختصاص الحكم بها سلام الله عليها: قلت: هو
كذلك بالنسبة إلى قذفها عليها السلام وكذا بالنسبة إلى أم النبي صلى الله عليه
وآله باعتبار ما علم أنه صلى الله عليه وآله لم تنجسه الجاهلية بأنجاسها.
فقد تمسك في طهارة أمه صلى الله عليه وآله بعدم إصابة أنجاس الجاهلية
لذاته الشريف فإن ذلك يقتضي طهارة أمه ومن المعلوم أن قذفها ينافي طهارة
مولد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما بالنسبة إلى فاطمة الزهراء سلام الله عليها فهي بنفسها من أهل الكساء
وممن نزلت في حقها آية التطهير: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) (2) وقد صرح الله تعالى بطهارتها، فقذفها ينافي

(1) أقول: ذكر في المسالك عين العبارة إلى قوله: عليها السلام، فجملة: ويمكن إلخ من
إفاضاته في الروضة فقط، ولعل هذا هو الوجه في نقل المطلب في الجواهر عن الروضة دون
المسالك.
(2) سورة الأحزاب الآية 33.
258

طهارتها المصرحة بها على لسان الله سبحانه في القرآن الكريم.
ولا يخفى أن ما أفاده بالنسبة إلى أم النبي الأكرم فهو بعينه جار بالنسبة إلى أم
أمير المؤمنين عليه السلام بل وأمهات الأئمة، الطاهرات جمع ومنهن خديجة
سلام الله عليها فإنهم صلوات الله عليهم كانوا أنوارا مطهرة من الأرجاس
والأنجاس بأنفسهم وآبائهم وأمهاتهم ونقرأ في الزيارات: أشهد أنك كنت نورا
في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لن تنجسك الجاهلية بأنجاسها...
ثم تعرض رحمه الله للسب وحاصل ما أفاده أن سب فاطمة سلام الله عليها
موجب للارتداد والقتل ولعله من جهة العلم بكونها كأولادها - الأئمة - سلام
الله عليهم في الاحترام. وأما سب غير فاطمة كأخواتها فإن كان بحيث رجع إلى
صدق سب النبي فحكمه كسابقه وإلا فلا.
وقال الشهيد في اللمعة: وقاذف أم النبي مرتد يقتل ولو تاب لم يقبل إذا كان
عن فطرة.
وقال في الروضة بشرح العبارة: كما لا تقبل توبته في غيره على المشهور
والأقوى قبولها وإن لم يسقط عنه القتل، ولو كان ارتداده عن ملة قبل إجماعا
وهذا بخلاف ساب النبي صلى الله عليه وآله فإن ظاهر النص والفتوى وجوب
قتله وإن تاب ومن ثم قيده هنا خاصة وظاهرهم أن ساب الإمام كذلك.
وفي الجواهر عن حاشية الكركي على اللمعة: ولو قذف النبي صلى الله عليه
وآله فهو مرتد ووجب قتله ولا تقبل توبته إذا كان مولودا على الفطرة وكذا لو
قذف أم النبي صلى الله عليه وآله أو بنته وكذا أم الإمام عليه السلام أو بنته
انتهى. ثم قال بعد نقل هذه الكلمات: قلت: لا يخفى عليك صعوبة إقامة الدليل
على بعض الأحكام المزبورة خصوصا بعد عدم الحكم بالارتداد بما وقع من
قذف عايشة وهي زوجة النبي صلى الله عليه وآله إلخ.
أقول: أما بالنسبة للتوبة فظاهر النصوص والأدلة قبولها وإن لم يرتفع حكم
القتل وذلك لشمول أدلة التوبة معصية السب أيضا.
259

وأما قضية عايشة فبعد أنه لا يمكن رفع اليد عن الحكم الكلي البتي بوجوب
قتل الساب فلا بد من حملها على ما لا ينافي ذلك:
ويمكن أن يقال: فرق بين ما إذا ذكرت المرأة بقصد سب الرجل وشتمه وبين
ما إذا كان المقصود هو الزوجة من دون نظر إلى الزوج ليعيره أو يشتمه وربما
يكون حين سبها غافلا عن زوجها فلا يرجع سبها إلى سبه مع عدم كونه ملتفتا
إلى الزوج بل ومع كونه ملتفتا إذا كان المقصود هو ذم الزوجة فقط كما قال الله
تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين
من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع
الداخلين) (1) فهنا أيضا لم يكن قذفها سبا للنبي صلى الله عليه وآله وراجعا إليه
وإن كان الغالب أن قذف امرأة يكون سبا وهتكا لزوجها.
أو يقال: إنها كانت قضية في واقعة ولم يعلم وجهها حتى تعارض ظواهر
الأخبار وضرورات الدين.
هذا مع أنه قد يقال بأن ذلك كذب عند الشيعة ولا واقعية لها (2).
ثم قال في الجواهر: بل قد يشكل جريان حكم المرتد على قذف النبي صلى
الله عليه وآله الذي يرجع إلى سبه الذي قد عرفت أن حكمه القتل على كل حال

(1) سورة التحريم الآية 10.
(2) في تفسير الصافي عن القمي: روت العامة أنها نزلت في عايشة وما رميت به في عزوة بني
المصطلق من خزاعة وأما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عايشة
إلخ.
أقول: فتأمل فإن مارية أيضا زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا مضافا إلى ما
أفاده العلامة أعلى الله مقامه من عدم معرفة الخلاف في أنها في عايشة ففي المسائل المهنائية
ص 121: ما يقول سيدنا في قصة الإفك والآيات التي نزلت ببراءة المقذوفة هل ذلك عند
أصحابنا كان في عايشة أم نقلوا أن ذلك كان في غيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وآله؟
الجواب: ما عرفت لأحد من العلماء خلافا في أن المراد بها عايشة انتهى.
260

نعم ما لا يرجع منه إلى السب يتجه فيه ذلك.
وفيه أنه إن كان المقصود من الاشكال أنه ليس بمرتد فليس بصحيح وإن كان
المقصود وجوب قتله من دون استتابة فلا مانع من كون ذلك المرتد محكوما بحكم
أشد من حكم سائر المرتدين.
هل يتوقف قتل الساب على إذن الإمام؟
ثم إنه بعد أن ثبت وجوب قتل الساب أو جوازه فهل يتوقف ذلك على إذن
الإمام أو الحاكم أم لا بل يستقل السامع للسب، في ذلك؟.
ظاهر الكثير ومنهم المحقق وصريح آخرين هو الثاني فترى صاحب
الرياض عند قول المحقق في النافع بأنه يحل دمه لكل سامع، قال: من غير
توقف على إذن الإمام. انتهى.
فلا يتوقف ذلك على المراجعة إليه والاستيذان منه وهو المشهور بين
الأصحاب بل المجمع عليه على ما في الغنية حيث قال: ويقتل من سب النبي
وغيره من الأنبياء أو أحد الأئمة وليس على من سمعه فسبق إلى قتله من غير
استيذان صاحب الأمر سبيل، كل ذلك بدليل الاجماع انتهى كلامه رفع مقامه.
ويدل على ذلك إطلاق النصوص وصريح بعضها كخبر هشام بن سالم عن
أبي عبد الله عليه السلام إنه سئل عمن شتم رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام (1).
ولا كلام في دلالته وأما من حيث السند فهو حسن كما قد عبر عنه العلامة
المجلسي رضوان الله عليه بذلك (2).
وقد خالف في ذلك الشيخ المفيد قدس سره قال: ومن سب رسول الله أو

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المرتد ح 1.
(2) مرآة العقول ج 23 ص 402.
261

أحدا من الأئمة فهو مرتد عن الاسلام ودمه هدر يتولى ذلك منه إمام المسلمين
فإن سمعه منه غير الإمام فبدر إلى قتله غضبا لله لم يكن عليه قود ولا دية
لاستحقاقه القتل على ما ذكرناه لكنه يكون مخطئا بتقدمه على السلطان
انتهى (1).
ووافقه على ذلك العلامة في المختلف واستوجه ما ذكره حيث إنه نقل كلام
المفيد هذا أولا ثم نقل كلام الشيخ في النهاية (ومن سب رسول الله صلى الله
عليه وآله أو أحدا من الأئمة عليهم السلام كان دمه هدرا وحل لمن سمع ذلك منه
قتله ما لم يخف في قتله على نفسه أو غيره) ثم قال: والوجه ما قاله المفيد لأنه حد
والمستوفي للحدود هو الإمام (2).
والدليل على ذلك أولا: ملاحظة احترام الإمام في إتيان العمل بإذنه
واطلاعه وتحت إشرافه فيرجع إلى الأمور الانتظامية.
وثانيا: خبر عمار السجستاني عن أبي عبد الله عليه السلام: إن عبد الله
النجاشي قال له، وعمار حاضر: إني قتلت ثلاثة عشر رجلا من الخوارج كلهم
سمعته يبرء من علي بن أبي طالب عليه السلام فسألت عبد الله بن الحسن فلم
يكن عنده جواب وعظم عليه وقال: أنت مأخوذ في الدنيا والآخرة فقال أبو
عبد الله عليه السلام: وكيف قتلتهم يا أبا بحير؟ فقال: منهم من كنت أصعد
سطحه بسلم حتى أقتله ومنهم من دعوته بالليل على بابه فإذا خرج قتلته، منهم
من كنت أصحبه في الطريق فإذا خلا لي قتلته وقد استتر ذلك علي فقال أبو عبد
الله عليه السلام: لو كنت قتلتهم بأمر الإمام لم يكن عليك شئ في قتلهم ولكنك
سبقت الإمام فعليك ثلاثة عشر شاة تذبحها بمنى وتتصدق بلحمها لسبقك الإمام
وليس عليك غير ذلك (3).

(1) المقنعة الطبع القديم ص 116 والطبع الجديد ص 743.
(2) المختلف ص 821.
(3) وسائل الشيعة ج 19 ب 22 من ديات النفس ح 2.
262

ومرفوع إبراهيم بن هاشم وهو هذا الخبر مع الزيادة والنقصان. فعن علي بن
إبراهيم عن أبيه رفعه عن بعض أصحاب أبي عبد الله عليه السلام - أظنه أبا
عاصم السجستاني - قال: زاملت عبد الله بن النجاشي وكان يرى رأي الزيدية
فلما كنا بالمدينة ذهب إلى عبد الله بن الحسن وذهبت إلى أبي عبد الله عليه
السلام فلما انصرف رأيته مغتما فلما أصبح قال لي: استأذن لي على أبي عبد الله
عليه السلام فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام وقلت: إن عبد الله بن
النجاشي يرى رأي الزيدية وإنه ذهب إلى عبد الله بن الحسن وقد سألني أن
أستأذن له عليك فقال: ائذن له فدخل عليه فسلم فقال: يا بن رسول الله إني
رجل أتولاكم وأقول: إن الحق فيكم وقد قتلت سبعة ممن سمعته يشتم أمير
المؤمنين عليه السلام فسألت عن ذلك عبد الله بن الحسن فقال لي: أنت مأخوذ
بدمائهم في الدنيا والآخرة فقلت: فعلى م نعادي الناس إذا كنت مأخوذا بدماء
من سمعته يشتم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له أبو عبد الله عليه السلام
فكيف قتلتهم؟ قال: منهم من جمع بيني وبينه الطريق فقتلته ومنهم من دخلت
عليه بيته فقتلته وقد خفي ذلك علي كله قال: فقال له أبو عبد الله عليه السلام: يا
أبا خداش عليك بكل رجل منهم قتلته كبش تذبحه بمنى لأنك قتلتهم بغير إذن
الإمام ولو أنك قتلتهم بإذن الإمام لم يكن عليك شئ في الدنيا والآخرة (1).
وفيه مضافا إلى ضعف السند فإن عمار السجستاني أبا عاصم من أصحاب
الصادق عليه السلام وهو وإن قيل بأن ظاهره كونه إماميا إلا أن حاله مجهول (2)
والخبر في نقل الكليني مرفوع، لم يعمل به الأصحاب وأعرضوا عنه، وعلى هذا
فهو فاقد لشرائط الحجية، في قبال الأخبار الماضية التي قد عمل بها الأصحاب
وعلى هذا فلا وجه للحكم باعتبار الإذن من الإمام ويحمل خبر عمار على
الاستحباب ويقال بأنه يستحب الكفارة المزبورة لو استقل في القتل وأقدم عليه

(1) الكافي ج 7 ص 376.
(2) راجع رجال المامقاني رضوان الله عليه ج 2 ص 317.
263

بلا استيذان من الإمام، ولا يخفى أن هذه الصدقة مستحبة احتراما للإمام
ورعاية لجانبه لا لاحترام المقتول.
وقد يتوهم أن الكفارة المزبورة واجبة وذلك لأن المفروض كما هو المصرح به
في النقل الأول هو أن المقتولين كانوا من الخوارج وقد نهى الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام عن قتلهم من بعد شهادته ووفاته بقوله الكريم: لا تقتلوا الخوارج
من بعدي (1).
وفيه أن النهي عن قتلهم من حيث هو لا مطلقا حتى مع سبهم وشتمهم له
عليه السلام وإثارة الفتنة بين الناس والمفروض في الخبر من هذا القبيل.
وقد يقال: إن المنع من الاستقلال على قتل الساب من جهة كون ذلك من
الحدود وأمر الحدود بيد الإمام ولا يجوز لغيره الاقدام عليه بدون الاستيذان منه
أو من الحاكم وهذا ما اعتمد عليه العلامة أعلى الله مقامه في المختلف كما تقدم
ذلك (2).
وفيه أنه مضافا إلى أن العلامة بنفسه ذهب في القواعد إلى ما قاله المشهور
على ما هو ظاهر كلامه. أن العمدة هو الأخبار فيمكن أن يكون المقام من قبيل
التخصيص فأمر الحدود في جميع الموارد بيد الإمام ومرفوع إليه إلا في هذا المورد
وذلك لمكان هذه الروايات الدالة على أن للسامع أن يقدم على قتل الساب بلا
افتقار إلى الإذن من الإمام وتوقف عليه وإن كان لو رفع الأمر إليه فهو يقتله.
ويحتمل أن يكون المقام من باب التخصص بأن لا يكون قتل الساب من
باب الحدود فهو خارج عن الحكم الكلي خروجا موضوعيا، وإن كان يضعف

(1) أورده هذا العبد وقد أجاب سيدنا الأستاذ الأفخم بما في المتن، ويمكن أن يقال في
الجواب -، على ضوء ما أفاده دام ظله - بأن نهيه عليه السلام عن قتلهم كان لأجل بعض
المصالح لا أن يكون محرما رأسا وذلك لا ينافي جواز قتلهم مع فقد مع تلك المصالح أو عند مصلحة
أقوى في القتل.
(2) أورده أيضا هذا العبد وقد أجاب دام ظله بما في المتن.
264

ذلك إطلاق الحد عليه في كلماتهم.
وهل في هذا الحكم فرق بين المسلم والكافر؟
ثم إنه هل يختص الحكم بما إذا كان الساب مسلما أو يعمه والكافر؟.
صرح في المسالك والرياض والجواهر وغير ذلك بعدم الفرق بينهما أصلا.
وقد استدل على ذلك بوجهين:
أحدهما: إطلاق النص والفتوى.
ثانيهما: خصوص ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعن ابن
عباس عن علي عليه السلام: إن يهودية كانت تشتم النبي (صلى الله عليه وآله)
وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله دمها (1).
نعم هنا بحث في خصوص الكافر الساب إذا أسلم وهو أنه قد ثبت في محله أن
الاسلام يجب ما قبله (2) فإذا أسلم الكافر لا يؤاخذ على ما مضى منه من
معاصيه كترك الصلاة والصيام وغير ذلك، ولا يبعد أن يكون سب النبي صلى
الله عليه وآله وسلم كذلك فلو أسلم الكافر الساب للنبي فإن إسلامه يكفر ذلك
كسائر معاصيه.
وأما إنه لماذا لم يقتله النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فلعل ذلك كان
لأجل توقع إسلامه ورجاء أن يرجع ويتوب عما كان عليه ولو كان يعجل في
قتله لم ينل مراده ولم يدرك رجاءه.
ومن ذلك يتضح ما هو وظيفتنا أيضا بالنسبة إلى الكافر الذي يسب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم.

(1) منقول عن سنن النسائي.
(2) راجع تفسير القمي ج 2 ص 27 ومثله ما رواه في البحار ج 40 ص 230 عن علي عليه
السلام: هدم الإسلام ما كان قبله.
265

وبذلك ظهر الجواب عما يقال: إن سيرة النبي صلى الله عليه وآله لم تكن على
قتل من يسبه بل كان يستمع إلى شتمهم وسبهم ولم يجبهم بشئ أو كان يقول:
اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
وذلك لأن إسلامهم الذي يتوقعه كان يجب معاصيهم ومن جملتها سبهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن أن يقال: إن ذلك كان من باب العفو فكان له صلوات الله عليه أن
يعفو عن ذلك وإن لم يكن قد أسلم بل كان باقيا على كفره. والفرق بينهما إن
قاعدة الجب جارية بالنسبة إلى من قد أسلم عن الكفر بخلاف العفو فإنه يجري
حتى بالنسبة إلى الكافرين لمصلحة يراها الإمام وخصوصا بلحاظ ما هو معلوم
من أنهم كانوا يعتنقون الاسلام بعد ما رأوا منه آثار الرحمة والحنان والعفو
والاحسان بحيث كان يقول بعضهم بعد ذلك مخاطبا للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم: كنت أبغض الناس إلي والآن أنت أحب الناس إلي.
وبذلك ظهر ما في كلام صاحب الجواهر من التوقف في قتل الكافر الساب
إذا أسلم، وذلك لأن قاعدة الجب تقتضي الحكم بعدم قتله ولا وجه للتوقف
أصلا إلا رعاية حرمة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ومن المعلوم أنه صلوات
الله عليه ليس بأعظم من الله ولا أكثر حرمة منه سبحانه وقد جب الاسلام كفره
وشركه فكيف لا يجب سبه بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله؟.
الكلام في اعتبار القصد وعدمه
ثم إنهم ذكروا أنه لا شئ على غير القاصد للسب لغفلة ونحوها.
ونحن نقول: فلو سب لكنه كان في مقام المزاح والهزلة فعلى مقتضى ما ذكروه
لا شئ عليه ولا يجوز قتله.
وهذا مشكل جدا لأن سمو مقام النبي الخاتم وشموخ مرتبته لا يساعد التفوه
266

بسبه ولو مزاحا ومداعبة فلا بد من قتل الساب (1).
نعم لو كان غافلا عن أن هذا سب فهناك يصح ما ذكروه كما أنه لو كان المراد
من القصد هو الاختيار في قبال من سب بلا اختيار كما إذا كان عن غضب بالغ
مثلا فلما قالوه وجه.
وتدل على ذلك رواية علي بن عطية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كنت
عنده وسأله رجل عن رجل يجئ منه الشئ على جهة غضب، يؤاخذه الله به؟
فقال: الله أكرم من أن يستغلق عبده (2).
وفي الكافي: وفي نسخة أبي الحسن الأول عليه السلام: يستقلق عبده.
قال في مجمع البحرين: في الحديث: لا تكن ضجرا ولا غلقا، الغلق بالتحريك
ضيق الصدر ورجل غلق: سيئ الخلق، وفيه: الله أكرم من أن يستغلق عبده،
لعله من الفلق وهو ضيق الصدر، وفي بعض النسخ: يستقلق عبده كأنه من القلق
بمعنى الحركة والاضطراب، وفي بعضها يستعلق بالعين المهملة كأنه من العلق
محركة: الخصومة والمحنة (3).
نعم لا يخفى أن الغضب على قسمين:
أحدها ما يوجب سلب الاختيار رأسا بحيث ربما ضرب نفسه بسلاحه بدلا
عن عدوه ولا يلتفت إلى ذلك.

(1) أقول: لعله لا ملائمة بين هذا وبين ما تقدم منه دام ظله من أن السب يمكن أن يكون في
بعض الأحايين من باب العصيان لا الإنكار فراجع.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 28 من أبواب حد القذف ح 1.
(3) أقول: وفي مرآة العقول ج 26 ص 236 قوله عليه السلام من أن يستغلق عبده أي يكلفه
ويجبره فيما لم يكن له فيه اختيار، قال الفيروزآبادي: استغلقني في بيعته لم يجعل لي خيارا في
رده. قوله: وفي نسخة أبي الحسن الأول عليه السلام يستقلق، لعله كان الحديث في بعض كتب
الأصول مرويا عن أبي الحسن عليه السلام وفيه كان يستقلق بالقافين من القلق بمعنى
الانزعاج والاضطراب ويرجع إلى الأول بتكلف انتهى.
267

ثانيها ما لا يكون بهذا الحد يعني أنه قد غضب لكنه لم يسلب عنه الاختيار.
وما ذكروه من عدم مؤاخذة الساب على سبه يتم في الفرض الأول وأما إذا
كان الغضب على النحو الثاني الباقي معه الاختيار فلا وجه هناك لعدم ترتب
آثار السب وإلا فكل قتل مثلا يقع في العالم فإنما هو ناش عن الغضب وقل ما
يتفق أن يقدم أحد على قتل أحد بلا غضب.
ولذا قال في الجواهر - بعد ذكر المطلب والاستشهاد عليه بالرواية -:
وإن كنت لم أجد من أفتى به على وجه لا يستلب الغضب اختياره بحيث يسقط
عنه التكليف انتهى.
حكم من قال بأن النبي صلى الله عليه وآله كغيره
ثم إن ما ذكر كان حكم الساب فلو لم يسب وإنما قال: إن النبي كغيره، فما هو
حكمه؟.
أقول: إن هذه الجملة لا تعد سبا ومع ذلك فلا تخلو عن حالين:
فتارة يقتصر القائل على مجرد هذا بلا عناية إلى لوازمه فهذا لا يترتب عليه
شئ فترى أن الله سبحانه أمر نبيه الخاتم أن يقول: (إنما أنا بشر مثلكم يوحى
إلي) (1) فهو أيضا بشر مثل غيره بنص الله تعالى وإنما فضله ومزيته على الناس
في نزول الوحي إليه دون غيره، وهذا القائل قد اقتصر على الجملة الأولى من
الآية ولم يذكر تتمة الآية وسكت عن جهة امتيازه على غيره.
وأخرى يريد القائل به أنه كسائر الناس وعامتهم وكان بصدد إنكار ما له من
المزايا والفضائل الجمة وهذا رد صريح على القرآن الكريم وجحد لما أثبته وبينه
بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وإسقاط له عن درجة الرسالة
فيترتب عليه آثار ذلك.

(1) سورة الكهف الآية 110.
268

وفي رواية مطر بن أرقم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن عبد
العزيز بن عمر الوالي - الوالبي - بعث إلي فأتيته وبين يديه رجلان قد تناول
أحدهما صاحبه فمرس وجهه فقال: ما تقول يا أبا عبد الله في هذين الرجلين؟
قلت: وما قالا؟ قال: قال أحدهما: ليس لرسول الله صلى الله عليه وآله فضل
على أحد من بني أمية في الحسب وقال الآخر: له الفضل على الناس كلهم في كل
خير، وغضب الذي نصر رسول الله صلى الله عليه وآله فصنع بوجهه ما ترى
فهل عليه شئ؟ فقلت له: إني أظنك قد سألت من حولك فأخبروك، فقال:
أقسمت عليك لما قلت، فقلت له: كان ينبغي لمن زعم أن أحدا مثل رسول الله
صلى الله عليه وآله في الفضل أن يقتل ولا يستحيى قال: فقال: أو ما الحسب
بواحد؟ فقلت: إن الحسب ليس النسب ألا ترى لو نزلت برجل من بعض هذه
الأجناس فقراك، فقلت: إن هذا لحسيب. فقال: أو ما النسب بواحد؟ قلت: إذا
اجتمعا إلى آدم فإن النسب واحد إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يخلطه
شرك ولا بغي فأمر به فقتل (1).
قوله: مرس وجهه أي خدشه بأطراف أصابعه. والحسب الشرافة (2) قوله:
أو ما الحسب بواحد، كأنه تخيل أن الحسب هو النسب ولذا سأل أنه هل لا يكون
الحسب واحدا؟ وأجابه الإمام عليه السلام بأن الحسب ليس بالنسب وأوضح
له ذلك بذكر مثال وهو أن الرجل الشريف الذي قد أحسن الضيافة وبالغ في
إكرام ضيفه يعد ذا حسب، قوله: القرى الضيافة (وقد ورد في الدعاء: فاجعل
قراي في هذه الليلة المغفرة).
وقوله: أو ما النسب بواحد إلخ قد سأل الوالي هنا عن أنه أليس نسب النبي
وغيره واحدا؟ وأجابه الإمام عليه السلام بأن النسب واحد لانتهائه إلى آدم

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 26 من أبواب حد القذف ح 1.
(2) وفي مجمع البحرين: الحسب بفتحتين: الشرف بالآباء وما يعد من مفاخرهم وهو مصدر
حسب بالضم ككرم ومنه: من قصر به عمله لم ينفعه حسبه انتهى.
269

عليه السلام ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي لم يختلط شرك في
اعتقاداته ولم يمتزج عمله بالبغي فهو أفضل وإن كان هو أيضا كسائر الناس
ينتهي نسبه إلى آدم فإن هذا لا ينافي كونه أفضلهم من حيث الحسب والشرف
والفضيلة (1).
قال في الجواهر: لم أجد من أفتى بمضمونه... ولعله لانكار الضروري أو أن
ذلك نوع نيل منه فتأمل.
الطرق التي يثبت بها السب
بقي الكلام هنا في ما يثبت به السب حتى يترتب عليه القتل.
فنقول: لا إشكال ولا شك في ثبوته باستماع الانسان بنفسه ذلك وهو العلم
حقيقة وكذلك يثبت بشهادة الشاهدين العادلين وأيضا يثبت ذلك بالاقرار.
وهل يكتفي بإقرار واحد أو أنه لا بد من إقراره مرتين؟ مقتضى إطلاق
القاعدة هو الأول لأنه بالاقرار مرة واحدة يصدق أنه قد أقر على نفسه فينفذ
ذلك.
وقد يقال باعتبار الاثنين لما مر في نظائره فكما أنه لا بد في الشهادة على
السب من اثنين كذلك لا بد في الاقرار به أيضا من مرتين.
وفيه أنه لا وجه لاعتبار ذلك بعد إطلاق القاعدة، والحكم باعتبار التعدد هنا
كما في الشهادة يشبه القياس وقد تقدم هذا البحث في موارد عديدة فراجع.

(1) أقول: ويمكن أن يقال: إن الإمام عليه السلام كان بصدد إثبات المزية لرسول الله (صلى
الله عليه وآله) حسبا ونسبا أما الحسب فللمثال الذي أتى به وأما النسب فلأنه وإن كان ينتهي
نسبه إلى آدم كغيره لكن لم يكن في سلسلة أجداده باغ ولا مشرك فلم يخلطه شرك ولا بغي
لأن أجداده لم يكونوا باغين ولا مشركين.
270

المسألة الثانية في أن ادعاء النبوة يوجب القتل
قال المحقق: من ادعى النبوة وجب قتله.
وفي الجواهر: بلا خلاف أجده، كما أنه قد ادعى عدم الخلاف في ذلك غير
واحد من العلماء غيره.
والظاهر أنه لا فرق في مدعي النبوة بين كونه مسلما أو كافرا كما أن الظاهر أن
قتله ليس لأجل ارتداده بل هو حكم نفس العنوان أي من ادعى النبوة وعليه
فلا يشترط بشرائط الارتداد بل يقتل بمجرد حصول شرائط التكليف وتحققها.
وتدل على ذلك روايات شريفة منها رواية ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: إن بزيعا يزعم أنه نبي فقال: إن سمعته يقول ذلك فاقتله
قال: فجلست إلى جنبه غير مرة فلم يمكني ذلك (1).
وهذه الرواية معتبرة كما قد عبر عنها بذلك في كلماتهم، ودلالتها واضحة
لمكان الأمر بقتل ذاك المدعي.
ومنها رواية أبي بصير يحيى بن القاسم عن أبي جعفر عليه السلام قال في
حديث: قال النبي صلى الله عليه وآله: أيها الناس إنه لا نبي بعدي ولا سنة بعد
سنتي فمن ادعى ذلك فدعواه وبدعته في النار فاقتلوه ومن تبعه فإنه في النار أيها
الناس أحيوا القصاص وأحيوا الحق لصاحب الحق ولا تفرقوا وأسلموا وسلموا
تسلموا كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز (2).
ومنها عن علي بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه عن الرضا عليه السلام
في حديث قال: وشريعة محمد صلى الله عليه وآله لا تنسخ إلى يوم القيامة ولا
نبي بعده إلى يوم القيامة فمن ادعى نبيا أو أتى بعده بكتاب فدمه مباح لكل من

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المرتد ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المرتد ح 3.
271

سمع منه (1).
ثم إن المحقق قدس سره قد تعرض في هذه المسألة لفرعين:
أحدهما في ادعاء النبوة، وما تقدم كان في هذا المقام، وأما الفرع الثاني:
حكم من قال: لا أدري محمد بن عبد الله صادق أم لا
قال المحقق: وكذا من قال: لا أدري محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)
صادق أو لا وكان على ظاهر الاسلام.
وعلى هذا فمن كان مسلما في ظاهر الأمر ومع ذلك أبدى شكه في رسالة النبي
صلى الله عليه وآله فإنه يقتل. وقد ادعى في الجواهر عدم خلاف يجده في ذلك.
وتدل عليه روايات. منها ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: من شك في الله وفي رسوله فهو كافر (2).
ومنها رواية الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: لو أن
رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال: والله ما أدري أنبي أنت أم لا، كان
يقبل منه؟ قال: لا ولكن كان يقتله، إنه لو قبل ذلك ما أسلم منافق أبدا (3).
والرواية الأولى وإن كانت ساكتة عن حكم القتل وإنما اقتصر فيها على ذكر
كفره الذي ليس هو بنفسه مقتضيا للقتل إلا أن الرواية الثانية ناطقة بذلك فهي
تدل على أن النبي الأعظم كان يقتل من يبدي الشك في نبوته.
وقد علل الإمام الصادق عليه السلام ذلك بأن قبوله صلوات الله عليه ترديد
الشاك كان موجبا لأن لا يسلم المنافق أبدا.
بيان ذلك أنه لو كان إظهار الترديد موجبا للقتل لكان ذلك بنفسه سببا لأن

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المرتد ح 4.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد المرتد ح 22.
(3) وسائل الشيعة ج 18 باب 5 من أبواب حد المرتد ح 4.
272

يخاف المنافق من إبداء شكه بل ربما كان ذلك موجبا لأن يسلم ولو ظاهرا وهو
أيضا مؤثر في مجد الاسلام وشوكته وكيانه بخلاف ما لو قبل ذلك منه وخلي
سبيله فإنه لا يزال يبقى على حاله ويظهر شكه وترديده ويروج الكفر والفساد،
وحيث إن المنافقين كانوا يعلمون أن الشاك أي المظهر بالشك والترديد يقتل
فلذا كانوا يسلمون ولا أقل من إظهارهم الاسلام وعدم إظهارهم الترديد في
أمر الدين وكيف كان فقد دلت الروايات على قتل مدعي النبوة وكذا الشاك
فيها.
نعم هنا إشكال وهو أن مقتضى كلام المحقق هو قتل الشاك إذا صرح بشكه
قائلا: إني لا أدري..، ولكن مقتضى رواية عبد الله بن سنان قتل الشاك مطلقا
وإن لم ينطق بذلك وعلى هذا يرد أنه لا يقتل من هو أعظم من الشاك وهو المنكر
المعتقد بالعدم إذا لم يكن ينطق بكفره كما في المنافقين فلم يكن البناء على قتلهم
بل كان النبي صلى الله عليه وآله والمسلمون يعاملون المنافقين معاملة المسلم فمن
كان كافرا في الباطن منافقا حقيقة لكنه لا يبدي شيئا بل يقر بالاسلام، يحكم في
الظاهر بإسلامه ويرتب عليه أحكام المسلمين إلى أن يظهر ما يخالف ذلك
فكيف بالشاك الذي هو على ظاهر الاسلام، فالشاك الذي لم يظهر شكه وكان
على ظاهر الاسلام محكوم بكونه مسلما فإذا أبدى الشك وقال: لا أدري، يصير
مرتدا عن الاسلام.
وعلى هذا فلو كان الكافر في الرواية بمعناه المصطلح فلا بد من أن يكون قد
أبدى شكه وإلا فالمراد من الكفر هو الكفر الباطني لا ما يوجب ترتيب أحكام
الكفر.
ثم إنه صرح الشهيد الثاني وكذا بعض آخر بأن الحكم في باب مدعي النبوة
أيضا من باب الارتداد كما في باب الشك قال في المسالك: أما وجوب قتل
مدعي النبوة فللعلم بانتفاء دعواه من دين الاسلام ضرورة فيكون ذلك ارتدادا
من المسلم وخروجا من الملل التي يقر أهلها، من الكافر فيقتل كذلك، وأما
273

الشك في صدق النبي فإن وقع من المسلم فهو ارتداد (ثم قال:) واحترز بكونه
على ظاهر الاسلام مما لو وقع ذلك من الكافر الذمي كاليهودي والنصراني فإنه
لا يقتل به إقرارا لهم على معتقدهم وكذا يخرج به غير الذمي من الكفار وإن كان
قتله جائزا بأمر آخر انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه أنه وإن كان قتل الشاك بحسب الظاهر لأجل الارتداد لا لموضوعية
الشك والقول المخصوص إلا أنه بالنسبة إلى السب أو ادعاء النبوة لعل الأمر لا
يكون كذلك فإن ادعاء النبوة - بعد أنه من المسلم أنه لا نبي بعد النبي الخاتم -
يوجب القتل سواء نشاء ذلك من المسلم أو الكافر كما تقدم ذلك.
ثم إن في قبال ما ذكرنا في الشاك من الحكم بالكفر والقتل بعض الروايات
الدال على أن الشك بمجرده غير مؤثر في هذا وإنما يوجب الكفر إذا كان مقرونا
بالجحد.
ففي صحيحة محمد بن مسلم قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام جالسا
عن يساره وزرارة عن يمينه فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبد الله ما تقول
فيمن شك في الله؟ فقال: كافر يا با محمد قال: فشك في رسول الله؟ فقال: كافر،
ثم التفت إلى زرارة فقال: إنما يكفر إذا جحد (1) فإن لازمها والمستفاد منها أن

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد المرتد ح 56 أقول: ومثلها رواية زرارة عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا (الكافي ج 2
ص 388) وهاتان الروايتان صريحتان في أن كان شاكا مظهرا لشكه وترديده، وهذا
ينافي ما أفاده المحقق من قتل من قال لا أدري أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله صادق
أم لا حيث إن المفروض هناك عدم الجحود والإنكار وإنما كان شاكا مظهرا لشكه وقد كان
سيدنا الأستاذ يقول في حل الإشكال بأن الجحد من باب أحد الأفراد والمصاديق لا من باب
الخصوصية وقد أوردت بأن لفظ إنما ينافي ذلك لأنه للحصر فأجاب دام ظله بأن قول لا أدري
بعد الإظهار والاعتراف يعد جحودا عرفا فذكرت بأنه لو كان في العرف كذلك لكن الرواية
274

الشاك في حد نفسه منافق وأنه بدون الانكار لا يحكم عليه بالكفر فإذا أفصح
عن إنكاره فهناك يكفر وعلى ذلك فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلقان.
فرع في مدعي الإمامة
ثم هنا فرع قد تعرض له صاحب الجواهر فقال: وقد يلحق مدعي الإمامة
بمدعى النبوة.
وعلى ما ذكره البعض من الالحاق فمدعي الإمامة يقتل كمدعي النبوة.
وبذلك يشكل الأمر ويتوجه الايراد بأنه فلماذا لم يقدم المسلمون بقتل
المدعين لذلك.
ولعله يمكن أن يجاب عنه بأنه فرق بين ادعاء الإمامة وادعاء الخلافة،
والذي كان الخلفاء يدعونه هو الخلافة والإمارة ولذا يتمسكون بأعذار واهية
مثل أن عليا عليه السلام شاب لا يقبله الناس ولا يستسلمون لأمره، وكان
والد بعضهم ينقض عليه في استدلاله: بأنه على ذلك فإني أحق بها منك لا أنهم
يدعون مقامه الرفيع وعلمه الغزير بل ربما كانوا يراجعون إليه في الأحكام
وأحيانا يعترفون بفضله الشامخ ومقامه السامي وأنه لولاه صلوات الله عليه
لهلكوا وإنما كانوا ينكرون النصب والتعيين ولعل موضوع النصب لم يكن بحيث
يعد من الضروريات بين المسلمين قاطبة.
ويمكن حل الاشكال بطريق آخر كعدم مساعدة الشرائط مثلا كما لا يخفى.

(1) تخطي العرف وتحقق أن الملاك هو الجحود وأجاب دام ظله بالأخرة بأنه إذا أظهر شكه صدق
عليه أنه جحد ويشمله الرواية.
275

في الشاك في الإمامة
قال المحقق: وكذا من شك فيه وكان على ظاهر التشيع كي يكون بذلك
منكرا لضروري الدين بعد أن كان عنده من الدين هو ما عليه من المذهب فهو
حينئذ كمن أنكر المتعة ممن كان على مذهب التشيع وفي جملة من النصوص إن
الشاك في علي كافر.
أقول: وعلى ما ذكره فمن كان بحسب الظاهر من الشيعة معترفا بحقانيته ومع
ذلك أبدى شكه في الإمامة أو المتعة أو غير ذلك مما هو من ضروريات مذهب
الشيعة الذي اتخذه دينا له ويرى أحكامه أحكام الدين فحينئذ قد شك فيما يراه
من الدين، ويلزم كفره.
وأما ما ذكره من النصوص فمنها خبر المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إن الله جعل عليا عليه السلام علما بينه
وبين خلقه ليس بينه وبينهم علم غيره فمن تبعه كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا
ومن شك فيه كان مشركا (1).
ولا يخفى أن الخبر بظاهره منصرف عمن شك وكان كافرا بل هو منصرف إلى
المسلم الذي شك فيه، إلا أن المراد هنا هو الكفر الباطني لا الكفر المصطلح لكن
القائل بالكفر قد أخذ بظاهره الذي يفيد أنه قد خرج عن الاسلام بمجرد أن شك
في ذلك.
وقد قال في الجواهر في ختام المطلب: ولكن الانصاف بعد ذلك كله عدم خلو
الحكم المزبور من إشكال.
ثم إن الحكم في إنكار واحد من الأئمة عليهم السلام هو الحكم في إنكار علي
عليه السلام كما صرح بذلك هو قدس سره فراجع.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد المرتد ح 13 ومثله على ما صرح به سيدنا
الأستاذ دام ظله الوارف في مذكراته ح 14 و 21 و 40 فراجع.
276

المسألة الثالثة في قتل الساحر المسلم
قال المحقق: من عمل بالسحر يقتل إن كان مسلما ويؤدب إن كان كافرا.
أقول: إن أصل الحكم في الجملة لا خلاف فيه نصا وفتوى لكن فيه موارد
للكلام وفروع ومطالب يبحث فيها:
منها: الفرق بين المسلم والكافر والوجه في ذلك حتى يحكم بالقتل في المسلم
دون الكافر.
فنقول: إن مستند الفرق ومنشأ التفصيل هو الروايات فمنها رواية السكوني
التي قد يعبر عنها بالمعتبرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله: ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفار لا يقتل فقيل يا رسول
الله - صلى الله عليه وآله -: ولم لا يقتل ساحر الكفار؟ قال: لأن الكفر - الشرك
- أعظم من السحر ولأن السحر والشرك مقرونان (1) وبها يقيد ما دل على قتله
مطلقا وسيأتي بعضها في مطاوي الأبحاث الآتية.
وأما ما علل به التفصيل والفرق بين المسلم والكافر فمفاده أن في الكافر ما هو
أعظم وأشد من السحر وهو الكفر ومع ذلك لا يقتل به فإذا لم يقتل بالأشد فهو
أولى بأن لا يقتل بالأضعف.
لكن لا يخفى أن هذا التعليل ليس بتعليل حقيقي وإلا فاللازم عدم قتله بأي
فعل أتى به وأي موجب من موجبات القتل كالزنا في بعض الموارد واللواط
وقتل النفس المحترمة وذلك لأن هذه الأمور أيضا ليست بأعظم من الكفر
والشرك فإن الشرك أعظم من كل معصية وهو لا يقتل به والحال أن الكافر يقتل
قودا أي إذا أقدم على قتل نفس محترمة، وكذا غيره من المعاصي الموجبة للقتل.
ومنها أنه هل الملاك في الموضوع هو كونه ساحرا اتخذ السحر شغلا وحرفة له
أو أنه لا يعتبر كونه كصنعة له بل يكفي مطلق العمل بالسحر كما يظهر ذلك من

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب بقية الحدود ح 1.
277

عبارة المحقق؟.
الظاهر هو الثاني، وذلك لوجهين:
أحدهما: التبادر فإن المتبادر من قوله صلوات الله عليه بأن الساحر يقتل هو
أنه يقتل لسحره ولأجل فعله وعمله نظير القول بأن السارق تقطع يده المتبادر
منه أنه تقطع يده لسرقته لا لاتخاذ السرقة شغلا لنفسه وحرفة له وإن لم يقع منه
سرقة.
ثانيهما: ذيل المعتبرة المذكورة آنفا وهو قوله: لأن الشرك والسحر مقرونان
فإنه عبر بالسحر الذي هو نفس العمل ولم يذكر الساحر كي يحتمل إرادة من
اتخذ السحر شغلا وحرفة لنفسه وهذه قرينة صارفة عن كون الساحر بما هو
ساحر موضوعا للحكم بل السحر مقرون بالكفر وهو موجب للقتل وعلى هذا
فيكفي مجرد العمل في ترتب الحكم، والملاك هو الفعل والآتيان به.
وأما ما في رواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه إن عليا عليه السلام
كان يقول: من تعلم شيئا من السحر كان آخر عهده بربه، وحده القتل إلا أن
يتوب. (1) من قتل متعلم السحر.
ففيه أن الرواية ضعيفة ولم يعمل بها في ذلك. هذا مع إمكان حملها على ما إذا
تعلم فعمل به.
ومنها: أنه قد ذكر أن ساحر الكفار لا يقتل وقد صرح المحقق بتعزيره إلا أنه
ليس في روايات الباب أثر وذكر أصلا عن تعزيره وتأديبه كما أنا لم نجد ما يدل
على أن كل من أتى بكبيرة لا حد لها في الشرع فإنه يعزر عليها.
نعم ذكر الأردبيلي قدس سره في شرح الارشاد موارد كثيرة ورد فيها
التعزير بصريح روايات شريفة ثم قال: ويمكن استفادة الكلية من هذه الأخبار.
انتهى.
فإن قلنا باستفادة الكلي منها فيحكم بأن الكافر إذا عمل بالسحر،

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من بقية الحدود ح 2.
278

والمفروض أنه لا يقتل، فإنه يعزر على فعله. لكن هذا موقوف على الجزم
باستفادة الكلية وإلا فيشكل الحكم.
وقد يقال: إن مقتضى رواية علي بن الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام عن
رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله عز وجل جعل لكل شئ حدا وجعل على من
تعدى حدا من حدود الله عز وجل حدا... (1) هو وجوب تعزير الكافر بسحره
حيث إنه قد تجاوز الحد المقرر وهو حرمة السحر، فأتى به وارتكبه وحيث إنه لا
حد بالنسبة إلى الكافر فإنه يعزر.
وفيه ما ذكرناه من قبل من إجمال هذا الخبر، وربما يشمل قوله جعل على من
تعدى حدا من حدود الله حدا، غير العقوبة أيضا كمن تعدى في صلاته سهوا إذا
لزم جبر ذلك بسجدة السهو أو قضاء الصلاة.
ومنها: طريق ثبوته، والمعروف ثبوت ذلك بالبينة وبالاقرار.
وخالف في ذلك بعض فقال بانحصار ثبوته في الاقرار وأنه لا يثبت بشهادة
الشاهدين.
واستدل على ذلك بأن الشاهد لا يعرف قصده ولا يشاهد تأثيره (2).
ويدل على الأول خبر زيد بن علي عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الساحر فقال: إذا جاء رجلان عدلان
فشهدا بذلك فقد حل دمه (3). فإنه صريح في ترتيب الأثر على شهادة العدلين
بذلك وأنه يقتل الساحر بذلك.
وأما ما ذكره المخالف من الاشكال ففيه أنه ليس عمل السحر بنحو لا يمكن
مشاهدته بل قد يشاهد ولو بآثاره بحيث يقطع أن هذه الآثار مستندة إلى سحر
الساحر وعمله الخفي بل وقد وقع في موارد كثيرة أنه قد علم تحقق السحر

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من مقدمات الحدود ح 2.
(2) راجع مفاتيح الشرايع للفيض الكاشاني ج 2 ص 101 والرياض ج 2 ص 487.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب بقية الحدود ح 1.
279

وآثاره فيها وذلك كما في قصة سحرة فرعون فقد شاهد موسى عليه السلام
والناس آثار سحرهم بحيث خاف موسى من ذلك قال الله تعالى: (قال بل ألقوا
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة
موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى...) (1) إلى غير ذلك من الموارد وكثيرا،
ترى أنه يشتهر بين الناس أن فلانا سحره فلان وأثر فيه كذا وكذا.
وعلى الجملة فالسحر يثبت بشاهدين كما يثبت بالاقرار، وهل يعتبر فيه
اثنان أو أنه يكتفى بإقرار واحد؟.
مقتضى دليل حجية الاقرار وهو قوله صلى الله عليه وآله: إقرار العقلاء على
أنفسهم جائز هو الثاني.
وأما اعتبار التعدد تمسكا بالاحتياط فغير تام وذلك لدوران الأمر بين
المحذورين حيث إنه كما يحتمل أن يكون أمر القتل موكولا إلى المرة الثانية
وموقوفا عليها كذلك يحتمل أن يكون مترتبا على المرة الأولى فلا يجوز تأخيره
إلى الثانية خصوصا بلحاظ أنه ربما ينكر في المرة الثانية أو لا يساعد الأمور
إقراره الثاني.
نعم لو كان الأمر بنحو حصل الشك فقاعدة الدرء جارية كما إذا لم يحصل
الاطمينان بمؤدى كلامه بإقراره الأول فيقال له: ماذا تقول؟ أو تدري ما
تقول؟ فإذا أقر ثانيا فهناك يقتل وأما بدون ذلك فظاهر الدليل أخذه بالمرة
الأولى، وقد تقدم البحث في ذلك مرارا في نظائر المسألة.
ومنها إنه هل يفرق في الحكم بقتل الساحر بين ما إذا كان مستحلا وغير
مستحل أو أنه لا فرق بينهما أصلا؟. الظاهر عدم الفرق بينهما فإن مقتضى
الروايات هو قتله من حيث هو ساحر لا لكونه مستحلا، ولا أثر عن ذكر
المستحل في تلك الأخبار، إذا فلا وجه لاختصاصه به كما قيل (2).

