الكتاب: البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر
المؤلف: الشيخ المنتظري
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الثالة ( الأولى المحققة )
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤١٦
المطبعة: نگين - قم
الناشر: مكتب آية الله العظمى المنتظري
ردمك:
ملاحظات: الكتاب : البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر / التوزيع : قم - شارع الشهيد المنتظري - زقاق رقم ١٢ - مكتبة الشهيد محمد المنتظري

البدر الزاهر
في صلاة الجمعة والمسافر
تقريرا لأبحاث
سماحة المرحوم آية الله العظمى
الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي (قدس سره)
بقلم
سماحة آية الله العظمى المنتظري
1

البدر الزاهرفي صلاة الجمعة والمسافر
آية الله العظمى الشيخ حسين علي المنتظري دامت بركاته
الناشر: مكتب آية الله العظمى منتظري
العدد: 3000 نسخة
الطبعة: الثالثة (الأولى المحققة)
تاريخ النشر: رمضان المبارك 1416 ه‍.
المطبعة: نگين - قم المقدسة
التوزيع: قم - شارع الشهيد المنتظري - زقاق رقم 12 - مكتبة الشهيد محمد المنتظري
2

بسم الله الرحمن الرحيم
3

تمتاز هذه الطبعة عما سبقها بتعليقات تشير إلى مصادر
البحث، ووضع الفهرس لتلك المصادر، مع عناية
تامة في التصحيح وعرض الكتاب بشكل جديد،
والحمد لله أولا وآخرا.
4

الإهداء
إلى حجة الله ووليه وبقية الله في أرضه وخليفته على عباده، صاحب العصر والزمان وناشر العدل والإيمان، الإمام
المنتظر العدل المظفر، الحجة بن الحسن العسكري - عجل الله تعالى فرجه - أهدي هذه البضاعة المزجاة.
والمرجو من ساحته المقدسة أن يغمض عما قصرت فيه وأقصر من أداء حقوقه وأن يشفع لي عند الله شفاعة حسنة، سهل
الله مخرجه وقرب زمانه، وجعلنا من أعوانه وأنصاره بحق أجداده الطيبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم
الدين.
5

بسم الله الرحمن الرحيم
كلمة المقرر:
الحمد لله الذي جعل الصلاة معراجا لمن يؤمن به ليعرج بها في مدارج الكمال
والسعادة، وقربانا لمن يتقيه فيتقرب بها إلى معدن الجمال والعظمة، وميزانا يوزن به
المخلصون من عباده وأوليائه، وعمودا للدين يعتمد عليه من سافر إلى
رحمته رضوانه.
والصلاة والسلام على جامع شمل الدين وخاتم النبيين محمد وعلى آله وعترته
المصطفين الأخيار والطيبين الأطهار، الناطق بفضلهم ووجوب التمسك بهم حديث
الثقلين المتواتر بين الفريقين بنحو لا يشوبه ريب ولامين.
أما بعد، فلا يخفى على المتتبع البصير والناقد الخبير أن علم الفقه في هذه
الأعصار وإن تشعبت أغصانه وأثمرت فروعه، ووصل إلى ذروة الكمال والسعة التي
تليق به فصار كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء: اخضرت
غصونها أينعت ثمارها وتناول منها كل من أرادها، لكنه مع تشعب الفروع وكثرة
الأثمار قد ضلت الثمرات خلال الأوراق والزيادات، فعسر اجتناؤها واقتطافها على
طلاب الحقيقة وروادها، ولم يتأت لكل أحد الوقوف على المقاصد الأصلية فيها، إلى
أن
7

انتهت رياسة الشيعة الإمامية وزعامة حوزاتهم العلمية إلى شمس فلك
الفقاهة الاجتهاد ومركز دائرة البحث والانتقاد، زبدة الفقهاء والمجتهدين وآية الله
العظمى في الأرضين، حافظ الشريعة الباقية وملجأ الشيعة الإمامية، سيدنا الأعظم
" الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي " (1) مد ظله العالي على رؤوس المسلمين،
فهو - مد ظله - كان في أثناء تدريسه لأبواب الفقه يميز المسائل الأصلية الأساسية
المتلقاة عن الأئمة (عليه السلام) من التفريعات المستنبطة التي أعمل فيها الرأي
والاجتهاد، يشير في كل مسألة إلى تأريخها والتطورات اللاحقة لها في أدوار فقه
الفريقين، ثم يأتي خلال الاستدلال عليها بما هو الركن والأساس وعليه اعتماد
الفحول، ويحذف ما لا يفيد من الزوائد والفضول، وقد أفاد ودرس - مد ظله - منذ
تصدى لزعامة الحوزة العلمية بقم، من أبواب الفقه كتب الإجارة والغصب الشركة
والوصية وكتاب الصلاة بطولها، وكنت أضبط من بادئ الأمر كل ما يفيده ويلقيه
من مباحث الفقه والأصول، وقد شرع - مد ظله - في تدريس كتاب الصلاة في
السابع من جمادى الثانية سنة 1367. وأول ما شرع فيه عنون البحث عن صلاة
الجمعة وصلاة المسافر فضبطت ما أفاده وألقاه في المسألتين، ولكن مر الزمان تعاقب
الجديدان ولم أوفق خلاله لمراجعتهما طرفة عين، إلى أن التمس مني في هذه الأزمان
بعض من لا يسعني مخالفته من الأصدقاء والخلان نشر ما كتبت سابقا في المسألتين،
فراجعت السيد الأستاذ - مد ظله العالي على رؤوسنا - وشاورته في ذلك فأجاز
النشر واستحسنه، فبادرت إلى ذلك مستعينا بالله ومتوكلا عليه، وسميته: " البدر
الزاهر " في حكم صلاة الجمعة والمسافر ورتبته على فصلين: الفصل الأول في صلاة
الجمعة، والفصل الثاني في صلاة المسافر.

1 - تجدر الإشارة إلى أن آية الله العظمى البروجردي - قدس سره الشريف - انتقل إلى
جوار رحمة ربه الكريم سنة 1380 ه‍. ق.
8

ولا يخفى أن الروايات المروية في هذا الكتاب عن المشايخ الثلاثة أكثرها مأخوذة
من كتاب " وسائل الشيعة " (1) اعتمادا عليه. نعم، ربما أخذنا بعضها من الكتب
الأربعة لكون الرواية في الوسائل مقطعة أو لجهات أخر.
والمرجو ممن عثر في الكتاب على خطأ وزلة أن ينظر إليه بعين العفو والإغماض؛
فإن الإنسان محل النسيان والخطأ.
وفي الختام أقدم صلاتي وتحيتي إلى صاحب العصر والزمان - عجل الله تعالى
فرجه -.
وقد وقع الفراغ من طبع الكتاب في يوم ولادته: 15 شعبان سنة 1378 ه‍. ق.
حسين علي المنتظري النجف آبادي

1 - لا يخفى على القارئ الكريم أنه يراعى في تعليقات هذه الطبعة، الطبعات الحديثة
لمصادر الكتاب إن كانت، إلا في موارد قليلة، كما توافيك في فهرس المصادر.
9

الفصل الأول
في
صلاة الجمعة
11

صلاة الجمعة
وهي واجبة بإجماع الفريقين، بل هو من الضروريات.
واختلف في كونها صلاة مستقلة أو ظهرا مقصورة، والمستفاد من بعض الأخبار
أنها ظهر مقصورة وأن الخطبتين بدل الأخيرتين، فكونها صلاة مستقلة محل إشكال
وإن ادعاه العلامة في التذكرة (1) وعقد لها الفقهاء في متونهم الفقهية فصلا مستقلا.
بعض ما يشترط في صحة انعقادها
ويشترط في وجوبها إقامة السلطان أو نائبه عند علمائنا، وبه قال أبو حنيفة. قال
الشافعي ومالك وأحمد: ليس السلطان ولا أذنه شرطا، لأن عليا (عليه السلام) أقامه وعثمان
محصور مع أن الخلافة لم تنتقل بعد إليه. والجواب عن ذلك على أصولنا واضح وعلى
أصولهم أن حصر عثمان عزل له من قبل المسلمين ونصب لعلي (عليه السلام). (2) (3)

1 - راجع الوسائل 5 / 29 (= ط. أخرى 7 / 331)، الباب 14 من أبواب صلاة الجمعة،
الحديث 2؛ والتذكرة 1 / 143 (= ط. أخرى 4 / 12)، البحث الأول من المطلب الأول من
الفصل الأول من المقصد الثالث، المسألة 377.
2 - المصدر السابق 1 / 144، (= ط. أخرى 4 / 19)، البحث الثاني، المسألة 381.
3 - النصب على أصولهم يتوقف على البيعة بالخلافة ولم تتحقق إلا بعد ما قتل عثمان. ح ع
- م.
13

تفسير آية الجمعة
ولنذكر أولا مفاد آية الجمعة ثم نرجع إلى تحقيق المسألة:
قال الله تعالى في سورة الجمعة: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم
الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * (إلى أن
قال:) وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما) (1) الآية.
وقد يتوهم دلالة الآية الشريفة على وجوب صلاة الجمعة بنحو الإطلاق على
كل أحد، فيجوز التمسك بها لنفي كل ما شك في شرطيته.
وقد نشأ هذا التوهم من عدم الملاحظة لمورد نزولها، إذ بملاحظته يعلم أنها
ليست بصدد تشريع الجمعة، وإنما نزلت في واقعة خاصة اتفقت بعد ما كانت صلاة
الجمعة مشرعة ومعمولا بها بين المسلمين.
وقصة ذلك أن دحية بن خليفة الكلبي كان يسافر إلى الشام ويأتي بمال التجارة
إلى المدينة ثم يضرب بالطبل لإعلام الناس بقدومه، فقدم ذات
جمعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر يخطب، فلما ارتفع صوت الطبل خرج
الناس انفضوا إليه بعضهم لاشتراء المتاع وبعضهم لاستماع اللهو (الطبل) وتركوا
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما فنزلت الآيات الشريفة.
والمراد بالذكر فيها هو الخطبة كما عليه الأكثر، ولذا استدل بها أبو حنيفة على
كفاية ذكر الله فقط في خطبة الجمعة. كما استدل لها أيضا بفعل عثمان، فإنه حين ما
ولي الخلافة خطب للجمعة فقال: الحمد لله، فلما قال ذلك صار ألكن. فقال: إنكم إلى
إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال. (2)

1 - سورة الجمعة (62)، الآيات 11 - 9.
2 - راجع التذكرة 1 / 150 (= ط. أخرى 4 / 62)، البحث السادس من المطلب الأول،
المسألة 405؛ وتفسير القرطبي 18 / 115.
14

وقوله: (تركوك قائما) يعنى به قائما في الخطبة. وكان سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيرة
الخلفاء بعده على القيام فيها، إلى أن وصلت النوبة إلى معاوية فاختار القعود. (1)
وتقديم التجارة على اللهو في صدر الآية لعله من جهة كونها عندهم
أهم، تأخيرها في الذيل من جهة أن الترتيب الطبيعي يقتضي تقديم الأوضح على
الواضح، وكون ما عند الله خيرا من اللهو أوضح.
والمراد بالنداء للجمعة هو الأذان لها، فإنه لم يكن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نداء
سواه، وكان يجلس على المنبر فيؤذن مؤذنه بلال على باب المسجد ثم كان
أبو بكر عمر كذلك، حتى إذا كان عثمان وأكثر الناس زاد أذانا للجمعة فأمر بالتأذين
الأول على سطح دار له بالسوق وبالثاني على باب المسجد. (2) وإلى هذا يشير ما في
بعض الأخبار (3) من كون الأذان الثاني أو الثالث يوم الجمعة بدعة. والتثليث إنما
يتحقق بضم أذان الصبح.
وكيف كان فالمراد بالذكر في الآية بقرينة المورد هو الخطبة، والمقصود أمر الناس
بأن يسعوا ويسرعوا لإدراك الخطبة ولا يقدموا عليه المشاغل الدنيوية، وهذا بعد ما
فرض النداء إلى الجمعة التي أريد بها الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط لا محالة. إن
شئت قلت: إن الآيات ليست بصدد تشريع الجمعة وإثبات وجوبها بل نزلت بعد ما
كانت من قبل مشرعة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقيمها، فإنها نزلت بالمدينة وقد
عقدها وأقامها (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريق مهاجرته إليها على ما في التواريخ. (4) فالآيات
الشريفة إنما وردت في مقام التوبيخ والتعيير لمن ترك حضور الجمعة المنعقدة وقدم

1 - راجع الخلاف 1 / 615، المسألة 382 من كتاب الصلاة؛ والتذكرة 1 / 151 (= ط.
أخرى 4 / 70)، البحث السادس، المسألة 408.
2 - راجع مجمع البيان 5 / 288 (الجزء العاشر من التفسير)؛ وتفسير القرطبي 18 / 100.
3 - راجع الوسائل 5 / 81 (= ط. أخرى 7 / 400)، الباب 49 من أبواب صلاة الجمعة.
4 - راجع سيرة ابن هشام 2 / 139.
15

التجارة أو اللهو عليها بعد ما كان أصل تشريعها بشرائطها مفروغا عنه. فمفادها
أنه إذا أقيمت صلاة الجمعة بشرائطها وحدودها فعلى الناس أن يسعوا إليها ويذروا
ما يشغل عنها؛ وأما أنه على من يجب عقدها وإقامتها، وما هي حدودها وشروطها
فليست الآية في مقام بيانها.
فإن قلت: نعم، الآية لا تدل على وجوب العقد، ولكنها تدل بإطلاقها على
وجوب السعي إليها كلما عقدت وأينما أقيمت، وبالجملة مفادها أنه كلما أقيمت
الجمعة يجب السعي إليها، عملا بإطلاق الشرط وعمومه كما يعمل به في نحو: إذا
جاءك زيد فأكرمه، ويشمل إطلاق الشرط لما عقدها السلطان أو نائبه ولما عقدها
غيرهما.
قلت: ليست الآية في مقام بيان أن كل جمعة أقيمت يجب السعي إليها، بل في
مقام التوبيخ لمن يفر عن الجمعة الصحيحة المعقودة بقصد البيع أو اللهو أو سائر
المشاغل. (1) والحاصل أنها غير مسوقة لبيان وجوب العقد والإقامة، أو لبيان
وجوب الحضور والسعي إلى كل جمعة أقيمت كيفما كانت، بل وردت للتوبيخ على
تساهل الحضور وتقديم سائر المشاغل بعد ما فرض إقامة جمعة واجدة
للشرائط ثبت إجمالا وجوب السعي إليها.
وكيف كان فلنشرع في تحقيق أخبار الباب، ولنشر قبله إلى أمرين:
الأول: بيان نكتة تاريخية في باب إقامة الجمعة
اعلم أن هاهنا نكتة تاريخية تكون بمنزلة القرينة المتصلة للأخبار الصادرة
عنهم (عليهم السلام) فيجب التوجه إليها في فهم مفاد الأخبار، وهي أنه لا ريب في أن

1 - وإن شئت قلت: إن الأسامي قد وضعت للصحيح على الصحيح، فمفاد الآية وجوب
السعي إلى الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط فلا تدل بإطلاقها على صحة كل جمعة
أقيمت. ح ع - م.
16

رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بنفسه يقيم الجمعة ويعقدها، وبعده أيضا ما أقامها إلا
الخلفاء والأمراء ومن ولي الصلاة من قبلهم، حتى وصلت النوبة إلى أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) فكان هو أيضا كذلك، وكان من سيرتهم جميعا تعيين أشخاص معينة
لإمامة الجمعة في البلدان وإن كان الغالب تعيين الحكام لها، فكان عقدها وإقامتها
من مناصبهم الخاصة ولم يعهد في عهدهم إقامة شخص آخر لها، بدون إذنهم حتى في
عصر خلافة علي (عليه السلام) وهكذا كان سيرة الخلفاء غير الراشدين من الأموية
والعباسية، فكان ينظر ويرى كل واحد من آحاد المسلمين أنه كلما أقبل يوم الجمعة
حضر الخليفة بنفسه أو نائبه لإقامتها واجتمع الناس وسعوا إليها ولم يروا قط أحدا
يعقدها باختياره.
فهذه السيرة والطريقة كانت مشهودة للمسلمين مركوزة في أذهانهم حتى
لأصحاب أئمتنا (عليهم السلام)، فالأخبار الصادرة عنهم (عليهم السلام) قد ألقيت إلى أشخاص قد
شهدوا هذه الطريقة من الخلفاء وعمالهم ومن الناس في الجمعات وارتكزت هذه
الطريقة في أذهانهم من الصغر، وقد استمر سيرة السلاطين بعد الخلفاء أيضا على
إقامة الجمعة بأنفسهم وعلى نصب أشخاص خاصة لها، حتى إن السلطان إسماعيل
الصفوي (1) قد مال إلى إقامتها في قبال العثمانية وكانت الصفوية يعينون أشخاصا
خاصة لإقامة الجمعة في البلدان، وكان إمامة الجمعة من المناصب المفوضة من
قبلهم، وهكذا كان سيرة القاجارية، ولأجل ذلك كان في كل بلد شخص خاص
ملقبا بلقب إمام الجمعة.
والحاصل أن إقامة الجمعة وإمامتها منذ عهد الرسول صلى الله عليه وآله إلى
زماننا هذا كانت من مناصب سلطان المسلمين ومن بيده أزمة أمورهم أو المنصوبين
من قبلهم.

1 - المراد منه إسماعيل الأول - من أحفاد الشيخ صفي الدين الأردبيلي - المؤسس
للحكومة الصفوية في إيران في العشر الأول من القرن العاشر للهجرة النبوية.
17

وقد نقل في نفائس الفنون: أن السلطان خدابنده بنى في سلطانية قزوين مدرسة
كان يدرس فيها خمسة من الفقهاء بالمذاهب الخمسة، منهم العلامة بمذهب الشيعة،
ثم حضر السلطان يوما من الأيام لإمامة الجمعة، فسأل العلماء بعد اجتماعهم عن
وجه وجوب الصلاة على الآل، ثم قال: لعل النكتة فيه أن الله تعالى أراد عدم نسيان
الآل وكونهم في ذكر الناس حتى يرجعوا إليهم. (1) انتهى.
فيعلم من ذلك أن السلطان خدابنده كان بنفسه يقيم الجمعة مع حضور
العلماء والفقهاء.
وكان سيرة الأمراء والحكام بناء المسجد الجامع قرب دار الإمارة فكان دار
الإمارة والمسجد الذي تقام فيه الجمعة متقاربين كما هو الحال في مسجد الكوفة، كان
في كل مصر مسجد واحد يسمى عند العرب بالمسجد الجامع وعند العجم بمسجد
الجمعة، وأغلبها باق إلى زماننا هذا، ولم يعهد بناء الجامع في القرى، حيث إن إيران
كانت من توابع العراق وكان فقيه العراق أبا حنيفة وهو ممن يخص إقامة الجمعة
بالأمصار وينكر مشروعيتها في القرى (2)، وقد كان إقامة الجمعة في المسجد المعد لها
في كل مصر من خصائص شخص خاص عينه خليفة الوقت لذلك. هكذا كان
سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء والأمراء والمسلمين من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليوم، فلتكن
هذه النكتة التاريخية في ذكر منك عند مراجعة الأخبار الصادرة عنهم (عليهم السلام).
الأمر الثاني: تقسيم مسائل الفقه إلى أصول وتفريعات
لا يخفى أن رواياتنا معاشر الإمامية لم تكن مقصورة على ما في الكتب الأربعة بل
كان كثير منها موجودة في الجوامع الأولية، كجامع علي بن الحكم وابن أبي

1 - راجع نفائس الفنون 2 / 260 - 257، المقالة الرابعة، الفن الثالث، الباب الخامس. لغة
الكتاب الفارسية. وليس فيه أن السلطان حضر يوم الجمعة.
2 - راجع الخلاف 1 / 597، المسألة 358 من كتاب الصلاة.
18

عمير والبزنطي وحسن بن علي بن فضال ومشيخة حسن بن محبوب ونحو ذلك،
ولم يذكرها المشايخ الثلاثة في جوامعهم، فإذا عثرنا في مسألة على إطباق
أصحابنا وإجماعهم على الفتوى في كتبهم المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة عن
الأئمة (عليهم السلام) مثل كتب القدماء من أصحابنا نستكشف من ذلك وجود نص واصل
إليهم يدا بيد، وهذا هو الإجماع المعتبر عندنا، فالعمل بالإجماع ليس رفضا لقول
المعصومين بل هو من الطرق القطعية الكاشفة عن أقوالهم.
وإن شئت تفصيل ذلك فنقول: إن القدماء من أصحابنا كانوا لا يذكرون في
كتبهم الفقهية إلا أصول المسائل المأثورة عن الأئمة (عليهم السلام) والمتلقاة منهم يدا بيد، من
دون أن يتصرفوا فيها أو يذكروا التفريعات المستحدثة، بل كم تجد مسألة واحدة
تذكر في كتبهم بلفظ واحد مأخوذ من متون الروايات والأخبار المأثورة، بحيث
يتخيل الناظر في تلك الكتب أنهم ليسوا أهل اجتهاد واستنباط بل كان الأواخر
منهم يقلدون الأوائل، ولم يكن ذلك منهم إلا لشدة العناية بذكر خصوص ما صدر
عنهم (عليهم السلام) ووصل إليهم بنقل الشيوخ والأساتذة، فراجع كتب الصدوق
كالهداية المقنع والفقيه ومقنعة المفيد ورسائل علم الهدى ونهاية الشيخ ومراسم
سلار والكافي لأبي الصلاح ومهذب ابن البراج وأمثال ذلك تجد صدق ما ذكرنا.
وقد ذكر الشيخ " ره " في أول المبسوط ما ملخصه: أن استمرار هذه الطريقة بين
أصحابنا صار سببا لطعن المخالفين، فكانوا يستحقرون فقه أصحابنا
الإمامية ينسبونهم إلى قلة الفروع والمسائل، مع أن جل ما ذكروه من المسائل
موجود في أخبارنا، وما كثروا به كتبهم من الفروع فلا فرع من ذلك إلا وله مدخل في
أصولنا ومخرج على مذهبنا لاعلى وجه القياس. وكنت على قديم الوقت وحديثه
متشوق النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك تتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك
القواطع وتضعف نيتي أيضا فيه قلة رغبة هذه الطائفة فيه وترك عنايتهم به لأنهم
ألقوا
19

الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتى إن مسألة لو غير لفظها وعبر عن
معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها. وكنت عملت على قديم الوقت كتاب
النهاية وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم وأصلوها من المسائل، ولم
أتعرض للتفريع على المسائل ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها والجمع
بين نظائرها، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة حتى لا يستوحشوا من
ذلك وعملت بآخره مختصر جمل العقود في العبادات، ووعدت فيه أن أعمل كتابا في
الفروع خاصة يضاف إلى كتاب النهاية، ثم رأيت أن ذلك يكون مبتورا يصعب
فهمه على الناظر فيه، لأن الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الأصل معه فعدلت إلى عمل
كتاب يشتمل على عدد جميع كتب الفقه وأعقد فيه الأبواب وأقسم فيه
المسائل أجمع بين النظائر وأستوفيه غاية الاستيفاء وأذكر أكثر الفروع التي ذكرها
المخالفون. انتهى. (1)
وهذا الكلام منه (قده) ينادي بما ذكرناه، وبأنه أيضا عمل كتاب النهاية على
طريقتهم مقتصرا فيها على ذكر ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم وأصلوها، ولكنه
لدفع طعن المخالفين عمل كتاب المبسوط ليستوفي فيه الفروع والأصول ويجمع بين
الأصول والنظائر.
وعلى هذا فإذا عثرت في مسألة على إطباق القدماء من أصحابنا على فتوى أو
اشتهاره بينهم في تلك الكتب المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة والمأثورة
فاحدس بتلقيهم ذلك يدا بيد من قبل الأئمة (عليهم السلام) وإن لم تجد به نصا في الجوامع التي
بأيدينا حيث إن سلسلة فقهنا لم تنقطع ولم تحصل فترة بين الفقهاء من أصحابنا وبين

1 - المبسوط 1 / 3 - 1. وقال الصدوق في أول المقنع (الجوامع الفقهية ص 2): " وسميته
كتاب المقنع لقنوع من يقرأ بما فيه، وحذفت الأسناد منه لئلا يثقل حمله ولا يصعب
حفظه لا يمل قارئه، إذ كان ما أبينه فيه في الكتب الأصولية موجودا مبينا عن المشايخ العلماء
الفقهاء الثقات ". وهذا الكلام أيضا يؤيد ما ذكره الأستاذ مد ظله العالي. ح ع - م.
20

الحجج المعصومين، كما لا يخفى على من تتبع تاريخ الفقه والحديث، وقد عثرنا في
أثناء تتبعنا على مواضع كثيرة يستكشف فيها من فتاوى الأصحاب وجود نص
واصل إليهم من دون أن يكون منه في الجوامع التي بأيدينا عين ولا أثر.
فتلخص مما ذكرنا أن مسائل الفقه على قسمين: فبعضها أصول متلقاة عنهم (عليهم السلام)
وقد ذكرها القدماء في كتبهم المعدة لنقلها، ويكون إطباقهم في تلك المسائل بل
الاشتهار فيها حجة شرعية لاستكشاف قول المعصوم (عليه السلام) بذلك، وبعضها تفريعات
تستنبط من تلك الأصول بإعمال الاجتهاد، ولا يكون الإجماع فيها فضلا عن
الشهرة مغنيا عن الحق شيئا.
ولا يخفى أن الاجتهاد عند أصحابنا الإمامية ليس إلا استقصاء طرق الكشف
عن قول المعصوم واستنتاج الأحكام من آثارهم واستنباط الفروع من الأصول
المأثورة عنهم، نعم الاجتهاد عند العامة يخالف ما ذكر، فإنه عندهم دليل مستقل في
قبال سائر الأدلة الشرعية، ولذلك كانوا في كتبهم الأصولية يذكرونه في فصل
مستقل.
فالاجتهاد عندنا عبارة عن استفراغ الوسع في استنباط الأحكام الشرعية عن
أدلتها، وأما عندهم فدليل في قبال سائر الأدلة.
بيان ذلك أنهم لما لم يقروا بإمامة أئمتنا وحجية أقوالهم ولم يكن الأخبار النبوية
وافية بالفقه احتاجوا إلى استنباط أحكام الوقائع بالقياسات، وحيث لم يف القياس
أيضا بذلك لجأوا إلى الاستحسانات الذوقية والحكم على طبق المصالح والمفاسد
المظنونة، فهذا هو المراد بالاجتهاد عندهم. فالاجتهاد عندنا ليس إلا تطبيق
الأصول المأثورة على الموارد، وعندهم إعمال النظر في النظائر والملاكات المظنونة
ليقاس عليها ويحكم على وفقها، والأخبار الواردة في ذمه ناظرة إلى ما هو المعهود
عندهم من تفويض الواقعة إلى الفقيه حتى يحكم فيها على وفق ما يبدو في نظره من
الملاكات. وكيف كان فمستندنا في الفقه ليس إلا الأخبار المأثورة وما بحكمها
21

مما يكشف عن قولهم (عليهم السلام)، وحجية الإجماع عندنا أيضا من هذا الباب فلا طعن
علينا في العمل به، فتدبر.
طوائف الأخبار التي يستدل بها على وجوب الجمعة
وأما الأخبار الواردة التي يستدل بها على وجوب صلاة الجمعة فثلاث طوائف:
الأولى: ما تدل على أصل وجوبها إجمالا، ويتبادر منها وجوب الحضور والسعي
إلى الجمعة بعد ما فرض انعقادها بشروطها، وإن كان ربما يستدل بالإطلاق المتوهم
في بعضها على عدم اشتراط حضور السلطان أو من نصبه ووجوبها العيني حتى في
عصر الغيبة.
الثانية: ما تدل على اشتراط الإمام أو من نصبه وأن إقامتها من وظائفه مناصبه.
الثالثة: ما استدل بها على ترخيص الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم في إقامتها، ويترتب
عليه جواز إقامة الشيعة لها أو وجوبها في عصر الغيبة، وأكثر هاتين الطائفتين أيضا
تدل على أصل الوجوب إجمالا.
ما تدل على وجوب حضور الجمعة بعد فرض انعقادها
أما الطائفة الأولى فهي أخبار كثيرة ذكرها القوم، وإن كان في دلالة بعضها على
أصل الوجوب أيضا نظر:
1 - ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: " إنما
فرض الله عزو جل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسا وثلاثين صلاة، منها
صلاة واحدة فرضها الله عز وجل في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن
الصغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعمى ومن كان على
رأس فرسخين. " ورواه الكليني عن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان وعن
22

علي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة.
ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب. (1)
ولا بأس بسند الحديث. ولا يخفى أنه ليس بصدد بيان وجوب إقامة الجمعة
فضلا عن وجوبها على كل أحد وإن لم يؤذن له من قبل الإمام (عليه السلام)، ولا في مقام بيان
شروط الانعقاد، بل هو بصدد بيان وجوب حضور الجمعة والسعي إليها بعد ما
فرض انعقادها بشرائطها، ويشهد لذلك استثناء الذين لا يجب عليهم الحضور من
التسعة المذكورة في الحديث.
والحاصل أنه بالدقة في الحديث يعلم كونه في مقام بيان وظيفة الناس بالنسبة
إلى الجمعات المعقودة، وأنه يجب عليهم حضورها إلا على التسعة المذكورين ومنهم
من بعد عن الجمعة المنعقدة بفرسخين.
وقوله " في جماعة " يحتمل أن يكون المراد منها اجتماع الناس بنحو يناسب الجمعة
لا الجماعة المصطلحة، وهذا أيضا شاهد آخر على كون الحديث في مقام بيان
وجوب الحضور بعد اجتماع الناس.
2 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن
سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم،
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن الله عز وجل فرض في كل سبعة أيام خمسا وثلاثين
صلاة، منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها إلا خمسة: المريض
والمملوك المسافر والمرأة والصبي. " ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب. (2)
والرواية صحيحة من حيث السند. ومرسلة المفيد في المقنعة أيضا مأخوذة من
الحديثين، فراجع. (3)

1 - الوسائل 5 / 2 (= ط. أخرى 7 / 295)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.
2 - المصدر السابق 505 (= ط. أخرى 7 / 299) والباب، الحديث 14.
3 - المصدر السابق 5 / 6 (= ط. أخرى 7 / 300) والباب، الحديث 19؛ عن المقنعة /
162.
23

والرواية صريحة في كونها بصدد بيان وجوب السعي والحضور بعد ما فرض
انعقاد الجمعة، وليست بصدد بيان وجوب العقد ومن يجب عليه ذلك من الإمام أو
نائبه أو مطلق الناس. ولعل الاقتصار فيها على استثناء الخمسة من جهة دخول
الأعمى والكبير في المريض، وكون الرواية في مقام تقسيم الناس باعتبار حالاتهم
إلى من تجب عليه الجمعة ومن لا تجب، وكون الشخص على رأس فرسخين ليس من
تطوراته وحالاته.
3 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن
منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة
فما زادوا، فإن كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم، والجمعة واجبة على كل أحد لا يعذر
الناس فيها إلا خمسة: المرأة والمملوك والمسافر والمريض والصبي. " (1)
وهذا الحديث أيضا بصدد بيان وجوب الحضور لا العقد والإقامة.
4 - ما رواه الصدوق في الفقيه. قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) في الجمعة فقال:
" الحمد لله الولي الحميد (إلى أن قال:) والجمعة واجبة على كل مؤمن إلا على
الصبي المريض والمجنون والشيخ الكبير والأعمى والمسافر والمرأة والعبد المملوك
ومن كان على رأس فرسخين. " (2)
وعدم كون الرواية بصدد بيان وجوب العقد فضلا عمن يجب عليه ذلك، بين
لا يدخله ريب، فإنه (عليه السلام) كان بنفسه يعقد الجمعة ويقيمها حينما صدر عنه هذه
الخطبة، وليس بصدد بيان الوظيفة لنفسه أو لعماله، بل بصدد بيان وظيفة الناس
بالنسبة إلى الجمعات التي كانت تنعقد بشرائطها، أعني وجوب الحضور والسعي
إليها. ونحوها الأحاديث النبوية الدالة على وجوب الجمعة وحث الناس عليها، فإن

1 - المصدر السابق 5 / 5 (= ط. أخرى 7 / 300) والباب، الحديث 16؛ و 5 / 8 (= ط.
أخرى 7 / 304)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 7.
2 - المصدر السابق 5 / 3 (= ط. أخرى 7 / 297)، الباب 1 منها، الحديث 6.
24

المتصدي لعقدها في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان نفسه الشريفة.
5 - ما رواه المحقق في المعتبر مرسلا من قوله (عليه السلام) (1): " إن الله كتب عليكم الجمعة
فريضة واجبة إلى يوم القيامة. " (2)
وقد عرفت أن الأخبار النبوية إنما صدرت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصر كان هو بنفسه
يتصدى لإقامة الجمعة أو ينصب لها من يقيمها، فليست بصدد بيان وجوب
العقد والإقامة بل بصدد بيان وجوب الحضور والسعي إلى ما انعقدت بشرائطها.
6 - ما رواه أيضا مرسلا من قوله (عليه السلام): " الجمعة واجبة على كل مسلم في
جماعة. " (3)
والظاهر كونه بصدد بيان اشتراطها بالجماعة المصطلحة، أو الجماعة بمعنى
الاجتماع الخاص المناسب للجمعة كما مر بيانه في ذيل الخبر الأول.
7 - ما رواه أيضا مرسلا من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الجمعة حق على كل مسلم إلا
أربعة. " (4)
والاستثناء فيه دليل على كونه في مقام بيان حكم الحضور، والمراد بالحق فيه هو
الثابت أو حق الله على الناس أو حق الإمام المقيم لها عليهم.
8 - ما رواه الشهيد الثاني في رسالة الجمعة مرسلا. قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " الجمعة
حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو
مريض. " (5) الظاهر اتحاده مع سابقه.

1 - لم يصرح في المعتبر بمرجع الضمير، ولعل المراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما فهمه في
الوسائل، كذا الكلام في الرواية التالية. ح ع - م.
2 - الوسائل 5 / 6 (= ط. أخرى 7 / 301)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
22.
3 - المصدر السابق، الحديث 23.
4 - المصدر السابق، الحديث 21.
5 - المصدر السابق، الحديث 24؛ عن رسالة الجمعة للشهيد (المطبوعة مع جملة من
رسائله) ص 54.
25

ولا يخفى أن اشتراط إقامة الجمعة بوجود السلطان العادل أو من نصبه كان من
واضحات فقه أصحابنا الإمامية إلى عهد الشهيد الثاني، وفي عصره شرع فقهاؤنا
في تأليف الرسالات باسم رسالة الجمعة وألغوا فيها الشرط المذكور. والمراسيل التي
ذكرت أو تذكر في هذه المسألة أخبار نبوية عامية أخذها أصحابنا من المسانيد
المذكورة في كتب العامة كسنن ابن ماجة ونحوه، فراجع. (1)
9 - ما رواه أيضا مرسلا. قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة طويلة نقلها
المخالف المؤالف: " إن الله تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد
موتي استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره. ألا ولا صلاة
له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حج له، ألا ولا صوم له، ألا ولا بر له حتى يتوب. " (2)
كذا في الوسائل وفي الرسالة المفصلة للشهيد، ولكن متن الحديث في رسالته
المختصرة هكذا: " فمن تركها في حياتي أو بعد موتي وله إمام عادل
استخفافا... ". (3) لا يخفى أن المتبادر منه إمام الأصل لا مطلق إمام الجماعة، مضافا إلى
أن الظاهر من الحديث كونه بصدد بيان وجوب السعي والحضور كما مر في نظائره.
10 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن عمر
بن أذينة، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " الجمعة واجبة على من إن صلى الغداة
في أهله أدرك الجمعة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يصلي العصر في وقت الظهر

1 - راجع سنن البيهقي 3 / 171 و 172 و 183، كتاب الجمعة، وباب من تجب عليه
الجمعة، وباب من لا تلزمه الجمعة؛ وسنن ابن ماجة 1 / 343 و 357.
2 - الوسائل 5 / 7 (= ط. أخرى 7 / 302)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
28؛ عن رسالة الشهيد في صلاة الجمعة المطبوعة مع جملة من رسائله ص 61. وراجع
سنن ابن ماجة 1 / 343؛ وسنن البيهقي 3 / 171، كتاب الجمعة. وفيهما: " وله إمام عادل أو
جائر. " والرواية ضعيفة عندهم أيضا.
3 - راجع رسائل الشهيد ص 99.
26

في سائر الأيام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجعوا إلى رحالهم قبل
الليل، وذلك سنة إلى يوم القيامة. " وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن
يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير مثله. (1)
ويستفاد من هذه الرواية إن إقامة الجمعة ليست بيد كل أحد، وكذلك جميع
الروايات الدالة على وجوب حضور الجمعة على من بعد عنها بفرسخين وعدم
وجوبه على من بعد بالأزيد؛ كيف ولو لم تشترط بحضور السلطان العادل أو من
نصبه وكان لكل أحد عقدها وإقامتها لم يتكلف الناس في تلك الأعصار طي
الفرسخين مع سهولة اجتماع الخمسة أو السبعة، وأقل الواجب من الخطبة أيضا
يسهل تعلمه لكل أحد، وحمل الروايات على الموارد التي لا يتيسر فيها اجتماع العدد
المعتبر أو لا يوجد من يقدر على الإتيان بأقل ما يجب في الخطبة حمل للأخبار
المستفيضة على الموارد النادرة جدا.
11 - ما رواه الصدوق في المجالس عن الحسين بن إبراهيم بن تاتانه (2) عن علي
بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة بن أعين
عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: " صلاة الجمعة فريضة، والاجتماع إليها فريضة مع
الإمام، فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، ولا يدع
ثلاث فرائض من غير علة إلا منافق ". ورواه البرقي في المحاسن عن أبي محمد، عن
حماد بن عيسى مثله. ورواه الصدوق أيضا في عقاب الأعمال عن محمد بن الحسن،
عن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز وفضيل، عن
زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام). (3)

1 - الوسائل 5 / 11 (= ط. أخرى 7 / 307)، الباب 4 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
1.
2 - في تنقيح المقال 1 / 315 أسقط كلمة الابن بين إبراهيم وتاتانه. وفي ضبط تاتانه
أقوال: تاتانه - يايانه - بابايه - ناتانه. ح ع - م.
3 - الوسائل 5 / 8 (= ط. أخرى 7 / 298 - 297)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة،
الحديثان 8 و 12.
27

ولعل الجملة الأولى ناظرة إلى وجوب الإقامة والثانية إلى وجوب الحضور،
ولكن قوله: " مع الإمام " يدل على أن المتصدي لإقامتها هو الإمام، والظاهر منه إمام
الأصل لا إمام الجماعة وإلا لكان ذكره لغوا، لاستفادته من لفظ الاجتماع، بداهة أن
المتبادر منه هو الاجتماع للجماعة لا الاجتماع فقط وإن صلوا منفردين، وليس قوله:
" صلاة الجمعة فريضة " بصدد بيان من يجب عليه عقدها، بل بصدد بيان أصل
وجوبه إجمالا، فلا إطلاق له بالنسبة إلى شرطية الإمام أو من نصبه، كما لا إطلاق له
بالنسبة إلى سائر الشروط المشكوكة. ولقائل أن يقول: إن ترتيب النفاق على ترك
ثلاث جمع لا على ترك صرف الطبيعة يوهن الدلالة على الوجوب أيضا، فتأمل.
12 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن
عاصم، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من ترك الجمعة
ثلاث جمع متوالية (بغير علة - عقاب الأعمال) طبع الله على قلبه. " ورواه الصدوق
في عقاب الأعمال عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن محمد بن عيسى بن عبيد،
عن النضر. ورواه البرقي أيضا في المحاسن عن أبيه، عن النضر. (1)
والظاهر أنه أيضا بصدد بيان وجوب الحضور والسعي إلى الجمعة المنعقدة
بشرائطها لا بيان وجوب الإقامة، إذ من البين أن سياقه يشبه سياق ذيل الحديث
الحادي عشر.
13 - ما رواه الشهيد في رسالته من قول النبي (عليه السلام): " من ترك ثلاث جمع تهاونا
بها طبع الله على قلبه. " ورواه أيضا بعبارة أخرى تقرب منه. ورواه المفيد أيضا في
المقنعة كذلك. (2)
والكلام فيه هو الكلام في سابقه.

1 - المصدر السابق 5 / 5 و 4 (= ط. أخرى 7 / 299 و 298) والباب، الحديثان 15 و 11.
2 - المصدر السابق 5 / 6 (= ط. أخرى 7 / 302 - 301) والباب، الأحاديث 25
و 2026.
28

14 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن
أبيه، عن وهب، عن جعفر (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) كان يقول: " لأن أدع شهود حضور (1)
الأضحى عشر مرات أحب إلى من أن أدع شهود حضور الجمعة مرة واحدة من
غير علة. " (2)
وكونه في مقام بيان حكم الحضور لا العقد غير خفى.
15 - ما رواه الشهيد في رسالته مرسلا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " لينتهين أقوام
عن ودعهم الجمعات أو ليختمن على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين. " (3)
والظاهر أنه أيضا لبيان حكم الحضور كما لا يخفى وجهه.
16 - ما رواه الصدوق في المجالس عن الحسين بن إبراهيم بن تاتانه، عن علي بن
إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن أبي زياد النهدي، عن عبد الله بن
بكير، قال: قال الصادق (عليه السلام): " ما من قدم سعت إلى الجمعة إلا حرم الله جسدها على
النار. " (4)
ولا يخفى عدم دلالة الحديث على الوجوب، مضافا إلى كونه في مقام الحث على
السعي لا الإقامة.
17 - ما رواه فيه بإسناده، قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألوه
عن سبع خصال، فقال: " أما يوم الجمعة فيوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، فما
من مؤمن مشى فيه إلى الجمعة إلا خفف الله عليه أهوال يوم القيامة ثم يؤمر به إلى
الجنة. " (5) والكلام فيه كسابقه.

1 - كذا في الوسائل في الموضعين.
2 - الوسائل 5 / 5 (= ط. أخرى 7 / 300)، الباب 1 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
18.
3 - المصدر السابق 5 / 6 (= ط. أخرى 7 / 302) والباب، الحديث 27.
4 - المصدر السابق 5 / 3 (= ط. أخرى 7 / 297) والباب، الحديث 7.
5 - المصدر السابق 5 / 4 (= ط. أخرى 7 / 298) والباب، الحديث 9.
29

18 - ما رواه في ثواب الأعمال عن أبيه، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن
النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
من أتى الجمعة إيمانا واحتسابا استأنف العمل. " (1)
والكلام فيه كسابقه. ومعنى الحديث أن الآتي بالجمعة يمحى عنه سيئاته ويكون
كمن شرع في العمل في أول بلوغه.
19 - ما رواه في الفقيه بإسناده عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبيه،
جميعا عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى (عليه السلام). قال: " ليس
على النساء جمعة ولا جماعة (إلى أن قال:) ولا تسمع الخطبة. " (2)
20 - ما رواه فيه أيضا. قال: وقال الصادق (عليه السلام): " ليس على النساء أذان لا إقامة،
ولا جمعة ولا جماعة. " (3)
ودلالة الخبرين على الوجوب على فرض ثبوتها دلالة مفهومية، وكونهما بصدد
بيان حكم الحضور لا الإقامة أوضح من أن يخفى.
هذه جملة الروايات من الطائفة الأولى. وقد عرفت أن بعضا منها لا تدل على
الوجوب، وما تدل عليه إنما سيقت لبيان وظيفة المسلمين بالنسبة إلى الجمعات التي
فرض انعقادها بشرائطها وأنه يجب عليهم حضورها والسعي إليها إلا على الطوائف
التسع أو الخمس أو الأربع المستثناة، وليست بصدد بيان وجوب إقامة الجمعة فضلا
عمن تجب عليه الإقامة وما يشترط في صحتها أو وجوبها. فلا تنافي هذه الأخبار
كون الإمام أو نائبه شرطا في الصحة أو الوجوب إذا فرض استفادتها من أدلة
أخرى، كما لا تنافي اشتراطها بالجماعة والعدد الخاص والخطبتين وأن لا يكون بينها
وبين مثلها أقل من فرسخ. فتدبر في المقام فإنه من مظان زلل الأقدام.

1 - المصدر السابق 5 / 4 (= ط. أخرى 7 / 298) والباب، الحديث 10.
2 - المصدر السابق 5 / 3 (= ط. أخرى 7 / 296) والباب، الحديث 4.
3 - المصدر السابق 5 / 3 (= ط. أخرى 7 / 297) والباب، الحديث 5.
30

عناوين جهات البحث في المسألة
إذا عرفت ذلك فنقول: إن جهات البحث في المسألة كثيرة فلنشر إليها إجمالا:
الأولى: هل يكون وجوب الجمعة مشروطا بحضور الإمام أو من نصبه أولا؟
الثانية: على فرض الاشتراط هل تحرم حال الغيبة، أو تكون الفقهاء مأذونين
من قبله (عليه السلام) في إقامتها، أو يشمل الإذن جميع المؤمنين فلكل أحد منهم
عقدها وإقامتها؟ في المسألة وجوه ثلاثة وسيأتي تفصيلها. (1)
الثالثة: على فرض الاشتراط هل يجب على الإمام إقامتها مطلقا أولا، بل
يراعى في ذلك مصالح المسلمين؟
الرابعة: هل يجب عليه أن ينصب في كل بلد من يقيم الجمعة أولا؟
الخامسة: هل يجب على المنصوب أن يقيمها مطلقا أو يجوز له أن يراعي
المصالح؟
السادسة: على فرض وجوب النصب هل يجب نصب خصوص الحاكم لإقامتها
أو يجوز نصب غيره؟
السابعة: إذا عين الإمام (عليه السلام) حاكما لبلد فهل يكفي جعل الحكومة له في جواز
إقامة الجمعة أو وجوبها، أو هو منصب آخر يحتاج إلى جعل خاص؟
الثامنة: إذا ثبت إذن الإمام (عليه السلام) للفقهاء أو لجميع الناس في إقامتها فهل يجب على
المأذونين إقامتها تعيينا أو لابل الوجوب على القول به مخصوص بمن نصب؟

1 - وهنا وجهان آخران:
الأول: أن يكون الإمام أو من نصبه شرطا على فرض كونه مبسوط اليد، ففي هذا الفرض
تكون إقامتها من مناصبه، ومن أقامها بغير إذنه فهو غاصب ولكنه من قبيل استحقاق ولى
الميت للصلاة عليه في أنه إن وجد مانع عن قيام الولي بحقه من غيبة أو تقية أو نحوهما فعلى
سائر المكلفين أن يصلوا عليه.
الثاني: أن يكون الإمام أو من نصبه شرطا في الوجوب التعييني لا التخييري، فلا يشترط
في التخييري إذنه ولو عموما. ح ع - م.
31

التاسعة: هل يترتب على الجمعة المأذون فيها جميع أحكام الجمعة التي يقيمها
الإمام أو من نصبه من وجوب حضورها وعدم جواز التخلف عنها إلا للطوائف
المستثناة وسائر الأحكام أو لابل غاية الأمر صحتها إن وجد شرائطها من
العدد وغيره؟
العاشرة: هل يجب على الإمام (عليه السلام) النصب للأزمنة المستقبلة كزمن الغيبة إذا علم
تعذر النصب في تلك الأزمنة أولا يجب؟
هذه جهات يمكن أن يبحث عنها في المسألة. والعمدة هي الجهتان
الأوليان. الظاهر أن الأقوال في المسألة بحسبهما أربعة:
الأول: أن لا يكون الإمام أو من نصبه شرطا أصلا، فيجوز لكل واحد من
المسلمين إقامتها بل تجب كفاية، وقد حدث وظهر هذا القول في الإمامية من عهد
الصفوية، وقواه الشهيد الثاني وألف فيه رسالة مستقلة، ومن هذا الزمان انفتح باب
تأليف الرسالة في هذا الموضوع.
الثاني: الاشتراط وعدم الإذن، فتحرم في عصر الغيبة. وبه قال ابن
إدريس سلار والسيد المرتضى في الميافارقيات، ولعله يظهر من المفيد أيضا كما
سيأتي.
الثالث: الاشتراط وكون الفقهاء مأذونين من قبلهم (عليهم السلام) في إقامتها، وهو
المستفاد من بعض عبائر الشيخ (قده).
الرابع: الاشتراط وكون جميع المؤمنين مأذونين في الإقامة، وهو الظاهر أيضا
من بعض عباراته.
نقل كلمات الأصحاب
فلنذكر كلمات القوم في المسألة ثم لنشرع في الاستدلال:
1 - قال الشيخ في الخلاف (المسألة 397): " من شرط انعقاد الجمعة الإمام أو من
يأمره الإمام بذلك من قاض أو أمير ونحو ذلك، ومتى أقيمت بغير أمره لم تصح، وبه
32

قال الأوزاعي وأبو حنيفة. وقال محمد: إن مرض الإمام أو سافر أو مات فقدمت
الرعية من يصلي بهم الجمعة صحت لأنه موضع ضرورة. وصلاة العيدين عندهم
مثل صلاة الجمعة. وقال الشافعي: ليس من شرط الجمعة الإمام ولا أمر الإمام.
ومتى اجتمع جماعة من غير أمر الإمام فأقاموها بغير إذنه جاز. وبه قال مالك أحمد.
دليلنا: أنه لا خلاف أنها تنعقد بالإمام أو بأمره وليس على انعقادها إذا لم يكن
إمام ولا أمره دليل.
فإن قيل: أليس قد رويتم فيما مضى وفي كتبكم: أنه يجوز لأهل القرايا
والسواد والمؤمنين إذا اجتمع العدد الذي تنعقد بهم أن يصلوا الجمعة؟
قلنا: ذلك مأذون فيه مرغب فيه فجرى ذلك مجرى أن ينصب الإمام من يصلي
بهم. وأيضا عليه إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون أن من شرط الجمعة الإمام أو أمره.
وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " تجب الجمعة على سبعة نفر من
المسلمين ولا تجب على أقل منهم: الإمام وقاضيه والمدعي حقا والمدعى
عليه الشاهدان والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام. " وأيضا فإنه إجماع، فإن من
عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى وقتنا هذا ما أقام الجمعة إلا الخلفاء والأمراء ومن ولي الصلاة،
فعلم أن ذلك إجماع أهل الأعصار. ولو انعقدت بالرعية لصلوها كذلك. " (1)
2 - وقال في النهاية في باب صلاة الجمعة: " الاجتماع في صلاة الجمعة فريضة إذا
حصلت شرائطه. ومن شرائطه أن يكون هناك إمام عادل أو من نصبه الإمام
للصلاة بالناس. "
3 - وفيه أيضا: " ولا بأس أن يجتمع المؤمنون في زمان التقية بحيث لا ضرر
عليهم فيصلوا جمعة بخطبتين. " (2)

1 - الخلاف 1 / 626، كتاب الجمعة.
2 - النهاية / 103 و 107، باب الجمعة وأحكامها.
33

4 - وفي باب الأمر بالمعروف منه: " ويجوز لفقهاء أهل الحق أن يجمعوا بالناس في
الصلوات كلها وصلاة الجمعة والعيدين ويخطبون الخطبتين ويصلون بهم صلاة
الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضررا، فإن خافوا في ذلك الضرر لم يجز لهم التعرض
لذلك على حال. " (1)
5 - وفي المبسوط: " فأما الشروط الراجعة إلى صحة الانعقاد فأربعة: السلطان
العادل أو من يأمره السلطان والعدد... " (2)
ومراده (قده) بالإجماع المذكور في الخلاف أولا هو إجماع الإمامية، وبالإجماع
المذكور ثانيا إجماع جميع المسلمين. ويظهر منه عدم الاعتداد بخلاف الشافعي مالك
وأحمد، حيث يعلم بطلان مستندهم، فإنهم استدلوا لعدم الاشتراط بأن عليا (عليه السلام)
أقامها حين ما حصر عثمان. وقد عرفت الجواب عنه على أصول الفريقين.
6 - وفي السرائر: " والذي يقوى عندي صحة ما ذهب إليه في مسائل
خلافه خلاف ما ذهب إليه في نهايته، للأدلة التي ذكرها من إجماع أهل
الأعصار. أيضا فإن عندنا بلا خلاف بين أصحابنا أن من شرط انعقاد الجمعة الإمام
أو من نصبه الإمام للصلاة ". (3)
7 - وفي باب الأمر بالمعروف من المقنعة: " وللفقهاء من شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يجمعوا بإخوانهم في الصلوات الخمس وصلوات الأعياد والاستسقاء
والخسوف الكسوف إذا تمكنوا من ذلك وأمنوا فيه معرة أهل الفساد ". (4)
ولم يذكر (قده) الجمع مع كونه في مقام بيان ما يجوز للفقهاء. وإدخالها في الأعياد
بعيد. فيستفاد منه عدم مشروعيتها مع عدم الإمام (عليه السلام)، كما أفتى به تلميذه