(1) سورة طه آيات 66 و 67 و 68.
(2) أقول: ذكر الشهيد قدس سره في الدروس ص 327 بالنسبة للسحر: ويقتل مستحله
وقال الفيض الكاشاني في المفاتيح ج 2 ص 102: قيل إنما يقتل مستحله انتهى. ولم يعين
القائل، والظاهر أن مراد صاحب الرياض من الحاكي الذي هو من متأخري المتأخرين هو
الفيض، قال في الرياض: ثم إن مقتضى إطلاق النص والفتوى بقتله عدم الفرق فيه بين كونه
مستحلا له أم وبه صرح بعض الأصحاب وحكى آخر من متأخري المتأخرين قولا بتقييده
بالأول. ووجهه غير واضح بعد إطلاق النص المنجبر بعد الاستفاضة بفتوى الجماعة
وعدم خلاف فيه بينهم أجده ولم أر حاكيا له غيره انتهى.
280

ومنها أن تعلم السحر إن كان للعمل فيحرم كشراء العنب ليعمل خمرا
ويشرب وإن لم يكن لذلك بل كان لابطال السحر فلا يحرم بل قد يجب كمن
يتعلم لابطال سحر من يدعي النبوة.
المسألة الرابعة في تأديب الصبي
قال المحقق: يكره أن يزاد في تأديب الصبي على عشرة أسواط وكذا
المملوك.
هذه المسألة مما يكثر الابتلاء بها فيجدر أن يتأمل فيها كثيرا ويلاحظ
جوانبها كاملا.
فنقول: لا شك في أن الظلم والتعدي حرام بلا كلام، ولا شك أيضا في أن
ضرب الصبي غير المميز من مصاديق الظلم ولا يجوز ضربه عقلا سواء أكان
الضارب أباه أو غيره لأنه على الفرض غير مميز لا يعلم أن ضربه للتأديب أو
لغير ذلك لعدم معرفة تلك العناوين ولا يترتب على ضربه إلا أذاه فلا يجوز ذلك
مطلقا. وكذا لا يجوز ضرب الصبي المميز، للغضب وتشفي القلب.
وأما إذا كان ضربه للتأديب فهل يجوز ذلك أم لا؟ وعلى الأول فإلى أي
مقدار يجوز؟ وعلى الجملة فضرب الطفل وكذا مقداره يحتاجان إلى مسوغ
شرعي ودليل يجوز ذلك.
281

والتحقيق أن ما يصدر منه الذي يحمل الوالد مثلا أو المعلم على أن يعزره
ويؤدبه قسمان:
أحدهما: ما كان من قبيل المعاصي التي لو أقدم عليها الكبير كان يحد عليها
كاللواط وغير ذلك.
ثانيهما: ما لا يكون كذلك كالأمور العرفية التي يعتني بها المجتمع الانساني
كالمواظبة على السلام والآداب الانسانية وكرامتها، فيضربه على أنه لم يسلم
عند وروده في المجلس أو أنه لم يواظب على أداء احترام الأشخاص وتعظيم
الأكابر.
أما الأول فيمكن إثبات جواز ذلك لما مر في أوائل بحث القذف من أنه لو
قذف الصبي فإنه لا يحد ولكنه يعزر، بأن يقال إنه لا اختصاص بباب القذف بل
يجري ذلك في كل المعاصي والمحرمات فإنه على ذلك يستفاد منه حكم كلي وهو
أنه كلما ارتكب الصبي ما لو ارتكبه الكبير يحد عليه فهو يعزر عليه.
وأمره في الزيادة والنقصان بيد من بيده التعزير فيختلف باختلاف عمله
وحاله زيادة ونقصا شدة وضعفا.
وأما المورد الثاني فالظاهر فيه أيضا الجواز وذلك لأن وظيفة الوالدين
تأديب أولادهم وتربيتهم على الأخلاق الكريمة والآداب الحسنة، وتمرينهم
وتعويدهم على كرائم العادات وفعل الحسنات ومنعهم عن كل عمل يضر
بأنفسهم وبغيرهم، وعلى ولي الأطفال تكميل نفوسهم (1) وسوقهم إلى ما فيه

(1) أقول: ففي نهج البلاغة: وأما حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويعلمه
القرآن.
وفي الصحيفة السجادية: وأعني على تربيتهم وتأديبهم وبرهم.
وفي رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام: وأما حق ولدك
فتعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وأنك مسؤول عما وليته من حسن
الأدب والدلالة على ربه والمعونة له على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ومعاقب على
الإسائة إليه فاعمل في أمره عمل المتزين بحسن أثره عليه في عاجل الدنيا إلخ راجع تحف
العقول ص 189.
وعن أبي عبد الله عليه السلام: أدب اليتيم بما تؤدب به ولدك واضربه بما تضرب به
ولدك. وسائل الشيعة ج 15 ب 85 من أحكام الأولاد ج 1.
282

صلاحهم وسدادهم، وضرب الأطفال لهذه المقاصد المهمة والأهداف العالية لا
يعد ظلما وإنما هو إحسان إليهم كي يسعدوا بها في حياتهم ويفوزوا بها بعد مماتهم
فضرب الصبي حينئذ كالعملية الجراحية التي توجب الألم ولكنها إحسان إلى
المريض (1).
هذا بالنسبة إلى المقام الأول وهو أصل جواز ضرب الصبي المميز تأديبا.
وأما المقام الثاني وهو كمية ضربه أي المقدار الذي يجوز ضرب الصبي به،
فمقتضى ما ورد في باب التعزيرات من رعاية الحاكم المصلحة هو أن الأمر بنظر
الولي فكلما أوجب بنظره الاصلاحي وكان دون الحد فهو جائز له.
إلا أن في بعض الروايات ما يخالف ذلك فعن حماد بن عثمان قال: قلت لأبي
عبد الله عليه السلام في أدب الصبي والمملوك فقال: خمسة أو ستة وأرفق (2).
وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: إن أمير المؤمنين عليه السلام
ألقى صبيان الكتاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم فقال: أما إنها حكومة والجور
فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب
أقتص منه (3) والكتاب بالضم المكتب كما في الوافي ج 2 ص 75 من الحدود

(1) مآل استدلاله دام ظله إلى قاعدة الاحسان وقوله تعالى: (ما على المحسنين من
سبيل) سورة التوبة الآية 91.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقية الحدود ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقية الحدود ح 2 أقول: وفي الفقيه ج 4 ص 72:
روي أنه من أمير المؤمنين عليه السلام صبيان فقالا: يا أمير المؤمنين خاير بيننا قال أمير
المؤمنين عليه السلام: إن الجور في هذا كالجور في الأحكام أبلغا مؤدبكما عني أنه إن ضربكما
فوق ثلاث كان ذلك قصاصا يوم القيامة. قوله: خاير أي اختر بينهما واحكم أيهما خير
والمراد خير الخطين.
283

والتعزيرات، وكذا قال في المنجد.
وظاهر هاتين الروايتين وخصوصا الثانية منهما عدم جواز التعدي عن
المقدار المذكور في كل واحد منهما فإن الاقتصاص ظاهر في أنه كان الزائد محرما،
والاقتصاص لا يساعد الكراهة.
هذا مضافا إلى أن منتهى الضرب في هاتين بالنسبة إلى الصبي بمقتضى الرواية
الأولى هو الستة وبمقتضى الثانية ثلاثة وإن كانت الأولى مطلقة والثانية مختصة
بالمعلم، وكيف كان فلا ذكر عن العشرة فيهما.
نعم في مرسلة الصدوق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يحل لوال
يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلا في حد وأذن في أدب
المملوك من ثلاثة إلى خمسة (1). وهنا قد ذكرت العشرة إلا أن الرواية متعرضة
للوالي.
اللهم إلا أن يقال إن المراد من الوالي هو والي الحد ومن بيده أمره، أو بعدم
الخصوصية له، وإن كان المراد من الوالي معناه المصطلح لكن بتنقيح المناط يقال
بذلك في غيره. ولعل نظر المحقق من ذكر العشرة كان إلى هذه الرواية إلا أن
التعبير بن لا يحل وكذا توصيف الوالي بالايمان بالله واليوم الآخر الذي يفيد أن

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 2، أقول: وقد يستدل بصحيحة
حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله قال: لا بأس أن يؤدب المحرم عبده ما بينه وبين عشرة
أسواط.
قال بعض الأعاظم: وهذه الصحيفة وإن وردت في المحرم إلا أنه جاز للمحرم أن
يضرب عبده عشرة أسواط جاز لغيره بالأولوية.
284

المتعدي عن ذلك الحد وهذه الكمية ليس بمؤمن بالله ورسوله لا يساعدان القول
بكراهة ما زاد عن العشرة مع أنه قدس سره صرح بكراهيته.
هذا مضافا إلى أنه لا محصل للقول بكراهة ما زاد عليها لأنه لو لم يتوقف
تأديبه على أكثر منها فالزائد عليها حرام حيث إنه ظلم وإيذاء كما تقدم وهو
حرام فهل هو مع كونه ظلما يكون مكروها؟ وإن توقف عليه فلا يجوز له تركها.
والحاصل أن الكلام تارة في ولي الطفل كالأب وأخرى في معلمه.
أما الأول فيجوز له ضرب الصبي إذا توقف عليه تأديبه وتربيته، وظاهر
الأخبار أن الأمر بيده ولا حاجة في ذلك إلى استيذان من الحاكم، خلافا لسائر
موارد التعزيرات، وقد تقدم منا أنه لا يقتصر في ذلك على ما إذا صدر عن
الصبي ما هو خلاف المشروع بل يجري فيه وفيما كان من الأمور الاجتماعية التي
يراعيها أولياء الطفل - الذين كان الطفل تحت رعايتهم - بالنسبة إليه.
وأما كمية ضربه ففي رواية حماد خمسة أو ستة ويمكن استفادة غير ذلك
كثلاثة مثلا من سائر الأخبار. ولعل هذا الاختلاف محمول على المناسبات
المختلفة والحالات والظروف المتفاوتة المتكاثرة، والملاك الكلي هو ما يتوقف
عليه تأديبه وتكميله مع مفروغية عدم جواز بلوغه الحد الشرعي.
نعم لا يجوز التعدي عما يحصل به التأديب، كثيرا أو قليلا.
وأما الثاني أي المعلم فمقتضى رواية السكوني جواز ضربه الأطفال والظاهر
عدم الفرق في ذلك بين إتيان الطفل ما هو خلاف الشرع أو ما هو خلاف برامج
المكتب والمناهج التعليمية والتربوية والأنظمة الخاصة الحاكمة على محل التعليم،
أو الطقوس المعمولة والرائجة لترفيع الأطفال بالدرس وغير ذلك.
هذا مضافا إلى أن هذا الضرب كان لتكميلهم وتربيتهم فهو إحسان إليهم
فيجوز كما في الوالد بالنسبة لولده. هذا بالنسبة إلى ضرب المعلم الصبي الذي
يتعلم منه ولديه.
وأما كميته فمقتضى رواية السكوني هو الاقتصار على ضربه ثلاثة فلا يجوز
285

له أن يتجاوز عن ذلك المقدار بل يقتص منه إذا تجاوز نظير ما ورد من
الاقتصاص من الحداد، أي مجري الحد، إذا تعدى عن الحد (1).
وعلى الجملة فليس المعلم كالحاكم في كون التعزير بيده ومنوطا بنظره بل
يجب عليه أن لا يتعدى عن ذلك، وذلك لقرينة الاقتصاص المذكور في الرواية.
وهل هو مستقل في تأديبه بهذا المقدار أم لا بل يحتاج إلى إذن الولي؟.
أقول: الظاهر عدم استقلاله في ذلك بل هو محتاج إلى إذن الولي فإن قصده
وإن كان إصلاحيا نظرا إلى أنه يريد ترفيع مقامه بأخذ الدروس وتعلمها
وصيرورته فطنا ماهرا في العلم والثقافة لكن ربما لم يكن لأبيه هذا الاهتمام وهو
لا يريد صيرورة ولده عالما نحريرا ولا يرضى لابنه أن يضرب وإن لم يتعلم شيئا
فلو نهاه والده عن ضربه مثلا وعلم بعدم رضاه فهناك يشكل الاقدام على
ضربه ولو بالمقدار المزبور وهو خلاف الاحتياط إلا أن يستأذن وليه وهو قد
أذن في ذلك. اللهم إلا أن يقال بأن تسليم الولي الطفل إلى الكتاب أو المدرسة مع
ما هو كالسيرة الدائرة الرائجة هناك من ضربهم الأطفال في بعض الموارد بل
وتوقف التعليم والتربية في بعض الأحايين على ذلك من قبيل إذن الولي في
ضرب الطفل وهو كإمضاء لتلك السيرة المستمرة، وعلى ذلك فلو صرح الأب
بأن هذا الطفل لا يستعد بحسب حاله للضرب أو نهاه عن ضربه فلا يجوز له
ضربه.
ويمكن التفصيل بين ما إذا كان ضربه الطفل لمكان أنه قد فعل ما هو من قبيل
المعاصي والمحرمات وبين ما إذا أتى بما لا يساعد الأنظمة والبرامج الجارية هناك
وكان ضربه لتعليمه وقرأته وكتابته وما يتعلق بهذه الأمور أو لتأديبه فعلى
الأول يكون له الاقدام على ضربه استقلالا بخلاف الثاني فإنه يعتبر فيه إذن

(1) ففي الكافي ج 7 ص 260 عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام
أمر قنبر أن يضرب رجلا حدا فغلظ قنبر فزاد ثلاثة أسواط فأقاده علي عليه السلام من
قنبر ثلاثة أسواط.
286

الولي.
ثم إن الظاهر من ثلاثة ضربات هو ضربه بالسوط لكن الظاهر عدم
الخصوصية له بل الملاك هو كل ما كان دائرا ورائجا في كل عصر وزمان فإذا لم
يكن السوط رائجا بل كان المتعارف هو الضرب بالخشب أو باليد فالحكم أيضا
كذلك وذلك لتنقيح المناط ووحدة الملاك. هذا كله بالنسبة إلى الصبي.
وأما المملوك ففي رواية حماد المذكورة آنفا: خمسة أو ستة، والأمر بالرفق
كالصبي بعينه بل هو كما علمت مقرون بذكر الصبي.
وفي رواية زرارة بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما ترى في
ضرب المملوك؟ قال: ما أتى فيه على يديه فلا شئ عليه وأما ما عصاك فيه فلا
بأس. قلت: كم أضربه؟ قال: ثلاثة أو أربعة أو خمسة (1).
وعن أبي هارون العبدي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال لبعض غلمانه في
شئ جرى: لو انتهيت وإلا ضربتك ضرب الحمار (2).
وعن تفسير النعماني عن علي عليه السلام قال في حديث: وأما الرخصة التي
صاحبها فيها بالخيار فإن الله تعالى رخص أن يعاقب العبد على ظلمه فقال الله
تعالى: جزاء سيئة مثلها، وهذا هو فيه بالخيار فإن شاء عفا وإن شاء عاقب (3).
وعن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربما ضربت
الغلام في بعض ما يجرم قال: وكم تضربه؟ قلت: ربما ضربته مأة، فقال: مأة؟
مأة؟ فأعاد ذلك مرتين ثم قال: حد الزنا؟ اتق الله فقلت: جعلت فداك فكم لي
أن أضربه؟ فقال: واحدا فقلت: والله لو علم أني لا أضربه إلا واحدا ما ترك لي
شيئا إلا أفسده قال: فاثنين فقلت: هذا هو هلاكي، قال: فلم أزل أماكسه حتى
بلغ خمسة ثم غضب فقال: يا إسحاق إن كنت تدري حد ما أجرم فأقم الحد فيه

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقية الحدود ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب بقية الحدود ح 4.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب بقية الحدود ح 5.
287

ولا تعد حدود الله (1).
وعن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليه السلام قال:
اضرب خادمك في معصية الله عز وجل واعف عنه فيما يأتي إليك (2).
وعن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: سألته عن
رجل هل يصلح له أن يضرب مملوكه في الذنب يذنبه؟ قال: يضربه على قدر
ذنبه إن زنى جلده وإن كان غير ذلك فعلى قدر ذنبه السوط والسوطين وشبهه
ولا يفرط في العقوبة (3).
وعن أحمد بن محمد في مسائل إسماعيل بن عيسى عن الأخير عليه السلام في
مملوك يعصي صاحبه أيحل ضربه أم لا؟ فقال: لا يحل أن يضربه إن وافقك
فأمسكه وإلا خل عنه (4).
وأنت ترى أنه ليس في هذه الروايات ذكر عن العشرة إلا في مرسل الفقيه
المذكور آنفا الوارد في الوالي. وقد تقدم أنه يمكن التمسك به بالقول بإرادة والي
الحد أو بتنقيح المناط وكيف كان فالحكم بكراهة الأزيد الذي ذكره المحقق غير
واضح الوجه فإن الظاهر أن الأمر يدور بين عدم جواز الزيادة إذا حصل
التأديب بها وعدم جواز الترك إذا توقف على الزيادة.
قال صاحب الجواهر في حل الاشكال: فلا بد من حمل ذلك على حال عدم
العلم بالحال. انتهى.
ولكن الظاهر أنه ليس بتام لأنه في فرض عدم العلم بالحال، وعند الشك
يحرم الضرب ويحتاج ذلك إلى المسوغ اليقيني. نعم يمكن أن يحمل الجواز على

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدمات الحدود ح 4.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 30 من أبواب مقدمات الحدود ح 8.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب مقدمات الحدود ح 2 وقوله: عن الأخير، قال في
مرآة العقول: كأنه أبو الحسن الثالث عليه السلام.
288

وجه الكراهة على أقلية الثواب فإن الواجب التوصلي أيضا لو أتي به بقصد
القربة يترتب عليه الثواب فتربية الطفل موجبة للأجر والثواب وكل واحد من
الأقل والأكثر من مراحل التربية ولكن الاكتفاء بالأقل أولى.
كفارة من ضرب عبده فوق حده
قال المحقق: وقيل إن ضرب عبده في غير حد حدا لزمه إعتاقه وهو على
الاستحباب.
أقول: والقائل هو الشيخ في النهاية. قال في الجواهر: ولفظه: من ضرب
عبده فوق الحد كان كفارته أن يعتقه انتهى.
وفيه أنه ليس هذا لفظ النهاية بل نصه هذا: والصبي والمملوك إذا أخطأ أدبا
بخمس ضربات إلى ست ولا يزاد على ذلك فإن ضرب إنسان عبده بما هو حد
كان عليه أن يعتقه كفارة لفعله انتهى (1). ترى أنه ليس في عبارة النهاية لفظة
(فوق) ولعل النسخة الموجودة عند صاحب الجواهر منه كانت متضمنة لها أو أن
ذلك كان قد زيد في قلمه أو قلم النساخ.
وكيف كان فالدليل عليه هو صحيح أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام
قال: من ضرب مملوكا حدا من الحدود من غير حد أوجبه المملوك على نفسه لم
يكن لضاربه كفارة إلا عتقه (2).
لكن لسان هذا الخبز غير ما قالوه، فإنه متعلق بما إذا ضرب المملوك حدا من
دون سبب وبلا موجب للحد وهو بمعزل عن كلامهم إلا أنه غير معمول به عند
الأصحاب فلم يعملوا بهذا الخبز ولا بالمضمون المذكور ولذا قال في الجواهر:
فيتجه حينئذ حمله على الندب.

(1) النهاية ص 732.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 27 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
289

وفيه أن عتق العبد مستحب وإن لم يكن هذه الجهة، اللهم إلا أن يراد بالندب
آكديته وزائدا على طبعه.
وفي المختصر النافع أن الاستحباب المزبور لمن زاد في تأديبه على العشرة.
قال: يكره أن يزاد في تأديب الصبي من عشرة أسواط، وكذا العبد، ولو فعل
استحب عتقه.
وأورد عليه في الجواهر بقوله: وإن لم أجد له شاهدا بل ولا موافقا انتهى.
وأما ما أورده صاحب الجواهر على الشيخ بعد ذكر صحيح أبي بصير مستندا
للمطلب بقوله: إلا أنه كما ترى لم يعتبر فوق الحد الذي ذكره الشيخ.
ففيه أنه غير وارد على الشيخ إلا على ما حكاه من عبارته المشتملة على لفظة
(فوق) وأما على ما نقلناه فلم يكن فيها هذه اللفظة كي يستشكل عليه بما ذكره
الجواهر.
ثم قال: والظاهر أن الاستحباب المزبور للمولى، وربما احتمل استحبابه
أيضا لغيره بأن يشتريه ويعتقه لكنه ليس بشئ انتهى.
أقول: والظاهر أن مراد المحتمل من استحبابه لغيره هو أنه لو ضربه آخر لا
مولاه فإنه يستحب لهذا الغير أن يشتريه ويعتقه. وأما احتمال أن يراد منه أنه لو
ضربه مولاه يستحب للغير أن يشتريه ويعتقه، فهو بعيد بل هو خلاف ظاهر
نفس الرواية حيث تقول: لم يكن لضاربه كفارة إلا عتقه، ومن المعلوم أنه لا
معنى لارتكاب المولى الجرم وأداء غيره الكفارة، ولا مناسبة بين كون كفارة
ضرب المالك على غير المالك، بخلاف الاحتمال الأول الذي عليه يكون الكفارة
على من ارتكب الضرب غاية الأمر إسراء الحكم عليه عن المولى إلى غيره وربما
يكون هذا ظاهر لفظ الرواية حيث عبر فيها بقوله عليه السلام: من ضرب
مملوكا، وهو نكرة في سياق النفي ولم يقل من ضرب مملوكه، كي يختص بضرب
المولى عبده.
وإن أمكن أن يقال إن الظاهر بحسب الاعتبار والتبادر الذهني هو ضرب
290

المولى عبده. هذا تمام الكلام في هذا المقام.
تذكرة فقهية أخلاقية
ثم إنه لا بد من أن يكون المقصود والهدف في مقام الضرب هو التأديب
الراجع إلى مصلحة الصبي لا ما يثيره الغضب النفساني وإلا فربما يؤول الأمر إلى
أن يؤدب المؤدب لأن ضربه لم يكن لله تبارك وتعالى. وعلى هذا فلا بد من أن
يكون ضربه في الحال الطبيعي العادي لا حال الغضب ولو كان مغضبا يكون
غضبه لله تعالى لا لنفسه حتى يسوغ ضربه وهذه الحالة قلما توجد إلا في النفوس
الزكية الطاهرة.
وقد ورد في حالات أمير المؤمنين عليه السلام إنه ألقى عدوه على الأرض
وجلس على صدره ولما أراد أن يقطع رأسه فإذا هو قد ألقى بصاقه عليه فقام
الإمام وتركه قليلا ثم رجع وقتله وحيث سئل عن إعراضه الأول ثم رجوعه
إلى العدو أجاب بأني غضبت في تلك الوقت لما صنع العدو بالنسبة إلي فلم أقتله
في هذه الحالة لثوران نار الغضب فتركته كي يسكن غضبي ثم أتيته وقتلته كي
يكون عملي خالصا لله تبارك وتعالى لا ناشئا عن الأهواء النفسانية وإشباعا
لها (1).
لكن أين هو عنا وأي إنسان يملك نفسه وهواه عند غضبه، ويقدر على إطفاء
نائرة غيضه، والاقدام على الضرب لله تعالى محضا وخالصا لوجهه الكريم إلا
أنه لو حصل للانسان هذا المقام فله الأثر الخاص في كمال النفس وتهذيبه وهو
منشأ سعادته في الدنيا والآخرة.

(1) عين الحياة للعلامة المجلسي قدس سره ص 587.
291

المسألة الخامسة
في ثبوت ما فيه التعزير بشاهدين أو الاقرار مرتين
قال المحقق قدس سره: كل ما فيه التعزير من حقوق الله سبحانه وتعالى
يثبت بشاهدين أو الاقرار مرتين على قول.
أقول: هنا بحثان: أحدهما إن ما كان فيه التعزير من حقوق الله يثبت
بشاهدين. قال الشهيد الثاني في المسالك: أما ثبوته بشاهدين فلا إشكال فيه
لأن ذلك حق ليس بمال فلا يثبت.. انتهى.
وفي الجواهر: بلا خلاف ولا إشكال.
وقد يقرر ذلك بأنه ليس من قبيل الزنا كي يحتاج إلى أربعة شهود ولا من
قبيل حقوق الناس الذي يمكن أن يقال بكفاية شاهد ويمين فيها فلا بد هنا من
شاهدين إذا أريد الاثبات بالبينة.
ثانيهما: إنه يثبت بالاقرار وقد نسب في عبارة المتن اعتبار التعدد إلى القول،
ولم يعين القائل وهو مشعر بالضعف، ولا يخفى أن القائل بالقول المزبور هو ابن
إدريس رضوان الله عليه وبعض آخر، بل في المسالك: هو المشهور ولم يذكر
العلامة فيه خلافا.
وذهب الآخرون إلى كفاية الاقرار مرة واحدة في إثبات المطلب وترتب
الأحكام. وذلك بمقتضى قولهم عليهم السلام: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز
وصدق الاقرار بالمرة الواحدة المقتضي للاكتفاء بها مع عدم مخصص في المقام.
وقد تقدم أن توجيه القول الأول بأن يقال بحصول الشبهة بالمرة الواحدة
وهو يقتضي الدرء وعدم الاكتفاء في التعزير بمرة واحدة.
292

تعزير من قذف عبده أو أمته
قال المحقق: ومن قذف عبده أو أمته عزر كالأجنبي.
أقول: لما كان الشرط في حد القاذف هو كون المقذوف حرا فإذا كان مملوكا
كان القاذف يعزر على ذلك بدلا عن الحد فحينئذ نبه قدس سره على أنه لا فرق
في ذلك بين كون القاذف هو المولى أو غيره وأن مجرد كونه مولى أو مولاة له لا
يوجب رفع التعزير.
وفي الجواهر بعد عبارة المتن: بلا خلاف لحرمته إلخ.
ويدل على ذلك الروايات الشريفة عموما وخصوصا.
أما الأول فمنها رواية عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: لو أتيت برجل قذف عبدا مسلما بالزنا لا نعلم منه إلا خيرا لضربته الحد
حد الحر إلا سوطا (1).
ومنها خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من افترى على مملوك
عزر لحرمة الاسلام (2).
ومن المعلوم أن لفظ (رجل) في الأولى وكذا من الموصولة في الثانية مطلق
يشمل المولى وغير المولى. وقوله عليه السلام في الأولى: إلا سوطا، للإشارة
إلى التعزير فإنه دون الحد.
وأما الثاني فهو خبر غياث عن جعفر عن أبيه قال: جاءت امرأة إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله فقالت: يا رسول الله إني قلت لأمتي: يا زانية فقال: هل
رأيت عليها زنا؟ فقالت: لا. فقال: أما إنها ستقاد منك يوم القيامة، فرجعت
إلى أمتها فأعطتها سوطا ثم قالت: اجلديني فأبت الأمة فأعتقها ثم أتت إلى

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف، ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد القذف، ح 12.
293

النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته فقال: عسى أن يكون به (1).
وما يتوهم من اشتمالها على خلاف القاعدة من إرجاع التعزير إلى غير الحاكم،
ففيه أن التعزير لم يقع وإنما كان مجرد قول من هذه المرأة ولم يعلم تقرير النبي
صلى الله عليه وآله وسلم لها في ذلك. ويحتمل أيضا أنه كان من باب التعزير
واحتملنا عفو صاحب الحق بلحاظ أنه من حقوق الناس.
وكيف كان فهي تدل قطعا على أن هذه المرأة قد ارتكبت معصية عظيمة
بحيث هددها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه ستقاد منك يوم القيامة
فلا بد أن يكون عليها التعزير مع أن المفروض أن الرمي بالزنا كان من سيدة إلى
أمتها.
نعم يبقى الاشكال في أنه لماذا لم يعزرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟.
وقد أجاب عنه في الجواهر بقوله: ولعل ترك النبي صلى الله عليه وآله
تعزيرها لعدم إقرارها مرتين. انتهى.
المسألة السادسة في مورد التعزير (2)
قال المحقق: كل من فعل محرما أو ترك واجبا فللإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد
وتقديره إلى الإمام ولا يبلغ به حد الحر في الحر ولا حد العبد في العبد.
وهنا أمور:
أحدها: إنه لا شك في أن هذا الحكم مختص بالمعاصي التي لم يكن عليها حد
مجعول وعقوبة مقررة معينة من الشارع وذلك لأنه لم يعهد في مورد أن يعاقب
أحد على ذنب واحد له حد بالحد والتعزير كليهما.
ثانيها: إن المحقق أطلق وعمم الحكم لكل معصية لكن صاحب الجواهر قيد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد القذف، ح 4.
(2) أقول: قد تعرض دام ظله لهذا البحث سابقا، على التفصيل، فراجع.
294

ذلك بكونها من الكبائر. ولعل الظاهر هو هذا فإن الصغائر مكفرة مع الاجتناب
عن الكبائر بصريح الكتاب كما قال الله تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيأتكم وندخلكم مدخلا كريما).
لا يقال: إن التكفير متعلق بالآثار الأخروية كالعقاب والعذاب وهو بمعزل
عن التعزير.
لأنا نقول: لا خصوصية لعقاب الآخرة، بل التعزير أيضا نوع عقوبة فيرتفع
هذا الأثر كما يرتفع عذاب الله في الآخرة وفي رواية زرارة عن حمران قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن رجل أقيم عليه الحد في الدنيا أيعاقب
في الآخرة؟ فقال: الله أكرم من ذلك (1). فبصريح الرواية إن الله تعالى أجل
وأكرم من أن يعاقب في الآخرة من أقيم عليه الحد في الدنيا (2).
ثالثها إن صاحب الجواهر ادعى عدم الخلاف والاشكال نصا وفتوى على
المطلب أي الحكم بالتعزير. وفيه أنه لو أمكن تصديقه في الثاني أي عدم الخلاف
والاشكال بحسب الفتوى فلا يمكن تصديقه في الأول أي عدم الخلاف
والاشكال بحسب النص وذلك لما تقدم منا غير مرة أن استفادة المطلب من
النصوص مشكل وسيأتي البحث فيه أيضا إن شاء الله تعالى.
رابعها في الدليل على ذلك وطريق إثباته، وهو وجوه:
منها التمسك بالاستقراء وفحص الموارد الجزئية والحكم بالكلي وقد تمسك
بذلك المحقق الأردبيلي قدس سره على ما تقدم سابقا (3) وقد مضى الاشكال في

(1) سورة النساء الآية 31.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب مقدمات الحدود ح 7.
(3) فإنه (عند قول العلامة: وكل تعريض بما يكرهه المواجه يوجب التعزير) تعرض للبحث
وصرح بأن الدليل على الكلية لا يكاد يوجد ما يكون نصا فيه نعم قد يوجد في الأخبار ما
يمكن فهمه منها وقدر بعضها، ثم نقل تلك الأخبار ثم قال في آخر الصفحة: فيمكن استفادة
الكلية من هذه الأخبار
وقد تعرض رحمه الله للبحث ثانيا بنحو الإجمال بعد ورقتين من هذا عند قول العلامة
أعلى الله مقامه: وكل من فعل محرما أو ترك واجبا عزره الإمام انتهى.
295

ذلك فإن بعض الذنوب والمعاصي ربما صدر عن بعض الأفراد ولم يقع من
المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بالنسبة إليهم تعزير ولا صدر منهم عليهم
السلام أمر بذلك. وإن أمكن أن يقال بكونها صغيرة في تلك الموارد.
ولكن الظاهر خلافه للعلم بأنه قد وقع بعض الكبائر ولم يحكموا عليه
بالتعزير.
ومنها ما تمسك به بعض من الروايات الدالة على أن لكل شئ حدا ولمن
تجاوز ذلك الحد حدا وهي عدة روايات أخرجها في الوسائل في باب 2 من
أبواب مقدمات الحدود.
وفيه ما مر سابقا من إجمال تلك الروايات من جهات فلا يعلم أن المراد كل
الأشياء حقيقة بلا استثناء أو أنه أشياء خاصة، كما لا يعلم أن المراد من حد كل
شئ ما هو؟ وكذلك لا يعلم المراد من الحد الذي جعله على من تجاوز الحد.
نعم لو جزم أحد بأن المراد إن الله تعالى جعل للأشياء أحكاما ومقررات
وقرر على من تجاوز عنها حدا وكان المراد من الحد الثاني ما يشمل التعزير لكان
حسنا ولكن الكلام في استفادة ذلك.
قال في الجواهر في البحث عن شمول التعزير للتوبيخ مثلا: قد يستفاد التعميم
مما دل على أن لكل شئ حدا ولمن تجاوز الحد حدا بناءا على أن المراد من الحد
فيه التعزير انتهى. ومراده إنه بناءا على ذلك يمكن أن يقال بعدم اختصاص
التعزير بالضرب بل التوبيخ والتعنيف أيضا من مراحل التعزير.
وفيه أن مجرد البناء لا ينفع شيئا والنزاع في ظهور هذه الروايات وعدمه وهو
غير ثابت (1).

(1) أقول: وقد يتمسك بحفظ النظام وتقريره كما تقدم أن الإسلام قد اهتم بحفظ النظام المادي
والمعنوي وإجراء الأحكام على مجاريها وهذا يقتضي أن تعزر الحاكم كل من خالف النظام.
296

والحاصل إنه لا دليل لنا تطمئن إليه النفس في الحكم بوجوب التعزير في كل
معصية بل ولا في خصوص الكبائر منها.
خامسها إن التعزير يكون بما دون الحد وذلك لصريح الرواية ففي صحيح حماد
بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: كم التعزير؟ فقال: دون
الحد قال: قلت: دون ثمانين؟ قال: لا ولكن دون أربعين فإنها حد المملوك.
قال: قلت: وكم ذاك؟ قال: على قدر ما يراه الوالي من ذنب الرجل وقوة
بدنه (1).
فهذا لا كلام فيه وإنما البحث والاشكال في المراد من هذا الحد الذي يكون
التعزير دونه، ولا بد من تعيين ذاك الحد حتى يعتبر التعزير إليه ويحكم بوجوب
كون التعزير دونه وأقل منه. وهاهنا وجوه واحتمالات:
فمنها أنه هو الحد الكامل وهو حد الزنا أي المأة جلدة.
ومنها أقل الحدود وهو الخمسة والسبعون، حد القيادة فإنه أقل جميع الحدود
بالنسبة إلى الأحرار.
ومنها أن يكون المراد الأربعين فإنه أقل الحدود الذي ليس دونه حد وهو
حد العبد فيعتبر في التعزير أن لا يبلغ الأربعين وإن كان التعزير تعزير
الأحرار (2).
ومنها أن المراد هو الحد المناسب للعمل الذي يريد التعزير عليه فالمعيار في ما
ناسب الزنا كالتفخيذ واللمس والاضطجاع مع الأجنبية هو الزنا، فيجب أن لا
يبلغ حده وهو مأة، وفي ما ناسب القذف كالتعريض يعتبر أن يكون دون حد
القذف وهو ثمانون وفي ما ناسب شرب الخمر يشترط أن يكون أقل من حده
وهو أيضا الثمانون وفي ما يناسب القيادة لا بد أن لا يبلغ حدها وهو خمس

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب بقية الحدود ح 3.
(2) وفي الرياض: لا ريب أن الاقتصار عليه أحوط وأولى وإن لم أجد به قائلا انتهى بل هو
مختار الشيخ قدس سره في المبسوط كتاب الحدود ص 66 فراجع.
297

وسبعون.
وهذه الوجوه المختلفة كلها بحسب الاستظهار وإلا فلم يصرح في الروايات
بشئ منها سوى الوجه الثاني فإنه مذكور في رواية حماد بن عثمان المذكور آنفا
حيث قال الإمام في بيان التعزير: دون الحد. ولما سأل الراوي قائلا: دون
ثمانين؟ أجاب عليه السلام: لا ولكن دون أربعين، وعلل ذلك بقوله عليه
السلام: فإنها حد المملوك. فمقتضى هذه الرواية أن الملاك هو ما دون الأربعين
ويعتبر التعزير بالنسبة إليه فأي معصية وقعت من المجرم وأريد تعزيره فإنه لا
يجوز أن يبلغ الأربعين.
ولكن الالتزام بذلك مشكل وذلك لاستفادة لزوم مراعاة المناسبة من
الأخبار الواردة في الرجل والمرأة الذين يوجدان تحت إزار واحد وفي لحاف
واحد المصرحة بأنهما يجلدان مأة إلا سوطا كصحيحة حريز ورواية الشحام
وخبر أبان فراجع الباب العاشر من أبواب حد الزنا ح 3 و 19 و 20 ولذا أفتى
بذلك المحقق قدس سره في جميع مناسبات الزنا كالتقبيل والمضاجعة في إزار
واحد والمعانقة ونحو ذلك مما هو استمتاع بما دون الفرج فإذا رأينا ملاحظة
المناسبة في هذه الأخبار بالنسبة إلى العمل المناسب للزنا فنقول بذلك في غير
باب الزنا أيضا والنتيجة أنه إذا كان العمل مناسبا للقذف فهناك نقول بوجوب
تعزيره في ما دون الثمانين بما يراه الحاكم وهكذا ويقتصر في العمل برواية حماد
المذكور آنفا على موردها (1).
وعلى الجملة فإنه يلاحظ في تعزير كل معصية الحد المجعول للمعصية المناسبة
لها.
قال في المسالك: وكون غايته أن لا يبلغ به الحد، الأجود أن المراد به الحد
لصنف تلك المعصية بحسب حال فاعلها فإن كان الموجب كلاما دون القذف لم

(1) أقول: وما هو موردها بعد أن السؤال عن التعزير مطلقا؟ وهل الذي أفاده سيدنا الأستاذ
الأفخم دام ظله العالي إلا طرح هذه الصحيحة؟.
298

يبلغ تعزيره حد القذف وإن كان فعلا دون الزنا لم يبلغ حد الزنا وإلى ذلك أشار
الشيخ والعلامة في المختلف انتهى.
وأما جعل الملاك هو حد الزنا مطلقا وفي جميع الموارد فإن كان حرا يعزر بما
دون المأة وإن كان عبدا فبما دون الخمسين الذي هو حد العبد، فهو بعيد. وكيف
يمكن أن يقال بأن من قذف مثلا يحد ثمانين ولكن لو عرض فإنه يجوز تعزيره إلى
تسع وتسعين مع أن التعريض أقل وأهون من القذف؟! (1).
وعلى هذا فالقول بمراعاة المناسب هو الأولى (2).
ثم إنه قال في كشف اللثام عند قول العلامة: (وكل من فعل محرما أو ترك
واجبا كان للإمام تعزيره بما لا يبلغ الحد لكن بما يراه الإمام ولا يبلغ حد الحر في

(1) أقول: لو استفدنا من الأخبار أن الملاك هو حد الزنا مطلقا فلا استبعاد فيما ذكره دام ظله
نقضا عليه وذلك لابتناء الفقه على التعبد وجمع المفترقات وتفريق المجتمعات وأنت ترى أن
صاحب الجواهر اختار ذلك بحسب ظاهر كلامه حيث قال في تفسير حد الحر الوارد في كلام
المحقق وهو المأة انتهى وهذا هو الذي ذهب إليه ابن إدريس مصرحا بأنه مقتضى أصول
المذهب والأخبار عند إيراده على الشيخ.
فإن الشيخ قال في الخلاف في باب الأشربة مسألة 14: لا يبلغ بالتعزير حدا كاملا بل
يكون دونه، وأدنى الحدود في المماليك أربعون والتعزير فيهم تسعة وثلاثون إلخ. وقد نزله ابن
إدريس في السرائر في أواخر حد السحق على أنه إذا كان الموجب للتعزير مما يناسب الزنا
ونحوه مما يوجب مأة جلدة فالتعزير فيه دون المأة وإن كان مما يناسب شرب الخمر أو القذف
مما يوجب ثمانين فالتعزير فيه دون الثمانين ثم اعترض ابن إدريس عليه بقوله: والذي يقتضيه
أصول مذهبنا وأخبارنا أن التعزير لا يبلغ الحد الكامل الذي هو المأة أي تعزير كان سواء كان
مما يناسب الزنا أو القذف وإنما هذا الذي لوح به شيخنا من أقوال المخالفين وفرع من فروع
بعضهم ومن اجتهاداتهم وقياساتهم الباطلة وظنونهم العاطلة انتهى.
(2) أقول: ذهب إليه الشيخ والحلبي، قال في الكافي ص 420: والتعزير لما يناسب القذف من
التعريض والنبز والتلقب من ثلاثة أسواط إلى تسعة وسبعين سوطا ولما عدا ذلك من ثلاثة إلى
تسعة وتسعين سوطا انتهى واختاره في المسالك كما اختاره العلامة في المختلف.
299

الحر ولا حد العبد في العبد انتهى) موضحا قوله: ما لا يبلغ الحد الخ. بقوله: (ولا
حد العبد في العبد): ففي الحر من سوط إلى تسعة وتسعين وفي العبد من سوط إلى
تسعة وأربعين كما في التحرير، وقد مر القول بأنه يجب أن لا يبلغ أقل الحد وهو
في الحر ثمانون وفي العبد أربعون وبأن التعزير فيما ناسب الزنا يجب أن لا يبلغ
حده وفيما ناسب القذف والشرب يجب أن لا يبلغ حده، وسمعت بعض الأخبار
في ذلك، وما ورد فيه تقدير كالوطي في الحيض وفي الصوم ووطي أمة يتزوجها
بدون إذن الزوجة الحرة فالأشبه أنه إن عمل بالنصوص المقدرة فيها فهي
حدود.
ثم قال: ثم وجوب التعزير في كل محرم من فعل أو ترك إن لم ينته بالنهي
والتوبيخ ونحوهما فهو ظاهر لوجوب إنكار المنكر وأما إن انتهى بما دون
الضرب فلا دليل عليه إلا في مواضع مخصوصة ورد النص فيها بالتأديب أو
التعزير، ويمكن تعميم التعزير في كلامه وكلام غيره لما دون الضرب من مراتب
الانكار انتهى.
أقول: قوله: فهو ظاهر انتهى يعني ظاهرا أنه يجب تعزيره لأنه لا ينتهي
بالنهي والتوبيخ لأنه يجب إنكار المنكر وأما إن انتهى بما دون الضرب فلا دليل
على وجوب التعزير إلا في الموارد المنصوصة.
وفيه أولا إن أدلة التعزير مطلقة لا تختص بما إذا لم ينته بدون الضرب فإنها
تفيد أن عليه ذلك سواء أمكن انتهاؤه بالتوبيخ والتعنيف أم لا؟.
وثانيا إن البحث في التعزيرات بمعزل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ولكل واحد منهما موضع خاص فالنهي عن المنكر يتعلق بما قبل العمل وعند
إرادة الاتيان به فينهى من كان بصدد الارتكاب عنه وينكر عليه وهذا بخلاف
التعزير فإنه بعد وقوع العمل وتحققه، فهو بعينه كالحد الذي يعاقب الفاعل بعد
عمله به.
نعم قد يترتب عليه الأثر بالنسبة إلى القابل فلا يأتي به بعد ذلك أبدا إلا أنه
300

ليس كليا وترى أنه قد لا يؤثر بالنسبة إلى ما بعد ذلك أصلا بل يأتي به ويرتكبه
بعده أيضا ولذا يكرر تعزيره، وفي بعض الأوقات ينجر إلى قتله - فتأمل -.
وعلى الجملة فقولهم: كل من فعل محرما يعزر يراد به تعذيبه وعقوبته على
عمله بعد أن صدر عنه وتحقق منه وأين هذا من الأمر بالمعروف أو النهي عن
المنكر الذي هو مقدمة لترك المعصية وذريعة إلى أن لا يأتي بها.
وبعبارة أخرى: إن التعزير جزاء وعقوبة للعمل القبيح سواء ارتكبه مسبوقا
بالنهي عنه أم لا.
وكلامه هذا يؤول إلى أنه لا تعزير في غير الموارد المنصوصة فإنه في غيرها إن
انتهى بالقول الغليظ والتعنيف والتوبيخ فلا يجوز الضرب وإن لم ينته بدون ذلك
فإنه يضرب لكن الضرب بنفسه من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
نعم إنه قد تعرض في آخر كلامه لأمر آخر وهو إمكان تعميم عنوان التعزير
بالنسبة للضرب وغيره من الشتم والتوبيخ مثلا.
لكن هذا لا يرفع الاشكال لأن هذا شئ وأن التعزير غير الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ولكل منهما مورد ومحل غير الآخر، شئ آخر.
301