1 - المصدر السابق / 302.
2 - المبسوط 1 / 143، كتاب صلاة الجمعة.
3 - السرائر 1 / 303، باب صلاة الجمعة وأحكامها.
4 - القنعة / 811.
34

سلار، ابن إدريس. وما توهمه صاحب الحدائق (1) من عدم كونه ممن يشترط في
الجمع حضور الإمام أو من نصبه وأذن له، فاسد جدا، إذ لو كان مثله (قده) مخالفا في
الفتوى لما عليه جميع أسلافه ومعاصريه لصرح بذلك وأصر عليه، مع أنه لم يشر
بذلك فضلا عن التصريح. (2)

1 - الحدائق 9 / 378، المطلب الأول من الفصل الأول من الباب الثالث من كتاب
الصلاة.
2 - أقول: قال (قده) في باب عمل الجمعة من المقنعة (ص 163): " فرضها وفقك الله
الاجتماع على ما قدمناه إلا أنه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات، يتقدم
الجماعة يخطبهم خطبتين (إلى أن قال:) والشرائط التي تجب فيمن يجب معه الاجتماع أن
يكون حرا بالغا طاهرا في ولادته مجنبا من الأمراض: الجذام والبرص خاصة في جلدته
مسلما مؤمنا معتقدا للحق بأسره في ديانته مصليا للفرض في ساعته. فإذا كان
كذلك اجتمع معه أربعة نفر وجب الاجتماع. "
ولا يخفى أن ظاهر هذه العبارة عدم اشتراط الإمام أو من نصبه، ولا أقل من جواز عقدها
في عصر الغيبة لمن كان بالشرائط التي ذكرها، فتدبر.
ولنذكر في المقام نبذا آخر من عبارات القوم تتميما للفائدة: فنقول:
حكى في المختلف (ص = 108 ط. أخرى 2 / 247) عن الحسن بن أبي عقيل أنه قال:
" صلاة الجمعة فرض على المؤمنين حضورها مع الإمام في المصر الذي هو فيه، وحضورها
مع أمرائه في الأمصار والقرى النائية عنه ".
وفي الغنية (الجوامع الفقهية / 498 = ط. أخرى / 560): " وأما الاجتماع في صلاة الجمعة
فواجب بلا خلاف إلا أن وجوبه يقف على شروط، وهي الذكورة والحرية (إلى أن
قال:) حضور الإمام العادل أو من نصبه وجرى مجراه ".
وفي الوسيلة لابن حمزة (ص 103): " ويحتاج في الانعقاد إلى أربعة شروط: حضور
السلطان العادل أو من نصبه لذلك وحضور سبعة نفر... " هذا.
وفي المقنع (الجوامع الفقهية / 12): " وإن صليت الظهر مع الإمام يوم الجمعة بخطبة صليت
ركعتين، وإن صليت بغير خطبة صليتها أربعا. "
وفي المختلف (ص 108 = ط. أخرى 2 / 250) عن أبي الصلاح الحلبي (في الكافي / 151):
" لا تنعقد الجمعة إلا بإمام الملة أو منصوب من قبله أو بمن يتكامل فيه صفات إمام الجماعة
عند تعذر الأمرين. " ح ع - م.
35

9 - وقال سلار بن عبد العزيز - تلميذ المفيد - في المراسم: " صلاة الجمعة فرض
مع حضور إمام الأصل أو من يقوم مقامه واجتماع خمسة نفر فصاعدا الإمام
أحدهم. "
10 - وقال في باب الأمر بالمعروف: " ولفقهاء الطائفة أن يصلوا بالناس في
الأعياد والاستسقاء، وأما الجمع فلا ". (1)
11 - وفي المختلف عن السيد المرتضى في الميافارقيات أنه قال: " صلاة الجمعة
ركعتان من غير زيادة عليهما. ولا جمعة إلا مع إمام عادل أو من نصبه الإمام العادل،
فإذا عدم صليت الظهر أربع ركعات ". (2)
البحث عن جهتين من الجهات في المسألة
إذا عرفت ذلك فنقول: جهات البحث في المسألة وإن كانت كثيرة كما أشرنا إليها
سابقا لكن المهم هو البحث عن جهتين:
الأولى: هل يشترط في الجمعة حضور السلطان العادل أو من نصبه أو أذن له، أو
لا يشترط ذلك بل يجب إقامتها على جميع المسلمين بالوجوب العيني؟
الثانية: على فرض الاشتراط فهل تحرم في حال الغيبة أو يكون الفقهاء أو مطلق
المؤمنين مأذونين من قبلهم (عليهم السلام) في إقامتها؟
الجهة الأولى: هل يشترط في الجمعة اشتراط الإمام أو من نصبه وما تدل
على الاشتراط
أما الجهة الأولى فالأقوى بل المقطوع به فيها هو الاشتراط، فيكون إقامتها من
وظائف الإمام أو من نصبه أو من ثبت له الإذن فيها ولا يجب على كل مكلف

1 - المراسم / 72، ذكر صلاة الجمعة؛ وص 261.
2 - المختلف / 108 (= ط. أخرى 2 / 251)، الفصل الأول من الباب الثالث من أبواب
الصلاة، المسألة 147؛ ورسائل الشريف المرتضى 1 / 272.
36

إقامتها. ولنا على ذلك أمور:
الأول: أن مقتضى القول بعدم الاشتراط ووجوبها على كل أحد مطلقا هو
وجوب تعلمها وتعلم خطبتها كفاية على جميع المسلمين في جميع الأعصار ووجوب
إقامتها في جميع الأمكنة (من الأمصار والقرى والبوادي النائية المسكونة) في رأس
كل فرسخين، فيكون وزانها وزان سائر الصلوات اليومية بحيث يجب على كل مسلم
أن يهتم بتعلمها بمزاياها ويسعى في إقامتها بنحو يعاقب الجميع على تركها إذا فرض
جهلهم بها.
ومن الواضح عدم كونها كذلك وأن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) لم
يكونوا بصدد تعلمها ولم يكونوا يقيمونها بأنفسهم في قبال النبي والأئمة. كيف؟ ولو
كان الأمر كذلك لكان عقد الجمعة وإقامتها متداولا بين المسلمين في جميع الأمكنة
والأزمنة، وصار وجوبها كذلك من ضروريات الإسلام كسائر الفرائض الصلوات
اليومية، واعتاد جميع المسلمين في جميع البلدان على أن يجتمعوا في كل جمعة لإقامتها
سواء وجد فيهم من نصب من قبل الخليفة أم لم يوجد، بل لم يكن على هذا للنصب
معنى وفائدة. مع وضوح أن عادة المسلمين في أعصار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأئمة (عليهم السلام) لم تكن
كذلك، بل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو بنفسه يعقد الجمعة ويقيمها وكذلك الخلفاء من
بعده حتى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان الخلفاء ينسبون في البلدان أشخاصا معينة
لإقامتها، ولم يعهد في تلك الأعصار أن يتصدى غير المنصوبين لإقامتها وكان الناس
يرون من وظائفهم في كل جمعة حضور الجمعات التي كان يقيمها الخلفاء
والأمراء والمنصوبون من قبلهم، فكان إذا أقبل يوم الجمعة حضر الخليفة أو من نصبه
لإقامتها واجتمع الناس حوله.
فهذه كان سيرة الخلفاء حتى الأموية والعباسية المقلدة لرسوم الراشدين، وذاك
37

كان دأب الناس وديدنهم في جميع البلدان، وصار هذا الأمر مر كوزا في أذهان
جميع المسلمين حتى أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، فكان جميع الأخبار الصادرة عنهم (عليهم السلام)
ملقاة إلى الذين ارتكز في أذهانهم كونه إقامة الجمعة من خصائص الخلفاء والأمراء
ولم يكن يخطر ببالهم جواز إقامة سائر الناس لها. فلو كان حكم الله ورأي الأئمة (عليهم السلام)
على خلاف ذلك لكان يجب عليهم بيان ذلك وتكراره والإصرار عليه وإعلام
أصحابهم بأنه يجب على جميع المسلمين السعي في إقامتها وأنها لا تختص ببعض
دون بعض، كما استقر على ذلك سيرتهم (عليهم السلام) في جميع المسائل التي خالف فيها أهل
الخلاف لأهل الحق كمسألتي العول والتعصيب ونحوهما. (1)
وبالجملة لو لم يكن الإمام أو من نصبه شرطا في إقامة الجمعة وكانت إقامتها
من وظائف جميع المسلمين لبينها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصياؤه وصارت من الصدر الأول
كسائر الفرائض اليومية من ضروريات الدين بحيث يعرفها جميع المسلمين حتى
النساء والصبيان، وكان سكان كل مصر أو قرية أو بادية يقيمونها في بلدتهم محلهم

1 - لقائل أن يقول: إنه إنما يجب على الأئمة (عليهم السلام) إعلام أصحابهم بما هو الحق والإصرار
عليه إذا كان ظهور الحق متوقفا على إعلامهم (عليهم السلام)، كما إذا اتفق إجماع فقهاء
المخالفين اتفاقهم على خلاف الحق، لا ما إذا لم يتفقوا بل أفتى بعضهم على وفق ما هو الحق.
وفي مسألتنا هذه وإن أفتى أبو حنيفة بالاشتراط وكون إقامة الجمعة من المناصب الخاصة
لكن جل فقهائهم كالشافعي ومالك وأحمد قد أفتوا بعدم الاشتراط، غاية الأمر أن الخلفاء
والأمراء قد ابتزوها وجعلوها من المناصب المختصة لأنفسهم ولم يتمكن غيرهم من
إقامتها خوفا منهم، ولأجل ذلك لم يكونوا يقيمونها في بلادهم، ولم يكن من وظائف
الأئمة (عليهم السلام) تعريض أنفسهم لمكافحة خلفاء الجور وأمرائهم مع كون الحق واضحا لأهله.
وبالجملة السيرة المدعاة لعلها نشأت من إجبار خلفاء الجور وعدم تمكن الناس من
مخالفتهم. هذا مضافا إلى أنه قد تنتقض هذه السيرة بالسيرة المستمرة في الجماعة، فإن
إقامتها في جميع الصلوات أيضا كان بتصدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء والأمراء وكان ينصبون
لها أشخاصا معينة، اللهم إلا أن يقال إنها أيضا كانت من المناصب الخاصة غاية الأمر أن
الأئمة (عليهم السلام) قد أذنوا لشيعتهم في إقامتها، فتأمل ح ع - م.
38

ولم يكونوا يتحملون مشقة السفر إلى الفرسخين مع القدرة على أقل الواجب،
وقد عرفت أن السيرة المستمرة قد استقرت على تصدي الخلفاء والأمراء لإقامتها
وعلى سعي سائر الناس إلى ما انعقدت بتصديهم من دون أن يظهر من الأئمة (عليه السلام)
إنكار وردع بالنسبة إلى ذلك.
فهذه السيرة المستمرة بالتفصيل الذي ذكرناه من أقوى الشواهد على كون
إقامتها من مناصب الإمام (عليه السلام) أو من نصبه، وقد مر تقرير ذلك ببيان آخر في أوائل
المسألة، فراجع.
الثاني من أدلة الاشتراط: إجماع الإمامية بل المسلمين، كما ادعاهما الشيخ في
الخلاف وقد اطلعت آنفا على ذلك وعلى جل أقوال القدماء من أصحابنا وقد أفتوا
بالاشتراط في كثير من كتبهم المعدة لنقل أصول المسائل المتلقاة عنهم (عليهم السلام)، وعرفت
أيضا أن خلاف الشافعي ومالك وأحمد لا يضر بالإجماع للعلم ببطلان مستندهم،
فراجع. (1)
الثالث: أن وزان الجمعة عندنا وزان صلاة العيدين في الشرائط، وإقامة صلاة

1 - وفي المعتبر (ج 2 ص 279): " السلطان العادل أو من نصبه شرط وجوب الجمعة وهو
قول علمائنا. "
وفي المنتهى (ج 1 ص 317): " يشترط في الجمعة الإمام العادل أي المعصوم عندنا أو إذنه،
أما اشتراط الإمام أو إذنه فهو مذهب علمائنا أجمع والحسن والأوزاعي وحبيب بن أبي
ثابت وأبي حنيفة ".
وفي التذكرة (ج 1 ص 144 = ط. أخرى 4 / 19، المسألة 381): " يشترط في وجوب
الجمعة السلطان أو نائبه عند علمائنا أجمع وبه قال أبو حنيفة ".
وقال في مصباح الفقيه (كتاب الصلاة ص 437): " بل يكفي في الجزم بعدم الوجوب في
مثل المقام وجود خلاف يعتد به فيه، لقضاء العادة بأنه لو كانت الجمعة بعينها واجبة على
كل مسلم لصارت من الصدر الأول من زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كغيرها من الفرائض اليومية من
ضروريات الدين ". ح ع - م.
39

العيدين وإمامتهما من المناصب المختصة بالأئمة (عليهم السلام) أو من نصب من قبلهم، وإنما
تصداها خلفاء الجور وأمراؤهم بتبع غصب مقام الخلافة والإمامة، فيظهر من ذلك
أن إقامة الجمعة أيضا من المناصب.
ويشهد لكون إمامة العيدين من مناصبهم المختصة ما رواه الصدوق بإسناده عن
حنان بن سدير، عن عبد الله بن سنان، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: " يا عبد الله ما من
عيد للمسلمين أضحى ولا فطر إلا وهو يجدد لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه حزن. " قال:
قلت: ولم؟ قال: " لأنهم يرون حقهم في يد غيرهم ". ورواه الصدوق أيضا
مرسلا، رواه الشيخ والكليني أيضا بإسنادهما عن عبد الله بن دينار، عن أبي
جعفر (عليه السلام). (1)
الرابع: قول السجاد (عليه السلام) في ضمن دعائه يوم الأضحى والجمعة: " اللهم إن هذا
المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها
قد ابتزوها وأنت المقدر لذلك، لا يغالب أمرك، ولا يجاوز المحتوم من تدبيرك كيف
شئت، وأنى شئت، ولما أنت أعلم به غير متهم على خلقك ولا لإرادتك حتى عاد
صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدلا وكتابك
منبوذا وفرائضك محرفة عن جهات أشراعك وسنن نبيك متروكة. اللهم العن
أعداءهم من الأولين والآخرين ومن رضي بفعالهم وأشياعهم وأتباعهم. " (2)
فدعاؤه (عليه السلام) بهذا الدعاء في يوم الجمعة من أدل الدلائل على أن إمامة الجمعة
أيضا كانت من المناصب المغصوبة بتبع غصب أصل الخلافة.
ولا يخفى أن كون الصحيفة من الإمام (عليه السلام) من البديهيات، وهي زبور
آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، يشهد بذلك أسلوبها ونظمها ومضامينها التي يلوح منها آثار
الإعجاز، ولها أسناد ذكرها الشيخ والنجاشي، ولشارحها السيد عليخان (قده)
أيضا سند عن

1 - الوسائل 5 / 136 (= ط. أخرى 7 / 475)، الباب 31 من أبواب صلاة العيد،
الحديث 1.
2 - الصحيفة السجادية، الدعاء 48.
40

آبائه، ولنا أيضا سند آخر إليها.
الأخبار الدالة على اشتراط الإمام أو من نصبه
الخامس: طائفة من الروايات، وهي الطائفة الثانية من أخبار الباب كما أشرنا
إليها سابقا:
1 - ما رواه الصدوق في العيون والعلل عن الفضل بن شاذان: " فإن قال (أي
القائل): فلم صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين وإذا كانت بغير إمام
ركعتين وركعتين؟ قيل: لعلل شتى؟ منها: أن الناس يتخطون إلى الجمعة من بعد
فأحب الله عز وجل أن يخفف عنهم لموضع التعب الذي صاروا إليه. ومنها: أن
الإمام يحبسهم للخطبة وهم منتظرون للصلاة ومن انتظر الصلاة فهو في الصلاة في
حكم التمام. ومنها: أن الصلاة مع الإمام أتم وأكمل لعلمه وفقهه وفضله وعدله. منها:
أن الجمعة عيد وصلاة العيد ركعتان ولم تقصر لمكان الخطبتين.
فإن قال: فلم جعلت الخطبة؟ قيل: لأن الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير
سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية وفعلهم وتوقيفهم
على ما أرادوا من مصلحة دينهم ودنياهم ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق
(الآفات - العلل) من الأهوال (ومن الأحوال - العلل) التي لهم فيها المضرة والمنفعة
ولا يكون الصابر (الصائر - العلل) في الصلاة منفصلا وليس بفاعل غيره ممن يؤم
الناس في غير يوم الجمعة. " (1)
وفي العلل والعيون بعد نقل حديث العلل ما حاصله: " حدثنا عبد الواحد بن
محمد بن عبدوس النيسابوري العطار، قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة

1 - الوسائل 5 / 15 (= ط. أخرى 7 / 312)، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
3؛ و 5 / 39 (= ط. أخرى 7 / 344)، الباب 25 منها، الحديث 6؛ عن علل الشرائع /
264؛ وعيون أخبار الرضا 2 / 111.
41

النيسابوري، قال: قلت للفضل بن شاذان لما سمعت منه هذه العلل: أخبرني عن
هذه العلل التي ذكرتها من نتائج العقل أو هي مما سمعته ورويته؟ فقال: ما كنت أعلم
مراد الله مما فرض، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) مرة
بعد مرة والشيء بعد الشيء فجمعتها. فقلت: فأحدثها عنك عن الرضا (عليه السلام)؟ فقال:
نعم ". (1)
ودلالة الحديث على كون إقامة الجمعة من مناصب الإمام (عليه السلام) ومن هو سائس
المسلمين وزعيمهم بل على كون ذلك أمرا مفروغا عنه مما لا تخفى على أحد.
وفضل بن شاذان النيشابوري من ثقات الطبقة السابعة، وكان في الكوفة يأخذ
العلم والحديث من صفوان وحماد بن عيسى وابن أبي عمير، وكان عالما متكلما
فقيها يناظر المخالفين، روى كتبه محمد بن إسماعيل النيشابوري، ويروي الكليني عنه
بواسطة هذا الرجل، والصدوق عنه بواسطتين.
إشارة إجمالية إلى طبقات رجال الأحاديث
واعلم أن رجال الشيعة الإمامية بل المسلمين بحسب تلمذة بعضهم لبعض
تنقسم إلى طبقات، ويراعى في ذلك الغلبة والكثرة، ويبتدأ بصحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فصحابته الآخذون منه كلهم من الطبقة الأولى. والتابعون الذين أخذوا من
الصحابة وتلمذوا لهم طبقة ثانية. وتابعو التابعين طبقة ثالثة، والغالب فيهم أخذ
الحديث من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بواسطتين. وتلامذة الطبقة الثالثة طبقة رابعة، والأغلب في
روايتهم عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وجود ثلاث وسائط، وهم أصحاب الباقر (عليه السلام)، كزرارة ومحمد بن
مسلم وأمثالهما. وتلامذة هذه الطبقة طبقة خامسة، وهم أصحاب
الصادق الكاظم (عليهم السلام)، وقد تكثروا من الرواية عن الطبقة الرابعة، منهم: علاء بن
رزين، وحريز بن عبد الله، وعمر بن يزيد، وهشام بن سالم، وربعي بن عبد الله،
عبد

1 - العلل / 274؛ والعيون 2 / 121.
42

الله بن بكير. وتلامذة هذه الطبقة طبقة سادسة، أصحاب الرضا (عليه السلام)، منهم مؤلفو
الجوامع الأولية كعلي بن الحكم، وابن أبي عمير، والبزنطي، الحسن بن علي بن
فضال، والحسن بن محبوب وأمثالهم. وتلامذة هذه الطبقة طبقة سابعة، منهم: فضل
بن شاذان، والحسين بن سعيد الأهوازي صاحب الكتب الثلاثين، وقد ألفها بمشاركة
أخيه الحسن، وشيوخهما متحدة إلا في زرعة بن محمد الحضرمي، فإن الحسين
يروي عنه بواسطة أخيه الحسن. وعلى هذا الحساب يكون الكليني وابن أبي عقيل
من الطبقة التاسعة، والصدوق وابن الجنيد من العاشرة، والمفيد من الحادية عشرة،
وشيخنا أبو جعفر الطوسي من الثانية عشرة، ابن إدريس وابن حمزة من الخامسة
عشرة، والشهيد الثاني من الرابعة العشرين، ونحن من السادسة والثلاثين. فمن
صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الشيخ (قده) اثنتا عشرة طبقة، ومن ابنه (قده) إلى الشهيد
الثاني أيضا هكذا، ومن تلامذة الشهيد أيضا إلينا كذلك. وليعلم أن كل طبقة تنقسم
إلى صغار وكبار، وأنه قد يكون رجل واحد لطول عمره مدركا لطبقتين كالحمادين،
فإنهما من الخامسة وقد أدركا السادسة أيضا. وعليك بالدقة في أسانيد الروايات
المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأئمة (عليهم السلام) حتى تطلع على طبقات الرواة وبذلك
تقدر على
تمييز الأسانيد المرسلة بحذف الوسائط، فتتبع. (1)
2 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين،
عن الحكم بن مسكين، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
" تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين ولا تجب على أقل منهم: الإمام
وقاضيه المدعي حقا والمدعى عليه والشاهدان والذي يضرب الحدود بين يدي
الإمام. " ورواه الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم. (2)

1 - وللاطلاع على تفصيل الطبقات راجع " الموسوعة الرجالية " لآية الله العظمى
البروجردي (قده) ج 1 ص 111، المقدمة الثانية.
2 - الوسائل 5 / 9 (= ط. أخرى 7 / 305)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 9.
43

ودلالة الحديث على كون إقامة الجمعة من مناصب الإمام واضحة. كيف؟ ولو لم
تكن من مناصبه لم يكن لذكر خصوص الإمام وملازميه سبب. ومحط نظره (عليه السلام) في
هذا الحديث هو أنه لا يشترط في وجوب إقامتها اجتماع جميع الناس أو أكثرهم بل
يكفي في وجوبها اجتماع سبعة، وذكر في مقام البيان أشخاصا لا يخلو منهم مجلس
الإمام غالبا وإن لم يجتمع الناس حوله لكونه في سفر أو لجهات أخر. وبالجملة دلالة
الحديث على المقصود مما لا تخفى على أحد وإن خفي على مثل صاحب الوسائل.
3 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب،
عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة
يوم الجمعة، فقال: " أما مع الإمام فركعتان وأما من يصلي وحده فهي أربع ركعات
بمنزلة الظهر. " يعني إذا كان إمام يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات إن
صلوا جماعة. ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب. (1)
ولا يخفى أن الحديث من حيث السند موثق. ومحمد بن يحيى من الطبقة الثامنة،
وقد تكثر الكليني من أخذ الحديث عنه. ومحمد بن الحسين من الطبقة
السابعة. عثمان بن عيسى من الطبقة السادسة، نسب إليه الوقف، وروى النجاشي أنه
استبصر (2). وسماعة من الطبقة الخامسة.
والمستفاد من الحديث أن المراد بالإمام ليس مطلق إمام الجماعة بل هو إمام
خاص يختص به إقامة الجمعة. فالمقصود منه الإمام الأصل أو من نصب من قبله
لذلك. واحتمال حمله على كل من يقدر على الخطبة مردود بأن أقل الواجب من
الخطبة إنما يقدر عليه كل من تصدى لإمامة الجماعة. مضافا إلى أنه لو كان إقامة
الجمعة واجبة على الجميع ولم تكن من المناصب الخاصة لوجب على الناس تعلم
الخطبة وإقامة الجمعة، فلم يكن وجه لتعليق وجوب الركعتين على وجود الإمام.

1 - الوسائل 5 / 13 (= ط. أخرى 7 / 310)، الباب 5 منها، الحديث 3؛ عن الكافي
3 / 421.
2 - راجع رجال النجاشي / 300، الرقم 817.
44

فالمراد بالإمام في الرواية هو الذي نصب من قبل زعيم المسلمين لقراءة
الخطبة إقامة الجمعة، وهو المتبادر إلى أذهانهم، حيث إن المتداول المعمول عندهم لم
يكن إلا تصدي المنصوبين لها.
وبالجملة المتبادر من لفظ إمام في الحديث هو إمام خاص، وهو الذي فهمه
الراوي، حيث فسره بالإمام الذي يخطب. والسر في ذلك ما أشرنا إليه سابقا من
استقرار السيرة المستمرة على تصدي أشخاص خاصة لإقامتها وقلنا إن هذه
السيرة بمنزلة القرينة المتصلة للأخبار الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام).
ويقرب من هذه الرواية المروية عن سماعة روايات أخر عنه:
منها: ما رواه الكليني بالإسناد السابق عن سماعة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الصلاة يوم الجمعة. فقال: " أما مع الإمام فركعتان وأما من صلى وحده فهي أربع
ركعات وإن صلوا جماعة. " (1)
ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " صلاة
الجمعة مع الإمام ركعتان، فمن صلى وحده فهي أربع ركعات. " (2)
ومنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن أخيه الحسن، عن
زرعة، عن سماعة، قال: سألته عن قنوت الجمعة... قال: " إنما صلاة الجمعة مع الإمام
ركعتان،
فمن صلى مع غير إمام وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظهر... " (3)

1 - الوسائل 5 / 16 (= ط. أخرى 7 / 314)، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
8؛ عن الكافي 3 / 421.
2 - الوسائل 5 / 14 (= ط. أخرى 7 / 312) والباب، الحديث 2.
3 - المصدر السابق 5 / 15 (= ط. أخرى 7 / 313) والباب، الحديث 6.
أقول: الظاهر اتحاد الروايات الأربع المروية عن سماعة وإنما اختلفت بسبب نقل الرواة
عنه.
ثم لا يخفى أن الموجود في الكافي المطبوع (على الحجر ج 1 من الفروع ص 117) رواية
واحدة عن سماعة بالمتن الثاني، وإنما كتب زيادة المتن الأول على المتن الثاني (أعني من
قوله: بمنزلة الظهر إلى قوله ثانيا: فهي أربع ركعات) في الحاشية بعنوان نسخة البدل؛ ولكن
في الوسائل جعلهما روايتين كما ترى، وروى الشيخ أيضا في التهذيب 3 / 19 المتن الأول
بإسناده عن الكليني.
45

4 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، ومحمد
بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان
جميعا عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما
فرض الله عز وجل من الصلاة. فقال خمس صلوات (إلى أن قال (عليه السلام) في قوله تعالى:
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى):) " ونزلت هذه الآية يوم
الجمعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره فقنت فيها رسول الله وتركها على حالها في
السفر والحضر وأضاف للمقيم ركعتين. وإنما وضعت الركعتان اللتان أضافهما
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلى يوم الجمعة في غير
جماعة فليصلها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام. " ورواها الشيخ الصدوق
أيضا بإسنادهما. (1) وقد رواها الصدوق في باب فرض الصلاة وفي باب صلاة
الجمعة. ومتن الحديث في الموضع الثاني هكذا: " فمن صلى بقوم يوم الجمعة في غير
جماعة. " فأضاف كلمة " بقوم " (2)، وعليه فليس المراد بالجماعة صلاة الجماعة، بل
المراد بها جماعة الناس المجتمعة حول الإمام المبسوط اليد أو من نصبه، ويصير دلالة
الحديث على كون إقامة الجمعة من المناصب الخاصة أظهر، فتدبر.
وهاهنا روايات أخرى متفرقة تدل أيضا على كون إقامة الجمعة من المناصب
المختصة بالإمام (عليه السلام) أو من نصبه، وقد ذكرها في مصباح الفقيه فقال: " كالخبر المروي

1 - الوسائل 5 / 14 (= ط. أخرى 7 / 312)، الباب 6 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
1. وقد نقل متن الرواية في الوسائل عن الفقيه 1 / 196. والمتن الذي هنا من الكافي
3 / 271.
2 - عندي من نسخ الفقيه: النسخة المطبوعة في الهند (والمطبوعة بقم بتصحيح الغفاري)
ونسخة خطية، ولا يوجد فيها كلمة " بقوم " في شيء من الموضعين، فلعلها كانت موجودة
في نسخة الأستاذ (مد ظله العالي). ح ع - م.
46

عن دعائم الإسلام عن علي (عليه السلام) أنه قال: " لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا
الجمعة إلا للإمام أو من يقيمه الإمام. " والمروي عن كتاب الأشعثيات مرسلا: " إن
الجمعة الحكومة لإمام المسلمين. " (1) وعن رسالة الفاضل ابن عصفور مرسلا
عنهم (عليهم السلام): " أن الجمعة لنا والجماعة لشيعتنا. " وكذا روي عنهم (عليهم السلام): " لنا الخمس
لنا
الأنفال ولنا الجمعة ولنا صفو المال. " والنبوي: " أربع إلى الولاة: الفيء والحدود والجمعة
والصدقات. " ونبوي آخر: أن الجمعة والحكومة لإمام المسلمين. " (2)
أقول: رميه (قده) كتاب الأشعثيات بالإرسال خطأ؛ فإن أخبار الأشعثيات
- يقال لها الجعفريات أيضا - مسنده يرويها أبو على محمد بن محمد بن الأشعث
الكوفي، عن أبي الحسن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر (عليه السلام) - الساكن في
مصر -، عن أبيه إسماعيل، عن آبائه (عليهم السلام).
وأما كتاب دعائم الإسلام فأخباره مرسلة ومؤلفه أبو حنيفة نعمان بن محمد
المعروف بأبي حنيفة الشيعي. وكان معاصرا للخلفاء الفاطمية وألف الكتاب
لمعز الدين الفاطمي. (3) هذا.
والأدلة السابقة تغنينا عن التمسك بهذه المراسيل، فعليك بالدقة في تلك الأدلة.

1 - في الأشعثيات المطبوعة (ص 42): " أخبرنا محمد: حدثني موسى: حدثنا أبي، عن
أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين، عن أبيه أن عليا (عليه السلام)
قال: " لا يصلح (لا يصح - خ ل) الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلا بإمام. " وبالإسناد أيضا
عن علي (عليه السلام) قال: " العشيرة إذا كان عليهم أمير يقيم الحدود عليهم فقد وجبت عليهم
الجمعة والتشريق. " وبالإسناد أيضا " أن عليا (عليه السلام) سئل عن الإمام يهرب ولا يخلف أحدا
يصلي بالناس كيف يصلون الجمعة؟ قال: يصلون كصلاتهم أربع ركعات. " وأما المتن الذي
ذكره في المصباح فلم أجده فيها، فتتبع. ح ع - م.
2 - مصباح الفقيه / 438، في الشرط الأول من شروط وجوب الجمعة.
3 - راجع " دراسات في المكاسب المحرمة " للمقرر - مد ظله العالي - ج 1 ص 135 وما
بعدها، وص 585. فإن هناك بحثا مبسوطا حول سند كتاب الدعائم ومؤلفه، وإشارة
إجمالية إلى كتاب الجعفريات ومدى اعتباره.
47

وربما يتمسك أيضا لكون إقامة الجمعة من المناصب وعدم كونها واجبة على
الجميع بما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن
زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال: " لا جمعة إلا في مصر تقام فيه
الحدود. " (1)
وما رواه أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن
حفص بن غياث، عن جعفر، عن أبيه، قال: " ليس على أهل القرى جمعة ولا خروج
في العيدين. " (2)
وتقريب الاستدلال بهما أن الظاهر منهما أن الجمعة تختص بالأمصار وقد اتفق
أصحابنا على أن عنوان المصر أو القرية لا دخالة له في الحكم، فلا محالة يجب أن
ينزل الخبران على الغالب من عدم وجود الإمام أو من نصبه إلا في الأمصار.
وبالجملة يستفاد منهما أن إقامة الجمعة ليست بيد كل أحد بل هي مما يختص بها
سكان الأمصار، وحيث لا فرق بين المصر والقرية إلا في أنه يوجد الحاكم في المصر
غالبا دون القرية يستفاد منهما أن إقامة الجمعة من وظائف الحكام. هذا.
ولكن لا يخفى أن الظاهر حمل الخبرين على التقية، لموافقتهما للمذهب المشهور
بين العامة المتداول بينهم عملا، وهو الذي أفتى به أبو حنيفة فخص الجمعات
بالأمصار دون القرى، فراجع (3).
ويدل على الاشتراط بالإمام أيضا عدة من أخبار الطائفة الثالثة، كما سيأتي
نقلها وشرحها، فانتظر.
وكيف كان ففي ما ذكرناه من الأدلة كفاية. ولو أغمض عنها فنقول: إن آية

1 - الوسائل 5 / 10 (= ط. أخرى 7 / 307)، الباب 3 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
3. والمراد بأحمد بن محمد: أحمد بن محمد بن عيسى؛ وبمحمد بن يحيى: محمد بن يحيى
الخزاز. وفي الوسائل المطبوع (قديما) - ج 1، ص 451 -: أحمد بن محمد بن يحيى عن طلحة.
وفيه سقط. ح ع - م.
2 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 4.
3 - راجع الخلاف 1 / 597، المسألة 358 من كتاب الصلاة.
48

الجمعة والأخبار السابقة الدالة على وجوب الجمعة إنما دلت على وجوب
الحضور والسعي إلى الجمعة بعد ما انعقدت صحيحة، وليست ناظرة إلى حكم إقامة
الجمعة فضلا عن شرائطها كما عرفت، فليس لنا في باب إقامة الجمعة إطلاقات
يتمسك بها لنفي شرطية إذن الإمام وجواز إقامتها لكل أحد. فمدعي جواز إقامتها
بدون إذنه فضلا عن وجوبها يحتاج إلى دليل سوى الآية الشريفة والأخبار
السابقة، فافهم واغتنم.
هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.
الجهة الثانية: هل تحرم الجمعة في حال الغيبة؟
وأما الجهة الثانية، أعني ثبوت الإذن للفقهاء أو للجميع، أو عدم ثبوته فقد
عرفت أن الأقوال بحسبها ثلاثة:
الأول: الحرمة وعدم ثبوت الإذن، وبه قال سلار وابن إدريس.
الثاني: ثبوت الإذن للفقهاء خاصة، كما يدل عليه كلام الشيخ في باب الأمر
بالمعروف من النهاية.
الثالث: ثبوته لجميع المؤمنين، ويدل عليه كلامه في باب الجمعة منه، وقد مر
جميع ذلك عند نقل الأقوال، فراجع.
واعلم: أن في كلمات الشيخ (قده) في المسألة مناقضة من وجهين:
الأول: ما ذكرنا آنفا من القول بالإذن للفقهاء تارة ولجميع المؤمنين أخرى.
الثاني: أنه ذكر في كتبه أن شروط الجمعة على ضربين: أحدهما يرجع إلى من
وجب عليه حضورها كالذكورة والحرية ونحوهما. وثانيهما يرجع إلى صحة
انعقادها كالسلطان أو من نصبه والعدد ونحوهما. وهذا الكلام بظاهره ينافي الفتوى
بالترخيص لأهل القرى في إقامتها كما أفتى به في كتبه الثلاثة: المبسوط والخلاف
النهاية.
وقد أشار إلى المناقضة الثانية مع جوابها في كتاب الخلاف بقوله: فإن قيل:
" أليس قد رويتم... " وقد تقدم عند نقل الأقوال، فراجع.
49

ويمكن أيضا أن يجاب عنها بأن السلطان أو من نصبه شرط في صورة
التمكن بسط اليد لا مطلقا. وإلى هذا أشار أبو الصلاح في الكافي، حيث قال: " لا
تنعقد الجمعة إلا بإمام الملة أو منصوب من قبله، أو بمن يتكامل فيه صفات إمام
الجماعة عند تعذر الأمرين. " (1)
وأجاب عنها في جامع المقاصد بأن السلطان أو من نصبه شرط في الوجوب
التعييني لا التخييري. (2)
ويرد عليه أن هذا مخالف لما ذكره الشيخ، فإنه جعل السلطان شرطا للانعقاد لا
للوجوب التعييني، ولذا ذكره في عداد العدد والخطبتين.
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقضة أيضا بأن اشتراط الانعقاد بالسلطان أو من
نصبه إنما هو في الجمعة التي يجب على المؤمنين أن يسعوا إليها، وذلك لا ينافي جواز
إقامتها بدون السلطان أو من نصبه وكونها كافية عن الظهر من دون أن يجب على
الناس أن يسعوا إليها.
ويرد على هذا الجواب أيضا أنه (قده) جعل السلطان شرطا للانعقاد والصحة،
وظاهره الإطلاق.
هذا ما قيل في الجواب عن المناقضة الثانية.
وأما المناقضة الأولى فيمكن أن يجاب عنها بأن مأذونية الفقهاء من قبيل
النصب ومأذونية غيرهم من باب الإذن المطلق، فتدبر.
وبالجملة الشيخ (قده) وإن جعل السلطان أو من نصبه شرطا لكنه يقول
بالرخصة في إقامتها حال الغيبة ونحوها.
ما استدل بها على الترخيص في إقامتها والجواب عنها

1 - الكافي لأبي الصلاح / 151، فصل في صلاة الجمعة.
2 - راجع جامع المقاصد 2 / 378، المطلب الأول من الفصل الأول من المقصد الثالث من
كتاب الصلاة.
50

ويمكن أن يستدل لإثبات الترخيص منهم (عليهم السلام) بأخبار كثيرة، وهي الطائفة
الثالثة من أخبار الباب. وقد تعرض ثلاثة منها لحكم إقامة الجمعة في القرايا، وهي
التي أشار إليها الشيخ في عبارة الخلاف كما مر:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن السعيد، عن صفوان، عن العلاء، عن
محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام)، قال: سألته عن أناس في قرية، هل يصلون الجمعة
جماعة؟ قال: " نعم، ويصلون أربعا إذا لم يكن من يخطب. " (1)
2 - ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن الفضل بن
عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا كان قوم (القوم خ. ل) في قرية صلوا
الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر. وإنما
جعلت ركعتين لمكان الخطبتين. " (2)
3 - ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن صفوان، عن عبد الله بن بكير، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم، أيصلون الظهر يوم الجمعة في
جماعة؟ قال: " نعم، إذا لم يخافوا. " (3)
وتقريب الاستدلال بالأخبار الثلاثة لثبوت الإذن: أن الظاهر منها أن
الإمام (عليه السلام) أذن لأهل القرى أن يقيموا الجمعة بأنفسهم إذا كان فيهم من يقدر على
الخطبة التي هي شرط في الجمعة، وبعد العلم بعدم دخالة خصوصية القرية في هذا
الحكم نحكم بأن الملاك في المأذونية عدم التمكن من الإمام أو من نصبه وعدم
وجودهما في البلد،

1 - هكذا في الوسائل - 5 / 10 (= ط. أخرى 7 / 306)، الحديث 1 من الباب 3 من
أبواب صلاة الجمعة - نقلا عن الشيخ. وفي الاستبصار المصحح - 1 / 419، الباب 253 -
حذف كلمة " نعم " والواو بعدها. وفي التهذيب المطبوع (قديما) - ص 189، باب العمل في
ليلة الجمعة ويومها من أبواب الزيادات - ذكر كلمة " نعم " وجعل الواو نسخة. ح ع - م.
2 - الوسائل 5 / 8 (= ط. أخرى 7 / 304)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 6؛
5 / 10 (= ط. أخرى 7 / 306)، الباب 3 منها، الحديث 2.
3 - المصدر السابق 5 / 26 (= ط. أخرى 7 / 327)، الباب 12 منها، الحديث 1.
51

وإنما ذكر القرية من جهة أنها مظنة عدم وجودهما غالبا. ورواية ابن بكير وإن
كانت ظاهرة في بيان حكم الظهر لكن تحمل الظهر فيها أيضا على الجمعة بقرينة
قوله: " إذا لم يخافوا "، فإن الخوف لا يتصور إلا في إقامة الجمعة التي كان الخلفاء
والأمراء يتصدونها ويرونها من مناصبهم.
أقول: وفي الاستدلال بالأخبار الثلاثة نظر، أما رواية ابن بكير فلعدم كونها
بصدد بيان حكم الجمعة، بل المستفاد منها جواز الإتيان بالظهر جماعة، ولا دلالة
لقوله: " لم يخافوا " على إرادة صلاة الجمعة، إذ الخوف يتصور أيضا في إتيان الظهر
يوم الجمعة جماعة، حيث أن المسألة كانت مختلفا فيها بينهم: فقال الشافعي: يجوز
لمن فاتته الجمعة أن يأتي بالظهر جماعة، لما دل على استحباب الجماعة مطلقا ولأنه
صلى ابن مسعود بعلقمة والأسود لما فاتته الجمعة، واختار أبو حنيفة ومالك كراهة
الاجتماع فيها، وفصل أحمد بين المسجد الذي أقيم فيه الجمعة وغيره فكرهها في ذلك
المسجد. (1) وكان فتوى أبي حنيفة ومالك شائعة بينهم، فكان الإتيان بها جماعة
مظنة للخوف.
وأما رواية محمد بن مسلم فيمكن أن يقال: إن مفادها أيضا مفاد رواية ابن
بكير، بأن يكون المراد بالجمعة فيها صلاة الظهر في يوم الجمعة، ويكون السؤال عن
أهل القرية من جهة أنهم لا يتمكنون غالبا من إقامة الجمعة لعدم وجود الإمام أو
من نصبه، ويكون قوله: " إذا لم يكن من يخطب " لتنقيح الموضوع لا للاحتراز.
فحاصل السؤال أنه هل يجوز الإتيان بالظهر جماعة في موضع لا يتمكن فيه من
الجمعة؟ وحاصل الجواب: نعم، يجوز ذلك ويصليها أربعا حيث لم يوجد من يقيم
الجمعة ويخطب لها كما هو المفروض في سؤاله.

1 - راجع المغني لابن قدامة 2 / 199، كتاب صلاة الجمعة؛ والتذكرة 1 / 144 (= ط.
أخرى 4 / 15)، المسألة 379؛ والمنتهى 1 / 336.
52

فإن قلت: مقتضى مفهوم الشرط أنه يجوز لأهل القرى إقامة الجمعة إذا وجد
فيهم من يقدر على الخطبة، وهو المطلوب.
قلت: مضافا إلى أن القيد الوارد مورد الغلبة لا يكون له مفهوم كما في قوله تعالى:
(وربائبكم اللاتي في حجوركم) (1): إنه ليس المراد بقوله: " من يخطب " كل من يقدر
على الخطبة، بل المراد به من كان من شأنه إقامة الجمعة وقراءة الخطبة كالإمام أو من
نصبه، إذ الكلام قد ألقي إلى من غرس في ذهنه بحسب السيرة المستمرة التي هي
كالقرينة المتصلة كون إقامة الجمعة وقراءة الخطبة من الوظائف لأشخاص معينة،
فيتبادر إلى ذهنه من هذا الكلام أن أهل القرى يصلون الظهر أربعا إذا لم يوجد فيهم
شرط إقامة الجمعة أعني من يكون إقامة الجمعة والخطبة من مناصبه ووظائفه.
كيف؟ ولو كان المراد به كل من يقدر عليها لكان ذكره لغوا، إذ قلما يفرض من لا
يقدر على أقل الواجب من الخطبة ولا سيما فيمن يتكلم بالعربية، وكيف لا يقدر
على أقل الواجب منها من يؤم القوم في القرية ويقيم لهم الجماعة مع أن أقل الواجب
منها لا يزيد على قراءة الصلاة مثلا وهي مما يعرفها ويقدر عليها كل مسلم.
وبهذا البيان يظهر لك الجواب عن رواية البقباق أيضا، حيث علق فيها إقامة
الجمعة على وجود من يخطب لهم، وقد عرفت أن المراد به من كان قراءة الخطبة من
شؤونه ومناصبه لا كل من يقدر عليها. وقوله: " صلوا الجمعة أربع ركعات " من
أقوى الشواهد على ما ذكرناه من كون المراد بالجمعة في رواية محمد بن مسلم أيضا
هو الظهر لا الجمعة المصطلحة.
فمحط النظر في الأخبار الثلاثة بيان حكم واحد، وهو أنه يجوز الإتيان بصلاة
الظهر في يوم الجمعة جماعة إذا لم يوجد شرط إقامة الجمعة وهو الإمام الذي يخطب،
وإنما ذكر عنوان القرية من جهة أن الغالب فيها عدم التمكن ممن يقيم

1 - سورة النساء (4)، الآية 23.
53

الجمعة ويخطب لها أعني الإمام أو من نصبه.
ويمكن أن يقال: إن سوق رواية البقباق ومحمد بن مسلم إنما هو لبيان جواز
إقامة الجمعة في القرية إذا فرض من باب الاتفاق وجود الإمام أو من نصبه فيها.
فالروايتان ناظرتان إلى رد أبي حنيفة، حيث اشتراط في صحة الجمعة أن تنعقد في
الأمصار وحكم ببطلانها في القرى وإن وجد فيها الإمام أو نائبه. (1)
وكيف كان فقوله في هاتين الروايتين: " من يخطب " وفي رواية ابن بكير: " من
يجمع بهم " منصرفان بقرينة السيرة المغروسة إلى خصوص من كان من شأنه إقامة
الجمعة وقراءة الخطبة لا كل من يقدر عليهما، فتدبر.
ولا يخفى أنه بالدقة في الروايات الثلاث ولا سيما رواية ابن بكير يعلم أن إقامة
الجمعة ليست بيد كل أحد، وإنما هي من المناصب التي يختص بها بعض دون بعض،
فهي أيضا من الأدلة المتقنة للمسألة السابقة.
وبالجملة قد ظهر لك مما بيناه أن دلالة أخبار القرايا على ثبوت الإذن لمن لم
يتمكن من الإمام أو من نصبه ممنوعة وإن تمسك بها الشيخ (قده).
4 - ما رواه الكشي في رجاله عن علي بن محمد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان،
عن ابن أبي عمير، عن غير واحد من أصحابنا، عن محمد بن حكيم وغيره، عن
محمد بن مسلم، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
الجمعة، قال: " إذا اجتمع خمسة أحدهم الإمام فلهم أن يجمعوا. " (2)
والجواب عنه مضافا إلى ضعفه: أن كلمة الإمام فيه منصرفة إلى الإمام الأصل.
على أن الرواية في مقام بيان العدد المعتبر في الجمعة، وأن أقله بضميمة الإمام خمسة،
وليست بصدد بيان أن كل خمسة كيف ما كانت يجوز لها إقامة الجمعة.
5 - رواية منصور بن حازم، وهي الثالثة من الطائفة الأولى، وقد مرت.

1 - راجع الخلاف 1 / 597، المسألة 358 من كتاب الصلاة.
2 - الوسائل 5 / 9 (= ط. أخرى 7 / 306)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
11.
54

والجواب عنها أيضا أنها بصدد بيان أقل العدد المعتبر.
6 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن العباس، عن حماد
بن عيسى، عن ربعي بن عبد الله، عن عمر بن يزيد (1)، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلوا في جماعة، وليلبس البرد والعمامة، ويتوكأ على
قوس أو عصا، وليقعد قعدة بين الخطبتين، ويجهر بالقراءة، ويقنت في الركعة الأولى
منهما قبل الركوع ".
وسند الحديث لا بأس به. ومحمد بن علي بن محبوب أشعري قمي ثقة، من رجال
الطبقة الثامنة. والمراد بالعباس عباس بن معروف القمي الثقة من السابعة، لا عباس
بن عامر الذي هو من السادسة. وباقي رجال السند أيضا ثقات، كما لا يخفى على أهل
الفن.
ولا يخفى أن مرجع الضمير في قوله: " كانوا " وفي قوله: " وليلبس " غير مذكور،
فلعل الأول يرجع إلى قوم خاص " وجد " لهم شرائط الجمعة، والثاني إلى من كان
من شأنه إقامتها، أعني الإمام أو من نصبه.
هذا مضافا إلى أن الحديث ليس في مقام بيان وجوب الجمعة على الجميع أو كون
الجميع مأذونين في إقامتها، بل الصدر منه في مقام بيان العدد المعتبر والذيل في مقام
بيان الكيفية التي ينبغي للإمام أن يراعيها، فالاستدلال به للمقام في غير محله.
7 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن
إسماعيل الجعفي، عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): القنوت يوم

1 - هكذا سند الحديث في الاستبصار المصحح - ج 1 ص 418، الباب 252 - وفي
التهذيب (المطبوع على الحجر) - ج 1 ص 191 - وفي البابين 2 و 24 من أبواب صلاة
الجمعة من الوسائل - ج 5 ص 9 و 38 (= ط. أخرى 7 / 305 و 341)، الحديثان 10 و 2 -،
ولكن في الباب 6 منه - ج 5 ص 15 (= ط. أخرى 7 / 313)، الحديث 5 - ذكر الحسين بن
سعيد بدل محمد بن علي بن محبوب، فراجع. ح ع - م.
55

الجمعة؟ فقال: " أنت رسولي إليهم في هذا، إذا صليتم في جماعة ففي الركعة
الأولى، إذا صليتم وحدانا ففي الركعة الثانية. " ورواه الكليني عن علي بن إبراهيم،
عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبان. (1)
8 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن
سعيد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن بريد بن معاوية، عن محمد بن
مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) في خطبة يوم الجمعة: الخطبة الأولى: الحمد لله
نحمده نستعينه (إلى أن قال بعد خطبة طويلة:) " ثم اقرأ سورة من القرآن وادع
ربك صل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وادع للمؤمنين والمؤمنات ثم تجلس قدر ما تمكن هنيئة ثم
تقوم فتقول: " الحمد لله نحمده ونستعينه " (إلى أن قال بعد خطبة طويلة:) " ثم تقول:
اللهم صل على أمير المؤمنين ووصي رسول رب العالمين، ثم تسمي الأئمة حتى تنتهي
إلى صاحبك، ثم تقول: " اللهم افتح له فتحا يسيرا وانصره نصرا عزيزا " (إلى أن
قال:) " ويكون آخر كلامه أن يقول: إن الله يأمر بالعدل والإحسان. الآية ". (2)
ولا يخفى أن الضمائر في الحديث بعضها بنحو الخطاب وبعضها بنحو
الغيبة، الخطاب فيها أكثر، ولا محالة يكون المخاطب بها محمد بن مسلم.
وتقريب الاستدلال بالخبرين هو أن المستفاد منهما كون إقامة الجمعة متداولة
بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) مع كون الخلافة الظاهرية بأيدي خلفاء الجور، فيستفاد من
ذلك عدم الاحتياج إلى الإذن، أو كون الشيعة مأذونين من قبلهم (عليهم السلام) في إقامتها.
أقول: نعم، يستفاد منهما بل من خلال بعض الأخبار الأخر أيضا: أنه كان في عصر
الأئمة (عليهم السلام) وزمن كون الخلافة الظاهرية بأيدي خلفاء الجور تنعقد جمعة ما بين الشيعة
الإمامية غير جمع المخالفين، ولكنها هل كانت من جهة نصبهم بالخصوص أو الإذن العام

1 - الوسائل 4 / 903 (= ط. أخرى 6 / 271)، الباب 5 من أبواب القنوت، الحديث 5.
2 - المصدر السابق 5 / 38 (= ط. أخرى 7 / 342)، الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة،
الحديث 1؛ عن الكافي 3 / 422.
56

لجميع الشيعة أو عدم اشتراطها بإذن الإمام أصلا؟ فيه وجوه؛ والأخبار ساكتة
عن بيان ذلك، فيحتمل عدم الاشتراط، ويحتمل كون أشخاص معينة منصوبين من
قبلهم (عليهم السلام) لإقامتها، ويحتمل ثبوت الإذن لهم بما أنهم مؤمنون فيعم جميع المؤمنين.
وبالجملة رواية ابن مسلم ونظائرها مجملة، والاحتمالات المتصورة فيها أربعة،
فلا تدل على ثبوت الإذن العام لجميع فقهاء الشيعة - كما أفتى به الشيخ في بعض
عباراته - أو لجميع المؤمنين - كما أفتى به أيضا في بعض العبائر - والظاهر أنه (قده)
متفرد بهذين الفتويين بين القدماء من أصحابنا لما عرفت من اختيار السيد المرتضى
وسلار وابن إدريس والمفيد (على احتمال) حرمة الإقامة إذا لم يوجد الإمام أو من
نصبه.
فهذه ثمانية أخبار لا دلالة لواحد منها على ثبوت الإذن العام.
9 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن هشام
بن سالم، عن زرارة، قال: حثنا أبو عبد الله (عليه السلام) على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه
يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: " لا، إنما عنيت عندكم. " (1)
والرواية صحيحة من حيث السند: فالحسين بن سعيد الأهوازي ثقة من الطبقة
السابعة، وابن أبي عمير ثقة من الطبقة السادسة، وهشام بن سالم ثقة من الطبقة
الخامسة، وزرارة فقيه ثقة من الطبقة الرابعة. وقد مر منا إشارة إجمالية إلى طبقات
رجال الشيعة، فراجع.
وتقريب الاستدلال بها أن الظاهر منها أنه (عليه السلام) أذن لشيعته في إقامة الجمعة
عندهم، ولم يعين لإمامتها بعضا منهم بالخصوص حتى تختص به ويتعين على الباقين
الحضور والمأمومية، كما هو المتعين عليهم إذا أقامها الإمام أو من نصبه، فيدل
الحديث على كونهم مأذونين في إقامتها وأن لكل منهم إقامتها، فهو إذن عمومي لهم
بما أنهم فقهاء أو بما أنهم مؤمنون، وهو المطلوب.