حد المسكر والفقاع
أقول: إن المسكر هو ما يسمى في الفارسية ب‍ (مست كننده) ولم يتعرض
المحقق وكثير من المتقدمين والمتأخرين لتعريف المسكر الذي هو محل الكلام
والبحث.
نعم قد تعرض صاحب الجواهر لذلك قائلا: الذي يرجع فيه إلى العرف
كغيره من الألفاظ. وقد تخلص في الحقيقة عن ذلك بأن المراد منه هو ما يفهمه
العرف أنه مسكر. ثم قال: وإن قيل هو ما يحصل معه اختلال الكلام المنظوم
وظهور السر المكتوم، أو ما يغير العقل ويحصل معه سرور وقوة النفس في غالب
المتناولين، أما ما يغير العقل لا غير فهو المرقد إن حصل معه تغيب الحواس
الخمس وإلا فهو المفسد للعقل كما في البنج والشوكران، ولكن التحقيق ما عرفته
فإنه الفارق بينه وبين المرقد والمخدر ونحوهما مما لا يعد مسكرا عرفا انتهى.
وعليه فقد عرفه بعض بما حاصله: هو ما يحصل بسببه اختلال في نظم الكلام
ونسقه وترتيبه، ويظهر به ما لا يظهره العقلاء من الأسرار، فالسكران يتفوه
بكلمات وجملات مخلة النظام وغير المرتبط بعضها مع بعض وبذلك يعرف
السامعون أن المتكلم سكران كما أنه قد يقدم على ذكر الأسرار المكنونة وإبداء ما
يهتم العقلاء بإخفائه وعدم ذكره ويعتنون بكتمانه بحيث يعلم من ذكر تلك الأمور
أنه ليس في حال طبيعي وإلا لم يكن كذلك.
وهو عند بعض آخر ما يغير العقل ويحدث سرورا ونشاطا وقوة في النفس
غالبا، وترى أن من شرب الخمر مثلا فهو كالحيوان الذي انحل عقاله لا يتحرك
على ميزان صحيح ولا يسير على منهاج معقول فقد تغير عقله وترى له نشاطا
وسرورا كاذبا محسوسا وقوة في نفسه بحيث ربما اجتمع اثنان أو ثلاثة بل وأكثر
302

من ذلك ليأخذوه ولا يقدرون على ذلك.
وهذا قد أتى بعنوانين آخرين في جنب المسكر: المرقد ومفسد العقل، وقد
ذكر أن ما يغير العقل من دون اقتران بالنشاط وقوة النفس فهو لا يخلو عن أنه
حصل مع تغير عقله غيبوبة حواسه الخمس وهذا هو المرقد الذي هو كالمنوم
فإنه من الرقود الذي بمعنى النوم، قال الله تعالى في قصة أصحاب الكهف:
(وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) (1) أو أنه لا يحصل معه ذلك وهذا هو المفسد
للعقل كالشوكران، الذي قد قالوا: إنه عشبة سامة كثيرة الانتشار في العالم
وكانوا يستخرجون منها سما يسقى بعض المحكوم عليهم. كذا في اللغة.
هذا ولكن التحقيق هو ما ذهب إليه صاحب الجواهر قدس سره من الصدق
العرفي، وجعله الفارق الوحيد المائز بين المسكر والمرقد والمخدر ونحوهما مما لا
يعد عند العرف مسكرا.
وأما الفقاع ففي مجمع البحرين: الفقاع شئ يشرب يتخذ من ماء الشعير
وليس بمسكر ولكن ورد النهي عنه.
في موجب هذا الحد
قال المحقق قد سره: ومباحثه ثلاثة: الأول في الموجب وهو تناول المسكر أو
الفقاع اختيارا مع العلم بالتحريم إذا كان المتناول كاملا فهذه قيود أربعة شرطنا
التناول ليعم الشرب والاصطباغ وأخذه ممزوجا بالأغذية والأدوية.
أقول: ذكر بعض العلماء عند ذكر الموجب للحد: هو شرب المسكر، ولكنه
رحمه الله قد عدل عن لفظ الشرب إلى لفظ التناول في الشرايع كما عرفت وكذا في
المختصر النافع.
وادعى في الجواهر عدم خلاف عندنا يجده بل الاجماع بقسميه على ذلك

(1) سورة المؤمنون الآية 18.
303

ومن المعلوم أن التناول أعم من الشرب وذلك لصدقه في موارد لا يصدق
فيها الشرب أصلا كما أن المحقق بنفسه علل عدوله واستبداله لفظ التناول، بذلك
أي ليعم الشرب والاصطباغ وما إذا كان ممزوجا ومخلوطا بالغذاء أو الدواء.
والاصطباغ من اصطبغ بالخل أو في الخل أي اتخذه إداما فإن الصبغ بكسر
الصاد هو ما يصطبغ به من الإدام أي يغمر فيه الخبز ويؤكل قال الله تعالى:
(وصبغا للآكلين) (1). وقال في مجمع البحرين: ويختص بكل إدام مايع كالخل
ونحوه والجمع أصباغ انتهى. وقال في المنجد: الصبغ الإدام كالخل والزيت لأن
الخبز يغمس فيه ويلون به. انتهى. نعم لا يشمل استعماله بالاحتقان والتضميد
أي شد موضع الجرح بالضماد.
والضماد والضمادة خرقة يشد بها العضو المجروح. وكذا الاطلاء وأمثال
ذلك.
إن قلت: إن التناول بحسب معناه اللغوي يشمل مثل أخذه باليد فإن قولنا:
تناوله أي أخذه (2).
نقول: إن المراد بالتناول في المقام هو الشرب والأكل.
قال الشهيد الثاني في المسالك: المراد بالتناول إدخاله في البطن بالأكل
والشرب خالصا وممزوجا بغيره سواء بقي مع مزجه مميزا أم لا.
ومن جملة ما يتردد في حكمه في المقام هو السعوط كما أن الشهيد الثاني قال
في المسالك بعد ما نقلناه من كلامه: ويخرج من ذلك استعماله بالاحتقان
والسعوط حيث لا يدخل الحلق لأنه لا يعد تناولا فلا يحد به وإن حرم. لكنه
قدس سره قال بعد ذلك: مع احتمال حده على تقدير إفساده الصوم. انتهى.
كما أن العلامة أعلى الله مقامه قال في القواعد: ولو تسعط به حد. انتهى.
أقول: إذا كان السعوط بالخمر موجبا لدخوله من طريق الأنف في الجوف

(1) سورة: المؤمنون الآية 20.
(2) أورده هذا العبد وأجاب دام ظله بما في المتن.
304

نظير ما يصنع الأطباء والجراحون في هذه الأعصار بالنسبة إلى بعض المرضى
بل هو شايع بينهم من إدخال أنبوبة مخصوصة في أنف المريض إلى جوفه،
وتغذيته من هذا الطريق فلا ينبغي الاشكال في الحرمة وإيجاب الحد. أما إذا كان
مجرد صبه في الأنف أو جذبه بالأنف على ما هو معنى السعوط في اللغة حيث
يقال: سعط الدواء أي أدخله في أنفه أو كان مجرد استشمامه أو استنشاقه فهو وإن
كان محرما إلا أنه لا دليل على إيجابه الحد.
ولذا يرد على المسالك بأنه بعد أن فسر التناول بإدخاله البطن إلخ كيف
احتمل وجوب الحد بالنسبة إلى السعوط كما أنه على ذلك لا يوجب بطلان
الصوم أيضا.
نعم لو كان بحيث يدخل الحلق والجوف لتم ما ذكره فيحرم ويوجب الحد
ويبطل الصوم كما أنهم صرحوا بذلك في باب الصوم.
وقد أورد عليه في الجواهر بقوله: وإن كان هو كما ترى ضرورة عدم اقتضاء
فساد الصوم بعد فرض عدم دخوله الحلق، الحد المزبور انتهى.
يعني: بعد أن المفروض عدم دخوله الحلق لا وجه للحكم بالحد وإن قيل بأنه
موجب لفساد الصوم.
ثم قال: نعم قد يدخل في التناول ما يستعمل من المسكرات في القليان
ونحوها انتهى. وفيه أنه أي دليل قام على إيجاب استنشاق دخان الخمر الذي
امتزج التتن أو الفحم به الحد المتعلق بالخمر؟.
وعلى الجملة فهنا أمثلة كثيرة ربما تبتلى به الناس في هذه الأعصار ولعل عدم
التعرض لها في كلماتهم لعدم حدوثها في الأعصار الماضية وذلك مثل ما إذا زرقه
بالإبرة فإنه وإن لم يصدق عليه الشرب لكن لعله يشمله التناول نظير أنهم قد
يستشكلون في زرق الإبرة في شهر رمضان خصوصا بالنسبة إلى التي تحمل
المواد الغذائية وإن أجازها بعض - ومثل الأشربة الطبية التي ترد من الخارج
والبلاد الأجنبية غير الاسلامية التي يقال إنها ممتزجة بشئ من الأكل
305

(اسپيرتو) - لو كان من أنواعه المسكر -.
ومنها ما لو عجن بالخمر مثلا عجينا، وسيأتي ذلك إلى غير ذلك من
الموارد -.
فلو كان الملاك هو الشرب فهو غير صادق فيها وأما لو كان المعيار التناول
فإنه ربما يصدق ذلك فيها أو في بعضها.
نعم إن الكلام في أنه هل ورد لفظ التناول في دليل حتى يؤخذ به ويفتى
بمقتضاه؟.
وإني قد استقصيت الفحص في روايات المسكر ورأيت روايات الأبواب
المتعلقة به وهي أربعة عشر بابا واحدة بعد أخرى ولم أعثر على رواية مشتملة
على هذا اللفظ ومتضمنة له وإنما الوارد فيها لفظ الشرب ومشتقاته.
اللهم إلا أن يقال بكون الملاك هو التناول لا خصوص الشرب بطرق
وتقارير أخر.
وما قيل أو يمكن أن يقال في هذا المقام وجوه:
أحدها: إن المحرم ذاتا وعينا لا من حيث الاسم لا يتفاوت فيه الحال بين
قليله وكثيره فإن هذا الذات حرام أينما كان وبأي صورة وجد، والمسكر من هذا
القبيل حيث إن هذا الذات حرام فيحرم أينما كان وبأي صورة تحقق شربا أو أكلا
أو غير ذلك من أنواع التناول (1).
وفيه أنه ما الفرق بين الخمر مثلا والتراب أو الطين الذي يحرم أكله ومع ذلك
لا يحرم شرب الماء عند اختلاطه به كما في ماء الفرات في الربيع كما مثل بذلك

(1) قال الأردبيلي في شرح الإرشاد بعد الإشكال بأنه كيف يكون الحكم في سائر الموارد
تابعا للإسم كما إذا حلف أن لا يشرب الخل يجوز له شرب السكباج ولكن هنا يحكمون بالحد
وإن كان ممتزجا بغيره؟ قال: فلعل الفرق أن العين حرام أين وجدت ولا شك في وجودها في
الممتزج، والفرض أنه موجب للحد فيجب بخلاف ما ذكر في باب اليمين فإن المحلوف ليس
بحرام إلا أن يصدق عليه المحلوف عليه وليس بذلك إلا ما يصدق عليه الاسم انتهى.
306

بعض العلماء أيضا، وكذلك الكر من الماء الذي وقعت فيه قطرة من الدم.
ثانيها: قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) (1). بتقريب أن الخمر رجس ومن عمل
الشيطان وواجب الاجتناب فلا يجوز أن يقرب الانسان منه بل يلزم أن يتباعد
عنه مطلقا.
وفيه أن الاجتناب عن كل شئ بحسبه وطبق لحاله ويلاحظ بالنسبة إلى
الأثر المتوقع منه، ومن المعلوم أن الأثر المتوقع من الخمر هو الشرب فلا يشمل
سائر طرق استعماله.
ثالثها: قوله تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في
الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (2).
تقريب الاستدلال أنه لم يعلق تلك الأمور - إيقاع العداوة والبغضاء وكذا
الصد عن ذكر الله وعن الصلاة - على شرب الخمر بل على نفسه.
وفيه ما ذكرناه في الآية السابقة من أن العناية على الأثر الواضح المطلوب من
الخمر عند العرف فلا يمكن استفادة حكم سائر استعمالاته بعد ظهورها في
الشرب.
رابعها: إطلاقات بعض الأخبار كمعتبرة أبي بصير عن أحدهما عليهما
السلام قال: كان علي عليه السلام يضرب في الخمر والنبيذ ثمانين (3). فإنه لا
ذكر عن الشرب هنا بل الضرب كان على الخمر، وقد استدل بذلك بعض
المعاصرين - رضوان الله تعالى عليه - (4).
ولكن يرد عليه أن للحديث ذيلا لم يذكر هنا وقد نقل في الوسائل الرواية

(1) سورة المائدة الآية 90.
(2) سورة المائدة الآية 91.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد المسكر ح 2.
(4) راجع تكملة المنهاج ص 270.
307

بتمامها، وذيلها هذا: الحر والعبد واليهودي والنصراني، قلت: وما شأن اليهودي
والنصراني؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في بيوتهم.
وهذا الذيل المصرح بالشرب يوجب ظهور الصدر أيضا في ذلك.
نعم رواية سليمان بن خالد قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في النبيذ
المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر ويقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر (1)
ربما أمكن التمسك به فيما رامه.
وعلى هذا فلا دليل يدل على وجوب الحد في الأمثلة المبحوث عنها ولذا ترى
أنه علل في كشف اللثام قول العلامة في القواعد: ولو تسعط به حد بقوله: لأنه
يصل إلى باطنه من حلقه وللنهي عن الاكتحال به والاسعاط أقرب منه وصولا
إلى الجوف انتهى.
وهذان الوجهان أيضا لا يخلوان عن الاشكال.
أما الأول فلأنه عبر بالوصول إلى الباطن، ولا يعلم أن مراده هو البطن أو
مجرد الداخل، فلو كان المراد هو البطن فلا كلام فعلا ويكون موافقا لكلام
الشهيد الثاني حيث قال بأن المراد بالتناول إدخاله إلى البطن بالأكل والشرب،
إلا أنه على ذلك يرفع الاشكال عن زرق الخمر بالإبرة كما لعله يعمل به أهل
الأهواء والمعاصي في هذه الأعصار نظير ما يصنعونه من زرق المواد المخدرة
وذلك لأنه لا يدخل البطن فيلزم أن لا يوجب الحد وإن أسكر، وهو مشكل لأنه
ربما يحصل الاطمينان بأنه إذا أوجب ذلك السكر فهو موجب للحد ومع ذلك
يلزم مراجعة الأدلة حتى نرى أنه يجتزى بالاسكار في ترتب الحد وإن لم يكن قد
شربه أم لا؟.
وأما الثاني ففيه أنه هل الاكتحال بالخمر يوجب الحد مضافا إلى حرمته كي
يقال بأن الاسعاط أقرب وصولا إلى الجوف من الاكتحال؟.
ونحن إلى الآن لم نقف على خبر يدل على ذلك ولا سمعنا أنه في مورد أقيم حد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 13.
308

المسكر على من اكتحل به.
نعم ما أفاده من أقربية الاسعاط من الاكتحال بالنظر إلى الوصول إلى
الجوف ثابت فإن من صب في أنفه دواءا يحس سريعا إثر ذلك الدواء - حلوا كان
أو مرا - في حلقه لكن ذلك لا يفيد فيما نحن بصدده وهو جهة إثبات الحد.
قال في الجواهر بعد ذكر ما نقلناه عن كاشف اللثام: قلت: ولو فرض عدم
وصوله أو عدم العلم بالوصول لم يحد للأصل وغيره.
أقول: والظاهر أنه لا مجال لهذا الكلام بعد أن المفروض وروده في الحلق فإن
مجرد ذلك كاف في الدخول في الباطن.
ويبدو في الذهن أن الملاك هو ما كان تحت اختيار الانسان وقدرته الذي
يخرج بعد ذلك عن اختياره فالملاك هو ابتلاعه وإدخاله الحلق وهو موجب
للحد لا الوصول إلى البطن ولا غير ذلك وعليه فلا يبقى مورد للشك.
وعلى الجملة فقد تمسك رحمه الله بالأصل وغيره.
أما الأصل فهو قسمان: أحدهما الموضوعي والآخر حكمي.
أما الموضوعي فهو أصالة عدم الوصول عند الشك في ذلك.
وأما الحكمي فهو أصالة عدم إيجاب الحد لأنه قبل صب الخمر في أنفه لم يكن
الحد واجبا عليه فبعد صبه أيضا كذلك. لكن لا يخفى أن الاستصحاب
الموضوعي لا يخلو عن إشكال وذلك لأنه يترتب على المستصحب أي أصالة
عدم الوصول، عدم الشرب فيترتب عليه عدم الحد فيلزم كون الأصل مثبتا
للآثار العادية والعقلية وهو غير صحيح كما حقق في محله.
هذا بالنسبة إلى الأصل، وأما غيره المذكور في كلامه فلعل المراد قاعدة
الدرء. ويمكن أن يكون مراده كون المقام من قبيل الشبهة المصداقية لقول
الشارع: لا تشرب، ومن المعلوم أنه لا يجوز التمسك بالعام ولا يشمله الدليل
الدال على إيجاب الحد.
ثم إن العلامة أعلى الله مقامه قد تعرض في القواعد والتحرير لفرع في هذا
309

المقام وهو ما إذا عجن الدقيق بالخمر فقال في الأول: وإذا عجن بالخمر عجينا
فخبزه وأكله فالأقرب وجوب الحد انتهى.
وقال في الثاني: ولو عجن به دقيقا ثم خبزه احتمل سقوط الحد لأن النار
أكلت أجزاء الخمر نعم يعزر، ولو قلنا بحده كان قويا. انتهى.
ووافقه صاحب الجواهر على الأول وقد ذكر في توجيه الوجه الثاني بعد كلام
العلامة: ولعله للنجاسة ولاحتمال البقاء (1).
ثم قال: وفيه أن الأصل بقاؤه.
يعني إنه على ذلك يترتب عليه الحد.
وقال بعد ذلك: اللهم إلا أن يمنع ثبوت الحد بالأصل المزبور بل لا بد فيه من
العلم ببقاء أجزائه. انتهى.
وقد ذكرنا آنفا ما في التمسك بالأصل فراجع، والظاهر أنه لا حد عليه وذلك
لأنه قد زال وانعدم ولم يبق منه شئ عرفا خصوصا إذا بقي الخبز على النار كثيرا
حتى يبس.
ما المراد من المسكر؟
قال المحقق: ونعني بالمسكر من ما شأنه أن يسكر فإن الحكم يتعلق بتناول
القطرة منه.
أقول: البحث هنا في أنه هل المعتبر الاسكار الفعلي أو يكفي الشأني منه؟.
ذهب المحقق وغيره إلى عدم اشتراط الاسكار بالفعل فلو شرب قطرة منه
حد وإن لم تسكر (2).

(1) أقول: إن الوجهين قد ذكرهما في كشف اللثام ج 2 ص 239 فراجع.
(2) أقول: خلافا لأبي حنيفة حيث زعم اشتراط الإسكار بالفعل كما صرح بذلك في
الكشف. فراجعه وراجع أيضا الخلاف باب الأشربة ص 172.
310

ولا يخفى أن هذا الحكم شرعي محض لا بد من أخذه من الشارع وليس بعرفي
فإن العرف ربما لا يساعد ذلك، وخلاصة الكلام أن ما من شأنه الاسكار يحد
على كثيره وقليله ولو القطرة منه مطلقا.
ويدل على ذلك أولا عدم خلاف يعتد به بل الاجماع بقسميه عليه على ما في
الجواهر.
وثانيا النصوص المستفيضة أو المتواترة المصرحة باستواء القليل والكثير منه
في إيجاب شربه الحد.
نعم قال الصدوق قدس سره: وإذا شرب الرجل حسوة من خمر جلد ثمانين
جلدة فإن أخذ شارب النبيذ ولم يسكر لم يجلد حتى يرى أنه سكران انتهى (1).
والحسوة بالضم والفتح الجرعة من الشراب مل الفم (هكذا في مجمع
البحرين) فقد ذكر رحمة الله عليه لفظة الحسوة.
إلا أن الأخبار ناطقة بعدم الفرق بين الكثير والقليل منه، ففي خبر إسحاق
بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل شرب حسوة خمر قال:
يجلد ثمانين جلدة قليلها وكثيرها حرام (2). فإن السؤال وإن كان عن الحسوة من
الخمر إلا أن مقتضى جواب الإمام عليه السلام ترتب الحرمة والجلد على كثير
وقليل منه وإن كان قطرة وعلى هذا فلا دلالة لهذه الرواية على اعتبار الحسوة في
إيجاب الحد لو كان مراد الصدوق قدس سره اعتبارها بالخصوص.
وأما تتمة كلامه التي نسب إليه بسببها القول بأن النبيذ لا يوجب الحد إلا إذا
شرب بمقدار أوجب السكر فلعل ذلك لروايتي الكناني والحلبي.
أما الأولى: عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قلت: أرأيت إن أخذ
شارب النبيذ ولم يسكر أيجلد؟ قال: لا (3).

(1) المقنع ص 153.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 7.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد المسكر ح 4.
311

وأما الثانية: قال: سألت أبا عبدا الله عليه السلام قلت: أرأيت إن أخذ
شارب النبيذ ولم يسكر أيجلد ثمانين؟ قال: لا وكل مسكر حرام (1).
تقريبه أن لفظة يسكر لازم وفاعله هذا الذي شرب النبيذ فيكون السؤال
عما إذا شرب بمقدار لم يحصل معه السكر وقد حكم عليه السلام بعدم الجلد.
هذا، ولكن يرد عليه أنه يمكن أن يكون ضبط هذا اللفظ من باب الأفعال،
ويكون فاعله النبيذ المذكور في الرواية وحينئذ يفيد أن للنبيذ قسمين: المسكر
وغير المسكر وكان هذا الشارب قد شرب من القسم الأخير، وقد حكم الإمام
عليه السلام بعدم الحد. وعلى هذا فلا دلالة للخبرين على مراده لأنه ربما يكون
نبيذ ليس من شأنه الاسكار، وبالطبع لا يحكم على شاربه بالحد.
بل يمكن الترديد في إرادة الصدوق رحمة الله عليه ما نسب إليه، لاحتمال أن
يكون قد أراد أن الشارب قد شرب النبيذ غير المسكر، لا مقدارا منه لم يبلغ حد
الاسكار.
ولو كان مراده ذلك فالخبران ليسا صريحين في ما قاله ولو كان ظاهرين فيه،
والذي يسهل الخطب أنهما موافقان للعامة ومحمولان على التقية فإن الخليفة كان
يعتذر عند الاعتراض عليه في شربه بأنه يشرب القليل بمقدار لا يوجب
الاسكار (2)
وكيف كان فالروايات العديدة مصرحة بحرمة النبيذ وهي بإطلاقها تشمل ما
إذا كان بمقدار أوجب الاسكار أم لم يوجب.
فعن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن في كتاب

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد المسكر ح 5.
(2) كان الخليفة يشرب النبيذ إلى آخر نفس لفظه، قال عمرو بن ميمون شهدت عمر حين
طعن أتي بنبيذ شديد فشربه وكان حدة شرابه وشدته بحيث لو شرب غيره منه لسكر وكان
يقيم عليه الحد غير أن الخليفة كان لم يتأثر منه لاعتياده أو كان يكسره ويشربه. الغدير ج 6
ص 357 قوله: يكسره أي بالماء.
312

علي عليه السلام: يضرب شارب الخمر ثمانين وشارب النبيذ ثمانين (1).
وعن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان علي عليه السلام
يضرب في الخمر والنبيذ ثمانين (2).
كما أن الأمر في باب الخمر كذلك. فعن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله
عليه السلام: الحد في الخمر أن يشرب منها قليلا أو كثيرا (3).
عدم الفرق بين أنواع المسكرات
قال المحقق: ويستوي في ذلك الخمر وجميع المسكرات التمرية والزبيبية
والعسلية والمرز المعمول من الشعير أو الحنطة أو الذرة وكذا لو عمل من شيئين
أو ما زاد.
أقول: حيث إن الملاك بحسب الظاهر هو الاسكار أو المسكر فلا فرق بين
أنواعه وأنحائه، وإطلاق المسكر يشمل جميع أنواعه سواء اتخذ من التمر المسمى
بالنبيذ أو الزبيب الموسوم ب‍ النقيع أو من العسل وهو البتع أو من الشعير أو
الحنطة أو الذرة الموسوم ب‍ المزر، وهكذا لو كان قد عمل من شيئين أو ثلاثة
أشياء بل ولو أخذ وعمل من الأحجار أو المواد الكيميائية فإن مجرد كونه
مسكرا يكفي في الحكم بالحرمة والحد وقد ادعى في الجواهر عدم الاشكال نصا
وفتوى على عدم الفرق بين الأقسام.
نعم يبقى الكلام في أن ترتب الحكم موقوف على صدق أي واحد من
العناوين المذكورة وأنه قد شرب الخمر مثلا أو تناوله وإن كان قليلا بل أقل
قليل.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد المسكر ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد المسكر ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 4 من أبواب حد المسكر ح 3.
313

أما إذا اضمحل فيما اختلط به كما إذا صب وألقي قطرة خمر في حب من ماء
بحيث لم يبق منه بعد ذلك عين ولا أثر فهل يمكن القول بترتب الحد على شربه؟
والحال أنه لا يصدق عليه أنه شرب الخمر وإنما يصدق عليه أنه شرب الماء، كما
ترى أنه لا يجوز التوضي بالدبس مثلا أما إذا صب قطرة منه في الماء فإنه يجوز
التوضي به لصدق التوضي بالماء المطلق، والأحكام مترتبة على الأسماء
والعناوين.
ولذا أشكل الأردبيلي امتزاج قطرة من خمر مثلا بحب من ماء بعدم صدق
شربها ولذا لم يحنث من حلف أن لا يشرب الخل أو لا يأكل الدهن أو التمر
بشرب السكباج وأكل الطبيخ الذي فيه دهن غير متميز وأكل الحلوى التي فيها
التمر انتهى.
وهكذا كاشف اللثام فإنه بعد ذكر الحكم بالحد بتناول قطرة من المسكر وإن
كان بمزجها بالغذاء أو الدواء قال: وإن لم يتناوله ما في النصوص من لفظ
الشرب فكأنه إجماعي. وما يمكن أن يقال في حل الاشكال وجوه:
أحدها: إن الحكم إجماعي ولولاه كان مقتضى القاعدة عدم ترتب شئ أصلا
وهذا هو الظاهر من كلام كاشف اللثام.
ثانيها: ما أفاده بعض كصاحب الجواهر وهو أن المحرم ذاتا لا من حيث
الاسم لا يتفاوت الحال بين قليله وكثيره بخلاف متعلق اليمين الذي مدار الحكم
فيه على صدق الفعل فإذا حلف مثلا على عدم شرب الخل فإنه لم يحنث بشرب
السكباج وليس عليه شئ وذلك لتعلق الحلف على ترك شرب الخل وهو يدور
مدار صدق الاسم وعنوان شرب الخل وهو غير صادق لأنه شرب شيئا آخر
وإن كان الخل أيضا ممزوجا في هذا المايع بخلاف ما إذا تعلقت الحرمة بذات
الشئ فإنه في أي مورد كان وبأي صورة وقع سواء كان خالصا أو ممتزجا
بشئ آخر قليلا كان أو كثيرا فإنه حرام، صدق على تناوله الشرب أم لا فإن
الملاك هو وروده في البطن ودخوله في الجوف وإن كان في ضمن مايع أو محلول
314

آخر ومضمحلا فيه.
ولتقريب هذا الوجه وتوضيحه نذكر مثالا وهو أنه إذا منع الطبيب المريض
المبتلى بضغط الدم مثلا عن الملح ونهاه عن أكله قائلا: لا تأكل الملح لأنه مضر
لك، فإنه يشمل جميع أنواع الأكل مستقلا أو ممزوجا، والممنوع عنه المضر بحاله
هو هذا الذات سواء أكله على صورته وهيئته أو ألقاه وأدخله في الماء أو الغذاء
وبعد أن أذيب فيه بحيث لم يبق منه أثر أصلا ولم يحس هو بنفسه الملوحة أصلا،
وكذا سائر ما يمنع عنه كالسموم. هذا في العرفيات.
وأما مثاله في الشرعيات فهو مثل ما إذا نهى الشارع عن أكل أموال الناس
فلو أخذ غصبا وظلما مقدارا من الملح من مال الغير وأدخله في الطعام وبعد ذلك
أكل من هذا الطعام فهل يمكن له أن يقول: إني ما أكلت من مال الغير وإنما أكلت
طعامي؟ وليس هذا إلا لأن الذي منع عنه الشارع هو أكل مال الغير وإن خلطه
ومزجه بغيره بحيث اضمحل في مال نفسه، فإنه لا يزول الحكم بزوال الاسم.
هذا ولكن مع ذلك كله فلا يخلو عن إشكال لأن هذا صحيح لو لم يكن المنهي
عن أكله عند العرف معدوما فإن الذات حرام يترتب عليه الأثر ما دام باقيا
فإذا مزج قطرة من الخمر في حب من الماء لم يكن الخمر موجودا عند العرف
حتى يقال بأن قليله أيضا حرام، وإطلاق الشئ لا يشمل عدمه.
وأما الذرات العقلية فهي ليست مصب الأحكام الشرعية وملاكها ولو كان
المطلب على نحو ما ذكروه للزم إقامة الحد على من شرب من منبع ماء ومخزنه
الذي اجتمع فيه مأة كر أو أكثر إذا صب فيه قطرات من خمر وامتزج بها، وذلك
لعدم الفرق بين القليل والكثير على حسب التقرير المذكور. وليس البحث من
جهة الطهارة والنجاسة كي يقال بأن الكثير لا يتنجس، وهل يمكن الالتزام بهذا
اللازم؟.
ثالثها: النصوص المشتملة على ضرب الثمانين بالخمر والنبيذ قليلا أو كثيرا
كمعتبرة أبي بصير المتقدمة وغيرها فراجع باب 4 من أبواب حد المسكر.
315

وفيه ما مر فإنها متعلقة بالخمر أو النبيذ فصدق العنوان مما لا بد منه سواء
صدق الشرب أم لا، والمفروض في المقام اضمحلال الخمر رأسا فلا يمكن التمسك
بها وليس لنا دليل خاص يدل على وجوب الحد.
نعم قد وردت روايات تشدد أمر الخمر بتعابير خاصة مثل ما روي عن أمير
المؤمنين عليه السلام: لو وقعت قطرة منه في بئر فبنيت منارة مكانها لم أؤذن
عليها ولو وقعت في بحر ثم جف ونبتت فيه الكلأ لم أرعه (1).
لكن المعلوم من لسان هذه الروايات هو أنها واردة في مقام التأكيد وتشديد
الأمر لا أنه يثبت بها وجوب الحد.
فلو كان في الموارد التي اضمحل العين ولم يصدق الاسم إجماع فهو، وإلا فلا
وجه للقول بلزوم الحد.
وأما ما ذكرناه تقريبا للحرمة الذاتية من أكل مال الغير بمزجه في طعام نفسه
بحيث صار مضمحلا، فإنه ضامن لمال الغير لأنه قد أتلف مال الغير لا لأنه أكل
مال الغير.
وأما الاجماع فإنا قد تفحصنا كلماتهم في الجوامع الفقهية وبعض الكتب الأخر
ولم نقف على من صرح بجريان الحكم فيما إذا لم يصدق الاسم إلا بعضا.
نعم ربما يصرحون بعدم الفرق بين القليل والكثير وأما التعرض لما إذا
اضمحل الخمر في شئ آخر فلا، إلا عن عدة من الأعلام كالشيخ وابن حمزة
والشهيد في اللمعة.
قال الشيخ في النهاية: ولا يجوز أكل طعام فيه شئ من الخمر ولا الاصطباغ
بشئ فيه شئ من الخمر ولا استعمال دواء فيه شئ من الخمر فمن أكل شيئا مما
ذكرناه أو شرب كان عليه الحد ثمانين جلدة انتهى (2).
وقال ابن حمزة: فصل في بيان الحد على شرب الخمر وساير المسكرات

(1) كنز العرفان ج 2 ص 305 كتاب المطاعم والمشارب.
(2) النهاية ص 712.
316

وشرب الفقاع وغير ذلك من الأشربة المحظورة: كلما يسكر كثيره فقليله وكثيره
حرام (إلى أن قال:) وكل طعام فيه خمر فهو حرام ويلزم بأكله الحد على حد
شرب الخمر (1).
وقال الشهيد في اللمعة: ما أسكر جنسه يحرم القطرة منه وكذا الفقاع ولو
مزجا بغيرهما.
وقال الشهيد الثاني بشرحه: وإن استهلكا بالمزج انتهى.
هذا بالنسبة إلى كلماتهم وأما ادعاء الاجماع فلم نجد حتى من ابن زهرة في
الغنية الذي يدعي الاجماع كثيرا.
ولعل الاجماع الذي احتمله بعض مثل كاشف اللثام الذي قال: لعله
إجماعي، كان مستندا إلى إطلاق كلماتهم وحكمهم بالحد قليلا كان أو كثيرا
مضافا إلى تصريح هؤلاء الأعلام وكذا قول العلماء: ما أسكر كثيره فقليله
حرام، فإن إطلاق القليل يشمل ما إذا كان بحيث استهلك فيما امتزج به.
هذا مضافا إلى بعض الروايات الواردة في باب الأشربة التي يمكن استفادة
ذلك منها، وقد خرجها المحدث العاملي رحمة الله عليه في باب أسماه: باب إن
الخمر والنبيذ وكل مسكر حرام لا يحل إذا مزج بالماء وإن كثر الماء:
عن عمر بن حنظلة قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما ترى في قدح من
مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره فقال: لا والله ولا
قطرة قطرت في حب إلا أهريق ذلك الحب (2).
وعن كليب بن معاوية قال: كان أبو بصير وأصحابه يشربون النبيذ
يكسرونه بالماء فحدثت أبا عبد الله عليه السلام فقال لي: وكيف صار الماء يحل
المسكر، مرهم لا يشربون منه قليلا ولا كثيرا، ففعلت فأمسكوا عن شربه،
فاجتمعنا عند أبي عبد الله عليه السلام فقال له أبو بصير: إن ذا جاءنا عنك بكذا

(1) الوسيلة ص 516 - 515.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرمة ح 1.
317

وكذا فقال: صدق يا با محمد إن الماء لا يحل المسكر فلا تشربوا منه قليلا ولا
كثيرا (1).
وعن عمرو بن مروان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن هؤلاء ربما
حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فإن لم أشربه خفت أن يقولوا:
فلأني. فكيف أصنع؟ فقال: اكسره بالماء قلت: فإذا كسرته بالماء أشربه؟
قال: لا (2).
ترى في الرواية الأولى أن الإمام عليه السلام في جواب السؤال عن قدح
مسكر يصب عليه الماء يقول: لو وقعت قطرة منه في حب من ماء يجب إراقته.
ومن المعلوم أن السؤال لم يكن عن جهة النجاسة والطهارة وإنما العناية في
السؤال على جهة إسكار هذا المسكر، وهذا ظاهر في أن الشرب من ماء هذا
الحب يوجب الحد والحال أن القطرة من المسكر يضمحل ويستهلك في حب من
الماء.
كما أن مقتضى الرواية الثانية أيضا الحرمة وإن امتزج بالماء وأن ذلك لا
يوجب حليته ولا أثر لكسر سكره بالماء في ما يترتب على شربه.
وأما أن أبا بصير كان يشرب من النبيذ بعد أن كان يكسره بالماء مع أنه من
رواة الأخبار المشاهير ومن حفاظ الأحاديث عن أئمتنا المعصومين سلام الله
عليهم أجمعين فلعله لشيوع شربه بين العامة وأهل الخلاف فآل الأمر إلى أن أبا
بصير أيضا قد تخيل حله. ويمكن أن يكون شربه من جهة اجتهاده الشخصي
وأنه كان يرى أن كسر سكره وعاديته يذهب بحرمته.
وكيف كان فظاهر نهيه عليه السلام هو الحرمة وكذا ترتب الحد عليه.
كما أن الرواية الثالثة أيضا تتضمن نهي الإمام عليه السلام عن شرب النبيذ بعد
كسره بالماء وظاهر هذا أيضا أن العناية على جهة إسكاره وأثره وهو الحرمة

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرمة ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 18 من الأشربة المحرمة ح 3.
318

والحد.
نعم يشكل الجمع بين هذا الحكم وبين ما قبله وهو أمره عليه السلام بكسر
النبيذ بالماء فإن هذين الحكمين بظاهرهما لا يجتمعان حيث إن الأمر بكسره يفيد
جواز الشرب وجوابه عليه السلام سؤال الراوي عن شربه بعد الكسر، بالنفي
يفيد الحرمة.
ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: إن الحكم الأول أي الأمر بالكسر كان متعلقا
بحال الضرورة كما هو الظاهر من قول الراوي: إن لم أشربه خفت أن يقولوا:
(فلأني) فإن الفلاني كناية يريد به الرافضي فهنا قد جوز الإمام بمقتضى
الضرورة أن يشرب النبيذ إلا أنه لتخفيف العمل أمره بكسره بالماء لكنه بعد ذلك
سئل عن شرب النبيذ مع الكسر مطلقا وقد منعه الإمام عليه السلام عن ذلك.
والنتيجة أنه يختص الجواز بحال الضرورة وأما في حال الاختيار فهو حرام
ويحد عليه. ويحتمل أن يحمل الخبر على أن الإمام عليه السلام أمره بكسر النبيذ
بالماء واشتغاله بالنبيذ إراءة لهم أنه يريد أن يشرب ثم لا يشرب، والحكم
الأصيل هو عدم الجواز وإنما كسره بالماء مجرد إتيان مقدمات الشرب كي
يشغلهم فيطمئنوا ويزعموا أنه يشرب منه، نظير ما قد يتفق في بعض المجالس
والضيافات من أن الانسان يأخذ ويتناول بيده شيئا يتداول إكرام الضيوف به
من الثمرات والفواكه وهو لا يريد أن يأكله لجهة من الجهات فيضعه بين يديه
ويشتغل به وأحيانا يشمه لو كان مثل التفاح، ومع ذلك لا يأكله.
هذا مضافا إلى ما ورد من التأكيدات البليغة في تحذير الناس عن الخمر
والمسكرات، والتعابير الغليظة القامعة في أمره.
وعلى الجملة فبلحاظ هذه الروايات وفتوى الأعلام المذكورة فنحن لا
نتجري على الافتاء بالجواز فالاحتياط لا يترك بترك مطلق تناوله وإن كان
مستهلكا في شئ آخر.
وقد تحصل من تلك الأبحاث أن شرب الخمر حرام قليلا أو كثيرا سواء أسكر
319

أم لم يسكر - خصوصا بلحاظ أن الغالب في القليل منه هو عدم الاسكار -
وسواء كان عدم إسكاره لقلته أو لكيفية حال الشارب مرضا أو اعتيادا أو كان
بعلاج، ويترتب عليه الحد المقرر للشارب ولا يعتبر خصوص عنوان الشرب
فإن الملاك هو التناول كما إذا امتزج بالأدوية والأغذية ما دام صدق اسم الخمر،
والتصريح في الروايات بالتسوية بين الكثير والقليل يقتضي عدم الفرق حتى ولو
كان أقل قليل، كما يمكن التمسك في ذلك بتنقيح المناط والقول بعدم الخصوصية
للكثير من الخمر، بأن يكون القليل منه نظير حب حامل لمقدار يسير من السم.
وقد كان بعض الأطباء يقول لنا: إن بعض أقسام الحبوب مشتمل على ذلك
ولا يؤثر في قتل الانسان وموته لكنه يبقى في البدن تلك الذرات الضارة التي
كانت فيه ولا يدفع بل يتقوى بإمداده بمثله وهكذا إلى أن يبلغ حدا يقتل
الانسان، فلعل قليل الخمر أيضا يكون كذلك.
وكيف كان فحكمه حكم الكثير منه وتترتب على شربه وجميع أنواع تناوله
حتى مثل زرقه بالإبرة الأحكام سواء كان زرق الخمر الخالص أو الممتزج بغيره
من المايعات وإن لم يدخل البطن بل ورد في العروق مثلا.
وعلى هذا ربما أشكل الأمر في زرق الإبرة في هذه الأعصار حيث أنه يقال
بأن موادها مخلوطة بشئ من الأكل المسكر فإنه عليه وبصرف النظر عن
الاضطرار يكون زرقها في العروق حراما يوجب الحد.
هذا مضافا إلى أنه قد وردت في هذا الخصوص رواية شريفة وهي:
عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان عند أبي قوم
فاختلفوا فقال بعضهم: القدح الذي يسكر هو حرام وقال بعضهم: قليل ما
أسكر كثيره حرام، فردوا الأمر إلى أبي عليه السلام فقال أبي عليه السلام:
أرأيتم القسط لولا ما يطرح فيه أولا أكان يمتلي؟ وكذلك القدح الآخر لولا
الأول ما أسكر قال: ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أدخل
عرقا من عروقه قليل ما أسكر كثيره عذب الله عز وجل ذلك العرق بثلاثمأة
320

وستين نوعا من العذاب (1).
ولعله يستفاد من هذه الرواية أن عمل زرق المواد المسكرة كان في زمن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولعله كان ذلك بصورة بسيطة وبآلات
غير ما هو دائرة ورائجة في عصرنا هذا (2).
وأما إذا خرج عن صدق الخمر بأن استهلك في غيره فهناك يشكل الأمر
وليس لاثبات الحد فيه دليل واضح، ومن قال فإنما قال للاجماع أو تمسكا بأن
لزوم الاجتناب عن الخمر المصرح به في آية (إنما الخمر.... رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه) يقتضي الاجتناب عنه بأي صورة كان وفي أي حال أو
ببعض الأخبار التي ذكرناها آنفا أو ذاك البيان المخصوص من تقسيم الحرام إلى
الذاتي والاسمي على ما تقدم شرحه.
وكيف كان فيحتمل بل لعله لا يبعد القول بترتب الحد هنا أيضا (3) كما يؤيد
ذلك مثال القطرة من الخمر في الحب من الماء والأمر بإراقته وكذا التشديدات
البالغة الواردة في الروايات بالنسبة للخمر، ومن أراد الوقوف على ذلك

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 17 من الأشربة المحرمة ح 6، ثم إن القسط بمعنى الميزان كما
حكاه العلامة المجلسي في مرآة العقول عن القاموس.
(2) أقول: ما أفاده دام ظله من الاستشهاد بهذه الرواية لما رامه من زرق الخمر في العرق لا
يخلو عن كلام وذلك لأن المراد من إدخاله العرق والظاهر منه هو إدخاله من طريق الشرب،
وتغذية العروق منه نظير وراية أبي الصحاري عن أبي عبد الله عليه السلام قال سألته عن
شارب الخمر فقال: لم تقبل منه صلاة ما دام في عروقه منها شئ (عقاب الأعمال ص 218).
(3) هكذا أفاد دام ظله على ما كتبناها لكن مقتضى ما أفاده آنفا من الاحتياط هو القول
بالاجتناب والحرمة، لكن من المعلوم أن الاحتياط من حيث الحد هو العدم والحدود تدرء
بالشبهات. وقد راجعت دفتر مذكراته دام ظله وكان نص كلامه هذا: ولا أظن أن يحكم بالحد
على من شرب من منبع فيه مأة كر من ماء ومزج معه قطرات من الخمر وكذلك الأدوية التي
لا يرى أحد فيه الخمر فتأمل. انتهى كلامه دام ظلاله.
321

فليراجع مظانه (1).
وأما الاشكال بأنه فلا بد على ذلك من القول بالحد إذا استهلك الخمر في مخزن
من الماء ومنبعه. ففيه أنه يمكن أن يقال بأن الأدلة منصرفة عن مثل ذلك.
حول أن إقامة الحد مشروطة بالعلم بالحرمة
ثم لا يخفى أن ما ذكرناه من وجوب الحد على شرب الخمر قليله وكثيره وبأي
صورة كان خالصا وممتزجا فإنما هو مع العلم بالحرمة وأما الجاهل بها فلا حد
عليه.
وتدل على ذلك روايات عديدة أخرجها في الوسائل في باب عنوانه: باب
أن من فعل ما يوجب الحد جاهلا بالتحريم لم يلزمه شئ من الحد.
عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لو أن رجلا دخل في الاسلام
وأقر به ثم شرب الخمر وزنى وأكل الربا ولم يتبين له شئ من الحلال والحرام لم
أقم عليه الحد إذا كان جاهلا إلا أن تقوم عليه البينة أنه قرأ السورة التي فيها الزنا
والخمر وأكل الربا وإذا جهل ذلك أعلمته وأخبرته فإن ركبه بعد ذلك جلدته
وأقمت عليه الحد (2).
وعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل دعوناه إلى
جملة الاسلام فأقر به ثم شرب الخمر وزنى وأكل الربا ولم يتبين له شئ من
الحلال والحرام أقيم عليه الحد إذا جهله؟ قال: لا إلا أن تقوم عليه بينة أنه قد
كان أقر بتحريمهما (3).
وعن أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر عليه السلام: لو وجدت رجلا

(1) كبحار الأنوار ج 76 وغيره.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدمات الحدود ح 2.
322

كان من العجم أقر بجملة الاسلام لم يأته شئ من التفسير، زنى أو سرق أو
شرب خمرا لم أقم عليه الحد إذا جهله إلا أن تقوم عليه بينة أنه قد أقر بذلك
وعرفه (1).
وعن جميل عن بعض أصحابه عن أحدهما عليهما السلام في رجل دخل في
الاسلام شرب خمرا وهو جاهل قال: لم أكن أقيم عليه الحد إذا كان جاهلا ولكن
أخبره بذلك وأعلمه فإن عاد أقمت عليه الحد (2).
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث إن أبا بكر أتي برجل
قد شرب الخمر فقال له: لم شربت الخمر وهي محرمة؟ فقال: إني أسلمت ومنزلي
بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلونها ولو أعلم أنها حرام اجتنبتها فقال
علي عليه السلام لأبي بكر: ابعث معه من يدور به على مجالس المهاجرين
والأنصار فمن كان تلا آية التحريم فليشهد عليه فإن لم يكن تلا عليه آية التحريم
فلا شئ عليه ففعل فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله (3).
ولا يتوهم أن الروايات متعلقة بتلك الأزمان والقرون التي كانت بدء بزوغ
الاسلام أو انتشاره. وذلك لوضوح عدم الخصوصية وكون الميزان هو الجهل
والعلم، وكيف يمكن القول بإجراء الحد على من لم يقرع سمعه أن شرب الخمر
حرام ولم ينقدح في ذهنه احتمال الحرمة؟ وقد كان قسم من الشبان الجامعيين
قبل الثورة الاسلامية حيث لم يكونوا في بيئة دينية ولم يكن لهم خلطة مع أهل
الدين والعارفين بالأحكام، لم يحتملوا حرمة الخمر فلم يكونوا آنذاك على ما هم
عليه الآن من الاقبال على الدين والمخالطة مع العلماء وخصوصا مع ما يرون

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدمات الحدود ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدمات الحدود ح 4.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب مقدمات الحدود ح 5 أقول: وقد عقد في الوسائل
في باب شرب المسكر تحت عنوان باب 10: باب سقوط الحد عمن شرب الخمر جاهلا
بالتحريم، وذكر هناك هذه الرواية الأخيرة.
323

من إقامة الحدود والتعزيرات على أهل المعاصي وعلى الجملة فلا حد على من
كان في تلك الظروف المنكرة كما أنه لا حرمة منجزة عليه.
نعم الجاهل المقصر معاقب لالتفاته إلى ورود تكاليف في الشريعة فالحجة
عليه تامة ويقال له لماذا تعلمت كما يقال لمن علم وعصى: لماذا خالفت وهلا
عملت (1) إلا أن الحكم بإقامة الحد عليه غير خال عن الاشكال وذلك لاحتمال
موضوعية العلم في إقامة الحد بل إن ظاهر الروايات المذكورة أن المصحح للحد
هو علمه التفصيلي بالحرمة لا مجرد أنه عالم بوجود محرمات في الاسلام بصورة
الاجمال، والعقوبة الأخروية أي العذاب لا تلازم العقوبة الدنيوية أي الحد.
في حكم العصير العنبي
قال المحقق: ويتعلق الحكم بالعصير إذا غلا وإن لم يقذف بالزبد إلا أن يذهب
بالغليان ثلثاه أو ينقلب خلا وبما عداه إذا حصلت فيه الشدة المسكرة.
أقول: المراد بالعصير هو العصير العنبي، وإطلاق الغليان يشمل ما إذا كان
بنفسه أو بالنار أو بالشمس.
وقوله: وإن لم يقذف بالزبد إشارة إلى رد أبي حنيفة حيث اعتبر الازباد
وإطلاق كلامه شامل لما إذا تحقق فيه الاسكار أو لم يتحقق ولم يحصل، فبمجرد
الغليان يحرم ويتعلق به حكم الخمر ويستمر ذلك إلى أن يذهب ثلثاه بالغليان أو
ينقلب عن كونه عصيرا إلى الخل.