1 - المصدر السابق 5 / 12 (= ط. أخرى 7 / 309)، الباب 5 منها، الحديث 1.
57

أقول: وفي استدلال بها للترخيص العمومي نظر، لكونها مجملة، حيث يتطرق
إليها بالنظر البدوي احتمالات كثيرة:
الأول: أن يكون مقصوده (عليه السلام) الترغيب في حضور جمعات المخالفين لئلا يظهر
مخالفة الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم لخلفاء الوقت وعمالهم، وقد صدر عنهم (عليهم السلام)
الحث التحريص على حضور جماعاتهم أيضا لذلك، كما لا يخفى على من تتبع
روايات باب الجماعة. (1)
الثاني: أن يكون المقصود ترغيبهم في حضور الجمعات التي كان يقيمها
المنصوبون من قبل الأئمة (عليهم السلام)، إذ من المحتمل كون أشخاص معينة منصوبين من قبلهم
لإقامتها في بعض الأمكنة.
الثالث: أن يكون المقصود حثهم على حضور بعض جمعات المخالفين الواجدة
للشرائط المعتبرة عندنا.
قال المفيد والشيخ والقاضي ما حاصله: " أن الجائر إذا نصب أحدا من الشيعة
لأمر مثل القضاء ونحوها من المشاغل السياسية وكان يمكنه العمل بما يقتضيه
المذهب وجب له القبول والعمل بمقتضى المذهب الحق، ويقصد فيما يأتي به النيابة
عن الإمام (عليه السلام). " (2)
وعلى هذا فلو كان في المنصوبين من قبل الخلفاء مثل هذا الشخص أمكن القول
بصحة جمعته وأنه يجب على الشيعة حضورها. فلعل المقصود في الحديث حث
الشيعة على حضور الجمعة التي يقيمها مثل هذا الشخص.
فإن قلت: يبعد الاحتمالين الأخيرين ترك مثل زرارة للحضور، إذ مثله لا يترك
حضور الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط المعتبرة عند الشيعة.
قلت: لعل الحث بملاحظة تساهل بعضهم في الحضور أو بسبب اعتقادهم عدم

1 - راجع المصدر السابق 5 / 381 (= ط. أخرى 8 / 299)، الباب 5 من أبواب صلاة
الجماعة.
2 - راجع المقنعة / 812؛ والنهاية / 301؛ والمهذب 1 / 342 (في الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر).
58

وجوب الحضور إذا لم يكن الإمام (عليه السلام) مبسوط اليد وإن انعقدت جمعة صحيحة.
الرابع: أن يكون الإمام (عليه السلام) بصدد بيان عدم اشتراط الإمام أو من نصبه في
إقامتها وعدم كونها من المناصب، فيكون هذا الحث منه (عليه السلام) لردع زرارة وأمثاله عما
توهموه - بسبب السيرة المستمرة - من كون إقامة الجمعة من المناصب الخاصة.
الخامس: أن يكون نفس هذا الكلام منه (عليه السلام) نصبا أو إذنا لهم: إما بأن يكون نصبا
لأشخاص معينة خاطبهم بكلامه، أو بأن يكون إذنا لهم بما أنهم فقهاء فيعم جميع
فقهاء الشيعة، أو بأن يكون إذنا لهم بما أنهم مؤمنون فيعم جميع المؤمنين.
فهذه خمسة احتمالات في الرواية، وبحسب شقوق الخامس منها تصير المحتملات
سبعة وإن بعد بعضها. فالرواية مجملة، حيث إنها رواية في واقعة شخصية، ولا نعلم
خصوصيات الوقت والحضار، ومن المحتمل جدا تمكنهم من الجمعات التي كان
يقيمها المنصوبون من قبلهم (عليهم السلام) أو من بحكمهم. فالاستدلال بها لثبوت
الترخيص الإذن لجميع الفقهاء أو المؤمنين في غير محله. وبالجملة ما يفيد لعصر
الغيبة هو الاحتمال الرابع والسادس والسابع، وإثباتها من بين المحتملات السبعة
مشكل، فتدبر. (1)

1 - لقائل أن يقول: إن الاحتمال الخامس بشقوقه ضعيف، إذ الظاهر من لفظ الحث وقوعه
بالنسبة إلى أمر متروك مع تمكن التارك من فعله وكونه حسنا منه مع قطع النظر عن هذا
الحث، فلا يمكن أن يقال: إن نفس هذا الكلام منه (عليه السلام) نصب أو إذن في الإقامة بعد فرض
الاشتراط، إذ مقتضى ذلك حصول التمكن منها بنفس هذا الكلام وهو خلاف ظاهر الحث
كما عرفت.
ثم إن المحتملات في قوله " إنما عنيت عندكم " بالنظر البدوي ثلاثة:
الأول: أن يقرأ " إنما " مؤلفة لتكون من أدوات الحصر، ويقرأ عنيت بتقديم النون على الياء،
وهو الأظهر.
الثاني: أن يقرأ " عينت " بتقديم الياء على النون مبنيا للمفعول من باب التفعيل، فيكون
المراد إني متعين
للإمامة بنظركم لا بنظر جميع الناس، فلا يصلح أن تأتوني.
الثالث: أن يقرأ كلمة إن منفصلة عن كلمة ما الموصولة، فيكون المعنى إن الجمعات التي
قصدتها في حثكم على حضورها هي الجمعات التي تنعقد عندكم وبمرآكم، لا ما أقيمها
بنفسي كما توهمتم. ح ع - م.
59

وينبغي التنبيه على أمرين:
الأول: لا يخفى أن الاحتمال الرابع إنما يتطرق إلى الرواية بالنظر البدوي، وأما بعد
الدقة في سياقها ومفادها فيظهر بطلانه، بل الرواية من أدل الدلائل على أن اشتراط
الجمعة بالإمام أو من نصبه كان أمرا واضحا مفروغا عنه بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام)
مركوزا في أذهانهم بنحو لا يشوبه ريب ولا شك، فإن الظاهر من الحديث أن مثل
زرارة لم يكن يواظب على فعل الجمعة بل كان يتركها مع كونه قادرا على إقامتها مع
نفر يسير من أصحابه على وجه يأمن الضرر، فيظهر من ذلك أن الجمعة لم تكن مثل
الصلوات اليومية من الواجبات العينية التعيينية بالنسبة إلى جميع المسلمين وإلا لم
يختف على أمثال زرارة. وكيف يمكن أن يقال إن صلاة الجمعة كانت من الواجبات
العينية التعيينية ولو مع عدم كون الإمام مبسوط اليد وكان مثل زرارة تاركا لها إلى
عصر الصادق (عليه السلام) لاختفائه عليه؟ مع أنه كان قبل ذلك من أصحاب أبي جعفر
الباقر (عليه السلام) ومن خواصه وملازميه وكان يعد من فقهاء الشيعة.
وبالجملة الحديث من أقوى الشواهد على ما ذكرناه سابقا من أن اشتراط الجمعة
بالإمام أو من نصبه كان أمرا مركوزا في أذهان المسلمين من جهة أنهم كانوا يرون من
عهد الصغر إلى الكبر أن الخلفاء والأمراء هم الذين يتصدون لإقامتها دون غيرهم من
آحاد المسلمين من غير فرق بين الخلفاء الراشدين وغيرهم، وقد ارتكز هذا الأمر في
ذهن زرارة أيضا ولذلك تراه بعد ما حثهم الإمام (عليه السلام) على الجمعة وكان من معتقداته
أيضا عدم لياقة الجائرين لمقام الخلافة انسبق إلى ذهنه من حث الإمام (عليه السلام) أنه يريد
الخروج على الخلفاء والقيام بوظائف الإمامة التي منها إقامة الجمعة وأنه
60

يحثهم على أن يأتوه ويتجمعوا حوله فقال مستعجبا: " نغدو عليك؟ "
فإن قلت: إن كان إقامة الجمعة من المناصب المختصة وكان إقامتها من قبل
الشيعة إعلانا للمخالفة مع خلفاء الجور ومساوقا للخروج عليهم فلم حث
الإمام (عليه السلام) مثل زرارة على إقامتها؟
قلت: لعل مراده (عليه السلام) حثهم على إقامتها خفاء أو في بعض القرى القريبة ليدركوا
فضل الجمعة ويحرزوا ثوابها، لا إقامتها علنا وجهارا. هذا مضافا إلى أنه لا دليل
على أن الحث منه (عليه السلام) وقع بلحاظ إقامة الجمعة، بل لعله حثهم على حضور الجمعات
التي كان يقيمها المخالفون أو بعض المنصوبين من قبل الأئمة كما مر بيانه.
فإن قلت: لو كان المنصوب من قبل الإمام (عليه السلام) موجودا لم ينسبق إلى ذهن زرارة
أنه (عليه السلام) يريد الخروج بنفسه.
قلت: لعل زرارة كان يظن أن الجمعة التي يقيمها المنصوبون لا تكون بمثابة من
الأهمية بحيث يصدر بالنسبة إليها هذه الترغيبات والتحريصات، ولا سيما مع عدم
كون الإمام مبسوط اليد، فظن أن هذه التحريصات لحضور جمعة أهم من تلك
الجمع، وحيث كان معتقدا لبطلان جمع المخالفين أيضا انسبق إلى ذهنه أنه (عليه السلام) يريد
بنفسه الخروج والتصدي لإقامتها.
والحاصل: أنه بالدقة في الحديث يستفاد منه أن زرارة أيضا لم يفهم من حث
الإمام (عليه السلام) على الجمعة عدم اشتراطها بالإمام أو كونه (عليه السلام) بصدد الإذن في إقامتها، بل
لما كان في ارتكازه كون إقامتها من المناصب المختصة بإمام المسلمين وعماله وأن
سائر المسلمين وظيفتهم الحضور والمأمومية فقط، وكان في اعتقاده أيضا أن الإمامة
حق لأبي عبد الله (عليه السلام)، ظن أنه (عليه السلام) يريد الخروج وأنه يحثهم على الحضور والتجمع
حوله، فقال: " نغدو عليك؟ " ولا نسلم أن قول الإمام في جوابه: " أنما عنيت عندكم "
ردع له عن هذا الارتكاز، إذا لاحتمالات المتطرقة إليه كثيرة كما عرفت، ومن
61

المحتمل أنه (عليه السلام) أقرهم على هذا الارتكاز وأن وظيفتهم الحضور والمأمومية
فقط، لكنه نفى بكلامه هذا إرادة الخروج على الخلفاء وإقامة الجمعة بنفسه، ويكون
قوله: " عندكم " إشارة إلى الجمعات التي كان يقيمها المخالفون أو المنصوبون من قبل
الأئمة (عليه السلام) بمرآهم.
وكيف كان فالاستدلال بالحديث الشريف لعدم اشتراط الجمعة بالإمام أو من
نصبه، أو ثبوت الترخيص من الإمام (عليه السلام) بالنسبة إلى فقهاء الشيعة أو جميع المؤمنين
في غير محله بعد ما يتطرق إليه احتمالات كثيرة، فافهم واغتنم.
ثم لا يخفى أن الاحتمال الرابع في الحديث يرد عليه مضافا إلى ما عرفت: أنه
مخالف للإجماع على اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه كما عرفت ادعاءه من
الشيخ وغيره. (1)
الأمر الثاني أنه لو فرض دلالة الحديث على جواز عقد الجمعة في عصر الغيبة
كما هو مقتضى الاحتمال الرابع والسادس والسابع من المحتملات السبعة فغاية ما يدل
عليه هو الصحة والجواز، وأما وجوب إقامتها أو وجوب السعي إليها على فرض
انعقادها فلا يدل الحديث عليهما، إذ غاية ما يستفاد من الحث مطلق الرجحان دون
خصوص الوجوب لو لم نقل بظهور الحث في خصوص الندب. ومن المحتمل كون
وجوب الإقامة ووجوب السعي إلى الجمعة مشروطين بوجود الإمام أو من نصبه
لذلك بالخصوص.
10 - من الأخبار التي استدل بها على الترخيص ما رواه الشيخ بإسناده عن
محمد بن علي بن محبوب، عن العباس بن معروف، عن عبد الله بن المغيرة، عن
عبد الله بن بكير، عن عمه زرارة بن أعين، عن أخيه عبد الملك بن أعين، عن أبي
جعفر (عليه السلام)، قال: قال: " مثلك يهلك ولم يصل فريضة فرضها الله. " قال: قلت:

1 - اللهم إلا أن يقال إن القدر المتيقن من الإجماع على الاشتراط هو صورة كون الإمام
مبسوط اليد. ح ع - م.
62

كيف أصنع؟ قال: " صلوا جماعة. " يعني صلاة الجمعة. (1)
ومحمد بن علي بن محبوب من كبار الطبقة الثامنة ثقة جليل، والعباس ثقة من
السابعة، وابن المغيرة ثقة من السادسة، وابن بكير فطحي ثقة من الخامسة، وزرارة
فقيه ثقة من الرابعة، وأما أخوه عبد الملك ففي وثاقته بل في تشيعه خلاف، فراجع. (2)
وقوله: " يعني صلاة الجمعة " ليس من كلام الإمام (عليه السلام)، بل هو من كلام
عبد الملك أو أحد الرواة الأخر. فليست الرواية صريحة بل ولا ظاهرة فيما نحن
بصدده. ولو سلم فنقول: إن الظاهر عدم كون كلام الإمام (عليه السلام) في الرواية كلاما
ابتدائيا، بل الظاهر من السياق أنه كان بينه (عليه السلام) وبين عبد الملك مكالمات من
قبل، لعله كان بين تلك المكالمات قرينة استفاد منها عبد الملك كون المراد بالجماعة:
الجمعة، وبعد ما لم يجعل كلام الإمام (عليه السلام) في الرواية ابتدائيا انهدم أركان الاستدلال
بها للترخيص العمومي، إذ من المحتمل كون المكالمات القبلية راجعة إلى ترك حضور
الجمعة مع وجود المنصوب أو المأذون له من قبل الإمام (عليه السلام)، وليس في الحديث اسم
من إقامة عبد الملك إياها، فلا تدل الرواية على عدم اشتراط الجمعة بالإمام ولا على
كون جميع الفقهاء أو جميع المؤمنين مأذونين في إقامتها. هذا مضافا إلى أنه حيث لم
يعلم تشيع عبد الملك فمن المحتمل أنه كان تاركا لحضور جمعات المخالفين، مع صحتها
بمذهبه، فوبخه الإمام (عليه السلام) على توانيه وتساهله في أداء الفرائض الدينية. ومن المحتمل
أيضا صدور هذا الكلام من الإمام (عليه السلام) تقية، بأن كان في محضره عدة من المخالفين
فاقتضى وضع المجلس صدور هذا التوبيخ

1 - الوسائل 5 / 12 (= ط. أخرى 7 / 310)، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث
2.
2 - راجع تنقيح المقال 2 / 228.
63

منه (عليه السلام) بالنسبة إلى عبد الملك.
والحاصل: أنه بعد ما أثبتنا بالأدلة السابقة اشتراط الجمعة بالإمام أو من نصبه
لا يمكن استفادة الإذن العمومي في إقامتها بالكلام الواقع بين الإمام (عليه السلام) وبين
عبد الملك مع عدم الإحاطة بأحوال عبد الملك والخصوصيات المحفوفة بالكلام
تطرق احتمالات كثيرة إليه، فتدبر.
ثم إنه هل يكون المراد بقوله: " ولم يصل فريضة " تركه للجمعة دائما وعدم إتيانه
بها ولو دفعة واحدة مدة عمره، أو تركه لها ولو كان الترك في جمعة واحدة مدة
عمره؟ فيه وجهان، ولعل المراد هو الأول، فيكون اللوم على ترك هذه الفريضة مدة
عمره لاعلى ترك كل جمعة.
11 - ما رواه في الفقيه بإسناده عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال (قده) - بعد ما روى
حديثا عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) -: " وقال زرارة: قلت له: على من
تجب الجمعة؟ قال: تجب على سبعة نفر من المسلمين. ولا جمعة لأقل من خمسة من
المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم. " (1) (2)
وقد تفرد الصدوق (قده) بنقل الرواية. وهذه الرواية من أقوى الأدلة التي يمكن

1 - الوسائل 5 / 8 (= ط. أخرى 7 / 304)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 4؛
و 5 / 13 (= ط. أخرى 7 / 310)، الباب 5، الحديث 4؛ عن الفقيه 1 / 411 - 409،
الحديثان 1220 - 1219، باب وجوب الجمعة.
2 - قال في آخر الفقيه - 4 / 425 -: " وما كان فيه عن زرارة بن أعين فقد رويته عن أبي -
رضى الله عنه -، عن عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن عيسى بن عبيد والحسن بن
ظريف وعلي بن إسماعيل بن عيسى، كلهم عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن
زرارة بن أعين. وكذلك ما كان فيه عن حريز بن عبد الله فقد رويته بهذا الإسناد. وكذلك
ما كان فيه عن حماد بن عيسى. " وعلى هذا فالرواية صحيحة كما لا يخفى على أهله. ح ع - م.
64

أن يستدل بها القائل بكون إقامة الجمعة واجبة علينا في عصر الغيبة، إما بأن
لا تشترط بالإمام فتكون من الواجبات العينية التعيينية بالنسبة إلى جميع المسلمين،
أو بأن يثبت بها الترخيص والإذن العام ويجب معه إقامتها.
وتقريب الاستدلال بها أن السؤال فيها أولا إنما هو عمن تجب عليه الجمعة
لاعن مطلق من تصح عنه وإن لم تجب عليه، وظاهر الجواب فيها أن اجتماع السبعة
شرط للوجوب واجتماع الخمسة شرط للصحة والجواز. وعلى هذا فقوله: " أمهم
بعضهم " يجب أن يحمل على الوجوب لاعلى مطلق الرخصة والجواز، لكونه معلقا
على اجتماع السبعة وقد جعل اجتماع السبعة في صدر الحديث شرطا للوجوب
لا للصحة، فالمستفاد من ذيل الحديث أنه كلما اجتمع سبعة من المسلمين وجب
عليهم أن يقيموا الجمعة بأن يؤمهم بعضهم ويقتدي به الباقون. ولو سلم عدم دلالته
على الوجوب فلا أقل من دلالته على ثبوت الإذن لعموم الشيعة في إقامتها.
فإن قلت: الاستدلال به متوقف على أن يكون المراد بالبعض الذي يؤمهم أي
بعض كان، ولا نسلم ذلك، فلعل المراد في ذيل الحديث أنه إذا اجتمع سبعة فوجد
شرط الجمعة من حيث العدد أمهم البعض الخاص الذي وظيفته إقامة الجمعة قراءة
الخطبة أعني الإمام أو من نصبه. ويؤيد ذلك قوله قبل ذلك: " أحدهم الإمام. " بداهة
انصرافه إلى الإمام الأصل لا مطلق إمام الجماعة. هذا مضافا إلى أنه لما ارتكز في
أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) بحسب السيرة المستمرة كون إقامة الجمعة وقراءة
خطبتها من الوظائف والمناصب لأشخاص معينة، فلا محالة كان المنسبق إلى أذهانهم
من قوله (عليه السلام): " أمهم بعضهم " البعض الخاص الذي عين لإقامة الجمعة لا أي بعض
كان.
قلت: الظاهر من قوله: " أمهم بعضهم " مطلق البعض، لا البعض الخاص
المنصوب لإقامة الجمعة. ويدل على ذلك قوله: " لم يخافوا. " إذ الخوف لا يتصور
65

لسلطان المسلمين ومن نصب من قبله. فيكون المراد الإذن العمومي للشيعة في
إقامة الجمعة بأنفسهم إذا لم يخافوا وأمنوا ضرر المتصدين لإقامتها من قبل خلفاء
الجور. لفظ الإمام وإن سلم كونه في سائر الموارد منصرفا إلى الإمام الأصل إلا أن
المتبادر منه في هذه الرواية بقرينة الذيل مطلق إمام الجماعة التي هي شرط في انعقاد
الجمعة، وإنما ذكر لدفع توهم أن يكون المراد بالسبعة المعتبرة غير الإمام حتى يصير
العدد معه ثمانية.
هذه غاية ما يمكن أن يذكر في تقريب الاستدلال بالرواية لوجوب إقامة الجمعة
أو جوازها في عصر الغيبة.
أقول: يرد عليه أولا ما أشير إليه آنفا من أن السيرة المستمرة على كون إقامة
الجمعة من وظائف أشخاص معينة بمنزلة القرينة المتصلة للحديث، فينصرف
البعض فيه إلى البعض الخاص الذي يكون إقامة الجمعة وقراءة الخطبة من
وظائفه مناصبه، ولا أقل من الاحتمال، فيبطل معه الاستدلال. ولا دلالة لقوله: " لم
يخافوا " على إرادة مطلق البعض، إذ لعل المراد بالبعض الإمام بالحق أو من نصبه، أئمة
الحق وشيعتهم كانوا في خوف وتقية من أيدي خلفاء الجور وعمالهم. (1)
وثانيا أنه من المظنون جدا أن يكون من قوله: فإذا اجتمع سبعة، إلى آخره من
كلام الصدوق وفتاويه، وقد استفاده واستنتجه من مجموع روايات الباب وذكره في

1 - أقول: ومما يشهد لعدم دلالة هذه الرواية ولا رواية عبد الملك السابقة على وجوب
إقامة الجمعة على الجميع أن راوي هذه الرواية عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) هو زرارة، كما أن
زرارة أيضا هو الذي روى الرواية السابقة عن أخيه عبد الملك عن أبي جعفر (عليه السلام)، ومع
ذلك لم يفهم هو - مع كونه فقيها من هاتين الروايتين وجوب الجمعة، وكان تاركا لها إلى
عصر الصادق (عليه السلام)، كما يدل عليه قوله في الحديث التاسع: حثنا أبو عبد الله (عليه السلام) على صلاة
الجمعة - الخ - فتدبر. ح ع - م.
66

ذيل رواية زرارة، كما هو دأبه كثيرا في كتابه هذا، حيث جرت عادته في هذا
الكتاب على ذكر فتاويه عقيب الروايات من غير أن يذكر ما يدل على انتهاء
الرواية، كما لا يخفى على من راجع الفقيه. وقد سبقنا إلى هذا الاحتمال بعض آخر،
منهم بحر العلوم (قده) (1)، بل في حواشي الفقيه المطبوع بهند أن من قوله: ولا جمعة
لأقل، إلى آخره " لعله من كلام المؤلف ". (2)
ومما يؤيد هذا الاحتمال أيضا أن المحقق والعلامة والشهيد لم يذكروا هذه الرواية
- مع قوة دلالتها - في عداد ما استدلوا بها على وجوب الجمعة في عصر الغيبة تخييرا
أو تعيينا. ولعله ذكر لهم شيوخهم أن الذيل ليس من تتمة الرواية.
ومن أقوى الشواهد على كون الذيل من فتاوى الصدوق (قده) أنه ذكر هذه
العبارة بعينها في كتاب هدايته بنحو الفتوى:
قال في الهداية ما هذا لفظه: " باب فضل الجماعة. فرض الله عز وجل من الجمعة
إلى الجمعة خمس وثلاثون صلاة، فيها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة، وهي
الجمعة. (إلى أن قال:) ومن صلاها وحده فليصلها أربعا كصلاة الظهر في سائر
الأيام. فإذا اجتمع يوم الجمعة سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم. فالخطبة بعد
الصلاة، لأن الخطبتين مكان الركعتين الأخريين، فأول من خطب قبل الصلاة عثمان.
(إلى أن قال:) والسبعة الذين ذكرناهم هم الإمام والمؤذن والقاضي والمدعي
حقا والمدعى عليه والشاهدان. " (3)
ولا يخفى أن تفسيره (قده) للسبعة يدل على كونه ناظرا إلى رواية محمد بن

1 - حكاه عنه في مفتاح الكرامة 3 / 76، في الشرط الثاني من شرائط وجوب الجمعة.
2 - هذا الكلام من الفاضل التفرشي، المولى مراد بن عليخان (قده) في حاشيته على
الفقيه، كما في هامش الفقيه المطبوع بقم ج 1 ص 412.
3 - الجوامع الفقهية / 52.
67

مسلم السابقة (الثانية من الطائفة الثانية) التي كانت ظاهرة في كون إقامة الجمعة
من وظائف الإمام أو من نصبه. فمراده (قده) بالإمام في كلامه: الإمام الأصل،
لا مطلق إمام الجماعة. وبذلك يظهر أنه (قده) أراد بالبعض في قوله: " أمهم بعضهم "
أيضا البعض الخاص، لا أي بعض كان. وذكره للمؤذن بدل من يضرب الحدود لعله
وقع منه اشتباها. كما أن القول بكون الخطبتين في الجمعة بعد الصلاة أيضا من
متفرداته اشتباهاته، كما لا يخفى.
وبالجملة احتمال كون ذيل الحديث من فتاوى الصدوق مما يقرب جدا بعد ما
ذكرناه من المؤيدات والشواهد، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
هذه أحد عشر حديثا ربما يستدل بها على ثبوت الترخيص من الأئمة (عليهم السلام) في
إقامة الجمعة في هذه الأعصار. وقد عرفت عدم تمامية الاستدلال بها، فتدبر جيدا.
68

فذلكة
قد ذكرنا أن الأخبار التي يستدل بها على وجوب الجمعة ثلاث طوائف:
فالطائفة الأولى منها تدل على وجوب الحضور والسعي إلى الجمعة بعد ما أقيمت
وانعقدت بشرائطها. ولا دلالة لواحدة منها على وجوب الإقامة فضلا عن شرائطها
وتعيين من يتصداها. وغاية دلالة آية الجمعة أيضا ليست أزيد من ذلك.
فالاستدلال بها على عدم اشتراط الجمعة بالإمام مثل الاستدلال بها على عدم
اشتراطها بالجماعة أو العدد أو نحوهما استدلال بمالا دلالة فيه.
الطائفة الثانية ما تدل على اشتراط الجمعة بإمام المسلمين أو من نصبه وأن
إقامتها من وظائفه ومناصبه وليست بيد كل أحد. وقد أفتى بذلك أيضا القدماء من
أصحابنا في كثير من كتبهم المعدة لنقل خصوص المسائل المأثورة والمتلقاة عن
الأئمة (عليهم السلام)، واستفيض منهم أيضا حكاية الإجماع على ذلك. فهذا المعنى من
واضحات فقه الإمامية لمن تتبع كلمات القدماء من الأصحاب. ومقتضى ذلك أن
جواز إقامة الشيعة لصلاة الجمعة في هذه الأعصار مما يحتاج إلى دليل متقن يستفاد
منه ترخيص الأئمة (عليهم السلام) وإذنهم للفقهاء أو لجميع الشيعة في إقامتها، وإلا فالأصل
عدم المشروعية بعد ما أثبتنا كونها من المناصب الخاصة.
69

الطائفة الثالثة ما يستدل بها على ترخيص الأئمة (عليهم السلام) لشيعتهم في إقامتها، وهي
أحد عشر حديثا ذكرناها وشرحنا مفادها، والعمدة منها هي الثلاثة الأخيرة،
وقد بينا عدم تمامية الاستدلال بهذه الروايات لإثبات الترخيص. فلابد لمن يدعي
مشروعيتها في هذه الأعصار من التماس دليل آخر، ومقتضى ما ذكرناه إلى الآن أنه
لو فرض إقامتها في هذه الأعصار احتياطا أو رجاء للمطلوبية فالاكتفاء بها عن
صلاة الظهر مشكل، فتدبر.
70

تذنيبان
الأول:
في بيان وجه الإفتاء بكون الفقهاء مأذونين في إقامة الجمعة
قد عرفت أن الشيخ (قده) أفتى في بعض كتبه بكون الفقهاء في عصر الغيبة
مأذونين في إقامة الجمعة. وربما أفتى أيضا بأنه يجوز للمؤمنين أن يجتمعوا فيصلوا
جمعة بخطبتين.
والظاهر أنه المتفرد بالفتويين من بين القدماء من أصحابنا. وتبين لك بما ذكرناه
أن الأخبار التي يستدل بها على الترخيص، في دلالتها عليه إشكال. وقد أشار
(قده) في الخلاف إلى أن فتواه بكون المؤمنين مأذونين مستند إلى أخبار القرايا. ومر
منا الإشكال في دلالتها.
فيبقى حينئذ وجه الإفتاء بكون الفقهاء مأذونين. ولعله (قده) استفاد ذلك من
أدلة ولاية الفقيه وحكومته. بتقريب أن جعل الحكومة له إذن له في أن يتصدى
جميع وظائف الحكام ومنها إقامة الجمعة، فإنها كما عرفت كانت في عهد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الخلفاء الراشدين وغيرهم من الوظائف والمناصب لزعماء
المسلمين حكامهم، وكان هذا المعنى مركوزا في أذهان جميع المسلمين حتى أصحاب
الأئمة (عليهم السلام)،
71

كما مر تفصيله. وعلى هذا يكون جعل الحكومة لشخص ملازما عرفا لكونه
مأذونا في إقامة الجمعة.
إشارة إجمالية إلى ولاية الفقيه وحدودها:
أقول: للبحث عن ولاية الفقيه وحدودها محل آخر. وعمدة ما يستدل بها
لولايته مقبولة عمر بن حنظلة، ورواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال، فنحن
نذكرهما تيمنا ثم نشير إلى القدر المتيقن من ولاية الفقيه وحكومته، أعني ما
يساعده الأدلة، ونحيل التفصيل فيها إلى مظان البحث عنها. (1)
فنقول: روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن
عيسى، عن صفوان، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما
إلى السلطان أو إلى القضاة، أيحل ذلك؟ فقال: " من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له
فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا، لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله
عز وجل أن يكفر به. " قلت: كيف يصنعان؟ قال: " انظروا إلى من كان منكم قد روى
حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما، فإني قد جعلته
عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا
رد، الراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله. "
وعن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أبي خديجة،
قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل

1 - للمقرر - مد ظله العالي - تحقيقات مستوفاة في هذا الشأن قد طبعت في 4 مجلدات
باسم " دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية "، فليراجع.
72

الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم فإني
قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه. " (1)
إذا عرفت ذلك فنقول: إن إثبات ولاية الفقيه وبيان الضابطة الكلية لما يكون
من شؤون الفقيه ومن حدود ولايته يتوقف على تقديم أمور:
الأول: إن في الاجتماع أمورا لا تكون من وظائف الأفراد ولا ترتبط بهم، بل
تكون من الأمور العامة الاجتماعية التي يتوقف عليها حفظ نظام الاجتماع، مثل
القضاء وولاية الغيب والقصر وبيان مصرف اللقطة والمجهول المالك وحفظ

1 - الوسائل 18 / 4 (= ط. أخرى 27 / 13)، الباب 1 من أبواب صفات القاضي،
الحديثان 4 و 5؛ والكافي 7 / 412. ورواهما الشيخ أيضا في التهذيب - ج 6 ص 219 -
218 - مثله سندا ومتنا إلا أنه ذكر في الخبر الأول بدل محمد بن الحسين محمد بن الحسن
بن شمون، وفي الثاني بدل قضائنا قضايانا. وللخبر الأول ذيل مفصل يرتبط بباب تعارض
الخبرين وعلاجه، ذكره مع ذيله في التهذيب 6 / 301، وأصول الكافي المطبوع جديدا ج 1
ص 67، والذيل فقط في الفقيه ج 3 ص 9، فراجع.
ثم لا يخفى أن رواية أبي خديجة بصدد بيان شرائط القاضي لا الحاكم بمعنى السائس الزعيم.
ولعل الظاهر من رواية عمر بن حنظلة أيضا ذلك ولا سيما بقرينة الصدر، اللهم إلا أن يقال
باستفادة الحكومة المطلقة من لفظة " على "، إذ لا استعلاء للقاضي على المترافعين، فكأنه
قال: فارضوا بقضائه، لأني جعلته حاكما عليكم ومن شؤون الحكومة القضاء، فتأمل. ثم
إنه يستفاد من الروايتين أنه يعتبر في القاضي أمران:
الأول: أن يكون إماميا مرضيا. ويدل على ذلك سياق الكلام وقوله: " منكم ".
الثاني: أن يكون مجتهدا. ويدل عليه مواضع من كلامه (عليه السلام). منها: قوله: " نظر. " ومنها: قوله:
" عرف أحكامنا ". حيث إن الظاهر منه اعتبار كونه عارفا بمذاق الأئمة (عليهم السلام) في المسائل
الشرعية، بحيث يميز (من بين الأخبار المتشتتة المتعارضة) ما صدرت لبيان حكم الله
مما أعطيت من جراب النورة، وهذا المعنى يستدعي الممارسة في أخبارهم والإحاطة على
رجالها وعلى آراء المخالفين والظروف التي صدر فيها الأخبار عنهم (عليهم السلام)، كما لا يخفى وجهه.
ومنها: قوله في ذيل رواية ابن حنظلة في علاج التعارض: " الحكم ما حكم به
أعدلهما وأفقههما. " إذ يستفاد من ذلك اعتبار أصل الفقاهة. ح ع - م.
73

الانتظامات الداخلية وسد الثغور والأمر بالجهاد والدفاع عند هجوم الأعداء
ونحو ذلك مما يرتبط بسياسة المدن. فليست هذه الأمور مما يتصداها كل أحد، بل
تكون من وظائف قيم الاجتماع ومن بيده أزمة الأمور الاجتماعية وعليه أعباء
الرياسة الخلافة.
الثاني: لا يبقى شك لمن تتبع قوانين الإسلام وضوابطه في أنه دين سياسي
اجتماعي، وليست أحكامه مقصورة على العباديات المحضة المشروعة لتكميل
الأفراد وتأمين سعادة الآخرة، بل يكون أكثر أحكامه مربوطة بسياسة المدن تنظيم
الاجتماع وتأمين سعادة هذه النشأة، أو جامعة للحسنيين ومرتبطة بالنشأتين، وذلك
كأحكام المعاملات والسياسات من الحدود والقصاص والديات والأحكام
القضائية المشروعة لفصل الخصومات والأحكام الكثيرة الواردة لتأمين الماليات
التي يتوقف عليها حفظ دولة الإسلام كالأخماس والزكوات ونحوهما (1). ولأجل
ذلك اتفق الخاصة والعامة على أنه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس وزعيم يدبر
أمور المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام وإن اختلفوا في شرائطه خصوصياته
وأن تعيينه من قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بالانتخاب العمومي.
الثالث: لا يخفى أن سياسة المدن وتأمين الجهات الاجتماعية في دين الإسلام لم
تكن منحازة عن الجهات الروحانية والشؤون المربوطة بتبليغ الأحكام وإرشاد
المسلمين، بل كانت السياسة فيه من الصدر الأول مختلطة بالديانة ومن شؤونها،

1 - كيف! ودين الإسلام خاتم الأديان وقد شرع فيه الأحكام لجميع الأمصار في جميع
الأعصار إلى يوم القيامة، وجميع ما يحتاج إليه البشر من أول انعقاد نطفته إلى حين الوفاة،
بل وبعدها، وجميع حركاته وسكناته مما جعل مطرحا لنظر شارع الإسلام وشرع له حكما
من الأحكام. فهل الشارع الذي تصدى لبيان آداب الأكل والشرب بخصوصياتهما وآداب
الجماع والتخلي وأمثالهما أهمل الأمور المهمة التي يتوقف عليها انتظام أمر المعاش
والمعاد ويختل بدونها النظام؟ ح ع - م.
74

فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه يدبر أمور المسلمين ويسوسهم ويرجع إليه فصل
الخصومات وينصب الحكام للولايات ويطلب منهم الأخماس والزكوات ونحوهما
من الماليات، وهكذا كان سيرة الخلفاء بعده من الراشدين وغيرهم، حتى
أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنه بعدما تصدى للخلافة الظاهرية كان يقوم بأمور
المسلمين ينصب الحكام والقضاة للولايات. وكانوا في بادىء الأمر يعملون بوظائف
السياسة في مراكز الإرشاد والهداية كالمساجد، فكان إمام المسجد بنفسه أميرا لهم،
وبعد ذلك أيضا كانوا يبنون المسجد الجامع قرب دار الإمارة، وكان الخلفاء والأمراء
بأنفسهم يقيمون الجمعات والأعياد بل ويدبرون أمر الحج أيضا، حيث إن العبادات
الثلاث مع كونها عبادات قد احتوت على فوائد سياسية لا يوجد نظيرها في غيرها،
كما لا يخفى على من تدبر. وهذا النحو من الخلط بين الجهات الروحية والفوائد
السياسية من خصائص دين الإسلام وامتيازاته.
الرابع: قد تلخص مما ذكرناه:
1 - أن لنا حوائج اجتماعية تكون من وظائف سائس الاجتماع وقائده.
2 - وأن الديانة المقدسة الإسلامية أيضا لم يهمل هذه الأمور بل اهتم بها أشد
الاهتمام وشرعت بلحاظها أحكاما كثيرة وفوضت إجراءها إلى سائس المسلمين.
3 - وأن سائس المسلمين في الصدر الأول لم يكن إلا نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الخلفاء
بعده.
وحينئذ فنقول: إنه لما كان من معتقداتنا معاشر الشيعة الإمامية أن خلافة
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزعامة المسلمين من حقوق الأئمة الاثني عشر عليهم صلوات الله
وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يهمل أمر الخلافة بل عين لها من بعده عليا (عليه السلام) ثم انتقلت منه
إلى أولاده، عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان تقمص الباقين وتصديهم لها غصبا
75

لحقوقهم، (1) فلا محالة كان المرجع الحق لتلك الأمور الاجتماعية التي يبتلى بها

1 - لا يخفى أن مقتضى الأصل الأولي عدم الحكومة والولاية بأنحائها لأحد على أحد، إذ
بحسب التكوين والخلقة كل فرد منحاز عن غيره ومستقل بذاته، فبأي ملاك يتسلط أحد
الفردين على الآخر وينفذ حكمه في حقه مع وجود العزلة التكوينية بينهما؟ فجميع الناس
بحسب الأصل الأولي - إذا لوحظ بعضهم بالنسبة إلى بعض آخر - أحرار مستقلون، وإذا
حكم بعضهم على بعض وتسلط عليه يراه الوجدان تعديا وظلما.
فالحكومة والسلطنة بل والمالكية الظاهرية إنما تتحقق في وعاء الاعتبار وتنفذ بحسب
الوجدان بتبع السلطنة والمالكية الحقيقية التكوينية.
فالوجدان إنما يلزم المملوك على إطاعة من يملك ذاته، ولا يرى له التخلف عن
أوامره نواهيه.
ولا مالك في عالم الوجود إلا الله تعالى، فهو مالك لعبيده بشراشر ذواتهم مالكية تكوينية،
لكونهم متقومي الذات بذاته. فالعقل يحكم بوجوب إطاعة البارىء وكونه مسلطا على
عبيده يحكم فيهم ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا يشاركه في ذلك أحد حتى الأنبياء والرسل،
فإن صرف جعل منصب النبوة والرسالة لهم لا يقتضي تسلطهم على النفوس
الناس أعراضهم بل مقتضاه كونهم سفراء بين الله وبين خلقه في تبليغ الأحكام.
فالحكومة التي يحكم الوجدان بحقيتها ونفوذها إنما هي لله تعالى بتبع مالكيته التكوينية. قد
أشار بذلك في مواضع من كتابه الكريم:
منها: قوله في سورة المائدة، الآية 44: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون) الآية 45: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) والآية 47: (ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) والآية 50: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن
من الله حكما لقوم يوقنون) وفي سورة المؤمن، الآية 12: (فالحكم لله العلي الكبير) ونحو
ذلك من الآيات الكثيرة. هذا.
ولكن له تعالى أن يجعل غيره خليفة له في ذلك وإماما للناس من قبله بحيث يجب على
الناس أن يأتموا به ويطيعوا أمره. ويكون هذه الإطاعة أيضا بنظر الوجدان من شؤون
إطاعة الله تعالى، وقد أشار بذلك أيضا في القرآن، حيث قال في سورة ص، الآية 26: (يا
داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) ففرع حاكمية داود على
جعله خليفة من قبله.
وهذا المنصب يعلو شرفا على منصب النبوة والرسالة بمراتب، لاقتضائه تسلطا على
المجتمع لا يقتضيها ذاك كما عرفت.
نعم يمكن أن يجتمع المنصبان لشخص واحد بجعله تعالى، وقد جعل الله تعالى عدة من
أنبيائه أئمة للناس، كما صرح ببعضهم في القرآن، وقال في سورة الأحزاب، الآية 6 في حق
نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم): (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فجعل له منصب الولاية والحكومة على
الناس، وهذا منصب غير منصب النبوة.
وبالجملة الوجدان لا يلزم أحدا على إطاعة غيره إلا إذا كان الغير مالكا له بالمالكية
الحقيقية أو منصوبا من قبل المالك من جهة أن إطاعة المنصوب أيضا من شؤون إطاعته.
وبما ذكرنا يظهر أن سائس المسلمين وزعيمهم يجب أن يتعين من قبل الله تعالى بتعيين
رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتصريح منه، كما قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الغدير - بعد ما أخذ بيد علي (عليه السلام) -:
" أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " إن الله
مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه. " (الغدير
ج 1 ص 11).
وأما الانتخاب العمومي فلا يغني عن الحق شيئا ولا يلزم الوجدان أحدا على إطاعة
منتخب الأكثرية، إذ المنتخب بمنزلة الوكيل، والموكل ليس ملزما على إطاعة وكلية بل له أن يعزله مهما شاء.
هذا بالنسبة إلى الأكثرية، وأما بالنسبة إلى الأقلية فالأمر أوضح، إذ لا يجب على أحد
بحسب الوجدان أن يطيع وكيل غيره. وعلى هذا فيختل النظام، فلابد لتنظيم الاجتماع من
وجود سائس يجب بحسب الوجدان إطاعته وينفذ حكمه ولو كان بضرر المحكوم
عليه، ليس ذلك إلا من كانت حكومته وولايته بتعيين الله تعالى ومن شؤون سلطنته
المطلقة ولو بوسائط كالفقيه العادل المنصوب من قبل الأئمة (عليهم السلام) المتعينين بتعيين
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وبما ذكرنا انهدم أساس
خلافة الثلاثة وأركان الحكومات المتداولة غير المنتهية إلى جعل الله تعالى، فافهم واغتنم.
ح ع - م.
76

جميع المسلمين هو الأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام) كانت من وظائفهم الخاصة مع القدرة عليها.
فهذا أمر يعتقده جميع الشيعة الإمامية، ولا محالة كان مركوزا في أذهان أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) أيضا. فكان أمثال زرارة ومحمد بن مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة وملازميهم
لا يرون المرجع لهذه الأمور والمتصدي لها عن حق إلا الأئمة أو من نصبوهم لها، ولذلك
كانوا يراجعون إليهم فيما يتفق لهم مهما أمكن كما يعلم ذلك بمراجعة أحوالهم.
77

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول: إنه لما كان هذه الأمور والحوائج الاجتماعية
مما يبتلى بها الجميع مدة عمرهم غالبا ولم يكن الشيعة في عصر الأئمة متمكنين من
الرجوع إليهم (عليهم السلام) في جميع الحالات - كما يشهد بذلك مضافا إلى تفرقهم في البلدان
عدم كون الأئمة مبسوطي اليد بحيث يرجع إليهم في كل وقت لأي حاجة اتفقت -
فلا محالة يحصل لنا القطع بأن أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وغيرهما من خواص
الأئمة سألوهم عمن يرجع إليه في مثل تلك الأمور إذا لم يتمكنوا منهم (عليهم السلام)، ونقطع
أيضا بأن الأئمة (عليهم السلام) لم يهملوا هذه الأمور العامة البلوى التي لا يرضى الشارع
بإهمالها، بل نصبوا لها من يرجع إليه شيعتهم إذا لم يتمكنوا منهم (عليهم السلام)، ولا سيما مع
علمهم (عليهم السلام) بعدم تمكن أغلب الشيعة من الرجوع إليهم بل عدم تمكن الجميع في
عصر غيبتهم التي كانوا يخبرون عنها غالبا ويهيئون شيعتهم لها. وهل لأحد أن
يحتمل أنهم (عليهم السلام) نهوا شيعتهم عن الرجوع إلى الطواغيت وقضاة الجور ومع ذلك
أهملوا لهم هذه الأمور ولم يعينوا من يرجع إليه الشيعة في فصل الخصومات التصرف
في أموال الغيب والقصر والدفاع عن حوزة الإسلام ونحو ذلك من الأمور المهمة
التي لا يرضى الشارع بإهمالها؟
وكيف كان فنحن نقطع بأن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) سألوهم عمن يرجع إليه الشيعة
في تلك الأمور مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام) وأن الأئمة (عليهم السلام) أيضا أجابوهم بذلك ونصبوا
للشيعة مع عدم التمكن منهم (عليهم السلام) أشخاصا يتمكنون منهم إذا احتاجوا، غاية الأمر
سقوط تلك الأسئلة والأجوبة من الجوامع التي بأيدينا ولم يصل إلينا إلا ما رواه
عمر بن حنظلة وأبو خديجة.
وإذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم (عليهم السلام) وأنهم لم يهملوا هذه الأمور المهمة
التي لا يرضى الشارع بإهمالها - ولاسيما مع إحاطتهم بحوائج شيعتهم في عصر الغيبة
- فلا محالة يتعين الفقيه لذلك، إذ لم يقل أحد بنصب غيره. فالأمر يدور بين
78

عدم النصب وبين نصب الفقيه العادل، وإذا ثبت بطلان الأول بما ذكرناه صار
نصب الفقيه مقطوعا به، ويصير مقبولة ابن حنظلة أيضا من شواهد ذلك.
وإن شئت ترتيب ذلك على النظم القياسي فصورته هكذا: إما أنه لم ينصب
الأئمة (عليهم السلام) أحدا لهذه الأمور العامة البلوى وإما أن نصبوا الفقيه لها، لكن الأول باطل
فثبت الثاني. فهذا قياس استثنائي مؤلف من قضية منفصلة حقيقية وحملية دلت
على رفع المقدم، فينتج وضع التالي، وهو المطلوب.
وبما ذكرناه يظهر أن مراده (عليه السلام) بقوله في المقبولة: " حاكما " هو الذي يرجع إليه في
جميع الأمور العامة الاجتماعية التي لا تكون من وظايف الأفراد ولا يرضى الشارع
أيضا بإهمالها - ولو في عصر الغيبة وعدم التمكن من الأئمة (عليهم السلام) - ومنها القضاء وفصل
الخصومات. ولم يرد به خصوص القاضي، ولو سلم فنقول: إن المترائى من بعض
الأخبار أنه كان شغل القضاء ملازما عرفا لتصدي سائر الأمور العامة البلوى كما في
خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا (عليه السلام): " وعن الرجل يموت بغير وصية وله ورثة
صغار وكبار، أيحل شراء خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك؟ " (1)
وبالجملة كون الفقيه العادل منصوبا من قبل الأئمة (عليهم السلام) لمثل تلك الأمور العامة
المهمة التي يبتلى بها العامة مما لا إشكال فيه إجمالا بعد ما بيناه، ولا نحتاج في إثباته
إلى مقبولة ابن حنظلة، غاية الأمر كونها أيضا من الشواهد، فتدبر.
بقي الإشكال في أنه هل يكون إقامة الجمعة أيضا من قبيل هذه الأمور المفوضة
إلى الفقيه قطعا أولا؟
يمكن أن يقال: إن الأمور التي ترتبط بالإمام وتعد من وظائفه على صنفين:
صنف منها من وظائف الإمام إذا كان مبسوط اليد كحفظ الانتظامات الداخلية

1 - راجع التهذيب 9 / 239، كتاب الوصايا، باب الزيادات، الحديث 20.
79

وسد ثغور المملكة والأمر بالجهاد والدفاع ونحو ذلك، وصنف منها من وظائفه
ولو لم يكن مبسوط اليد إذا أمكنه القيام به ولو بالتوكيل والإرجاع إلى غيره، وذلك
كالأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها كيفما كان، كالتصرف في أموال اليتامى
والمجانين والغيب، وكالقضاء بين الناس ونحو ذلك.
والظاهر أن إقامة الجمعة من الصنف الأول، كما يستفاد من التعليل الوارد لها في
رواية فضل بن شاذان السابقة، حيث قال: " فإن قال: فلم جعلت الخطبة؟ قيل: لأن
الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم (إلى أن قال:) ويخبرهم
بما ورد عليهم من الآفاق ".
وإذا ثبت كون إقامة الجمعة من وظائف الإمام (عليه السلام) إذا كان مبسوط اليد فقط أو
شك في كونها من هذا القبيل أو من قبيل القسم الثاني لم يثبت للفقيه رخصة في
إقامتها، إذ القدر المتيقن من أدله ولايته، ولايته من قبل الإمام (عليه السلام) في خصوص
الصنف الثاني من وظائف الإمام أعني الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها
كيفما كان، فاستفادة الترخيص في إقامتها من أدلة ولاية الفقيه مشكل.
هذا مضافا إلى أن إرجاع إقامة الجمعة إلى الفقيه بنحو الإطلاق مظنة وقوع
التنازع والفساد كما لا يخفى بخلاف النصب الخاص. نعم الظاهر أن ما أفتى به
الشيخ تبعه في الدروس من كون الفقهاء مأذونين في إقامتها لا مدرك له سوى توهم
كونه مشمولا لأدلة ولاية الفقيه.
إن قلت: شمول أدلة ولاية الفقيه لما نحن فيه يقتضي وجوب إقامتها تعيينا إذ
التمكن من المنصوب مثل التمكن من الإمام (عليه السلام) فلم حكموا بالوجوب التخييري؟
قلت: لعله من جهة أن عدم وجوبها تعيينا في زمان الغيبة كان مفروغا عنه
عندهم، إذ لو كانت واجبة بالوجوب التعييني لعلمه الفقهاء من أصحاب
الأئمة (عليهم السلام) وصل منهم إلينا يدا بيد مع شدة الابتلاء بها كسائر المسائل المتلقاة من
الأئمة (عليهم السلام)
80

الواصلة إلينا بنقل السلف، بداهة أن سلسلة فقه الإمامية لم تنقطع ولم تحصل بين
أرباب الحديث والفقه من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وتابعيهم وبين أعصارنا فترة قط، بل
كان في كل عصر يلقي الأساتذة والمشايخ إلى تلامذتهم جميع ما تلقوه من أسلافهم،
بل لو كان وجوب إقامة الجمعة من الواجبات التعيينية حتى في هذه الأعصار لصار
من الضروريات مثل وجوب غيرها من الصلوات اليومية ولم يحتج إلى البحث
والاستدلال، فافهم وتأمل.
الثاني:
في بيان قسمي شروط صلاة الجمعة
شروط الجمعة على قسمين: قسم منها يرجع إلى من وجب عليه حضورها، فمن
فقدها لم يجب عليه الحضور والسعي إلى الجمعة وإن انعقدت بشرائطها، وقسم منها
يرجع إلى صحة انعقادها، فإن فقدت لم تنعقد.
أما ما يعتبر في وجوب الحضور فهو أن يكون الإنسان بالغا عاقلا مذكرا حرا
خاليا عن السفر والمرض والعمى والشيخوخة، وأن لا يكون بينه وبين الجمعة
المنعقدة أزيد من فرسخين.
ويدل على اعتبارها عدة من أخبار الطائفة الأولى، فراجع.
وأما ما يعتبر في صحة انعقادها فأربعة:
1 - السلطان العادل أو من نصبه.
2 - الجماعة بعدد خاص.
3 - الخطبتان.
4 - أن يكون بينها وبين مثلها فرسخ فما زاد.
وقد عرفت ما يدل على اعتبار الأول. وأما الجماعة فاعتبارها إجمالا في صحة
الجمعة مما لا خلاف فيه، ويدل عليه روايات كثيرة.
81

العدد المعتبر في الجمعة
نعم وقع الاختلاف في العدد الذي تنعقد به:
قال الشيخ في الخلاف (المسألة 359): " تنعقد الجمعة بخمسة نفر جوازا وبسبعة
تجب عليهم. وقال الشافعي: لا تنعقد بأقل من أربعين من أهل الجمعة، وبه قال
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعمر بن عبد العزيز من التابعين، وفي
الفقهاء أحمد وإسحاق. وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر نفسا ولا تنعقد بأقل منهم.
وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد: تنعقد بأربعة: إمام وثلاثة معه، ولا تنعقد بأقل
منهم. وقال الليث بن سعد وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة ثالثهم الإمام، ولا تنعقد بأقل
منهم لأنه أقل الجمع. وقال الحسن بن صالح بن حي: تنعقد باثنين، وبه قال الساجي.
ولم يقدر مالك في هذا شيئا.
دليلنا إجماع الفرقة، وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر... " (1)
وأما أصحابنا الإمامية فلم يقل أحد منهم بانعقادها بأقل من خمسة، وإنما
اختلفوا في أن أقل العدد هو الخمسة أو السبعة، والمشهور كفاية الخمسة، واختار
بعضهم اعتبار السبعة، وفصل الشيخ (قده) بين شرط الصحة والانعقاد وبين شرط
الوجوب، فاكتفى بالخمسة في صحتها وانعقادها، وجعل السبعة شرطا للوجوب.
ووافقه بعض المتأخرين، (2) ويساعده روايات المسألة بعد الجمع العرفي، ولكن
يخالفه المشهور.
وكيف كان فالمتبع هو الأخبار، فلنذكرها:
1 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن

1 - الخلاف 1 / 598، كتاب الجمعة.
2 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 101، كتاب الصلاة، المقصد الثالث، المطلب الأول من
الفصل الأول.
82

أذينة، عن زرارة، قال: كان أبو جعفر (عليه السلام) يقول: " لا تكون الخطبة والجمعة
وصلاة ركعتين على أقل من خمسة رهط: الإمام وأربعة. " ورواه الشيخ أيضا
بإسناده عن علي بن إبراهيم. (1)
ولا يخفى أن الرواية تدل على المشهور من كون الخمسة شرطا للصحة والوجوب
معا، إذ ظاهرها عدم وجوبها على أقل من خمسة ووجوبها على الخمسة، كما لا يخفى
وجهه.
2 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان،
عن الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا كان القوم في قرية
صلوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب لهم جمعوا إذا كانوا خمس نفر. وإنما
جعلت ركعتين لمكان الخطبتين. " (2)
وهي أيضا تدل على قول المشهور، لظهور قوله: " جمعوا " في الوجوب.
3 - ما رواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى،
عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا
خمسة فما زادوا، فإن كانوا أقل من خمسة فلا جمعة لهم، والجمعة واجبة على كل أحد. "
الحديث. (3)
وهي أيضا تدل على قول المشهور، لظهور قوله: " يجمع " ولدلالة الذيل.
4 - ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن عثمان بن عيسى، عن ابن مسكان، عن ابن
أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا تكون جمعة ما لم يكن القوم خمسة. " (4)

1 - الوسائل 5 / 7 (= ط. أخرى 7 / 303)، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 2.
2 - المصدر السابق 5 / 8 (= ط. أخرى 7 / 304) والباب، الحديث 6.
3 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 7؛ و 5 / 5 (= ط. أخرى 7 / 300)، الباب
1 منها، الحديث 16.
4 - المصدر السابق 5 / 9 (= ط. أخرى 7 / 305)، الباب 2 منها، الحديث 8.
83

5 - ما رواه الصدوق في الخصال عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن
البزنطي، عن عاصم بن عبد الحميد الحناط، عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
" لا تكون جماعة بأقل من خمسة. " (1)
وذكر الحديث في هذا الباب من جهة حمل الجماعة فيه على الجمعة بقرينة
الخمسة.
ولا دلالة للخبرين على بطلان قول الشيخ كما لا يخفى، نعم يستفاد منهما كفاية
الخمسة، فيبطل قول من اعتبر السبعة في الصحة والوجوب معا.
6 - ما رواه الكشي بسنده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا اجتمع خمسة أحدهم
الإمام فلهم أن يجمعوا. " (2)
هذه ستة أخبار ذكر فيها الخمسة فقط: ثلاثة منها تدل على قول المشهور من
كفاية الخمسة في الصحة والوجوب معا، وهي الأول والثاني والثالث، والأخير
يساعد قول الشيخ. والرابع والخامس لا يدلان على قول المشهور ولاعلى قوله
ولا ينافرانهما أيضا. وجميعها تدل على بطلان قول من اعتبر السبعة في الصحة
والوجوب معا.
7 - ما رواه الكليني عن الحسين بن محمد، عن عبد الله بن عامر، عن علي بن
مهزيار، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن الفضل بن عبد الملك (أبي العباس
البقباق)، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " أدنى ما يجزي في الجمعة سبعة أو خمسة
أدناه. " رواه الشيخ أيضا بإسناده عن علي بن مهزيار. (3)
ولا يخفى أن الحسين بن محمد ثقة من صغار الطبقة الثامنة، ومع ذلك يروي

1 - المصدر السابق 5 / 8 (= ط. أخرى 7 / 304) والباب، الحديث 5.
2 - المصدر السابق 5 / 9 (= ط. أخرى 7 / 306) والباب، الحديث 1. وقد مر في الطائفة
الثالثة (رقم 4).
3 - المصدر السابق 5 / 7 (= ط. أخرى 7 / 303) والباب، الحديث 1.
84

عنه الصفار الذي هو من كبار هذه الطبقة، إذ له طرق يتفرد بنقله. وعبد الله بن
عامر عم له ثقة من السابعة. وابن مهزيار أيضا ثقة من السابعة. وفضالة أيضا ثقة
من السادسة.
والترديد في الحديث من الرواي ظاهرا، فهو مجمل من هذه الجهة. ولو قيل
بكونه من الإمام (عليه السلام) فسر الحديث بكون الخمسة شرطا للصحة والوجوب
التخييري، والسبعة للوجوب التعييني، كما أفتى به الشيخ. ويمكن أن يقال: إنه لما كان
هذا الخبر والخبر الثاني كلاهما لفضل بن عبد الملك، والمذكور في الخبر الثاني هو
الخمسة، صار هذا قرينة على كون الإمام (عليه السلام) في هذا الخبر أيضا هو الخمسة، الترديد
نشأ من الرواي.
8 - ما رواه الصدوق بإسناده عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال في صلاة
العيدين: " إذا كان القوم خمسة أو سبعة فإنهم يجمعون الصلاة كما يصنعون يوم
الجمعة. " (1)
ولعل المشهور حملوا الترديد فيه على كونه من الرواي وأن كلام الإمام (عليه السلام) هو
الخمسة بقرينة الأخبار السابقة.
وحمله الشيخ على كون الخمسة شرطا للصحة والسبعة شرطا للوجوب.
ويرد عليه إن قوله: " يجمعون " جملة خبرية في موضع الإنشاء، وظاهرها
الوجوب. هذا مضافا إلى أنه تال واحد لمقدم مردد، ولا يمكن أن يراد به الجواز
بحسب أحد شقي المقدم والوجوب بحسب الشق الآخر.
فإن قلت: يراد به الجواز بالمعنى الأعم، فيناسب كليهما.
قلت: الاستعمال في الجامع لا يفيد من يقول بقول الشيخ، إذ هو يقول: إن ترديد
الإمام ناظر إلى كون الخمسة شرطا للصحة والسبعة شرطا للوجوب، ومقتضاه

1 - المصدر السابق 5 / 8 (= ط. أخرى 7 / 303) والباب، الحديث 3.
85

أن يراد بقوله: " يجمعون " تارة الجواز وأخرى الوجوب، فتدبر.
9 - ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): على من
تجب الجمعة؟ قال: " تجب على سبعة نفر من المسلمين، ولا جمعة لأقل من خمسة من
المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة ولم يخافوا أمهم بعضهم وخطبهم. " (1)
وهذه الرواية من أقوى الأدلة على تفصيل الشيخ (قده) لو ثبت كون قوله:
" ولا جمعة لأقل... " من كلام الإمام (عليه السلام). ولكنك عرفت أن احتمال كونه من كلام
الصدوق احتمال قريب، فيبطل الاستدلال به، فراجع ما بيناه في شرح الخبر وتدبر.
10 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين،
عن الحكم بن مسكين، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
" تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين، ولا تجب على أقل منهم: الإمام
وقاضيه المدعي حقا والمدعى عليه والشاهدان والذي يضرب الحدود بين يدي
الإمام. " (2)
11 - ما رواه أيضا بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن العباس، عن حماد
بن عيسى، عن ربعي، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا كانوا سبعة
يوم الجمعة فليصلوا في جماعة. " الحديث. (3)
وهذان الخبران ينافيان قول المشهور دون قول الشيخ. هذا.
ولكن ما اختاره الشيخ من التفكيك بين شرط الصحة والوجوب كأنه مخالف
لما تسالم عليه الأصحاب بل المسلمون، إذ الظاهر منهم اعتبار عدد ما في صحة
الجمعة وانعقادها، غاية الأمر أنهم اختلفوا في كميته، فقال بعض العامة بالأربعين،

1 - المصدر السابق 5 / 8 (= ط. أخرى 7 / 304) والباب، الحديث 4. وقد مر في الطائفة
الثالثة (رقم 11).
2 - المصدر السابق 5 / 9 (= ط. أخرى 7 / 305) والباب، الحديث 9.
3 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 10.
86

بعضهم بالأربعة،
وبعضهم بالثلاثة، إلى غير ذلك مما مر، وذهب أصحابنا إلى قولين: فاختار المشهور
الخمسة، وذهب بعضهم إلى اعتبار السبعة، وكيف كان فجميعهم ذكروا العدد
الخاص في عداد شرائط الصحة، وأما الوجوب فهو عندهم متفرع على وجود
شرائط الصحة مضافا إلى الشرائط العامة للتكليف، ولا يوجد بين العامة والخاصة
ما سوى الشيخ (قده) من يفكك بين شرط الصحة وشرط الوجوب بحسب العدد،
فكان القول بالتفكيك إحداثا لقول جديد. ويرده - مضافا إلى كونه خلاف
ما تسالموا عليه - الأخبار الثلاثة الأول كما عرفت. وقد عرفت أيضا أن الخبر الأول
والثاني والثالث تساعد المشهور، ولا ينافيه الخامس والسادس بل الرابع أيضا،
والسابع والثامن مجملان لوجود الترديد فيهما مع ظهور كونه من الرواي فلا ينافيان
أيضا قول المشهور، وذيل التاسع مشكوك في كونه من كلام الإمام (عليه السلام) أو من كلام
الصدوق كما عرفت، فيبقى مفهوم صدره ومفهوم الحادي عشر ومنطوق العاشر
منافية لما عليه المشهور، فيقع التعارض بينها وبين الستة الأول، فترجح الأخبار
الأول بموافقتها للمشهور، حيث إن الشهرة الفتوائية أحد المرجحات المنصوصة،
فتدبر.
فرع في حكم ما إذا انعقدت الجمعة ثم انفض العدد
قال الشيخ في الخلاف (المسألة 360): " إذا انعقدت الجمعة بالعدد المراعى في
ذلك وكبر الإمام تكبيرة الإحرام ثم انفضوا، لا نص لأصحابنا فيه. والذي يقتضيه
مذهبهم أنه لا تبطل الجمعة، سواء انفض بعضهم أو جميعهم حتى لا يبقى إلا الإمام، أنه
يتم الجمعة ركعتين. وللشافعي خمسة أقوال (إلى أن قال:) دليلنا: إجماع الفرقة
الخ " (1).

1 - الخلاف 1 / 600، كتاب صلاة الجمعة. وفي هامشه: يخلو بعض النسخ من الإجماع
المذكور. وفي حاشية الخلاف المطبوع قديما ص 90: " ليس في نسختين نقل الإجماع ".
87

أقول: الظاهر عدم وجود الإجماع في المسألة كما يدل عليه صدر كلام الشيخ
أيضا. فاللازم هو المشي على طبق ما يقتضيه القواعد.
كما أن الظاهر أن نظر الشيخ في قوله: " والذي يقتضيه مذهبهم " ليس إلى أدلة
حرمة إبطال العمل، بل إلى ظاهر قوله (عليه السلام) في خبر منصور مثلا: " يجمع القوم يوم
الجمعة إذا كانوا خمسة. " بتقريب أن المستفاد منه أن الشرط في الصحة هو اجتماع
الخمسة مطلقا، لا اجتماع خمسة علم بقاؤهم إلى آخر الصلاة لعدم دلالة
الرواية أمثالها على هذا القيد. فاجتماع الخمسة شرط ابتداء لا استدامة، فافهم تأمل.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ولعنة الله
على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وقد وقع الفراغ من تحرير ما أفاده الأستاذ (مد ظله العالي على رؤوسنا) في باب
صلاة الجمعة في 9 من ذي القعدة سنة 1367 ه‍. ق. وأنا العبد المفتقر إلى رحمة
الله فضله: حسين علي المنتظري النجف آبادي.
رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم.
88

الفصل الثاني
في
صلاة المسافر
89

صلاة المسافر
اتفق الفقهاء (1) من العامة والخاصة على ثبوت القصر إجمالا في السفر
بنفسه، ذلك بترك الركعتين الأخيرتين من الرباعيات، من غير فرق بين سفر
الأمن الخوف، نعم حكي عن عبد الله بن عباس أنه قال: في سفر الأمن يقصر إلى
ركعتين وفي سفر الخوف يقصر إلى ركعة، (2) ولكنه شاذ لا يعبأ به.
اختلاف العامة في كون القصر عزيمة
وبالجملة أصل القصر في السفر مجمع عليه، ولكن وقع الاختلاف في كونه عزيمة
أو رخصة، فاتفق أصحابنا الإمامية على كونه عزيمة، وأكثر المخالفين على كونه
رخصة. (3)

1 - نعم حكي عن عائشة القول بأن القصر لا يجوز إلا للخائف، أخذا بظاهر الآية الآتية،
ولأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما قصر لأنه كان خائفا. ح ع - م. (راجع بداية المجتهد 1 / 142، الفصل
الأول من الباب الرابع من الجملة الثانية من كتاب الصلاة.)
2 - راجع المغني لابن قدامة 2 / 100، باب صلاة المسافر.
3 - أقوالهم في الصلاة أربعة: 1 - تعين القصر، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون. 2 -
التخيير بين القصر والإتمام، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. 3 - كون القصر سنة، وبه
قال مالك في أشهر الروايات عنه. 4 - كون الإتمام أفضل، وبه قال الشافعي في أشهر
الروايات عنه.
وأما في الصوم فالجمهور على أنه إن صام يجزيه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجزيه، ثم
اختار أبو حنيفة ومالك كون الصوم أفضل، وقال أحمد وجماعة أن الفطر أفضل. كذا في
بداية المجتهد لابن رشد الأندلسي ح ع - م. (راجع البداية ج 1 ص 143، كتاب الصلاة،
الفصل الأول من الباب الرابع من الجملة الثانية؛ وج 1 ص 251 - 250 كتاب الصيام،
المسألتين الأولى والثانية من القسم الثاني من الصوم المفروض.)
91

تفسير آية القصر
قال الله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) (1)
وفي قراءة أبى حذف قوله: (ان خفتم)، فيكون التقدير مخافة أو كراهة أن
يفتنكم. ولفظ الفتنة يستعمل في القتل وفي إيصال المكروه وفي الإضلال.
وربما يستشكل في دلالة الآية على المطلوب بوجهين:
الأول أن مفادها ثبوت القصر في السفر المجتمع مع الخوف لا مطلق السفر.
وربما يجاب عن ذلك بمنع المفهوم، فتأمل.
الثاني أن المستفاد منها كون القصر رخصة لا عزيمة.
أقول: لا يخفى أن زرارة ومحمد بن مسلم أيضا اعترضا بذلك على الإمام (عليه السلام)،
فأجابهما بالنقض بآية السعي:
فقد روى الصدوق في الفقيه عن زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا: قلنا لأبي
جعفر (عليه السلام): ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي وكم هي؟ فقال: " إن الله عز وجل
يقول: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)،
فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. " قالا: قلنا: إنما قال الله
عز وجل: (فليس عليكم جناح)، ولم يقل: " افعلوا "، فكيف أوجب ذلك كما أوجب

1 - سورة النساء (4)، الآية 101.
92

التمام في الحضر؟ فقال (عليه السلام): " أو ليس قد قال الله عز وجل في الصفا والمروة:
(فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)؟ ألا ترون أن الطواف بهما
واجب مفروض لأن الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك
التقصير في السفر شيء صنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر الله في كتابه (إلى أن قال:) وقد سافر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذي خشب، وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان:
أربعة وعشرون ميلا، فقصر وأفطر فصارت سنة، وقد سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوما
صاموا حين أفطر: العصاة. " قال: " فهم العصاة إلى يوم القيامة، وإنا لنعرف أبناءهم
أبناء أبنائهم إلى يومنا هذا. " (1)
ولا يخفى أن قولهما: " ولم يقل: افعلوا " دليل على أن الأمر في ارتكازهما
للوجوب.
والظاهر أن الإمام (عليه السلام) لم يرد إثبات وجوب القصر والسعي بنفس الآيتين، وإنما
أراد نفي منافاتهما للوجوب وبيان دلالتهما على أصل التشريع والجواز بالمعنى الأعم
الشامل للوجوب وغيره، والوجوب يستفاد من عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومداومته ومن
أقوالهم المأثورة عنهم (عليهم السلام) (2)

1 - الوسائل 5 / 538 (= ط. أخرى 8 / 517)، الباب 22 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 2؛ عن الفقيه 1 / 434. والآية الثانية من سورة البقرة (2)، رقمها 158.
2 - أقول: الظاهر أن سوق الآيتين الشريفتين لدفع توهم الحظر ورفع الاستبعاد لا
لتشريع حكم القصر والسعي، وإنما ثبت حكم القصر بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحكم السعي
بالسيرة المستمرة بين الأعراب وإمضاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها. بيان ذلك: أن الأصل في الصلاة
والمعهود منها بين المسلمين كان هو التمام، فكان حكم القصر موردا لتوهم
الحظر والاستبعاد، فنزلت الآية لدفع ذلك ببيان ما يقتضي التخفيف والسعة من
الخوف الضرب في الأرض الملازم للمشقة غالبا. والسعي بين الصفا والمروة كان معمولا
متداولا بين من يحج البيت من أهل الجاهلية، وكان عليهما صنمان من أصنامهم يقال لهما
أساف ونائلة؛ فتوهم بعض المسلمين أن السعي بينهما لم يكن مما شرعه الله، وليس
للموضعين حرمة عنده تعالى، وإنما ابتدعه المشركون لتكريم الصنمين، فنزلت آية السعي
لرفع هذا التوهم ح ع - م.
93

الشروط المعتبرة في القصر
ثم إنه يعتبر في جواز القصر أمور:
الأول: المسافة
اتفق المسلمون سوى أهل الظاهر على اعتبارها في وجوب القصر أو
جوازه، اكتفى داود وغيره من الظاهريين بصدق مفهوم السفر ومسماه. (1)
الأقوال في تحديد المسافة المعتبرة
وقد وقع الاختلاف في مقدار المسافة المعتبرة؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أقل
ما تقصر فيه الصلاة ثلاث مراحل، كل مرحلة ثمانية فراسخ. وذهب مالك الشافعي
وأحمد وجماعة كثيرة إلى أنها تقصر في مرحلتين أربعة برد. (2)
وأما أصحابنا الإمامية فقد اتفقوا على وجوب القصر فيما إذا كانت المسافة
الواقعة بين المبدأ والمقصد بريدين: ثمانية فراسخ. فليس فيهم من يعتبر أزيد من
ذلك.
وإنما الإشكال فيما إذا كانت المسافة أربعة فراسخ فما فوقها إلى الثمانية، وقد
اختلف أقوالهم في هذه المسألة، ومجموعها ثمانية:
الأول: تعين القصر مطلقا. سواء رجع من يومه أو بعده أم لم يرجع أصلا

1 - راجع الخلاف 1 / 568، كتاب صلاة المسافر، المسألة 320؛ والتذكرة 1 / 188 (= ط.
أخرى 4 / 369)، المسألة 617.
2 - وقال الأوزاعي: مسيرة يوم تام. قال: " وعامة العلماء قائلون به ". وهو الموافق
لمذهبنا وإحدى الروايتين عن ابن عباس. ح ع - م. راجع بداية المجتهد 1 / 144، الفصل
الأول من الباب الرابع من الجملة الثانية من كتاب الصلاة؛ والمنتهى 1 / 389، البحث
الأول من المقصد السادس من كتاب الصلاة؛ ومفتاح الكرامة 3 / 501.
94

فيكون نفس الأربعة تمام الموضوع لتعين القصر. نسب هذا القول إلى الكليني،
حيث اقتصر في الكافي على نقل أخبار الأربعة ولم يذكر أخبار الثمانية. ونسبه في
الحدائق أيضا إلى بعض المتأخرين. (1)
الثاني: تعين الإتمام مطلقا. لم نجد من صرح به، ولكنه قد يلوح من الحلبي في
الكافي وابن زهرة في الغنية، ونسبه في الماحوزية إلى الأكثر. (2)
الثالث: التخيير بين القصر والإتمام مطلقا. وهو خيرة المدارك والمنتقى. وفي
الروض أنه أوجه. ونسب أيضا إلى الكليني، (3) والشيخ في التهذيب، لكن الموجود
في التهذيب قوله بتعين القصر لمن أراد الرجوع ليومه والتخيير لغيره. (4)

1 - راجع الحدائق 11 / 316، المقصد الرابع (من كتاب الصلاة) في صلاة المسافر؛ الكافي؛
3 / 432 ومفتاح الكرامة 3 / 502.
2 - راجع الكافي للحلبي / 116، باب تفصيل أحكام الصلاة الخمس؛ والجوامع الفقهية /
495 (= ط. أخرى / 557)، فصل أقسام الصلاة من " الغنية "؛ ومفتاح الكرامة 3 / 504.
3 - راجع المدارك 4 / 437، في الشرط الأول من شروط القصر؛ والمنتقى 2 / 173، باب
الصلاة في السفر؛ وروض الجنان / 384، المقصد الرابع من النظر الثالث من كتاب الصلاة؛
ومفتاح الكرامة 3 / 503.
4 - أقول: في التهذيب - 3 / 208 - 207، أبواب الزيادات، باب الصلاة في السفر - بعد ما
ذكر خبر سماعة والكاهلي من أخبار الثمانية، وخبر زرارة وأبي أيوب من أخبار الأربعة
قال: " فلا تنافي بين هذين الخبرين وبين الخبرين الأولين، لأن الوجه فيهما أن المسافر إذا
أراد الرجوع من يومه فقد وجب عليه التقصير في أربعة فراسخ، يدل على ذلك ما رواه
سعد (فذكر خبر معاوية بن وهب من أخبار التلفيق ثم قال:) على أن الذي نقوله في ذلك
إنه يجب القصر إذا كان مقدار السفر ثمانية فراسخ. وإذا كان أربعة فراسخ كان بالخيار في
ذلك إن شاء أتم وإن شاء قصر. والذي يدل على جواز التقصير في أربعة فراسخ ما رواه
أحمد بن محمد... ". ثم ذكر نبذا من أخبار الأربعة ومنها أخبار عرفات. وذكر نحو ذلك في
الاستبصار - ج 1 ص 224 - 223 - أيضا، فراجع.
وظاهر كلامه (قده) أن الجمع الأول منه تبرعي، وأن الثاني هو فتواه، فيكون التخيير ثابتا
عنده مطلقا، رجع من يومه أم لا. ح ع - م.
95

الرابع: تعين القصر لمن أراد الرجوع قبل العشرة وتعين الإتمام لغيره. ولم يقل به
أحد من القدماء سوى الحسن بن أبي عقيل العماني. فقد حكى عنه في المختلف أنه
قال: " كل سفر كان مبلغه بريدان، وهو ثمانية فراسخ، أو بريد ذاهبا وجائيا، وهو
أربعة فراسخ، في يوم واحد أو ما دون عشرة أيام فعلى من سافره عند
آل الرسول (عليهم السلام) إذا خلف حيطان مصره أو قريته وراء ظهره وغاب عنه منها صوت
الأذان أن يصلي صلاة السفر ركعتين. " (1)
ومقتضى قوله كون السفر التلفيقي كالامتدادي، فكما لا يعتبر فيه طي الثمانية في
يوم واحد فكذلك التلفيقي.
الخامس: تعين القصر لمن أراد الرجوع مطلقا، سواء كان من يومه أو بعده، تخير
غيره بين القصر والإتمام. ولم نجد به قائلا.
السادس: تعين القصر لمن أراد الرجوع من يومه وتخير غيره. وهو المشهور بين
القدماء من أصحابنا. (2)
السابع: تعين القصر لمن أراد الرجوع من يومه وتعين الإتمام لغيره. اختاره
السيد المرتضى وابن إدريس والمحقق وأكثر المتأخرين. (3)
الثامن: الحكم بالتخيير لمن أراد الرجوع من يومه وتعين الإتمام لغيره.
هذه جملة الأقوال المحكية في المسألة وإن لم نجد لبعضها قائلا.
وكيف كان فالقائل بكون نفس الأربعة مطلقا موضوعا للقصر تعيينا أو تخييرا

1 - المختلف 1 / 162 (= ط. أخرى 2 / 526)، الفصل السادس من الباب الرابع من
كتاب الصلاة، المسألة 390.
2 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 503، المطلب الثاني من الفصل الخامس من المقصد الرابع
من كتاب الصلاة.
3 - راجع رسائل الشريف المرتضى (جمل العلم والعمل) 3 / 47؛ والسرائر 1 / 329،
باب صلاة المسافر؛ والمعتبر 2 / 468 - 467، في صلاة المسافر؛ ومفتاح الكرامة 3 / 503.
96

قليل في أصحابنا، بل المشهور بينهم كونها مسافة بضم الرجوع حتى تحصل
ثمانية فراسخ، ويعبرون عنها بالمسافة التلفيقية. ثم إن المشهور بين هذا المشهور
تحقق التلفيق بشرط أن يكون الرجوع من يومه، وبه أفتى جل القدماء من
أصحابنا. نعم مقتضى ما حكي عن ابن أبي عقيل أنه قال بالتلفيق إذا كان الرجوع
قبل العشرة؛ لكنه شاذ لم يعبأ به أصحابنا.
طوائف أخبار المسألة
فلنذكر أخبار المسألة حتى يتضح الحق، وهي خمس طوائف:
أخبار الثمانية
الطائفة الأولى: ما تدل على أن المسافة الموجبة للقصر بريدان، أو مسيرة يوم،
أو بياض يوم، أو ثمانية فراسخ، أو أربع وعشرون ميلا على اختلاف التعبيرات وإن
كان مآل الكل واحدا. وظاهرها كونها بصدد بيان المسافة الواقعة بين المبدأ والمقصد،
وبعبارة أخرى مقدار بعد المسافر عن مبدأ سيره، وهي أخبار:
1 - ما رواه الصدوق عن زرارة ومحمد بن مسلم أنهما قالا: قلنا لأبي جعفر (عليه السلام):
ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي وكم هي؟ فقال: " إن الله عز وجل يقول: (و
إذا ضربتم) (إلى أن قال:) " وقد سافر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذي خشب، وهي
مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان: أربعة وعشرون ميلا، فقصر وأفطر
فصارت سنة. " الحديث. (1)
وقد ذكرناه في أول المسألة أيضا.

1 - الوسائل 5 / 491 (= ط. أخرى 8 / 452)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 4؛ و 5 / 538 (= ط. أخرى 8 / 517)، الباب 22 منها، الحديث 2.
97

" وذي خشب " بضمتين: واد على مسيرة ليلة من المدينة.
ولا يخفى أن الكلام والنزاع بين المسلمين في الصدر الأول كان في مقدار المسافة
الامتدادية، أعني الواقعة بين مبدأ السفر والمقصد، ولم يكن بينهم اسم من التلفيق،
فكان أبو حنيفة يعتبر في البعد الواقع بين المبدأ والمقصد أن يكون بمقدار ثلاث
مراحل، والشافعي بمقدار مرحلتين. فمحط النظر في الخبر وأمثاله أيضا بيان مقدار
البعد في قبالهم. فالخبر وأمثاله ظاهرة في الامتدادية، ويستفاد منها عدم ثبوت
القصر إذا كان المسافة الواقعة بين المبدأ والمقصد أقل من ثمانية، اللهم إلا أن يقال: إن
الرواية ليست في مقام بيان أدنى المسافة وأن أقلها ثمانية، بل هي بصدد بيان سفر
خارجي صدر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذي خشب فقصر فيه، لرد أبي حنيفة أمثاله
القائلين بالمرحلتين والمراحل. فمراده (عليه السلام) بيان أن الأقل من المراحل أيضا يوجب
القصر متمسكا بعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث سافر إلى ذي خشب فقصر وأفطر مع عدم
كونه بمقدار المراحل. وبالجملة الحديث بصدد رد اعتبار الزائد على الثمانية، لا بصدد
بيان أقل المسافة، فافهم.
2 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن عاصم بن
حميد، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في كم يقصر الرجل؟ فقال: " في
بياض يوم أو بريدين. خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذي خشب فقصر. " فقلت: فكم
ذي خشب؟ فقال: " بريدان. " (1)
3 - ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن أخيه الحسن، عن زرعة، عن سماعة، قال:
سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ فقال: " في مسيرة يوم، وهي ثمانية
فراسخ. من سافر فقصر الصلاة أفطر، إلا أن يكون رجلا مشيعا، أو يخرج إلى صيد
أو إلى

1 - المصدر السابق 5 / 492 (= ط. أخرى 8 / 454)، الباب 1 منها، الحديثان 11 و 12؛
عن التهذيب 4 / 222.
98

قرية له فيكون مسيرة يوم لا يبيت إلى أهله لا يقصر ولا يفطر. " (1).
4 - ما رواه أيضا بإسناده عن الحسن بن علي بن فضال (2)، عن عبد الرحمان بن
أبي نجران، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال في
التقصير: " حده أربعة وعشرون ميلا. " (3)
5 - ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن
عبد الله بن يحيى الكاهلي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في التقصير في الصلاة
فقال: " بريد في بريد: أربعة وعشرون ميلا. " ثم قال: إن أبي كان يقول: " إن التقصير
لم يوضع على البغلة السفواء أو الدابة الناجية (4)، وإنما وضع على سير القطار. " ورواه
الصدوق أيضا بإسناده عن الكاهلي. (5)
6 - ما رواه بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن
أبي عمير، عن أبي أيوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن التقصير. قال: فقال:
" في بريدين أو بياض يوم. " (6)
7 - ما رواه بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال، عن محمد وأحمد ابني

1 - هكذا في التهذيب المطبوع (قديما) ج 1 ص 283 (= ط. أخرى 4 / 222). وفي ج 1
ص 181 (= ط. أخرى 3 / 207): محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد، عن الحسين، عن
الحسن؛ وذكر نحوه إلا أنه قال: " يكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصر ولا
يفطر. " كذلك في الاستبصار ج 1 ص 222 (وكذلك عنه في الوسائل 5 / 510 (= ط.
أخرى 8 / 477)، إلا أنه قال: " مشيعا لسلطان جائر "، فراجع. ح ع - م.
2 - هكذا في " التهذيب ". وفي " الاستبصار ": علي بن الحسن بن فضال.
3 - الوسائل 5 / 493 (= ط. أخرى 8 / 454)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 14؛ عن التهذيب 4 / 221؛ والاستبصار 1 / 223.
4 - سفا الدابة يسفوا سفوا كعلوا: أسرعت في مشيها. ومثله نجا ينجو نجاء.
5 - الوسائل 5 / 491 (= ط. أخرى 8 / 452)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 3. وقد نقل متن الرواية في الوسائل عن الفقيه 1 / 436. والمتن الذي هنا من
التهذيب 4 / 223.
6 - المصدر السابق 5 / 492 (= ط. أخرى 8 / 453) والباب، الحديث 7.
99

الحسن أخويه، عن أبيهما، عن عبد الله بن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في الرجل يخرج من منزله يريد منزلا له آخر أو ضيعة له أخرى؟ قال:
" إن كان بينه بين منزله أو ضيعته التي يؤم بريدان قصر، وإن كان دون ذلك أتم. " (1)
8 - ما رواه أيضا بإسناده عنه، عن محمد بن عبد الله وهارون بن مسلم جميعا،
عن محمد بن أبي عمير، عن عبد الرحمان بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
سألته عن التقصير في الصلاة، فقلت له: إن لي ضيعة قريبة من الكوفة، وهي بمنزلة
القادسية من الكوفة، فربما عرضت لي الحاجة (حاجة - خ) أنتفع بها أو يضرني
القعود عنها في رمضان، فأكره الخروج إليها، لأني لا أدري أصوم أو أفطر. فقال لي:
" فأخرج وأتم الصلاة وصم، فإني قد رأيت القادسية. " فقلت له: كم أدنى ما يقصر
فيه الصلاة؟ قال: " جرت السنة ببياض يوم. " فقلت له: إن بياض يوم يختلف،
فيسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة
فراسخ في يوم. قال: فقال: " إنه ليس إلى ذلك ينظر، أما رأيت سير هذه الأميال
(الأثقال - الوسائل) بين مكة والمدينة، ثم أومأ بيده: " أربعة وعشرين ميلا تكون
ثمانية فراسخ. " (2)
ولعل إيماءه (عليه السلام) كان تقية من جهة حضور أحد المخالفين.
9 - ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضل بن شاذان في العلل التي سمعها من
الرضا (عليه السلام): " وإنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية
فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم. ولو لم
يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة. وذلك لأن كل يوم يكون

1 - المصدر السابق 5 / 521 (= ط. أخرى 8 / 492)، الباب 14 منها، الحديث 3.
2 - المصدر السابق 5 / 493 (= ط. أخرى 8 / 455)، الباب 1 منها، الحديث
15؛ 5 / 521 (= ط. أخرى 8 / 492)، الباب 14، الحديث 4.
100

بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في
نظيره، إذ كان نظيره مثله لا فرق بينهما. " (1)
ومراده (عليه السلام): أن ما يوجب الترخيص في القصر، أعني المشقة الزائدة الحاصلة
بالسفر، إنما تتحقق في حال السير فقط. فكل يوم يتحقق فيه بالسير مشقة زائدة
على حال الحضر، وهي التي توجب القصر، وهذه المشقة ترتفع في الليل
بالاستراحة، وتتجدد في اليوم الثاني بالسير وهكذا. فإذا لم يكف المشقة الحاصلة في
يوم لإيجاب القصر لم يكف المشقة الحاصلة بعد هذا اليوم أيضا.
وبعبارة أخرى: الناس في الحضر أيضا يتحملون المشاق لتأمين المعاش، غاية
الأمر أن السفر يزيد المشقة، فثبت القصر لتلك المشقة الزائدة، ومشقة كل يوم
ترتفع بالاستراحة في الليل، فلو لم يكن هذا المقدار من المشقة موجبا للقصر لما
وجب في مسيرة ألف سنة أيضا لحصول الفترة بين المشقات بالاستراحة في الليل.
10 - ما رواه أيضا في العيون، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى
المأمون: " والتقصير في ثمانية فراسخ وما زاد، وإذا قصرت أفطرت. " (2)
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على كون المسافة الموجبة للقصر ثمانية
فراسخ. وإن أبيت عن دلالة بعضها على تحديد المسافة من جانب القلة بنحو ينافيها
أخبار الأربعة فلا ريب في أن أكثرها ظاهرة في أن أقل ما يوجب القصر هو الثمانية،
بل بعضها صريحة في ذلك، بحيث ينفي الأقل، كخبر فضل بن شاذان السابق. وقد
عرفت أن المتبادر من الجميع هو الثمانية الامتدادية التي يبعد المسافر بسبب طيها
عن مبدأ سيره.

1 - المصدر السابق 5 / 490 (= ط. أخرى 8 / 451)، الباب 1 منها، الحديث 1.
2 - المصدر السابق 5 / 492 (= ط. أخرى 8 / 453) والباب، الحديث 6.
101

اخبار الأربعة
الطائفة الثانية: ما تدل على أن المسافة الموجبة للقصر أربعة فراسخ، أو بريد،
أو اثنا عشر ميلا على اختلاف التعبيرات فيها، من غير ذكر لدخالة الرجوع في ذلك.
فالمستفاد منها كون نفس الأربعة تمام الموضوع لثبوت القصر. والظاهر منها أيضا
كونها بصدد بيان مقدار الامتداد والبعد الواقع بين المبدأ والمقصد. وهي أيضا أخبار
كثيرة:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل
بن دراج، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " التقصير في بريد، والبريد أربعة
فراسخ " ورواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير
مثله. (1)
2 - ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن
معاوية بن حكيم، عن أبي مالك الحضرمي، عن أبي الجارود، قال: قلت لأبي
جعفر (عليه السلام): في كم التقصير؟ فقال: " في بريد. " (2)
3 - ما رواه أيضا عن سعد، عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن حماد
بن عثمان، عن محمد بن النعمان، عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن التقصير. فقال: " في أربعة فراسخ. " (3)
وإسماعيل بن الفضل من بني نوفل بن عبد المطلب، وكثر فيهم العلماء والمحدثون،
وأكثرهم من سكان البصرة.
4 - ما رواه عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن حماد، عن زيد الشحام، قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " يقصر الرجل في مسيرة اثني عشر ميلا. " (4)

1 - المصدر السابق 5 / 494 و 497 (= ط. أخرى 8 / 456 و 459)، الباب 2، الحديثان 1
و 10.
2 - المصدر السابق 5 / 495 (= ط. أخرى 8 / 458) والباب، الحديث 6.
3 - المصدر السابق 5 / 495 (= ط. أخرى 8 / 457) والباب، الحديث 5.
4 - المصدر السابق 5 / 494 (= ط. أخرى 8 / 456) والباب، الحديث 3.
102

5 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي
أيوب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أدنى ما يقصر فيه؟ قال: " بريد. " ورواه الشيخ
أيضا بإسناده عن الكليني وعن علي بن إبراهيم. (1)
6 - ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عمير، عن عبد الله بن
بكير، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن القادسية أخرج إليها أتم أم أقصر؟ قال: " وكم
هي؟ " قلت: هي التي رأيت. قال: " قصر ". (2)
والقادسية موضع بينه وبين الكوفة خمسة فراسخ. فالرواية أيضا من أخبار
الباب، إذ كل ما هو دون الثمانية حكمه حكم الأربعة بلا خلاف.
7 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن عيسى،
عن عمران بن محمد، قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إن لي ضيعة
على خمسة عشر ميلا: خمسة فراسخ، فربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو
خمسة أيام أو سبعة أيام، فأتم الصلاة أم أقصر؟ فقال: " قصر في الطريق وأتم في
الضيعة. " (3)
8 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن يحيى
الخزاز، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " بينا نحن جلوس، وأبي عند
وال لبني أمية على المدينة، إذ جاء أبي فجلس فقال: كنت عند هذا قبيل، فسألهم عن
التقصير، فقال قائل منهم: في ثلاث، وقال قائل منهم: يوما وليلة. وقال قائل منهم:
روحة، فسألني. فقلت له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في كم ذاك؟ فقال: في بريد. فقال: وأي شيء البريد؟ قال: ما بين ظل

1 - المصدر السابق 5 / 497 (= ط. أخرى 8 / 460) والباب، الحديث 11.
2 - المصدر السابق 5 / 496 (= ط. أخرى 8 / 458) والباب، الحديث 7.
3 - المصدر السابق 5 / 523 (= ط. أخرى 8 / 496)، الباب 14 منها، الحديث 14.
103

عير إلى فيء وعير. ثم عبرنا زمانا ثم رأى بنو أمية يعملون أعلاما على الطريق
وأنهم ذكروا ما تكلم به أبو جعفر (عليه السلام)، فذر عواما بين ظل عير إلى فيء وعير، ثم
جزوه على اثني عشر ميلا، فكانت ثلاثة آلاف وخمسمأة ذراع كل ميل، فوضعوا
الأعلام، فلما ظهر بنو هاشم غيروا أمر بني أمية غيرة، لأن الحديث هاشمي، فوضعوا
إلى جنب كل علم علما. " (1)
ومحمد بن يحيى العطار من الطبقة الثامنة من شيوخ الكليني. والخزاز من الطبقة
السادسة.
9 - ما رواه الصدوق. قال: وقال الصادق (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل عليه
جبرئيل بالتقصير قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في كم ذلك؟ فقال: في بريد. فقال: وكم البريد؟
قال: ما بين ظل عير إلى فيء وعير، فذرعته بنو أمية ثم جزوه على اثني عشر ميلا،
فكان كل ميل ألفا وخمسمأة ذراع، وهو أربعة فراسخ. " (2)
وعير كطير ووعير كزبير جبلان بالمدينة. وإنما عبر في عير بالظل وفي وعير
بالفيء إذ الأول واقع في جهة المشرق والثاني في جهة المغرب فالاعتبار في عير بظله
الموجود في طرف الصبح، وفي وعير بظله الحادث بعد الظهر المتوجه إلى عير. والفيء
هو الظل الحادث، من فاء: إذا رجع. (3)
10 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض
أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن حد الأميال التي يجب فيها التقصير.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل حد الأميال من ظل عير إلى ظل

1 - المصدر السابق 5 / 497 (= ط. أخرى 8 / 460)، الباب 2 منها، الحديث 13.
2 - المصدر السابق 5 / 498 (= ط. أخرى 8 / 461) والباب، الحديث 16.
3 - في رسالة بحر العلوم: " والمراد بما بين الظلين: ما بين الجبلين. وإنما عبر بالظل للتنبيه
على أن الحد هو ما بين الطرفين الداخلين الذين هما مبدأ الظل فهو تأكيد لمقتضى البينية
الظاهرة في ذلك. وأما منتهى الظل فهو غير منضبط بل غير متناه في بعض الأوقات. "
راجع مفتاح الكرامة 3 / 507؛ فإنه أورد الرسالة فيه.
104

وعير. وهما جبلان بالمدينة، فإذا طلعت الشمس وقع ظل عير إلى ظل وعير.
وهو الميل الذي وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه التقصير. " (1)
هذه هي الأخبار الدالة على أن المسافة الموجبة للقصر أربعة فراسخ. وقد عرفت
أن الظاهر منها أيضا كونها بصدد بيان مقدار الامتداد والبعد الواقع بين المبدأ والمقصد.
ويظهر منها أن الأربعة تمام الموضوع للقصر من دون دخالة للرجوع في ذلك. فلو لم
يكن لنا أخبار أخر تفسرها لكان التعارض بين الطائفة الأولى وهذه الطائفة
بينا، لكن الطائفة الثالثة بمنزلة المفسر لهذه الطائفة، وبملاحظتها يرتفع التعارض
بينهما كما سيظهر.
أخبار التلفيق
الطائفة الثالثة: ما تدل على أن الأربعة مسافة بشرط أن يتعقبها الرجوع حتى
يصير الملفق منهما ثمانية. وهي أيضا أخبار كثيرة:
1 - ما رواه الصدوق عن جميل بن دراج، عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن التقصير. فقال: " بريد ذاهب وبريد جائي. "
قال: " وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتى ذبابا قصر، وذباب على بريد، وإنما فعل
ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ. " (2)
2 - ما رواه في العيون والعلل بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السلام)، قال:
" إنما وجبت الجمعة على من يكون على رأس فرسخين لا أكثر من ذلك، لأن ما تقصر
فيه الصلاة بريدان ذاهبا وبريد ذاهبا وبريد جائيا. والبريد أربعة فراسخ. فوجبت
الجمعة على من هو على نصف البريد الذي يجب فيه التقصير، وذلك لأنه يجيء
فرسخين ويرجع فرسخين، وذلك أربعة فراسخ، وهو نصف طريق المسافر. " (3)

1 - الوسائل 5 / 497 (= ط. أخرى 8 / 460)، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 12.
2 - المصدر السابق 5 / 498 (= ط. أخرى 8 / 461) والباب، الحديثان 14 و 15؛ عن
الفقيه 1 / 449.
3 - المصدر السابق 5 / 498 (= ط. أخرى 8 / 462) والباب، الحديث 18.
105

3 - ما رواه الشيخ عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن معاوية بن وهب، قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أدنى ما يقصر فيه المسافر الصلاة؟ قال: " بريد ذاهبا وبريد
جائيا. " (1)
4 - ما رواه أيضا بإسناده عن الصفار، عن محمد بن عيسى، عن سليمان بن
حفص المروزي، قال: قال الفقيه (عليه السلام): " التقصير في الصلاة بريدان أو بريد
ذاهبا وجائيا. والبريد ستة أميال، وهو فرسخان. فالتقصير في أربعة فراسخ. فإذا
خرج الرجل من منزله يريد اثني عشر ميلا، وذلك أربعة فراسخ، ثم بلغ
فرسخين نيته الرجوع، أو فرسخين آخرين قصر. وإن رجع عما نوى عندما بلغ
فرسخين وأراد المقام فعليه التمام. وإن كان قصر ثم رجع عن نيته أعاد الصلاة. " (2)
والفراسخ والأميال فيه محمولة على الخراسانية، بقرينة كون الراوي خراسانيا،
والفرسخ الخراساني ضعف الفرسخ العرفي.
وسليمان من الطبقة السادسة. والمراد بالفقيه هنا هو الرضا (عليه السلام)، وإن كان ربما
يحتمل أيضا كون سليمان من الطبقة السابعة وكون المراد بالفقيه أبا الحسن
الثالث (عليه السلام).
5 - ما رواه أيضا عن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن رجل، عن صفوان،
قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس
ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان وهي أربعة فراسخ من بغداد، أيفطر إذا أراد
الرجوع ويقصر؟ فقال: " لا يقصر ولا يفطر، لأنه خرج من منزله وليس يريد
السفر ثمانية فراسخ، إنما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به
السير إلى الموضع الذي بلغه. ولو أنه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا وجائيا
لكان عليه أن ينوي من

1 - المصدر السابق 5 / 494 (= ط. أخرى 8 / 456) والباب، الحديث 2.
2 - المصدر السابق 5 / 495 (= ط. أخرى 8 / 457) والباب، الحديث 4.
106

الليل سفرا والإفطار. فإن هو أصبح ولم ينو السفر فبدا له من بعد أن أصبح في
السفر قصر ولم يفطر يومه ذلك. " (1)
6 - ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد البرقي، عن محمد
بن أسلم الجبلي، عن صباح الحذاء، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن قوم خرجوا في سفر، فلما انتهوا إلى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير
قصروا من الصلاة، فلما صاروا على فرسخين أو على ثلاثة فراسخ أو على أربعة
فراسخ تخلف عنهم رجل لا يستقيم لهم سفرهم إلا به، فأقاموا ينتظرون مجيئه إليهم
وهم لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم، فأقاموا على ذلك أياما لا يدرون هل
يمضون في سفرهم أو ينصرفون، هل ينبغي لهم أن يتموا الصلاة أو يقيموا على
تقصيرهم؟ قال: " إن كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم،
أقاموا أو انصرفوا. وإن كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة، أقاموا أو
انصرفوا، فإذا مضوا فليقصروا. "
وروى الصدوق في العلل عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن علي بن الحسين
السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن محمد بن علي الكوفي، عن محمد
بن أسلم الجبلي نحوه، وزاد: ثم قال: " وهل تدري كيف صار هكذا؟ " قلت: لا
أدري. قال: " لأن التقصير في بريدين، ولا يكون التقصير في أقل من ذلك. فلما كانوا
قد ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا كانوا قد ساروا سفر التقصير. فإن كانوا ساروا
أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة. " قلت: أليس قد بلغوا الموضع الذي
لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال: " بلى إنما قصروا في ذلك
الموضع لأنهم لم يشكوا في مسيرهم وأن السير يجد بهم، فلما جاءت

1 - المصدر السابق 5 / 503 (= ط. أخرى 8 / 468)، الباب 4 منها، الحديث 1؛ 5 / 496
(= ط. أخرى 8 / 458)، الباب 2، الحديث 8.
107

العلة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا ". (1)
7 - ما رواه في تحف العقول عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون، قال: " والتقصير
في أربعة فراسخ بريد ذاهبا وبريد جائيا اثنا عشر ميلا وإذا قصرت أفطرت. " (2)
ومؤلف الكتاب مجهول وإن نسب إلى الحسن بن علي بن شعبة. (3)
8 - ما رواه القاضي نعمان المصري في دعائم الإسلام عن الباقر (عليه السلام)، قال: " يقصر
الصلاة في بريدين ذاهبا وراجعا. " قال القاضي: يعني إذا كان خارجا إلى سفر
مسيرة بريد وهو يريد الرجوع قصر، وإن كان يريد الإقامة لم يقصر حتى تكون
المسافة بريدين. (4)
فهذه ثلاث طوائف من أخبار الباب (5).