(1) أمالي الشيخ الطوسي ج 1 ص 8 عن مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفر بن محمد عليهما
السلام وقد سئل عن قوله تعالى: (فلله الحجة البالغة) فقال: إن الله تعالى يقول للعبد يوم
القيامة عبدي أكنت عالما؟ فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت
جاهلا، قال له: أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجة البالغة.
ورواه في تفسير الصافي في ذيل الآية 149 من سورة الأنعام.
324

وفي المسالك: مذهب الأصحاب أن عصير العنبي إذا غلا بأن صار أسفله
أعلاه يصير بمنزلة الخمر في الأحكام...
وفي الروضة: ويحرم عندنا العصير العنبي.
وفي الرياض: كأنه إجماع بينهم.
وفي الجواهر بعد العبارة المذكورة عن المحقق: بلا خلاف أجده فيه انتهى.
وهنا مباحث: أحدها في تحريم العصير. ثانيها في تحليله بذهاب الثلثين أو
بانقلاب الماهية. ثالثها في إيجابه الحد وعدمه.
أما الأول والثاني فقال السيد الفقيه الطباطبائي قدس سره: الحق المشهور
بالخمر العصير العنبي إذا غلا قبل أن يذهب ثلثاه وهو الأحوط وإن كان الأقوى
طهارته نعم لا إشكال في حرمته سواء غلى بالنار أو بالشمس أو بنفسه وإذا
ذهب ثلثاه صار حلالا سواء كان بالنار أو بالشمس أو بالهواء بل الأقوى
حرمته بمجرد النشيش وإن لم يصل إلى حد الغليان (1). وقد علقنا على قوله: بل
الأقوى حرمته بمجرد النشيش، بقولنا: بل الأحوط. والمراد بالغليان كونه بحيث
صار أسفله أعلاه وأعلاه أسفله لشدة الحرارة، والمراد بالنشيش حصول نقاط
وكرات صغيرة في سطح المايع لأجل الحرارة وهو غالبا يكون مقرونا بصوت
منه.
وقد عقد في الوسائل بابا عنونه بقوله: باب تحريم العصير العنبي والتمري
وغيرهما إذا غلا ولم يذهب ثلثاه وإباحته بعد ذهابهما.
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل عصير أصابته
النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه (2). إلى غير ذلك من روايات الباب.
ومقتضى هذا الخبر أن مجرد إصابة النار كافية في الحكم بالحرمة، ولكن لم يقل
بذلك أحد بل يشترط في ذلك، الغليان أو النشيش على حسب تصريح سائر

(1) العروة الوثقى في فصل النجاسات.. التاسع الخمر.. مسألة 1.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 2 من أبواب الأشربة المحرمة ح 1.
325

الأخبار.
وفي سائر الأبواب أيضا روايات مناسبة للمقام مثل مرسلة محمد بن الهيثم
عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى
يغلي من ساعته أيشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغير عن حاله وغلا فلا خير فيه حتى
يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه (1).
مثل ما رواه عن محمد بن عاصم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لا بأس
بشرب العصير ستة أيام (2). ولعل ذكر الستة هنا لمكان أنه لو ترك العصير بهذه
المدة لا يتغير بخلاف ما لو ترك بأكثر من ذلك فإنه يغلي بمضي الزمان ويحرم.
ويستفاد من هذه أن الغليان بنفسه أيضا يوجب الحرمة.
وفي الوسائل: قال ابن أبي عمير: معناه ما لم يغل.
وعن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن شرب
العصير قال: تشرب ما لم يغل فإذا غلا فلا تشربه قلت: أي شئ الغليان؟ قال:
القلب (3).
وعن ذريح قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا نش العصير أو غلا
حرم (4).
ويؤيد ذلك أيضا الأخبار الدالة على حكمة تحريم العصير وما وقع بين آدم
عليه السلام وإبليس لعنه الله وكذا ما وقع بين نوح عليه السلام وإبليس فراجع
الباب 2 من الأشربة المحرمة.
ثم إنه كما يؤثر ذهاب الثلثين في الحل كذلك يؤثر في ذلك انقلاب ماهيته بأن
يصير خلا. وفي المسالك: أو دبسا على قول وإن بعد الفرض. ثم بين وجه بعده

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 2 من أبواب الأشربة المحرمة ح 7.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرمة ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرمة ح 3.
(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 3 من أبواب الأشربة المحرمة ح 4.
326

بقوله: لأن صيرورته دبسا لا يحصل غالبا إلا بعد ذهاب أزيد من ثلثيه.
وأما الثالث وهو المهم لنا في هذا المقام وهو حد شارب العصير، فالمتقدمون
من الأصحاب لم يذكروا ذلك ولم يكن في كلماتهم في باب الحدود أنه يحد شارب
العصير مع تصريحهم بحرمته أو نجاسته على اختلافهم في النجاسة.
والظاهر أن أول من نطق بذلك هو المحقق قدس سره وتبعه العلامة أعلى الله
مقامه في القواعد ثم بعد ذلك تبعهما شراح الشرايع والقواعد وغيرهم.
قال الفاضل الهندي الأصبهاني بعد ذكر الخمر: وكذا العصير العنبي إذا غلا
وإن لم يقذف بالزبد خلافا لأبي حنيفة فاعتبر الازباد سواء غلى من نفسه أو
بالنار أو بالشمس إلا أن يذهب ثلثاه أو ينقلب خلا ولا خلاف عندنا في جميع
ذلك، والنصوص ناطقة به لكن لم أظفر بدليل على حد شاربه ثمانين ولا بقائل به
قبله سوى المحقق انتهى (1). قوله: قدس سره (قبله) أي قبل العلامة.
وفي الرياض بعد أن احتمل كون المطلب إجماعيا بينهم - على ما ذكرناه - كما
صرح به في التنقيح (2) وغيره ولم أقف على حجة معتد بها سواه انتهى.
وفي الجواهر: لعل دليله ظهور النصوص أو صريحها المتقدمة في محلها في أنه
بحكم الخمر في الحرمة في الحرمة وغيرها.
هذا من ناحية الأقوال. وأما الأدلة فعمدة مستند القائلين بكون العصير
ملحقا بالخمر في النجاسة وسائر الأحكام، الأخبار. وقد علمت أن الأخبار
الماضية لا دلالة لها على إثبات الحد وترتبه عليه نعم صحيح معاوية بن عمار أو
موثقه أظهر من جميع الأخبار في ذلك ولعلهم اعتمدوا عليه وهو:
عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل من أهل
المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول: قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنه يشربه

(1) كشف اللثام ج 2 ص 237.
(2) أقول: قال الفاضل المقداد في التنقيح ج 4 ص 368: اتفق علماؤنا أيضا على أن عصير
العنب إذا غلا حكمه حكم المسكر إلا أن يذهب ثلثاه...
327

على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال: خمر لا تشربه،
قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحله
على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب
منه؟ قال: نعم (1).
تقريب الاستدلال بهذه الرواية أن الإمام عليه السلام أطلق الخمر على
العصير العنبي الذي ذهب نصفه لا ثلثاه، تنزيلا إياه منزلة الخمر في الأحكام من
النجاسة والحرمة والحد. وفيه الاشكال من ناحيتين: إحداهما من جهة عدم
اشتمال بعض النسخ على ما يشتمله بعض آخر. والأخرى من جهة الدلالة.
أما الأولى فإنه ليس في نسخة الكافي لفظ الخمر أصلا وإنما الموجود فيه هو
مجرد النهي عن شربه، وهو وإن كان دالا على حرمة الشرب لكنه لا دلالة له
على لزوم الحد على شربه وترتبه عليه نعم هو موجود في التهذيب.
وأما ما يقال من أنه عند دوران الأمر بين الخطأ في الزيادة أو في النقيصة
يرجح احتمال الخطأ في النقيصة فإن الغلبة مع الخطأ فيها دون الزيادة والترجيح
عند دوران الأمر بين أصالة عدم الزيادة وأصالة عدم النقيصة، للأولى ولازم
ذلك هو الأخذ بنسخة التهذيب المشتمل على لفظ الخمر دون الكافي الفاقد له.
ففيه أنه وإن صح ما ذكروه من تقدم أصالة عدم الزيادة عند دوران الأمر
بين الزيادة أو النقيصة إلا أنه لا يجري في المقام وذلك لأن نسخ التهذيب أيضا
مختلفة وليست متفقة على الاشتمال على اللفظ المزبور وإنما يشتمل عليه بعض
نسخه. هذا مضافا إلى أن الكافي أضبط من التهذيب وعلى هذا فالترجيح
لنسخة الكافي.
وأما الثانية فلأنه ربما يستشكل في دلالة الرواية على المراد وإن كانت
مشتملة على اللفظ المذكور وذلك لأنه لو كان النهي مصدرا بالفاء لتم ما ذكروه
لاقتضاء فاء الترتيب أن حرمة الشرب لأجل كونها من آثار الخمر وأنها من

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 7 من الأشربة المحرمة ح 4.
328

جملة ما يترتب عليه ومن المعلوم أن من جملة ما يترتب عليه هو الحد، وأما إذا
لم يكن كذلك بأن قال: خمر لا تشربه فلا دلالة له على المقصود لأنه على هذا لا
يستفاد منه إلا مجرد تنزيل العصير منزلة الخمر في عدم جواز شربه لا في مطلق
أحكامه وعلى هذا فيكون قوله عليه السلام: لا تشربه، بيانا لأصل التنزيل
وكأنه يريد أن يقول: لا تشربه فيقول: إنه خمر، كي ينبه السائل المخاطب على
مبلغ عظمة هذه المعصية.
وعلى الجملة فبعد عدم ورود خبر رأسا يذكر فيه الحد على شرب العصير
فهل يمكن إثبات وجوب الحد على ذلك بمجرد إطلاق الخمر عليه في رواية
خصوصا مع عدم وجود اللفظ المزبور في نقل بعض العلماء الأخر بل وفي جميع
نسخ الكتاب الذي نقل فيه ولا أقل من كون ذلك من موارد الشبهة التي يدرأ بها
الحد.
نعم هنا احتمال وهو أن هذا البختج الذي نهى الإمام عن شربه وأطلق عليه
الخمر كان مسكرا لا بمجرد أنه لم يذهب ثلثاه، هكذا ذكره بعض.
ولكنه خلاف الظاهر من الرواية وذلك لأن السؤال كان عن شربه على
النصف والثلث، وقد مر أنه لا دلالة للخبر على الحد بل ولا على النجاسة إلا أن
يسكر فيقام على من شربه الحد.
والحاصل أنه إما أن يحمل الخبر على عموم التنزيل فتجري الأحكام الثلاثة:
النجاسة والحد والحرمة، وإما أنه يحمل على التنزيل في خصوص حرمة الشرب
التي صرح بها في الخبر وحيث إنهم لا يقولون بالأول فلا بد من الحمل على مجرد
حرمة الشرب التي دلت على خصوص ذلك روايات عديدة.
وبما ذكرنا يظهر الاشكال في الحكم بالنجاسة أيضا فقد نقل أن المشهور ألحقوا
العصير بالخمر في النجاسة أيضا ولم يذكروا ترتب الحد على شربه وهذا لا
يستقيم لأنه لو كان يفهم من الصحيحة تنزيله منزلة الخمر في جميع الآثار فلازمه
ترتب الحد أيضا وإن لم يفهم منها أكثر من التنزيل في حرمة الشرب المذكورة
329

فيها فلا وجه للنجاسة أيضا.
الكلام في حكم طبخ العنب
ثم لو قلنا بعموم التنزيل وجريان جميع أحكام الخمر للعصير العنبي فهل
يجري هذا الحكم في العنب نفسه أم لا؟.
قد تعرض له في المسالك قائلا: ولو طبخ العنب نفسه ففي إلحاقه بعصيره
وجهان: من عدم صدق العصير عليه ومن كونه في معناه انتهى.
وفي الجواهر: لعل الثاني لا يخلو عن قوة بملاحظة النصوص.
ونحن نقول: لعل الأول هو الأقوى وذلك لعدم الملازمة بين ترتب حكم على
شئ إذا كان في الباطن وبين ما إذا كان في الخارج. ونحن وإن كنا نعلم أن
العصير ليس شيئا وراء هذا الماء الموجود في أجواف حبات العنب وهذا يقرب
ترتب حكم العصير على العنب نفسه. إلا أن تفاوت أحكام الشئ بالنسبة إلى
الحالتين وتفارق أحكام حال بالنسبة إلى حال آخر ليس بعزيز.
ألا ترى أن الدم في الخارج هو الدم الموجود في الباطن بلا فرق بينهما ومع
ذلك يترتب على الخارج منه ما لا يترتب على الداخل منه وبالعكس فلذا نقول
بأنه إذا غرز إبرة أو أدخل سكينا في بدنه أو بدن حيوان فإن لم يعلم ملاقاته للدم
في الباطن فطاهر، وإن علم الملاقاة لكنه خرج نظيفا غير ملوث بالدم فالأقوى
أيضا عدم لزوم الاجتناب عنه، مع أنه لا شك في التنجس بالملاقاة معه في
خارج البدن وهو معلوم.
هذا كله مع تسليم كون ما في أجواف الأعناب هو الماء مع أنه يمكن الاشكال
في ذلك فإن ما تحتويه الحبات هو المواد اللحمية لها، وما في جوف العنب ليس
بماء ويعبر عنه بلحم العنب إلا في الحبات الفاسدة التي قد يكون بحيث ليس في
جوفها شئ سوى الماء وهي ليست شيئا سوى الجلدة الرقيقة والماء وأما
الحبات الصحيحة فلا، وإنما هي بالعصر ينقلب ماءا فإذا هذا شئ وذاك شئ
330

آخر وإن كان يطلق عليها أن فيها الماء لكنه مجازي.
أضف إلى ذلك كله جريان الشبهة في إجراء الحد ودرئه بها.
هذا كله على فرض القول بالحد في العصير نفسه وقد علمت أنه لا وجه له
أصلا. نعم البحث في العنب نفسه ينفع بالنسبة إلى سائر الآثار والأحكام المترتبة
على العصير خصوصا مع كثرة الابتلاء به عند صنع الطبيخ وطبخ الأرز فقد يقع
فيه حبة أو حبات من العنب أو يضعونها ويلقونها فيه.
وعلى ما ذكرنا فيجري في المقام أصالة الإباحة وكذا أصالة الطهارة لو قلنا في
العصير بالنجاسة وإلا فالأمر واضح. وأما الحد على شرب العصير العنبي فقد
تقدم أنه لا وجه له وإن كان ظاهر عبارة الشرايع هو أنه يوجب الحد أيضا.
اللهم إلا أن يتعلق قوله في الفرض الآتي: إذا حصلت فيه الشدة المسكرة، انتهى.
به أيضا فحينئذ لا إشكال عليه لمكان اشتراط الاسكار.
في العصير غير العنبي
قال المحقق: وبما عداه إذا حصلت فيه الشدة المسكرة.
أقول: يعني إن الحكم المتعلق بالخمر يتعلق بما عدا العصير العنبي كالعصير
التمري والزبيبي بشرط حصول الشدة المسكرة بالغليان لا بمجرد الغليان.
وأما صيرورته حراما يتعلق به حكم الخمر إذا غلا واشتد وأسكر فهو
مقتضى روايات صريحة في ذلك.
فعن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل مسكر من
الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحد (1).
وعن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: في كتاب علي

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المسكر ح 1.
331

عليه السلام: يضرب شارب الخمر وشارب المسكر، قلت: كم؟ قال: حدهما
واحد (1). فإن الحد بمقتضى هذه الروايات يقام على شارب المسكر وإن لم
يصدق عليه أنه شارب الخمر ولم يصدق الخمر على ذاك المسكر وقد اتفقت
النصوص والفتاوي على ذلك.
وقد علم مما ذكر في المقام أن العصير العنبي قد قيد بالغليان وأما العصير
المتخذ من غيره فهو مقيد بقيد الاسكار فلا حرمة في العصير العنبي بدون الغليان
كما لا حرمة في العصير المتخذ من غيره بدون الاسكار.
في التمر المغلي والزبيب الذي نقع في الماء فغلى
قال المحقق: وأما التمر إذا غلى ولم يبلغ حد الاسكار ففي تحريمه تردد والأشبه
بقاؤه على التحليل حتى يبلغ وكذا البحث في الزبيب إذا نقع في الماء فغلى من
نفسه أو بالنار فالأشبه أنه لا يحرم ما لم يبلغ الشدة المسكرة.
أقول: فقد تردد المحقق قدس سره في الفرضين ورأي فيهما أن الأشبه هو
عدم الحرمة ما لم يبلغ حد الاسكار.
وقال في المسالك: وجه التردد في عصير التمر أو هو نفسه إذا غلا: من دعوى
إطلاق اسم النبيذ عليه حينئذ ومشابهته للعصير العنبي، ومن أصالة الإباحة
ومنع إطلاق النبيذ المحرم عليه حينئذ حقيقة ومنع مساواته لعصير العنب
لاشتراكهما في الحكم لخروج ذلك بنص خاص فيبقى غيره على أصل الإباحة
وهذا هو الأصح.
أقول: أما بالنسبة للنبيذ ففي مجمع البحرين: النبيذ ما يعمل من الأشربة من
التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك. يقال: نبذت التمر والعنب إذا
تركت عليه الماء ليصير نبيذا فصرف من مفعول إلى فعيل. وفي المنجد: انتبذ

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المسكر ح 2.
332

النبيذ عمله والعنب أو التمر، صار نبيذا.. النبيذ جمع أنبذة الخمر المعتصر من
العنب، أو الخمر، سمي نبيذا لأن الذي يتخذه يأخذ تمرا وزبيبا فيلقيه في وعاء
ويصب عليه الماء ويتركه حتى يفور فيصير مسكرا، الشراب عموما.
ثم قال في المسالك: وأما نقيع الزبيب وهو إذا غلى ولم يذهب ثلثاه فقيل
بتحريمه كعصير العنب لاشتراكهما في أصل الحقيقة ولفحوى رواية علي بن جعفر
عن أخيه موسى عليه السلام، والأصح حله للأصل واستصحاب الحل
وخروجه عن اسم العنب الذي عصيره متعلق التحريم به ولذهاب ثلثيه
بالشمس، ودلالة الرواية على التحريم ممنوعة. انتهى (1).
أقول: الرواية هذه: عن علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الزبيب هل
يصلح أن يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه
ويبقى الثلث ثم يرفع ويشرب عنه السنة؟ قال: لا بأس به (2).
ويستفاد منها أنهم لا يزالون يطبخون الزبيب بحيث كان يخرج طعمه
ويسري إلى الماء ثم كانوا يطبخون ذاك الماء ويشربون منه طول عامهم فالراوي
سأل عما إذا طبخ الماء المذكور بحيث ذهب ثلثاه فيعلم أنه كان مغروسا في ذهنه
وفي الأذهان عدم جواز شربه بدون ذهاب ثلثيه وقد حكم الإمام عليه السلام
بالجواز ويستفاد من ذلك أنه لا يجوز شربه إذا لم يذهب ثلثاه هذا غاية تقريب
التمسك بها في الحكم بالحرمة.
لكن لا يخفى أنه قد كان السؤال بالنسبة لهذا المورد ولم يكن ذكر القيد عن
الإمام عليه السلام وفي كلامه حتى يفيد عدم الجواز في فرض عدم الذهاب
جزما ولا تصريح فيها بالبأس في غير الصورة المفروضة وبذلك يمكن الخدشة في
دلالة الرواية على الحرمة.
وأما ما أفاده المسالك توجيها للحل من الاستصحاب فبيانه أنه قبل أن ينقع

(1) مسالك الأفهام ج 2 كتاب الحدود ص 439.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 8 من أبواب الأشربة المحرمة ح 2.
333

في الماء كان حلالا فالآن أيضا كذلك.
ويمكن أن يورد عليه بأن الزبيب حال كونه عنبا كان يحرم إذا غلا فالآن
الذي صار زبيبا أيضا كذلك فيكون الحكم بالحرمة مع الغليان حكما لكليهما.
ولكن الظاهر أنه لا مورد للاستصحاب وذلك لانقلاب الموضوع فالحكم
المتعلق بالعنب وعصيره ومائه لا تعلق له بالزبيب.
هذا مضافا إلى أن الحكم السابق كان متعلقا بعصير العنب وهنا لا عصير
أصلا وإنما هو ماء وزبيب.
كما أن ما ذكره أخيرا في توجيه الحل من ذهاب الثلثين في العنب بالشمس لا
محصل له، ولا يخفى ما فيه: أولا أن ذهاب الثلثين المطهر والموجب للحل هو ما
كان بعد الغليان لا مطلقا وإن كان قبله وبدونه كما في الزبيب والتمر. وثانيا أن
أصل ذهاب ثلثي العنب أو التمر بالهواء أو بالشمس غير معلوم.
ثم لا يخفى أنه ذكر في مجمع البحرين: النقيع شراب يتخذ من زبيب ينقع في
الماء من غير طبخ وقد جاء في الحديث كذلك.
الكلام في الفقاع
قال المحقق: والفقاع كالنبيذ المسكر في التحريم وإن لم يكن مسكرا وفي
وجوب الامتناع من التداوي به والاصطباغ به.
أقول: هذا توضيح وتفصيل بالنسبة لما ذكره في أول البحث بقوله: الموجب
وهو تناول المسكر أو الفقاع.
وقال العلامة في القواعد: والفقاع كالمسكر وإن لم يكن مسكرا. والظاهر من
عبارتهما أن الفقاع على قسمين: المسكر وغير المسكر وأنه ليس الاسكار من
طبعه ولوازمه ذاتا فما سمي فقاعا فهو حرام مطلقا.
وفيه أنه يمكن أن يقال: إن المستفاد من الأخبار أن الفقاع مسكر وإن لم يكن
إسكاره قويا شديدا مثل الخمر.
334

قال علم العلم والتقى الشيخ المرتضى أعلى الله مقامه: ظاهر النصوص
ومعاقد الاجماع عدم اعتبار الاسكار فيه وقد نسبه في الحدائق إلى ظاهر
الأصحاب وتقدم في شرح المفاتيح أن نجاسته وإن لم يكن مسكرا هو
المعروف... بل المصرح به في مجمع البحرين وكشف الغطاء كونه مما لا يسكر قال
في الأول: هو شئ يتخذ من ماء الشعير وليس بمسكر لكن ورد النهي عنه. وفي
الثاني: إنه شراب مخصوص غير متخذ من الشعير غالبا. وفي تحفة الطب: إنه من
الأنبذة ولا يسكر. ولكن الانصاف أن ظاهر الأخبار الدالة على أنها خمر أو
بمنزلتها اعتبار الاسكار فيه سيما بملاحظة ما دل على أن الله لم يحرم الخمر لاسمها
وإنما حرمها لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر إلا أن يلتزم بأنه يحصل
منه فتور وإن لم يبلغ حد السكر انتهى (1).
وقال الفقيه الهمداني رضوان الله عليه: ثم إن ظاهر الأصحاب حيث جعلوا
الفقاع قسيما للخمر وغيرها من المسكرات عدم اعتبار الاسكار فيه بل سمعت
من مجمع البحرين كما صرح به غيره أيضا أنه شراب غير مسكر لكن يفهم من
الأخبار أن حرمته حرمة خمرية فيستشعر منها أنه من الأشربة المسكرة كما
يؤيده ما حكي عن زيد بن أسلم أنه قال: الغبيراء التي نهى رسول الله عنها هي
الاسكركة خمر الحبشة انتهى.
وقد فسر الاسكركة بالفقاع فلا يبعد أن يكون له مرتبة خفية من الاسكار
لا توجب زوال العقل فلعله لذا سمي في الأخبار بالخمر المجهول حيث لم يعرف
مسكريته (2).
وفي تقريرات أبحاثنا: التاسع من النجاسات الفقاع وهو شراب خاص متخذ
من الشعير كما ذكره غير واحد ونجاسته إجماعية عندنا، وأما العامة فيحكمون
بحليته ولعل حكمهم بحليته مع أن كل مسكر عندهم حرام لأجل خفاء السكر فيه

(1) طهارة الشيخ الأنصاري قدس سره الشريف ص 321.
(2) مصباح الفقيه كتاب الطهارة ص 557.
335

أو حصول السكر في كثير منه دون قليله فما يقال من أن الفقاع لا يشترط فيه
السكر فكل شئ يصدق عليه الفقاع فهو حرام سواء أسكر أم لا، يرده ما
يستفاد من الأخبار من أن الفقاع من الخمر ولا يصدق الخمر على غير المسكر
انتهى (1).
وعلى الجملة فالمستفاد من بعض الأخبار أنه مسكر سكرا خفيفا ولذا عبر
عنه بأنه خمر مجهول. وإليك بعض الأخبار الواردة في المقام المستدل بها للمرام:
عن الوشا قال: كتبت إليه يعني الرضا عليه السلام أسأله عن الفقاع قال:
فكتب: حرام وهو خمر (2).
وعن ابن فضال قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن الفقاع
فقال: هو الخمر وفيه حد شارب الخمر (3).
وعن الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: كل مسكر حرام وكل مخمر
حرام والفقاع حرام (4).
وعن عمار بن موسى قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الفقاع فقال:
هو خمر (5).
وعن زكريا أبي يحيى قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن
الفقاع وأصفه له فقال: لا تشربه. فأعدت عليه كل ذلك أصفه له كيف يصنع
قال: لا تشربه ولا تراجعني فيه (6).
وعن الحسين القلانسي قال: كتبت إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام أسأله

(1) كتاب الطهارة ص 294.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 2.
(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 3.
(5) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 4.
(6) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 5.
336

عن الفقاع فقال: لا تقربه فإنه من الخمر (1).
وعن محمد بن سنان قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الفقاع:
هو الخمر بعينها (2).
وعن هشام بن الحكم إنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الفقاع فقال: لا
تشربه فإنه خمر مجهول وإذا أصاب ثوبك فاغسله (3).
وعن زاذان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لو أن لي سلطانا على أسواق
المسلمين لرفعت عنهم هذه الخميرة يعني الفقاع (4).
إلى غير ذلك من الروايات الشريفة فراجع. فهذه الأخبار وإن لم تكن
لبعضها دلالة على كون الفقاع مسكرا وذلك مثل الثالثة التي اكتفى فيها بمجرد
الحرمة، والخامسة المشتملة على مجرد النهي عن الشرب وغير ذلك، إلا أن
الرواية الأولى والثانية والرابعة والسادسة والسابعة والثامنة بل والتاسعة دالة
على كونه خمرا. وما يقال من احتمال كون التنزيل حكميا فهو خلاف الظاهر
خصوصا بالنسبة لما ذكر في بعضها: هو الخمر وفيه حد شارب الخمر، أو: هو
من الخمر، الظاهر في أنه من أقسام الخمر، أو: هو الخمر بعينها.
وعلى الجملة فهذه الروايات ظاهرة في كون الفقاع مسكرا، غاية الأمر في
حد أخف من الخمر ولعله الوجه في التعبير عنه في رواية زاذان بالخميرة، وإن
كان يحتمل كون التعبير المذكور ناظرا إلى ما ورد في بعض الروايات من أنه خمر
استصغره الناس (5) وكيف كان فإن ترتب أحكام الخمر عليه مما لا شك فيه.
وبذلك يظهر وجه ما أفاده المحقق من وجوب الامتناع من التداوي به

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 6.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 7.
(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 8.
(4) وسائل الشيعة ج 17 ب 27 من الأشربة المحرمة ح 9.
(5) وسائل الشيعة ج 17 ب 28 من أبواب الأشربة المحرمة ح 1.
337

والاصطباغ. فإنه إذا كان الفقاع من الخمر فيجري فيه الأبحاث الجارية فيه فلا
يجوز التداوي به لرفع المرض أو غمس الخبز فيه وأكله كما لا يجوز ذلك في
الخمر (1).
في الاختيار وأنه لا حد على المكره
قال المحقق: واشترطنا الاختيار تفصيا من المكره فإنه لا حد عليه.
وفي الجواهر: بلا خلاف ولا إشكال بل الاجماع بقسميه عليه سواء كان
بإيجار في حلقه أو بتخويف على وجه يدخل به في المكره.
وفي المسالك: لا فرق في جوازه مع الاكراه بين من وجر في فمه قهرا أو من
ضرب أو خوف بما لا يحتمله عادة حتى شرب.
ثم قال: ويفهم من إخراج المكره عنه خاصة أن المضطر لا يخرج عنه،
والأصح خروج ما أوجب حفظ النفس من التلف كإساغة اللقمة بل يجب ذلك
لوجوب حفظ النفس وإن حرم التداوي به لذهاب المرض أو حفظ النفس

(1) فعن أبي بصير قال: دخلت أم خالد المعبدية على أبي عبد الله عليه السلام وأنا عنده
فقالت: جعلت فداك إنه يعتريني قراقر في بطني [فسألته عن أعلال النساء وقالت:] وقد
وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق وقد وقفت وعرفت كراهتك له فأحببت أن أسألك عن
ذلك.
فقال لها: وما يمنعك عن شربه؟ قالت: قد قلدتك ديني فألقى الله عز وجل حين ألقاه
فأخبره: إن جعفر بن محمد عليهما السلام أمرني ونهاني فقال: يا أبا محمد ألا تسمع إلى هذه
المرأة وهذه المسائل لا والله لا آذن لك في قطرة منه ولا تذوقي منه قطرة فإنما تندمين إذا
بلغت نفسك هاهنا - وأومأ بيده إلى حنجرته - يقولها ثلاثا: أفهمت؟ قالت: نعم. ثم ثال أبو
عبد الله عليه السلام: ما يبل الميل ينجس حبا من ماء - يقولها ثلاثا -.
الكافي ج 6 ص 413 إلى غير ذلك من الروايات هناك فراجع.
338

انتهى.
أقول: إن ذكر الايجار في الحلق مثالا للاكراه المقابل للاختيار محل الاشكال
وذلك لأن من وجر في حلقه فلا حرمة في حقه للالجاء والاضطرار وهذه
العناوين غير عنوان الاكراه.
وأما التخويف فإن كان من جهة الايعاد والتهديد على قتله إن لم يشربه فهو،
وأما لو كان على غير ذلك كتوعيده بضياع وجاهته الاجتماعية أو سبه أو شتمه
وضربه فهناك يشكل الحكم بأنه أكره على شرب الخمر وأنه يجوز له ذلك.
والحاصل أن الاستكراه على الشئ الموجب لرفع أحكامه جار في المعاملات
بأي نحو من أنحاء الاستكراه كان فلا يترتب معه على المعاملة آثارها، وهذا
بخلاف إتيان المحرمات واقترافها وترك الواجبات فإن الاستكراه المسوغ لذلك
لا بد فيه من أن يكون الأمر المتوعد عليه أهم من الذي استكره عليه وإلا فلا أثر
له.
وأما التقية والاضطرار فهما موضوعان مستقلان ولا تعلق لهما بالاكراه.
وكيف كان فالاضطرار لو كان بحيث يتوقف حفظ النفس على الارتكاب
وذلك كإساغة اللقمة فهناك يجري الحكم ويجوز الأكل أو الشرب كي يتخلص
من الهلاك، ويشمله حديث رفع ما اضطروا إليه أيضا.
وأما الاضطرار إليه لرفع المرض فتجويز الشرب لذلك مشكل، وما ورد في
الأخبار من عدم جعل الشفاء فيه أو عدم التداوي به فهو ناظر إليه وإلا فلو
توقف حفظ نفسه عليه كما إذا رآى الطبيب الحاذق الماهر الموثوق به أن المرض
مهلك والعلاج منحصر في شرب الخمر فهناك يجوز ذلك فمجرد حفظ النفس عن
المرض وإعادة الصحة ليس مجوزا له وإنما يسوغ ذلك حفظ النفس عن التلف
والهلاك وذلك لأن حفظ النفس أهم من كل شئ إلا بالنسبة إلى مثله أي نفس
آخر. وعلى هذا فمن شرب الخمر لحفظ نفسه عن الهلاك فلا حد عليه أصلا.
وفي الجواهر: بل لو قلنا بحرمته معه [أي مع الاضطرار] أمكن منع الحد
339

المزبور عليه لظهور ما دل عليه في غيره. يعني لظهور ما دل على الحد في غير
الاضطرار.
ثم قال: اللهم إلا أن يمنع ذلك انتهى أي ذلك الظهور فهناك يترتب عليه الحد
أيضا.
ثم لو لم يكن إكراه وإنما كانت التقية محققة فهل يرفع الحكم بعمومات التقية
أو أن للمسكرات خصوصية لا يرفع حكمها بالتقية فيجب الاجتناب عنها وإن
كان معرضا للاضرار بالنفس أو المال أو العرض؟ مقتضى عدة من الروايات
هذا، وهي:
عن زرارة قلت لأبي جعفر عليه السلام في المسح على الخفين تقية فقال:
ثلاث لا أتقي فيهن أحدا: شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج (1).
وعن سعيد بن يسار قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ليس في شرب النبيذ
تقية (2).
وعن حنان قال: سمعت رجلا يقول لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في
النبيذ فإن أبا مريم يشربه ويزعم أنك أمرته بشربه؟ فقال: معاذ الله أن أكون
أمرته بشرب مسكر والله إنه لشئ ما اتقيت فيه سلطانا ولا غيره قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: كل مسكر حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام (3).
فهذه الروايات تدل على عدم جريان التقية في باب المسكر.
قال صاحب الجواهر قدس سره: والأخبار الواردة في نفي التقية فيه يراد منها
عدم التقية في بيان حكمه لا التقية بمعنى فعله للاكراه عليه كما هو واضح انتهى.
أقول: لعل دقيق النظر في الأخبار يقضي بخلاف ذلك فترى أن السؤال في
الرواية الأولى عن العمل لا بيان الحكم وكذا الرواية الثانية متعرضة لشرب

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرمة ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرمة ح 2.
(3) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرمة ح 3.
340

النبيذ.
وعن عمرو بن مروان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن هؤلاء ربما
حضرت معهم العشاء فيجيئون بالنبيذ بعد ذلك فإن لم أشربه خفت أن يقولوا:
فلأني، فكيف أصنع؟ فقال: اكسره بالماء، قلت: فإن أنا كسرته بالماء أشربه؟
قال: لا (1). ومقتضى هذه الرواية رفع الحرمة للتقية وجريان التقية في النبيذ
حيث إنه عليه السلام أمره بكسر النبيذ بالماء فيكون المراد: اكسره واشربه.
وإلا فلو كان المراد مجرد كسره بالماء من دون أن يشربه كما هو ظاهر الجملة
الأخيرة فالعمل المزبور لغو لا طائل تحته.
اللهم إلا أن يكون المراد أمره بالاشتغال بكسره بالماء وإراءة نفسه عند
الحاضرين أنه يريد أن يشربه، ولكن نهاه عن شربه. ويمكن أن يكون مقصود
الإمام عليه السلام كسره بالماء عند اضطراره إلى الشرب حتى لا يكون مسكرا
وإن كان محرما.
وأما نهيه بعد ذلك مع الحمل على حال الاضطرار فيحمل على أن السائل قد
تخيل أنه يمكن ذلك في الاختيار أيضا بأن يكسر إسكاره بالماء ثم يشرب فنهاه
الإمام عليه السلام عن ذلك.
وعلى الجملة فلهذه الرواية نوع إجمال فعلى احتمال تفيد أنه لا تقية في النبيذ
فلا يجوز شربه مطلقا وعلى احتمال آخر يفيد أنه تجري فيه التقية وإذا كان
جريان الاحتمال موجبا للاجمال والشبهة فهناك تجري قاعدة الدر فلا يقام الحد
على من شربه في التقية وإن قلنا بحرمته لصراحة رواية المنع وإجمال المجوز مع
أن المرجع عمومات التقية.

(1) وسائل الشيعة ج 17 ب 22 من أبواب الأشربة المحرمة ح 4.
341

قال المحقق: ولا يتعلق الحكم بالشارب ما لم يكن بالغا عاقلا.
أقول: وهذا واضح لأنه لا تكليف على الصبي والمجنون نعم يؤدب الطفل
على شربه إذا كان مميزا.
لا حد على الجاهل
قال المحقق: وكما يسقط الحد عن المكره يسقط عمن جهل التحريم أو جهل
المشروب.
أقول: إن شرب الخمر جهلا على قسمين:
أحدهما: شربه للجهل بالموضوع وأن المايع الذي يشربه خمر.
ثانيهما: شربه للجهل بالحكم كما إذا كان الشارب حديث العهد بالاسلام أو
كانت بلاده نائية عن عاصمة الاسلام جدا لم يصل إليه الأحكام الشرعية. وكل
منهما معذور على شربه ولا يقام عليه الحد بذلك.
أما الأول وهو ما إذا شرب الخمر بزعم أنه ماء مثلا فيدل على عدم الحد عليه
حديث الرفع: رفع ما لا يعلمون.
وأما الثاني وهو الجهل بالحكم فيدل عليه - مضافا إلى ذلك - خبر ابن بكير
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شرب رجل الخمر على عهد أبي بكر فرفع إلى
أبي بكر فقال له: أشربت خمرا؟ قال: نعم، قال: ولم وهي محرمة؟ قال: فقال له
الرجل: إني أسلمت وحسن إسلامي، ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر
ويستحلون ولو علمت أنها حرام اجتنبتها فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما
تقول في أمر هذا الرجل؟ فقال عمر: معضلة وليس لها إلا أبو الحسن فقال أبو
بكر: ادع لنا عليا فقال عمر: يؤتي الحكم في بيته فقاما والرجل معهما ومن
حضرهما من الناس حتى أتوا أمير المؤمنين عليه السلام فأخبراه بقصة الرجل
وقص الرجل قصته فقال: ابعثوا معه من يدور به على مجالس المهاجرين
342

والأنصار من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ففعلوا ذلك به فلم يشهد
عليه أحد بأنه قرأ عليه آية التحريم فخلى سبيله فقال له: إن شربت بعدها أقمنا
عليك الحد (1).
نعم ذكروا في الجهل بالحكم أنه إذا كان عالما بالتحريم فإنه يكفي في عدم
معذوريته وإن لم يكن عالما بالحد وذلك لأن علمه بالتحريم كما هو المفروض
كاف في إتمام الحجة ولزوم الاجتناب عليه فلو لم يعتن بذلك وارتكب الحرام
الذي له حد يقام عليه ذاك الحد وإن لم يكن يعلم هذه الخصوصية.
فيما يثبت به الشرب
قال المحقق: ويثبت بشهادة عدلين مسلمين ولا تقبل فيه شهادة النساء
منفردات ولا منضمات وبالاقرار دفعتين ولا تكفي المرة.
أقول: الكلام هنا في ما يثبت به الشرب حتى يترتب عليه حده فاعلم أنه
يثبت بالبينة أي شهادة رجلين عدلين مسلمين وكذا بالاقرار على نفسه بذلك
مرتين.
أما الأول فلاطلاق دليل البينة ولا كلام ولا خلاف في ذلك قال الله تعالى
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (2) وقد تحقق عدم اختصاص ذلك بمورد
الآية الكريمة أي باب الديون والأموال بل البينة حجة في جميع الموارد إلا ما
خرج بالدليل من الموارد التي تحتاج إلى أكثر من ذلك.
وأما الشاهد الواحد فقد يدعي السيرة على قبول قوله. إلا أنه يجاب عنه -
كما في البحث عن خبر الواحد - بأن السيرة وإن كانت قائمة على قبول قول الثقة
لكنه في الأحكام لا الموضوعات، والكلام الآن، فيها ومقتضى الآية الكريمة هو

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 10 من أبواب حد المسكر ح 1.
(2) سورة البقرة الآية 282.
343

اعتبار الاثنين بعد عدم اختصاصها بموردها كما ذكرنا. بل وادعى بعض الاجماع
على عدم حجية شهادة الواحد في الموضوعات، والحق هو الثاني ولا أقل من أن
الاقتصار على الواحد مورد الشبهة التي يدرأ الحد بها.
ثم إنه يكفي في الشهادة على الشرب أن يشهد الشاهد بأنه شرب مسكرا وإن
لم يعين جنس ما شربه وأنه شرب القسم الخاص منه، نعم لا بد من اتفاقهما على
الشهادة.
وأما الثاني فإثبات الشرب بالاقرار مرتين مقطوع به ولا كلام فيه وإنما
الكلام في اعتبار المرتين أو الاكتفاء بإقرار واحد. فالمشهور عدم الاكتفاء به
واعتبار التعدد فيه ومقتضى إطلاق دليل الاقرار الاكتفاء بمرة واحدة وعدم
اعتبار أزيد من ذلك كما أنه قد ذهب إلى ذلك بعض من السابقين
والمعاصرين (1).
ولكن فتوى المشهور باعتبار المرتين يصلح لإيجاد الشبهة في الاقرار مرة
واحدة فيدرء الحد بها.
بقي الكلام فيما أفاده من عدم قبول شهادة النساء مطلقا لا منفردات ولا
منضمات إلى الرجال. وذلك لما تقدم بحثه في كتاب الشهادات من أن شهادة
النساء في الحدود غير مقبولة إلا ما خرج بالدليل كما في باب الزنا الذي مر أنه
يكفي فيه ثلاثة رجال وامرأتين فقط لا شهادتهن منفردات ولا بغير ما ذكر من
الصور المنضمة، وإنما يختص قبول شهادتهن بالمال أو بما لا يطلع عليه الرجال.
فعن علي عليه السلام قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في
القود (2).
إلى غير ذلك من الروايات الدالة على ذلك فراجع. وقد خص الشيخ

(1) راجع تكملة المنهاج ص 272.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 24 من أبواب الشهادات ح 29 أقول: ومثله خبر 30 من هذا
الباب.
344

الطوسي قدس سره هذه الرواية بما عدا حد الزنا، وذلك لما تقدم آنفا من خروج
باب الزنا بدليل خاص.
شرائط المقر
قال المحقق: ويشترط في المقر البلوغ وكمال العقل والحرية والاختيار.
أقول: بعد ذكر أنه زاد في الجواهر القصد: أما اشتراط البلوغ والعقل
فواضح، وأما الحرية فلأن إقرار العبد على نفسه يؤول إلى الاقرار في حق الغير.
لا يقال إن حد الشرب هو الجلد وليس هو القتل كي يكون إقرارا في حق
المولى فلا تجري القاعدة هنا.
لأنا نقول: لا أقل من أنه في أثناء مدة الحد يتضرر المولى لأن من حقه أن
يكون العبد في خدمته دائما.
وأما الاختيار فتدل عليه رواية أبي البختري عن أبي عبد الله عليه السلام أن
أمير المؤمنين عليه السلام قال: من أقر عند تجريد أو تخويف أو حبس أو تهديد
فلا حد عليه (1). وهي مطلقة شاملة لباب الشرب والسرقة وغيرهما.
ثم إنه قال الشيخ المفيد قدس سره: ويحد شارب الخمر وجميع الأشربة
المسكرة وشارب الفقاع عند إقرارهم بذلك أو قيام البينة عليهم لا يؤخر ذلك
ولا يحد السكران من الأشربة المحظورة حتى يفيق وسكره بينة عليه بشرب
المحظور ولا يرتقب بذلك إقرار منه في حال صحوه به ولا شهادة من غيره عليه
انتهى (2). فاكتفى رضوان الله عليه في إجراء حد الشرب بمجرد السكر وإن لم
يكن شربه مشهودا به ولا أنه أقر به فكما يثبت الشرب بالبينة أو الاقرار كذلك
يثبت بالسكر.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد السرقة ح 2.
(2) المقنعة الطبع القديم ص 128 والجديد ص 801.
345

وأورد عليه في الجواهر بقوله: ولا يخلو من نظر مع احتمال الاكراه والجهل
وغيرهما ومن هنا لا تكفي في ثبوته الرائحة والنكهة لاحتمال الاكراه والجهل
وغيرهما. خلافا للمحكي عن أبي حنيفة من الاكتفاء بالرائحة وهو واضح
الضعف. ومحصل إيراده أن السكر وإن كان ملازما للشرب لكنه لا يلازم
الشرب عن اختيار فلا يحد الشارب.
أقول: لعل ما أورده عليه لم يكن واردا وذلك لأن سكره دليل على شربه،
والشرب محمول على الاختيار، ولو كان يرد هذا الاحتمال هنا فهو وارد في مورد
قيام الشهادة على شربه، ولم نر من قال باشتراط تقيد الشهادة بكونه عن
اختيار، فإن شرب الخمر بظاهره يحمل على القصد والإرادة والعلم على ما هو
الأصل في كل فعل من أفعال البالغين العاقلين، وأصالة السلامة وعدم
الاضطرار من الأصول العقلائية فيحمل أفعال المكلف على الاختيار من دون
عذر واضطرار إلى أن يثبت العذر أو ادعى الاكراه أو الاضطرار أو الجهل وكان
يحتمل ذلك في حقه. وليس لفعل شرب الخمر الحمل على الصحة باحتمال العذر ما
لم يدع هو بنفسه أنه شربه جاهلا أو مكرها.
نعم في جريان الأصل العقلائي بالنسبة للعلم والجهل إشكال وذلك لأن
القصد والاختيار من الحالات الأولية للانسان في حين أن العلم ليس كذلك لأن
الانسان في بدو أمره وبحسب طبعه ومقتضى حاله ليس عالما، بل علمه مسبوق
بالجهل (1) إذا فيشكل في الموارد التي يشك في صدور المعصية عنه - كشرب
الخمر - عن علم أو جهل، حمل فعله على صدوره عن علم فإن العلم طار
وعارضي والأصل الجاري بالنسبة له هو العدم لأنه لم يخلق عالما.
لكن التحقيق أنه وإن كان الأمر كذلك إلا أن كون الفاعل بين المسلمين ومعهم
ونشؤه في بيئة دينية وجو مذهبي يوجب قلب الأمر، فإن ذلك يقتضي كونه

(1) قال الله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) سورة النحل الآية
78.
346

عالما بالحرمة، فيكون الجهل بها خلاف الظاهر، فإن المسلمين عالمون بأنه حرام
مثلا وقد نشاء الشاب فيهم فلذا لا يسمع دعواه الجهل بذلك إلا مع الاثبات أو
كان بحيث يظن به ذلك وأمكن في حقه ما يدعيه كما إذا كان حديث العهد بالدين
أو فسد الجو الحاكم إلى أن تصور الحرام حلالا.
ولعله كان الأمر في عصر حاكمية الطاغوت بإيران وقبل وقوع الثورة
الاسلامية، هذه الحركة الدينية العظيمة، كان كذلك ولا أقل بالنسبة لقسم من
المجتمع، كالشبان الجامعيين فقد قلبت الحقائق في ذاك العصر القاسي واشتبهت
الحقائق ومسخت الأحكام بحيث لو كان يدعي شاب من الجامعيين مثلا أنه قد
أقدم على شرب الخمر جهلا بحرمته وأنه كان لا يعلم ذلك، لم يكن ذلك مستبعدا
منه وفي حقه.
وأما الآن وفي هذه الظروف التي يرى ليلا ونهارا ما يصنع بشارب الخمر
مثلا من إقامة الحدود فلا، بل ولا يسمع منه دعواه الجهل وإن لم يعلم بترتب
الحد على شرب الخمر وذلك لأن حرمته في هذه الآونة والظروف مقطوع بها
ومعلومة لدى كافة الناس.
لكن يظهر من رواية ابن بكير أنه لا يسمع ادعاء الجهل في مثل حرمة الخمر
ممن كان مسلما بين المسلمين لأنه ضروري أو كالضروري ولذا بعثوا من
يتفحص عن حاله ليعلم صدقه وكذبه.
فعن ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شرب رجل الخمر على عهد
أبي بكر فرفع إلى أبي بكر فقال له: أشربت خمرا؟ قال: نعم. قال: ولم وهي
محرمة؟ قال: فقال له الرجل: إني أسلمت وحسن إسلامي، ومنزلي بين ظهراني
قوم يشربون الخمر ويستحلون ولو علمت أنها حرام اجتنبتها فالتفت أبو بكر
إلى عمر فقال أبو بكر: ادع لنا عليا فقال عمر: يؤتي الحكم في بيته فقام والرجل
معهما إلى آخر الخبر وقد مر آنفا (1) فحيث إنه قد ادعى الجهل وكان يمكن في

(1) في بحث عدم الحد على الجاهل.
347

حقه ذلك فلذا أمر بالتفحص وإلا فنشوء الانسان بين المسلمين بنفسه كاف في
إجراء الحد عليه حملا على أنه قد اقترفه عالما لأنه لا أقل من علمه بالحرمة وهو
كاف في إجراء الحد عليه وإن لم يكن عالما بترتب الحد عليه.
وعلى الجملة فتارة يشك في شربه الخمر واحتمل عدم ذلك، فهناك يحمل على
الصحة وأنه لم يشرب الخمر وأما إذا ثبت وتحقق ذلك فإنه يحمل على القصد
والإرادة والاختيار، وكذا يحمل على اقترافه وارتكابه عالما إذا كان قد نشئ
في بلاد المسلمين وكان معهم وفيهم، وبذلك ينقطع استصحاب الجهل ويدفع
احتمال العذر بكونه مكرها على ذلك، أو غير ذلك من الأمور، بالأصل العقلائي
على ما قررناه. ولو ثبت أنه شربه مكرها عليه أو لغير ذلك من الأعذار فهناك
لا حد عليه بلا كلام.
وهنا نكتة لطيفة ينبغي ذكرها وهي أنه يستفاد من هذه الرواية أي خبر ابن
بكير أنه كان للمهاجرين والأنصار مجالس ذكر الأحكام وبيان مسائل الحلال
والحرام (1).
ثم إن ما ذكره الجواهر تأييدا لمرامه من عدم كفاية الرائحة والنكهة في إثبات
الشرب وذلك لاحتمال الاكراه والجهل مثلا. يرد عليه أن الظاهر هو أن عدم
الاكتفاء بالرائحة والنكهة ليس لمكان احتمال الاكراه والجهل، بل هو لأجل أن
كثرة الشبع أيضا قد ينجر إلى إثارة الرائحة الكريهة من تلك الأطعمة بحيث
يحس منه من كان يقرب منه ذلك كما أنه يمكن تلك الرائحة من جهت أنه قد
تمضمض بالخمر أو أنه صب ورش عليه الخمر فلا تلازم الرائحة الشرب.
ثم إنه يظهر من إسناد الخلاف - في عدم الاكتفاء بالرائحة والنكهة - إلى أبي
حنيفة، عدم الخلاف بيننا والحال أن كلام المفيد قدس سره الشريف والرواية
الواردة في قدامة بن مظعون الذي شهد واحد من الشاهدين بأنه رآه وقد قاء

(1) حيث إن فيها أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: ابعثوا معه من يدور على مجالس
المهاجرين والأنصار.
348

الخمر يشملهما وسيأتي نقل هذا الخبر. إلا أن يدعى أن الملازمة بين الرائحة
والشرب ليست كالملازمة بين القئ والشرب مثلا.
والحق أنه لو كانت الرائحة ناشئة عن الباطن صاعدة عنه لا عن فضاء الفم
وكانت رائحة الخمر نفسه لا ما يشابهه فهناك تكون الرائحة والنكهة كالسكر
والقيئ في الدلالة على الشرب وترتيب الآثار ولا يعبئ باحتمال الاكراه عليه
والاضطرار إلى شربه للتداوي به إلا أن يدعي هو ذلك فعليه إثباته كما في ما إذا
ثبت شربه بالبينة أو الاقرار كما يستفاد ذلك من الخبر المشار إليه آنفا وهو خبر
الحسين بن زيد عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر بن الخطاب
بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر فشهد عليه رجلان أحدهما خصي وهو
عمرو التميمي والآخر المعلى بن الجارود فشهد أحدهما أنه رآه يشرب وشهد
الآخر أنه رآه يقئ الخمر فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله فيهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لأمير المؤمنين عليه السلام: ما
تقول يا أبا الحسن فإنك الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت أعلم
هذه الأمة وأقضاها بالحق فإن هذين قد اختلفا في شهادتهما وما قاءها حتى
شربها.. (1).
وذلك لأنه إذا قال الإمام عليه السلام: ما اختلفا وما قاءها حتى شربها، فإنه
يستفاد منه أنه لا حاجة في الحكم بالشرب إلى البينة أو الاقرار بل يكفي مجرد أن
قاء الخمر في الحكم به وبالحد عليه وحينئذ يستفاد منه أنه يكفي في الحكم بذلك

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حد الشرب الخمر ح 1 ولا يخفى أن
الرواية في نقل الوسائل ناقصة وقد تعرض بعض - ولعله المرحوم الآية الحاج الشيخ فضل الله
النوري الشهيد المظلوم قدس سره - لذلك في بعض الحواشي له على الوسائل الطبع القديم
فراجع، والصحيح ما هو المذكور في نقل الكافي وهو: أنت أعلم بهذه الأمة وأقضاها بالحق فإن
هذين قد اختلفا في شهادتها، قال: ما اختلفا في شهادتهما، وما قاءها حتى شربها.. راجع
الكافي ج 7 ص 401.
349

وإقامة الحد عليه كل ما كان ملازما للشرب ونتيجة ذلك هو الاكتفاء في الحكم
بالشرب وترتيب تبعاته عليه بالرائحة والنكهة وكذلك الأمر بالنسبة للسكر
فكل واحد من القئ والسكر والرائحة دليل على الشرب فهذه الأمور في حكم
البينة والاقرار فيترتب الحد لحمل الأفعال على الاختيار ولا يجري الحمل على
الصحة في المحرمات كما إذا رأينا أحدا ينقب ويثقب جدار دار غيره بالليل فإنه
يحمل على أنه يريد السرقة ولا يحمل ذلك على الصحة (1).
في كيفية الحد
قال المحقق: الثاني في كيفية الحد وهو ثمانون جلدة.
أقول: المراد من الكيفية في كلامه ما يشمل المقدار والحالة مثل كونه عريانا
وإيقاع الجلدة على ظهره وكتفيه وغير ذلك من الأمور.
وأما مقداره فهو ثمانون جلدة. والدليل على ذلك الاجماع والنصوص.
أما الأول فقد ادعاه كثير ممن رأينا كلامهم. ففي المسالك بشرح عبارة
المحقق المتقدمة: تحديد حد الشرب بثمانين متفق عليه بين الأصحاب ومستندهم
الأخبار.
وفي كشف اللثام - بعد قول القواعد: ويجب فيه ثمانون جلدة -: بالاجماع
والنصوص.
وفي شرح الارشاد للأردبيلي - بعد قول الماتن قدس سره: ويجب الحد ثمانون
جلدة -: الظاهر أن كون المذكورات من الخمر وغيرها بالشرائط المذكورة
موجبا للحد إجماعي كان الشارب ذكرا أم لا.
وفي الرياض - بعد قول النافع: وهو ثمانون جلدة -: إجماعا وللنصوص

(1) أقول: لا تخلو عن تأمل وذلك لأنه إذا رأينا من يغتاب غيره ولم نعلم أنه كان على وجه
الحرام بل احتملنا أنه يغتابه لمبرر فقد يقال بأنه يحمل على الثاني. وأي فرق بينه وبين المقام؟.
350

المستفيضة.
وفي الجواهر - بعد عبارة الماتن المذكورة آنفا -: بلا خلاف أجده فيه بل
الاجماع بقسميه عليه بل المحكي منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص. انتهى.
إلى غير ذلك من كلماتهم التي لا نتعرض لها روما للاختصار ولئلا يطيل بنا
الكلام فمن أراد فليراجعها في مظانها.
نعم قد يقال: بأن الحد بالنحو المعمول لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه
وآله. ففي المسالك: روى العامة والخاصة أن النبي صلى الله عليه وآله كان
يضرب الشارب بالأيدي والنعال ولم يقدروه بعدد فلما كان في زمن عمر
استشار أمير المؤمنين عليه السلام في حده فأشار إليه بأن يضربه ثمانين وعلله
بأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فجلده عمر ثمانين، وعمل
به أكثر العامة وذهب بعضهم إلى أربعين مطلقا لما روي أن الصحابة قدروا ما
فعل في زمانه بأربعين انتهى.
وأما الثاني أي النصوص فهي أخبار كثيرة:
منها عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: كيف يجلد
رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: كان يضرب بالنعال، ويزيد كلما أتي
بالشارب ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف على ثمانين أشار بذلك علي عليه
السلام على عمر فرضي بها (1).
وعن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أقيم عبيد الله بن عمر
وقد شرب الخمر فأمر به عمر أن يضرب فلم يتقدم عليه أحد يضربه حتى قام
علي عليه السلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه بها أربعين (2).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 2 والنسع بالكسر سير ينسج عريضا
تشد به الرحال والقطعة منه نسعة، وفي مرآة العقول: قول في النهاية النسعة بالكسر سير
مضفور يجعل زماما للبعير وغيره إنتهى. ثم قال المجلسي قدس سره: ويظهر منه ومما سيأتي
الاكتفاء بالأربعين إذا كان السوط ذا شعبتين أو مثنيا ولم يتعرض له الأصحاب ولعل هذا منشأ
توهم جماعة من العامة حيث ذهبوا إلى الاكتفاء بالأربعين مطلقا ويمكن أن يكون إنما فعله عليه
السلام تقية فضرب بذي الشعبتين ليكون أقرب إلى الحكم الواقعي إذ لا خلاف بين
الأصحاب في أن حد شرب الخمر ثمانون في الحر، والمشهور في العبد أيضا ذلك. وذهب
الصدوق رحمه الله إلى أن حده أربعون انتهى.
351

وعن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أرأيت النبي صلى الله
عليه وآله كيف كان يضرب في الخمر؟ قال: كان يضرب بالنعال، ويزداد إذا
أتي بالشارب ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف ذلك على ثمانين أشار بذلك
علي عليه السلام على عمر فرضي بها (1).
وعن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال إن عليا عليه السلام كان
يقول: إن الرجل إذا شرب الخمر سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى
فاجلدوه حد المفتري (2).
وعن عبد الله بن سلام قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: الحد في الخمر أن
يشرب منها قليلا أو كثيرا ثم قال: أتي عمر بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر
وقامت عليه البينة فسأل عليا عليه السلام فأمره أن يجلده ثمانين فقال قدامة: يا
أمير المؤمنين ليس علي حد أنا من أهل هذه الآية: ليس على الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا، فقال علي عليه السلام: لست من أهلها إن
طعام أهلها لهم حلال ليس يأكلون ولا يشربون إلا ما أحل الله لهم ثم قال عليه
السلام إن الشارب إذا شرب لم يدر ما يأكل ولا ما يشرب فاجلدوه ثمانين
جلدة (3).
وعن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الزنا شر أو

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 3.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 4.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 5، والآية: المائدة - 93.
352

شرب الخمر؟ وكيف صار في الخمر ثمانون وفي الزنا مأة؟ فقال: يا إسحاق الحد
واحد ولكن زيد في هذا لتضييعه النطفة ولوضعه إياها في غير موضعها الذي
أمر الله به (1).
وعن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يشرب
حسوة خمر قال: يجلد ثمانين جلدة، قليلها وكثيرها حرام (2).
وعن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام إن رسول الله
صلى الله عليه وآله ضرب في الخمر ثمانين (3).
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في أبواب مختلفة. نعم في بعضها أن
التحديد بالثمانين كان متعلقا بزمن عمر بل عن كتاب الاستغاثة (4) في بدع
الثلاثة أن جلد الشارب ثمانين من بدع الثاني وأن الرسول صلى الله عليه وآله
جعل حده أربعين بالنعال العربية وجرائد النخل بإجماع أهل الرواية وأن الثاني
قال: إذا سكر افترى وإذا افترى حد حد المفتري.
وهذه النسبة وإن استغربها في كشف اللثام والجواهر إلا أن اشتمال قسم من
الروايات على هذا المطلب أي تحديد هذا الحد بالثمانين في زمن الثاني غير قابل
للانكار كاشتمال بعضها على أن النبي كان يضرب بالأيدي والنعال.
نعم في بعضها أنه قد وقع ذلك أي التحديد بالثمانين في زمن الرسول الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم (5).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 6.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 7.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 8.
(4) أقول: وصاحب الاستغاثة هو الشريف أبو القاسم علي بن أحمد الكوفي العلوي المتوفى
سنة 325، وقد يعبر عن هذا الكتاب بالإغاثة. راجع الذريعة ج 2 ص 28.
(5) وقد مر بعضها، وفي الاختصاص للشيخ المفيد قدس سره وفي خبر عبد الله بن سلام عن
رسول الله صلى الله عليه وآله: وأما الثمانون فشارب الخمر يجلد بعد تحريمه ثمانين سوطا.
353

ويمكن توجيه ما كان مشتملا على الأول بأن ذلك كان بإشارة الإمام أمير
المؤمنين عليه السلام كما صرح بهذا المطلب في بعض الروايات، وإشارته عليه
السلام بذلك كانت من باب تفويض بيان بعض الأحكام إلى الأئمة الطاهرين
صلوات الله عليهم أجمعين من ناحية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله فقرر
الإمام عليه السلام وحدد ذلك للاختيار المفوض إليه صلوات الله عليه وعلى
آله الأمجاد وصار ذلك مسلما بين المسلمين، إلا ما شذ وندر منهم، وجرى الأمر
على ذلك بعده.
في عدم اشتراط الذكورة أو الحرية
قال المحقق: رجلا كان الشارب أو امرأة حرا كان أو عبدا، وفي رواية يحد
العبد أربعين وهي متروكة.
أقول: بعد أن تحقق أن حد الشرب ثمانون فهنا يبحث في أطراف المسألة ومن
جملتها أنه هل يفرق في ذلك بين كون الشارب الرجل أو المرأة أم لا؟ وقد صرح
بعدم الفرق أصلا وذلك للاجماع على ذلك، كما عرفت أنه لا خلاف ولا تفصيل
في المسألة بل أطلقوا القول بحد الشارب ثمانين، وللأخبار الدالة بإطلاقها على
عدم الفرق بينهما. ومن تلك المباحث أنه هل هناك فرق بين الحر والعبد أم لا؟.
ذهب المشهور إلى عدم الفرق وأنهما سيان وإن كان حد العبد في الزنا على
النصف بالنسبة للحر.
وخالف في ذلك الشيخ الصدوق قدس سره فذهب في المقنع والفقيه (1) إلى أن

(1) قال في الفقيه ج 4 ص 56: وشارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين جلدة... والعبد
إذا شرب مسكرا جلد أربعين جلدة ويقتل في الثامنة انتهى.
وأما عبارته في المقنع ص 154 فهذه: وشارب الخمر إذا كان عبدا جلد مرة فإن عاد جلد
حتى يفعل ثماني مرات ثم يقتل في الثامنة انتهى
وأنت ترى أنه لا تصريح بأربعين اللهم إلا أن يستفاد ذلك من الحكم بالقتل في الثامنة بعد
أن حكم في الحر بالقتل في الثالثة.
354

حد العبد في الخمر أربعون وقد مال إلى ذلك العلامة أعلى الله مقامه في المختلف
فقال: المشهور أن حد الخمر ثمانون في الحر والعبد وذهب إليه الشيخان وابن
البراج وابن إدريس وقال الصدوق في كتابي المقنع ومن لا يحضره الفقيه: حد
الحر ثمانون وحد المملوك أربعون وقال ابن الجنيد: الحد ثمانون فإن كان السوط
ثنيا فأربعون على الحر مسلما كان أو ذميا... إن قول ابن بابويه لا بأس به.
وقد مال إلى ذلك الشهيد الأول كما صرح بذلك الشهيد الثاني في الروضة
قائلا: وقواه المصنف في بعض تحقيقاته انتهى. كما أنه رضوان الله عليه بنفسه مال
إليه في المسالك.
هذا بالنظر إلى الأقوال، وأما الأخبار فنقول إن أكثر الأخبار الواردة في
المقام يدل بالاطلاق أو التصريح على التسوية بينهما وأنه يحد العبد ثمانين كما يحد
الحر كذلك. وقد عقد في الوسائل بابا لذلك عنونه بقوله: باب أنه لا فرق في حد
الشرب بين الحر والعبد والمسلم والذمي إذا تظاهر.
عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: كان علي عليه السلام يضرب
في الخمر والنبيذ ثمانين الحر والعبد واليهودي والنصراني، قلت: وما شأن
اليهودي والنصراني؟ قال: ليس لهم أن يظهروا شربه، يكون ذلك في
بيوتهم (1).
وعن أبي بصير - أيضا - قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد الحر
والعبد واليهودي والنصراني في الخمر والنبيذ ثمانين قلت: ما بال اليهودي
والنصراني؟ فقال: إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار لأنهم ليس لهم أن
يظهروا شربها (2).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 2.
355

وعن أبي بصير قال: كان علي عليه السلام يجلد الحر والعبد واليهودي
والنصراني في الخمر ثمانين (1).
وعن أبي بصير قال: قال: حد اليهودي والنصراني والمملوك في الخمر
والفرية سواء، وإنما صولح أهل الذمة على أن يشربوها في بيوتهم (2).
إلى غير ذلك من الروايات. لكن هنا بعض الروايات يدل على خلاف ذلك
ففي خبر حماد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: التعزير كم هو؟
قال: دون الحد قلت: دون الثمانين؟ قال: لا ولكن دون الأربعين فإنها حد
المملوك قال قلت: وكم ذاك؟ قال: قال علي عليه السلام على قدر ما يرى
الوالي من ذنب الرجل وقوة بدنه (3).
وقد ذكر في الوسائل أنه: حمله الشيخ على التقية لموافقته للعامة.
وفيه أنه لا وجه لذلك بعد أن النسبة بين الأخبار المتقدمة وهذه الرواية
العموم والخصوص فيقال بأن حد المملوك الأربعون إلا في خصوص شرب
الخمر فإنه يجلد ثمانين.
وفي خبر أبي بكر الحضرمي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن عبد
مملوك قذف حرا قال: يجلد ثمانين هذا من حقوق المسلمين فأما ما كان من
حقوق الله فإنه يضرب نصف الحد قلت: الذي من حقوق الله ما هو؟ قال: إذا

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 4.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 5.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 6 أقول: والظاهر عدم ورود
الإشكال على الشيخ وذلك لأنه قال في التهذيب ج 10 ص 92: فأول ما فيه أنه ليس في ظاهر
الخبر أن حد العبد الذي هو الأربعون إنما هو في شربه الخمر وإذا لم يكن ذلك في ظاهره جاز أن
يكون ذلك حده فيما سواه ولو كان صريحا بأن ذلك حده في شرب الخمر جاز لنا أن نحمله على
ضرب من التقية لأن ذلك موافق لمذهب بعض العامة انتهى. فترى أنه صرح بالحمل على
العموم والخصوص لهم نعم لم يذكره الوسائل ومنشأ الإشكال ذلك.
356

زنى أو شرب الخمر فهذا من الحقوق التي يضرب فيها نصف الحد (1).
وهذا الخبر يشكل الأمر وذلك لعدم نسبة الاطلاق والتقييد بالنسبة إليه بل
هو معارض لصريح الروايات الماضية.
قال الشيخ قدس سره هذا خبر شاذ لا يعارض به الأخبار المتواترة في
تناول شارب الخمر واستحقاقه ثمانين جلدة... ثم إنه يحتمل أن يكون الوجه فيه
ما قدمناه في الخبر الأول من التقية لموافقته لمذاهب بعض العامة.
وقال الشيخ المحدث الحر العاملي: ويجوز حمله على ما ضربه بسوط له
شعبتان انتهى.
أقول: والانصاف أن ما أفاده هذا المحدث الجليل من الحمل خلاف الظاهر
جدا بعد كون الخبر صريحا في التفصيل والتعليل فإن المستفاد منه أن المملوك إذا
قذف حرا يجلد ثمانين لأنه من حقوق المسلمين وأما في حقوق الله كالزنا وشرب
الخمر فإنه يضرب فيها نصف الحد، ومع هذا الحال كيف يمكن الحمل على ما لو
ضربه بسوط له شعبتان؟.
وعن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أبي يقول: حد
المملوك نصف حد الحر (2). وقد خصه الشيخ كما نقله في الوسائل بحد الزنا لما
مر (3).
أقول: فالعمدة في المقام هو خبر الحضرمي وبلحاظه يحصل المعارضة فإن
كان هناك ترجيح سندي فهو، لكن الظاهر عدم ذلك وقد ذكروا أن سند
الطرفين مخدوش فحينئذ لا ترجيح من هذه الجهة.
نعم روايات الثمانين أكثر عددا ومعمول بها عند المشهور بخلاف خبر

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 7.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 9.
(3) قال في التهذيب ج 10 ص 93: هذا الخبر عام ويجوز تخصيصه بحد الزنا وقد بينا ما
يقتضي تخصيصه.
357

الحضرمي وغيره مما يدل على الأربعين في العبد فإنه أقل عددا أو غير معمول به
عند المشهور وهو يوجب ترجيح أخبار الثمانين.
ولو فرض الترديد من هذه الجهة فلعله يمكن التمسك بقاعدة الدرء والحكم
بالأقل وذلك لأن الأكثر مشكوك فيه فيدرء بالقاعدة إن لم يستشكل فيه بأن
مجراها ما إذا كان أصل الحد مشكوكا فيه دون مقداره بعد الفراغ عن أصله.
وفي المسالك: والحق أن الطريق من الجانبين غير نقي وأن رواية الحضرمي
أوضح طريقا ويزيد التعليل وينبغي أن يكون العمل بها أولى لوقوع الشبهة في
الزائد فيدرء بها إلا أن المشهور الأول. انتهى.
وفيه أن الحق هو أنه يشكل الصفح عما ذهب إليه المشهور، والتعليل يمكن
كونه من قبيل الحكمة وكيف كان فذهاب المشهور إلى الثمانين مرجح لأخبارها
على أخبار الأربعين خصوصا بلحاظ ما في الجواهر من قوله: المشهور بين
الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا إلخ.
وما في عبارة الشرايع من قوله بأن رواية الأربعين متروكة، فإنه مشعر بكون
المطلب إجماعيا، وإن كان تعبير بعضهم بالنسبة للقول بالثمانين بالأشهر يدل على
عدم كون القول الآخر متروكا.
نظرة أخرى في الأخبار وكيفية الترجيح فيها
ثم إن الأخبار الواردة في الباب بنظر كلي جامع على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هو مطلق يدل على أن حد الشارب للخمر ثمانون بلا تعرض
لخصوصيات الشارب.
ومن هذه الأخبار رواية إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن رجل شرب حسوة خمر قال: يجلد ثمانين جلدة، قليلها وكثيرها
358

حرام (1).
ومثلها رواية قدامة بن مظعون ففي آخرها قال علي عليه السلام: إن شارب
الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فجلده عمر ثمانين
جلدة (2) ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله (3) ورواية الحلبي عن أبي عبد الله (4)
إلى غير ذلك من الروايات.
ثانيها: ما تعرض لذكر العبد مصرحا بأنه يضرب ثمانين، وذلك كخبر أبي
بصير عن أبي عبد الله عليه السلام (5) وخبره الثاني (6) والثالث (7) والرابع (8)
وقد تقدمت فراجع.
ثالثها ما هو متعرض لذكر العبد وأن حده الأربعون على عكس القسم الثاني
كخبر حماد بن عثمان (9) وخبر الحضرمي (10) وخبر يحيى بن أبي العلاء عن أبي
عبد الله عليه السلام (11).
ومن المعلوم تحقق التعارض بين هاتين الطائفتين فإن كان هنا مرجح
لأحديهما فلا بد من الأخذ بذات الترجيح سواء كانت هي الأولى أو الثانية وقد

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 1 من أبواب حد المسكر ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 2 من أبواب حد المسكر ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 1.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 3.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 1.
(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 2.
(7) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 4.
(8) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 5.
(9) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 6.
(10) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 7.
(11) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 9.
359

رجح بعض، أخبار الثمانين وبعض أخبار الأربعين.
ومؤيدات القول بالتنصيف ومرجحات خبر الحضرمي هو: الأصل وقاعدة
التنصيف في حد العبد واشتمال خبر الحضرمي على التعليل وبناء الحدود على
التخفيف وكون ذلك من باب الشبهة التي يدرأ بها الحد وأوضحية طريق خبر
الحضرمي. والمراد من الأصل هو أصالة عدم الزائد كما أن المراد من قاعدة
التنصيف هو كون عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحر وهي مقتنصة من
موارد خاصة يجري فيها الحكم بالتنصيف.
وأما التعليل فهو مستفاد من قوله عليه السلام في خبر الحضرمي: هذا من
حقوق المسلمين، وكذا من قوله عليه السلام: فهذا من الحدود التي يضرب فيها
نصف الحد.
وأما بناء الحدود على التخفيف فواضح فإن الحد أذية على المسلم ولذا يبنى
على ما هو الأخف المتيقن الذي لا شك في جوازه.
وأما الشبهة فلأنه لا شك ولا شبهة في وجوب الأربعين لتوافق الأخبار على
ذلك وأما الأربعون الزائد فهو محل الشك والترديد ومصداق من مصاديق
الشبهة فيدرأ هذا الزائد بها.
وأما أوضحية الطريق فراجع سند الرواية.
وأما المرجح بالنسبة إلى روايات الثمانين فأمور: منها أنها أكثر. ومنها أنها
المشهور. ومنها أنها مخالفة للعامة في قبال أخبار النصف التي هي أقل ومتروكة
وموافقة للعامة.
والحق أن الراجح هو أخبار الثمانين فإن قاعدة التنصيف ليست ثابتة بهذه
الكلية بل الحكم بالنصف وارد في بعض الموارد ونحن نقتفي الآثار فكل مورد
نطق به الدليل نقول به وكلما لم يدل عليه دليل فلا.
وأما اشتمال خبر الحضرمي على التعليل ففيه - مضافا إلى ما تقدم - أن بعضا
من الأخبار الدالة على الثمانين أيضا مشتمل على التعليل كخبر زرارة عن أبي
360

جعفر عليه السلام قال: إن عليا عليه السلام كان يقول: إن الرجل إذا شرب
الخمر سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فاجلدوه حد المفتري (1). وذلك
لأنه يدل على أن الشارب يضرب الثمانين لأنه بسبب سكره يقدم على الافتراء
فيجب عليه حد المفتري، ومن المعلوم أن هذه العلة تجري في العبد أيضا كما
تجري في الحر.
وأما أوضحية طريق أخبار الأربعين التي ذكرها الشهيد الثاني في المسالك
بعد أن ناقش في سند كلتا الطائفتين فغير ظاهرة الوجه كما أن باقي الوجوه أيضا
لا ينفع شيئا بعد ما ذكر من الترجيح لأخبار الثمانين وعلى هذا فيكون تعارض
الطائفتين من باب تعارض الحجة واللاحجة فيؤخذ بالحجة ويترك اللاحجة.
وهنا شئ آخر يبدو في نظري ولم أر من تعرض له وهو أنه ولو فرض عدم
الترجيح لأخبار الثمانين فإنه بعد تعارض القسمين إن لم يكن ترجيح في البين
يتعين العمل بالمطلقات الشاملة لكل شارب ومنه العبد الدالة على الثمانين وذلك
لما هو المقرر في الأصول من أنه لو كان هناك مطلق أو عام وكان في قباله مقيدان
متعارضان أو خاصان كذلك فلو كان لأحدهما ترجيح فهو أولى بالتقديم في
تقييد المطلق أو تخصيص العام وهو جمع عرفي أما لو لم يكن هناك ترجيح فلا بد
من الرجوع إلى المطلق أو العام كما إذا قيل: أكرم العلماء ثم ورد: أكرم زيدا
وكذا: لا تكرم زيدا، فإنهما يتساقطان ويرجع إلى عموم العام.
ونتيجة ذلك في المقام أنه بعد تساقط الأخبار الخاصة المتعرضة لحال العبد
الناطقة بوجوب الثمانين والأخبار الخاصة المتعرضة لحد العبد الناطقة بوجوب
الأربعين يرجع إلى المطلقات الدالة بنحو الاطلاق على أن حد شرب الخمر هو
الثمانون فإنها بإطلاقها شاملة للحر والعبد كليهما.
ونتيجة ذلك في المقام أنه بعد تساقط الأخبار الخاصة المتعرضة لحال العبد
الناطقة بوجوب الثمانين والأخبار الخاصة المتعرضة لحد العبد الناطقة بوجوب

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب حد المسكر ح 4.
361

الأربعين يرجع إلى المطلقات الدالة بنحو الاطلاق على أن حد شرب الخمر هو
الثمانون فإنها بإطلاقها شاملة للحر والعبد كليهما. ولعله كان نظر العلماء من
ذهابهم إلى الثمانين، إلى ذلك بعد تضارب المرجحات وتساقطها (1).
هذا تمام الكلام وتوضيح المرام في باب حد شرب العبد، والمسألة وإن لم تكن
مبتلى بها في عصرنا هذا إلا أنه لا بد من البحث فيه فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا
أوجب أخذ العبيد والإماء من الكفار كغيره من الأحكام التي كانت متروكة
قبيل هذا والآن صارت رائجة متداولة بين الشعب الاسلامي والحمد لله على
ذلك.
ومن جملة المباحث التي لا بد من التعرض لها هو أن ظاهر النص والفتوى
اعتبار الثمانين مترتبة - واحدة بعد أخرى إلى أن يتم ويكمل الثمانون - إلا أن هنا
روايتين تدلان على الاكتفاء بأربعين، بسوط مثلا له شعبتان.
فعن زرارة قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الوليد ابن عقبة حين
شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعلي عليه السلام: اقض بينه وبين هؤلاء
الذين زعموا أنه شرب الخمر فأمر علي عليه السلام فجلد بسوط له شعبتان
أربعين جلدة. ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد وزاد: فصارت ثمانين
جلدة (2).
وعن زرارة أيضا قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: أقيم عبيد الله بن
عمر وقد شرب الخمر فأمر به عمر أن يضرب فلم يتقدم عليه أحد يضربه حتى
قام علي عليه السلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه بها أربعين (3).
ولعله يمكن حملها على جواز ذلك لعلة ومصلحة كما قال بذلك صاحب

(1) أقول: لعله لا تصل النوبة إلى ذلك لأنه فرع عدم الترجيح وهنا ليس كذلك فإنه لا أقل
من موافقة العامة ومخالفتهم وهي كافية في الترجيح على ما نص بذلك في الروايات.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد المسكر ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 5 من أبواب حد المسكر ح 2.
362

الجواهر رضوان الله عليه.
هل يقام الحد على الشارب إذا كان كافرا؟
قال المحقق: أما الكافر فإن تظاهر به حد وإن استتر لم يحد.
أقول: إن موضوع المسألة في كلام المحقق: الكافر، بخلاف صاحب الجواهر
حيث قيده بقوله: الذمي منه ومن في معناه. ولعل المراد من الثاني في كلامه هو
المعاهد أي من لم يكن في ذمة الاسلام إلا أنه قد تعهدت الدولة الاسلامية
والحاكم الاسلامي حفظه فعلا.
وقال الشيخ في النهاية - والمعروف أنها نصوص أوردها قدس سره فتوى
له -: من شرب شيئا من المسكر... وجب عليه الحد ثمانون جلدة حد المفتري
سواء كان مسلما أو كافرا حرا كان أو عبدا لا يختلف الحكم فيه إلا أن المسلم
يقام عليه الحد على كل حال شرب عليها، والكافر إذا استتر بالشرب أو شربه
في بيته أو بيعته أو كنيسته لم يكن عليه حد وإنما يجب عليه الحد إذا أظهر الشرب
بين المسلمين أو خرج بينهم سكران (1).
وقال السيد أبو المكارم بن زهرة: والحد في شرب قليل المسكر وكثيره وإن
اختلف أجناسه إذا كان شاربه كامل العقل حرا كان أو عبدا رجلا أو امرأة
مسلما أو كافرا متظاهرا بذلك بين المسلمين ثمانون جلدة بدليل إجماع
الطائفة (2).
وقال ابن حمزة: فإن شربها كافر وظهر بشربه للمسلمين حد وإن لم يظهر لم
يحد (3).

(1) النهاية ص 710.
(2) غنية النزوع، الجوامع الفقهية ص 623.
(3) الوسيلة إلى نيل الفضيلة ص 416.
363

وقال ابن البراج: وإذا شرب إنسان خمرا أو نبيذا أو مزرا أو نقيعا أو غير ذلك
من الأشربة التي يسكر قليلها أو كثيرها وجب الحد ثمانون جلدة حرا كان أو
عبدا مسلما كان أو كافرا إلا أن المسلم يقام عليه ذلك على كل حال شربه عليها
والكافر لا يحد إلا بأن يظهر شرب ذلك بين المسلمين أو يخرج بينهم سكران فإن
استتر بذلك فشربه في بيته أو كنيسته أو بيعته - لم يجز أن يحد (1).
وقال ابن سعيد: ويحد شارب الخمر والمسكر والفقاع ثمانين جلدة حرا كان
أو عبدا مسلما أو كافرا قائها أو شربها بشهادة شاهدين عدلين (2).
وقال العلامة بعد الحكم بأن حده ثمانون جلدة: هذا إذا كان الشارب مسلما
فإن كان كافرا وتظاهر بالشرب أو خرج بين المسلمين سكران جلد ثمانين جلدة
وإن استتر في منزله أو بيعته أو كنيسته بالشرب ولم يخرج سكران بين المسلمين
لم يحد (3).
وهؤلاء الأعلام كلهم قد عنونوا الكلام في الكافر كما في الشرايع.
وأما الأخبار فبعضها مطلق شامل لكل من شرب الخمر أي سواء كان مسلما
أو كافرا، وبعبارة أخرى الموضوع في هذا القسم من الأخبار: من شرب الخمر
أو المسكر، وقد تقدم، وهذا العنوان مطلق شامل للمسلم والكافر الذمي منه
والحربي. وقسم من الأخبار تعرض لخصوص عنوان اليهودي والنصراني وقد
تقدم، وواحد منها ذكر المجوس معهما أيضا وهو خبر محمد بن قيس عن أبي
جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام أن يجلد اليهودي

(1) المهذب البارع ج 2 ص 535.
(2) الجامع للشرايع ص 557.
(3) التحرير ج 2 ص 226 أقول: هكذا أفاد واستظهر دام ظله من كلمات العلماء وقد أضفنا
كلام ابن البراج وابن سعيد والعلامة لكن لا يخفى عليك أن عبارة سلار ليست كذلك فإنه قال
في المراسم ص 257: ويجلد أهل الذمة في شرب الخمر كحد المسلم انتهى. ولم يتعرض الحلبي
في الكافي للمسألة أصلا.
364

والنصراني في الخمر والنبيذ المسكر ثمانين جلدة إذا أظهروا شربه في مصر من
أمصار المسلمين وكذلك المجوس ولم يعرض لهم إذا شربوها في منازلهم
وكنايسهم حتى يصير بين المسلمين (1).
ومفاد هذه الروايات أن اليهود والنصارى - وكذا المجوس - إذا شربوا الخمر
متظاهرين به يقام عليهم الحد وظاهرها اختصاص الحكم بهم دون الحربي
ودون خصوص الذميين منهم.
اللهم إلا أن يقال بانصراف هذه الروايات إلى اليهود والنصارى الموجودين
في زمن الإمام أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام الذين كانوا في بلاد المسلمين
وتحت ذمتهم وحيث إن الذمة أمر جعلي وعهدي فإن تستروا في الشرب فقد
أكدوا هذه المعاهدة وحققوها أما لو تظاهروا بذلك فقد نقضوها حيث إن عقد
المعاهدة كان مبنيا على صيانة نفوسهم وأموالهم وأعراضهم بشرائط منها أن لا
يتظاهروا في المملكة الاسلامية بخلاف مبانيها ومظاهرها كشرب الخمر جهارا
وعلى رؤوس الأشهاد، فالكافر إذا كان ذميا معتنقا لشرائط الذمة فهو بحكم
المسلم، ومع التظاهر والتجاهر يحد، دون ما إذا تستر فإنه لا يحد لاستفاضة
النصوص في ذلك. وفي الجواهر: بلا خلاف أجده فيه نصا وفتوى. وأما الحربي
فلا حكم له كما قال في أول كتاب الشرب من القواعد: ولا حد على الحربي.
وقال في كشف اللثام بشرحه: وإن تظاهر بشربه لأن الكفر أعظم منه نعم إن
أفسد بذلك أدب بما يراه الحاكم.
لكن لا يخفى أنه يشكل الالتزام بذلك والعلامة الذي صار إلى ذلك فقد قال
به في خصوص كتاب القواعد دون كتبه الأخر (2) كما أن غير العلامة أيضا

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 6 من أبواب حد المسكر ح 3.
(2) أقول: ذكر ذلك في الإرشاد أيضا فقال: وشرطه البلوغ والعقل والإسلام والاختيار
والعلم فلا حد على الصبي بل يعزر ولا المجنون ولا الحربي ولا الذمي مع الاستتار فإن أظهرها
حد انتهى. ووافقه. الأردبيلي أيضا بحسب ظاهر كلامه.
365

استظهروا من هذه الأخبار العموم وأفتوا به دون خصوصية لليهود والنصارى
كما مر كلماتهم.
وما أفاده كاشف اللثام من التعليل لا ينفع في إثبات المطلب وذلك لأن مجرد
كون الكفر أعظم من شرب الخمر لا يوجب عدم الحد على شرب الخمر وإلا
فالكفر أعظم من الزنا وغيرها من الفواحش أيضا مع أنه يحكم في تلك الموارد
بالحد فراجع.
هذا مضافا إلى أنه على ذلك كان اللازم الحكم بعدم حد الشارب إذا ارتد بعد
شربه وذلك لجريان العلة وإن كان بينه وبين المقام فرق وهو أن المسألة المبحوث
فيها شرب الكافر الخمر، وأما المسألة المنقوض بها كان الشارب مسلما حين
شربه ثم بعد ذلك ارتد، إلا أنه لا فرق بينهما من جهة جريان العلة في كليهما فإن
الارتداد أعظم من الشرب مع أنه يقام على الشارب الذي ارتد بعد شربه،
الحد، حتى فيما إذا كان حكمه بمقتضى ارتداده القتل فإنه لا بد من جلده أولا
للشرب ثم قتله للارتداد. ولذا أورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بأن
الأدلة هنا عامة فضلا عما دل على تكليفهم بالفروع، ثم قال: وعدم إقامتها على
الذمي المتستر باعتبار اقتضاء عقد الذمة ذلك لا لعدم الحد عليه انتهى.
لا يقال: إن ما ذكره في كشف اللثام مؤيد بما ورد في روايات السحر ففي خبر
السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن
ساحر المسلمين يقتل وساحر الكفار لا يقتل قيل: يا رسول الله لم لا يقتل ساحر
الكفار؟ فقال: لأن الكفر أعظم من السحر ولأن السحر والشرك مقرونان (1).