1 - المصدر السابق 5 / 501 (= ط. أخرى 8 / 466)، الباب 3 منها، الحديثان 10 و 11؛
عن الكافي 3 / 433؛ والعلل / 367، باب نوادر علل الصلاة.
2 - المصدر السابق 5 / 498 (= ط. أخرى 8 / 462)، الباب 2 منها، الحديث 19.
3 - راجع ما حرره المقرر - دام ظله العالي - حول الكتاب ومؤلفه في المجلد الأول من
كتابه القيم: " دراسات في المكاسب المحرمة " ص 88.
4 - دعائم الإسلام 1 / 196 - ذكر صلاة المسافر.
5 - وأما التحديد بثلاثة برد كما في صحيحة البزنطي، أو مسيرة يومين كما في رواية أبي
بصير (التهذيب 3 / 209)، أو مسيرة يوم وليلة كما في رواية زكريا بن آدم (الفقيه
1 / 450)، فمأول، أو محمول على التقية، لإجماع الفرقة المحقة على عدم اعتبار الأزيد من
ثمانية.
وأما ما في رواية أبي سعيد الخدري من أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا سافر فرسخا قصر الصلاة،
وما رواه عمرو بن سعيد، قال كتب إليه جعفر بن أحمد يسأله عن السفر وفي كم التقصير؟
فكتب بخطه - وأنا أعرفه -: " قد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا سافر وخرج في سفر قصر في
فرسخ. " ثم أعاد عليه من قابل المسألة إليه، فكتب إليه: " في عشرة أيام " فقد حملهما
الشيخ في التهذيب 4 / 224 على أن قاصد المسافة يجوز له أن يقصر إذا سار مقدار فرسخ
ونحوه، إذ ليس الاعتبار بما يسير الإنسان، بل الاعتبار بالمسافة المقصودة وإن لم يسرها
دفعة واحدة. ح ع - م.
108

الجمع بين الطوائف الثلاث
وقد عرفت أن مفاد الطائفة الأولى كون أدنى المسافة ثمانية فراسخ، ومفاد
الطائفة الثانية كون أدناها أربعة، ومفاد الطائفة الثالثة أن الأربعة توجب القصر إذا
تعقبها الرجوع لا مطلقا.
ولو لا هذه الطائفة كان التعارض بين الأوليين مستقرا، ولكن الطائفة الثالثة
بمنزلة المفسر لهما، إذ بملاحظتها يظهر أن المراد بالثمانية في الطائفة الأولى أعم من
الامتدادية والتلفيقية أو أن التلفيقية أيضا بحكم الامتدادية، وأن المراد بالأربعة في
الطائفة الثانية ليس مطلق الأربعة، بل الأربعة التي يتعقبها الرجوع حتى يحصل
بضمه إلى الذهاب ثمانية فراسخ، وإنما ذكر الأربعة لبيان أقل البعد والامتداد
المعتبر بين المبدأ والمقصد لا لبيان كفايتها بنفسها في إيجاب القصر وإن لم يتعقبها
الرجوع.
وهذا جمع عرفي يرتفع به التهافت بين الطائفتين.
وربما يجمع بينهما أيضا بأن الثمانية علة لوجوب القصر تعيينا، والأربعة علة
لثبوته تخييرا بينه وبين الإتمام.
ويرد عليه مضافا إلى أنه لا شاهد له، أنه مخالف لظاهر أخبار الأربعة، لظهورها
في كون الأربعة علة لوجوب القصر لا لجوازه.
وكيف كان فمقتضى الجمع العرفي بين الطوائف الثلاث بعد ملاحظة الجميع هو
الالتزام بكون المسافة الموجبة للقصر عبارة عن الثمانية، سواء كانت امتدادية أم
حصلت بالتلفيق من دون أن يكون بينهما فرق في إيجاب القصر. (1)
فهذا إجمالا مما لا إشكال فيه، ولكن المهم هو البحث في مقامين:

1 - لا يخفى عدم تأتي هذا الجمع في رواية عمران بن محمد (الرواية السابعة من الطائفة
الثانية.) وربما توجه بعدم كون الضيعة وطنا له، فيكون وظيفته القصر مطلقا، وإنما أمر
بالإتمام في الضيعة تقية. ح ع - م.
109

البحث في مقامين
الأول: هل يعتبر في المسافة التلفيقية عدم كون الذهاب أقل من أربعة أو لا؟
وعلى فرض الاعتبار فهل يعتبر ذلك في الإياب أيضا أو لا؟ مثلا لو كان لبلد
طريقان أحدهما خمسة والآخر ثلاثة فذهب من أحدهما ورجع من الآخر فهل
يثبت القصر مطلقا، أو يعتبر في ثبوته كون الذهاب من أبعد الطريقين؟
ولو تردد في فرسخين أربع مرات بالذهاب والإياب حتى حصل الثمانية فهل
يكفي ذلك في ثبوت القصر أو لا يكفي؟
الثاني: هل يشترط في التلفيقية أن يتحقق الذهاب والإياب في يوم واحد أو لا؟
وبعبارة أخرى: هل يشترط فيها كون الرجوع ليومه أو لا؟
اعتبار عدم كون الذهاب أقل من أربعة
أما المقام الأول فالحق فيه هو الاعتبار في جانب الذهاب دون الإياب، فيعتبر
في الذهاب عدم كونه أقل من أربعة. والسر في ذلك أن أخبار الثمانية كانت ظاهرة في
بيان المسافة الامتدادية الحاصلة بين المبدأ والمقصد وأن أقلها ثمانية، وأخبار الأربعة
كانت ظاهرة في أن أقلها أربعة فتعارضتا جدا، وقد رفعنا اليد عن ظاهر كل منهما
بسبب أخبار التلفيق. والواجب في رفع اليد عن ظهورهما هو الاقتصار على قدر ما
يقتضيه الطائفة الثالثة، إذ لا يجوز رفع اليد عن الظهورات إلا بقدر المزاحمات.
إذا عرفت هذا فنقول: إن أخبار الثمانية كانت ظاهرة في أمرين: أحدهما أن
السير الذي يتحقق به السفر الموجب للقصر يجب أن يكون بمقدار ثمانية
فراسخ. ثانيهما أنه لا بد أن يكون ذلك على نحو الامتداد بحيث يحصل به البعد عن
مبدأ السير. وبعبارة أخرى: يجب أن يكون البعد عن المبدأ أيضا بمقدار الثمانية.
110

وأخبار الأربعة أيضا كانت ظاهرة في أمرين: الأول: اعتبار كون السير بمقدار
الأربعة. الثاني: اعتبار كون البعد والامتداد أيضا بمقدار الأربعة.
فلكل من الطائفتين ظهوران، وأخبار التلفيق إنما تزاحم أخبار الثمانية بالنسبة
إلى ظهورها الثاني لا الأول، إذ هي أيضا تدل على اعتبار كون مقدار السير
ثمانية. تزاحم أخبار الأربعة بالنسبة إلى ظهورها الأول لا الثاني. فظهور أخبار
الأربعة في اعتبار كون البعد والامتداد الواقع بين المبدأ والمقصد أربعة فراسخ مما لا
يزاحمه شيء بل يؤكده أخبار التلفيق أيضا، فيجب الأخذ به.
وبعبارة أخرى: بعد تحكيم أخبار التلفيق على الطائفتين يلزم بالنسبة إلى
أخبار الثمانية رفع اليد عن ظهورها في الامتداد وأما ظهورها في اعتبار كون السير
بمقدار الثمانية فمحفوظ بل يؤكده أخبار التلفيق، وبالنسبة إلى أخبار الأربعة رفع اليد
عن ظهورها في كون سير الأربعة تمام الموضوع للقصر، وأما ظهورها في اعتبار كون
الامتداد بين المبدأ والمقصد بمقدار الأربعة فلا يزاحمه أخبار التلفيق بل تؤكده، إذ
يستفاد من كلتيهما أن أقل الامتداد والمسافة المعتبرة بين المبدأ والمقصد هو الأربعة.
وبعبارة ثالثة: أخبار التلفيق شاهدة على أن أخبار الأربعة أعني الطائفة
الثانية لم تكن بصدد بيان مقدار السير المعتبر بل كانت بصدد بيان أدنى
البعد والامتداد المعتبر بين المبدأ والمقصد، ولو لم تحمل على ذلك أيضا لزم طرحها
رأسا، فتدبر.
فإن قلت: فليعتبر ذلك في الرجوع أيضا، فإن أخبار التلفيق تدل على اعتبار
كون كل من الذهاب والإياب بمقدار الأربعة. وبعبارة أخرى: إما أن يلقى خصوصية
الأربعة في كليهما ويقال: إن المقصود حصول الثمانية بأي نحو اتفقت، غاية الأمر كون
الفرد الغالب من التلفيق هو صورة كون كل من الذهاب والإياب أربعة فلذا
خصصت بالذكر، وإما أن يقال باعتبار خصوصية الأربعة في كليهما، فما وجه الفرق
بينهما؟
111

قلت: وجه الفرق إلقاء العرف لخصوصية الأربعة في طرف الإياب دون
الذهاب. والسر في ذلك ما أشرنا إليه آنفا من أنه بعد ما عملنا بمقتضى أخبار التلفيق
وحكمنا باعتبار كون السير بمقدار الثمانية قطعا، كما هو المستفاد من أخبار الثمانية
أيضا، لم يبق لأخبار الطائفة الثانية أعني الأربعة محمل صحيح إلا أن يقال بأنها
وردت لبيان أدنى البعد والامتداد المعتبر بين المبدأ والمقصد، وقد دلت على أن
الأربعة أدناه، فيجب الأخذ بمقتضاها، وما هو الملاك عرفا لاعتبار البعد هو الذهاب
دون الإياب، فإن كان الذهاب بمقدار الأربعة صدق عرفا أن المسافة بريد وإن كان
الإياب أقل منه، ولاعكس، إذ لو كان الذهاب أقل من أربعة لم يصدق عرفا أنه
سافر بريدا. وأما ذكر البريد في طرف الإياب فإنما هو من جهة أنه الفرد الغالب
للإياب إذا كان الذهاب بريدا، إذ الغالب وحدة الطريق أو تقارب الطريقين بحسب
المقدار، ولا يرى العرف لخصوصيته دخلا في الحكم.
ولنوضح ذلك بذكر مثال، وهو أنه إذا ذهب ستة فراسخ ورجع ستة فالفروض
المتصورة أربعة:
1 - أن يقال: إن موجب القصر في المثال هو ستة الذهاب واثنان من الإياب.
2 - أن يقال: إن المسافة الموجبة للقصر بالنسبة إلى هذا الشخص هي المجموع
من ستة الذهاب وستة الإياب.
3 - أن يقال: إن المسافة بالنسبة إليه ستة الذهاب مع الأربعة من الإياب.
4 - أن يقال: إن المسافة بالنسبة إليه أربعة من الذهاب وأربعة من الإياب.
والثلاثة الأخيرة كلها باطلة، فتعين الأول. ومقتضاه عدم اعتبار كون الإياب
أربعة. ووجه بطلان الفروض الثلاثة أن مقتضى الأولين منها كون المسافة الموجبة
للقصر أزيد من ثمانية، وهو باطل بضرورة من مذهبنا. ومقتضى الأخير كون
الأربعة بشرط لا موجبة للقصر بحيث يكون الزائد عليها كالحجر المنضم إلى
الإنسان، مع
112

بداهة أن الأربعة أقل المسافة المعتبرة. وبعبارة أخرى: المستفاد من أخبار
الأربعة بضميمة أخبار التلفيق هو أن الأربعة أدنى البعد المعتبر في المسافة التلفيقية
لا أن الزائد عليها غير مؤثر في القصر ويكون كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.
وقد تلخص مما ذكرناه أن المستفاد من أخبار الطائفة الثانية هو أن الأربعة أدنى
البعد والامتداد المعتبر في ثبوت القصر، ولا تزاحمها في ذلك أخبار التلفيق، فيجب
الأخذ به. وأما ذكر الأربعة في طرف الإياب فمن جهة أنها الفرد الغالب لما إذا تحقق
أدنى البعد المعتبر. فتدبر في أخبار الطائفة الثانية والثالثة حتى يتضح لك صحة ما
ذكرناه. ومما له ظهور تام في كون الأربعة هي أدني البعد المعتبر خبر فضل بن شاذان
(الثاني من الطائفة الثالثة)، فراجع.
هل المعتبر في الملفقة الرجوع ليومه؟
المقام الثاني: قد عرفت أن أخبار الثمانية والأربعة وإن تعارضتا لكن أخبار
التلفيق رافعة لتعارضهما، فيكون المستفاد من الجميع أن المسافة التي توجب القصر
أعم من الثمانية الممتدة والثمانية الملفقة.
وحينئذ فنقول: إنه لا إشكال في أن الثمانية الامتدادية لا يشترط فيها طيها في
يوم واحد، بل توجب القصر وإن تحقق طيها في أيام عديدة ما لم يخرج عن صدق
اسم السفر. وأخبارها أعني الطائفة الأولى وإن لم تكن صريحة في عدم الاشتراط
بل غاية ما فيها هو الإطلاق لكن المسألة إجماعية.
وأما التلفيقية فهل يشترط فيها تحققها في يوم واحد، بأن يكون الرجوع
ليومه، أولا يشترط فيها ذلك؟
في المسألة قولان: فالمشهور بين أصحابنا اعتبار كون الرجوع ليومه، فإن لم
يرجع ليومه حكم بعضهم بالتخيير والباقون بتعين الإتمام.
113

وخالف المشهور في ذلك الحسن بن أبي عقيل العماني فقال: إن حكم التلفيقية
حكم الثمانية الامتدادية، فلا يشترط طيها في يوم واحد. وقد مرت عبارته المحكية
عنه في المختلف.
ويمكن أن يستدل له بوجهين:
الأول: أن المستفاد من أخبار التلفيق هو أن الأربعة إنما توجب القصر من جهة
أنه يحصل بانضمام الرجوع إليها مصداق لأخبار الثمانية. وبعبارة أخرى: بعد تحكيم
أخبار التلفيق على أخبار الثمانية يظهر أن المراد بالثمانية فيها مطلق الثمانية، سواء
كانت امتدادية أو تلفيقية، وحيث لا يشترط في الامتدادية وقوع السير في يوم
واحد فكذلك في التلفيقية، إذ غاية ما يستفاد منه عدم الاشتراط في الامتدادية إنما
هو إطلاق أخبار الثمانية، والفرض أنها تعم التلفيقية أيضا بعد ما حكمنا عليها أخبار
التلفيق. فانظر إلى قوله (عليه السلام) - في رواية زرارة (الأولى من الطائفة الثالثة): " وكان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتى ذبابا قصر. وذباب على بريد. وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع
كان سفره بريدين: ثمانية فراسخ " - كيف يستفاد منه أن موجب القصر أمر واحد هو
الثمانية سواء كانت امتدادية أو تلفيقية.
لا يقال: إن من جملة أخبار التلفيق رواية محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام):
قال: سألته عن التقصير. قال: " في بريد " قال: قلت: بريد؟ قال: " إنه إذا ذهب بريدا
ورجع بريدا شغل يومه. " وهي تدل على اعتبار الرجوع لليوم ليتحقق شاغلية
السفر ليومه.
لأنا نقول: لا نسلم دلالة الرواية على الشاغلية الفعلية، بل الظاهر كونها ناظرة إلى
ما في بعض أخبار الثمانية من أن إيجابها للقصر مستند إلى كونها مسيرة يوم، هي مما
توجب مشقة مقتضية للترخيص. فمفاد الحديث هو أن البريد بعد ضم الرجوع إليه
يصير بمقدار مسيرة اليوم التي هي الملاك لثبوت القصر، وحيث لا يعتبر في الامتدادية
114

وقوع السير في يوم واحد بل يعتبر فيها كونها بمقدار مسيرة اليوم فكذلك في
التلفيقية. وإن شئت قلت: إن المشقة الحاصلة بمسيرة اليوم هي أدنى ما يقتضي
الترخيص، ولا ينافي ذلك طي مقدار الثمانية في أزيد من يوم، إذ المشقة تصير حينئذ
أزيد، من جهة أن سفره هذا شغل أياما.
ويمكن الخدشة في هذا الوجه بأن ما ذكرت من كون المراد بالثمانية في أخبارها
مطلق الثمانية أعم من الامتدادية والتلفيقية ممنوع، ولا نسلم اقتضاء أخبار التلفيق
لذلك، إذ غاية ما تدل عليه هو أن الثمانية الملفقة أيضا توجب القصر مثل الممتدة لا
أنهما فردان لموضوع واحد.
بيان ذلك أنه يحتمل في أخبار التلفيق وجهان:
الأول: أن تكون شارحة ومفسرة لأخبار الثمانية حقيقة، بحيث توجب رفع اليد
عن ظهورها في الامتداد، فيكون المراد بالثمانية فيها بعد ضم أخبار التلفيق مطلق
الثمانية، سواء كانت امتدادية أم تلفيقية. ومقتضى ذلك أن يكون موجب القصر أمرا
واحدا.
الثاني: أن يكون ظهور أخبار الثمانية في الامتداد محفوظا ويكون أخبار التلفيق
بصدد بيان أن الثمانية الملفقة أيضا محكومة بحكم الامتدادية في إيجاب القصر وإن لم
يعمها أخبار الثمانية، فيكون للقصر موجبان: أحدهما: الثمانية الامتدادية وقد تكفل
لبيانها أخبار الطائفة الأولى. وثانيهما: الثمانية الملفقة ويدل عليها أخبار التلفيق، بين
الموجبين عموم من وجه، لتحقق الأول فقط فيمن ذهب بريدين ولم يرجع، والثاني
فقط فيمن ذهب بريدا ورجع، وتحققهما فيمن ذهب بريدين ورجع.
إذا عرفت هذا فنقول: إن ثبت صحة الوجه الأول وأن موجب القصر أمر واحد
كان الالتزام باشتراط أحد الفردين بشرط دون الآخر مشكلا جدا، ولكن لنا أن
نمنع ذلك وندعي أن أخبار التلفيق إنما تدل على أن للقصر موجبا آخر وراء الثمانية
115

الامتدادية من دون أن نتصرف في ظهور أخبار الثمانية في الامتداد. وحينئذ فلا
يبعد أن يشترط الملفقة بوقوعها في يوم واحد دون الممتدة. هذا.
ولكن الإنصاف أن مضامين أخبار التلفيق مختلفة، فيستفاد من بعضها عدم
كونها بصدد بيان موضوع جديد للقصر بل تكون شارحة لأخبار الثمانية وتبين أن
المراد بالثمانية فيها من أول الأمر هو الأعم، وذلك كخبر زرارة الحاكي لسفر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذباب ورواية إسحاق بن عمار الواردة في قوم تخلف عنهم
رجل. نعم، لا يستفاد هذا المعنى من جميع روايات التلفيق، فراجع. (1)

1 - في رسالة بحر العلوم في هذا المقام ما ملخصه: إما لأن الثمانية الملفقة داخلة في مطلق
الثمانية التي جعلت حد التقصير، كما هو الظاهر من صحيحة زرارة ومرسلة صفوان ورواية
إسحاق بن عمار، أو لأنها في حكمها في إيجاب القصر وإن لم تكن داخلة فيها، وهذا هو
المتجه. ويدل عليه أنه لو أريد بالثمانية ما يشمل الملفقة فإما أن يراد ما يعم جميع أقسام
التلفيق وهو باطل، أو خصوص التلفيق من بريدي الذهاب والرجوع دون غيره من
الصور، وهو تكلف شديد، فإن إطلاق الثمانية على الأعم من الذهابية وخصوص هذا
القسم من الملفقة في غاية البعد من إطلاق اللفظ. فالوجه حملها على الذهابية كما هو الظاهر
وإن وجب القصر في الملفقة أيضا، لما يدل على مساواتها لها في الحكم، ويشهد له أيضا
ظاهر قول الرضا (عليه السلام) في حسنة الفضل: " لأن ما يقصر فيه الصلاة بريدان ذاهبا أو بريد
ذاهبا وبريد جائيا "، وقول الفقيه العسكري (عليه السلام) في حسنة المروزي: " التقصير في الصلاة
بريدان أو بريد ذاهبا وبريد جائيا ". انتهى. (راجع مفتاح الكرامة 3 / 512)
ثم لا يخفى أن ابتناء المقام الأول على هذا البحث أوضح من ابتناء هذا المقام عليه، إذ لأحد
في هذا المقام أن يلتزم بأن موجب القصر أمر واحد ومع ذلك يقول باشتراط أحد أفراده
بشرط دون الآخر، والفارق هو الإجماع. وأما في المقام السابق فلو قلنا بأن أخبار التلفيق
ليست بصدد بيان موضوع جديد بل تكون بصدد بيان أن المراد بالثمانية في أخبار الثمانية
مطلق الثمانية لا خصوص الامتدادية كان مقتضاه أن نتعدى إلى كل سفر محقق للثمانية وإن
لم يكن الذهاب بريدا، كما هو مقتضى التعليل في قوله (عليه السلام) في رواية زرارة مثلا: " لأنه إذا
رجع كان سفره بريدين: ثمانية فراسخ "، فتدبر. ح ع - م.
116

الأخبار المستفاد منها عدم اعتبار الرجوع ليومه
الوجه الثاني: أخبار مستفيضة يستفاد منها عدم اعتبار الرجوع لليوم، وهي
الطائفة الرابعة من الطوائف الخمس التي أشرنا إليها في صدر المسألة:
1 - رواية إسحاق بن عمار السابقة (السادسة من الطائفة الثالثة). وهي صريحة
في عدم اعتبار كون الرجوع ليومه، حيث قال: " فأقاموا على ذلك أياما لا يدرون
هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون ". هذا. (1)
ولكن الرواية ضعيفة، إذ في طريقها البرقي، وهو يروي عن الضعفاء. ومحمد بن
أسلم وصباح الحذاء غير موثقين كما لا يخفى. (2) وليس لنا غير هذه الرواية، رواية
تدل بالصراحة على اعتبار الرجوع وعدم اعتبار كونه ليومه في ثبوت القصر
تعيينا.
2 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حماد،
عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن أهل مكة إذا خرجوا حجاجا قصروا، إذا
زاروا ورجعوا إلى منازلهم أتموا. " (3)
ولا يخفى أن عبيد الله بن علي الحلبي من ثقات رجال الشيعة، له كتاب
حاو لدورة الفقه، ألفه قبل موطأ مالك في حياة الصادق (عليه السلام) وعرضه عليه،

1 - لأحد أن يمنع صراحة الرواية في ذلك، إذ موردها ما إذا كان المقصود أولا هو السفر
الامتدادي، غاية الأمر ظهور البداء في الأثناء لتخلف رجل منهم، فيمكن كونه مخالفا في
الحكم لما إذا كان المقصود من أول الأمر هو السفر التلفيقي. ولذلك ترى الشيخ (قده) في
النهاية (ص 124) - مع أنه حكم أولا فيما إذا كانت المسافة أربعة ولم يرد الرجوع ليومه
بالخيار - قال أخيرا: " فإذا خرج قوم إلى السفر وساروا أربعة فراسخ وقصروا من الصلاة
ثم أقاموا ينتظرون رفقة لهم في السفر فعليهم التقصير إلى أن يتيسر لهم العزم على المقام
الخ "، فراجع. ح ع - م.
2 - راجع تنقيح المقال 2 / 80 (من أبواب الميم)؛ و 2 / 95 (من أبواب الصاد) وتدبر.
3 - الوسائل 5 / 500 (= ط. أخرى 8 / 465)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 8.
117

فاستحسنه وقال: " ليس لهؤلاء مثله. " (1)
3 - ما رواه أيضا بالإسناد عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: " إن أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا، وإذا لم يدخلوا
منازلهم قصروا. " (2)
4 - ما رواه الشيخ بإسناده عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن معاوية
بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم ثم
رجعوا إلى منى أتموا الصلاة، وإن لم يدخلوا منازلهم قصروا. " (3)
5 - ما رواه الصدوق بإسناده عن معاوية بن عمار أنه قال لأبي عبد الله (عليه السلام): إن
أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات. فقال: " ويلهم! أو ويحهم! - وأي سفر أشد منه؟
لا تتم. " ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى حماد
بن عيسى، عن معاوية بن عمار، إلا أنه قال: " لا تتموا " ورواه أيضا بسندين
آخرين. ورواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه وعن محمد بن إسماعيل،
عن الفضل بن شاذان، عن صفوان. (4)
والويل كلمة العذاب، والويح كلمة ترحم.
ومعاوية بن عمار من ثقات أصحاب الصادق (عليه السلام)، له كتابان: كتاب في
الحج، كتاب في الطلاق. ولذا كثر رواياته في البابين، وأبوه عمار الدهني من بني
الدهن ومن أكابر محدثي العامة. (5)
6 - ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن الحسن بن علي بن

1 - راجع تنقيح المقال 2 / 240.
2 - الوسائل 5 / 500 (= ط. أخرى 8 / 464)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 7.
3 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 4.
4 - المصدر السابق 5 / 499 (= ط. أخرى 8 / 463) والباب، الحديثان 1 و 2.
5 - راجع ميزان الاعتدال 3 / 170 (الرقم 6005).
118

فضال، عن معاوية بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في كم أقصر الصلاة؟
فقال: " في بريد. ألا ترى أن أهل مكة إذا خرجوا إلى عرفة كان عليهم التقصير. " (1)
7 - ما رواه عن سعد، عن محمد بن الحسين، عن معاوية بن حكيم، عن سليمان
بن محمد، عن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): في كم التقصير؟ فقال: في
بريد. ويحهم! كأنهم لم يحجوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقصروا. " (2)
8 - ما رواه المفيد في المقنعة، قال: قال (عليه السلام): " ويل لهؤلاء القوم الذين يتمون الصلاة
بعرفات. أما يخافون الله؟ " فقيل له فهو سفر؟ فقال: " وأي سفر أشد منه؟ " (3)
9 - ما رواه الشيخ بإسناده عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال:
من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا
خرج إلى منى وجب عليه التقصير. فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا
رجع إلى منى حتى ينفر. " (4)
فهذه ثمان روايات غير رواية إسحاق بن عمار السابقة ربما يستدل بها على قول ابن
أبي عقيل. ولا يخفى أنها وإن تكثرت لكن يمكن أن يقال: إن مرسلة المفيد ليست رواية
على حدة، بل هي مأخوذة من المسانيد المذكورة. والأربعة المنتهية إلى معاوية بن عمار
أيضا يقرب في الذهن كونها رواية واحدة، وإنما اختلفت في مقام النقل باختلاف الرواة
عنه. وأما رواية إسحاق بن عمار فربما ينسبق إلى الذهن أيضا كونها إحدى روايات
معاوية لتشابه المضمون، وإنما نسبت إلى إسحاق اشتباها لتشابه أبويهما اسما. فيرجع
الروايات الثمانية إلى ثلاث روايات: رواية للحلبي، رواية لمعاوية بن عمار، ورواية
لزرارة. لا يقال: صرف الاحتمال لا يترتب عليه أثر.

1 - الوسائل 5 / 500 (= ط. أخرى 8 / 464)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 5.
2 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 6.
3 - المصدر السابق 5 / 502 (= ط. أخرى 8 / 467) والباب، الحديث 12.
4 - المصدر السابق 5 / 499 (= ط. أخرى 8 / 464) والباب، الحديث 3.
119

فإنه يقال: عمدة الدليل لحجية الخبر والاعتماد عليه هو بناء العقلاء، وإذا تمشى
احتمال عقلائي معتنى به عندهم صار مانعا عن الاعتماد والعمل. وكيف كان فالمتيقن
في المقام ثلاث روايات.
وتقريب الاستدلال بها أن الغالب والمندوب إليه شرعا هو خروج الحجاج
إلى عرفات في يوم التروية، وعودهم إلى مكة في يوم العيد أو في غده، فيقرب
سفرهم إليها من يومين أو أزيد. ولو فرض خروجهم إليها في صباح عرفة ورجوعهم
إلى مكة في ضحى العيد لكان مدة السفر أيضا أزيد من يوم وإن فسر بمجموع النهار
والليلة. فيثبت بذلك عدم اعتبار وقوع الذهاب والإياب في يوم واحد.
لا يقال: لعل المضر هو البقاء ليلا في المقصد لا في أثناء الرجوع، والمسافر إلى
عرفات لا يبقى بها ليلا.
فإنه يقال: إن نظر من يشترط الرجوع ليومه إلى وقوع مجموع الثمانية في يوم
واحد حتى يشغل السفر يومه، فلا فرق عنده في عدم تحتم القصر بين من يبقى ليلا في
المقصد أو في أثناء الرجوع.
المناقشة في الاستدلال بأخبار عرفات
ويمكن أن يناقش في الاستدلال بأخبار عرفات بأن المستفاد منها تحتم القصر
على من خرج إلى عرفات حاجا، وأما اعتبار الرجوع ودخالته في ذلك فضلا عن
اعتبار كونه ليومه فلا يستفاد منها، وبعبارة أخرى: مفاد أخبار عرفات مفاد الطائفة
الثانية، أعني ما دلت على كون الأربعة بنفسها محققة للسفر الموجب للقصر، وليس
فيها اسم من دخالة الرجوع في إيجابه.
ولو تفصيت عن ذلك بأن الاستدلال بها إنما هو بعد ضم أخبار التلفيق إليها
تحكيمها عليها، فلنا أيضا أن نناقش في بعضها فنقول: أما رواية الحلبي الأوليان من
روايات معاوية فيحتمل أن يكون المراد بأهل مكة فيها أهل بواديها، بحيث يكون
120

من مقرهم إلى عرفات ثمانية فراسخ، فلا يكون سفرهم تلفيقيا. وهذا الاحتمال و
إن كان مخالفا لظاهر الروايات لكن يقربها كون الإتمام فيها معلقا على دخول
المنازل، إذ لو كان المراد سكان نفس البلد لم يصح تعليق الإتمام على زيارة
البيت دخول المنازل، بل وجب الإتمام بمحض الوصول إلى حد ترخص البلد. اللهم
إلا أن يقال بعدم اعتبار حد الترخص، وبقاء القصر إلى أن يصل المسافر إلى منزله
كما اختاره ابن بابويه، أو يقال بأن المراد بدخولهم في منازلهم وصولهم إلى مكة،
فيكون قوله: " دخلوا منازلهم " مساوقا لقوله: " زاروا البيت "، ويكون أحدهما تأكيدا للآخر. وبالجملة
المحتملات في الروايات ثلاثة، وعلى الأول لا يثبت كون السفر تلفيقيا. هذا، ولكن
الإنصاف بعد هذا الاحتمال، فتدبر. (1)
وأما الرواية الثالثة لمعاوية (الخامسة مما ذكر)، وكذا مرسلة المفيد المشتملتان
على قوله: " وأي سفر أشد منه " فيمكن أن يقال: إنه لا يصح أن يحمل أهل مكة أو القوم
فيهما على جماعة المخالفين، إذ المشهور بينهم عدم تحتم القصر وجواز الإتمام في جميع
الأسفار، كما عرفت، ولا يفرقون في ذلك بين السفر الشديد وغيره. فلو كان المراد بأهل
مكة أو القوم هؤلاء لم يكن معنى لقوله (عليه السلام) في مقام العتاب: " وأي سفر أشد منه ". فالمراد
بأهل مكة أو القوم فيهما شيعتهم (عليهم السلام) الساكنون بمكة. حينئذ فنقول: من المحتمل أن
الثابت في حق من سافر بريدا ولم يرجع ليومه كان هو التخيير بين القصر والإتمام، كما
نسب إلى المشهور، وأن الشيعة كانوا يلتزمون في مقام العمل بالإتمام، فصار الإمام (عليه السلام)
بصدد بيان ما هو الأسهل، إرفاقا بهم وترحما عليهم، لا للردع عن الإتمام. نعم، لو كان
اللفظ الصادر عنه (عليه السلام) كلمة الويل كانت ظاهرة في العتاب والردع، ولكن لم يثبت ذلك،
فلعل الصادر عنه كلمة الويح الدالة على

1 - وقد يقال: إن معنى الروايات هو أن أهل مكة إذا قصدوا زيارة البيت ورجعوا إليها
لإتمام المناسك فوصلوا إلى منزلهم بالوصول إلى أول حد منه أتموا الصلاة. وإطلاق المنزل
على البلد كثير شائع، والوصول إلى أول حد البلد مساوق للوصول إلى حد الترخص،
فافهم ح ع - م.
121

الترحم، ويشهد بذلك ترديد الراوي في رواية معاوية، فافهم.
وأما رواية إسحاق بن عمار فيقع الإشكال فيها لقوله (عليه السلام): " كأنهم لم يحجوا
مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقصروا. " إذ حجه الذي كان مع الناس هو حجة الوداع، وقد
أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينادى للحج، ليخرج الناس معه ويتعلموا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) مناسك الحج،
فاجتمع الناس حوله وخرجوا معه من المدينة بقصد الحج. فسفره هذا لم يكن
تلفيقيا، بل أنشأه من المدينة واستمر سفره حتى ذهب إلى عرفات.
فلا يتم الاستشهاد بفعله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكة إذا خرجوا حجاجا، إلا إذا ثبت
انقطاع سفره من المدينة بإقامة العشر في مكة، أو بكونها وطنا له أو في حكم الوطن.
والأول باطل قطعا، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من المدينة لحجة الوداع في أربع بقين من
ذي القعدة، ودخل مكة في أربع أو خمس مضت من ذي الحجة، وبعد ما أتم المناسك
بمنى خرج منه قاصدا للمدينة في الثالث عشر من ذي الحجة، وبقي بالأبطح برهة من
الزمان ثم ذهب إلى المدينة (1). فلم يتحقق منه الإقامة في مكة أصلا.
وأما كون مكة وطنا له فغاية تقريبه أن يقال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من أهلها أولا ولم
يثبت إعراضه عنها، أو يقال بأنه وإن أعرض لكن يثبت حكم الوطن لمن كان ذا
ملك، ولعله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مالكا فيها.
وفيه أن الظاهر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرض عنها بالهجرة. وينافي كونه مالكا فيها ما روي
أن عقيلا عمد إلى دور بني هاشم في مكة فباعها بعد أن هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال له
أسامة بن زيد يوم الفتح: أتنزل غدا في دارك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): وهل
ترك لنا عقيل من دار. (2) هذا.

1 - راجع الكافي 4 / 245، كتاب الحج، باب حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحديث 4.
2 - راجع السيرة الحلبية 3 / 85؛ ومسند أحمد 5 / 202؛ والمغازي للواقدي
2 / 829. عبارة السيرة هكذا: يا رسول الله أين تنزل غدا، تنزل في دارك؟....
122

ويمكن أن يقال: إن سفره (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عرفات في حجة الوداع وإن كان امتداديا
لكن كان معه في هذا السفر لا محالة كثير من أهل مكة، ولعلهم قصروا لأمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إياهم بالتقصير. فمعنى قوله (عليه السلام): " كأنهم لم يحجوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقصروا " أنهم لم يحجوا معه فقصروا امتثالا لأمره لا تأسيا به واتباعا لما فعله من
القصر.
هذه غاية ما يمكن أن يقال في أخبار عرفات. ولكن الإنصاف دلالتها على عدم
اعتبار كون الرجوع ليومه بعد القول بدخالة أصل الرجوع بسبب ضمها إلى أخبار
التلفيق. هذا.
وأما ما رواه الكليني بسنده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) من قصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنى ثلاثا وتأسي أبي بكر وعمر به، ومخالفة عثمان لذلك أثناء
خلافته، أمره عليا (عليه السلام) أيضا بالإتمام ليشد بذلك بدعته... (1) فلا يرتبط بالمقام، لما
عرفت من عدم كون سفره (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع تلفيقيا. فمحط النظر فيه رد العامة
القائلين بعدم تحتم القصر في السفر وجواز الإتمام فيه، احتجاجا عليهم بقصر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والخلفاء بعده في الموقف العمومي بمحضر الناس ومشهدهم.
وقد يستدل أيضا على عدم اعتبار كون الرجوع لليوم بما رواه الشيخ بإسناده
عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي ولاد، قال: قلت لأبي
عبد الله (عليه السلام): إني كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة، وهو من
الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء، فسرت يومي ذلك أقصر الصلاة، ثم
بدا لي في الليل الرجوع إلى الكوفة، فلم أدر أصلي في رجوعي بتقصير أم بتمام. وكيف
كان ينبغي أن أصنع؟ فقال: " إن كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريدا فكان
عليك حين رجعت أن تصلي بالتقصير، لأنك كنت مسافرا إلى أن تصير إلى
منزلك. " قال:

1 - راجع الوسائل 5 / 500 (= ط. أخرى 8 / 465)، الباب 3 من أبواب الصلاة المسافر،
الحديث 9.
123

" وإن كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريدا فإن عليك أن تقضي كل
صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل أن تريم من مكانك ذلك، لأنك لم
تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت، فوجب عليك قضاء ما قصرت.
وعليك إذا رجعت أن تتم الصلاة حتى تصير إلى منزلك. " (1)
وابن هبيرة كان واليا للعراق من قبل بني أمية. وقصره كان في حدود كربلاء.
وتقريب الاستدلال بالرواية أن الظاهر تعلق قوله: " في الليل " بالفعل المتقدم
عليه لا بالرجوع، فيستفاد منها تحقق البداء في الليل. وأما الرجوع فيحتمل وقوعه
فيه وفي غيره. ومقتضى ترك الاستفصال في الجواب هو العموم، فيستفاد من
الحديث عدم اعتبار كون الرجوع ليومه أو ليلته في السفر التلفيقي. هذا.
ولكن يرد عليه أن الرواية وإن دلت على تحقق الرجوع خارجا لكنها لا تدل
على دخالته في ثبوت القصر فضلا عن دلالتها على عدم اعتبار كونه ليومه.
وكيف كان فالظاهر أن المسألة من حيث الدليل مما لا إشكال فيها، إذ مضافا
إلى إطلاق أخبار التلفيق الشامل لمن لم يرجع ليومه أيضا يدل عليها أخبار عرفات
بعد تحكيم أخبار التلفيق عليها، وظاهرها تحتم القصر لا جوازه. ولكن عمدة
الإشكال في المسألة إعراض الأصحاب عنها، وعدم إفتائهم بتعين القصر لمن لم
يرجع في يومه سوى ابن أبي عقيل. وقد أجمعوا في الثمانية الامتدادية على عدم
اعتبار كون طيها في يوم واحد.
هذا مع أنه ليس في الأدلة ما يدل على ذلك سوى إطلاق أخبار الثمانية، وهذا
الإطلاق بعينه موجود في أخبار التلفيق، مضافا إلى أخبار عرفات باستفاضتها ورواية
إسحاق بن عمار السابقة الصريحة في عدم الاعتبار. وقد رووا هذه الأخبار في كتبهم

1 - المصدر السابق 5 / 504 (= ط. أخرى 8 / 469)، الباب 5 منها، الحديث 1؛ عن
التهذيب 3 / 298.
124

وكانت بمرآهم ومع ذلك لم يفتوا بمضمونها، بل تسالموا في الامتدادية على عدم
اعتبار أن يكون طيها في يوم واحد وفي التلفيقية على اعتبار ذلك. فيعلم بذلك عدم
اعتنائهم بما هو ظاهر أخبار عرفات.
ولنا أن نستكشف من هذا التسالم - مع ظهور الأدلة في خلافه - وجود نص
معتبر واصل إليهم يدا بيد من الأئمة (عليهم السلام)، غاية الأمر عدم ضبطه في الجوامع التي
بأيدينا. وقد عرفت من سابقا أن أخبارنا - معاشر الإمامية - لم تكن مقصورة على
ما في الجوامع التي بأيدينا، بل كان كثير منها موجودة في الجوامع الأولية ولم يذكرها
المشايخ الثلاثة في جوامعهم. كيف! وبناء القدماء من أصحابنا كان على العمل
بالمنصوصات فقط، وقد أفتوا باعتبار الرجوع لليوم في السفر التلفيقي في كتبهم
المعدة لنقل خصوص المسائل المنصوصة والمتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام)، كالهداية والمقنعة
والنهاية والمراسم ونحوها.
فهذا التسالم منهم من أقوى الأمارات على وجود نص في المسألة وإن لم يصل
إلينا. وإن أبيت عن ذلك فلا أقل من كونه سببا لوهن ما يدل على عدم الاعتبار،
كأخبار عرفات ونحوها، إذ عمدة ما يدل على حجية الخبر هي السيرة وبناء العقلاء،
وليس بناؤهم على العمل بمثل تلك الروايات التي رواها الأصحاب في كتبهم كانت
بمرآهم ومع ذلك أعرضوا عنها ولم يفتوا بمضمونها.
ويؤيد ما ذكرناه - من استكشاف وجود النص في المسألة - ما في الفقه الرضوي،
حيث قال: " فإن كان سفرك بريدا واحدا وأردت أن ترجع من يومك قصرت، لأن
ذهابك ومجيئك بريدان. (إلى أن قال:) وإن سافرت إلى موضع مقدار أربع فراسخ ولم
ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار؛ فإن شئت أتممت وإن شئت قصرت ". (1)

1 - فقه الرضا، ص 159 و 161، باب صلاة المسافر والمريض.
125

بحث في سند فقه الرضا
وقد اشتهر هذا الكتاب في الأعصار المتأخرة. وعن البحار: " كتاب فقه الرضا
أخبرني به السيد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين - طاب ثراه - بعد ما ورد
إصفهان. قال: قد اتفق في بعض سني مجاورتي في جوار بيت الله الحرام أن أتاني
جماعة من أهل قم حاجين، وكان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا (عليه السلام).
وسمعت الوالد - رحمه الله - أنه قال: سمعت السيد - رحمه الله - يقول: كان عليه
خطه (عليه السلام)، وكان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء،... فأخذت الكتاب وكتبته
وصححته. فأخذ والدي (قده) هذا الكتاب من السيد واستنسخه وصححه. وأكثر
عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر محمد بن بابويه في كتاب من لا يحضره
الفقيه من غير سند وما يذكره والده في رسالته إليه. وكثير من الأحكام التي ذكرها
أصحابنا ولا يعلم مستندها مذكورة فيه ". (1)
ولم يثبت لنا اعتبار الكتاب، ولكن يظهر من المجلسي ووالده الاعتماد عليه
لوجهين: الأول: وثوقهما بالقاضي أمير حسين، واعتمادهما على ما أخبر به. الثاني:
موافقة عباراته لعبارات الفقيه ورسالة علي بن بابويه. وفتاويهما مأخوذة من متون
الأخبار. وقد كان أصحابنا يعملون عند إعواز النصوص برسالة ابن بابويه، وأجاز
السيد في الموصليات لأهل موصل أن يعملوا برسالته. (2) ولم تصل هذه الرسالة إلينا

1 - بحار الأنوار 1 / 11، مصادر الكتاب.
2 - لم تطبع الموصليات الأولى في المجموعات الأربع المطبوعة من رسائل الشريف
المرتضى، ولم يوجد هذه الإجازة في الموصليات الثانية والثالثة المطبوعة فيها، ولكن جوابه
(قده) للمسألة الرابعة عشرة من المسائل الميافارقيات هكذا: " الرجوع إلى كتاب ابن
بابويه وإلى كتاب الحلبي أولى من الرجوع إلى كتاب الشلمغاني على كل حال. " راجع
رسائل الشريف المرتضى 1 / 279.
126

ولكن نقل منها كثيرا في الفقيه، وأكثر عباراتها المنقولة موافقة لعبارات فقه
الرضا، هذا هو العمدة في اعتماد المجلسيين على هذا الكتاب. وكيف كان فوجود
الفتوى فيه يصلح للتأييد وإن لم يكف للاستناد. (1)
فتلخص مما ذكرناه بطوله أن المسافة الامتدادية لا يعتبر فيها طيها في يوم واحد
بالإجماع، مع أنه ليس في الأدلة ما يدل عليه سوى إطلاقات أخبار الثمانية، وأن
المشهور في التلفيقية هو اعتبار كون الرجوع لليوم في تعين القصر وإن اختلفوا في
حكم من لم يرجع ليومه، فقال بعضهم بالتخيير كالمفيد والصدوق والشيخ وسلار و
من تبعهم، وآخرون بتعين الإتمام كالسيد وابن إدريس والمحقق ومن حذا حذوهم.
وبالجملة المشهور عدم تعين القصر لمن لم يرجع في يومه مع أن مقتضى
إطلاقات أخبار التلفيق وروايات عرفات ورواية إسحاق بن عمار السابقة عدم
اعتبار الرجوع ليومه في تعين القصر، فلعله وصل إليهم هذا المعنى من
الأئمة (عليهم السلام) تلقوها منهم يدا بيد.
ولم يخالف المشهور في ذلك إلا ابن أبي عقيل، وربما نسب إلى ابن طاووس في
البشرى أيضا. (2) ولا يخفى أن مخالفة مثل ابن أبي عقيل لا تضر، إذ الظاهر عدم كونه
في المجامع العلمية التي كانت للشيعة، ولعله لم يكن محيطا بالفتاوى المأثورة التي كان
الفقهاء من أصحابنا يتداولها ويتلقاها الخلف من السلف، ولم يصل إلينا كتبه أيضا،
وإنما نقل العلامة في المختلف فتاواه من كتابه المسمى بكتاب المتمسك بحبل آل
الرسول، وقال الشيخ أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه إن ابن أبي

1 - للمقرر - دام ظله العالي - بحث في سند كتاب فقه الرضا في المجلد الأول من كتابه
القيم: " دراسات في المكاسب المحرمة "، ص 112 وما بعدها، فراجع.
2 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 503 وما بعدها، المطلب الثاني من الفصل الخامس من
المقصد الرابع من كتاب الصلاة؛ وكشف الرموز 1 / 226. وابن طاووس هذا هو السيد
جمال الدين أحمد بن موسى.
127

عقيل كتب إلى من عمان وأجاز لي رواية كتبه. (1)
وكيف كان فالمسألة في غاية الإشكال.
ما ربما يستفاد منها اعتبار الرجوع لليوم
وقد يقال: إن نظر المشهور في هذا الفتوى إلى أخبار ربما يستفاد منها اعتبار
كون الرجوع ليومه، وهي الطائفة الخامسة من أخبار المسألة. وأقواها رواية محمد
بن مسلم، فلنذكرها ثم نشرح مفادها. فنقول:
روى الشيخ بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال، عن أحمد بن الحسن، عن
أبيه، عن علي بن الحسن بن رباط، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أبي
جعفر (عليه السلام)، قال: سألته عن التقصير. قال: " في بريد. " قال: قلت: بريد!؟ قال: " إنه إذا
ذهب بريدا ورجع بريدا شغل يومه. " (2)
وعلي بن الحسن من صغار الطبقة السابعة، فطحي، محدث، ثقة عند الفريقين.
وكان في الثامن عشر من عمره يقرأ مع أخويه الأحاديث عند أبيهم، فسمعها
عن أبيه ولكنه مع ذلك يرويها عنه بواسطة أخويه، وقال: كنت أقابله - وسني ثمان
عشرة سنة - بكتبه، ولا أفهم إذ ذاك الروايات، ولا أستحل أن أرويها عنه. (3) وأبوه
أخوه أيضا فطحيان ولكنهما ثقتان. وكيف كان فالحديث موثق.

1 - راجع رجال النجاشي / 48 (= ط. أخرى / 35).
2 - الوسائل 5 / 496 (= ط. أخرى 5 / 459)، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 9.
3 - راجع رجال النجاشي / 258 (= ط. أخرى / 181). وأخواه: أحمد ومحمد. كما صرح
به الكشي في موضعين من رجاله (ص 133 و 242). وقال في ص 345: " قال محمد بن
مسعود: عبد الله بن بكير وجماعة من الفطحية هم من فقهاء أصحابنا، منهم: ابن بكير، ابن
فضال - يعني الحسن بن علي -، وعمار الساباطي، وعلي بن أسباط، وبنو الحسن بن علي بن
فضال: علي وأخواه، ويونس بن يعقوب، ومعاوية بن حكيم، وعد عدة من أجلة العلماء. ".
128

ولا يخفى أن سؤال محمد بن مسلم وإن كان مجملا لكنه يعلم من جواب الإمام (عليه السلام)
أن نظره كان إلى مسافة التقصير. وقوله: " قلت: بريد؟ " ليس استفهاما حقيقيا بل
استعجابي؛ ولا محالة كان مسبوق الذهن بما ذكره الناس في تحديد المسافة من
المراحل والمرحلتين ونحوهما، أو بما صدر عن الأئمة (عليهم السلام) من التحديد
بالثمانية البريدين، وانسبق إلى ذهنه من قوله (عليه السلام): " في بريد " أنه يريد كون البريد
بنفسه موجبا للقصر، كما هو الظاهر من اللفظ، فاستقل هذه المسافة وقال على
سبيل الاستعجاب: " بريد!؟ " فأجابه الإمام (عليه السلام) بما يزيل استعجابه كما يأتي بيانه.
وتقريب الاستدلال بالحديث لاعتبار كون الرجوع ليومه أن الظاهر من
جواب الإمام (عليه السلام) هو أن البريد إنما يوجب القصر لكونه بضم الإياب إليه شاغلا
ليوم المسافر، فيعلم بذلك أن تمام الملاك في المسافة التلفيقية هو الشاغلية لليوم. وإن
شئت قلت: إن ما ذكره (عليه السلام) صغرى لكبرى مطوية من سنخها، فكأنه قال: إذا ذهب
بريدا ورجع بريدا شغل السفر يومه، وكل من شغل السفر يومه يقصر. فيعلم بذلك
أن موضوع القصر في المقام هو شغل السفر ليوم المسافر، وهو المطلوب.
المناقشة في الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار
ونوقش في هذا الاستدلال بوجهين:
الأول أن جواب الإمام (عليه السلام) كما عرفت كان لرفع استبعاد محمد بن مسلم وإزالة
تعجبه، ورفع الاستبعاد إنما يتحقق بإرجاع السائل إلى ما عهده وارتكز في
ذهنه، المركوز في ذهنه بسبب ما صدر عنهم سابقا هو أن أدنى ما يقصر فيه الصلاة
بريدان، المعبر عنهما في بعض الروايات بمسيرة اليوم، ولذلك استقل البريد لما سمعه.
129

فمراد الإمام (عليه السلام) رفع استبعاده ببيان أن البريد بضم الرجوع إليه يرجع إلى ما هو
المعهود لديك من مسيرة اليوم، وحيث لا يعتبر في مسيرة اليوم المذكورة في تلك
الروايات تحققها بالفعل في يوم واحد إجماعا بل النظر إلى مقدار مسيرة اليوم وقد
ذكرت أمارة لتحقق البريدين، فكذلك لا يكون المراد بالشاغل في المقام خصوص
الشاغل بالفعل بل مقدار شاغل اليوم وإن قطع في أيام.
وبالجملة مراده (عليه السلام) أن البريد بضم الرجوع إليه يصير صغرى لكبرى مطوية
مقررة في الشرع مركوزة في ذهن السائل، وليست إلا ثبوت القصر بالبريدين
المقدرين في كثير من الروايات بمسيرة اليوم. وحيث لا يعتبر في مسيرة اليوم في
الكبرى تحققها بالفعل في يوم واحد إجماعا، فكذلك الشاغل في الصغرى المذكورة،
لوجوب اتحاد الوسط في المقدمتين. وعلى هذا فموجب القصر هو البريدان، أو البريد
الراجع إليهما بسبب ضم الرجوع، من دون أن يكون لتحقق سير الثمانية في يوم
واحد وكونه شاغلا لليوم فعلا دخل في ذلك.
لا يقال: سلمنا أن كون السير شاغلا لليوم لادخل له في تحتم القصر ولكن لابد
فيه من كون السفر شاغلا لليوم، والسفر أعم من السير، لصدقه على السير وعلى
الوقوفات المتخللة في أثنائه. وبالجملة يعتبر في القصر كون السفر شاغلا لليوم وإن
لم يشغله السير. ففي المسافة الامتدادية لو قطع الثمانية في يومين صدق على الشخص
في كلا اليومين عنوان المسافر وإن نزل أثناء السير للاستراحة ونحوها. فما هو
الموضوع للقصر من كون السفر شاغلا ليومه قد تحقق قطعا.
فإنه يقال: مضافا إلى أن المعتبر في القصر مقدار مسيرة اليوم أعني الثمانية
فراسخ لا شاغلية السفر ليومه وإن لم يكن بهذا المقدار، إن هذا الملاك حاصل في
التلفيقي أيضا وإن لم يرجع ليومه، إذ لو لم يرجع وبقي في المقصد ليلة شغل سفره
يومين فحصل شغل اليوم بطريق أولى. هذا.
130

ولكن الإنصاف أن ظاهر الحديث كون الاعتبار بالسير، وكون المعتبر
شاغليته لليوم فعلا، فيجب أن يؤخذ بظاهره ويراد بالشاغل في الكبرى المطوية
أيضا ذلك، إذ المقدر تابع للمذكور، ولا نسلم كون كلامه (عليه السلام) ناظرا إلى مسيرة اليوم
الواردة في بعض أخبار الثمانية، وإن أصر عليه في الجواهر والمصباح، (1) إذ مضافا إلى
أن هذا القول رجم بالغيب يرد عليه أن المراد بمسيرة اليوم المذكورة في تلك الأخبار
أمارة للبريدين هو مقدار سير القوافل والأثقال المتعارفة لأسير هذا المسافر
الخاص، والأمر فيما نحن فيه بالعكس، حيث إن إضافة كلمة اليوم إلى ضمير
الشخص تدل على أن المعتبر في المقام شغل يوم هذا الشخص لا مقدار سير القوافل
والأثقال المتعارفة.
فإن قلت: جواب الإمام (عليه السلام) كما عرفت إنما هو لرفع استبعاد محمد بن
مسلم استعجابه، فيجب أن يكون صغرى لكبرى معلومة للمستعجب مع قطع النظر
عن هذا الجواب، وليست إلا ما اشتهر وارتكز في ذهنه من تحديد المسافة بمسيرة
اليوم. فمفاد هذه الرواية مفاد صحيحة زرارة الحاكية لسفر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
ذباب، حيث قال: " وإنما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية
فراسخ. " محط النظر في كليهما بيان اعتبار أصل الرجوع في البريد وأنه بالرجوع
يصير من مصاديق الحد المقرر المعروف من البريدين ومسيرة اليوم.
قلت: لا نسلم كون الإمام (عليه السلام) بصدد إحالة ابن مسلم وإرجاعه إلى الكبرى
المرتكزة في ذهنه، بل لعله بصدد بيان اشتباهه في تخيل كون ملاك القصر منحصرا
في البريدين. فمحصل جوابه (عليه السلام) أن للقصر موجبا آخر سوى البريدين، وهو كون
سير المسافر شاغلا ليومه فعلا، وأن البريد بضم الرجوع إليه يصير مصداقا لهذا

1 - راجع الجواهر 14 / 214؛ ومصباح الفقيه / 726 وما بعدها، في الشرط الأول من
شروط القصر.
131

الموجب كما هو الظاهر من اللفظ، وعلى هذا يكون الكبرى المطوية عبارة عن
الشاغل بالفعل.
فإن قلت: يجب أن يكون جوابه (عليه السلام) بحيث يرفع به استعجاب ابن مسلم.
قلت: جوابه (عليه السلام) مع كونه ناظرا إلى بيان موضوع آخر للقصر يصلح لرفع
الاستعجاب أيضا، لأن استعجابه كان من قلة البريد في نظره، إذ كان الشائع بين
المسلمين التحديد بالمراحل والمرحلتين ونحوهما. فيرجع جوابه (عليه السلام) إلى أن البريد
ليس بقليل، إذ بانضمام الرجوع إليه يصير شاغلا لليوم، وما يشغل اليوم بتمامه لا يعد
قليلا، لاستلزامه للمشقة التي هي علة القصر في السفر.
فإن قلت: إن حمل جواب الإمام (عليه السلام) على الشاغلية التقديرية أعني كون البريد
بسبب ضم الرجوع إليه بمقدار مسيرة اليوم رجع إلى ما ذكرناه وبطل الاستدلال
بالحديث، وأما إذا جمدت على ظاهر اللفظ فعليك أن تحمل لفظ اليوم أيضا على
ظاهره ولا يتعدى منه إلى الليل.
قلت: لا ملازمة بين الأخذ بظاهر الشغل وبين الجمود على ظهور لفظ اليوم، إذ
من المقطوع به عدم الدخالة لخصوصية النهار في المقام، بل المراد باليوم هنا وببياض
اليوم في أخبار الثمانية هو القدر الذي يصرف في السير من مجموع اليوم والليلة في
مقابل ما يصرف في الاستراحة، فإن المعتاد بين المسافرين صرف مقدار منهما
يناسب السير في المسير وصرف الباقي في الاستراحة ويختلف ذلك باختلاف
الفصول والأزمان. ومجموع السير المعتاد في مجموع اليوم والليلة بحسب المراكب
السابقة كان ثمانية فراسخ، ولم يجر العادة على طي هذا المقدار في النهار فقط، بل ربما
كان في النهار فقط، وربما كان في الليل فقط، وربما كان بالتلفيق حسب اقتضاء الحال
والزمان. فالمراد باليوم هو المقدار المصروف في السير من مجموع اليوم
والليلة، بياض اليوم أيضا كناية عن ذلك.
132

فتلخص مما ذكرناه أن في جواب الإمام (عليه السلام) احتمالين:
الأول: أن يكون مراده (عليه السلام) أن ما ذكرت من البريد لا ينافي ما في ارتكازك من
البريدين، لرجوع كليهما إلى مقدار مسيرة اليوم، وهي تمام الملاك في ثبوت القصر،
غاية الأمر رجوع البريد إليها بسبب ضم الرجوع.
الثاني: أن يكون مراده (عليه السلام) بيان ملاك آخر للقصر وراء البريدين، وهو البريد
التلفيقي إذا كان شاغلا ليوم المسافر.
ويساعد الأول كونه بصدد رفع استعجاب السائل، وإنما يتحقق رفعه غالبا
بالإرجاع إلى ما علم سابقا.
ويساعد الثاني ظهور قوله: " شغل يومه " في الشغل الفعلي. هذا.
ولكن لا يقاوم هذا الظهور لظهور أخبار عرفات في عدم اعتبار الرجوع ليومه.
فالاستدلال بالحديث لاعتباره في غاية الإشكال، فتدبر.
ثم لا يخفى أن حمل قوله: " شغل يومه " على الشغل الفعلي يقتضي تقييد الرجوع
في قوله: " رجع " بما كان ليومه، وهو خلاف الظاهر. اللهم إلا أن يقال إن الغالب فيما
إذا كان الذهاب أربعة تحقق الرجوع في يومه، فيصير هذه الغلبة قرينة على تقييد
الرجوع، أو يقال إن ظهور الجزاء في الشغل الفعلي قرينة على تقييده، فافهم.
الوجه الثاني أنه وإن سلم حمل قوله: " شغل يومه " على الشغل الفعلي وتقييد
الرجوع في قوله: " رجع " أيضا بما كان ليومه لكن الحديث مع ذلك لا يدل على
اعتبار تحقق الرجوع فعلا فضلا عن كونه ليومه، إذا أقصى ما يدل عليه هو وجوب
التقصير في البريد لكونه مسافة إذا رجع فيها المسافر ليومه شغل يومه، وهذا لا يدل
على تحقق الرجوع في اليوم ولاعلى حصول الشغل بالفعل. وبعبارة أخرى: ليس
التعليل في كلامه (عليه السلام) بخصوص الجزاء، بل بالقضية الشرطية، وصدقها لا يتوقف
على تحقق الشرط والجزاء فعلا كما لا يخفى، فتأمل.
133

تنبيه
اعلم أنه قال في الجواهر ما حاصله: أن حديث زرارة الحاكي لسفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إلى ذباب (الأول من الطائفة الثالثة) كالصريح في عدم اعتبار الرجوع ليومه، إذ قوله:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتى ذبابا قصر " يظهر منه الاستمرار والتعدد، ويبعد جدا
كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع أسفاره إليه راجعا ليومه. (1)
ويرد عليه أن ما ذكرت إنما يصح لو فرض كون الذباب بلدة فيها منزل أو
مضيف مثلا، ولكن من المحتمل كونه نقطة من البيداء، والغالب في المسافرة إلى
الصحاري هو الرجوع ليلا.
تتمة
قد تلخص لك من جميع ما ذكرناه أن مقتضى الجمع بين جميع أخبار المسألة عدم
اعتبار الرجوع ليومه في المسافة التلفيقية، كما اختاره ابن أبي عقيل، ولكن عمدة
الإشكال فيها إعراض الأصحاب عن ذلك وتسالمهم على اعتباره في تحتم القصر.
ولأحد أن يقول: إن هذا الإعراض غير مضر، إذ نراهم يحومون في
استدلالاتهم حول هذه الأخبار، فلعلهم زعموا أن مقتضى الجمع بينها تعين القصر
على من شغل السفر يومه فعلا وثبوت التخيير لغيره. فلا يكشف إعراضهم عن
ظهور أخبار عرفات عن وجود نص غير ما بأيدينا أو وجود وهن في النصوص
الموجودة.
وبتقريب آخر: يحتمل أن يكون نظرهم في هذا التفصيل إلى رواية محمد بن
مسلم، فحملوا شغل اليوم فيها على الشغل الفعلي، وبسببها قيدوا إطلاقات أخبار
التلفيق، وحكموا فيمن لم يرجع ليومه بالتخيير، لكونه مقتضى الجمع بين أخبار

1 - راجع الجواهر 14 / 212.
134

عرفات وبين ما توهم دلالتها على الإتمام في الفرض، أو لما ورد من الحكم
بالتخيير في الخبرين المتعارضين. (1)
ومما يتوهم دلالته على الإتمام في المقام - مضافا إلى أصالة التمام - ما رواه الشيخ
بإسناده عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن أهل مكة
إذا زاروا، عليهم إتمام الصلاة؟ قال: " نعم، والمقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم. " (2)
بتقريب أن المراد بالزيارة فيها سفرهم إلى عرفات، لأنه القابل للسؤال، وإلا
فوجوب الإتمام على أهل مكة في وطنهم أمر واضح لا يقبل السؤال. هذا.
ولكن الظاهر بعد هذا الحمل. والمقصود في الحديث هو السؤال عن وظيفة
المسافر إذا دخل بلده ولما يدخل بعد في داره.
الأقوال فيمن لم يرجع ليومه
وكيف كان فالأقوال فيمن لم يرجع ليومه أربعة:
الأول: تعين القصر مطلقا. وبه قال ابن أبي عقيل. وقد عرفت أنه مقتضى الجمع
بين أخبار الباب ولكنه مما أعرض عنه المشهور.
الثاني: تعين الإتمام مطلقا. وبه قال السيد المرتضى والحلي، ويظهر من المحقق في
المعتبر أيضا اختياره، حيث قال: " ولو لم يرد الرجوع من يومه قال ابن بابويه
يكون مخيرا في صلاته وصومه، وبه قال المفيد. وقال الشيخ يتخير في صلاته دون
صومه. ومنع علم الهدى القصر في كل واحد من الأمرين. لنا: أن شرط القصر
المسافة ولم تحصل فيسقط المشروط، وبالجملة فإنا نطالبهم بدليل التخيير. " (3)

1 - ولو جعل المعارض لأخبار عرفات رواية محمد بن مسلم كان مقتضى القاعدة بعد
التساقط الرجوع إلى إطلاقات أخبار التلفيق. ح ع - م.
2 - الوسائل 5 / 572 (= ط. أخرى 8 / 501)، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 11.
3 - المعتبر 2 / 468، في صلاة المسافر. وراجع رسائل الشريف المرتضى (جعل
العلم العمل) 3 / 47؛ والسرائر 1 / 329.
135

ويساعده العمومات الدالة على كون مجموع الفريضة والنافلة إحدى وخمسين
ركعة الشاملة لحال السفر أيضا، بعد حمل أخبار التلفيق على خصوص من رجع من
يومه إما لتقييدها بسبب رواية محمد بن مسلم أو بادعاء انصرافها إلى خصوص
هذه الصورة لكونها أغلب أفراد التلفيق وجودا.
الثالث: التخيير مطلقا. وبه قال ابن بابويه والمفيد. ولعله المشهور. (1)
الرابع: التفصيل بين الصلاة والصوم، فيحكم بالتخيير في الصلاة وتعين الصوم.
وبه قال الشيخ. (2)
ويمكن أن يقال: إن تعين القصر وإن كان معرضا عنه لكن أصل القصر أوفق
بالاحتياط، إذ مقتضى الجمع العرفي بين أخبار المسألة كما عرفت تعين
القصر. المشهور وإن لم يفتوا بتعينه لكن المشهور بينهم جوازه، فما هو المعرض عنه
إنما هو تعين القصر لا أصل جوازه. فالاحتياط الجامع بين الاعتناء بالأخبار وبقول
الفقهاء هو القصر (3). هذا. ولكن الاحتياط الجامع لجميع الأقوال يقتضي الجمع بين
القصر والإتمام، إذ القول بتعين الإتمام أيضا مما اعتنى به الأصحاب، وليس القائل به
منحصرا في السيد المرتضى والحلي، بل قال الحلي في السرائر: " دليل الاحتياط
أيضا يقتضي ما اخترناه، لأنه لا خلاف بين أصحابنا بأجمعهم في أن المكلف إذا تمم
صلاته وصومه في المسألة المختلفة فيها فإن ذمته بريئة، وإذا قصر ففيه الخلاف. " (4)
فتدبر، فإن المسألة من دقائق المسائل الفقهية.

1 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 503، كتاب الصلاة، المطلب الثاني من الفصل الخامس من
المقصد الرابع.
2 - راجع النهاية / 122 و 161 بابي الصلاة في السفر، وحكم المسافر في شهر رمضان. قد
مر منه القول بالتخيير في الصلاة مطلقا (في التهذيب 3 / 208؛ والاستبصار 1 / 224).
3 - ويؤيد ذلك أن القائل بتعين الإتمام من القدماء عبارة عمن لا يعمل بأخبار الآحاد
كالسيد المرتضى والحلي. ح ع - م.
4 - السرائر 1 / 330، باب صلاة المسافر.
136

وهاهنا خمس مسائل
مرجع التعبيرات الواردة في تحديد المسافة
الأولى: التعبيرات الواردة في أخبارنا في تحديد المسافة أربعة: 1 - البريدان. 2 -
ثمانية فراسخ. 3 - أربعة وعشرون ميلا. 4 - مسيرة يوم أو بياض يوم.
والأصل فيها أنهم كانوا ينصبون على رأس كل فرسخ حجرا على شفير الطريق
ليكون علامة، فسمى المسافة الواقعة بين الحجرين فرسخا لذلك لأنه معرب
" پرسنگ ". وعلى رأس كل ثلث من الفرسخ ميلا للعلامة أيضا، فسمى ما بين
الميلين ميلا. وكان للسلاطين أشخاص معدة لنقل الرسائل والكتب، فكان يحمل
أحدهم المكاتيب إلى رأس أربعة ويسلمها إلى آخر، وهكذا إلى المقصد، تسريعا في
وصول المكاتيب. فكان يسمى حامل المكاتيب بريدا، لاختياره للسعي وقت
البرد غالبا، أو لأنه كان ينزل في رأس الأربعة للتبرد، ثم استعمل لفظ البريد في
نفس المسافة التي هي أربعة فراسخ.
وأما كلمة المرحلة الواقعة في تحديدات المخالفين فالمراد بها مقدار ثمانية فراسخ.
والأصل فيها أنه كان مقدار السير الواقع في كل يوم ثمانية فراسخ، فكانوا
ينزلون بعد طيها ثم ينشؤون السفر ثانيا فيرحلون. ولأجل ذلك أيضا عبر عن
الثمانية فراسخ بمسيرة اليوم.
ثم لا يخفى أن مفاد التعبيرات الثلاثة الأول واحد، وإنما الإشكال في مسيرة اليوم
إذا اختلفت مع التقدير بالفراسخ. والظاهر من الذكرى (1) أن الاعتبار

1 - راجع الذكرى / 259، كتاب الصلاة، الركن الخامس، المطلب الثاني، الشرط الثالث
من شروط القصر.
137

بالفراسخ. احتمل في الروض (1) تقديم المسيرة. وفي المدارك (2) أن كلا منهما ميزان
مستقل، فيتخير في الأخذ بأيهما شاء. وقد يقال: إن المسيرة لا موضوعية لها ولكنها
أمارة على الفراسخ يعتمد عليها عند الجهل بها.
أقول: الظاهر رجوع التحديدات الأربعة إلى أمر واحد، ولذا فسر بعضها ببعض
في بعض الأخبار:
ففي رواية سماعة مثلا: سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ فقال: " في مسيرة
يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ. " (3)
فيستفاد من هذه وأمثالها أن المسافة الشرعية أمر واحد عبر عنه بتعابير مختلفة،
لا أن كلا منها ميزان مستقل أو أن بعضها أمارة على بعض. فمسيرة اليوم أيضا عنوان
يشاربها إلى مقدار الثمانية فراسخ، وليس الاعتبار بنفس السير موضوعا أو أمارة
بل بهذا المقدار.
وقوله (عليه السلام) في رواية الفضل: " وإنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من
ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال... " (4) أيضا
لا يدل على كون الاعتبار بالسير، وإنما يستفاد منه كون الاعتبار بالفراسخ، غاية
الأمر دلالته على حكمة جعلها ميزانا وحدا.
نعم، ربما يستفاد من قوله (عليه السلام) في رواية أبي بصير: " في بياض يوم أو بريدين " (5)
أن كلا منهما ميزان مستقل، ولا أقل من كون بياض اليوم أيضا معتبرا بنحو الأمارية،
بحيث يعتمد عليه مع الجهل بالفراسخ.

1 - راجع روض الجنان / 383، كتاب الصلاة، المقصد الرابع من النظر الثالث.
2 - راجع المدارك 4 / 432، في الشرط الأول من شروط القصر، التنبيه الثاني.
3 - الوسائل 5 / 492 (= ط. أخرى 8 / 453)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 8.
4 - المصدر السابق 5 / 490 (= ط. أخرى 8 / 451) والباب، الحديث 1.
5 - المصدر السابق 5 / 492 (= ط. أخرى 8 / 454) والباب، الحديث 11.
138

ولقائل أن يقول: إن الترديد في الحديث من جهة أن المسافة الشرعية الموجبة
للقصر وإن كان أمرا واقعيا واحدا لكنها ربما تستكشف لنا بسبب سير البريد، كما
في الطرق العامة التي يمر بها البرد، وربما تستكشف بمسيرة القوافل كما في الطرق
الخاصة التي لا تمر بها البرد. ويحتمل أيضا أن يكون المراد ببياض اليوم شغل السفر
ليومه فعلا، بناء على كونه ملاكا مستقلا في إيجاب القصر في قبال البريدين كما
احتملنا ذلك في خبر محمد بن مسلم السابق أيضا. ويحتمل أيضا أن يكون الترديد
في الرواية من الراوي، فتدبر.
ثم إنهم ربما قيدوا السير في المقام بكونه معتدلا، وقيده بعضهم بكونه في المكان
المعتدل أيضا، وآخرون بكونه في اليوم المعتدل لامثل أيام الشتاء والصيف.
أقول: يرد على ما ذكروه أخيرا من اعتبار التعارف والاعتدال في اليوم ما
أشرنا إليه سابقا من أن المراد بمسيرة اليوم ليس وقوع السير في جميع بياض اليوم
بحيث يبتدأ بابتدائه وينتهي بانتهائه، حتى يعتبر في اليوم كونه معتدلا، بل المراد
بمسيرة اليوم أو بياض اليوم الواردين في الروايات هو المقدار الذي يصرف في السير
عادة من مجموع اليوم والليلة في مقابل المقدار الذي يصرف منهما في الاستراحة،
فإن المعتاد بين المسافرين صرف مقدار منهما يناسب السير في المسير، وصرف
الباقي في الاستراحة، ويختلف ذلك باختلاف الفصول والأزمان، ولم يجر العادة على
صرف خصوص البياض في السير، بل ربما يكون السير في اليوم فقط، وربما يكون
في الليل فقط، وربما يكون بالتلفيق حسب اقتضاء الحال والزمان.
تحديد الفرسخ والميل والذراع
المسألة الثانية: قالوا في تحديد الفرسخ بأنه ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف
ذراع، طول كل ذراع أربع وعشرون إصبعا، كل إصبع سبع شعيرات.
139

أقول: أما كون الفرسخ ثلاثة أميال فمتفق عليه، وأما الميل فقد حدد تارة بأربعة
آلاف ذراع، وأخرى بثلاثة آلاف، وفي مرسلة الخزاز بثلاثة آلاف وخمسمأة ذراع، في
مرسلة الصدوق بألف وخمسمأة ذراع (الثامنة والتاسعة من الطائفة الثانية) فراجع. (1)
وعن مصباح الفيومي أنه قال: " الميل بالكسر في كلام العرب مقدار مد البصر في
الأرض. " ثم نقل عن الأزهري أنه قال: " والميل عند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة
آلاف ذراع، وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع. والخلاف لفظي، فإنهم اتفقوا على أن
مقداره ست وتسعون ألف إصبع، والإصبع سبع شعيرات بطن كل واحدة إلى ظهر
الأخرى - ولكن القدماء يقولون: الذراع اثنتان وثلاثون إصبعا والمحدثون
أربع عشرون إصبعا؛ فإذا قسم الميل على رأي القدماء، كل ذراع اثنين وثلاثين، كان
المتحصل ثلاثة آلاف ذراع وإن قسم على رأي المحدثين، أربعا وعشرين، كان
المتحصل أربعة آلاف ذراع. والفرسخ عند الكل ثلاثة أميال ". (2)
وفي القاموس: " الميل قدر مد البصر، ومنار يبنى للمسافر، أو مسافة من
الأرض متراخية بلا حد، أو مأة ألف إصبع إلا أربعة آلاف إصبع، وثلاثة أو أربعة
آلاف ذراع، بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثنا
عشر ألف ذراع بذراع المحدثين ". (3)
ومن كلامه أيضا يظهر لفظية النزاع. والظاهر أنه لم يرد كون لفظ الميل موضوعا
بأوضاع مختلفة لهذه المفاهيم المتكثرة التي ذكرها، بل يكون بصدد تعداد

1 - المصدر السابق 5 / 497 و 498 (= ط. أخرى 8 / 460 و 461)، الباب 2 منها،
الحديثان 13 و 16.
2 - كذا في مفتاح الكرامة 3 / 497 نقلا عن المصباح. وفي المصباح المطبوع ص 588 بعد
قوله: " مقدار مد البصر في الأرض " هكذا: " قاله الأزهري. والميل عند القدماء... ".
3 - القاموس المحيط 4 / 53.
140

التعبيرات المختلفة التي ذكروها في بيان المسافة المعينة المحدودة، واللازم إرجاع
التعبير الثالث إلى الأول وإلا لفسد المعنى كما لا يخفى.
وقال المحقق: " الميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد. " (1)
وفي السرائر عن المسعودي في كتاب مروج الذهب أنه قال: " الميل أربعة آلاف
ذراع بذراع الأسود، وهو الذراع الذي وضعه المأمون لذرع الثياب ومساحة البناء
وقسمة المنازل. " ثم قال: " والذراع أربعة وعشرون إصبعا. " (2)
أقول: الظاهر أن كلام المسعودي هو المتبع في هذا الباب، إذ ذراع اليد - وإن
قيدناها بالتوسط - مما تختلف بحسب الأشخاص، وبحسبه يختلف الفرسخ كثيرا، من
المستبعد تحديد المسافة بهذا الأمر غير المضبوط. فالظاهر أن الذراع في كل عصر
كان عبارة عن طول معين عين من قبل السلاطين والمتنفذين لذرع الثياب الأرضين
ونحوها، وكانوا يتصدون لتعيينها حسما لمادة النزاع والاختلاف. وهذا الطول
المعين كان يختلف بحسب الأعصار والأمصار، وعليه يحمل الاختلافات الواقعة في
تحديد الميل كما عرفت. والمسعودي كان قريب العهد بعصر المأمون، وكان مطلعا
بوضع زمانه، فقوله متبع في هذا الباب.
لا يقال: أغلب أخبارنا في هذا الباب صدرت عن الصادقين (عليهم السلام)، فكيف تحمل
على ما وضعه المأمون؟!
فإنه يقال: الوارد في أخبارنا التحديد بالميل فقط، وليس فيها تحديد بالذراع،
سوى ما في رواية الخزاز من التحديد بثلاثة آلاف وخمسمأة ذراع، وما في مرسلة
الصدوق من التحديد بألف وخمسمأة ذراع. والواجب حملهما على كون التحديد
بذراع أطول من ذراع المأمون.

1 - الشرائع 1 / 132 (= ط. أخرى 101)، كتاب الصلاة، الفصل الخامس من الركن
الرابع.
2 - السرائر 1 / 328؛ عن مروج الذهب 1 / 103.
141

وبالجملة، الظاهر أن التحديدات كانت بأمور منضبطة سالمة من تطرق الزيادة
والنقصان، وذراع اليد أمر غير منضبط. نعم، لا نأبى أن يكون ذراع المأمون بحسب
الأصل مأخوذا من ذراع اليد، فإنها بحسب المتعارف من المرفق إلى أطراف الأصابع
ست قبضات: أربع وعشرون إصبعا. وما ذكرناه بالنسبة إلى الذراع جار في الإصبع
والشعير أيضا فإن المراد منهما في التحديدات أمران منضبطان مأخوذان بحسب
الأصل من الإصبع والشعير، فتدبر (1).
حكم الشك في المسافة
المسألة الثالثة: لو شك في كون سفره بمقدار المسافة الشرعية أم لا، فإن كان
هناك أمارة معتبرة عول عليها، وإلا رجع إلى الأصل.
فالكلام هنا يقع في مقامين:
الأول: في الأمارات المعتبرة أو المتوهم اعتبارها في المقام.
الثاني: فيما يقتضيه الأصل عند فقدها.
ولنقدم المقام الثاني، فنقول: قال في الجواهر: " إن الأصل يقتضي الإتمام. " (2)
وقال في مصباح الفقيه ما حاصله: " أن الواجب هو الإتمام، لأصالة عدم تحقق
ما يوجب القصر. فإن قلت: هذا الأصل إنما يتفرع عليه أنه لا يجب القصر، وأما

1 - لا يقال: بناء الشارع في التحديدات على المسامحة والإرجاع إلى العرف، والشاهد
على ذلك تحديد الكر بالأشبار. فإنه يقال: بناؤه في الموضوعات على ذلك، وأما في
التحديدات فلا نسلم ذلك. وأما في باب الكر فالظاهر أن العبرة فيه بالوزن، والأشبار إنما
ذكرت أمارة لتحقق مقداره، وهي مصادفة دائما، إذا الكر بحسبها أزيد من الكر بحسب
الوزن دائما.
ثم إنه من المحتمل أن تكون ذراع القدماء مأخوذة بحسب الأصل من مقدار عظمي
العضد الذراع إلى الزند، إذ من المنكب إلى الزند ثمان قبضات، كما لا يخفى. ح ع - م.
2 - الجواهر 14 / 205، في الشرط الأول من شروط القصر.
142

وجوب الإتمام فهو مبني على أن لا يكون المقصد ثمانية فراسخ، ولا يمكن إحراز
ذلك بالأصل، لأنه من قبيل تعيين الحادث بالأصل والتعويل على الأصول المثبتة.
فمقتضى العلم الإجمالي في المقام هو الجمع. قلت: إن بقاء التكليف بالإتمام أيضا
متفرع على الأصل المزبور، لأن مقتضى عمومات أدلة التكاليف وجوب الإتيان
بالظهر مثلا رباعية على كل مكلف ما لم يسافر، فيكون السفر رافعا للتكليف الثابت
بالعمومات، فمتى شك في تحققه يبنى على عدمه بالأصل، وإذا ارتفع الرافع بالأصل
عملنا بما يقتضيه العمومات الأولية، وليس هذا من باب التمسك بالعمومات في
الشبهات المصداقية، بل من باب إحراز موضوع العام بالأصل. " (1) انتهى.
أقول: ما ذكره (قده) من إثبات حكم الإتمام بالعمومات حق لامرية فيه، فإن
الموضوع للإتمام بحسب الأدلة هو مطلق المكلف، غاية الأمر إخراج المسافر منه
تخصيصا، فإذا كان الشخص مصداقا لعنوان العام بالوجدان ونفينا عنه عنوان
الخاص بالأصل حكم عليه بحكم العام.
لا يقال: التخصيص دل على أن عنوان العام ليس تمام الموضوع للحكم، فصدقه
لا يكفي في ثبوت الحكم.
فإنه يقال: نعم، التخصيص وإن كان يخرج العام عن كونه تمام الموضوع لكن
لا يوجب ذلك أن يصير الموضوع أمرا وجوديا أو عدوليا غير قابل للإحراز بسبب
الأصل، بل الموضوع يتركب من أمر وجودي هو عنوان العام وأمر عدمي هو عدم
عنوان الخاص. (2) فإذا ثبت الأول بالوجدان والثاني بالأصل ثبت حكم العام،

1 - مصباح الفقيه / 725 (كتاب الصلاة) في الشرط الأول من شروط القصر، التنبيه
الثالث.
2 - وإن أبيت إلا عن تقيد الموضوع بأن يصير الموضوع عنوان العام مقيدا بعدم كونه
متصفا بعنوان الخاص - بتقريب أن حكم المخصص ثابت لوجوده النعتي وانتفاء الوجود
النعتي بالعدم النعتي لا المحمولي - قلنا: إن للعدم النعتي أيضا فيما نحن فيه حالة سابقة،
فنستصحب مفاد الليسية الناقصة أعني عدم كون هذا المكلف مسافرا بالسفر الشرعي. ح
ع - م.
143

لثبوت موضوعه بكلا جزئيه، وارتفع حكم الخاص لارتفاع موضوعه بسبب
الأصل، فتدبر.
ويمكن ان يستشكل في جريان الأصل في المقام بأن موضوع القصر إن أخذ من
حالات المكلف جرى فيه استصحاب العدم من جهة أنه قبل طي المسافة المشكوك
فيها لم يكن مسافرا بالسفر الموجب للقصر فيستصحب ذلك. وأما إن أخذناه من
حالات المسافة، بأن يكون موضوع القصر كون مسافة السفر ثمانية، فلا يكون
موردا للأصل. وإثباته بالأصل الجاري بالنسبة إلى حالة المكلف عمل بالأصل
المثبت.
ونظير ذلك ما ذكروه في باب اللباس المشكوك فيه، إذ من الأصول التي أجروها
في هذا الباب استصحاب حالة المكلف، بأن يقال: إنه قبل أن يلبس هذا اللباس لم
يكن لابسا لغير المأكول، فيستصحب ذلك. وأجابوا عنه بأن الظاهر من الروايات
كون موضوع الحكم من حالات اللباس لا المصلي، فيشترط في الصلاة أن لا يكون
لباس المصلي من أجزاء مالا يؤكل لحمه، وليس هذا موردا للأصل، وإثباته بالأصل
السابق عمل بالأصل المثبت. (1)

1 - ربما يقال: إن قيد الشيء يجب أن يكون من حالاته وأطواره ومن صفاته ومقسماته،
فلو فرض في مقام أخذ الأجنبي قيدا يجب الالتزام بكون القيد عبارة عن أمر انتزاعي
يكون من مقسمات المقيد ومن حالاته، كوصف المعية والمقارنة ونحوهما، غاية الأمر كون
الأجنبي منشأ لانتزاعه أو طرفا لإضافته، ولافرق في ذلك بين القيود الوجودية والعدمية.
ففي باب اللباس المشكوك فيه لا يصح أن يعتبر نفس عدم كون اللباس من أجزاء ما
لا يؤكل لحمه قيدا للصلاة لعدم كونه من حالاتها بل المعتبر فيها عدم مقارنتها له، كما يدل
على ذلك التعبير ب‍ " في " قوله: " لا تجوز الصلاة في شعر ووبر مالا يؤكل لحمه ". وبالجملة
المانع معية الصلاة لما لا يؤكل ومقارنتها له، لا نفس ما لا يؤكل. وعلى هذا يمكن إجراء
استصحاب العدم في صورة الشك، إذ عدم كون هذا اللباس مما لا يؤكل وإن لم يكن له حالة
سابقة لكن عدم مقارنة الصلاة لما لا يؤكل بنحو العدم المحمولي مما له حالة سابقة، فكما
يستصحب وجود الشرط كالوضوء أو الطهارة من الخبث بنحو الكون التام ويترتب عليه
صحة الصلاة كما هو مورد صحيحتي زرارة، كذلك يستصحب عدم المانع، أعني عدم تحقق
المقارنة المشار إليها بنحو الليسية التامة، ويترتب عليه صحة الصلاة. وبالجملة وزان عدم
المانع وزان وجود الشرط، والفرق بين القيود الوجودية والعدمية تحكم.
اللهم إلا أن يقال إن المقارنة المشار إليها وإن كانت معدومة سابقا لكن كان عدمها بعدم
نفس الصلاة، فاستصحابه ولو بنحو العدم المحمولي من قبيل استصحاب السالبة بانتفاء
الموضوع، وليس هذا معتبرا بنظر العرف، فتدبر. ثم لا يخفى أن مقتضى ما ذكر أن لا يكون
نفس الوضوء أو كون الشخص متوضيا أيضا قيدا للصلاة بل يكون القيد مقارنتها له، مع
أن الاستصحاب يجري في نفس الوضوء كما لا يخفى. ح ع - م.
144

ثم لا يخفى أن المراد بالعمومات في المقام هي الروايات الكثيرة الواردة في أعداد
ركعات الصلاة وأن مجموع الفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، والفريضة سبع
عشرة ركعة، بل نفس قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن
تقصروا من الصلاة) (1) أيضا شاهد على أن الوظيفة لولا هذه الآية كانت على
الإتمام، بداهة ظهور كلمة القصر في ذلك، فافهم.
هذا كله فيما يتعلق بالمقام الثاني.
وأما المقام الأول أعني البحث عن الأمارات التي يمكن أن يقال باعتبارها في
تعيين المسافة فملخص الكلام فيه أن ما يمكن أن يقال باعتباره في المقام أربعة:
1 - البينة. 2 - الظن المطلق. 3 - الشياع. 4 - العدل الواحد.
أما البينة فالظاهر اعتبارها إذا أخبرت عن حس.
وكأن من لم يعتبرها توهم أن موارد اعتبارها بحسب الأدلة هي
المرافعات الخصومات المرجوعة إلى الحكام، بتقريب أن الظاهر منها أن البينة واليمين
أمران وضعتا شرعا لفصل الخصومات وقطعها، وكما لا يعتنى باليمين في غير باب
القضاء فكذلك البينة. هذا.
ولكن تتبع الموارد الكثيرة التي حكم فيها بحجية البينة ربما يورث القطع بأنها

1 - سورة النساء (4)، الآية 101.
145

أمارة شرعية عامة تقع في طريق الإثبات في جميع الموارد عدا ما استثني. ومما
يدل على عموم حجيتها ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته
يقول: " كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه. " (إلى أن قال:) " و
الأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة ". (1)
وأما الظن المطلق فعن الشهيد في الروض (2) احتمال اعتباره هنا، لأنه مناط
العمل في كثير من العبادات.
وأورد عليه بأنه قول بغير دليل.
ونحن نقول: لنا أن نثبت ذلك بالانسداد الصغير، بتقريب أن تعليق الحكم على
موضوع يعسر الاطلاع عليه غالبا كاشف عن اعتبار الظن به.
بيان ذلك: أن باب العلم بالمسافة الشرعية في غير المسافات البعيدة منسد
لأغلب الناس، وقد علم من الروايات الواردة في باب السفر أن غرض الشارع لم
يتعلق بثبوت الترخيص لخصوص من سافر سفرا بعيدا جدا، بل قد تعلق بثبوته
لكل من سافر بالسفر الشرعي وإن كان مقداره مسيرة يوم فقط، لوجود ملاك
الترخيص فيه أيضا، أعني به الشدة الموجبة له. فمقتضى ذلك جواز الاعتماد في
تشخيص المسافة على الظن، وإلا لزم عدم ثبوت حكم القصر لأغلب من كان
سفره بمقدار الثمانية أو أزيد ما لم يبلغ حدا يعلم عادة بكونه مسافة.
وبتقريب آخر: لو لم يكن الظن بالمسافة حجة لهذا القبيل من المسافرين غير
القاصدين للبلاد البعيدة لزم إما عدم انسداد باب العلم والعلمي لهم، أو وجوب
رجوعهم إلى الأصل السابق والإتمام، أو الاحتياط بالجمع. والتالي بشقوقه باطل،

1 - الوسائل 12 / 60 (= ط. أخرى 17 / 89)، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به،
الحديث 4. وللمقرر - دام ظله العالي - بحث في حجية البينة، وحجية الشياع في المجلد
الثالث من كتابه القيم: " كتاب الزكاة " ص 385 و 398 وما بعدهما، فراجع.
2 - راجع روض الجنان / 384، كتاب الصلاة، المقصد الرابع من النظر الثالث.
146

لوضوح انسداد بابهما للأغلب إلا من شذ وندر في مثل هذا الموضوع، ووضوح
بطلان العمل بالأصل أو الاحتياط لأغلب المسافرين، لما عرفت من كون الشارع
مريدا لثبوت الرخصة لهذا القبيل من المسافرين أيضا، بحيث يعلم بكون الإتمام أو
الاحتياط مرغوبا عنه.
ومما يؤيد هذا الدليل أن الأئمة (عليهم السلام) عبروا عن المسافة الواقعية الموجبة للقصر
تارة بالبريدين، وأخرى بالأميال، وثالثة بالفراسخ، ورابعة بمسيرة اليوم. وقد
عرفت سابقا أن الأصل في ذلك هو أنه كان للسلاطين في كل زمان أشخاص معدة
لنقل الرسائل والكتب، وكان في الطرق العامة على رأس كل أربعة فراسخ محل
مخصوص هيء فيه المركوب والبريد، فكان إذا بلغ حامل المكاتيب إلى هذا المحل
نزل لاستراحة نفسه ومركوبه، وحول المكاتيب إلى شخص آخر موجود في هذا
المحل، فركب هذا الشخص المركوب المهيأ قبلا وذهب مقدار أربعة فراسخ وحولها
إلى آخر، وهكذا. وكان يسمى حامل المكاتيب بريدا، ثم استعمل بالعناية في نفس
المسافة الواقعة بين هذا المنزل وذاك. وكانوا يضعون على رأس كل فرسخ الحجر
على شفير الطريق للعلامة، ويسمون الموضع بالفارسية " پرسنگ "، ثم عرب فصار
فرسخا، وعلى رأس كل ثلث منه ميلا ومنارة يوقد عليها النار لهداية
المسافرين، يسمونه ميلا، ثم استعمل الفرسخ والميل بالعناية في نفس المسافة الواقعة
بين الحجرين أو الميلين.
وكيف كان فجميع هذه التعبيرات الأربعة الواردة في الروايات تعبيرات مختلفة
عن المسافة الواقعية التي هي أمر واحد، ويحتمل جدا تخطيها عنها ومع ذلك ذكرها
الأئمة (عليهم السلام) لأصحابهم في مقام تحديد المسافة، ولا محالة كانوا يعتمدون في أسفارهم
على الأميال المنصوبة والأحجار الموضوعة والأمكنة المعدة لنزول البرد، وعلى
سير القوافل، اعتمادا على ما ذكره الأئمة (عليهم السلام) مع أنهم لم يكونوا
147

يقطعون دائما بكونها مطابقة للمسافة الشرعية الواقعية، بل غاية ما يستفاد منها
هو الظن، لاحتمال الزيادة والنقصان فيها. فيعلم من ذلك أن في إحراز المسافة
الواقعية لا يجب تحصيل العلم بل يجوز الاعتماد على الظن، سواء حصل بمسيرة اليوم،
أو بالمرور على أربعة عشرين ميلا من الأميال المنصوبة من قبل السلاطين، أو
بالتجاوز عن ثمانية فراسخ، أو بريدين، أو بغير ذلك من الأمور المورثة للظن، فتدبر.
وبهذا البيان يظهر وجه حجية الشياع أيضا في المقام وإن لم يورث العلم.
وإن أبيت عن حجية الظن في المقام كان المرجع عند عدم حصول العلم وما
بحكمه أصالة التمام كما مر بيانها.
وربما يقال: إن الظن الاطميناني أيضا ملحق بالعلم، لكونه من أفراده عرفا.
وفيه أنه ليس في أدلتنا لفظ العلم حتى يقال بوجوب الرجوع إلى العرف والعادة
في تشخيص مصاديقه، بل الاعتماد عليه من جهة حجتيه الذاتية غير القابلة للجعل.
وهذا المعنى إنما يثبت لنفس العلم واليقين فقط.
اللهم إلا ان يقال باستمرار السيرة على العمل بهذا القبيل من الظن المتاخم
للعلم، فيكون ذلك دليلا على حجيته وجواز الاعتماد عليه وإن لم يكن من أفراد
العلم.
حكم الفحص عند الشك في المسافة
المسألة الرابعة: إذا شك في أن الطريق المقصود بمقدار المسافة أو لا، ولم يكن في
البين أمارة، فهل يرجع إلى أصالة التمام من دون فحص، أو يجب الفحص ومع اليأس
يرجع إليها، أو يفصل بين ما إذا كان الفحص مستلزما للحرج وبين غيره؟ في المسألة
وجوه.
ولا يخفى أن الشبهة في المقام شبهة موضوعية وجوبية، وأن الشك في المكلف به
لا التكليف، للعلم إجمالا بوجوب القصر أو الإتمام، غاية الأمر كون الإتمام موردا
148

للأصل، وعلى فرض جريانه ينحل العلم الإجمالي فيقع الكلام في أنه يجري قبل
الفحص أولا.
قال الشيخ: " وهل يجب الفحص أم لا؟ وجهان: من أصالة العدم التي لا يعتبر
فيها الفحص عند إجرائها في موضوعات الأحكام، ومن تعليق الحكم بالقصر على
المسافة النفس الأمرية، فيجب لتحصيل الواقع عند الشك إما الجمع، وإما الفحص؛
والأول منتف هنا إجماعا، فتعين الثاني. " (1)
أقول: لا يظهر لكلامه (قده) معنى محصل، إذ ما ذكره من كون الحكم بالقصر
معلقا على المسافة النفس الأمرية بيان لوجود العلم الإجمالي في المقام، وهو مسلم
لكن المقصود حله بإجراء الأصل، وما ذكره للمنع عن جريانه قبل الفحص لا يفي
بذلك، إذ الحصر الذي ذكره غير حاصر، لإمكان القول بإجراء الأصل وعدم
الفحص. وبالجملة ما استدل به لوجوب الفحص مما يشبه المصادرة، كما لا يخفى. ثم
ما ذكره من أنه يجب إما الجمع وإما الفحص، إما أن يكون بنحو الترديد بأن يكون
المراد تعين الجمع أو تعين الفحص، وإما أن يكون بنحو التخيير، فعلى الأول يصح
قوله: " والأول منتف هنا إجماعا ". وأما على الثاني فلا يصح ذلك، لجواز الجمع قطعا.
هذا.
والهمداني (قده) بعد ما سلم في المقام عدم تنجيز العلم الإجمالي بنحو
الإطلاق إلا لما صح إجراء الأصل بعد الفحص أيضا قال: إنه مانع عن الرجوع إلى
الأصول قبل الفحص. (2)
ويرد عليه أن العلم إن أثر في تنجيز الطرفين فلا مجال للأصل ولو بعد الفحص،
إن كان تأثيره معلقا على عدم جريان الأصل فلنا أن نقول بجريانه قبل الفحص

1 - كتاب الصلاة للشيخ الأعظم الأنصاري / 390.
2 - راج مصباح الفقيه / 725 (كتاب الصلاة) في الشرط الأول من شروط القصر،
التنبيه الرابع.
149

أيضا، وبجريانه ينحل العلم. والقول باشتراطه بالفحص في أطراف العلم دون
الشبهة البدوية دعوى بلا دليل.
وقال بعض أعاظم العصر: إنه من الممكن دعوى انصراف لفظ الشك وعدم
العلم عن مورد يمكن تحصيل العلم بسهولة. فالأدلة المعلقة للترخيص على هذين
العنوانين غير شاملة للشكوك الابتدائية الزائلة بالفحص. نعم، خرج الشبهة
التحريمية الموضوعية بالإجماع، فيبقى غيرها على طبق القاعدة من وجوب
الفحص. (1)
ويرد عليه أيضا عدم تسليم الانصراف.
والحق أن يقال: إن الشبهة الموضوعية إذا كانت في باب الأموال والحقوق
المجعولة شرعا يمكن دعوى القطع بوجوب الفحص فيها، وإلا لزم الخروج من الدين
وتعطيل كثير من الأحكام الشرعية. فمن شك في حصول الاستطاعة أو بلوغ ماله
حد النصاب أو صيرورته متعلقا للخمس لا يجوز له استصحاب العدم قبل الفحص.
فإن الاستطاعة وبلوغ المال حد النصاب ونحوهما مما لاتعلم غالبا إلا بالفحص،
فالقول بعدم وجوبه يوجب تعطيل هذه الأحكام غالبا.
وكيف كان ففي مسألة الشك في المسافة الأحوط الفحص.
مبدأ المسافة
المسألة الخامسة: في مبدأ المسافة وجوه بل أقوال: 1 - أن تعتبر من المنزل.
نسب ذلك إلى الصدوق. (2) 2 - أن تعتبر من حد الترخص. 3 - أن تعتبر من آخر
خطة البلد. وربما قيل في البلاد الكبيرة باعتبارها من آخر المحلة.

1 - راجع كتاب الصلاة لآية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري (قده) / 591، في
الشرط الأول من شروط القصر، المسألة 6.
2 - في المختلف ص 163 (= ط. أخرى 2 / 534): " وقال علي بن بابويه: وإذا خرجت
من منزلك فقصر إلى أن تعود إليه ".
150

ويمكن أن يوجه الأول بأن الشخص بعد أن خرج من منزله عازما للسفر صدق
عليه عنوان المسافر من حينه.
ويمكن أن يوجه الثاني بأن العرف لا يساعد على إطلاق عنوان المسافر إلا على
من خرج عن فناء بلده، بحيث غاب عنه آثاره، وهو عين وصوله إلى حد الترخص.
أو يقال: إن العرف وإن ساعد على إطلاقه قبل ذلك لكن الشرع لم يعتبر ذلك.
بتقريب أن المستفاد مما دل على اشتراط القصر بالوصول إلى حد الترخص هو أن
السفر إنما يتحقق شرعا بعد الوصول إليه.
ويمكن أن يوجه الثالث بأن السير في شوارع البلد ومحلاته مما يحصل من
الإنسان في كل يوم، إذ المتوطن في بلدة لا يخلو غالبا من السير في نقاطها المختلفة
لقضاء الحوائج اليومية، فلا يكون هذا السير موجبا لصدق اسم المسافر، بل الملاك
لصدقه تحقق سير منه مغايرا لما يتحقق منه في كل يوم، وليس هذا إلا ما يتغرب به
من البلد.
ويمكن أن يناقش في ذلك بأن السير في شوارع البلد لا يوجب صدق عنوان
المسافر إذا تحقق مستقلا، وأما إذا تحقق في امتداد السير في خارج البلد كان المجموع
ملاكا لصدق عنوانه، كما يشهد بذلك إطلاق العرف هذا العنوان على من خرج من
منزله قاصدا للثمانية مثلا.
ثم لا يخفى أن ادعاء الإجماع أو الشهرة في هذه المسألة بلا وجه، فإنها لم تكن معنونة
في كلمات الأصحاب. (1) نعم، يظهر من العلامة في كتبه أن الاعتبار بآخر البلد. (2)

1 - قال في مفتاح الكرامة 3 / 495: " وظاهر مجمع البرهان 3 / 366 والذخيرة ص 407
والكفاية ص 32 والرياض 4 / 408 أن ذلك إجماع من الكل، حيث قالوا ما نصه: قالوا:
المراد جدران آخر البلد الصغير أو القرية وإلا فالمحلة. والحق أن المصرح بذلك أولا إنما هو
الشهيد... ".
2 - راجع التذكرة 1 / 189 (= ط. أخرى 4 / 377)، المسألة 625 (في شرائط
القصر)؛ المنتهى 1 / 391؛ ونهاية الإحكام 2 / 172.
151

وأول من عنون المسألة بنحو التفصيل الشهيد الأول في الذكرى والبيان وتبعه
الشهيد الثاني وبعض آخر، (1) فقالوا إن المبدأ آخر خطة البلد في البلاد المتعارفة، آخر
المحلة في البلاد المتسعة. وفي جامع المقاصد: أنه لو كان في موضع وحده كساكن البر
أو موضع لم يكن في البلد فهو بمنزلة ما إذا كان منزله في نهاية عمارة البلد. (2)
وكيف كان فالمسألة من التفريعات التي يجب فيها إعمال النظر والاجتهاد، ليست
من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا بيد، ولذا لم تذكر في كتب القدماء
من أصحابنا وليس منها اسم في كتبهم، فادعاء الشهرة أو الإجماع فيها غريب.
والأقوى فيها هو الوجه الثالث. ويدل عليه أن عنوان السفر وعنوان الإقامة
متقابلان عرفا، كما يستفاد من قوله تعالى: (يوم ظعنكم ويوم إقامتكم). (3) عنوان
المقيم إنما يطلق على الشخص باعتبار توطنه في بلد خاص من دون نظر إلى كونه
ساكنا في منزل مخصوص من منازله، فيقال: فلان مقيم بلدة قم مثلا من جهة كونه
مترددا دائما في شوارعه ومحلاته لقضاء حوائجه اليومية. فما دام كون الشخص في
البلد، وإن كان يتردد في شوارعه، يطلق عليه المقيم عرفا. فإذا قيل: سافر فلان،
تبادر إلى أذهان السامعين أنه خرج من البلد الذي كان متوطنا فيه وتغرب منه.
وبالجملة المتبادر إلى ذهن العرف من لفظ السفر هو التغرب من الوطن ومحل
الإقامة، ويحصل ذلك بالخروج من خطة البلد ونهايته، إذ مجموع البلد يعد محلا

1 - راجع الذكرى / 259 (في شروط القصر - الشرط الثالث)؛ والبيان / 155 (= ط.
أخرى / 260)؛ والمهذب البارع 1 / 482 (في الشرط الثاني من شروط القصر)؛ الروض /
383؛ والروضة 1 / 369؛ وغيرها مما ذكره في مفتاح الكرامة 3 / 495.
2 - لم نقف عليه في جامع المقاصد، ولكن نقله عن المحقق الثاني في مفتاح الكرامة
3 / 496 بلا ذكر للمصدر.
3 - سورة النحل (16)، الآية 80.
152

للإقامة من جهة أن الشخص يتردد دائما في طرقه وشوارعه لقضاء الحوائج
اليومية، وما هو الملاك عرفا لصدق عنوان السفر هو السير الزائد على ما كان يتحقق
من الإنسان في كل يوم في نقاط محل الإقامة.
ولأجل ذلك ترى أنه يتبادر إلى الأذهان في باب التحديدات المذكورة
للمسافات المختلفة كونها معتبرة بين البلاد من دون نظر إلى المحلات
والمنازل، لا يلتفتون في تحديداتهم إلا إلى البعد الواقع بين البلدين. وكان هذا المعنى
بعينه مركوزا في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، فكانوا عند سؤالهم عن مقدار مسافة
التقصير يذكرون البعد الواقع بين بلادهم ومقاصدهم، من دون أن يذكر أحد منهم
اسما من منزله أو محلته. فيكشف ذلك عن كون المتبادر إلى أذهانهم من اعتبار
المسافة اعتبارها من آخر البلد لامن المنزل، ولم يردعهم الأئمة (عليهم السلام) عن ذلك، مع أنه
لو كان الاعتبار شرعا بغير هذا المعنى العرفي لكان عليهم التنبيه على ذلك، فراجع
أخبار باب المسافة حتى تطلع على ما ذكرناه:
فمنها: رواية أبي ولاد، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت خرجت من الكوفة
في سفينة إلى قصر ابن هبيرة، وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء.
الحديث. (1)
ومنها: رواية عبد الرحمان بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن
التقصير في الصلاة فقلت له: إن لي ضيعة قريبة من الكوفة، وهي بمنزلة القادسية من
الكوفة. الحديث. (2)
ومنها: مرسلة صفوان، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل خرج من بغداد يريد أن
يلحق رجلا على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان، وهي أربعة فراسخ

1 - الوسائل 5 / 504 (= ط. أخرى 8 / 469)، الباب 5 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 1.
2 - المصدر السابق 5 / 521 (= ط. أخرى 8 / 492)، الباب 14 منها، الحديث 4.
153

من بغداد. الحديث. (1)
فيستفاد من هذه الأحاديث أنه كان المركوز في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام)
اعتبار البعد والمسافة من البلد إلى البلد، ولم يرد عن الأئمة (عليهم السلام) ردع بالنسبة إلى
ذلك، بل ربما يستفاد صحة ذلك وكونه صوابا من رواية زرارة ومحمد بن مسلم عن
أبي جعفر (عليه السلام)، حيث قال (عليه السلام): " وقد سافر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ذي خشب، وهي
مسيرة يوم من المدينة، يكون إليها بريدان: أربعة وعشرون ميلا، فقصر وأفطر... " (2)
وبالجملة كون الاعتبار بحسب الارتكاز العرفي بالبعد الواقع بين البلدين مما
لا يكاد يخفى.
ومما يؤيد ما ذكرنا أيضا أن تحديد المسافة في أخبارنا ورد بلفظ
البريدين الفراسخ والأميال، ومن المعلوم أن نصب الأميال والأحجار واعتبار
البريد كان في المسافات الواقعة في خارج البلاد، وواضح أنه كان يتبادر إلى أذهان
أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من الألفاظ المذكورة أنهم (عليهم السلام) بصدد إحالتهم في تعيين المسافة
إلى البرد والأميال والفراسخ الخارجية المنصوبة من قبل السلاطين، ولا محالة كانوا
يعتمدون عليها بعد سماع التحديدات منهم (عليهم السلام).
اللهم إلا أن يقال: إن المتبادر إلى أذهانهم كون الاعتبار بمقدار هذه الأمور
لا بأنفسها، كما يشهد بذلك ما ذكرناه سابقا من أن المسافة الموجبة للقصر مسافة
واقعية مخصوصة، وأن التعابير الأربعة إنما وردت للإشارة إليها، فتدبر.
وكيف كان فالاعتبار في تحديد المسافة بنهاية البلد لا بالمنزل ولا بحد الترخص،
ولافرق في ذلك بين البلاد الكبيرة وغيرها. ولاوجه لما ذكروه من كون الاعتبار في