(1) أورده عليه دام ظله بعض تلاميذه وأجاب بما حكيناه ولعل الأولى أن يجاب عنه بأنه لا
يمكن إسراء التعليل الوارد في القتل إلى الجلد حيث إن القتل أهم من الجلد بلا كلام.
ثم إنه قد أورد عليه بعض السادة من زملائنا في مجلسه الخصوصي بأن قوله عليه السلام في
خبر أبي بصير: وإنما صولح أهل الذمة على أن يشربوها في بيوتهم ب 6 ح 5، يدل على
الاختصاص
فأجاب دام ظله بأنا نقول بالتعميم لوجود الملاك ووحدة المناط وهو الإفساد.
366

لأنا نقول: لا يمكن الأخذ والتمسك بإطلاق تعليل هذه الرواية فلا يرفع اليد
عن الحد بالنسبة إلى الكفار تمسكا بهذا التعليل بعد أن ثبت خلافه بالدليل
كما تقدم ذلك.
ثم إن مما يبتلى به المسلمون كثيرا في هذه الأعصار ولهم بذلك مساس شديد
هو أنه هل اليهود والنصارى الذين يعيشون في المملكة الاسلامية محكومون
بالذمة أم لا؟ وبعبارة أخرى هل إنهم أهل الذمة كي يفصل في حدهم بين
تسترهم وتجاهرهم بذلك أم لا حتى يقام عليهم الحد بمقتضى ما قربناه؟.
يمكن أن يقال: إنهم إن كانوا بحيث يرون أنفسهم مستقلين ويدعون عدم
تعلقهم بغيرهم فهناك لا يعتبرون من أهل الذمة؟ وأما إذا لم يكونوا كذلك ولم
تكن لهم الجرأة على إظهار عدم التعلق بالمسلمين في المملكة الاسلامية - ولعلهم
كذلك بعد نجح الثورة الاسلامية وهذه الحركة الدينية - فهنا يحكم عليهم بحكم
أهل الذمة وإن لم يتحقق بينهم وبين الحكومة الاسلامية عقد الذمة إلا أنه يكفي
مجرد تعهد الحكومة الاسلامية لحفظهم وصيانتهم وعلى هذا فلو شربوا الخمر
بالعيان وعلى رؤوس الأشهاد يقام عليهم الحد، وأما لو شربوا في الخفاء
ومستورا فلا حد عليهم.
تجريد الشارب عند حده
قال المحقق: ويضرب الشارب عريانا على ظهره وكتفيه ويتقى وجهه
وفرجه ولا يقام عليه الحد حتى يفيق.
أقول: أما ضربه عريانا أي مجردا عن الثياب فلصحيح أبي بصير قال: سألته
عن السكران والزاني قال: يجلدان بالسياط مجردين بين الكتفين (1). وقد ادعى

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 8 من أبواب حد المسكر ح 1.
367

في الجواهر عدم خلاف معتد به في ذلك.
ولكن خالف في ذلك شيخ الطائفة فقال في كتاب الأشربة عند بيان كيفية
ضرب الشارب وتحت عنوان صفة المضروب: ولا يجرد عن ثيابه لأن النبي
صلى الله عليه وآله أمر بالضرب ولم يأمر بالتجريد انتهى.
وقد رماه في الجواهر بغاية الضعف وذلك للصحيحة المزبورة المؤيدة بما ذكر
أي عدم خلاف في المسألة معتد به.
فعلى هذا فيجرد الشارب عند جلده. هذا إذا كان رجلا وأما المرأة فحيث إن
كل بدنها عورة فلذا لا تجرد بل تحد جالسة مربوطة عليها ثيابها (1).
وأما الضرب على ظهره وكتفيه - كما ذكره في الشرايع - وتفريق الضرب على
سائر بدنه كما في كلمات بعض - كالشيخ في المبسوط وصاحب الجواهر - فقد
علل ذلك في الكلمات بأنه: كي يذوق كل عضو منه الذي التذ بالمعصية ألم
العقوبة. وقد حكى عن علي عليه السلام أنه قال للجلاد: أعط كل عضو حقه.
وسيأتي التصريح بضربه على كل جسده في الروايات أيضا.
وأما اتقاء وجهه وفرجه فقد ذكر ذلك صريحا في الروايات:
عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: يضرب الرجل الحد قائما والمرأة
قاعدة ويضرب على كل عضو ويترك الرأس والمذاكير (2). ورواه الصدوق:
عن أبان إلا أنه قال: ويترك الوجه والمذاكير.
وعن حريز عمن أخبره عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: يفرق الحد على
الجسد كله ويتقى الفرج والوجه... (3). ثم إنه ذكر بعضهم كصاحب الجواهر

(1) قال الشيخ الطائفة في المبسوط ص 69: وأما جلد المرأة فإنها تجلد جالسة لأنها عورة
ويشد عليها ثيابها جيدا لئلا تنكشف، ويلي شد الثياب عليها امرأة وتضرب ضربا رفيقا لا
يجرح ولا ينهر الدم.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد الزنا ح 1.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد الزنا ح 6 وفي المبسوط: ويفرق الضرب على بدنه ويتقى الوجه والفرج لقوله عليه السلام إذا جلد أحدكم فليتق الوجه والفرج وعن علي
عليه السلام أنه قال للجلاد: اضرب وأوجع واتق الرأس والفرج انتهى.
أقول: وقد يعلل ذلك بقولهم: تجنبا عن المثلة والعمى والقتل.
368

قدس سره، الاتقاء عن ضربه على مقاتله أيضا. والمراد منه المواضع التي يخشى
قتله بضربها وتسمى في العرف ب‍ (گيجگاه).
ووجهه معلوم وهو أنه لا يستحق القتل وإنما الواجب جلده فلا يجوز
الضرب على موضع منه يخاف قتله ويفضي إلى موته.
وأما عدم إقامة الحد عليه حتى يفيق أي عن سكره ففي الرياض: بلا خلاف
أجده، وفي الجواهر: بلا خلاف. والوجه في ذلك أن الحكمة في تشريع الحدود
هو الايلام والايذاء كي يتأثر بذلك فلا يعود إلى ما أتى به ولا يفعله ثانيا ومن
المعلوم أنه لو جلد في حال سكره فلا يحصل هذه الفائدة بل حصولها منوط
بالإفاقة لأنه حينئذ يدرك الألم وينزجر عن عمله القبيح مخافة ابتلائه بما ابتلي به
من العقوبة.
ثم إنه لو جن بعد أن شرب الخمر فلا يوجب ذلك سقوط الحد عنه، ويدل
على ذلك صحيح أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في رجل وجب عليه الحد
فلم يضرب حتى خولط فقال: إن كان أوجب على نفسه الحد وهو صحيح لا علة
به من ذهاب عقل أقيم عليه الحد كائنا ما كان (1). والموضوع في الرواية كما ترى
هو من وجب عليه الحد أي حد كان فإذا وجب عليه حد من الحدود وجب
عليه إقامة الحد المزبور كائنا ما كان وفي أي حال كان سواء كان في حال صحة
عقله أو حال جنونه، والحكم بسقوط الحد عنه بالجنون الإطباقي إذا لم يدرك
الألم، وتأخيره إلى دور إفاقته في الجنون الأدواري اجتهاد في مقابل النص
الصحيح الصريح.
وكذا لو شرب المسكر ثم ارتد قبل أن يقام عليه الحد فإن ارتداده لا يمنع عن

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 9 من أبواب مقدمات الحدود ح 1.
369

إجراء الحد عليه.
وهذا وإن لم يكن مصرحا به في النصوص إلا أن قوله عليه السلام في
صحيحة أبي عبيدة: أقيم عليه الحد كائنا ما كان، شامل بإطلاقه لارتداده بعد
شربه قبل أن يقام عليه الحد.
في قتل شارب الخمر
قال المحقق: وإذا حد مرتين قتل في الثالثة وهو المروي وقال في الخلاف يقتل
في الرابعة.
أقول: بعد أن علم أن شارب الخمر يحد تصل النوبة إلى أنه لو تكرر منه ذلك
فلا يخلو عن أنه قد أقيم عليه الحد بعد كل مرة أولا.
فعلى الأول فقد وقع الخلاف بين العامة والخاصة في أنه يقتل هذا الشارب أم
لا؟ فذهبت أبناء العامة إلى أنه لا يقتل شاربها وإن تكرر وأجمعوا على ذلك (1)
وأفتى الأصحاب بأنه يقتل. نعم اختلفوا في المرة التي يقتل فيها لو تكرر منه
الشرب مع الحد فالمشهور على أنه يقتل في الثالثة.
لكن قال الشيخ قدس سره في المسألة الأولى من مسائل الأشربة من
الخلاف: من شرب الخمر وجب عليه الحد إذا كان مكلفا بلا خلاف فإن تكرر
ذلك منه وكثر قبل أن يقام عليه الحد أقيم عليه حد واحد بلا خلاف فإن شرب
فحد ثم شرب فحد ثم شرب فحد ثم شرب رابعا قتل عندنا وقال جميع الفقهاء لا
قتل عليه وإنما يقام عليه الحد بالغا ما بلغ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم إلخ.
وقد روى قدس سره هنا أخبارا عنهم منها قوله: وروى أبو هريرة وغيره
أن النبي صلى الله عليه وآله قال: من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه

(1) راجع الفقه على المذاهب الأربع ج 5 ص 26 وهم يقولون بورود الروايات بقتله في الرابعة
إلا أنها نسخت.
370

ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه وفي بعضها فقتلناه واحتردناه.
ثم قال: ومن ادعى نسخ هذا الخبر فعليه الدلالة إلخ. وقد ادعى على قتل
الشارب في الرابعة، إجماع الفرقة وأخبارهم وكلاهما محل الاشكال.
أما الاجماع فلأن القول بالثالثة مشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة على ما
في الجواهر لو لم يكن إجماعيا على ما ادعاه بعض كالسيد ابن زهرة.
اللهم إلا أن يوجه ادعاء الشيخ الاجماع بأن إجماع الفرقة قائمة على جريان
القتل في باب الشرب في قبال العامة المنكرين لذلك مهما تكرر منه الشرب وأقيم
عليه الحد، لا على القتل في الرابعة.
وأما أخبارهم ففيها ما ستطلع عليه من أنه لا خبر يدل على ذلك سوى
مرسلة الصدوق في حين أنه تدل على كون المناط هو المرة الثالثة أخبار كثيرة
صريحة أكثرها صحيحة معتبرة. نعم هناك أخبار عامية تدل على الرابعة.
وقال قدس سره في المبسوط: فإذا ثبت تحريمها فمن شربها كان عليه الحد
قليلا شرب أو كثيرا لقوله عليه السلام: إذا شرب الخمر فاجلدوه، فإذا ثبت هذا
فإن شرب ثم شرب فتكرر هذا منه وكثر قبل أن يقام عليه الحد حد للكل حدا
واحدا لأن حدود الله إذا توالفت تداخلت وإن شرب فحد ثم شرب فحد ثم
شرب فحد ثم شرب رابعا قتل في الرابعة عندنا، وعندهم يضرب أبدا الحد.
انتهى (1). وقد ذهب إلى هذا القول الشيخ الصدوق من قبله في كتاب المقنع (2).

(1) المبسوط ج 8 كتاب الحدود ص 58.
(2) أقول: عبارته في المقنع ص 153 هذه: وإذا شرب الرجل حسوة من خمر جلد ثمانين
جلدة... وإذا شرب الرجل مرة ضرب ثمانين جلدة فإن عاد جلد فإن قتل انتهى. وأنت
ترى أنها صريحة في ما ذهب إليه المشهور اللهم إلا أن يكون في هذه النسخة سقط كما لعله
يشهد له قوله بعد ذلك ص 154: وشارب الخمر إذا كان عبدا جلد مرة فإن عاد جلد حتى
يفعل ثماني مرات ثم يقتل في الثامنة إنتهى. فإن ذلك يقتضي القول بقتل الحر في الرابعة.
371

ومال إليه العلامة (1) وولده السعيد وشيخنا الشهيد قدس الله أسرارهم.
هذا بخلاف القول بقتله في الثالثة فإنه مضافا إلى ذهاب المشهور إليه فقد
ذهب إليه الشيخ بنفسه في كتاب النهاية الذي فتاواه فيه ناظرة إلى الأخبار وكذا
الشيخ الصدوق في كتاب الفقيه.
قال في النهاية: وشارب الخمر إذا أقيم عليه الحد مرتين ثم عاد ثالثة وجب
عليه القتل.
استدل المشهور بالروايات الكثيرة الصريحة المعتبرة فيها عدة روايات
صحاح وقد خرجها في الوسائل في باب عنوانه: باب أن شارب الخمر والنبيذ
ونحوهما يقتل في الثالثة بعد جلد مرتين. إنتهى. فقد ذهب هو أيضا إلى قول
المشهور.
عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله: من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه (2).
وعن يونس عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: أصحاب الكبائر كلها

(1) نسب في الجواهر وبعض الكتب الأخر ميل العلامة إلى هذا القول مع أن عبارته في
القواعد: وإذا حد مرتين قتل في الثالثة وقيل في الرابعة انتهى. وفي التحرير ص 227: فإن
تكرر الحد مرتين قتل في الثالثة وقيل لا يقتل حتى يحد ثلاث مرات فيقتل في الرابعة انتهى
وهذه العبارات ظاهرة في اختياره الثالثة وإنما نقل القول الآخر قولا. ومع ذلك ففي الرياض
عند نسبة القول بالرابعة إلى الصدوق والشيخ: وتبعهما الفاضل في القواعد وولده في الإيضاح
والشهيد في اللمعة.
وقال في الإيضاح عند بيان القول بالثالثة: وهو اختيار والدي في المختلف انتهى.
ويمكن أن يكون استظهار ميل العلامة إلى القول بالرابعة من جهة أنه نقل هذا القول ولم
يتعرض لرده. هذا
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 1.
372

إذا أقيم عليهم الحدود مرتين قتلوا في الثالثة (1).
وعن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه
فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه (2).
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وآله إذا أتي بشارب الخمر ضربه ثم إن أتي به ثانية ضربه ثم إن أتي به ثالثة
ضرب عنقه (3).
وعن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: من شرب الخمر فاجلدوه
فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه (4).
وعن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في شارب الخمر
إذا شرب ضرب فإن عاد ضرب فإن عاد قتل في الثالثة (5) ورواه الشيخ
بإسناده عن أحمد بن محمد عن ابن أبي عمير مثله إلا أنه أسقط: في الثالثة.
وعن زرارة عن أحدهما عليهما السلام في حديث قال: سمعته يقول: من
شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه في الثالثة (6).
وعن الأصبغ أو عن حبة العرني قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام على
منبر الكوفة: من شرب شربة خمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد
فاقتلوه (7).
وعن أبي الصباح الكناني قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: كان النبي صلى

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 2.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 3.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 4.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 5.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 6.
(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 8.
(7) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 10.
373

الله عليه وآله إذا أتي بشارب الخمر ضربه فإن أتي به ثانية ضربه فإن أتي به
ثالثة ضرب عنقه. قلت: النبيذ؟ قال: إذا أخذ شاربه قد انتشى ضرب ثمانين
قلت: أرأيت إن أخذه ثانية؟ قال: اضربه قلت: فإن أخذه ثالثة؟ قال: يقتل
كما يقتل شارب الخمر (1).
وعن هشام بن إبراهيم المشرقي عمن رواه عن أبي عبد الله عليه السلام أنه
قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في قليل النبيذ كما يجلد في قليل الخمر
ويقتل في الثالثة من النبيذ كما يقتل في الثالثة من الخمر (2).
وعن سليمان بن خالد قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلد في النبيذ
المسكر ثمانين كما يضرب في الخمر ويقتل في الثالثة كما يقتل صاحب الخمر (3).
وعن حريز بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا شرب
الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه (4).
وعن قرب الإسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه موسى
بن جعفر عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يزني الزاني
وهو مؤمن، وقال: إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فشرب
الثالثة فاقتلوه (5).
واستدل للقول الآخر وهو قتله في الرابعة بأمور منها: مرسلة الصدوق، ففي
الفقيه: وشارب المسكر خمرا كان أو نبيذا يجلد ثمانين جلدة فإن عاد جلد فإن
عاد قتل وقد روي أنه يقتل في الرابعة (6).

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 11.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 12.
(3) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 13.
(4) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 14.
(5) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 15.
(6) وسائل الشيعة ج 18 ب 11 من أبواب حد المسكر ح 9.
374

ومثلها: قال الكليني: قال جميل: وروي عن بعض أصحابنا أنه يقتل في
الرابعة (1).
قال الكليني قدس سره بعده: قال ابن أبي عمير: كأن المعنى أن يقتل في
الثالثة ومن كان إنما يؤتى به يقتل في الرابعة.
وقال العلامة المجلسي رضوان الله عليه: لعل المعنى إن لم يؤت به إلى الإمام
في الثالثة وأتي به في الرابعة، أو فر في الثالثة وأتي به في الرابعة يقتل في الرابعة،
فقوله: في الرابعة، متعلق بيؤتى به ويقتل، على التنازع انتهى (2).
ومنها: الأولوية فإن فخر المحققين قدس سره بعد أن قوى القتل في الرابعة
قال: لأن الزنا أكبر منه ذنبا ويقتل في الرابعة كما مضى فهنا أولى (3).
ومنها: الاحتياط في الدماء فإنه يقتضي عدم الاقدام على قتله في الثالثة بل
تأخيره إلى الرابعة التي هي المتيقن المعلوم.
وفيه أن شيئا من هذه الوجوه لا تنفع في قبال تلك الأخبار المذكورة.
أما المرسلة فواضح لأن المرسلة ليست بحجة وعلى فرض الحجية لا تقاوم
الأخبار المستفيضة الصحيحة، والمعتبرة المعتضدة بعمل المشهور.
وأما القول بأنها وإن كانت مرسلة ولكن مرسلها الشيخ الصدوق قدس سره
وهو ثقة يعمل بمرسلاته كما يعمل بمسنداته، كما أفاد ذلك العلامة أعلى الله مقامه
في المختلف.
ففيه أنه مهما كان ثقة فأين هذا الخبر وتلك الروايات العديدة المستجمعة
للشرائط ولذا قال المحقق: وهو المروي أي إن القول بقتله في الثالثة مروي
وليس فوق ذلك، وهذا يشعر بأنه لم ير للرواية المخالفة وقعا. وأما الأولوية

(1) الكافي ج 7 ص 218 ب إن شارب الخمر يقتل في الثالثة ح 4.
(2) مرآة العقول ج 23 ص 338.
(3) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ج 4 ص 515.
375

فهي هنا تشبه القياس هذا مع أنه في باب الزنا أيضا يقتل في الثالثة (1) ولا أقل
من أنه محل الكلام والاختلاف. وأما الاحتياط فلا موضع له في قبال النصوص
الصريحة الصحيحة.
وعلى هذا فالترجيح لأخبار الثلاثة، والقول بها هو الأقوى وقد مشى عليه
العلامة أعلى الله مقامه في المختلف فقال: للشيخ قولان في قتل شارب المسكر في
الثالثة أو الرابعة فقال في النهاية: يقتل في الثالثة بعد تكرر الحد عليه مرتين، وبه
قال شيخنا المفيد وابن أبي عقيل وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة وابن
إدريس، الثاني قال في الخلاف والمبسوط: إنه يقتل في الرابعة وهو قول
الصدوق في المقنع، وقال في كتاب من لا يحضره الفقيه: شارب المسكر خمرا كان
أو نبيذا يجلد ثمانين فإن عاد جلد فإن عاد قتل، وقد روي أنه يقتل في الرابعة
والمعتمد الأول. ثم استدل بصحيح أبي عبيدة وصحيح جميل وصحيح يونس
وصحيح أبي الصباح وصحيح سليمان بن خالد، قال: وغير ذلك.
ثم قال: احتج الشيخ بقول الصدوق: وروي أنه يقتل في الرابعة وهو ثقة
يعمل بمرسله كما يعمل بمسنده ولأن الزنا أكثر منه ذنبا مع أنه لا يقتل في الثالثة،
والجواب: المرسل ليس بحجة عند المحققين وقد بيناه في أصول الفقه سلمنا لكن
إذا وجد ما يعارضه من الأحاديث المسندة كان العمل بها أولى خصوصا مع
تعددها وتعاضدها بعضا ببعض ونمنع أن الزاني لا يقتل في الثالثة فقد ذهب
بعضهم إلى ذلك ولو سلمنا كما هو مذهبنا نحن، لكن القياس باطل خصوصا في
الحدود انتهى كلامه رفع مقامه (2).
وأما الجمع بينهما بالتخيير (3) فهو غير صحيح لو كان المراد تخييره في العمل

(1) قد اختار دام ظله في باب الزنا القتل في الرابعة فراجع الدر المنضود ج 1 ص 342.
(2) مختلف الشيعة ص 767.
(3) لم أجد من قال بالتخيير نعم يمكن أن يكون نظره دام ظله إلى ما ذكره في الوسائل عند
نقل مرسلة الصدوق حيث قال: لعله محمول على جواز تأخير الإمام القتل إلى الرابعة
والاكتفاء بالحد مع المصلحة انتهى.
376

استمرارا فيختار مرة الجلد وأخرى القتل، وهذا بمكان من الاشكال للزوم كونه
مختارا في قتل النفس، فمرة يقتل في الثالثة وأخرى في الرابعة، ويقتل أحدا في
الثالثة وآخر في الرابعة ويؤول الأمر إلى أن يقتل وأن لا يقتل مع أنه لو كان جعل
حكم القتل في الرابعة فلا سبيل له إلى ذلك في الثالثة.
اللهم إلا أن يكون المراد تخييره أولا في اختيار واحد منهما، وهو أيضا لا
يخلو من كلام بعد أن الترجيح لأخبار الثلاثة، نعم لا بد أن يكون ذلك على
فرض التعارض والتكافؤ.
ولو قيل بأن المراد من قتله في الرابعة هو ما إذا لم يحد في الثالثة فإنه لا يمنع
عدم إقامة الحد عليه في الثالثة عن قتله في الرابعة.
ففيه أنه خلاف الظاهر لأنه إذا كان مقتضى الروايات الكثيرة المستفيضة قتله
في الثالثة فإذا لم يقتل ولم يحد في الثالثة فلا خصوصية للثالثة كي يحتمل عدم قتله
في الرابعة بل القتل هناك ثابت بالأولوية.
وقد ظهر مما ذكرناه أن ما ذكره ابن أبي عمير بالنسبة إلى المرسلة غير واضح
المراد فإنه لو كان المراد أنه فر مثلا في الثالثة فأتي به إجبارا في الرابعة ففيه أن
هذه الرابعة ليست برابعة بل هي الثالثة، وذلك لأن الملاك لم يكن هو الشرب
وحده بل الشرب مع الجلد، وعلى ما ذكره يقتل في الثالثة وهو خلاف ظاهر
الرواية الناطقة بقتله في الرابعة. وهذا الاشكال وارد على العلامة المجلسي
رضوان الله عليه أيضا في المرآة.
ثم إنه لا يقال إن ذهاب مثل الشيخ في كتابيه الاستدلاليين - الخلاف
والمبسوط - والصدوق أيضا وفخر المحققين في الايضاح والشهيد في اللمعة،
وميل العلامة إلى ذلك كما نسب إليه، وصاحب الرياض وصاحب الجواهر إلى
القول بالرابعة مع كون تلك الروايات المستفيضة بأعينهم وفي أيديهم هل لا
يوجب الوهن فيها؟.
377

أضف إلى هذا نسبة الشهيد الثاني في الروضة القول بالثلاثة إلى الأكثر دون
الكثير (1).
وذلك لأنا نقول: إن الشيخ قد عدل عن ذلك في كتابه الآخر الفتوائي وهو
النهاية كما أن الصدوق لم يفت بذلك في تمام كتبه، والعلامة الذي مال إلى الأربع
في القواعد، اختار في المختلف الثلاثة وقواها فكيف يرد الوهن في الروايات
والحال هذه؟.
ثم لو لم يمكن استظهار المطلب من الروايات ووصلت النوبة إلى الشك وتردد
الأمر بين الجلد والقتل فالأصل يقتضي عدم قتله في الثالثة لأن قتله في الرابعة
متيقن وفي الثالثة مشكوك.
لكن يشكل الأمر من جهة دوران الأمر في الثالثة بين القتل والجلد وذلك لأن
تأخير القتل إلى الرابعة مع جلده في الثالثة أو بدونه، والأمر دائر بين المحذورين
حرمة الجلد بأن يكون الواجب في الواقع هو القتل، ووجوبه بأن يكون حكم
القتل للرابعة فالترديد بين الحرام والواجب فلو كان القتل واجبا لحرم جلده ولو
كان يحرم قتله لكان جلده واجبا فلو جلد لاحتمل حرمته ولو لم يجلد لخلا
شرب الخمر عن الحد والقتل.
هذا كله لو شرب مرارا وجلد بعد كل مرة وتخلل الحد بين المرات فلو لم يكن
كذلك فحكمه هذا:
كفاية حد واحد على من شرب مرارا
قال المحقق: ولو شرب مرارا كفى حد واحد.
يعني لو شرب مكررا ولم يتخلل بينها حد فهنا يكفي حد واحد للجميع. وقد

(1) أورده هذا العبد وقد أجاب دام ظله بما قررناه وكان ذلك في يوم 15 من الشوال سنة 1408 ه‍.
378

ادعى في الرياض والجواهر عدم الخلاف في ذلك.
واستدل كاشف اللثام على ذلك أي أنه لا يحد أكثر من واحد، بالأصل
والعمومات وانتفاء الحرج في الدين. وقد ذكر هذه الأمور في الجواهر أيضا
وأضاف إليها وجها رابعا وهو صدق الشرب وإن تعدد. أما الأصل فواضح.
وأما العمومات فلعل المراد عمومات حرمة الايذاء وقد خرج عنها حده مرة
واحدة بالاجماع، وأما الزائد عليه فمشكوك فيه وأدلة الايذاء وعموماتها تدل
على الحرمة لأن ضربه إيذاء له بلا كلام.
وأما تقريب العمومات بعمومات من شرب الخمر فهو يجلد حيث يستفاد منه
أن من شرب ولو مرات عديدة بلا حد فإن عليه الحد كمن شرب مرة
واحدة (1).
فلا يخلو عن كلام وذلك لأن المقصود بحسب الظاهر هو عموم أفراد الشرب
لا عموم أشخاص الشاربين، وقولنا: من شرب الخمر يجلد، وإن كان عاما إلا
أنه عام أشخاصي ولا عموم بالنسبة للشرب.
وأما انتفاء الحرج في الدين فهو غير تام وذلك لأن أدلة الحرج رافعة للتكليف
إذا لزم فيه الحرج زائدا على أصل التكليف كالوضوء في البرد إذا استلزم الضرر
والمشقة الشديدة ولا يرتفع بها التكاليف التي كانت في حد ذاتها حرجية مثل
باب الحدود.
فاللازم الاعتماد على الدليل فإن استفيد منه تكرار الحد فلا بأس بذلك وليس
تعدد الجلد بأعظم من القتل في موارد وجوبه الذي لا يمكن رفعه بالحرج.
وأما التمسك بصدق الشرب فهو حسن وذلك لصدق الطبيعة بالقليل

(1) أورده هذا العبد وقد أجاب دام ظله بما قررناه، والإنصاف أن تسليم ما أفاده مشكل بل
الظاهر أن المراد أن قولهم: من شرب الخمر يجلد ثمانين، شامل لمن شرب مرة أو مرات بلا
تخلل الحد.
379

والكثير، والمرة والمرات، ومن المعلوم أن الملاك هو طبيعة الشرب وطبيعة الحد
فإذا شرب مرات عديدة صدق أنه أتى بطبيعة الشرب فيكفي طبيعة الحد وهو
الحد الواحد.
واستدل شيخ الطائفة في المبسوط بقوله: لأن حدود الله إذا توالفت
تداخلت (1). والظاهر أن مراده أنه من باب تداخل الأسباب كباب الأحداث
حيث إن الحدث موجب للوضوء فلو تعدد الأحداث لكفى وضوء واحد مثلا
عن جميعها، وكذلك بالنسبة لما ورد: إن أجنبت فاغتسل، فإنه لو أجنب متعددا
بلا تخلل الطهارة لكفى اغتسال واحد.
ثم إن لبعض المعاصرين قدس الله روحه في المقام إشكالا قال: وأما كفاية
حد واحد لو شرب مرارا ولم يحد في الخلال فادعى عدم الخلاف فيها للأصل
والعمومات وانتفاء الحرج وصدق الشرب وإن تعدد.
أقول: هذه الأمور قد تعرضنا لذكرها مع ما يرد عليها.
ثم قال: ولا يخفى الاشكال في ما ذكر حيث إن المعروف تعدد المسببات بتعدد
الأسباب وفي المقام نقول: لو شرب الخمر وثبت ولم يحضر الشارب فعليه الحد،
ثم شرب مرة أخرى مقتضى الأدلة استحقاق حد آخر مع اجتماع الشرائط فعدم
الاستحقاق لحد آخر خلاف الاطلاق إلا أن يكون في المقام إجماع انتهى (2).
أقول: وفيه أن مسألة تعدد المسببات بتعدد الأسباب جارية فيما إذا كانت
الأسباب قابلة للتعدد وكذا المسببات وكان اللفظ بحيث يشمل كل فرد وكل مرة
فإذا كان الموضوع هو كل فرد من الأفراد مثلا فهناك يصح أن كل فرد من
السبب يقتضي مسببا مستقلا ومختصا به.
أما إذا كان الموضوع الطبيعة المحضة فهي لا تتعدد، بل مهما تعددت الأفراد
تكون الطبيعة بحالها ولا تعدد لها كما في باب الأحداث فإن الحدث بطبيعته سبب

(1) المبسوط ج 8 ص 59.
(2) جامع المدارك الطبع الأول ج 7 ص 130.
380

للطهور الذي لا صلاة إلا به وحيث إن الطبيعة - لا الفرد - تكون موضوعا فلا
فرق بين حصول فرد واحد من الحدث أو الأفراد الكثيرة والمتعددة في كفاية
طهور واحد، لأن طبيعة الحدث سبب لطبيعة الطهور وما نحن فيه من هذا
القبيل، يعني أن طبيعة شرب الخمر تكون سببا لطبيعة الحد فلا فرق بين حصول
فرد واحد منها أو عدة أفراد لصدق الطبيعة في كلا الفرضين فتجب طبيعة الحد
الصادقة بفرد واحد منه إلى أن يقام عليه الحد فبعد ذلك لو حصل الطبيعة أيضا
يكون كالأول فلا يتوهم أنه لو كان الموضوع هو الطبيعة المحضة وصرف
الوجود - ولا تعدد لذلك فيلزم الاكتفاء بحد واحد وإن تخلل الحد بينها فإنه بعد
حصول الحد فقد انقطع وزال الحقيقة ويكون حينئذ مبدأ الشروع وذلك بعينه كما
في باب الحدث فإنه إذا اجتمعت عليه أحداث يكفيه طهور واحد، فإذا أتى به
فبعد ذلك يكون مبدأ الأمر فإن حصل بعد ذلك حدث واحد أو أحداث متعددة
يكفيه طهور واحد كالأول.
وهنا وجه سادس يبدو في الذهن ولعله أحسن طرق الاستدلال في المقام
وهو أن المستفاد من نفس الأخبار الواردة الناطقة بحكم الشارب الذي شرب
الخمر بعد أن شرب مرة أخرى وحد عليه أنه لو شرب ولم يحد ثم عاد إلى شربه
فإنه لا يقام عليه أكثر من حد واحد فراجع الأخبار الماضية حيث قد تعرضت
لحكم الشارب أولا وأنه يجلد ثم لحكمه إذا شرب ثانيا بعد أن كان قد جلد وأنه
يجب جلده ثانيا فكأنه قيل: إن شارب الخمر إذا شرب ثم حد ثم شرب يجلد،
والمفهوم منه أنه إذا شرب ولم يحد ثم شرب مرة أخرى فإنه لا يتعدد الجلد وأنه
إذا شرب بلا حد ثم شرب أيضا يجلد حينئذ فيكفي الجلد مرة واحدة، فالسبب
هو الشرب مع الجلد، ولو كان كل شرب سببا لقيل: لو شرب ثم شرب ثم شرب
يحد للأولين ويقتل في الثالث، وبذلك قد علم أن سبب تكرر الحد هو الشرب بعد
الحد دون الشرب بعد الشرب، والعجب من العلماء الأعلام رضوان الله عليهم
أجمعين كيف لم يتمسكوا بهذا الوجه في إثبات المطلوب.
381

ثم إنه بعد أن ثبت كفاية حد واحد ولو أنه شرب مرارا فحينئذ نقول كما في
الجواهر: إنه لا فرق في ذلك بين اتحاد جنس المشروب واختلافه فلا فرق بين أن
يشرب من الخمر مرارا أو أن يشرب الخمر مرة والنبيذ أخرى وهكذا، فما لم
يتخلل الحد يحد على الجميع حد واحد وإن كان قد شرب في كل مرة مسكرا غير
ما شربه في الأخرى، وذلك لأن الحد في كل المسكرات واحد.
وتدل على عدم الفرق روايات أوردها في الوسائل في باب عنوانه: باب
ثبوت الحد على من شرب مسكرا من أي الأنواع كان:
عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل مسكر من
الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحد (1).
وعن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: في كتاب علي
عليه السلام: يضرب شارب الخمر وشارب المسكر، قلت: كم؟ قال: حدهما
واحد (2).
شهادة أحدهما بشرب الخمر والآخر بقيئها
قال المحقق: الثالث في أحكامه وهي مسائل: الأولى لو شهد واحد بشربها
وآخر بقيئها وجب الحد.
أقول: إن شهادة أحدهما بالشرب شهادة به مطابقية، وشهادة الآخر بالقئ
شهادة به التزامية فكلاهما قد شهدا بالشرب، غاية الأمر أن أحدهما بالدلالة
المطابقية والأخرى بالدلالة الالتزامية.
نعم يشترط في الاكتفاء بهما كونهما بحيث تتعلقان بواقعة واحدة بأن كانتا غير
مؤرختين أو مؤرختين بما أمكن معه الاتحاد فلو شهد أحدهما أنه شربها يوم

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المسكر ح 1.
(2) وسائل الشيعة ج 18 ب 7 من أبواب حد المسكر ح 2.
382

الجمعة والآخر أنه قائها بعد ذلك أو قبله بأيام لم يحد لاختلاف الفعل ولم يقم على
كل فعل شاهدان، وإنما قام على كل واحد من الفعلين شاهد واحد.
ثم إن الحكم بالاجتزاء بهما هو المشهور بل عن السرائر والتنقيح وظاهر
الخلاف الاجماع عليه. كذا في الجواهر.
ومستند الحكم رواية الحسين بن زيد التي رواها المشايخ الثلاثة المنجبر
ضعفها بعمل المشهور.
فعن الحسين ابن زيد عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: أتي عمر بن
الخطاب بقدامة بن مظعون وقد شرب الخمر فشهد عليه رجلان أحدهما خصي
وهو عمرو التميمي والآخر المعلى بن الجارود فشهد أحدهما أنه رآه يشرب
وشهد الآخر أنه رآه يقي الخمر فأرسل عمر إلى ناس من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله فيهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال لأمير المؤمنين عليه
السلام: ما تقول يا أبا الحسن فإنك الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله:
أنت أعلم هذه الأمة وأقضاها بالحق، فإن هذين قد اختلفا في شهادتهما قال: ما
اختلفا في شهادتهما وما قاءها حتى شربها (1).
إذا شهد كلاهما بقيئه للخمر
كان الكلام في الفرع السابق فيما إذا شهد أحدهما بالشرب والآخر بالقئ،
وهنا في أنه لو شهد كل منهما بقيئه للخمر، وربما يستفاد حكمه من الفرع السابق
وذلك لعموم العلة ولذا:
قال المحقق: ويلزم على ذلك وجوب الحد لو شهدا بقيئها نظرا إلى التعليل
المروي وفيه تردد لاحتمال الاكراه على بعد ولعل هذا الاحتمال يندفع بأنه لو كان
واقعا لدفع به عن نفسه أما لو ادعاه حد.

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 14 من أبواب حد المسكر ح 1.
383

أقول: ووجه اتحاد الحكم أولا: عرفية المطلب فإن بطنه ليس مصنعا
للشراب كي يولده.
وثانيا: عموم التعليل فإنه إذا قال: ما قاءها حتى شربها، لا يختص بما إذا
شهد واحد منهما بقيئه كما هو مورد الرواية بل يشمل ما إذا شهد كلاهما بذلك
فإن القئ للخمر يستلزم شربه.
ولكن تردد في ذلك جماعة من العلماء منهم المحقق في المقام والعلامة في
القواعد والسيد الجليل ابن طاوس قدس الله أرواحهم. وذلك لأن السبب هو
الشرب اختيارا، والقئ لا يدل عليه لامكان الاكراه (1).
وبعبارة أخرى إن الشهادة على الشرب قد تحققت بالشهادة بالقئ ولا
نقصان في البين من هذه الجهة إلا أنه ليس من قبيل الشهادة على الشرب اختيارا
الموجب للحد.
وفيه أنه إذا سلم أن الشهادة بالقئ شهادة بالشرب فتكون في حكمها وهل

(1) واختار فخر الدين في الإيضاح عدم الحد مستدلا بأن النص إنما ورد في صورة مخصوصة
والأصل براءة الذمة، ولقوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات، قال الله: وهو
الأقوى عندي انتهى.
ثم لا يخفى عليك أن العلامة استشكل في كلتا الصورتين لا في الثانية وحدها فقال: لو شهد
أحدهما بالشرب والآخر بالقئ حد على إشكال لما روي أنه ما قاء إلا وقد شرب ولو شهدا
بالقئ حد للتعليل على إشكال انتهى. وهكذا السيد ابن طاوس كما يظهر من المسالك حيث
ذكر أن الأصل في المسألة رواية الحسين بن زيد عن أبي عبد الله عليه السلام إن عليا عليه
السلام جلد الوليد بن عقبة لما شهد عليه واحد بشربها وآخر بقيئها وقال: ما قاءها إلا وقد
شربها قال: وعليها فتوى الأصحاب ليس فيهم مخالف صريحا إلا أن طريق الرواية ضعيف
لأن فيه موسى بن جعفر البغدادي وهو مجهول الحال، وجعفر بن يحيى وهو مجهول العين
وعبد الله بن عبد الرحمان وهو مشترك بين الثقة والضعيف، ولذلك قال السيد جمال الدين بن
طاوس قدس سره في الملاذ: لا أضمن درك طريقه، وهو مشعر بتردده. انتهى.
384

كان يجري هذا الاحتمال فيما إذا كانت الشهادة منهما على شربه؟ فكيف تحمل
الشهادة بالشرب، على شربه له اختيارا ويجري في الشهادة بالقئ. احتمال
الاكراه.
هذا مضافا إلى ما ذكره المحقق من لزوم الدفاع عن نفسه لو كان مكرها، وإلى
أن الأصل عدم الاكراه.
وقد يشكل بأن ذلك ليس بأزيد من الظهور وهو غير كاف في إثبات الحدود
لأنه لا يدفع الشبهة الدارئة للحد.
وفيه أولا أن ذلك اجتهاد في مقابل النص.
وثانيا إن الاختيار في الأفعال الإرادية أصل عقلائي معمول به في جميع
المقاصد ولا يعبأ باحتمال الاكراه.
لا يقال: إنه فرق بين الشهادة على الشرب المحمول على الاختيار والشهادة
بالقئ الذي يحتمل فيه الاكراه، وذلك لأن قذف الباطن الخمر أمارة على عدم
ملائمة الباطن له كما ترى أن الانسان إذا أكل طعاما لا يلائم طبعه أو شرب شرابا
ومايعا لا يناسب مزاجه فإن مزاجه لا يقبله بل يقذفه ولا يجذب إلى بدنه فلذا
يقئ فيكون القئ أمارة نوعية على أنه لم يشربه بميله واختياره واشتهاءه له وإنما
شربه بإكراه الغير له على هذا الذي لا يلائم طبعه، ولو كان قد شربه باختياره
واشتهاءه لما قاءه واستفرغه كما في كل مورد يأكل الانسان أو يشرب ما يحبه
ويلائم طبعه، وعلى هذا فيقتصر في الحكم على مورد النص لشهرته ويحكم
بالحد فيه، ويقال في الفرض الأخير بعدم الحد للشبهة (1)
لأنا نقول: لا أمارية لذلك فربما يستفرغ ويقئ لكثرة شربه منه أو لغير ذلك
فكيف يحمل على أنه شربه من غير اختيار وعلى كره منه.
ومن نظر بعين الانصاف يرى أن كون التعليل من باب التعبد المحض حتى
يقتصر في الحكم على الفرض الأول بعيد جدا بل هو علة في الحكم يدور معه

(1) أورده هذا العبد وأجاب دام ظله بما قررناه في المتن وكان يوم 19 شوال سنة 1408 - ه‍.
385

حيثما دار وعلى هذا فلا فرق بين الفرضيين في الحكم بوجوب الحد.
نعم لو ادعى هو بنفسه أنه أكره على ذلك قبل منه ويدرء عنه الحد بذلك.
المسألة الثانية في مستحل الخمر
قال المحقق: الثانية من شرب الخمر مستحلا استتيب فإن تاب أقيم عليه الحد
فإن امتنع قتل وقيل يكون حكمه حكم المرتد وهو قوي.
أقول: كان البحث في المسألة السابقة في مجرد شرب الخمر وفي هذه المسألة في
شربه وهو يرى ذلك حلالا. وفيه قولان:
أحدهما: أنه يطالب بالتوبة ويؤمر بها ولا يخلو الأمر عن أنه إما أن يقبل ذلك
ويتوب أو أنه يردها ويمتنع عنها فعلى الأول يقام عليه الحد فقط ولا يقتل بل
يخلى سبيله، وعلى الثاني يحد أولا ثم يقتل. وقد نسب في الجواهر هذا القول إلى
المقنعة والنهاية والجامع، وفي المسالك إلى الشيخين وأتباعهما.
ثانيهما: أنه محكوم بحكم المرتد ذهب إليه التقي الحلبي، والحلي والمتأخرون
وقواه المحقق في الشرايع على ما رأيت (1).
وقد استدل للأول بوجهين:
الأول: إمكان عروض الشبهة عليه فاستحله لذلك، والحدود تدرء
بالشبهات.
الثاني: خبر ابن مظعون الذي رواه في الارشاد وهو: أن قدامة بن مظعون قد
شرب الخمر فأراد عمر أن يحده فقال له قدامة: إنه لا يجب علي الحد لأن الله
تعالى يقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما
اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات)، فدرأ عمر عنه الحد فبلغ ذلك أمير المؤمنين

(1) كما أنه قال في النافع: وهو قوي متين انتهى. وقال العلامة في الإرشاد: والأقوى الحكم
بارتداد من استحل شرب الخمر فيقتل من غير توبة إن كان عن فطرة.
386

عليه السلام فمشى إلى عمر فقال له: لم تركت الحد على قدامة في شرب الخمر؟
فقال: إنه تلا علي الآية، وتلاها عمر فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ليس
قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرم الله تعالى إن
الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلون حراما فاردد قدامة واستتبه مما
قال، فإن تاب فأقم عليه الحد وإن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملة، فاستيقظ
عمر لذلك وعرف قدامة الخبر فأظهر التوبة والاقلاع فدرأ عمر عنه القتل ولم
يدر كيف يحده، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام: أشر علي في حده فقال: حده
ثمانين إن شارب الخمر إذا شربها سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فجلده
عمر ثمانين وصار إلى قوله في ذلك (1)
ويظهر منه أن قدامة كان قد فهم واستفاد من الآية الكريمة الاطلاق وأنه إذا
آمن بالله وعمل الصالحات فلا بأس عليه فيما طعم وإن كان خمرا وبذلك فقد درأ
عمر عنه الحد لكن الإمام عليه السلام قال بأنه ليس من أهل الآية أي: المؤمنين
العاملين الصالحات فإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلون حراما،
فأمر عليه السلام برده والاستتابة منه فيقام عليه الحد مع التوبة ويقتل مع
عدمها، ولا بد أن يكون ذلك بعد إثبات شربه فلم يكن ينفع التوبة في رفع الحد
عنه.
واستدل للقول الثاني بأن حرمة شرب الخمر من ضروري الدين لا شبهة
فيها وقد أجمع عليها المسلمون، ومنكر الضروري مرتد يترتب عليه أحكامه
من الفرق بين الفطري والملي والرجل والمرأة ومن جملة تلك الأحكام أنه لو كان
فطريا يقتل. إلى غير ذلك من الأحكام.
وأجيب عن الوجهين اللذين استدل بهما القائل بالاستتابة أما عن احتمال
الشبهة فبأنه جار في غيره من الضروري المتفق على تحقق الكفر بإنكاره نصا
وفتوى.