1 - المصدر السابق 5 / 503 (= ط. أخرى 8 / 468)، الباب 4 منها، الحديث 1،
(الخامس من الطائفة الثالثة).
2 - المصدر السابق 5 / 491 (ط. أخرى 5 / 452)، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 4.
154

البلاد الكبيرة بآخر المحلة، إذ صرف تسمية قسمة من البلد باسم لا يوجب
صيرورة الخارج منها مسافرا؛ فإذا فرض كون شخص ساكنا في آخر محلة من بلد
مجاورا للمحلات الأخر وكان تردده في جميع الأيام في شوارع المحلات الأخر وكان
قضاء حوائجه اليومية في تلك المحلات من دون أن يكون له شأن وشغل في محلة
نفسه فهل يمكن أن يقال إنه إذا خرج من محلة نفسه بقصد السفر صار مسافرا ما لم
يخرج من البلد؟ لا، ولا يقبل الوجدان ذلك، بل هذا الشخص أيضا ينسب إلى
مجموع البلد فيقال: فلان ساكن بلدة إسلامبول مثلا ومقيم فيها، والملاك في صدق
عنوان المسافر هو الخروج من محل الإقامة كما عرفت.
ومن الغريب ما ذكره بعضهم في هذا المقام من أن الموضوعات الشرعية يجب أن
تحمل على الأفراد المتعارفة، نظير ما ذكر في تحديد الوجه من رجوع غير مستوى
الخلقة إليه، فيحمل البلد في هذا المقام أيضا على البلد المتعارف.
ويرد عليه أنه لم يرد في أخبارنا في هذا المقام لفظ البلد حتى يحمل على المتعارف
منه، وكون الاعتبار بالبلد أمر استظهرناه من فهم العرف ومن خلال بعض
التعبيرات الواردة في بعض الروايات.
155

الشرط الثاني: قصد المسافة
ومن شروط القصر: قصد المسافة. فلو قصد ما دون المسافة ثم تمادى به السير
إلى أن كملت المسافة لم يقصر بلا خلاف في ذلك.
ويدل عليه بعض الأخبار، مثل ما رواه الشيخ بإسناده عن الصفار، عن إبراهيم
بن هاشم، عن رجل، عن صفوان، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل خرج من بغداد
يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل، فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان، وهي أربعة
فراسخ من بغداد، أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصر؟ فقال: " لا يقصر ولا يفطر، لأنه
خرج من منزله وليس يريد السفر ثمانية فراسخ، إنما خرج يريد أن يلحق صاحبه في
بعض الطريق فتمادى به السير إلى الموضع الذي بلغه... " (1)
ويحمل على ذلك أيضا ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن
أحمد بن الحسن، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستة
فراسخ، ويأتي قرية فينزل فيها ثم يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أخرى أو ستة
فراسخ لا يجوز ذلك ثم ينزل في ذلك الموضع؟ قال: " لا يكون مسافرا حتى يسير من
منزله أو قريته ثمانية فراسخ فليتم الصلاة. " (2) (3)

1 - الوسائل 5 / 503 (= ط. أخرى 8 / 468)، الباب 4 منها، الحديث 1، (الخامس من
الطائفة الثالثة).
2 - المصدر السابق 5 / 504 (= ط. أخرى 8 / 469)، والباب، الحديث 3.
3. وربما يستدل لاعتبار القصد أيضا بما دل على تحديد المسافة واعتبارها بضميمة
الإجماع والنصوص على جواز التقصير عند بلوغ حد الترخص، إذ يستفاد من ذلك عدم
اعتبار طيها في التقصير فيتعين كون الاعتبار بقصدها.
وفيه أنه من الممكن أن يكون القصد طريقيا ويكون الموضوع للتقصير التلبس بسفر
الثمانية، فتأمل، أو طي الثمانية خارجا بنحو الشرط المتأخر.
لا يقال: يستفاد من صحيحة زرارة - الحاكمة فيمن قصد المسافة وصلى قصرا ثم بداله
بعدم وجوب الإعادة - أن طي المسافة خارجا غير معتبر في التقصير، وقد أفتى على طبقها
المشهور.
فإنه يقال: يعارض الرواية في ذلك صحيح أبي ولاد وخبر المروزي، حيث حكما في
الفرض بالإعادة، ولا نسلم إعراض المشهور عنهما وإن ادعي، لعدم كون المسألة معنونة في
كلمات أكثر القدماء. نعم، عنونها الشيخ وأفتى في النهاية ص 123 بمضمون صحيحة
زرارة، وفي الاستبصار - ج 1 ص 228 - والتهذيب - ج 4 ص 226 - جعل المدار خبر
المروزي وحمل صحيحة زرارة على القضاء خارج الوقت، أو على ما إذا لم يقض له الخروج
ولكن لم يرجع بعد عن نية السفر، إذ يلزمه القصر حينئذ بينه وبين ثلاثين يوما.
وكيف كان فليس الإفتاء بعدم الإعادة في الفرض مشهورا بين القدماء من أصحابنا بحيث
يحرز به إعراضهم عن الخبرين. نعم، اشتهر بين المتأخرين الإفتاء بذلك وحمل الخبرين
على الاستحباب، مع أن هذا الحمل بعيد عن مساقهما جدا، فراجع.
ثم إنهم اعتبروا وراء المسافة وقصدها استمرار القصد، فجعلوه شرطا ثالثا واستدلوا على
اعتباره بصحيح أبي ولاد ورواية المروزي.
وفيه أن المستفاد منهما كون الإتمام مستندا إلى عدم تحقق طي المسافة خارجا لا عدم
استمرار القصد، كما أن الإتمام في الفروع التي فرعها في العروة - ج 2 ص 119، في الشرط
الثالث من شروط القصر - على اعتبار الاستمرار أيضا لعله مستند إلى عدم تحقق طيها.
نعم، لو كان الاستمرار شرطا زائدا وراء المسافة وقصدها تفرع عليه وجوب الإتمام فيما إذا
قصد المسافة ثم بدا له في الأثناء ولكن تمادى به السير إلى الثمانية. وكيف كان فاستفادة
اعتبار هذا الشرط من الخبرين مشكل. نعم، يمكن أن يقال: إن المستفاد من أدلة اعتبار
القصد اعتباره بنحو يكون سير الثمانية ناشئا منه لا اعتبار حدوثه أولا في نفس المسافر إن
لم يكن سيره مستندا إليه، فتدبر. ح ع - م. وصحيح أبي ولاد رواه الشيخ في الاستبصار
1 / 238؛ والتهذيب 3 / 221.
156

مسألة: إذا قصد الثمانية قبل البلوغ وبلغ في الأثناء ولم يكن الباقي مسافة وجب
عليه التقصير، لتحقق القصد منه، ولا دليل على اعتبار وقوعه حال التكليف.
157

الشرط الثالث: أن لا يكون كثير السفر
ومن شروط القصر: أن لا يكون كثير السفر. كما عبر بذلك في بعض عبائر
المتأخرين.
وقد اختلفت عبارات الأصحاب في التعبير عن هذا الشرط، فالمشهور بين
القدماء التعبير عنه بعدم كون سفره أكثر من حضره، أو بعدم زيادة سفره على
حضره. ووافقهم في هذا التعبير بعض المتأخرين. وقد وقع هذا النحو من التعبير في
كلام المفيد، والسيدين، وسلار، والشيخ في النهاية والمبسوط، والحلي في
السرائر، المحقق في شرائعه ونافعه، والعلامة في أكثر كتبه كالتذكرة والإرشاد والقواعد
والتحرير، والشهيد الأول في الدروس، إلى غير ذلك من المتأخرين. (1)
وعبر عنه في المعتبر بأن لا يكون ممن يلزمه الإتمام سفرا، ثم قال: " وقال بعضهم
أن لا يكون سفره أكثر من حضره. وهذه عبارة غير صالحة، وقد اعتمدها
المفيد وأتباعه. ويلزم على قولهم لو أقام في بلده عشرة وسفر عشرين أن يلزم الإتمام
في السفر، وهذا لم يقله أحد. " (2)
أقول: وأنت ترى أن العنوان الذي ذكره مع شموله لسائر ما يوجب الإتمام، كسفر
المعصية مثلا، عنوان مجمل. ومحصله: أنه يشترط في إيجاب السفر للقصر

1 - راجع المقنعة / 349؛ والانتصار / 53؛ والجوامع الفقهية / 495 (= ط. أخرى /
557)، فصل في أقسام الصلاة من كتاب " الغنية "؛ والمراسم / 74؛ والنهاية /
122؛ المبسوط 1 / 284 (في كتاب الصوم)؛ والسرائر 1 / 338؛ والشرائع 1 / 134 (= ط.
أخرى / 102)؛ والمختصر النافع / 51؛ والتذكرة 1 / 191 (= ط. أخرى
4 / 394)؛ الإرشاد 1 / 275؛ والقواعد 1 / 50؛ والتحرير 1 / 56؛ والدروس
1 / 211؛ غيرها من كتب المتأخرين.
2 - المعتبر 2 / 472، في صلاة المسافر - الشرط الرابع.
158

كونه موجبا له، فيتحد الشرط والمشروط.
وعبر عن هذا الشرط بعض المتأخرين بعدم كون السفر عملا
وشغلا له (1)، آخرون بعدم كونه كثير السفر. (2) وفي مفتاح الكرامة عن أستاذه بحر
العلوم أن الأولى التعبير عنه بأن لا يكون السفر عمله ومن كان منزله وبيته معه. (3)
واقتصر بعضهم على ذكر خصوص بعض العناوين الخاصة الواردة في الروايات من
دون أن يذكروا لها عنوانا جامعا. (4)
نقل الأقوال في المسألة
فلنذكر بعض عبائر القدماء ثم نشرع في الاستدلال على أصل المسألة، فنقول:
1 - قال الصدوق في هدايته: " فأما الذي يجب عليه التمام في الصلاة والصوم في
السفر: المكاري، والكري، والبريد، والراعي، والملاح، لأنه عملهم ". (5)
2 - وقال المفيد في المقنعة: " ومن كان سفره أكثر من حضره فعليه الإتمام في
الصوم والصلاة معا ". (6)
3 - وقال السيد المرتضى في الانتصار: " ومما انفردت به الإمامية القول بأن من
سفره أكثر من حضره، كالملاحين والجمالين ومن جرى مجراهم، لا تقصير عليهم
لأن باقي الفقهاء لا يراعون ذلك. والحجة على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة ". (7)

1 - نسبه في مفتاح الكرامة 3 / 568 إلى العلامة في بعض كتبه، والشهيد، وجملة من
متأخري المتأخرين.
2 - منهم الشهيد في الروض / 389، (في صلاة المسافر - الشرط الخامس).
3 - مفتاح الكرامة 3 / 568، (في الشرط الرابع من شروط القصر).
4 - راجع مجمع الفائدة والبرهان 3 / 387، (في الشرط الخامس من شروط القصر).
5 - الجوامع الفقهية / 52، باب صلاة المسافر من كتاب " الهداية ".
6 - المقنعة / 349، باب حكم المسافرين في الصيام.
7 - الانتصار / 53، مسائل الصلاة.
159

4 - وقال الشيخ في النهاية: " ولا يجوز التقصير للمكاري والملاح،
والراعي، البدوي إذا طلب القطر والنبت، والذي يدور في جبايته، والذي يدور في
إمارته، ومن يدور في التجارة من سوق إلى سوق، ومن كان سفره أكثر من حضره.
هؤلاء كلهم لا يجوز لهم التقصير ما لم يكن لهم في بلدهم مقام عشرة أيام ". (1)
5 - وقال سلار في المراسم: " ولا قصر للملاح، والجمال، ومن معيشته في السفر،
ومن سفره أكثر من حضره ". (2)
6 - وقال ابن زهرة في الغنية: " الظهر أربع ركعات (إلى أن قال:) هذا في حق
الحاضر أهله بلا خلاف، وفي حق من كان حكمه حكم الحاضرين من
المسافرين، هو من كان سفره أكثر من حضره، كالجمال والمكاري والبادي ". (3)
7 - وقال ابن حمزة في الوسيلة - بعد ما شرط في القصر أن لا يكون سفره في
حكم الحضر -: " والذي يكون سفره في حكم الحضر ثمانية رهط: المكارى، والملاح، والراعي، والبدوي، والبريد، والذي يدور في إمارته، أو جبايته، أو تجارته من
سوق إلى سوق. " (4)
هذه جملة من أقوال الأصحاب في المسألة.
ولا يخفى أن العناوين الخاصة المذكورة في روايات الباب عشرة، وهي السبعة
المذكورة في النهاية مضافة إلى الجمال، والكري، والأشتقان.
والظاهر دخول الجمال في المكاري لكونه قسما منه وإن ذكر بخصوصه في
الأخبار.
وأما الكري والأشتقان فلم نتحصل المراد منهما بنحو الجزم. ولعل الكري عبارة
عمن يكري نفسه لعمل كالبريد مثلا في مقابل المكاري الذي يكرى دوابه. وذكروا

1 - النهاية / 122، باب الصلاة في السفر.
2 - المراسم / 74، ذكر صلاة المسافر.
3 - الجوامع الفقهية / 495 (= ط. أخرى / 557)، فصل في أقسام الصلاة من كتاب
" الغنية ".
4 - الوسيلة / 108، فصل في بيان أحكام صلاة السفر.
160

في معنى الأشتقان أنه معرب " دشتبان "، بمعنى أمين البيادر من قبل السلطان. وفي
الفقيه: " الأشتقان: البريد ". (1)
أخبار المسألة
ثم إن صاحب الوسائل ذكر في الباب الذي عقده لهذه المسألة اثني عشر حديثا،
ولكن بعضها مكررة كما لا يخفى:
1 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه؛ وعن محمد بن يحيى، عن أحمد
بن محمد بن عيسى؛ وعن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان جميعا عن حماد
بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): " أربعة قد يجب عليهم
التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري، والكري، والراعي، والأشتقان، لأنه عملهم. "
ورواه الشيخ والصدوق أيضا، وقال الصدوق بعد نقله: " وروي: الملاح ". (2)
والرواية من حيث السند في غاية الصحة، كما لا يخفى.
2 - ما عن الخصال عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن السعد آبادي، عن أحمد
بن أبي عبد الله، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " خمسة
يتمون في سفر كانوا أو حضر: المكاري، والكري، والأشتقان - وهو البريد -، الراعي،
والملاح، لأنه عملهم. " (3)

1 - الفقيه 1 / 439؛ باب الصلاة في السفر، ذيل الحديث 1275. قال الشهيد (قده) في
الذكرى / 260: " والمراد بالكري في الرواية: المكتري. وقال بعض أهل اللغة: قد يقال
الكري على المكاري. والحمل على المغاير أولى بالرواية، لتكثر الفائدة، وأصالة عدم
الترادف. " وقال أيضا: " الأشتقان هو: أمين البيادر. وقيل: البريد ".
2 - الوسائل 5 / 515 (= ط. أخرى 8 / 485)، الباب 11 من أبواب صلاة المسافر،
الحديثان 2 و 3.
3 - المصدر السابق 5 / 517 (= ط. أخرى 8 / 487)، والباب، الحديث 12. وفيه -
بطبعتيه الحديثتين - زاد بعد ابن أبي عمير كلمة " رفعه "؛ وفي الخصال / 302: " يرفعه ".
ولكن أسقطت الكلمة من طبعته القديمة ج 1 ص 549. وأثبتت الرواية في المتن من هذه
الطبعة.
161

وتفسير الأشتقان بالبريد لعله من كلام الصدوق. ويحتمل قريبا أن قوله: " وهو
البريد " كان بعد قوله: " الكري "، وكان تفسيرا له، وكان ذكره بعد الأشتقان من
أغلاط النساخ.
ثم إن الظاهر كون الرواية مرسلة، لأن ابن أبي عمير من الطبقة السادسة، من
أصحاب الرضا (عليه السلام)، فيبعد جدا روايته عن الصادق (عليه السلام) بلا واسطة.
3 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه؛ وعن محمد بن إسماعيل، عن
الفضل بن شاذان جميعا عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: " المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم
شهر رمضان. " ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن محمد بن يعقوب. ورواه أيضا
بإسناده عن علي بن الحسن، عن السندي بن الربيع. (1)
4 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن
يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام)، قال: " ليس على الملاحين
في سفينتهم تقصير، ولاعلى المكاري، والجمال. " ورواه الصدوق أيضا بإسناده عن
محمد بن مسلم. ونحوه أيضا ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن
عيسى، عن أبي المغرا، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام)، قال " ليس على
الملاحين في سفينتهم تقصير، ولاعلى المكارين، ولاعلى الجمالين. " (2)
5 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن أحمد
العلوي، عن العمركي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)،
قال: " أصحاب السفن يتمون الصلاة في سفنهم. " (3)

1 - المصدر 5 / 515 و 517 (= ط. أخرى 8 / 484 و 487) والباب، الحديثان 1 و 10.
2 - المصدر السابق 5 / 516 (= ط. أخرى 8 / 485 و 486) والباب، الحديثان 4 و 8.
3 - المصدر السابق، والصفحة والباب، الحديث 7.
162

6 - ما رواه البرقي في المحاسن عن أبيه، عن سليمان الجعفري، عمن ذكره، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: " كل من سافر فعليه التقصير والإفطار غير الملاح، فإنه في بيت هو
يتردد حيث يشاء. " (1)
7 - ما رواه الكليني عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه،
عن سليمان بن جعفر الجعفري، عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " الأعراب
لا يقصرون، وذلك أن منازلهم معهم. " (2)
8 - ما رواه عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن إسحاق
بن عمار، قال: سألته عن الملاحين والأعراب هل عليهم تقصير؟ قال: " لا، بيوتهم
معهم. " ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن علي بن إبراهيم. (3)
9 - ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن عبد الله
بن المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر، عن أبيه، قال: " سبعة لا يقصرون
الصلاة: الجابي الذي يدور في جبايته، والأمير الذي يدور في إمارته، والتاجر الذي
يدور في تجارته من سوق إلى سوق، والراعي، والبدوي الذي يطلب مواضع
القطر منبت الشجر، والرجل الذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا، والمحارب الذي
يقطع السبيل. " وبإسناده عن الحسن بن علي بن فضال، عن عمرو بن عثمان، عن
عبد الله بن المغيرة نحوه. ورواه الصدوق أيضا بإسناده عن إسماعيل بن أبي زياد. (4)
10 - ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن أبيه؛ ومحمد بن

1 - المصدر السابق 5 / 517 (= ط. أخرى 8 / 487) والباب، الحديث 11.
2 - المصدر السابق 5 / 516 (= ط. أخرى 8 / 486) والباب، الحديث 6.
3 - المصدر السابق 5 / 516 (= ط. أخرى 8 / 485) والباب، الحديث 5.
4 - المصدر السابق 5 / 516 (= ط. أخرى 8 / 486) والباب، الحديث 9. وإسماعيل بن
أبي زياد هو السكوني.
163

خالد البرقي، عن عبد الله بن المغيرة، عن محمد بن جزك، قال: كتبت إلى أبي
الحسن الثالث (عليه السلام) أن لي جمالا ولي قوام عليها ولست أخرج فيها إلا في طريق مكة
لرغبتي في الحج، أو في الندرة إلى بعض المواضع، فما يجب على إذا أنا خرجت معهم أن
أعمل، أيجب على التقصير في الصلاة والصيام في السفر، أو التمام؟ فوقع (عليه السلام): " إذا
كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كل سفر إلا إلى مكة فعليك تقصير وإفطار. " وروى
الكليني أيضا نحوه عن محمد بن جزك. ورواه الصدوق أيضا بإسناده عن عبد الله بن
جعفر، عن محمد بن شرف، عن أبي الحسن (عليه السلام). (1)
هذه جميع روايات المسألة غير ما يتعلق بفروعها.
مخالفة العنوان المشهور للعنوانين...
وأنت ترى أن المذكور فيها عناوين خاصة، وأنه ليس للعنوان الذي ذكره
المشهور عين ولا أثر في الروايات، ولم يذكر فيها ضابط كلي سوى ما اشتمل عليه
الأوليان من التعليل بقوله: " لأنه عملهم " وما اشتمل عليه رواية إسحاق بن
عمار روايتا سليمان الجعفري من قوله: " بيوتهم معهم "، أو " أن منازلهم معهم "، أو
" فإنه في بيت وهو يتردد حيث يشاء ".
ولا يخفى أن الظاهر منها دوران الحكم مدار العلتين المنصوصتين، أعني كون
السفر عملا له، أو كون بيته معه. وقد ذكر بعض المتأخرين - ومنهم السيد (قده) في
العروة (2) - هذين العنوانين مستقلين ولم يدرجوهما تحت عنوان واحد، وقد عرفت
استحسان بحر العلوم (قده) أيضا لذلك. والظاهر عندنا أيضا صحة ذلك، وأن ثبوت
الإتمام للمكاري ونظائره ليس بملاك ثبوته للبدوي وشبهه، بل الملاك فيهما مختلف،

1 - المصدر السابق 5 / 518 (= ط. أخرى 8 / 489)، الباب 12 منها، الحديث 4.
2 - راجع العروة الوثقى 2 / 131 - 130، السادس والسابع من شروط القصر.
164

حيث إن البدوي وشبهه خارج عمن يجب عليه القصر موضوعا، بخلاف
المكاري نظائره، فإنه داخل فيه موضوعا غاية الأمر خروجه بالتخصيص.
بيان ذلك: أن الظاهر من قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة) (1) كون الخطاب من أول الأمر متوجها إلى من يكون
السفر والضرب في الأرض طارئا له، بأن كان مقر معلوم متخذ على الوطنية يتغرب
بسفره عن وطنه، لا إلى كل من يضرب في الأرض ويسير فيها وإن كان سفره عين
حضره ولم يحصل له بسفره بعد عن مقره.
وبعبارة أخرى: مطلق السائر في الأرض لا يطلق عليه عنوان المسافر عرفا ما
لم يكن له مقر معلوم يتغرب بسيره عنه. والمنصرف من إطلاق الآية وسائر أدلة
القصر هو الذي عرض عليه عنوان السفر، ويكون له حضر في قبال سفره وسيره،
لامن يكون حضره في السير والسفر، بحيث يكون بقاؤه اتفاقا في مقر معلوم على
خلاف طبعه ووضعه.
فلو لم يكن في أخبارنا أيضا اسم من الأعراب لكنا نحكم بوجوب الإتمام عليهم
من جهة خروجهم عن موضوع السفر وانصراف أدلة القصر عنهم. وقوله (عليه السلام):
" بيوتهم معهم "، أو: " منازلهم معهم " أيضا أيضا إرجاع إلى هذا المعنى
الارتكازي إشارة إلى كون الأعراب خارجين تخصصا.
وبحكمهم أيضا بعض أقسام الملاحين - كما دل عليه رواية إسحاق بن
عمار الجعفري - أعني من كان بيته وأهله في السفينة، بحيث يكون نسبته إلى جميع
البنادر والبلدان على حد سواء، دون من كان أهله ومنزله في أحد البنادر مثلا، فإنه
يدخل في العنوان الآخر.
وبحكمهم أيضا المكاري الذي لم يتخذ لنفسه وطنا وبنى على التعيش في

1 - سورة النساء (4)، الآية 101.
165

السفر. وكذا بعض أقسام الرعاة والصعاليك السائرة في البلدان بحيث يكون
نسبتهم إلى جميعها على حد سواء. فجميع هذه تشترك في انصراف أدلة القصر عنها
من أول الأمر وتخرج عنها موضوعا كما لا يخفى.
وأما سائر أقسام المكارين والملاحين ونظائرهم فتختلف مع الأعراب
ومشابهيهم، لكونهم ذوي أوطان معلومة ويكون السفر مبعدا لهم عن أوطانهم،
غاية الأمر كثرة تحقق السفر منهم.
فيكون خروجهم عن حكم القصر بعنوان آخر مخصص لأدلته.
وما هو الملاك في خروجهم هو كون السفر عملا لهم ومقوما لشغلهم، كما دل عليه
روايتا زرارة وابن أبي عمير. هذا.
وقد عرفت أن المشهور عبروا عن ذلك بكون السفر أكثر من الحضر.
ويمكن أن يقال باستفادتهم ذلك من قوله (عليه السلام): " لأنه عملهم " بإلقاء الخصوصية:
بتقريب أن خصوصية الاكتساب وكون الارتزاق من طريق السفر مما يقطع
بعدم دخالته في الحكم. فلو فرض كون شخص يكاري من أول عمره إلى آخره في
سبيل الله، بمعنى أنه يحمل الأشخاص والأثقال للناس تبرعا ومجانا فلا ينبغي
الإشكال في وجوب الإتمام عليه.
هل يكون لخصوصية التحرف دخل في الحكم؟
وكذلك يمكن أن يقال بعدم دخالة خصوصية كونه ذا حرفة معينة
كالمكاراة نحوها من الصنائع والحرف المتقومة بالسفر أيضا في ذلك، إذ بمناسبة الحكم
والموضوع يستظهر أن موجب الحكم بالإتمام في هذه الأشخاص هو كون السفر
متكررا منهم وكونهم ملازمين له غالبا من غير دخالة لحيثية التحرف في ذلك.
ويدل على ذلك أن الظاهر رجوع الضمير في قوله: " لأنه " إلى السفر. فيستفاد
166

منه أن الملاك كون السفر بما هو سفر عملا لهم، وهو عبارة أخرى عن تكرر وقوعه
منهم ومزاولتهم معه؛ لا كون الحرف الخاصة المذكورة من المكاراة ونحوها عملا.
ولو سلم رجوع الضمير إلى كل واحد من مبادئ العناوين المذكورة كالمكاراة
والملاحية ونحوهما أو إلى مجموع المكاراة وسائر المبادئ لكان المنظور أيضا هذه
المبادئ بما هي مشتملة على السفر لا بما هي هي. إذ بمناسبة الحكم والموضوع يعلم
أن كون المكاراة مثلا بما هي هي عملا لا يقتضي الإتمام، بل إنما يقتضي ذلك بجهة
اشتمالها على السفر وكون السفر متكررا من المكاري بحيث لا يوجب له الشدة التي
يوجبها سائر الأسفار.
فيرجع الأمر بالأخرة إلى أن الملاك في وجوب الإتمام وعدم ثبوت القصر له هو
عملية السفر وتكرره وكثرته بحيث يقل حضره في جنب سفره، فإن العرف يطلق
على من كان مزاولا لأمر أن هذا الأمر صار عملا له.
فبهذا البيان يمكن تصحيح ما عنونه المشهور وذكروه في مقام بيان هذا الشرط
من عدم كون السفر أكثر من الحضر.
وبالجملة قد ذكر المشهور هذا العنوان حتى في كتبهم المعدة لنقل خصوص
المسائل المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام)، وليس منه في الأخبار السابقة عين ولا أثر، ولكن
يمكن أن يقال باستفادته من التعليل الوارد في روايتي زرارة وابن أبي عمير، بعد
إلقاء الخصوصيات التي يمكن ادعاء القطع بعدم دخالتها في الموضوع، حيث إن
العرف يفهم بمناسبة الحكم والموضوع أن إيجاب الإتمام في المذكورين إنما نشأ من
تكرر السفر عنهم وكثرته وصيرورته أمرا عاديا لهم بحيث لا يوجب لهم المشقة
الموجودة في سائر الأسفار الموجبة للقصر والترخيص، من دون أن يكون
لخصوصية الحرفة والشغل دخل في ذلك. وسيأتي لذلك مزيد توضيح في بعض
الفروع الآتية أيضا، فانتظر.
167

هذا ولكن يقع الإشكال في أن مرادهم بالأكثرية هل هي الأكثرية بحيث يكون
الحضر في جنب السفر معدوما عرفا ويقال في حق هذا الشخص إنه سفري، بنحو
يكون الحضر منه كالسفر من غيره على خلاف طبعه وعادته، أو الأكثرية الدقية إما
زمانا ككونه في كل شهر مثلا أربعة عشر يوما في الحضر وستة عشر يوما في السفر،
وإما عددا ككون عدد أسفاره في كل شهر أزيد من عدد حضراته؟ فيه وجوه.
والأظهر بحسب الفهم العرفي هو الأول، أعني كون الشخص بحيث يكون حضره
فانيا في جنب سفره، فإنه الذي يطلق عليه عرفا أن السفر عمل له، كما لا يخفى. (1)
ثم إن الأولى هو التأمل التام في بعض العناوين الخاصة المذكورة في الروايات
وجعلها مطرحا للبحث، إذ لعل ذلك ينتج في استنباط الفروع المشتبهة. فنقول:
أما الأعراب فقد عرفت حكمهم وأنه يمكن القول بخروجهم من أدلة وجوب القصر
تخصصا، إذ الظاهر منها بيان حكم السفر الذي هو من الأمور الطارئة، أعني ما يحصل به
البعد والتغرب من المنزل، والعرب البدوي منزله في السفر، فله منزل سيار وبيت
متحرك، فلا يكون سيره في الأرض مبعدا له عن منزله. نعم، إذا سافر من هذا المنزل
السيار بقصد الحج أو زيارة المشاهد مثلا وجب عليه القصر، لخروجه

1 - الظاهر عدم صحة هذا التعبير، إذ أكثر المكارين لا يكون حضر هم قليلا وفانيا في
جنب سفرهم، كما لا يخفى، حيث إنهم يبقون في أوطانهم لتهيئة المسافرين والأثقال، بل
التعبير بالأكثرية أيضا غير صحيح، وإنما المدار نفس الكثرة وصيرورة السفر أمرا
عاديا ومتعارفا له بناء على إلقاء خصوصية التحرف. فلو كان مكار يسافر في شغله كل
أسبوع مرة ويكون بقاؤه في السفر ثلاثة وفي الحضر أربعة فلاشك في وجوب الإتمام عليه.
ثم لا يخفى أن كون السفر أكثر عددا من الحضر إنما يتصور بناء على عدم اشتراط تخلل
الحضر في صدق تكرر السفر والقول بتحققه بتكرر المقاصد أيضا، فتدبر. ح ع - م.
168

بذلك من منزله وصيرورته مسافرا بحكم العرف، وقد عرفت أيضا أن بعض
المكارين والملاحين والرعاة أيضا بحكمهم.
وأما الراعي فهو على أقسام: بعضها بحكم الأعراب، كما عرفت. وبعضها
لا يتحقق منه السفر أصلا، كمن يخرج دواب القرية في كل يوم إلى مرتع
القرية يرجعها في الليل. نعم، قد يكون لبعض الرعاة منزل مخصوص ووطن معين،
فيتغربون عنه في أكثر السنة ويسافرون لرعي الأغنام في الصحاري، فهذا القسم من
قبيل المكارين ومن بحكمهم.
ومن العناوين أيضا التاجر الذي يدور في تجارته، كما في رواية السكوني. قد
تفرد هو بنقله ونقل نظيريه، ولكن روايته هذه معمول بها بين الأصحاب، حيث
ذكروا هذه العناوين الخاصة في كتبهم المعدة لنقل خصوص المسائل المتلقاة
عنهم (عليهم السلام) وأفتوا على وفقها. فاللازم هو الدقة في مفادها، فنقول:
لا يخفى وجود الفرق بين التاجر الذي يدور في تجارته ومن بحكمه من الأمير والجابي،
وبين مثل المكاري والملاح ونظائرهما، فإن المكاراة ونحوها متقومة بالسفر ويكون
السفر بمنزلة الجنس لها بحيث لا يعقل تحققها بدونه؛ وهذا بخلاف التاجر وشقيقيه، فإن
السفر ليس جنسا لمثل التجارة والإمارة والجباية، بل مفاهيمها مفاهيم غير مرتبطة
بمفهوم السفر. نعم، قد يتوقف حصول بعض أفرادها من بعض الأشخاص على تحقق
السفر، فالتجارة مثلا أمر تتقوم بوجود رأس مال حتى يشترى به متاع ويباع للربح،
وليست متقومة بمفهوم السفر، غاية الأمر أن تفاوت القيم وحصول الربح قد يكون
بحسب اختلاف الأزمنة وقد يكون بحسب اختلاف الأمكنة، وفي القسم الثاني قد يحمل
المتاع إلى المكان الآخر من دون أن يتوقف التجارة على مسافرة صاحبه، وقد تكون
بحيث تتوقف على سفره بنفسه لتقويم المتاع وتحويله ونحو ذلك. وكيف كان فالتجارة
ليست شغلا سفريا بحيث تتقوم بالسفر ويكون السفر بمنزلة الجنس لها،
169

وهذا بخلاف المكاراة والملاحية نحوهما، فإن السفر يكون بمنزلة الجنس
لها، ويكون كل منها نوعا منه. ونظير التاجر الأمير والجابي، كما في الرواية.
وعلى هذا فيستفاد من وجوب الإتمام على مثل التاجر الذي يدور في تجارته أن
وجوب الإتمام لا ينحصر فيمن يكون السفر مقوما لشغله وحرفته، كما لا يخفى.
ثم إن المذكور في الرواية وإن كان خصوص من يدور في تجارته من سوق إلى
سوق ويتبادر منه تعدد الأسواق على الترتيب الذي كان متداولا في السابق من
تأسيس الأسواق، كل شهر في بلد أو برية، إلا أنه يمكن دعوى القطع بعدم دخالة
ذلك في الحكم، إذ بمناسبة الحكم والموضوع يعلم عدم الفرق بين من يدور في
الأسواق المتكررة وبين من يدور بين سوقين كسوق بلده وسوق بلد آخر، سواء
كان تجارته بحمل المتاع من هذا إلى ذاك وبالعكس أو كان من طرف واحد،
لاشتراك الجميع في أن السفر ليس جنسا لشغلهم ولكن التجارة والاسترباح
بالنسبة إليهم صادفا من باب الاتفاق كثرة السفر وتكرره. وخصوصية كون
الأسواق أزيد من اثنين أو كون جميعها خارج الوطن أو كون تجارته بحمل المتاع من
الطرفين مما يقطع بعدم دخالتها في الحكم، بل خصوصية السوقية أيضا ملغاة،
لإمكان تحقق البيع والشراء في غير الأسواق، كما لا يخفى.
ثم إنه هل يكون لخصوصية التجارة دخل في الحكم أو يعم سائر
الحرف المكاسب أيضا إذا استلزمت بالنسبة إلى شخص كثرة السفر وتكرره؟
يمكن دعوى القطع بعدم دخالتها بعد اشتراك الجميع في عدم كون السفر جنسا
لها واستلزامها لمزوالته اتفاقا في حق أشخاص معينة.
فإذا كان شغله التحرير، أو التدريس، أو التجارة، أو الزراعة، أو نحوها ولم يكن
لعمله باذل في بلده فاحتاج إلى أن يسافر في كل يوم أو كل أسبوع إلى بلد آخر أو
محل آخر للاكتساب لزم عليه الإتمام، إذ بمناسبة الحكم والموضوع يعلم أن الموجب
170

لرفع القصر والترخيص هو كثرة السفر وصيرورته سهلا وعاديا بالنسبة إلى
هذا الشخص، بحيث لا يوجب بالنسبة إليه الشدة المناسبة للترخيص. ولافرق في
ذلك بين من يدور في التجارة أو في سائر الحرف والمشاغل.
وإذا انتهى إلقاء الخصوصية إلى هذا الحد فلأحد أن يقول بإلقاء خصوصية
الاكتساب والتحرف أيضا وكون الملاك نفس الدوران من بلد إلى بلد.
فالطلاب المحصلون المسافرون كل يوم أو أسبوع لتحصيل العلم أيضا مشمولون لهذا
الحكم. وقد عرفت أن المشهور أيضا لم يعتبروا التحرف والاكتساب في عنوان
المسألة، بل عبروا عنه بكون السفر أكثر من الحضر. وتبين لك أيضا إمكان
استفادته من قوله: " لأنه عملهم " بإلقاء الخصوصية، فافهم وانتظر لذلك مزيد
توضيح.
تذييل ومناقشة فيما سبق
اعلم أن العلامة في التذكرة بعد ما ذكر من شرائط القصر عدم زيادة السفر على
الحضر، ومثل لها بالمكاري وسائر العناوين المذكورة في الروايات وعقبها بفروع،
قال أخيرا: " هل يعتبر هذا الحكم في غيرهم، حتى لو كان غير هؤلاء يردد في السفر
اعتبر فيه ضابطة الإقامة عشرة أولا؟ إشكال ينشأ من الوقوف على مورد
النص، من المشاركة في المعنى. " (1)
فيظهر منه الإشكال في التعدي عن العناوين الخاصة المذكورة في الروايات. بل
ربما يظهر من المحقق في المعتبر أيضا ذلك، حيث إنه استشكل في العنوان المشهور، كما
عرفت، وعبر هو (قده) بأن لا يكون ممن يلزمه الإتمام سفرا. (2) والظاهر أنه أراد
بذلك الإشارة إلى العناوين الخاصة المذكورة في الأخبار، فيستفاد منه عدم التعدي
عنها.

1 - التذكرة 1 / 191 (= ط. أخرى 4 / 395)، الفرع الأخير من فروع البحث الرابع
(عدم زيادة السفر على الحضر).
2 - راجع المعتبر 2 / 472، الشرط الرابع من شروط القصر.
171

ونحن نقول: إن كان مرادهم الاستشكال في التعدي عن العناوين الخاصة حتى
إلى العناوين المسانخة لها كسائقي السيارات وملاحي الطائرات مثلا في زماننا
المسانخين للملاحين والمكارين حتى في كون السفر جنسا لشغلهم فالاستشكال
بلا وجه؛ إذ فيه - مضافا إلى التعليل بقوله: " لأنه عملهم " الشامل لهم قطعا - أنه
لو كان المذكور في الأخبار نفس العناوين الخاصة فقط لتعدينا منها أيضا إلى
العناوين المسانخة لها، للقطع بعدم دخالة خصوصية المكاراة والملاحية مثلا وأنه إذا
ألقي هذه العناوين إلى أهل العرف لفهموا منها كون الملاك أمرا جامعا بين
المكاراة والملاحية مثلا وبين غيرهما من العناوين غير المذكورة المسانخة لهما.
وإن كان مرادهم الاستشكال في التعدي عن ذوي الحرف المستلزمة للسفر إلى
كل من تكرر عنه السفر ولو لم يكن متحرفا به، كمن تكرر عنه السفر لتحصيل العلم
أو الزيارة مثلا، فله وجه، إذ تعميم مفاد الأخبار حتى تشمل مثل ذلك مشكل. غاية
ما يمكن أن يقال في تقريبه أمران أشرنا إليهما سابقا:
الأول: أن يقال بدلالة قوله: " لأنه عملهم " على ذلك، فإن الظاهر كما عرفت
كون مرجع الضمير فيه نفس السفر لا عنوان المكاراة ونظائرها. ومعنى عملية السفر
كثرته وتكرره عن الشخص بحيث يراه العرف مزاولا للسفر دائما سواء صدق عليه
أحد العناوين الصناعية أم لم يصدق.
الثاني: إلقاء الخصوصية، بأن يقال: لو فرض قطع النظر عن عموم التعليل أيضا
كان المتبادر إلى ذهن العرف عدم دخالة خصوصية التحرف والتكسب، بل كان
يحكم بمناسبة الحكم والموضوع أن الملاك في وجوب الإتمام صيرورة السفر بسبب
التكرر عاديا للشخص، بحيث يرتفع عنه صعوبته ومشقته، سواء كان ذلك
للتكسب وتحصيل المال أو كان للزيارة ونحوها، فيكون ذكر عنوان المكاراة ونحوها
من باب المثال. هذا.
172

ولكن الظاهر عدم جواز التعدي إلى غير ذوي الحرف المتقوم حرفتهم بالسفر.
بيان ذلك: أنه إذا ألقي إلى العرف حكم الشارع بوجوب الإتمام على
الملاح المكاري ونظائرهما، بل والتاجر الذي يدور في تجارته وشقيقيه، لتبادر إلى
أذهانهم أن سبب وجوب الإتمام عليهم كون السفر أمرا طبيعيا لهم، حيث إن كل
شخص يختار بحسب طبعه وميله شغلا من الأشغال الدنيوية يلائم طبعه ويكون
نشاطه وسروره في رواجه، وحزنه وكأبته في كساده، من غير فرق بين أن يكون
الاحتياج إلى نفقة المعاش داعيا له إلى اختيار أصل الشغل وبين أن يكون داعيه
أمرا وراء ذلك ولو كان جهة قربية. وبين الناس من يتفق أن يكون ميله الطبيعي إلى
شغل يتقوم بحسب النوع، كالمكاراة ونظائرها، أو بحسب الشخص،
كالتجارة وشقيقيها، إلى المسافرة والدوران من هنا إلى هناك، فيكون كمال نشاط هذا
الشخص بتهيؤ أسباب سفره كوجود المكتري والأحمال للمكاري مثلا، وحزنه وكأبته
بعدم تهيؤها الموجب لتعطله عن شغله؛ في قبال سائر الناس المختارين لأشغال
حضرية، بحيث يعد السفر تعطلا لهم عن أشغالهم ويوجب فيهم كسلا وحزنا. فهم
اختاروا بحسب ميلهم الطبيعي أشغالا حضرية، وهؤلاء أشغالا سفرية، وكل
حزب بما لديهم فرحون، وكمال سرورهم في رواج شغلهم، ويكون السفر تعطلا
للحضريين، والحضر تعطلا للسفريين. والعنوان الجامع للمكاري ونظائره كون
السفر كالجنس لشغلهم، والعنوان الجامع للتاجر الذي يدور وشقيقيه كون هذه
الأشغال بالنسبة إليهم متوقفة على مزاولة السفر.
فإذا ألقي إلى العرف حكم الإمام (عليه السلام) بعدم ثبوت القصر والترخيص لهذين
الفريقين انسبق إلى أذهانهم أن هذا الحكم ناش من كون السفر شغلا لهم غير
موجب لتعطلهم عن أشغالهم الطبيعية، وكونهم مائلين إليه بالطبيعة مسرورين بتهيؤ
أسبابه، كما يشهد بذلك أيضا قوله: " لأنه عملهم. " فلا يشمل هذا الحكم لمن
173

يسافر كل أسبوع مثلا للزيارة أو تحصيل العلم، لعدم كون السفر ملائما لطباعهم
وموجبا لسرورهم ونشاطهم، بل يعدون مدة السفر تعطلا لهم عن أشغالهم ويكون
موجبا لحزنهم وكأبتهم فناسب حكم القصر.
وبالجملة استفادة وجوب الإتمام لغير من يكون السفر شغلا له ومقوما
لحرفته لو بحسب هذا الشخص، كمن يدور في تجارته أو نجارته أو إمارته أو جبايته
أو نحوها من الأشغال، من هذه الروايات الواردة في الباب في غاية الإشكال. فيجب
العمل بعمومات أدلة القصر للمسافر بعد قصور أدلة الإتمام عن شمول غير ذوي
الحرف. وإلقاء خصوصية العملية والشغلية وإن قربناه سابقا لكنه مما لاوجه له بعد
احتمال دخالتها. ولا يتوهم مما ذكرنا وجوب القصر على المكاري مثلا إذا لم يكن
سفره لتحصيل المال بل للأمور القربية، لما أشرنا إليه من عدم كون المدار هو
الاحتياج بل كون السفر عملا وشغلا وإن كان الداعي إليه أمرا قربيا.
وقد تحصل مما ذكرناه أن الحكم بالإتمام لكل من كان سفره كثيرا أو أكثر من
حضره في غاية الإشكال وإن عبر بذلك المشهور. فالملاك كون الشخص ممن بيته
معه، أو ممن يكون السفر مقوما لشغله وحرفته ولو من باب الاتفاق، فتدبر جيدا.
وهاهنا ست مسائل
حكم من كثر سفره في بعض السنة
الأولى: إذا اتخذ المكاراة أو نحوها عملا له في الشتاء مثلا دون الصيف ففي " نجاة
العباد " أنه يصلى قصرا في وجه (1). وقال الشيخ (قده) في الحاشية: " لا يخلو عن
إشكال، فلا يترك الاحتياط. " واختار آخرون الإتمام.

1 - نجاة العباد / 185، في الشرط الخامس من شروط القصر.
174

وكيف كان فإذا فرض صدق عنوان المكاري مثلا على هذا الشخص فهل يكفي
ذلك في وجوب الإتمام عليه، أو الملاك صدق كون السفر عملا له، أو صدق
كلا العنوانين؟ وهل المراد بكون السفر عملا له كونه عملا له دائما حتى لا يشمل ذلك،
أو كونه عملا له في الجملة؟
المسألة محل إشكال. نعم، لا إشكال في اعتبار التكرر والمزاولة في صدق كون
السفر عملا له.
ولكن لأحد أن يقول بكفاية المزاولة في بعض السنة أيضا في صدقه.
فاللازم هو الدقة في مفاد صحيحة زرارة المشتملة على قوله: " لأنه عملهم "، ثم
النظر في أنها هل تشمل المقام أو لا، فنقول:
قد عرفت أن الضمير في قوله (عليه السلام): " لأنه " إما أن يرجع إلى السفر، وإما أن يرجع
إلى مبادئ الحرف المذكورة، أعني كل واحد من المكاراة ونظائرها، أو مجموعها.
والظاهر هو الأول. ويشهد له أيضا مناسبة الحكم والموضوع، إذ بملاحظتها
يستظهر أن سبب الحكم بالإتمام في هذه العناوين هو حيثية كثرة السفر وتكرره
منهم. ويؤيد ذلك أيضا قوله (عليه السلام) في رواية هشام بن الحكم: " المكاري والجمال الذي
يختلف وليس له مقام يتم الصلاة. " حيث إن المستفاد منه كون الملاك هو الاختلاف
وتكرر السفر، من دون دخالة لعنوان المكاراة والجمالية في ذلك. وقوله: " ليس له
مقام " أيضا يمكن أن يكون تأكيدا لذلك، وإن كان يحتمل أيضا أن يكون ناظرا إلى
الإقامة التي يأتي أنها قاطعة للكثرة. وبالجملة الظاهر رجوع الضمير في قوله:
" لأنه " إلى نفس السفر، لما عرفت.
ويدل عليه أيضا أن الظاهر من التعليل كونه بيانا لأمر ارتكازي وإرجاعا إلى
ما يراه العرف والمخاطب سببا للحكم بالإتمام، وليس ذلك إلا كون السفر بما
175

هو سفر عملا له، بمعنى صيرورته أمرا عاديا له بنحو لا يوجد فيه ما هو المقتضي
للترخيص في سائر المسافرين. فافتراق هذا المسافر عن سائر المسافرين المتحملين
للشدة في السفر أمر مركوز في أذهان العرف، بحيث يمكن أن يدعى فيه ما ادعيناه في
البدوي نظائره من انصراف أدلة القصر عنه من أول الأمر.
هذا مضافا إلى أنه لو فرض رجوع الضمير إلى مبادئ العناوين المذكورة
كالمكاراة ونحوها وجب الالتزام أيضا بكون رجوعه إليها من جهة اشتمالها على
حيثية السفر لا بما أنها عنوان خاص كالمكاراة مثلا، وإلا كان في التعليل نحو
مصادرة، إذ محصله على هذا أنه يجب على المكاري مثلا الإتمام لأن المكاراة
عمله، حاصله أنه يجب الإتمام على المكاري لأنه مكار. فالواجب أن يلحظ في
مرجع الضمير حيثية السفر، ومقتضاه عدم الاعتبار بحيثية المكاراة ونحوها، وكون
الإتمام دائرا مدار كون السفر عملا. والعلة كما تكون معممة، تكون مخصصة لدوران
الحكم مدارها نفيا وإثباتا. فلازم ذلك عدم الاعتبار بصدق عنوان المكاراة ما لم
يصدق كون السفر عملا له. وإذا صدق كونه عملا وجب الإتمام وإن لم يصدق
المكاراة. اللهم إلا أن يكون النظر في مرجع الضمير إلى السفر الخاص، أعني السفر
المكاراتي مثلا لا مطلق السفر، فيصير الملاك صدق كون السفر الخاص عملا له.
ثم إنه بعد الفراغ عن ذلك يقع البحث في أنه هل يكفي في صدق كونه عملا له
كونه مزاولا له في بعض السنة، أو لا يكفي ذلك في صدقه؟ فيه وجهان. وإثبات
أحدهما مشكل. (1)
ثم إنه يتفرع على ما ذكرناه من كون الاعتبار بعنوان المكاراة أو كون السفر

1 - الظاهر أن من يكاري في كل سنة ستة أشهر ففي زمن المكاراة يصدق عليه أن السفر
عمله. وادعاء انصراف الرواية عن مثله بلا وجه. ويشهد لذلك ما ورد من إتمام
الأشتقان الجابي، مع أن السفر عمل لهما في أوقات مخصوصة من السنة، كما لا يخفى. ح ع - م.
176

عملا له، أو كون السفر الخاص عملا فروع أخر:
منها: ما إذا كان مكاريا ثم انصرف عنها وصار ملاحا أو بريدا مثلا بلا فصل،
فإن كان الاعتبار بكون السفر عملا له كان هذا العنوان باقيا قطعا، بخلاف قسيميه،
فإنهما يرتفعان ويتوقف الإتمام على صدق العنوان الطارئ. وصدقه في السفر الأول
والثاني مشكل.
ومنها: ما إذا كان مكاريا يحمل الأثقال للناس، فاتفق في سفر أو سفرين أنه
حمل المتاع لنفسه، فإنه في هذا السفر أو السفرين لا يكون مكاريا. والالتزام
بوجوب القصر عليه مشكل.
ومنها: ما إذا كان أحد من أول عمره إلى آخره يسافر لحمل أمتعة نفسه من بلد
إلى بلد، حيث لا يصدق عليه عنوان المكارى. إلى غير ذلك من الفروع المفروضة،
فتدبر جيدا.
حكم من كثر سفره في أقل من المسافة
المسألة الثانية: إذا كان السفر غير الموجب للقصر عملا له، ثم أنشأ في شغله
سفرا يوجبه، فهل يتم أو يقصر؟ مثال ذلك ما إذا كان عمله المكاراة فيما دون
المسافة، أو المكاراة بالوجه المحرم كحمل الخمر مثلا، أو المكاراة لاعن قصد
الثمانية إن تحققت من باب الاتفاق، ففي هذه الصور إذا اتفق منه سفر في عمله يوجب
القصر لولا كونه في عمله، فهل يتم في هذا السفر، أو يتوقف الإتمام على صيرورة
السفر الشرعي أعني الموجب للقصر عملا له بأن يتكرر منه ذلك؟ فيه وجهان.
وقد يستدل لوجوب القصر بأن الظاهر من إيجاب الإتمام على من شغله السفر
كون هذا العنوان استثناء من أدلة القصر ورافعا لحكمه، وهذا إنما يتم فيما إذا كان سفره
بنحو يوجب القصر لولا طروء هذا العنوان، والسفر المحرم وأمثاله غير موجب له
177

ولو لم يكن عملا.
وفيه: أن المنظور في المقام ليس إثبات حكم الإتمام في الأسفار السابقة المحققة
لعنوان العملية، بل في هذا السفر الجديد الذي يوجب القصر قطعا لولا كونه في
شغله. فاللازم على هذا المستدل إثبات أن الأسفار السابقة المحققة للعنوان أيضا
يجب أن تكون مما يوجب القصر.
ويمكن أن يستدل لذلك بصحيحة زرارة السابقة، حيث قال (عليه السلام): " أربعة قد
يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر: المكاري والكري، والراعي، والأشتقان،
لأنه عملهم. " إذ من الواضح أن المراد بقوله: " في سفر " ليس مطلق السفر بل
ما يكون موجبا للقصر بحسب ذاته لولا طروء عنوان المكاراة ونحوها. فمحصل
كلامه (عليه السلام) أن هذه الأربعة وإن تحقق منهم السفر الذي يوجب القصر بالنسبة إلى
غيرهم لا يجب عليهم القصر لطروء هذه العناوين. ثم إن مرجع الضمير في قوله:
" لأنه " نفس السفر كما عرفت سابقا، وعلى هذا فمقتضى التعليل أن صيرورة السفر
الموجب للقصر ذاتا عملا لهم أوجب عليهم الإتمام.
ويمكن أن يناقش في هذا الاستدلال أيضا بعدم تسليم أن يكون المراد بالسفر في
قوله (عليه السلام) السفر الخاص الموجب للقصر، ولعله (عليه السلام) أراد أن هذه الأربعة يجب عليهم
الإتمام في جميع الحالات من الحضر والسفر بقسميه، فتدبر (1).