(1) الإرشاد ص 97 والآية 93 من سورة المائدة.
387

وعن قصة ابن مظعون فبقولهم: لعله لم يكن مرتدا فطريا بل كان مليا.
ثم إن الشهيد الثاني اختار في المسالك القول الثاني أعني كونه مرتدا فقال بعد
ذكر القول بالاستتابة: والأصح ما اختاره المصنف والمتأخرون ومنهم ابن
إدريس من كونه مرتدا ينقسم إلى الفطري والملي كغيره من المرتدين لأن تحريم
الخمر مما قد علم ضرورة من دين الاسلام وكل ما كان كذلك فمستحله كافر وهو
يستلزم المدعى. ثم قال: هذا إذا لم يمكن الشبهة في حقه لقرب عهده بالاسلام
ونحوه وإلا اتجه قول الشيخين وعليه تحمل استتابة قدامة بن مظعون وغيره ممن
استحلها في صدر الاسلام بالتأويل. فاختار رحمه الله قول المحقق إذا لم يحتمل
الشبهة في حقه فلو أمكنت ذلك في حقه لقرب عهده بالاسلام أو لبعد بلاده عن
بلاد الاسلام فهناك اتجه قول الشيخين أي وجوب الاستتابة لا الحكم بالارتداد
وعليه تحمل قصة قدامة وغيره..
وأورد عليه صاحب الجواهر قدس سره بقوله: وفيه أن قول الشيخين لا
يوافق مستحل الضروري للشبهة المزبورة المخرجة له عن الضرورة في حقه بل
المسقطة عنه الحد.
وفيه أنه لو كان كلام الشيخ المفيد قابلا لذلك ولكن كلام الشيخ الطوسي في
النهاية صريح في أنه لو شرب مستحلا استتيب وإن كان ذلك للشبهة. وهذا
الكلام هو ما أفاده الشهيد الثاني.
هل يقتل مستحل سائر المسكرات؟
قال المحقق: وأما سائر المسكرات فلا يقتل مستحلها لتحقق الخلاف بين
المسلمين فيها ويقام الحد مع شربها مستحلا ومحرما.
أقول: كلامه هنا مجمل وكذا كلمات كثير منهم في المقام، فإنه لم يبين المراد من
المستحل لسائر المسكرات وأنه هل يستحله وهو عالم بالحرمة أو مع عدم العلم
بها فعلى الأول أي ما إذا استحله عالما بحرمته وبانيا على الحل فيلزم الارتداد
388

وتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المترتب عليه القتل إذا كان عن فطرة،
أو أن المراد استحلاله قاطعا بالحل فلا شئ عليه حتى الحد لكونه جاهلا فكيف
يقول بلزوم الحد عليه مطلقا؟ بل قال في الرياض بعد تصريح المحقق في النافع
بأنه لا يقتل مستحل شرب غير الخمر بل يحد بشربه مستحلا له أو محرما: قولا
واحدا انتهى. وكذا قال في الجواهر: قولا واحدا كما في الرياض وإن لم يكفر
المستحل.
وكيف كان فقد خالف الحلبي فحكم بكفر شارب الفقاع مستحلا وأوجب
قتله. وضعفه في الجواهر قائلا: وهو واضح الضعف بعد أن لم تكن حرمته
ضرورية فهو حينئذ كغيره من المسكر غير الخمر في عدم الكفر.
كما أن الشهيد الثاني في المسالك - بعد أن حكم بأنه لا يقتل مستحل غير
الخمر من المسكرات كالفقاع وإن وجب حده وذلك لوقوع الخلاف فيها بين
المسلمين وتحليل بعضهم إياها فيكون ذلك كافيا في انتفاء الكفر في استحلالها -
قال: ولا فرق بين كون الشارب لها ممن يعتقد إباحتها كالحنفي وغيره فيحد
عليها ولا يكفر لأن الكفر مختص بما وقع عليه الاجماع وثبت حكمه ضرورة من
دين الاسلام وهو منتف في غير الخمر. انتهى.
كما أن صاحب الرياض بعد كلامه السابق وتصريحه بحد المستحل لغير الخمر
وعدم قتله وادعاء الاجماع عليه قال: لوقوع الخلاف فيها بين المسلمين.
وفي القواعد وكشف اللثام مزجا: ويحد الحنفي إذا شرب النبيذ وإن قل وإن
استحله فإن الحد لله، والنصوص أطلقت بحد الشارب.
وفيه أن إطلاقها بالنسبة لحال الجهل مشكل، وكيف تشمل الجاهل، وكيف
يجوز إجراء الحد على الجاهل وهو معذور لجهله.
وفي الجواهر بعد كلام هذين العلمين: قلت: لا فرق في الكفر بين إنكار
الضروري وغيره من المقطوع به مع فرض أن المنكر قاطع به ضرورة اقتضائه
تكذيب النبي صلى الله عليه وآله.
389

ثم قال: نعم يفرق بينهما بالنسبة إلى الحكم بكفر المنكر مع العلم بالحال فمنكر
الضروري وهو من أهل الضرورة محكوم بكفره بإنكاره، بخلاف غيره لاحتمال
عدم القطع به عنده بل المتجه عدم الحد عليه بذلك لعدم العلم بالحرمة عند
الشارب أو العلم بعدمها، والفرض معذوريته لكون المسألة غير ضرورية حتى
لو كانت قطعية لكنها نظرية (1)
المسألة الثالثة: حكم من باع الخمر مستحلا وغير مستحل
قال المحقق: من باع الخمر مستحلا يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن لم يكن
مستحلا عزر وما سواه لا يقتل وإن لم يتب، بل يؤدب.
أقول: البيع ليس كالشرب في وضوح الحكم فلذا أفتى في بايع الخمر مستحلا
بأنه يستتاب من أول الأمر فإن تاب فهو وإلا قتل في حين أن شربه مستحلا
يوجب الارتداد على ما قواه.
والسر في هذا الفرق هو أنه يمكن أن يكون بيعه لمنفعة خاصة محللة لا للشرب
وإن كان مجرد ترتب انتفاع محلل عليه لا يوجب الحكم بحلية البيع ما لم يكن جهة
الحلال من المنافع المتعارفة المعتنى بها.
وللشهيد الثاني في المسالك كلام بشرح العبارة. قال: بيع الخمر ليس حكمه
كشربه فإن الشرب هو المعلوم تحريمه من دين الاسلام كما ذكر، وأما مجرد البيع
فليس تحريمه معلوما ضرورة وقد يقع فيه الشبهة من حيث إنه يسوغ تناوله على
بعض وجوه الضرورات كما سلف، فيعزر فاعله ويستتاب إن فعله مستحلا فإن
تاب قبل منه وإن أصر على استحلاله قتل حدا، وكأنه موضع وفاق، وما وقفت
على نص يقتضيه، وأما بيع غيره من الأشربة فلا إشكال في عدم استحقاق
فاعله القتل مطلقا لقيام الشبهة.

(1) جواهر الكلام ج 41 ص 466.
390

وفيه أنه قد أفتى بقتله إن أصر على استحلاله بعد الاستتابة والحال أن المسألة
نظرية فضلا عما إذا كان حلالا عنده.
ثم إنه قدس سره قال: قتل حدا، لكن في كشف اللثام اقتصر على حكمه
بالقتل والتعليل عليه بقوله: لارتداده، وليس في كلامه ذكر عن الحد. ويحتمل
أن يكون مرادهما واحدا.
وقال العلامة في القواعد: ولو شرب الخمر مستحلا فهو مرتد وقيل يستتاب
فإن تاب أقيم عليه الحد وإن امتنع قتل أما باقي المسكرات فلا يقتل مستحلها
للخلاف بين المسلمين بل يقام الحد عليه مع الشرب مستحلا أو محرما وكذا
الفقاع، ولو باع الخمر مستحلا استتيب فإن تاب وإلا قتل، ولو باع محرما له
عزر، وما عدا الخمر من المسكرات والفقاع إذا باعه مستحلا لا يقتل وإن لم يتب
بل يؤدب انتهى.
وقال في الارشاد: والأقوى الحكم بارتداد من استحل شرب الخمر فيقتل
من غير توبة إن كان عن فطرة ولا يقتل مستحل غيره بل يحد، وبايع الخمر
مستحلا يستتاب فإن رجع وإلا قتل ويعزر لو لم يستحل وما عداه يعزر وإن
استحله ولم يتب انتهى.
وفي كشف اللثام (بشرح عبارة القواعد): ولو باع الخمر مستحلا لبيعه
استتيب فإن حرمته ليست من الضروريات فإن تاب وإلا قتل لارتداده كذا
ذكره الشيخان وغيرهما، والتحقيق أنه إن استحله مع اعترافه بحرمته في
الشريعة فهو مرتد حكمه حكم غيره من المرتدين، وإلا عرف ذلك فإن تاب
وإلا قتل وكذا الحكم في كل من أنكر مجمعا عليه بين المسلمين فإن إنكاره ارتداد
مع العلم بالحال لا بدونه بلا فرق بين شئ وشئ وكذا من أنكر شيئا مع علمه أو
زعمه أنه في الشريعة على خلاف ذلك، وإن لم يكن مجمعا عليه فإنه تكذيب
للنبي صلى الله عليه وآله في علمه أو زعمه ولعل نظره إلى أن الشبهة في البيع
أظهر وأكثر منها في الشرب، ولو باع محرما له عزر، وما عدا الخمر من
391

المسكرات والفقاع إذا باعه مستحلا لا يقتل وإن لم يتب بل يؤدب لعدم الاجماع
من المسلمين على حرمته وفي تأديبه مع كونه من أهل الخلاف نظر انتهى.
وتبعه على النظر المزبور في الرياض حيث قال في بيع ما سوى الخمر من
الأشربة أنه لا يقتل وإن لم يتب لعدم إجماع المسلمين على حرمته فلا يحكم بكفر
مستحله الموجب لقتله ثم قال: نعم قالوا يعزر لفعله المحرم وهو حسن إن كان
ممن يعتقد التحريم وإلا ففيه نظر وفاقا لبعض من تأخر حيث قال: وفي تأديبه
مع كونه من أهل الخلاف نظر. انتهى.
ولكن لا يخفى عليك أن مقتضى النظر المزبور عدم الحد أيضا في مفروض
المسألة السابقة، بل وعدم التعزير في غيره أيضا مع فرض عدم العلم بالتحريم
بل وعدم الارتداد مع فرض عدم كونه ضروريا ولا قطعيا عنده أن الشريعة
تقتضي حرمته فإن المفروض كونه معذورا في الفرض المزبور، ولو لأن المسألة
نظرية وبالجملة لا يخلو كلامهم في هذه المسألة من نظر.
قال الأردبيلي قدس سره بشرح ما مضى من عبارة الارشاد: قد اختلف في
أن مستحل شرب الخمر كافر ومرتد أم لا؟ فقال به بعض الأصحاب لأن تحريمه
مجمع عليه الأمة ومن ضروريات الدين فيكون المسلم المنكر له مرتدا فإن كان
فطريا يقتل من غير استتابة وإن كان مليا أي غير فطري يستتاب فإن تاب وإلا
قتل ولم يذكره المصنف لظهوره ولأنه يعلم من قوله: فإن رجع إلخ وسيجئ
تفصيل حكم المرتد ونقل عن الشيخين وأتباعهما عدم الحكم بارتداد من
استحل شرب الخمر بل قالوا إنه يستتاب مطلقا فالشارب يحد عندهم مطلقا فإن
كان مستحلا يستتاب فإن تاب فالحد فقط وإلا فالقتل على ما تقرر من قتل من
يستحل محرما بعد العلم به ودليلهم الأصل وأنه ما صار ضروريا بحيث يعرفه
كل أحد ولم يمكن الجهل به فإن كثيرا من أهل القرى يعتقدون حله، فيمكن في
حق من أنكر تحريمه ذلك فلا يحكم بارتداده لذلك، والحق أن يقال إن كان المنكر
ممن أمكن في حقه عدم علمه بتحريمه، وإن كان بعيدا يقبل للاحتياط والدرء
392

والأصل ولبعد إنكار من هو عليه شعار المسلمين، وعلى ظاهر الاسلام ينكر ما
علم تحريم شئ في شرع الاسلام بل لا يمكن ذلك حقيقة بل بحسب الظاهر أو
الخروج عن الاسلام وعدم الاعتقاد بحقيقته فمهما أمكن حمله على الامكان
والصحة، وإن كان بعيدا يحمل عليه فلا يكفر ولا يقتل، وإن لم يمكن مثل أن
يكون رجلا من أهل العلم والمعرفة بأحكام المسلمين وكتاب الله والأخبار
فيحكم بارتداده وكفره، ويجري عليه أحكام المرتد التي ستجئ، لأنه علم من
حاله ثبوت التحريم في الشرع فإنكاره إنكار الشرع ورده وعدم القول به فلا
شك في كفره، وهو ظاهر ويمكن الجمع بين القولين فتأمل.
ثم إن ما أفاده من إمكان الجمع بين كلام الشيخين وسائر العلماء بأن يقال إنه
يقتل إذا كان عالما لا مطلقا خلاف الظاهر فإن ظاهر كلامهما أنهما يقولان
بالاستتابة مطلقا لا أنه إذا كان عالما يقتل.
المسألة الرابعة في توبة الشارب قبل قيام البينة وبعدها....
قال المحقق: إذا تاب قبل قيام البينة سقط الحد وإن تاب بعدها لم يسقط ولو
كان ثبوت الحد بإقراره كان الإمام مخيرا بين العفو والاستيفاء ومنهم من منع
التخيير وحتم الاستيفاء هنا وهو الأظهر.
أقول: هنا أحكام: أحدها: أنه إذا تاب شارب الخمر قبل قيام البينة على
شربه سقط عنه الحد اتفاقا كما في كشف اللثام وبلا خلاف كما في الجواهر.
ويدل على ذلك مرسل جميل: في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى فلم يعلم
بذلك منه ولم يؤخذ حتى تاب وصلح قال: إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم
عليه الحد (1).
ثانيها: ما إذا تاب بعد قيام البينة عليه بذلك. وفيه قولان:

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 16 من أبواب مقدمات الحدود ح 3.
393

الأول ما ذهب إليه المشهور وهو أنه لا يسقط عنه الحد الثابت بالبينة كما هو
مقتضى مرسل جميل.
الثاني ما قاله الحلبيان - ابن زهرة وأبو الصلاح - فقالوا بتخيير الإمام بين
الاجراء والعفو.
وفيه ما مر سابقا فراجع (1).
ثالثها: ما لو تاب قبل إثبات شربه بإقراره عند الحاكم فيسقط الحد عنه قطعا
وبلا كلام ويشمله إطلاق رواية جميل.
رابعها: ما إذا تاب لكن بعد إثبات ذلك بالاقرار عند الحاكم وفيه القولان:
أحدهما أنه يتخير الإمام بين العفو والاستيفاء وهو المشهور.
ثانيهما لزوم الاستيفاء كما استظهر ذلك المحقق قدس سره وقد ذهب إليه
الشيخ في الخلاف والمبسوط، وابن إدريس، وجعله الشهيد الثاني في المسالك
أقوى.
واستدل في المسالك للأول بقوله: لاسقاط التوبة تحتم أقوى العقوبتين وهو
الرجم فلأن يسقط تحتم أضعفهما أولى. ذهب إلى ذلك الشيخ في النهاية وأتباعه
والعلامة في المختلف.
توضيح الأولوية أن التوبة بعد ثبوت الزنا بالاقرار توجب سقوط حتمية
الرجم الذي هو أعظم من الجلد فكيف لا توجب التوبة بعد ثبوت الشرب
بالاقرار سقوط حده بل هو أولى بالسقوط منه.
واستدل على لزوم الاستيفاء بأن الحد قد ثبت بالاقرار فيستصحب إلى أن
يثبت دليل صالح للاسقاط، ولأن التوبة موضع تهمة.
وقد أجيب عن استدلال الأولوية بوجود الفارق بين الرجم وغيره وذلك
لاستلزام الرجم تلف النفس بخلاف الجلد ومن المعلوم اهتمام الشارع بحفظ
النفوس ما لا يهتم بغيره فيمكن أن يرفع حكم الرجم وإتلاف النفس بالتوبة بعد

(1) راجع الدر المنضود ج 1 ص 243.
394

أن ثبت عمله بإقراره ومع ذلك لا يرفع الحكم بجلده للشرب بالتوبة بعد إقراره،
ورفع الأول لا يلازم رفع الثاني أصلا.
وفي الجواهر عند قول المحقق بأن القول بتحتم الاستيفاء هو الأظهر: بناءا
على أنه لا خيار هناك إلا في الرجم ضرورة عدم إيجاب الشرب غير الجلد الذي
يقتضي الاستصحاب بقاءه ولا يقطعه القياس على الاقرار بما يوجب القتل
والرجم بعد بطلانه عندنا وكونه مع الفارق ومن هنا قواه في محكي التحرير.
ثم قال: ولكن قد تقدم سابقا ما يعلم منه النظر في ذلك وأنه مخير في الرجم
والجلد فيتضح حينئذ وجه الأولوية في المقام من الجلد في الزناء الذي هو أعظم
وجلده أكثر، مضافا إلى غيرها من التعليل في بعض النصوص ونحوه فلاحظ
وتأمل انتهى.
أقول: لعل القول الأول هو الأصح وذلك لأنه وإن أمكن تقرير الأولوية
على النحو الذي أفاده في المسالك فتفيد القول الثاني وهو تخيير الإمام بين العفو
والاستيفاء بأن يقال: التوبة تسقط تحتم أقوى العقوبتين وهو الرجم فلأن تسقط
تحتم أضعفهما أولى.
إلا أنه يمكن تقريرها بنحو تفيد العكس فيقال: لا طاقة لكثير من الناس في
باب الزنا وعن الشهوات الغريزية إذا فيمكن أن يرفع الحكم بالرجم بالتوبة بعد
الاقرار وهو لا يدل على رفع الحكم بالجلد في باب الشرب الذي ليس كباب
الزنا بل يسهل الاجتناب عنه لكثير من الناس وليس بحيث لا طاقة لهم عنه كما
هو واضح (1).

(1) أقول القسم الأخير من هذا البحث أي تقرير الأولوية بهذا البيان منه دام ظله لكن في
خارج مجلس الدرس.
395

تتمة تشتمل على مسائل
الأولى فيمن استحل شيئا من المحرمات المجمع عليها.
قال المحقق: من استحل شيئا من المحرمات المجمع عليها كالميتة والدم
والربا ولحم الخنزير ممن ولد على الفطرة يقتل ولو ارتكب ذلك لا مستحلا عزر.
قد تقدم أنه لو أنكر الضروري فهو مرتد وله أحكامه. والكلام الآن فيمن
استحل ما هو ليس من الضروري لكنه كان مجمعا عليه بين المسلمين. وليعلم أنه
أيضا كذلك فإذا ارتكب المسلم الحرام المجمع عليه فهو مرتد فطري يقتل
للارتداد، وإن تاب عن ارتداده وذلك لأنه بمقتضى كونه مجمعا عليه بين جميع
فرق المسلمين فهو معلوم ومسلم عندهم، واستحلاله تكذيب للنبي الأعظم
صلى الله عليه وآله وسلم.
نعم يعتبر في قتله الشرائط المخصوصة مثل أن يكون رجلا وغير ذلك وقد
نسب ذلك أي كفره وارتداده في المسالك، إلى مقتضى عبارة كثير من
الأصحاب كما في الجواهر أيضا.
لكن أورد عليه في الأول بأن حجية الاجماع ظنية لا قطعية ومن ثم اختلف
فيها وفي جهتها ونحن لا نكفر من رد أصل الاجماع فكيف نكفر من رد مدلوله
فالأصح اعتبار القيد الآخر (أي كون ثبوته ضروريا).
وفيه أن رد الاجماع غير رد المدلول فلو كان عالما بتحقق الاجماع على شئ
بين المسلمين فهذا الحكم ظاهر عنده ومعلوم له وكان هو كالمعلوم بالضرورة في
المناط الموجب للارتداد ويؤول ذلك إلى إنكار صاحب الشرع وتكذيب النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وإنما الفرق بين الضروري والمجمع عليه في أن كون
396

شئ ضروريا بنفسه كاف في الحكم بالارتداد بعد أن كان المستحل من أهل
هذه الملة والنحلة وقد نشأ في الجو الديني والاسلامي بخلاف المجمع عليه حيث
إنه لا يحكم عليه بالكفر والارتداد بمجرد استحلاله وذلك لاحتمال عدم تحققه
الاجماع عليه.
هذا كله في ضروري الدين والجمع عليه بين المسلمين وأما ضروري المذهب
فالظاهر أنه أيضا كضروري الدين كما صرح بذلك في الجواهر وذلك لتحقق
المناط أي لزوم التكذيب (1).
وأما مخالف المجمع عليه بين الأصحاب خاصة ففي المسالك: فلا يكفر قطعا
وإن كان ذلك عندهم حجة فما كل من خالف حجة يكفر خصوصا الحجة
الاجتهادية الخفية جدا كهذه. (قال:) وقد أغرب الشيخ رحمه الله حيث حكم في
بعض المسائل بكفر مستحل ما أجمع عليه الأصحاب وقد تقدم بعضه في باب
الأطعمة والأشربة ولا شبهة في فساده إلى آخر كلامه.
لكن في الجواهر بعد التصريح بجريان الحكم في ضروري المذهب أيضا قال:
بل والمجمع عليه بينهم ممن كان تحقق عنده الاجماع المزبور على وجه يدخل فيه
المعصوم عليه السلام ضرورة اقتضاء إنكاره رد قول من اعتقد بعصمته بل
وقول الله كما هو واضح انتهى.
أقول: وهذا هو الحق بعد أن المفروض هو علمه بكونه مسلما في المذهب.
هذا كله في صورة الاستحلال وأما لو ارتكب بدون ذلك فعند المحقق أنه
يعزر وقد مر بعض الكلام منا في التعزير فيما مضى فراجع.
وفي المسالك: ولو ارتكب ذلك غير مستحل عزر إن لم يكن الفعل موجبا

(1) كأنه دام ظله العالي قد عدل عما أفاده في سالف الزمان في الطهارة على حسب ما نقلناه
عنه في نتائج الأفكار ص 178 فراجع، كما وإن صاحب الجواهر قدس سره الذي صرح في
الجواهر ج 41 ص 469 وكذا في ص 602 بكفر منكر ضروري المذهب قد استشكل في ذلك في ص 442 فراجع.
397

للحد وإلا دخل التعزير في ضمنه.
المسألة الثانية: فيمن قتل بالحد أو التعزير
قال المحقق: من قتله الحد أو التعزير فلا دية له وقيل تجب على بيت المال
والأول مروي.
أقول: في المسألة قولان: أحدهما أنه لا دية له وفي المسالك: عدم ثبوت الدية
على التقديرين هو الأظهر انتهى. وفي الجواهر: على المشهور، وعن الشيخ وإن
ضرب في غاية الحر والبرد وهو مذهبنا لأن تحري خلافهما مستحب انتهى. وقد
استدل على ذلك بأمور على ما في المسالك:
منها: أنه فعل سائغ أو واجب فلا يتعقبه الضمان.
ومنها أن الإمام محسن في امتثال أوامر الله تعالى وإقامة حدوده، وقد قال
الله تعالى: (وما على المحسنين من سبيل) (1).
ومنها حسنة الحلبي عن الصادق عليه السلام أنه قال: أيما رجل قتله الحد أو
القصاص فلا دية له (2).
فإن أي من صيغ العموم وكذا الحد عند من جعل المفرد المعرف للعموم من
الأصوليين.
أقول: وهنا وجه آخر قد يتمسك به وهو أصل البراءة فإنه يقتضي أن لا
يكون عليه شئ.
وعلى الجملة فقد استدل على ذلك بالآية والرواية والأصل ووجه اعتباري.
ثانيهما: القول بالضمان إلا أن ضمانه على بيت المال غاية الأمر بشرط كون
الحد للناس فإنه لو كان لله تعالى لم يضمن. وقد أفتى بذلك الشيخ المفيد قدس

(1) سورة التوبة الآية 91.
(2) وسائل الشيعة ج 19 ب 24 من أبواب قصاص النفس ح 9.
398

سره الشريف.
ويدل على ذلك ما رواه الصدوق مرسلا عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
كان علي عليه السلام يقول: من ضربناه حدا من حدود الله فمات فلا دية له
علينا ومن ضربناه حدا في شئ من حقوق الناس فمات فإن ديته علينا (1).
وقد روى الشيخ الطوسي قدس سره رواية الحلبي المذكورة آنفا ثم نقل
رواية زيد الشحام قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل قتله القصاص
هل له دية؟ فقال: لو كان ذلك لم يقتص من أحد ومن قتله الحد فلا دية له.
ثم قال: قال محمد بن الحسن: هذان الخبران وردا عامين وينبغي أن نخصهما
بأن نقول: إذا قتلهما حد من حدود الله فلا دية له من بيت المال وإذا مات في
شئ من حدود الآدميين كانت ديته على بيت المال، يدل على ذلك ما رواه
الحسن بن محبوب عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: كان علي عليه السلام يقول إلخ (2). وهذا هو نفس مرسل الصدوق بهذا
الطريق.
وفي المسالك بعد نقل قول المفيد: ومقتضى هذا القول تخصيص الحد وأن
المراد ببيت المال بيت مال الإمام لا بيت مال المسلمين.
ثم نقل ما ذهب إليه الشيخ في الاستبصار من أن الدية في بيت المال جمعا بين
الأخبار. وقال بعد ذلك: مع أن الرواية المروية عن علي عليه السلام ضعيفة
السند انتهى.
وقد يقال بأن إطلاق بيت المال وإرادة مال الإمام غير مصطلح فإنه مهما
أطلق يراد به بيت مال المسلمين.
وفيه أن بيت المال قسمان: فقد يراد به بيت تجمع فيه الزكوات والصدقات

(1) وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدمات الحدود ح 4 والفقيه طبع طهران ج 4 ص
51.
(2) الإستبصار ج 4 ص 278 و 279.
399

والمبرات وأمثال ذلك، وقد يراد به ما يجمع فيه الوجوه المختصة بالإمام عليه
السلام والسهم الخاص به ولا بعد في أن يراد من بيت المال بيت ماله مثل هذا لا
ماله الشخصي، وعلى هذا فلا بعد في إطلاق بيت المال عليه.
إلا أنه قد يقال بأن مقتضى كونه محسنا أنه لو كان عليه شئ أدى من بيت
مال المسلمين. نعم لو استولى عليه الغضب فضربه حتى مات فلا شك في كونه
ضامنا.
وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه اقتص من قنبر عندما
ضرب المستحق فوق الحد فضرب عليه السلام قنبرا بعدد تلك الزيادة (1).
وإن كان توجيه هذا الخبر مع ما هو المعهود المعلوم من مكانة قنبر الرفيعة،
وعلى حسب القواعد لا يخلو عن صعوبة، وكيف يرتضي المسلم أن يقول بأن
قنبرا تعدى وضرب فوق ما هو اللازم فهو بعيد غايته، ولو كان ذلك عن خطأ
فكيف اقتص منه الإمام عليه السلام. نعم يمكن أن يقال: إنه كان قد قصر في عد
الأسواط فزاد.
ثم إنه هل الحكم يختص بما إذا قتل في الحد فلا دية هناك أو أنه يشمل التعزير
أيضا؟ الظاهر عدم الاختصاص فالمراد منه الأعم من الحد والتعزير.
وفي المسالك: ويظهر من الخلاف والمبسوط أن الخلاف في التعزير لا في الحد
فإنه مقدر فلا خطأ فيه بخلاف التعزير فإن تقريره مبني على الاجتهاد الذي يجوز
فيه الخطأ، وهذا يتم مع كون الحاكم الذي يقيم عليه الحد غير معصوم وإلا لم
يفرق الحال بين الحد والتعزير.
وفي الجواهر: الظاهر إرادة ما يشمل التعزير من الحد فيه وعلى تقدير العدم
فالظاهر الاتحاد في الحكم مع فرض عدم الخطأ...

(1) عن الحسن بن صالح الثوري عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن أمير المؤمنين عليه
السلام أمر قنبرا أن يضرب رجلا حدا فغلط قنبر فزاد ثلاثة أسواط فأقاده عليه عليه
السلام من قنبر بثلاثة أسواط. وسائل الشيعة ج 18 ب 3 من أبواب مقدمات الحدود ح 3.
400

ثم إنه استدل من قال بعدم الدية إذا قتل بالتعزير بأصل البراءة، وبأن التعزير
حد من حدود الله وكل حد من حدود الله لا يضمن من مات به.
قال فخر المحققين في الايضاح بعد ذكر هذين الوجهين: أما الأولى فظاهرة
وأما الثانية فلما روي عنهم عليهم السلام متواترا أن من حددناه حدا من حدود
الله فمات فليس له شئ ومن ضربناه حدا من حدود الآدميين فمات كان علينا
ضمانه (1).
وقد أجاب عنه في الجواهر بقوله: والخبر المزبور وإن قال في محكي الايضاح
إنه متواتر عنهم لكن لم نتحققه وهو في ما وجدناه ضعيف، كما اعترف به غير
واحد فلا يصلح مقيدا أو مخصصا للحسن المزبور المعتضد بما عرفت انتهى.
أقول: الظاهر شمول حسنة الحلبي أو صحيحته للتعزير أيضا ولا وجه
للاختصاص بحسب الظاهر، والأقوى عدم الضمان مطلقا.
ثم إنه قال في الجواهر: ينبغي تقييد ذلك بما إذا لم يحصل الخطأ لو كان من غير
المعصوم عليه السلام بالتجاوز ونحوه وإلا اتجه الضمان.
أقول: غرضه أن ما ذكر من أنه لو قتله الحد أو التعزير فلا دية صحيح إذا لم
يكن هناك خطأ في الحد أو التعزير، بل كان قد مات وقتل بنفس الحد أو التعزير
أما إذا أخطأ فزاد في الحد أو التعزير فقتل فهناك يتجه الضمان. وقد ذكر قدس
سره ذلك لئلا يتوهم شمول عبارة المصنف للفرض الأخير أيضا.
ثم لا يخفى أن هذا البحث لا يجري بالنسبة للإمام المعصوم وذلك لمكان
عصمته عن الخطأ حكما وموضوعا.

(1) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ج 4 ص 516.
401

المسألة الثالثة
في انكشاف فسق الشاهدين بعد أن قتل أحد حدا
قال المحقق: لو أقام الحاكم الحد بالقتل فبان فسوق الشاهدين كانت الدية في
بيت المال ولا يضمنها الحاكم ولا عاقلته.
أقول: البحث في هذه القسمة في أنه إذا حكم الحاكم على طبق الموازين
الشرعية المقررة ثم انكشف فسق الشاهدين - أو الشهود إذا كان قد شهد
بالموجب جماعة - لكانت دية المقتول لازمة وذلك لأنه قد قتل بغير حق ومن
دون استحقاق فتجب ديته ولا إشكال في ذلك وإنما الكلام في أنها على من
تكون؟.
فذهب المحقق إلى أنها على بيت المال أي تخرج منه وليس الضمان على الحاكم
ولا على عاقلته وذلك لأنه يعتبر من خطأ الحاكم، وخطأ الحاكم من بيت المال
المعد لمصالح المسلمين، وهو محسن في عمله لكونه في مقام إصلاح الأمور وحفظ
النظام، وخدمة الدين وإقامة الشعائر، وإجراء الأحكام، فالغرامة اللازمة عليه
كانت على بيت مال المسلمين، وبما ذكر يجمع بين الحقين: حق المقتول وحق
الحاكم القائم بأمور المسلمين.
خلافا لظاهر بعض كالحلبي من كون الضمان في ماله على ما حكي عنه، وهو
ضعيف، بل في الجواهر: وهو واضح الضعف انتهى وذلك لما ذكرناه في تقريب
القول الأول من أنه محسن في عمله إلا أنه قد أخطأ، وخطأ الحاكم على بيت
المال.
402

في إجهاز الحامل لانفاذ الحاكم إليها في الحد
قال المحقق: ولو أنفذ الحاكم إلى حامل لإقامة حد فأجهضت خوفا قال
الشيخ: دية الجنين في بيت المال وهو قوي لأنه خطأ وخطأ الحكام في بيت المال
وقيل يكون على عاقلة الإمام وهي قضية عمر مع علي عليه السلام.
أقول: وفي الجواهر بعد قول المحقق لإقامة حد: أو لتحقيق موجبه انتهى
وهو في موضعه فإنه كما للحاكم إقامة الحد فإن له الانفاذ إلى من ادعى عليه
لتحقيق الحال. وكيف كان فلو أجهضت فعن الشيخ أن دية الجنين في بيت المال.
وما نقله عنه فهو كلامه في المبسوط وهذا نصه:
إذا ذكرت عند الإمام امرأة فأرسل إليها فأسقطت أي أجهضت ما في بطنها
فزعا منه فخرج الجنين ميتا فعلى الإمام الضمان لما روي من قصة المجهضة، وأين
يكون على ما مضى (1).
وقد قوى المحقق قدس سره هذا القول واختاره الشهيد الثاني في المسالك كما
وأنه ذهب إليه الأكثر. واستدل على ذلك بأنه خطأ من الحاكم وخطأ الحكام في
بيت المال.
وخالف في ذلك ابن إدريس فقال بأنه على عاقلة الإمام. واحتج على ذلك
بأنه خطأ محض لأنه غير عامد في فعله ولا قصده لأنه لم يقصد الجنين مطلقا وإنما
قصد أمه فيكون الدية على عاقلته و الكفارة في ماله.
والذي ذهب إليه هو الموافق للرواية المشهورة من قضايا أمير المؤمنين عليه
السلام. فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: كانت امرأة تؤتى فبلغ ذلك عمر
فبعث إليها فروعها وأمر أن يجاب بها ففزعت المرأة فأخذها الطلق فذهبت إلى
بعض الدور فولدت غلاما فاستهل الغلام ثم مات فدخل عليه من روعة المرأة
ومن موت الغلام ما شاء الله فقال له بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين ما عليك

(1) المبسوط ج 8 كتاب الأشربة ص 64.
403

من هذا شئ، وقال بعضهم: وما هذا؟ قال: سلوا أبا الحسن عليه السلام فقال
لهم أبو الحسن عليه السلام: لئن كنتم اجتهدتم ما أصبتم ولئن كنتم برأيكم قلتم
فقد أخطأتم ثم قال: عليك دية الصبي (1).
وفي نقل الشيخ المفيد: روي أنه استدعى امرأة كانت تتحدث عندها الرجال
فلما جاءها رسله فزعت وارتاعت وخرجت معهم فأملصت ووقع على الأرض
ولدها يستهل ثم مات فبلغ عمر ذلك فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسألهم عن الحكم في ذلك فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدبا ولم ترد إلا خيرا ولا
شئ عليك في ذلك وأمير المؤمنين عليه السلام جالس لا يتكلم في ذلك فقال له
عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟ فقال: قد سمعت ما قالوا قال: فما عندك؟
قال: قد قال القوم ما سمعت قال: أقسمت عليك لتقولن ما عندك قال: إن كان
القوم قاربوك فقد غشوك وإن كانوا ارتأوا فقد قصروا، الدية على عاقلتك لأن
قتل الصبي خطأ تعلق بك فقال: أنت والله نصحتني من بينهم، والله لا تبرح حتى
تجري الدية على بني عدي ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام (2)
وقد أجيب عن الرواية بأن عمر لم يرسل إليها بعد ثبوت ذلك عليها بل كان
قبل ثبوته ولذا ضمنه. وفيه أن جواز الارسال خلف المدعى عليه لا يتوقف
على ثبوت الحق عليه بل يكفي فيه إرادة تحقيق الأمر.
وقد يجاب عنها بنحو آخر وهو أن عمر لم يكن حاكم حق عند الإمام حتى
يكون خطأه في بيت المال ولم يكن عليه السلام يقدر على أن يصرح دائما ببطلان
خلافته وحكومته إذا فلم يكن المقام من خطأ الحاكم حتى يكون على بيت المال
فلا ينافي هذا ما تقدم من القاعدة.
وفيه أنه كان صلوات الله عليه يرتب غالبا على قضائهم آثار حكم الحاكم

(1) الكافي ج 7 ص 374 والتهذيب ج 10 ص 312 ووسائل الشيعة ج 19 ب 30 من موجبات
الضمان ح 1.
(2) الإرشاد ص 98 وقوله: أملصت أي ألقت المرأة ولدها قبل وقت الولادة.
404

الاسلامي وولاة الحق وكان مشرفا على قضائهم.
وقد أجاب في المسالك بنحو آخر ولعله الجواب التام قال: والأولى في ذلك
أن الرواية لم ترد بطريق يعتمد عليه فالرجوع إلى الأصول المقررة متعين.
في موت المحدود بزيادة الحد
قال المحقق: ولو أمر الحاكم بضرب المحدود زيادة عن الحد فمات فعليه
نصف الدية في ماله إن لم يعلم الحداد لأنه شبيه العمد.
أقول: إن للمسألة صورا وأقساما بعد أن كون الحاكم هو الإمام المعصوم
خارج عن محل الكلام فإنه بمقتضى عصمته لا يأمر بخلاف حكم الله تعالى، وأئمة
الشيعة لا يسبقون الله سبحانه بالقول وهم بأمره يعملون وإذا أمر الإمام المعصوم
بالزيادة لجهة من الجهات كشرف الزمان أو المكان أو غير ذلك فليس عليه شئ
ولا يوجب ذلك ضمانا.
فمنها أنه إذا أمر الحاكم بالزيادة على الحد المعين غضبا مع عدم علم الحداد
بأنه زائد على المقدار اللازم فأجرى وأقام ما أمره الحاكم فضربه فقتل في حين
كان الأمر عالما والمأمور جاهلا وهنا يكون نصف دية القتل المنتسب إلى أمرين
أحدهما سائغ والآخر مضمون عليه، على الحاكم في ماله لأن أمره كان سببا
لفعل المأمور، والمأمور وإن كان مباشرا إلا أنه لما كان جاهلا فالسبب أقوى من
المباشر فليس عليه شئ وعلى الجملة فالنصف غير المجاز يكون على الحاكم
فعليه أداء نصف الدية.
ومنها هذا الفرض مع علم المأمور بذلك فضرب غضبا فمات وهنا يكون
المأمور هو الضامن للنصف غير السائغ لا الحاكم، وذلك لأن علم المأمور
أوجب أن يكون المباشر أقوى من السبب عرفا بعكس الفرض السابق، وليس
الفرضان من باب خطأ الحاكم حتى يكون على بيت مال المسلمين.
إن قلت: فلماذا لا يحكم بالقصاص مع فرض وقوع القتل بسبب تلك الزيادة
405

التي وقعت عن عمد؟.
نقول: لعدم قصد القتل - ولا الأمر به من الحاكم في الفرض الأول ولا من
المباشر في الفرض الثاني وليس من باب الخطأ المحض حتى يكون على العاقلة ما
يلزم عليه بل هو شبه العمد فقد قصد الفعل لا القتل ولم يكن الفعل مما يترتب
عليه القتل عادة.
فيما إذا كان ذلك عن سهو
قال المحقق: ولو كان سهوا فالنصف على بيت المال.
من جملة الفروع في المقام ما إذا زاد الحاكم في ذلك، فأمر بالزيادة لكنه كان
ذلك عن سهو منه كما إذا غفل أنه حد الشارب فزعم أنه حد الزنا أو لغلطة في
الحساب فهنا يكون النصف على بيت المال لأنه من غلط الحكام الذي يؤدي عن
بيت مال المسلمين.
هذا إذا لم يعلم الحداد، فلو كان هو عالما بأن الحاكم أمر بذلك سهوا ومع ذلك
فقد أقدم على الضرب زائدا على الحد المقرر فمات منها فإن كان عالما أيضا بأنه
يموت بها أو قصد قتله بها فالقصاص وإلا بأن مات بغتة بذلك فنصف الدية على
الحداد لا الحاكم.
في تعمد الحداد مع أمر الحاكم بالاقتصار
قال المحقق: ولو أمر بالاقتصار على الحد فزاد الحداد عمدا فالنصف على
الحداد في ماله.
أقول: فرض البحث هنا أنه قد أمر الحاكم بالحد المقرر وما هو اللازم، وإنما
تعمد الحداد فزاد في ذلك وحيث إنه لم يقصد القتل ولم يكن الفعل مما يوجب
القتل فلذا لا قصاص هناك وإنما يجب نصف ديته وعلى الحداد أن يؤدي ذلك من
406

ماله فيكون كالفرع السابق أي ما إذا أمره الحاكم بالزيادة سهوا ولذا قال في
المسالك في فرعنا هذا: ولو كان الحاكم قد أمر بالاقتصار على الحد فزاد الحداد
عمدا فالحكم كما سبق في تعمده مع الأمر وأولى. وجه الأولوية أنه إذا أمر
الحاكم بالزيادة سهوا إلا أن الحداد قد زاد عالما بذلك كان النصف على الحداد
فكون النصف عليه مع أمر الحاكم بالاقتصار لا الزيادة أولى.
وأما عدم كونه على الحاكم فهو واضح حيث إنه قد أمر بالاقتصار.
فيما أمر بالاقتصار وزاد الحداد سهوا
قال المحقق: ولو زاد سهوا فالدية على عاقلته وفيه احتمال آخر.
وفي المسالك بشرح هذا الكلام: وهو يحتمل إرادة مجموع الدية نظرا إلى أنه
قتل عدوان وإن حصل من فعله تعالى وعدوان الضارب فيجب الضمان كله على
العادي كما لو ضرب مريضا مشرفا على التلف وألقى حجرا في سفينة موقرة
فغرقها.
ثم قال: واستناد موته إلى الزيادة ولا يسقط بسبب الضرب السائغ شئ
لكن لا يوافق السابق.
أقول: وجه عدم المساعدة مع السابق ما قد تقدم من أنه مع إقدام الحداد على
الزيادة عمدا عند أمر الحاكم بالاقتصار قد حكم بالنصف فكيف يحكم هنا
بالتمام والدية الكاملة، وهل يكون السهو موجبا لمزيد الدية بالنسبة إلى العمد؟
فلو كان الميزان في الدية هو الجزء الأخير فيلزم اتحاد الحكم في الفرضين.
وما ذكره رحمه الله من أنه يحتمل إرادة مجموع الدية إلخ. ففيه أنه نعم يحتمل
ذلك فإنه ليس بمحال إلا أن هذا الاحتمال خلاف الظاهر ولا ينبغي نسبته إلى
المحقق. وأما التشبيه بقتل المريض وإلقاء الحجر في السفينة ففيه وضوح الفرق
بينهما، وذلك لأن القتل في مثال المريض مستند إلى خصوص الضرب عرفا لا
إلى ضرب العادي وإلى فعل الله تعالى، وهكذا بالنسبة لمثال السفينة وهذا
407

بخلاف ضربه زائدا على الحد اللازم فإن القتل مستند إلى سببين أحدهما سائغ
والآخر ممنوع.
ثم قال قدس سره في قبال الاحتمال المزبور: وأن يريد به الدية اللازمة عن
الزيادة وهي النصف لموته بالسببين وهذا هو المطابق لما سلف وبه صرح في
التحرير.
وفي الجواهر بعد ذكر إمكان الفرق بين المقام وبين مثال ضرب المريض، بما
ذكرناه، قال: فالمتجه حينئذ النصف لاستناد الموت إلى سببين سائغ وهو الحد،
وغيره وهو الزيادة من غير اعتبار تعدد شئ منهما كما صرح به في محكي
السرائر لأن القود والدية على عدد الجانين لا الجنايات.
وهنا قد تعرض لفرع لم يتعرض له في الشرايع فقال: وعليه إن حصلت
زيادتان إحداهما من الحاكم عمدا أو سهوا والأخرى من الحداد انقسمت الدية
أثلاثا ويسقط ثلثها بإزاء الحد.
أقول: وعلى هذا فقد انتسب موته إلى ثلاثة عوامل: سائغ وزيادة من
الحاكم وزيادة أخرى من الحداد فتقسم الدية أثلاثا.
قال: وربما احتمل التنصيف وإسقاط النصف ثم تنصيف الباقي بين الحاكم
والحداد.
أقول: فعلى الأول كان على كل واحد منهما ثلث أصل الدية بخلافه على
الثاني فإنه يلزم كل واحد منهما ربعها.
وكيف كان فلا يخفى أنه يصح ذلك مع جهل الحداد بالزيادة التي أمر بها
الحاكم وإلا فلو كان عالما فالظاهر أن الثلثين أو الربعين كلها عليه لأنه مباشر في
ذلك عالما أما مع تخيله أن الذي أمره الحاكم به هو حد الشارب فهناك يتم
التوزيع تنصيفا أو تثليثا.
ثم إن المحقق بعد ذكر كون الدية على عاقلته قال فيه احتمال آخر.
فقال في المسالك: والاحتمال الآخر الذي أشار إليه المصنف يحتمل أن يريد به
408

توزيع الدية على الأسواط الزائدة والواقعة في الحد فيسقط منها بحساب الحد
لأن السبب مركب من المجموع.
أقول: وعلى هذا الاحتمال يدور الأمر مدار الأسواط أصليا وزائدا فربما
يكون الزائد ثلثا فيجب على الحداد ثلث الدية وربما يكون نصفا فنصف وهكذا.
والتحقيق أنه يمكن أن يكون المراد منه تقسيط الدية على الأسواط الواقعة في
الحد، والزائدة فيسقط من الدية بحساب الحد السائغ أي ما قابله فلو زاد على
الثمانين واحدة مثلا فمات فهنا يوزع الدية على واحد وثمانين وحيث إن ثمانين
منها كانت جائزة فلذا لا يلزمه إلا جزء من أحد وثمانين جزء من الدية كما في
الجواهر.
ويمكن أن يكون المراد من احتمال آخر كون نصف الدية على نفسه لا على
عاقلته لأنه قاصد للفعل وإنما أخطأ في قصد القتل فهو شبه العمد. وعلى هذا
فالاحتمال الثاني هو كون الدية على نفسه في قبال كونها على عاقلته.
وهنا بيان آخر وهو أن يكون المراد من الاحتمال الآخر هو تمام الدية إن كان
المراد بها في قوله: فالدية على عاقلته، نصفها، أو أن المراد منه نصف الدية إن
كان المراد بها أولا تمامها.
ثم إن ما ذكر من التوزيع على حسب الأسواط ليس بتام وذلك لأن أثر
الأسواط الأواخر أشد من أثر الأسواط الأوائل وليس أثر الأسواط على حد
سواء حتى يقال بتوزيع الدية على حسب الأسواط.
وقال العلامة أعلى الله مقامه في التحرير: ولو أمر الحاكم بضرب المحدود
زيادة على الحد فمات فإن كان الحداد جاهلا فعلى الحاكم نصف الدية في ماله لأنه
شبيه العمد وإن كان سهوا فالنصف على بيت المال. فهو قدس سره لم يحتمل
التوزيع أصلا بل صرح بالتنصيف وجعل الملاك هو الجاني لا الجناية، والظاهر
أنه لم يكن ذلك لعثوره على رواية في ذلك بل للانتساب العرفي.
ثم قال: ولو كان الحداد عالما فعليه القصاص لأنه مباشر للاتلاف، ولو أمره
409

الحاكم بالاقتصار على الحد فزاد الحداد عمدا اقتص منه وإن زاد سهوا فالنصف
على عاقلته سواء غلط في حساب الأسواط أولا انتهى.
أقول: وما ذكره من الاقتصاص من الحداد إذا زاد عمدا مع أمر الحاكم
بالاقتصار، يمكن أن يكون المراد الاقتصاص مع دفع نصف الدية إليه إذا كان قد
تعمد قتله وذلك لأنه مع قصد القتل يحصل المجوز إلا أنه لما كان قسم من هذه
الضربات سائغا من باب الحد فلذا يدفع إليه عند الاقتصاص النصف من الدية.
والحق أن يقال: إنه تارة يضرب من الأول قاصدا للقتل، وأخرى يبدو له
ذلك بعد تمام الحد فبعد ذلك زاد بقصد القتل، وما ذكر من دفع نصف الدية إلى
الحداد يتم في الثاني دون الأول، وذلك لأنه إذا كان من بد الأمر قاصدا للقتل
فهو ليس بحد من أول الأمر لأنه لم يكن شئ من الأسواط سائغا والحد يحتاج
إلى قصد القربة فيبقى أنه قد ضربه إلى أن قتله متعمدا فيقتص منه بلا حاجة إلى
دفع شئ إليه.
ثم إنه لو لم يحصل الجزم بالتنصيف في الدية أو توزيعها على حسب الأسواط
وشك في ذلك فيمكن أن يقال بدفع ما كان مقطوعا به على كلا القولين ففي مثال
الواحد والثمانين يدفع جزء من الدية نسبته إليها نسبة الواحد إلى واحد وثمانين،
فيكون الشك في الزائد ويدفع بالبراءة إن لم نقل بأن المقام من باب الاحتياط لا
البراءة.
ثم إن حاصل الكلام أنه مع قصد القتل يجري القصاص سواء كان من الحاكم
أو الحداد غاية الأمر أنه إذا أراد الولي القصاص فعليه دفع نصف الدية إلى
الأولياء وكذلك لو لم يقصد القتل بل قصد الفعل لكن كان الفعل بحسب الحال
مفضيا إلى موته فإنه كالضرب بآلة تقتل عادة وإن لم ينو الضارب القتل، وذلك
لأن الضرب بها ملازم لقصد القتل وإن لم يكن ناويا له مستقيما والملاك في القتل
العمدي هو أحد هذين الأمرين.
وأما لو لم يكن من هذين القبيلين بل كان من باب قصد الفعل غضبا فانجر إلى
410

قتله فهنا تكون الدية على نفسه، ولو كان لمجرد خطأ الحاكم فعلى بيت المال.
كما أنه لو كان القتل مستندا إلى التغليظ السائغ مكانا أو زمانا فمع وجود
المبرر ليس الحاكم ضامنا وإنما ضمانه على بيت المال.
وقد اتضح أنه في بعض الموارد كانت الدية على المتصدي والمباشر وفي بعضها
على الحاكم باختلاف الموارد وكون السبب أقوى في بعضها والمباشر في بعضها
الآخر.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
قم المشرفة - الحوزة العلمية علي الكريمي الجهرمي
411

صورة موجزة عن حياة
المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم
حضرة آية الله العظمى محمد رضا الموسوي الگلپايگاني قدس سره
413

صورة موجزة عن حياة
المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم
حضرة آية الله العظمى السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني قدس سره
1316 - 1314 ه‍
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله آل الله...
وبعد: لما كثر الالحاح من مختلف البلاد في ترجمة أحوال الزعيم الأكبر
والمرجع الديني الأعلى آية الله العظمى الإمام الگلپايگاني قدس سره وكان
بعض المراجعين في ذلك مستعجلين فلذا نقدم ترجمة موجزة من شخصيته
اللامعة وإلا فالإحاطة على أبعاد حياة هذا المرجع العظيم المختلفة تحتاج إلى
سفر كبير فنقول:
اسمه وكنيته:
هو السيد محمد رضا الملقب على لسان أبيه الكريم ب‍ (هبة الله) المكنى كذلك
ب‍ (أبي الحسن) المشتهر في العالم الاسلامي ب‍ (الگلپايگاني).
مولده: ولد سيدنا المرجع الأكبر في (گوگد) وكانت آنذاك قرية على رأس
فرسخ من گلپايگان، ولكنها اليوم بلدة من البلدان، وكانت ولادته في يوم
الاثنين ثامن شهر ذي القعدة الحرام سنة (1316) ستة عشر وثلاثمأة بعد الألف
من الهجرة المباركة، وعلى مهاجرها آلاف السلام والتحية.
وجه تسميته:
ذكرنا أن اسمه الشريف (محمد رضا) ونضيف أن ذلك يرمز إلى شيئين:
414

أحدهما: أنه قدس سره بنفسه كان عطية من الله تعالى لوالده على كبر سنه
ببركة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام استجابة لزيارة والده لحرمه
صلوات الله عليه، وتوسلاته به، حيث لم يولد له صبي وكان له عدة بنات
فتوسل بالإمام الرضا عليه السلام وتضرع إلى الله في أن يعطيه ولدا ذكرا
صالحا فاستجاب الله دعاءه وأعطاه هذا الولد السعيد الذي صار مرجعا مباركا
للشيعة في العالم.
ثانيهما: مقارنة يوم ولادته إيام ولادة ثامن الأوصياء والحجج الإمام الرضا
عليه السلام، فإن ولادته صلوات الله عليه في حادي عشر من ذي القعدة.
نسبه الطاهر:
إن سيدنا الگلپايگاني قدس سره، ينتهي نسبه الشريف إلى الإمام الهمام
باب الحوائج إلى الله أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم صلوات الله وسلامه
عليه.
والده الكريم:
والد المرجع الكبير، العالم الجليل العابد الزاهد، حجة الاسلام السيد محمد
باقر الموسوي الگلپايگاني، وقد اشتهر في حياته عند أهل بلدة بلقب (إمام)
لكثرة صلاحه وطهارة نفسه ومكارم أخلاقه واجتهاده في العبادات واهتمامه
بأمر الدين.
كان رضوان الله عليه دائم الذكر تاليا لآيات القرآن ليلا ونهارا، وكان
يداوم على قراءة سورة التوحيد (قل هو الله) وقد رأوه يقرأ القرآن وسورة
التوحيد حتى عندما كان مضطجعا.
ومن خصوصياته ومزاياه رحمه الله أنه كان آمرا بالمعروف ناهيا عن
المنكر، متصلبا في ذات الله تعالى ومن الذين لا يخافون في الله تعالى لومة لائم.
وكان له حب عميق وصلة خاصة بالأئمة الطاهرين خصوصا الإمام الشهيد
415

أبي عبد الله عليه السلام، وقد أوصى أن يدفن جثمانه في جانب المقبرة
ليكون قريبا من طريق يمر منه الزوار القاصدون إلى كربلاء كي يقع غبار قافلة
زوار الحسين عليه السلام على قبره، وقد عمل بوصيته ودفن هناك.
عناية الله تعالى به:
من الأمور التي لا يعتريها شك أن والد سيدنا المرجع كان ممن شملته الرحمة
الآلهية الخاصة، فقد وهبه الله هذا الولد السعيد في الرابعة والستين من عمره
وقد اشتعل رأسه شيبا.
ومن مظاهر لطف الله ورحمته به استجابة دعائه بالنسبة إلى مستقبل ولده
العزيز، فإنه بعدما أرخ ولادته في ظهر الصحيفة السجادية الخطية، دعا له بتلك
الأدعية الطيبة:
اللهم طول عمره، ووسع في رزقه واجعله من العلماء العاملين، بفضلك
وكرمك يا أرحم الراحمين.
وليته كان يرى كيف استجاب الله دعاءه وصار ابنه سيد العلماء العاملين
وأستاذ الفقهاء والمجتهدين... ولعله يرى من أفق الآخرة ابنه المرجع وقد أصبح
زعيما دينيا تخفق له قلوب أهل الايمان.
والدته الكريمة:
والدة سيدنا المرجع، المرأة الصالحة الزاهدة المسماة (هاجر) وكفى في جلالة
قدرها وفضلها أنها أنجبت ولدا فقيها ومرجعا عالميا:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
ولها قضية تشبه قصة أصحاب الكهف المذكورة في القرآن يطول بذكرها
الكلام.
فقدان والديه.
فقد المرجع الكبير الگلپايگاني والديه صغيرا، فقد ماتت أمه وهو في الثالثة
416

من عمره وكان ذلك في سنة 1319 ه‍ فكان في ظل رعاية والده الشريف، لكن
قدر الله تعالى أن لا يدوم ظل والده الكريم فقد مات عندما كان ولده في التاسعة
من عمره وذلك في سنة 1325 ه‍. أجل لقد فقد ظل الوالدين لكنه لم يفقد ظل
الله رب العالمين، قال الله تعالى: ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى
ووجدك عائلا فأغنى.
شروعه في التحصيل:
نشأ في بيئة دينية وكان هو في أعماق قلبه محبا للعلم والفضل، فشرع في حياة
أبية في تعلم القرآن وكتاب نصاب الصبيان وكتاب حياة القلوب للعلامة
المجلسي قدس سره، ولما كان عاشقا للعلم لم يمنعه موت والده عن هدفة
الأسنى، فشرع في العلوم العربية والمعارف الإسلامية عند علماء بلدة گلپايگان،
وكان أساتذته يحسون منه مستقبلا مضيئا وذلك لما يرون منه من الذكاء القوي
والحفظ البالغ والمواظبة المستمرة على التحصيل، وقد سافر في خلال تلك
الأعوام إلى (خوانسار) وهي بلدة قريبة من گلپايگان في طلب ضالته وبقي
هناك في المدرسة العلمية وقد بلغ سن المكلفين في خوانسار، وبعد أشهر رجع إلى
موطنه إلى أن بلغه نبأ ورود آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري إلى
(سلطان آباد أراك) وتشكيله الحوزة العلمية هناك فعزم على المهاجرة إليها مع
عدم مساعدة الظروف والأحوال فهاجر ولسان حاله: إني ذاهب إلى ربي
سيهدين. ولما ورد المدينة أراك وجد من العلم هناك ما يطلبه ويعشقه وحصل
بينه وبين الشيخ الحائري كمال الألفة والأنس، ولما بلغ ما يقرب من التاسعة
عشرة من عمره حضر مجلس درس الحائري حضور تفهم وتحقيق وجد
وتدقيق، وداوم على ذلك إلى منتهى أيام إقامة شيخه الحائري في أراك.
مهاجرته إلى قم:
ثم إن شيخه آية الله العظمى الحائري قدس سره هاجر إلى قم بدعوة علمائها
417

الأعلام، وكان ذلك في سنة 1340 من الهجرة، وبقي السيد الگلپايگاني في
أراك.
ولما كان الشيخ الحائري قد أحسن من تلميذه الشاب لياقة وكفاية وبراعة
وتوفر المواهب والقابليات والذكاء القوي والعشق لطب العلم، ولذا أرسل إليه
كتابا مليئا بالحنان واللطف، ودعاه إليه وطلب منه أن يترك أراك ويهاجر إلى
قم، فلبى سيدنا المرجع دعوة أستاذه الحائري الكبير وهاجر إلى قم وإلى مجلس
درس شيخه المعتمد وأستاذه المحبوب، واشتغل مجدا في المدرسة الفيضية، وكان
لا يفتر عن الدرس والتدريس والمطالعة والكتابة.
جده البالغ:
مما يبعث العجب هو اهتمام السيد المرجع في تحصيل العلم وطلب الكمال
والمعارف.
فقد حكى دام ظله لنا: أني قد مرضت في يوم من الأيام مرضا شديدا
وغلبت علي الحمى، وقد حضر وقت الدرس وحضر شيخنا الحائري وصعد
المنبر للتدريس فكلما أردت أن أقوم وأحضر مجلس درسه لم أتمكن من ذلك،
فطلبت من زملائي أن يحملوني مع فراشي ولحافي إلى محل الدرس وقد صنعوا
ذلك، ولكن رعاية للأدب بالنسبة إلى شيخي وأستاذي طلبت منهم أن يحلوني
إلى ناحية ظهر المنبر!؟.
موقفه من مجلس درس أستاذه:
ثم إنه بمرور الأيام وبجده الخاص تكونت له ملكة علمية وبرز من بين أقرانه.
ففي حين أن مجلس درس الحائري الكبير كان مشحونا بالأفاضل الأعلام
والمجتهدين الكرام، كان السيد المرجع قدس الله روحه ممن يستشكل على
الأستاذ ويورد عليه ما بدا له من الأفكار، ويبدي مطالبه في جنب تحقيقات
شيخه في ذاك الحفل العظيم، وكان أستاذه يستمع إليه ويعتني بشأنه.
418

أساتيذه ومشايخه العظام:
كانت عمدة استفادته من شيخه الحائري قدس الله سرهما، إلا أنه حضر
على جماعة من الأساتذة والأساطين واستفاد منهم أيضا وإليك أسماؤهم:
1 - العالم الكبير حضرة السيد محمد حسن الخوانساري المتوفى سنة 1337
ه‍ عن نيف وأربعين سنة، المدفون في أراك.
2 - العالم الجليل الشيخ ميرزا محمد باقر الگلپايگاني المتولد في گلپايگان،
والمدفون بقم في مقبرة نو وقد توفي رضوان الله عليه عام 1352 ه‍.
3 - آية الله الآخوند ملا محمد تقي الگوگدي الگلپايگاني الذي هو من
أعاظم تلامذة الحقق الخراساني، قال المحقق الجليل الشيخ محمد باقر الشريف
زاده رحمة الله عليه - ابن أخت الإمام الگلپايگاني - في شأن هذا العالم الكبير في
مقدمة آيات الأحكام للاسترآبادي ص 3: العالم الألمعي والفاضل اليلمعي
والعلامة الجليل القدر المرحوم المبرور آية الله الآخوند ملا محمد تقي الگوكدي
الذي كان من أعاظم تلامذة الخراساني أعلى الله مقامه يعرف كل من تتلمذ على
المحقق المذكور مقامه النبيل في العلم والعمل والزهد والتقوى.
وقد هاجر في أواخر عمره من گلپايگان إلى إلى أراك واستوطن فيها ولما توفي
سنة 1313 الشمسية نقل جسده الشريف إلى قم المقدسة ودفن بها في مقبرة نو.
4 - المحقق الكبير الميرزا محمد حسين النائيني أعلى الله مقامه، وقد حضر
مجلس درسه عندما ورد مع عدة من الأعلام من النجف إلى إيران لحادثة
سياسية، وكانت مدة تلمذه عليه نحوه نحو ثمانية أشهر.
وقد حكى دام ظله لنا مرة أن بحثه في تلك الأيام كان حول قاعدة (على
اليد).
419

5 - المحقق العظيم الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس سره المتولد سنة
1277 ه‍ بنائين المتوفى في 26 من جمادى الآخرة عام 1355 ه‍ في النجف
المدفون فيها، وقد حضر مجلس درسه ما يقرب من ثلاثة أشهر عند وروده
قدس سره من النجف إلى قم في تلك الحادثة المشار إليها.
6 - المحقق الشهير الآقا الشيخ ضياء الدين العراقي قدس سره، وذلك عندما
سافر سيدنا المرجع الأشرف للزيارة وبقي هناك مدة أشهر، وكان
يحضر مجلس درسه، بل وكان يشكل عليه في درسه، وكان المحقق العراقي لما
عرف مقامه العلمي السامي يحبه ويعظمه، وقد جرت بينهما قضية لطيفة لا يسعها
المقام.
7 - العالم العلم الشهير حضرة الشيخ محمد رضا مسجد شاهي النجفي
رضوان الله عليه، المتولد في المحرم سنة 1287 ه‍ والمتوفي، في المحرم سنة
قدس سره إلى قم.
8 - آية الله العظمى حضرة السيد أبو الحسن الأصفهاني نور الله مرقده،
المتولد في 1284 ه‍ المتوفى في تاسع ذي الحجة سنة 1365 في الكاظمية، المدفون
في النجف، وقد استفاد منه كثيرا في النجف في سفر زيارته، ووقعت بينهما
مباحثة علمية في بيت آية الله العظمى السيد جمال الدين الگلپايگاني من أعلام
النجف الأشرف، وصارت له بسببها مكانة خاصة عند السيد الأصفهاني قدس
الله سرهما، وقال في شأنه على ما حكاه بعض الأعلام: أنه من النوابغ.
9 - آية الله العظمى حضرة السيد آقا حسين الطباطبائي البروجردي قدس
الله نفسه وقد حضر عنده واستفاد منه في أوائل وروده قدس سره بمدينة قم.
وكان الإمام البروجردي يحترمه كثيرا، وقد حكى لي بعض الفقهاء أن السيد
420

البروجردي قد تعرض يوما لبيان إشكال في مجلس درسه وقرره ثم صرح بأن
هذا الاشكال من السيد الگلپايگاني.
10 - آية الله العظمى مؤسس الحوزة العلمية بقم حضرة الشيخ عبد الكريم
الحائري أعلى الله مقامه المتولد في يزد والتوفي سنة 1355 ه‍ في قم وقد دفن
جثمانه بقرب مضجع كريمة أهل البيت فاطمة (المعصومة) سلام الله عليها.
وكان السيد المرجع قد حضر عنده كثيرا فلم ينقطع حضوره لديه من يوم
حضر عليه في أراك إلى أن وافاه الأجل وصار إلى رحمة الله تعالى في قم، ما
يقرب من اثنين وعشرين سنة متوالية. هذا بالإضافة إلى بأنه كان من تلاميذه
الخالصين، ومن هيئة استفتائه.
مقامه العلمي الرفيع:
مما اشتهر به السيد المرجع الإمام الگلپايگاني قدس الله نفسه الزكية، علميته
الرفيعة وفقاهته السامية ودقة نظره حتى صار لقب (فقيه أهل البيت عليهم
السلام) كأنه لقب خاص به. وقد حكى لنا أن الفقيه الجليل المرجع عند أهل
تبريز الميرزا رضي التبريزي رضوان الله عليه قال: إن فقه زرارة عند السيد
الگلپايگاني.
تدريسه وبحوثه.
مما له أثر خاص في تصوير شخصية الإمام الگلپايگاني علميا واجتماعيا
مباشرته لأمر التدريس، فكان من أوائل أمره مدرسا يتعلم عنده الطلاب
والمشتغلون، وهذه مجلة همايون التي كانت تنتشر في عصر آية الله العظمى
الحائري نشرت بحثا تحت عنوان (الروحانية في إيران) وعند البحث عن
مدرسي الحوزة العلمية ذكرت أسامي اثني عشر من رجالات العلم الذين تدور
عليهم رحى التدريس، أولهم مؤسس الحوزة الشيخ عبد الكريم الحائري قدس
421

سره وهكذا عدتهم وذكرت منهم السيد المرجع قدس سره.
كما ذكر صاحب كتاب (آئينهء دانشوران) مشاهير المدرسين في عصر
الحائري قدس سره وذكر السيد المرجع منهم. وتعرض أيضا في مطاوي هذا
الكتاب لترجمة عدة كثيرة من الفضلاء والمحصلين في عصر المؤسس الحائري
وذكر في عدد منهم أنه من تلاميذ السيد الگلپايگاني، أو أنه تتلمذ عنده.
وحينما كان يدرس السطح العالي كان يدرس في كل يوم خمسة دروس أو أكثر.
ولما ارتحل الإمام البروجردي كان مجلس درس سيدنا الگلپايگاني أكبر درس
في الحوزة، يحضر فيه ما يقرب من ألف أو أكثر من العلماء والفضلاء في المسجد
الأعظم بقم.
وقد منحه الله تعالى التوفيق للتدريس على مستوى الخارج العالي ما يقرب
من ستين سنة. كما يظهر ذلك من حاشيته من حاشيته على درر الأصول فراجع.
جده في تربية العلماء والمجتهدين:
كان له اهتمام بالغ في تربية الطلاب والمشتغلين والعلماء والمجتهدين، ومن
جملة الطرق التي كان يستعملها لتحقيق هذا الهدف أنه في بعض المسائل المشكلة
كان يطلب من الفضلاء الحاضرين في درسه أن يتفحصوا عن مدارك المسألة
والأقوال فيها، ويطلب منهم التحقيق والتنقيب حولها وإظهار ما يقوى عندهم
فيها.
وعندي رسائل ومكتوبات مختصرة حول بعض المسائل من أفاضل تلاميذه
، صنفوا تلك الرسائل بأمره وتحت رعايته وارشاده وقدموها إليه، ومن جملتها
رسالة من تلميذه المعروف العالم الجليل الشهيد الشيخ علي القدوسي النهاوندي
رضوان الله عليه، حول المرأة المضطربة من حيث الدم وذكر في ختام تلك
الرسالة الشريفة ما يعجبني نقله ويستفيد منه القارئ المحترم. قال:
(ونشكر الأستاذ أدام الله ظله الوارف على ابتكار هذا الطريق للتشويق
422

وللتربية. وهذا الطريق أولى وأحسن بمراتب مما اتخذه سائر الأساتيذ والمراجع
أدام الله ظلهم، ورحم الله الماضين منهم من أخذ الجزوات والامتحانات التي لم
تخل من الإشكال والشبهة. ونرجو من الله تعالى ونتمسك بأوليائه عليهم
السلام أولا بطول عمره الشريف وعزته وتوفيقه. ونسئل من الأستاذ مد ظله
ثانيا إدامة هذا الطريق وتعقيبه وتشويق من يرجو ارتقائه إلى المدارج العالية،
لأن الفقه والفقاهة في الحوزة المقدسة في أعلى مراتب السقوط، وقبله التقوى
والورع، والأمر خارج عن أيدي أمثالنا، فالقول بوجوب اتخاذ رأي جدي
سريع وعزم راسخ قوي لا يمنعه الموانع والفلتات لحفظ هاتين العظيمتين أعني
الفقه والتقوى، وتربية الأفراد بهما قوي جدا على أمثال سيدنا الأستاذ أدام الله
تعالى ظله. ولا حثنا على ارتكاب هذه الجسارة والجرأة إلا وظيفة شرعية
حصلت مما نرى في الحوزة المقدسة من سقوط هاتين العظيمتين، ونرجو من
الأستاد دام ظله العفو ونسأل منه الدعاء، والسؤال من الله ومن وليه عجل الله
تعالى فرجه لتوفيق الجميع 280 رجب 85).
كتبه العلمية والفتوائية:
لسيدنا المرجع الراحل رسائل عملية يرجع إليها المقلدون بعد السيد
البروجردي قدس سرهما، وله كتب وتقريرات علمية في متناول أيدي العلماء
والمجتهدين وإليك ما نعرف منها:
1 - منتخب الأحكام وقد طبع هذا الكتاب في أوائل مرجعيته بالفارسية.
2 - مختصر الأحكام وهو كتاب مشتمل على أبواب الفقه بصورة اجمالية
وكان أول رسالة عملية صدرت منه مشتملة على آرائه وفتاواه وكانت أولا
بالفارسية ثم ترجمت بالعربية والأردوية والانگليزية وغيرها من الألسن.
3 - حاشية توضيح المسائل، وهي تعليقات فارسية على توضيح المسائل
423

للإمام البروجردي
4 - توضيح المسائل، وهي رسالة جامعة لشتات الأبواب الفقهية بالفارسية
5 - مجمع المسائل، وهو كتاب حاو للاستفتاءات الواردة عليه من أرجاء
العالم الاسلامي، وقد طبع في ثلاث مجلدات مرارا وهي مشتملة على أبواب الفقه
من تقليد إلى الحدود والديات وكانت بالفارسية وقد ترجمت في بيروت إلى
العربية بشكل بهيج.
6 - مناسك حج بالفارسية
7 - مسائل الحج ملخص ما أفاده في مجلس درسه
8 - دليل الحاج، وهذا هو دليل الحاج للمرجع الراحل الكبير السيد الحكيم
قدس سره وقد أدرجت فتاوى الإمام الگلپايگاني فيه، ولا يخفى أن هاتين
الرسالتين قد طبعتا تحت عنوان مناسك الحج.
9 - مناسك الحج. وهي رسالة في موضوع الحج عربية مختصرة.
10 - حول مسائل الحج. وهي رسالة مشتملة على أسئلة حول الحج
وأجوبتها كانت فارسية ثم ترجمت إلى العربية ولها مقدمة بقلم هذا العبد.
11 - أحكام نماز خوف ومطاردة، وهي رسالة فارسية حول صلاة الغازين
والمجاهدين في الحرب، طبعت مستقلة بالفارسية.
12 - رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسائل الإسلامية
الاجتماعية. وهي رسالة فارسية طبعت مرارا في آخر مجمع المسائل ج 1.
424

13 - احكامي از حج، رسالة فارسية حول مسائل خصوص الحج طبعت
مستقلة
14 - أحكام عمره هي رسالة فارسية حول خصوص العمرة مطبوعة مع
المناسك الفارسي.
15 - رسالة في صلاة الجمعة والعيدين، وهي عربية، طبعت مرارا وهذه
الرسالة مشتملة على فروع كثيرة حول هاتين الصلاتين.
16 - رسالة حول المحرمات بالنسب، مختصرة عربية.
17 - رسالة مختصرة حول عدم تحريف القرآن، وهي مطبوعة عربية.
18 - إفاضة العوائد، في التعليق على درر الفوائد، وهي مباحث هامة
أصولية ألفها في عصر أستاذه الحائري تعليقا على كتابه عندما كان يلقي دراساته
الأصولية على متن درر الأصول، وقد طبع هذا الكتاب الشريف الذي تم تأليفه
قبل ما يقرب من ستين سنة طبع أخيرا في مجلدين بعد أن كان مخطوطا بخطه
الشريف.
19 - تعليقاته على العروة الوثقى للسيد الفقيه الطباطبائي اليزدي قدس سره
وهي تعليقات أنيقة قد طبعت مرات عديدة مستقلة أو مع المتن، وهذه
التعليقات مشتملة في بعض مواردها على الاستدلال فهي من التعليقات
المشتملة على التحقيقات العلمية التي ينتفع بها العلماء والفضلاء، وسمعت أنه لما
أرسلت نسخة منها إلى النجف رغب فيها الفضلاء والأعلام وطلبوا إرسال نسخ
أخرى وقد طبعت هذه التعليقات في عصر الفقيه البروجردي أعلى الله مقامه.
20 - تعليقاته على وسيلة النجاة، لآية الله العظمى السيد أبو الحسن
425

الأصفهاني رضوان الله عليه، وقد طبعت مع المتن في بيروت في مجلدين وفي
إيران في ثلاث مجلدات.
21 - تعليقاته على قضاء السيد الطباطبائي اليزدي، وقد ألفها حينما كان
مشتغلا بتدريس أبحاث، لكن هذه غير مطبوعة
22 - كتاب تفصيلي حول صلاة الجمعة، على ما صرح بذلك في رسالته في
صلاة الجمعة المطبوعة.
23 - الهداية إلى من له الولاية، وهي تقرير أبحاثه العالية حول ولاية الفقيه
وساير من له الولاية، وقد بحث دام ظله عن ولاية الفقيه من قبل هذا بما يزيد
على أربعين سنة، وقد طبعت هذه الرسالة سنة 1383 ه‍ وهي بقلم العلامة
الحجة جناب الحاج الشيخ أحمد الصابري الهمداني دام عزه.
24 - كتاب الحج، وهو تقرير أبحاثه العالية حول الحج هو بقلم المقرر المذكور
دام عزه، وقد طبع منه المجلد الأول والثاني، كما وإن المجلد الثالث تحت الطبع
الآن.
25 - بلغة الطالب، وهي تعليقات على البيع من مكاسب علم العلم والتقى
الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره، وهذا الكتاب تقرير محصل أبحاث الإمام
الگلپايگاني قدس سره حينما كان مشتغلا بالبحث في المتاجر. وهو بقلم العلامة
الحجة جناب الآغا السيد علي الميلاني دام عزه. وهو قد طبع في سنة 1399 ه‍.
26 - كتاب القضاء، وهو تقرير أبحاثه العالية حول أمر القضاء بقلم المقرر
المذكور دام عزه. وقد طبع هذا الكتاب في مجلدين يستفيد منه العلماء.
27 - كتاب الشهادات، وهو تقرير أبحاثه الشريفة حول شهادة الشهود بقلم
426

المقرر المذكور دام توفيقه وطبع قبل سنوات
28 - كتاب الطهارة، وهذا الكتاب تقرير أبحاثه العالية حول الطهارة
والنجاسة بقلم العلامة الحجة جناب الشيخ محمد هادي المقدس النجفي دام عزه
وقد طبع في سنة 1402 ه‍.
29 - كتاب القضاء، تقرير أبحاثه دام ظله في القضاء، بقلم المقرر المذكور
وهذا الكتاب الآن في قيد الطبع.
30 - مباحث من الحج، وأحكام العمرة بقلم الفاضل الحجة الشيخ محمد علي
الشاهرودي دام عزه وهي الآن تحت الطبع.
31 - الدر المنضود في أحكام الحدود تقرير أبحاثه العالية حول الحدود، بقلم
هذا العبد (علي الكريمي الجهرمي) وقد طبع المجلد الأول منه في سنة 1412 ه‍
في خمس مأة صفحة، وسيرد المجلد الثاني منه محافل العلماء إن شاء الله تعالى
ونسأل الله التوفيق في طبع ساير مجلداته.
32 - نتائج الأفكار في نجاسة الكفار، وهي تقرير أبحاثه العالية في سنة
1388 ه‍ في اثبات نجاسة الكفار وأهل الكتاب بقلم هذا العبد أيضا، وقد طبع
هذا الكتاب قبل سنتين من هذا أي عزة محرم الحرام عام 1413 ه‍. كما وأن لي
كتب عديدة في تقريرات أبحاث الإمام الگلپايگاني لم تطبع بعد.
منها مناهل الحياة في أحكام الأموات.
ومنها مناهل العظماء في أحكام القضاء.
ومنها جواهر السعادة في أحكام العدالة.
ومنها نفائس الإشارات في أحكام الشهادات.
ولي كتاب آخر باسم (المرجع والمراجعون) مشتمل على أسئلة وردت على
427

سيدنا الأستاذ المرجع قدس سره بالعربية وردودها لم يطبع أيضا.
33 - أحكام أموات وهي رسالة فارسية حول شتات الأحكام المتعلقة
بالأموات كلها على حسب فتاوي الإمام الگلپايگاني وقد جمعها بعض أهل
العلم وطبع هذا الكتاب أخيرا.
34 - هداية العباد وهي مجموعة فتاواه في أبواب العبادات والمعاملات،
باللغة العربية، في مجلدين.
35 - ارشاد السائل وهي مجموعة لطيفة من الاستفتاءات الواردة عليه من
الممالك العربية وقد طبعت ببيروت.
36 - آداب وأحكام حج.
37 - بالفارسية ولي مقدمة عليها. واجبات حج بالفارسية أيضا
38 - أحكام النساء وهي رسالة حول الدماء الثلاثة ودروس في المسائل
النساء بشكل مبسط وواضح بقلم الشيخ أكرم بركات طبعت في بيروت قال في
مقدمته: وكنت ألقي الدروس على رأي المرجعين الكبيرين آية الله العظمى
الإمام الخميني قدس سره وآية الله العظمى السيد الگلپايگاني دام ظله...
وقد عرضت هذه الفتاوى على رأي المرجعين الكبيرين على أساس أنهما أكثر
المراجع تقليدا في هذا الوقت وقد أشرت في هذا الكراس إلى مواطن الاختلاف
بين المرجعين الكبيرين إن كان هناك اختلاف انتهى.
39 - قسم من بياناته ومراسلاته وبرقياته
40 - حواشيه على بعض الكتب وهي غير مطبوعة
428

41 - رسالة الاجتهاد والتقليد، وهي لم تطبع بعد ولها قضية طويلة لا يسع
المقام ذكرها.
42 - مباحث الطهارة غير منقحة.
43 - مباحث القضاء غير منقحة.
44 - مباحث الشهادات غير منقحة.
45 - مباحث الحدود غير منقحة.
تلاميذه:
ومما من الله تعالى على سيدنا المرجع الأعلى السيد الگلپايگاني قدس الله
سره أنه قد تخرج على يديه ومنهجه الفقهي العميق عدد كبير من العلماء
والمجتهدين، والفقهاء والمحققين وقد كنا نشاهد مجلس درسه في المسجد الأعظم
وهو حافل بالطلاب والمشتغلين والأفاضل والمجتهدين، ومن الصعب جدا
استقصاء جملتهم، وأصعب منه استقصاء من حضر لديه، وتتلمذ عنده في طول
ما يزيد على سبعين سنة كان يدرس فيها سطحا أو خارجا، ولعله لا يوجد في
التاريخ المعاصر من له تلك السابقة الممتدة في تدريس الفقه والأصول التي كانت
للسيد المرجع الراحل قدس سره ولا يسعنا في هذه العجالة أن نورد في هذه
العجالة أسماء بعض من رأيناهم طوال سنوات في مجلس درسه أو اطلعنا على
كونهم من تلامذته من أهل الاطلاع، سواء كانوا من السابقين أو اللاحقين
شيوخا أو شبابا.
429

المرجع الراحل على لسان العلماء أهل القلم
لقد جاء ذكر المرجع الراحل على لسان العلماء والمصنفين وأهل القلم
والمؤلفين وإليك قسما منها.
1 - يقول العلامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني: هو السيد محمد رضا بن السيد
محمد باقر الگلپايگاني عالم جليل ومدرس فاضل ولد في سنة 1316 ونشأ
فتعلم المبادئ وقرأ المقدمات على بعض الفضلاء، وحضر في قم على الحجة
الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري مدة كتب فيها تقريراته وهو عمدة أساتيذه،
وهو اليوم من العلماء الفضلاء في قم ومن المدرسين المشاهير بها وله آثار علمية
منها حاشية (درر الفوائد) لأستاذه المذكور فرغ منها في سنة 1356 إلى غير
ذلك.
2 - وقال المحقق الجليل والشهيد السعيد محمد علي القاضي الطباطبائي
التبريزي رضوان الله عليه - عند ذكر مشائخ إجازته -: منهم سيدنا وأستاذنا
الأعظم الفقيه والمرجع الأشهر في العالم الإسلامي السيد محمد رضا الگلپايگاني
أدام الله ظله الوارف على رؤوس المسلمين عن مشايخه الأجلاء رؤساء الدين
والملة قدس الله أرواحهم.
3 - وقال العالم الجليل الحاج الميرزا مهدي البروجردي رضوان الله عليه:
سيد العلماء العاملين وزبدة الفقهاء والمجتهدين الحاج السيد محمد رضا

(1) نقباء البشر ج 2 ص 742.
(2) اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية ص 4.
430

الگلپايگاني أدام الله أيام فيوضاته.
4 - وقال العالم الفقيه الشيخ علي پناه الاشتهاردي دامت إفاضاته: المرجع
الديني المعروف ب‍ فقيه أهل البيت عليهم السلام سيد الفقهاء العاملين سماحة آية
الله العظمى الحاج السيد محمد رضا الگلپايگاني مد ظله العالي وطول الله عمره
الشريف وجعل حفظ الحوزات العلمية تحت رعايته.
1 - وقال العالم الناسك الجليل الشيخ محمد حسين الأعلمي الحائري رضوان
الله عليه: محمد رضا الگلپايگاني: العالم المتبحر الفقيه التقي النقي المعاصر، في
البلدة المباركة (قم) المولود سنة 1316 هاجر من مسقط رأسه بعد تكميله
الأدبيات والسطوح إلى بلدة عراق العجم سنة 1335 ه‍ وحضر بحث شيخنا
عبد الكريم الحائري أعلى الله مقامه وصار من أجلة تلامذته وخواص مجلس
درسه وبحثه هناك ثم انتقل إلى البلدة المباركة (قم) واشتغل بالبحث والتدريس
في الفقه والأصول وحضر مجلس درسه جماعة من فحول حوزة قم وصار من
خواص سيدنا البروجردي (ره) ثم صار مستقلا ومرجعا للعموم إلى يومنا هذا
سنة 1392 وينبغي أن يقال في حقه:
السيد العلامة المحقق والسند الفهامة المدقق
مؤسس المباني الأصلية ممهد القواعد الفرعية
مميز الحلال والحرام وحافظ الحدود والأحكام
وله آثار جليلة من المدارس والمساجد والمستشفيات في البلاد المتفرقة إلى
يومنا هذا سنة 1392 ه‍ وأبوه السيد محمد باقر من أجلة السادة كأجداده...

(1) برهان روشن ص 156.
(2) مجموعتان من فتاوي العلمين ص 14.
(3) دائرة المعارف ج 26 ص 268.
431

2 - وقال الفاضل الرازي: أستاذ الفضلاء المعاصرين وعلامة المتأخرين
الفقيه الجامع والنبيه البارع سيدنا الأستاذ آية الله العظمى گلپايگاني
مد ظله.
3 - وقال أيضا: سيد العلماء والمجتهدين رئيس الملة والدين الآقا الحاج
السيد محمد رضا بن العالم الجليل الآقا السيد محمد باقر الگلپايگاني من مشاهير
العلماء ومراجع العصر الأجلاء وأكابر العلماء الاسلامي.
4 - وقال الفاضل الشيخ نور الدين الشاهرودي: آية الله العظمى
الگلپايگاني: هو السيد محمد رضا بن السيد محمد باقر الگلپايگاني ولد في سنة
1316 هجرية حضر في قم على العالم المؤسس الحجة الشيخ عبد الكريم اليزدي
الحائري مدة كتب فيها تقريراته وهو عمدة أساتذته، له آثار علمية منها حاشية
(درر الفوائد) لأستاذه المذكور، وهو الآن من كبار مراجع التقليد في دنيا الشيعة
ومقره في قم المقدسة حيث يقوم بمهام مرجعيته ووظائفه الشرعية غير أن نشاطه
التدريسي قد انحصر في الآونة الأخيرة نظرا لكهولته المتقدمة وكان قد اشتغل
بالبحث والتدريس في حوزة قم العلمية لسنوات طويلة.

(1) گمجينهء دانشمندان ج 2 ص 31.
(2) گمجينهء دانشمندان ج 2 ص 31.
(3) أسرة المجدد الشيرازي ص 347.
432

ارتحال المرجع الأعلى إلى الملأ الأعلى
ثم إنه قد عرضته في أواخر عمره اختلالات في صحته وكان تحت مراقبة
الأطباء إلى أن عرضه في مساء يوم الاثنين 21 جمادي الثانية 1414 ه‍. ق
ضيق التنفس ولا يزال كان يشتد الداء وعلى أثر ذلك فقد نقل المرجع الفقيه
الراحل إلى مستشفى الشهيد رجائي بطهران وكان لجنة من الأطباء يواظبون
على حاله وبذلوا كل الجهود كي تتحسن حاله وتعود صحته وحيث إنه لا مفر
عن قضاء الله تعالى فقد وقعت الحادثة العظمى والثلمة العظيمة في الاسلام و
ودع الإمام الگلپايگاني هذه الدنيا الفانية وأجاب دعوة ربه الكريم مساء يوم
الخميس 24 جمادي الثانية 1414 ه‍. ق مقارنا لغروب الشمس وعند وقت
الأذان وكأنه كان يضئ العالم الاسلامي طول أعوام طويلة كثيرة فإنا لله
وإنا إليه راجعون ولم يمض إلا قليلا حتى انتشر خبر رحيل المرجع الأعلى الإمام
الگلپايگاني من المذياع والتلفزيون فصاح الناس رجالا ونساءا وصغيرا
وكبيرا وأقبلوا إلى المستشفى وكان هناك ما كان مما لا يمكن شرحه ثم في اليوم
التالي أي يوم الجمعة فبدأ التشييع المهيب بعد الظهر من المستشفي إلى ميدان
بهمن في ملائين من النفوس المؤمنة يلطمون خدودهم ويضربون على صدورهم
ورؤسهم وفيهم الشخصيات الدينية والسياسية والاجتماعية والعلمية كقائد
الثورة الاسلامية آية الله الخامنئي دامت بركاته ولم يعهد بعد الإمام الخميني
قدس سره مثل هذا التشييع العظيم فإن هذه الجنازة المطهرة كانت على رؤوس
الأمة الاسلامية وبحر النفوس الانسانية تموج به إلى أن بلغ النعش الطاهر إلى
433

ميدان بهمن بعد أن مضى ما يقرب من ست ساعات ثم بعد ذلك شيع النعش
الطاهر بالسيارات إلى مدينة ثم وفي نفس الليلة قد باشر جمع من أهل العلم
وعيرهم في بيته الشريف بتغسيل هذا الجسد المبارك وكان يقرء في خلاله المراثي
وزيارة عشورا والأدعية ويذكر مصائب الزهراء وأهل بيت النبوة عليهم
السلام وقد كفن في كفنه الذي أعده لنفسه من قبل أربعين سنة تقريبا وكان
مكتوبا عليه جميع القرآن الكريم الذي كان يعشق به طول عمره ولا يزال كان
يقرأه صباحا ومساءا.
ثم من الساعة التاسعة بدأ تشييع نعشه الطاهر من مسجد الإمام المجتبى (ع)
وهو في مدخل بلدة قم وقد عجز البيان والقلم عن شرح هذه الصحنة العظيمة
وكان تشييع الإمام الگلپايگاني بقم مما لم يعهد مثله في تاريخ قم. ولما أن ورد
النعش الشريف الصحن المبارك وأدخلوه في حرم كريمة أهل البيت وأطيف به
لآخر الوداع صلى على نعشه الطاهر المحقق الكبير فقيه العصر آية الله الشيخ
لطف الله الصافي الگلپايگاني دام ظله العالي ثم أدخل في الحرم الشريف من
جهة الرأس ودفن في جوار شيخه وأستاذه الذي كان يحبه ويذكره طوال عمره،
أجل دفن هناك جنبا بجنب وكان الله تعالى ادخر هذا المكان الشريف لمن كان
أحب تلاميذ آية الله الحائري عنده. ألا فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات
ويوم يبعث حيا.
434

نماذج شعرية مما قيل في رثاء المرجع الراحل
(مأتم النفس)
في رثاء مرجع الأمة الاسلامية السيد الگلپايگاني قدس سره
لمن المآتم في البلاد تقام * هذا المسا وتنكس الأعلام
ولم البلاد شبابها وكهولها * مستعبرون كأنهم أيتام
ولم القلوب وقد غدت ملتاعة * فيها من الألم المحض ضرام
هو هل لغير أبي (جواد) راحلا * من بعد أن فتكت به الآلام
فانظر تشاهد أعينا وكافة * إن الدموع على الفقيد سجام
واسمع أنين المؤمنين فرزءهم * ما ليس توصف حاله الأقلام
يا عمق جرح المسلمين بفقدهم * من للعقيدة مقول وحسام
رحل الفقيه الموسوي عن الدنا * فانهار صرح للهدى ودعام
رحل الفقيه الموسوي مكرما * فاستقبلته ملائك وكرام
* * *
وإذا بكت (إيران) فقد عظيمها * فلقد بكاه الدين والاسلام
صبرا (جواد) فما فقدنا مرجعا * تعتاده الفقراء والأيتام
صبرا (جواد) فما أبوك بميت * ومتى احتوى القمر المنير ظلام
تاقت له حور الجنان وإنه * الآن في ربع الخلود ينام
أرخت (أن أبا جواد عنده * مع آل بيت أبي البتول مقام
51 4 14 129 110 31 412 13 469 181
1414 هجري
أبو أمل الربيعي
سپاه 9 بدر
435

أبيات شعرية في رثاء وتأريخ وفاة آية الله العظمى السيد الگلپايگاني قدس
سره الشريف.
ركن الشريعة يوم موتك قوضا * والفيض بعدك غاض واظلم الفضا
حوزات أهل العلم كنت رئيسها * والأمة الإسلام سيفا منتضى
ولقد ربحنا فيك أكبر مرجع * وخسارة الفقدان لن تتعوضا
جورت في الدارين مرقد فاطم * وغدا شفيعك فاطم والمرتضى
إن غاب شخصك أرخوه: (بلحده * فالاسم حي يا محمد الرضا)
49 212 18 11 92 1032
المجموع 1414 ه‍.
436