1 - وربما يحمل على من كان التردد إلى ما دون المسافة عملا له رواية إسحاق بن عمار. قال
سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الذين يكرون الدواب يختلفون كل الأيام، أعليهم التقصير إذا
كانوا في سفر؟ قال: " نعم ". وروايته الأخرى عنه أيضا. قال: سألته عن المكارين الذين
يكرون الدواب، وقلت: يختلفون كل أيام كلما جاءهم شئ اختلفوا؟ فقال: " عليهم
التقصير إذا سافروا. " (راجع الوسائل 5 / 518 (= ط. أخرى 8 / 488)، الباب 12 من
أبواب صلاة المسافر، الحديثين 2 و 3.) وربما تحملان أيضا على ما إذا أقاموا في البلد عشرة
أيام، أو ما إذا لم يكن السفر عملا لهم بل اختلفوا أحيانا. ح ع - م.
178

قاطعية الإقامة للكثرة
المسألة الثالثة: قد عرفت أن من شرائط القصر أن لا يكون المسافر كثير السفر،
مع اختلاف التعبيرات الواقعة في كلماتهم عن هذا الشرط. واعتبار هذا الشرط
إجمالا مجمع عليه بين الأصحاب. نعم، لم يذكره ابن أبي عقيل، والصدوق في المقنع.
ثم إن كثيرا من المتعرضين لهذا الشرط ذكروا أنه إن أقام في بلده عشرة أيام
انقطع حكم الكثرة، ووجب القصر في السفر الذي بعدها، وادعى بعضهم عليه
الإجماع ولكن في المعتبر: " أن دعوى الإجماع في مثل هذه الأمور غلط. " (1) ولم
يتعرض لهذا الفرع في المقنعة والهداية والانتصار والمراسم والكافي والغنية. وقال
الشيخ في النهاية بعد ذكر المكاري ونظائره: " هؤلاء كلهم لا يجوز لهم التقصير ما لم
يكن لهم في بلدهم مقام عشرة أيام، فإن كان لهم في بلدهم مقام عشرة أيام وجب
عليهم التقصير، وإن كان مقامهم في بلدهم خمسة أيام قصروا بالنهار وتمموا الصلاة
بالليل " (2).
وبالجملة قد تعرض كثير منهم لكون إقامة العشر في البلد قاطعة لحكم الكثرة.
وأما الإقامة في غير بلده فلم نر إلى زمن المحقق (قده) من تعرض لقاطعيتها.
نعم، ألحق المحقق والعلامة ومن تأخر عنهما بإقامة العشرة في بلده العشرة المنوية
في غيره، واكتفى بعضهم بمطلق العشرة. (3) وفي مفتاح الكرامة عن الرسالة النجيبية

1 - المعتبر 2 / 473، في الشرط الرابع من شروط القصر.
2 - النهاية / 122، باب الصلاة في السفر.
3 - قال المحقق في المختصر النافع / 51: " وضابطه ألا يقيم في بلده عشرة، ولو أقام في بلده
أو غير بلده ذلك قصر. " قال في الرياض ج 4 ص 429: " وإطلاقها (أي المرسلة)
كالعبارة... وإن اقتضى الاكتفاء في غير البلد بإقامة العشرة ولو من غير نية إلا أن ظاهرهم
تقييدها فيه بالنية، بل ادعى عليه الإجماع جماعة ومنهم شيخنا في الروض (ص
391) خالى العلامة المجلسي. " وراجع التذكرة 1 / 191 (= ط. أخرى 4 / 394)؛ وجامع
المقاصد 2 / 513؛ وغيرهما.
179

تقييده عشرة البلد أيضا بالنية ثم قال: " ولم أجدله موافقا. " (1)
ثم إن بعض المتعرضين لقاطعية الإقامة المنوية في غير البلد ألحق بها إقامة
الثلاثين مترددا. (2) وعن كثير منهم عدم الاكتفاء بالثلاثين. (3) نعم، ألحقوا بها
العشرة الحاصلة بعد الثلاثين. (4)
وبالجملة فكلماتهم مختلفة متشتتة في باب انقطاع الكثرة. وقد استشكل في
أصل انقطاعها - حتى بالنسبة إلى إقامة العشرة في البلد - المقدس الأردبيلي، تلميذه
صاحب المدارك. وظاهر الحدائق القطع بعدم الانقطاع بذلك. (5) ولعل نظر هم في
ذلك إلى ضعف بعض الأخبار الواردة في المسألة واضطراب متن الصحيح منها كما
ستعرف، ولكن لا يخفى أن الضعف في المقام ينجبر بعمل الأصحاب، كما سيظهر.
ثم إن ما ذكره الشيخ في النهاية من حكم إقامة الخمسة في البلد قد وافقه فيه
بعضهم، كابن حمزة في الوسيلة (6)، ولكن نفاه الأكثر.
وكيف كان فالمستند في هذه المسألة ثلاث روايات روى الشيخ ثنتين
منها الصدوق ثالثتها. وادعى بحر العلوم (قده) (7) القطع بكون المجموع رواية واحدة
اختلفت باختلاف الرواة في نقلها:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أبي إسحاق

1 - مفتاح الكرامة 3 / 569، في الشرط الرابع من شروط القصر.
2 - راجع المهذب البارع 1 / 486؛ وجامع المقاصد 2 / 513 وغيرهما مما هو مذكور في
مفتاح الكرامة 3 / 570.
3 - قال في الروض (ص 391): "... وإن كان الظاهر منهم (أي الأصحاب) عدم الاكتفاء
بالتردد ثلاثين. "
4 - راجع الدروس 1 / 212؛ والروض / 391؛ والرياض 4 / 429؛ وغيرها.
5 - راجع مجمع الفائدة 3 / 391؛ والمدارك 4 / 452؛ والحدائق 11 / 398.
6 - راجع الوسيلة / 108؛ والمهذب للقاضي ابن البراج 1 / 106.
7 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 572.
180

إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس بن عبد الرحمان، عن بعض
رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم؟ قال:
" أيما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من مقام عشرة أيام وجب
عليه الصيام والتمام أبدا. وإن كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من
عشرة أيام فعليه التقصير والإفطار. " (1)
2 - ما رواه بإسناده عن سعد، عن إبراهيم بن هاشم، عن إسماعيل بن مرار، عن
يونس بن عبد الرحمان، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال:
" المكاري إن يستقر في منزله إلا خمسة أيام أو أقل قصر في سفره بالنهار وأتم بالليل
وعليه صوم شهر رمضان، فإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة
أيام أكثر قصر في سفره وأفطر. " (2)
3 - ما رواه الصدوق بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
" المكاري إذا لم يستقر في منزله إلا خمسة أيام أو أقل قصر في سفره بالنهار وأتم
صلاة الليل وعليه صوم شهر رمضان، فإن كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه
عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر قصر في
سفره وأفطر. " (3)
وفي مشيخة الفقيه: " وما كان فيه عن عبد الله بن سنان فقد رويته عن أبي -
رضي الله عنه -، عن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أيوب بن نوح، عن محمد بن
أبي عمير، عن عبد الله بن سنان ". (4)
ولا يخفى عدم سلامة الأوليين من حيث السند، لكون ابن مرار مجهولا وإن

1 - الوسائل 5 / 517 (= ط. أخرى 8 / 488)، الباب 12 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 1.
2 - المصدر السابق 5 / 519 (= ط. أخرى 8 / 490) والباب، الحديث 6؛ عن التهذيب
3 / 216.
3 - المصدر السابق 5 / 519 (= ط. أخرى 8 / 489) والباب، الحديث 5.
4 - الفقيه 4 / 431.
181

وثقه بحر العلوم وبعض آخر. (1) هذا مضافا إلى إرسال الأولى، وأما الثالثة
فصحيحة من حيث السند ولكن في متنها نحو اضطراب. واتحاد الأوليين من حيث
السند وتقارب الأخيرتين متنا مما يوجبان الحدس بكون الجميع رواية واحدة
اختلف متنها باختلاف الرواة في النقل، وكون البعض المبهم في سند الأولى عبارة
عن عبد الله بن سنان، كما يؤيد ذلك أيضا كثرة رواية يونس عنه. هذا.
ولكن التأمل التام ينفي هذا الحدس، إذ الأخيرتان متضمنتان لقاطعية الخمسة،
والأولى تنفيها، وبين متنها ومتن الأخيرتين تباين بين، فكيف يحكم باتحاد الثلاثة.
وصرف اتحاد الأوليين من حيث السند لا يقتضي كونهما رواية واحدة مع تفاوت
المتن جدا، فافهم.
ثم لا يخفى أن يونس من الطبقة السادسة، ومن متكلمي أصحابنا وثقاتهم، وإن
ضعفه بعض. ومنشأ ذلك مزاولته للعلوم العقلية. وعبد الله بن سنان من كبار الطبقة
الخامسة، ومن مشايخ يونس.
ثم إن قاطعية إقامة العشرة لحكم الكثرة مما لا إشكال فيها إجمالا. ويدل عليها
الروايات وأفتى بها الأصحاب. وأما قاطعية الخمسة فيثبتها الأخيرتان وينفيها
الأولى، فيقع التعارض بينها في ذلك فيرجع إلى عمومات وجوب الإتمام على
المكاري ونظائره.
ثم إن في المقام مناقشات: بعضها في الروايتين الأخيرتين، وبعضها في الثالثة
فقط، وبعضها في الأولى فقط:
أما التي في الأخيرتين ففي قوله: " خمسة أيام أو أقل. " فإن انقطاع الكثرة بأقل
من خمسة خلاف الإجماع. ووجهه بحر العلوم (قده) (2) بأن المراد من الأقل ليس
الأقل من خمسة بل من العشرة، فكأنه قال: الخمسة أو ما فوقها مما هو أقل من
العشرة. ويشهد لذلك مقابلتها بالعشرة وما فوقها.

1 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 572؛ وتنقيح المقال 1 / 144.
2 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 572.
182

وأما التي في الثالثة ففي قوله: " وينصرف إلى منزله... " فإن الظاهر منه دخالة
الإقامتين معا في إيجاب القصر في السفر المتخلل بينهما، أو في السفر الذي
بعدهما، كلاهما مخالفان للإجماع. ويمكن أن يذب عنها بجعل الواو بمعنى أو، أو بالحمل
على كونه في مقام بيان الوظيفة للمكاري الذي صار من عادته أن يقيم عقيب كل
سفر تحقق منه ذهابا كان أو إيابا وأن وظيفته القصر أبدا حيث يقع كل سفر يصدر
عنه بعد الإقامة، فتأمل.
وأما التي في الأولى فقط فناشئة من قوله: " أبدا " مع ذكر لفظة " أو " في كلتا
الفقرتين المتقابلتين.
بيان ذلك: أن ظاهر الفقرة الأولى المشتملة على قوله: " أبدا " هو أن المكاري إذا
كان من شأنه وعادته المستمرة أن يقيم في كل سفر في منزله أو في البلد الذي يدخله
أقل من عشرة وجب عليه الصيام والتمام أبدا أي في جميع أسفاره. ولازم ذلك أن
يكون مقابله المكاري الذي يتحقق منه أبدا إقامة العشرة في كلا البلدين، إذ مقابل
من يتحقق منه إقامة الأقل في أحد البلدين هو الذي لا يكون إقامته أقل لا في
هذا لا في ذاك. وعلى هذا فيجب أن يكون الفقرة الثانية مع الواو ولا يناسب فيها ذكر
" أو ". وإن قلت: إن الفقرة الثانية صحيحة مع " أو " فإن الإقامة دائما في أحد البلدين
تكفي في ثبوت القصر أبدا، لزم منه أن يكون الفقرة الأولى مع الواو، إذ التمام إنما يثبت
للذي لا يتحقق منه إقامة العشرة لا في منزله ولا في مقصده.
وملخص هذا الإشكال أن ذكر لفظة " أو " في كلتا الفقرتين مع كون الحديث
بقرينة قوله: " أبدا " في مقام بيان تقسيم المكاري إلى من يتم أبدا ومن يقصر كذلك
غير مناسب، إذ مفهوم ما اشتمل على لفظة " أو " يجب أن يذكر بالواو، وبالعكس.
هذا.
ولكن الظاهر اندفاع هذا الإشكال، إذ يظهر من سؤال الراوي أنه كان مركوزا
183

في ذهنه اختلاف المكارين في الحكم باختلاف الإقامة، وكون بعض الإقامات
مما يوجب انقطاع كثرة السفر موضوعا أو حكما، فسأل الإمام (عليه السلام) عن حد الإقامة
التي توجب ذلك.
وبعبارة أخرى: لما كان المكاراة تستلزم عادة مقدارا من الإقامة في المنزل وفي
المقصد لتهيئة أسباب السفر، وكان المركوز في ذهن السائل أن هذا القبيل من الإقامة
لا تضر بحكم الكثرة وأن بعضا منها مما يوجب زوال حكمها سأل الإمام (عليه السلام) عن
التمييز بينهما، فأجابه الإمام (عليه السلام) بأن الإقامة إن كانت أقل من عشرة فلا تضر بحكم
الإتمام والكثرة أبدا، سواء كانت في المنزل أو في بلد آخر، وإن كانت أكثر من عشرة
أضرت به كذلك. فالحديث بصدد تعيين الإقامة التي توجب زوال حكم
الكثرة تمييزها مما لا توجب ذلك، وليس في مقام تقسيم المكاري إلى من يتم دائما من
يقصر كذلك حتى يستشكل بأن ذكر لفظة " أو " في كلتا الفقرتين غير مناسب.
وربما يناقش في هذه الرواية أيضا بأن الظاهر منها كون إقامة العشرة في البلد
الذي يدخله موجبة للقصر في السفر المتقدم عليها بنحو الشرط المتأخر؛ وهو
خلاف الإجماع.
ولكن الظاهر اندفاعها أيضا، إذ المتأمل في الأخبار الثلاثة يظهر له كونها بصدد
بيان وظيفة المكاري بالنسبة إلى الأسفار المتحققة منه بعد الإقامة، فافهم.
هل الإقامة في المقصد قاطعة للكثرة؟
وكيف كان فكون إقامة العشرة إجمالا قاطعة لحكم الكثرة مما لا إشكال
فيه يدل عليه الروايات وأفتى به الإصحاب، فيجب الإفتاء به.
نعم، يبقى الإشكال في أنه هل يقتصر في ذلك على الإقامة في المنزل أو يحكم بما
تضمنته الروايات من عدم الفرق بين كونها في المنزل أو في البلد الذي يذهب إليه؟
184

ووجه الاقتصار أن المذكور في كلمات الأصحاب إلى زمان المحقق هو قاطعية
الإقامة في المنزل فقط ولم يتعرضوا لقاطعية غيرها، فلعلهم أعرضوا عن هذه
القسمة من مفاد الروايات، فيقتصر في تخصيص أدلة الإتمام للمكاري على المتيقن.
ووجه التعميم منع ثبوت الإعراض، إذ صرف عدم التعرض لا يدل عليه. يؤيد
ذلك اعتماد مثل المحقق والعلامة على الروايات حتى بالنسبة إلى هذه القسمة من
مفادها. ولعل وجه عدم تعرض الأصحاب لذلك استبعادهم لهذا الحكم، إذ الإقامة
في الوطن لما كانت مقابلة للسفر حقيقة أمكن أن يقال بقاطعيتها لكون السفر عملا،
وأما الإقامة في بلد آخر فلا يخرج بها الشخص عرفا عن كونه مسافرا ولو كانت مع
القصد، خصوصا إذا كانت لتهيئة أسباب السفر الذي يكون عملا له، فهو مع كونه
مقيما يكون عرفا في سفر هو شغله ويكون بصدد تهيئة أسباب إدامة السفر، فلاوجه
للحكم بقصره حيث لم يخرج عن كونه مسافرا ومتلبسا بالسفر الذي هو شغل له،
فتدبر.
هل يعتبر في الإقامة القصد؟
ثم على فرض التعميم فهل يعتبر القصد والنية في كلتا الإقامتين، أو لا يعتبر
أصلا، أو يفصل بين الإقامة في المنزل وبين الإقامة في بلد آخر فيعتبر القصد في
الثانية دون الأولى؟ وجوه. أوجهها الأخير كما سيظهر. وأبعدها الأول، إذ المسافر
بوصوله إلى الوطن يخرج عن كونه مسافرا ويصير حاضرا حقيقة، من غير دخالة
لقصد الإقامة في ذلك؛ فيجب الحكم بعدم دخالة النية في المقام وخروجه عن
مصداق كثير السفر وإن كانت إقامته بلا قصد؛ وهذا بخلاف الإقامة في غير الوطن،
فإن المسافر لا يخرج بها عرفا عن كونه مسافرا وإن كانت مع النية، غاية الأمر أن
الشارع حكم بكونه في حكم الحاضر إذا كانت منوية. والظاهر أن صيرورته بحكم
185

الحاضر تعبدا أوجبت حكمه بزوال حكم الكثرة عنه، فيعتبر في قاطعيتها حكما
أن تكون مع النية. وبالجملة بمناسبة الحكم والموضوع يعلم أن مناط الحكم
بالقاطعية في غير البلد هو صيرورة المسافر بسبب الإقامة بحكم الحاضر تعبدا،
ومن الواضح أنه يعتبر في ذلك النية والقصد كما سيظهر في محله. وإذا صار الحضور
التعبدي موجبا لزوال حكم الكثرة إذا كان بمقدار عشرة أيام فالحضور الحقيقي إذا
كان بهذا المقدار قاطع لحكمها بطريق أولى، ومن المعلوم أن تحقق الحضور في الوطن
لا يتوقف على النية بل يتحقق حقيقة ولو لم توجد النية.
وأما الوجه الثاني فيبعده أن مقتضاه ثبوت القصر في سفر واحد بعد ثبوت
التمام في نفس هذا السفر، إذ المقيم في غير الوطن مترددا لا يخرج عن كونه مسافرا
لا عرفا ولا شرعا ما لم يبلغ الثلاثين. ولازم الوجه الثاني أن المكاري الذي أقام في
غير بلده مترددا ما لم يبلغ العشرة يتم لكونه كثير السفر، وإذا بلغ العشرة يشرع في
القصر وان لم يخرج بعد من البلد، وهذا مستبعد جدا، فتأمل.
وبما ذكرنا يظهر كون الوجه الثالث أوجه الوجوه، إذ لا يرد عليه ما ورد على
الأولين. نعم، يرد عليه أن كلتا الإقامتين ذكرتا في الحديث بمساق واحد، فإما أن
يعتبر في كلتيهما القصد وإما أن لا يعتبر في واحدة منهما، وأما التفصيل فهو خلاف
سياق الحديث. اللهم إلا أن يقال: إن الحديث دل على كون الإقامة قاطعة للكثرة في
الجملة، من دون أن يكون فيه اسم من القصد، والتفصيل أمر استفدناه بمناسبة
الحكم والموضوع، ولا نسلم كون سياق الحديث أبيا عنه، فتدبر جيدا.
هل تختص قاطعية الإقامة بالمكاري أو تعم؟
المسألة الرابعة: هل قاطعية الإقامة لكثرة السفر تختص بالمكاري كما قيل
اقتصارا على مورد النص، أو تجري في جميع من كان السفر عملا له كما نسب إلى
186

المشهور؟ الظاهر هو الثاني. إذ المترائي من الحديث ثبوت هذا الحكم للمكاري بما
أنه كثير السفر وأن السفر عمل له ويكون بذلك مغايرا لسائر المسافرين في الحكم،
فيجب إلقاء خصوصية المكاراة. وبالجملة بعد التأمل يحصل القطع بعدم دخالة
خصوصية المكاراة في هذا الحكم، ولأجل ذلك ذهب الأكثر إلى التعميم.
هل يعتبر في الإقامة التوالي أم لا؟
المسألة الخامسة: من الغريب في هذا المقام ما ذكره الشهيدان وتبعهما بعض من
تأخر عنهما من عدم اعتبار التوالي في الإقامة القاطعة للكثرة، وكفاية العشرة ملفقة
بشرط أن لا يتخللها مسافة شرعية، فلا يضر بإقامة العشرة الخروج إلى ما دون
المسافة في أثنائها.
قال في الدروس: " لو تردد في قرى دون المسافة فكل مكان يسمع أذان بلده فيه
فبحكمه وما لا فلا. نعم، لو كمل له عشرة متفرقة في بلد قصر. " (1)
ومعنى كلامه (قده) أن إقامته في البلاد المتقاربة التي يسمع فيها أذان بلده أيضا
تحسب من جملة العشرة، وأما إقامته في البلاد التي لا يسمع فيها أذان بلده فلا تحسب
منها ولكن لا تضر بإقامة العشرة أيضا بل يتصل ما قبلها بما بعدها إذا كان المجموع
عشرة.
أقول: هذا الحكم من الغرائب، إذ الخارج إلى ما دون المسافة وإن لم يكن مسافرا
شرعا لكنه لا يصدق عليه المقيم قطعا. نعم، لو كان الملاك هو التعطل عن السفر
الشرعي لكان ما ذكروه وجيها، ولكنه لا دليل على قاطعية ذلك، بل غاية ما يدل
الروايات على خروجه عن حكم كثير السفر مع كونه داخلا فيه موضوعا هو المقيم
عشرا في منزله أو في البلد الذي يدخله، ولاشك أن المأخوذ في مفهوم الإقامة هو

1 - الدروس 1 / 212؛ وراجع الروضة 1 / 373؛ ومجمع الفائدة 3 / 397؛ وغيرهما مما هو
مذكور في مفتاح الكرامة 3 / 573.
187

التعطل عن السير والدوران مطلقا وأن المتبادر من إقامة العشرة كونها بنحو الاتصال،
فتدبر جيدا.
هل يثبت حكم الكثرة في السفر الثاني أو الثالث؟
المسألة السادسة: إذا وجب القصر على كثير السفر فهل يعود حكم التمام في
السفر الثاني، أو الثالث؟ قولان:
اختار الأول جمع، منهم المحقق (قده)، على ما حكاه عنه تلميذه صاحب كشف
الرموز. (1)
واختار الثاني جمع، منهم الشهيدان " قدهما ". (2) وحكي عن أولهما أنه استدل
لذلك في الذكرى بأن الاسم قد زال عنه بالإقامة وصار كالمبتدأ فيحتاج في عوده إلى
تكرر السفر ثلاثا.
أقول: من الواضح فساد هذا الاستدلال، لعدم كون إقامة العشرة موجبة
لخروج المكاري مثلا عن كونه مكاريا أو كون السفر عملا له عرفا. وحكم الشارع
بالقصر في السفر الأول ليس لخروجه موضوعا، بل هو حكم تعبدي، فيقتصر في
تخصيص عمومات أدلة الإتمام على القدر المتيقن.
وربما يستدل للشهيد أيضا باستصحاب حكم المخصص، كما ربما يستدل لخلافه
بعموم العام. وهذا هو الأقوى، ويدل عليه أيضا الخبر السابق الذي رواه يونس عن
بعض رجاله، إذ كما يدل فقرته الثانية على وجوب القصر في السفر الواقع بعد إقامة
العشرة يدل فقرته الأولى على وجوب الإتمام في السفر الواقع بعد إقامة الأقل، السفر
الثاني في المقام واقع بعد إقامة الأقل فيدخل في عموم الفقرة

1 - راجع كشف الرموز 1 / 224؛ والسرائر 1 / 339؛ والمدارك 4 / 453؛ والرياض
4 / 430.
2 - راجع الذكرى / 260؛ والروض / 389؛ وغيرهما المذكور في مفتاح الكرامة
3 / 575.
188

الأولى. (1) وإن شئت قلت: إن حكم الإمام (عليه السلام) بالقصر بعد إقامة العشرة إما أن
يكون بالنسبة إلى السفر الأول فقط، وإما أن يكون بالنسبة إلى جميع الأسفار إلى
آخر العمر، وإما أن يكون بالنسبة إلى سفرين أو أكثر. لا سبيل إلى الثالث، لعدم بيانه
في الحديث مع كونه في مقام البيان، والثاني باطل اجماعا وقطعا فتعين الأول لأنه
المتيقن.
ثم إن دلالة الحديث على وجوب القصر في السفر الأول بعد الإقامة، مع أن
الاسم لم يزل بعد كما عرفت، حجة قاطعة على وجوب القصر في السفر الأول فيمن
شرع في المكاراة ابتداء بطريق أولى وإن فرض صدق الاسم عليه أيضا في السفر
الأول.
فإن قلت: هذا في السفر القصير والمتعارف مسلم وأما إذا كان سفره طويلا فوق
العادة بحيث شغل السنة مثلا فالظاهر وجوب الإتمام عليه في السفر الأول أيضا مع
صدق الاسم.
قلت: الحديث يدل في الجملة على أن صرف الشروع في السفر بقصد المكاراة
لا يوجب الإتمام. فمن قصد سفرا طويلا ابتداء أو بعد إقامة العشرة ففي أول شروعه
فيه لا يجوز عليه الإتمام قطعا، وحينئذ فإما أن يقال بثبوت القصر إلى آخره، أو يقال
بثبوت الإتمام في أثنائه. لا سبيل إلى الثاني، لعدم تعين الموضع الذي يحكم فيه
بالشروع في الإتمام، فيتعين الأول. فيكون الاعتبار بوحدة السفر وتعدده، فيثبت
القصر في السفر الأول مطلقا. قصيرا كان أو طويلا، ابتداء كان أو بعد الإقامة
ويثبت الإتمام في الأسفار الواقعة بعده. (2)

1 - الظاهر أن الحديث في مقام بيان أن أي إقامة تضر بحكم الكثرة ورافعة لحكمها، وأي
إقامة لا تضر، وأما أنها بعد تحققها فإلى أي زمان يبقى أثرها فليس الحديث بصدد
بيانه، ليس في مقام بيان أن كل سفر تعقب إقامة العشرة يقصر فيه، وكل سفر تعقب إقامة
الأقل لا يقصر فيه، وإلا لوجب على من أقام في الوطن عشرة ثم سافر وأقام في المقصد أقل
من العشرة أن يقصر في الذهاب ويتم في الإياب، مع وضوح بطلانه كما لا يخفى. ح ع - م.
2 - مقتضى ما ذكره (مد ظله العالي) وجوب القصر دائما فيما إذا كان هنا مكار أو ملاح
يسافر في كل سنة سفرا طويلا جدا بحيث يشغل أحد عشر شهرا منها ويقيم شهرا في بلده
أو بلد آخر واستمر ذلك مدة عمره، والالتزام بذلك مشكل. ح ع - م.
189

الرابع: أن لا يقطع السفر بإحدى القواطع
ومن شروط القصر أن لا يقطع السفر بإحدى القواطع الثلاث، أعني المرور
بالوطن، وقصد إقامة العشرة، وإقامة ثلاثين مترددا.
ولا إشكال في قاطعية هذه الثلاثة. وأما المرور بالموضع الذي له فيه ملك ففي
قاطعيته خلاف وسيأتي بيانه.
وهذا الشرط يذكر في مقامين: الأول: في تحديد السفر الموجب للقصر، حيث
إنه يشترط في ثبوت القصر أن يكون من أول الأمر قاصدا للمسافة التي لا يقطعها
إحدى القواطع. فلو عزم على مسافة ناويا للمرور على الوطن أو الإقامة في أثنائها
قبل بلوغ الثمانية لم يثبت القصر أصلا. الثاني: في بيان ما يقطع السفر ويزيل حكمه
بعد تحققه وإيجابه للقصر. ونحن نجعل المقامين مقاما واحدا، طلبا للاختصار، ونذكر
حكم القواطع الثلاث في فصلين:
الفصل الأول:
في بيان قاطعية الوطن، وتحديده
لا إشكال في كون المرور بالوطن ولو آنا ما قاطعا للسفر حقيقة، وكون تخلله في
أثناء الثمانية مع العزم موجبا لعدم ثبوت القصر من أول الأمر. فإنه مع تخلله يصير
السفر سفرين حقيقة، ولكل منهما حكمه، والمفروض قصور كل منهما عن مقدار
المسافة المعتبرة.
بيان ذلك: أن قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا
من الصلاة) الآية، لايراد منه كون مطلق الضرب والسير في الأرض موجبا للقصر،
بل ما ينطبق عليه عنوان السفر في مقابل الحضر، وقد أخذ في مفهوم السفر
190

التغرب عن الوطن والبعد عنه. فمن مر بوطنه ولو آنا ما فقد خرج عن موضوع
المسافر حقيقة وصار مصداقا للحاضر، ولا يشمله في هذا الحال أدلة التقصير قطعا.
وحينئذ فإذا خرج عن وطنه ثانيا يكون خروجه هذا إنشاء لسفر جديد، لانقطاع
السفر السابق حقيقة بالحضور في الوطن، ولو فرض إطلاق المسافر عليه في هذا
الحال فإنما هو بنحو من العناية وإذا انقطع السفر اللاحق عن السابق حقيقة وصارا
فردين مستقلين للسفر كان لكل منهما حكمه، والمفروض قصور كل منهما عن مقدار
المسافة، فلا يثبت القصر أصلا.
فهذا إجمالا مما لاشك فيه. وإنما المهم بيان حقيقة الوطن وما هو المراد منه، مع
قطع النظر عما نسب إلى المشهور من إثبات الوطن الشرعي بإقامة ستة أشهر، فإنه
أمر آخر وسيأتي بيانه. والمقصود فعلا بيان ما قد يسمونه بالوطن العرفي.
فنقول: الظاهر أن انتزاع مفهوم الوطنية عن مكان ليس بلحاظ
الاعتبارات الحالات السابقة من كون المكان محلا لولادة الشخص، أو مسكنا لآبائه
وأجداده، أو مقرا لأبويه حين ولادته ونحو ذلك، ولا بلحاظ الاعتبارات والحالات
اللاحقة، ككونه عازما على الإقامة فيه إلى حين موته أو إلى أمد بعيد. وبالجملة
ليس انتزاع مفهوم الوطنية عن مكان بلحاظ الحالات والإضافات السابقة أو
اللاحقة، بل هي مفهوم تحكي عن علقة وإضافة فعلية بين الشخص والمكان
المخصوص بحسب الوضع الفعلي لهذا الشخص، حيث إن كل شخص يختار بحسب
طبعه وميله بلدا من البلاد لإقامته وإقامة أهله وأولاده، ويوجد بينه وبين هذا البلد
علقة خاصة، بحيث لو خلي وطبعه يكون باقيا في هذا المكان ويكون خروجه منه
أمرا طارئا ناشئا من المزعجات والقواسر الطارئة ويرجع إليه بحسب طبعه بعدما
ارتفع القواسر. فهذا البلد يسمى عرفا بالوطن.
وبعبارة أخرى: الوطن عبارة عما هو المقر الفعلي للشخص بحسب وضعه
191

الفعلي، بحيث لولا طروء المزعجات والقواسر، أعني الحوائج الداعية إلى السفر،
لكان مستقرا فيه غير خارج منه، وآية ذلك رجوعه إليه بحسب طبعه وعادته بعد
ما أخذ حظه من سفره وارتفع حاجته فيه. وهذا من غير فرق بين أن يكون اختياره
لهذا البلد من جهة كونه محلا لإقامة آبائه وأقاربه، أو لكونه بلدا مناسبا
لشغله حرفته، أو لكون مائه وهوائه ملائمين لمزاجه، أو لكون سيرة أهله وأخلاقهم
مناسبة لروحه، أو لكونه محلا لما هو طالبه من كسب العلوم والآداب، أو لغير ذلك من
الجهات. وسواء كان له في هذا البلد ملك أو منزل مملوك أو غير مملوك، أو لم يكن،
بل كان من سكان المدارس أو المساجد والمعابر. وسواء كان من قصده البقاء في هذا
البلد إلى أن يموت فيه، أولم يقصد ذلك، بل لم يلتفت إليه أصلا. بل يمكن أن يقال
بعدم إضرار التوقيت أيضا في صدق الوطن إذا كان قاصدا للإقامة فيه مدة مديدة
إقامة سائر الناس في منازلهم من جهة اقتضاء وضعه الفعلي لذلك. فالطلاب
المجتمعون في مجامع الحوزات العملية المقيمون فيها عشرين سنة أو أزيد ربما يعدون
متوطنين في تلك المجامع العلمية وإن لم يكن من قصدهم البقاء فيها دائما. والتاجر
الذي ارتحل عن مسقط رأسه إلى بلد آخر وصار فيه مشتغلا بشغله وتجارته واتخذ
فيه دارا لإقامته وإقامة أهله ربما يعد هذا البلد وطنا له وإن كان من قصده أن يرجع
في آخر عمره إلى مسقط رأسه. وهكذا.
وبالجملة لا يلاحظ في انتزاع عنوان الوطن الاعتبارات والإضافات السابقة أو
اللاحقة، بل الإضافة الفعلية بين الشخص ومقره. فما هو المقر الفعلي للشخص بحيث
يبقى فيه لو خلي وطبعه يسمى وطنا له.
ويدل على ذلك كلمات أهل اللغة أيضا في تفسير الوطن والموطن واشتقاقاتهما:
قال في الصحاح: " الوطن محل الإنسان. وقد خففه رؤبة بقوله:
192

أوطنت وطنا لم يكن من وطني
لو لم تكن عاملها لم أسكن
بها ولم أدجن بها في الدجن
وأوطان الغنم: مرابضها وأوطنت الأرض، ووطنتها توطينا، واستوطنتها أي
اتخذتها وطنا. وكذلك الاتطان، وهو افتعال منه. " (1)
وفي القاموس: " الوطن، محركة ويسكن: منزل الإقامة، كالموطن، ومربط
البقر الغنم. جمعه: أوطان. ووطن به يطن، وأوطن: أقام. وأوطنه ووطنه واستوطنه:
اتخذه وطنا. ومواطن مكة: مواقفها ". (2)
وفي المنجد: " وطن يطن وطنا، وأوطن إيطانا بالمكان: أقام به. وطن،
وأوطن، توطن، واتطن، واستوطن البلد: اتخذه وطنا. (إلى أن قال:) الوطن: منزل
إقامة الإنسان، ولد فيه أولم يولد. مربط المواشي. جمعه: أوطان. الموطن: الوطن. " (3)
ثم لو أبيت عن تسمية بعض ما ذكرناه باسم الوطن فلا يضرنا فيما نحن بصدده، إذ
ليس حكم الإتمام دائرا مدار صدق عنوان الوطن، بل يدور مدار صدق
الحضور والخروج عن صدق عنوان المسافر الذي يعتبر في مفهومه التغرب عن المقر
الفعلي ومحل الإقامة. والآية الشريفة والأخبار المأثورة إنما تكون بصدد بيان
وجوب القصر على من خرج عن مقره الفعلي وبعد عن محل إقامته وصار بذلك
ملازما لمشقة زائدة موجبة للترخيص. فالمرور بالمقر الطبيعي الفعلي مما يوجب
زوال عنوان المسافر ولو سلم عدم صدق عنوان الوطن على كل مستقر ومقام. وقد
عرفت سابقا أن البدوي الذي يكون بيته معه، وكذا الملاح الذي يكون في بيت
يتردد فيه حيث يشاء إنما يتمان

1 - الصحاح 6 / 2241. وفيه: " ولم أرجن بها في الرجن ". معناهما واحد.
2 - القاموس المحيط 4 / 276.
3 - المنجد / 906.
193

لعدم صدق عنوان المسافر عليهما، كما هو المستفاد من التعليلات الواردة في
الروايات بالنسبة إليهما، ولا يدور حكم الإتمام فيهما على صدق عنوان الوطن على
بيتهما السيار. فالملاك كل الملاك في ثبوت القصر هو التغرب عن البيت والمقر
الطبيعي الفعلي سواء كان ثابتا أو سيارا، وفي ثبوت الإتمام الرجوع إليه بحيث
يصدق عليه أنه حضر في منزله وبيته.
وكيف كان فالمرور بالمقر الفعلي مما يوجب زوال عنوان السفر وارتفاع حكمه،
سواء صدق عليه عنوان الوطن أم لا وسواء كان له فيه ملك أو منزل أم لا، لا نحتاج
في ذلك إلى دلالة آية أو رواية كما هو واضح لا يخفى.
طوائف أخبار المرور بالملك
نعم، هاهنا أخبار ربما يوهم بعضها خلاف ما ذكرناه، وقد اختلف مضامينها،
وباعتبار ذلك تنقسم إلى أربع طوائف:
الأولى: ما تدل على أن مرور المسافر بملكه الثابت من الضيعة أو الدار قاطع
لسفره وإن لم يكن الموضع وطنا له. بل في بعضها كفاية النخلة الواحدة أيضا في ذلك.
الثانية: ما تدل على عدم كون المرور بمثل الضيعة قاطعا مطلقا من غير تفصيل
بين المستوطن وغيره.
الثالثة: ما تدل على أن المرور بالمنزل أو الدار أو الضيعة قاطع للسفر إذا كان
يستوطنه لا مطلقا.
الرابعة: ما تدل على ذلك مع تفسير الاستيطان أيضا.
ومجموع أخبار المسألة تسعة: أربعة منها من الطائفة الأولى، وثنتان من
الثانية، اثنتان من الثالثة، وواحدة من الرابعة:
أما الطائفة الأولى: 1 - ما رواه الصدوق بإسناده عن إسماعيل بن الفضل
194

الهاشمي، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)، عن الرجل يسافر من أرض إلى أرض،
وإنما ينزل قراه وضيعته؟ قال: " إذا نزلت قراك وأرضك فأتم الصلاة، وإذا كنت في
غير أرضك فقصر. " ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن سعد، عن أحمد بن محمد، عن
الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان بن عثمان، عن إسماعيل بن الفضل. (1)
2 - ما رواه الكليني عن محمد بن الحسن وغيره، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن
محمد بن أبي نصر، قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى ضيعته فيقيم
اليوم اليومين والثلاثة، أيقصر أم يتم؟ قال: " يتم الصلاة كلما أتى ضيعة من ضياعه. "
ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن محمد بن يعقوب. وفي قرب الإسناد عن أحمد بن
محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر نحوه. (2)
3 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن عيسى،
عن عمران بن محمد، قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جعلت فداك، إن لي ضيعة
على خمسة عشر ميلا: خمسة فراسخ، فربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو
خمسة أيام أو سبعة أيام، فأتم الصلاة أم أقصر؟ فقال: " قصر في الطريق، وأتم في
الضيعة. " (3)
4 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن الحسن بن
علي بن فضال، عن عمرو بن سعيد، عن مصدق بن صدقة، عن عمار بن موسى، عن
أبي عبد الله (عليه السلام): في الرجل يخرج في سفر فيمر بقرية له أو دار فينزل فيها؟ قال: " يتم
الصلاة ولو لم يكن له إلا نخلة واحدة ولا يقصر، وليصم إذا حضره الصوم هو
فيها. " (4)
فهذه الأخبار الأربعة تدل على كون المرور بالملك مطلقا قاطعا للسفر، سواء

1 - الوسائل 5 / 520 (= ط. أخرى 8 / 492)، الباب 14 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 2.
2 - المصدر السابق 5 / 523 (= ط. أخرى 8 / 497) والباب، الحديثان 17 و 18.
3 - المصدر السابق 5 / 523 (= ط. أخرى 8 / 496) والباب، الحديث 14.
4 - المصدر السابق 5 / 521 (= ط. أخرى 8 / 493) والباب، الحديث 5.
195

كان الموضع وطنا له أم لا، كما يؤيد ذلك ترك الاستفصال فيها.
وأما الطائفة الثانية المخالفة لظاهر الطائفة الأولى بنحو التباين فثنتان كما
عرفت:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن إبراهيم بن هاشم، عن
إسماعيل بن مرار (يسار - خ ل) عن يونس بن عبد الرحمان، عن عبد الله بن سنان،
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " من أتى ضيعته ثم لم يرد المقام عشرة أيام قصر، وإن أراد
المقام عشرة أيام أتم الصلاة. " (1)
2 - ما رواه أيضا عن سعد، عن إبراهيم، عن البرقي، عن سليمان بن جعفر
الجعفري، عن موسى بن حمزة بن بزيع، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك، إن
لي ضيعة دون بغداد فأخرج من الكوفة أريد بغداد، فأقيم في تلك الضيعة، فأقصر أم
أتم؟ فقال: " إن لم تنو المقام عشرة أيام فقصر. " ورواه البرقي أيضا في المحاسن. (2)
والمستفاد من الروايتين أن المرور بالصيغة لا يغير حكم السفر، وإنما يزول
حكمه بنية إقامة العشرة التي هي من القواطع القطعية. ومقتضى ترك الاستفصال
فيهما أيضا عموم الحكم لمن استوطنها أو لم يستوطنها.
وأما الطائفة الثالثة المفصلة بين صورة الاستيطان وغيرها من دون تعرض
لتفسير الاستيطان فروايتان أيضا كما عرفت:
1 - ما رواه علي بن يقطين، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام). وقد جعلها في الوسائل
خمس روايات باختلاف الرواة عن علي بن يقطين، وباختلافها في اللفظ، وباشتمال
بعضها على السؤال والجواب واشتمال غيره على بيان الحكم فقط، ولكن الجميع
ترجع إلى رواية واحدة، لاشتراكها في المضمون ووحدة الراوي عن الإمام (عليه السلام).
نعم، في واحدة منها أن سعد بن أبي خلف قال: سأل علي بن يقطين

1 - المصدر السابق 5 / 525 (= ط. أخرى 8 / 499)، الباب 15 منها، الحديث 6.
2 - المصدر السابق 5 / 526 (= ط. أخرى 8 / 499) والباب، الحديث 7.
196

أبا الحسن الأول (عليه السلام). ولعل المستفاد منه كون سعد بنفسه حاضرا في مجلس
الإمام (عليه السلام)، فيتعدد الراوي عنه (عليه السلام)، ولكن لا يبعد أن يكون هذا التعبير من سعد
لا لحضوره في المجلس بل لشدة اعتماده على نقل ابن يقطين.
وكيف كان فلنذكر الخمسة التي ذكرها في الوسائل:
ا - ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) أنه
قال: " كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير. " (1)
ب - ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن أيوب بن نوح، عن أبي طالب، عن
أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن حماد بن عثمان، عن علي بن يقطين، قال: قلت لأبي
الحسن الأول (عليه السلام): إن لي ضياعا ومنازل، بين القرية والقريتين الفرسخ
والفرسخان الثلاثة؟ فقال: " كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه
التقصير. " (2)
ج - ما رواه أيضا عنه، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي نصر، عن حماد بن عثمان،
عن علي بن يقطين، قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): الرجل يتخذ المنزل فيمر به
أيتم أم يقصر؟ قال: " كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل وليس لك أن تتم
فيه. " (3)
د - ما رواه عنه، عن أحمد، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن
علي، قال: سألت أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن رجل يمر ببعض الأمصار وله بالمصر دار
وليس المصر وطنه، أيتم صلاته أم يقصر؟ قال: " يقصر الصلاة، والضياع مثل ذلك
إذا مر بها. " (4)
ه‍ ما رواه عنه، عن أيوب بن نوح، عن صفوان بن يحيى، عن سعد بن أبي

1 - المصدر السابق 5 / 520 (= ط. أخرى 8 / 492)، الباب 14 منها، الحديث 1.
2 - المصدر السابق 5 / 522 (= ط. أخرى 8 / 494) والباب، الحديث 10.
3 - المصدر السابق 5 / 521 (= ط. أخرى 8 / 493) والباب، الحديث 6.
4 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 7.
197

خلف، قال، سأل على بن يقطين أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن الدار تكون للرجل
بمصر أو الضيعة، فيمر بها؟ قال: " إن كان مما قد سكنه أتم فيه الصلاة وإن كان مما لم
يسكنه فليقصر. " (1)
2 - ما رواه الشيخ أيضا عنه، عن أيوب بن نوح، عن ابن أبي عمير، عن حماد بن
عثمان، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الرجل يسافر فيمر بالمنزل له في الطريق،
يتم الصلاة أم يقصر؟ قال: " يقصر. إنما هو المنزل الذي توطنه. " (2)
ومراده (عليه السلام) أن ما قرع سمعك من كون المرور بالمنزل قاطعا للسفر إنما هو المنزل
الذي توطنه. ولفظة " توطنه " ماض من التفعل، أو مضارع من الإفعال أو التفعيل،
أو التفعل بحذف إحدى التائين كما لا يخفى.
فهذه الطائفة الثالثة تدل على أن المرور بالمنزل أو الضيعة ليس بنفسه تمام
الموضوع في إيجاب الإتمام كما هو مقتضى الطائفة الأولى، وليس أيضا بلا أثر بحيث
لا يغير حكم السفر أصلا كما هو مقتضى الطائفة الثانية، بل هو قاطع للسفر وموجب
للإتمام بشرط أن يكون المنزل أو الضيعة وطنا له.
فلو لم تكن الطائفة الثالثة في البين كان التعارض بين الأوليين باقيا، ولكن بعد
ورودها تصير شاهدة للجمع بينهما، فتحملان على الثالثة حمل المطلق على
المقيد يرتفع التهافت من البين. فهذا مقتضى الجمع بين الطوائف الثلاث.
فإن قلت: لا نسلم تهافت الأوليين، إذ الأولى أعم مطلقا من الثانية، حيث
فصل في الثانية بين قاصد الإقامة وغيره، فتحمل الأولى على الثانية ويجمع بينهما.
قلت: كون قصد الإقامة من القواطع كان أمرا واضحا مفروغا عنه، فلا يمكن
حمل الطائفة الأولى على صورة قصد الإقامة. هذا مضافا إلى صراحة بعضها في

1 - المصدر السابق 5 / 522 (= ط. أخرى 8 / 494) والباب، الحديث 9.
2 - المصدر السابق 5 / 522 (= ط. أخرى 8 / 493) والباب، الحديث 8؛ عن التهذيب
3 / 212.
198

كون الإقامة في الضيعة أقل من عشرة.
وكيف كان فظاهر الطائفة الأولى كون المرور بالضيعة مثلا بما هو هو من
القواطع، وظاهر الطائفة الثانية نقيض ذلك، فهما متهافتتان بنحو التباين، ولكن
الطائفة الثالثة بمنزلة المفسر لهما، حيث فصل فيها بين صورة الاستيطان
وغيرها، المتبادر من الاستيطان فيها مفهومه العرفي وقد مر توضيحه.
ولكن هنا رواية أخرى مفصلة بين صورة الاستيطان وغيرها، مع التعرض
لتفسير الاستيطان أيضا، وصار هذا سببا لقول المشهور بالوطن الشرعي في مقابل
الوطن العرفي، وفسروا الوطن الشرعي بالموضع الذي له فيه ملك وقد بقي فيه ستة
أشهر ولو متفرقة، وربما لا يساعد الرواية لما تسالموا عليه.
وقد جعلنا الرواية طائفة رابعة في هذا الباب، فلنذكرها ثم نشرح مفادها:
فنقول: روى الشيخ بإسناده عن سعد، عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن
الحسن، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، قال: سألته عن
الرجل يقصر في ضيعته؟ فقال: " لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام، إلا أن يكون له
فيها منزل يستوطنه. " فقلت: ما الاستيطان؟ فقال: " أن يكون له فيها منزل يقيم فيه
ستة أشهر، فإذا كان كذلك يتم فيها متى دخلها. " وقال: وأخبرني محمد بن إسماعيل
أنه صلى في ضيعته فقصر في صلاته. قال أحمد: وأخبرني علي بن إسحاق بن
سعد أحمد بن محمد جميعا أن ضيعته التي قصر فيها: الحمراء. ورواه الصدوق أيضا
بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن بزيع إلى قوله: " متى دخلها. " (1)
هذه جميع روايات المسألة، وقد ظهر لك أنها تسعة. وأما الروايات الأخر التي
ذكرها في الوسائل في هذا الباب فلا دلالة لها على حكم المسألة، إذ محط النظر في
بعضها سؤالا وجوابا إنما هو بيان مقدار المسافة الموجبة للقصر من غير نظر إلى بيان

1 - المصدر السابق 5 / 522 (= ط. أخرى 8 / 494) والباب، الحديث 11.
199

حكم المرور بالضيعة، ولبعضها محامل أخر، كما لا يخفى على المتأمل. واللازم في
كل مسألة تشخيص المواد العاملة، أعني الأخبار المرتبطة بها وتمييزها من غيرها
حتى لا يختلط الأمر ولا يشتبه على الطالب، وقد عرفت أن ما يرتبط بمسألتنا هذه
تسعة، وقد قسمناها إلى أربع طوائف، وأشرنا إلى وجه الجمع بينها، وبقي الإشكال
في الأمر الزائد الذي يشتمل عليه الأخيرة، أعني تفسير الاستيطان، فانتظر لبيانه.
إشكالان وتفصيان
الأول: قد يتوهم أن بين الطائفة الثانية والثالثة عموما من وجه، لدلالة الثانية
على وجوب القصر على من لم يرد المقام عشرة أيام في ضيعته ووجوب الإتمام على
من أراده، تحقق الاستيطان أم لم يتحقق، ودلالة الثالثة على وجوب القصر على من
لم يستوطن فيها، ووجوب الإتمام على من استوطن أقام فيها أم لم يقم. فإذا قيدنا كلا
من الطائفتين بالأخرى كان مقتضاه وجوب الإتمام على المستوطن المقيم والقصر
على من فقد الوصفين، وبقي حكم المقيم فقط والمستوطن فقط غير مبين. ولازم ذلك
كون المار بضيعته أسوء حالا من غيره، لكفاية الإقامة فقط في إيجاب الإتمام بالنسبة
إلى غيره بلا إشكال. ثم إن الالتزام بإطلاق الطائفة الثالثة وطرح الثانية أشكل،
لاستلزامه عدم كون الإقامة ذات حكم أصلا، فيبقى الالتزام بإطلاق الطائفة الثانية
وطرح الثالثة رأسا، فيكون الحكم دائرا مدار الإقامة وعدمها، ولا أثر للاستيطان
أصلا.
أقول: هذا إشكال غريب واضح الفساد، بداهة أن أخبار الإقامة ليست بصدد
بيان حكمين: إيجاب إقامة العشرة للإتمام وإيجاب إقامة الأقل للقصر، بل تتضمن
حكما واحدا وهو ثبوت الإتمام لمن أقام العشرة، وأما القصر فهو مما يقتضيه نفس
طبيعة السفر لا إقامة الأقل. وكذلك الأخبار الواردة في المرور بالمنزل ليست إلا بصدد
200

بيان أن المرور به موجب للإتمام أم لا، بعد فرض كون أصل السفر موجبا للقصر.
فمحط النظر في أخبار إقامة العشرة والمرور بالضيعة والمنزل بيان قواطع السفر بعد
كون إيجابه للقصر مفروغا عنه لكل من السائل والمسؤول، وكان قاطعية الإقامة
من المسلمات والواضحات لأصحاب الأئمة (عليهم السلام)، لكثرة ما صدر عنهم فيها. فليس
أخبار الطائفة الثانية بصدد بيان هذا الحكم، بل الذي هو محط النظر في أخبار المرور
بالضيعة والمنزل بطوائفها بيان أن المرور بهما أيضا من القواطع، أو أن المار بهما
كغيره، حيث إن المسألة كانت معنونة بين فقهاء العامة، وكان يفتي بعضهم بقاطعيته
أيضا، فتصدى أصحاب الأئمة (عليهم السلام) للسؤال عنها. فالطائفة الأولى تدل على كونه
أيضا من القواطع، والثانية تدل على أن المرور بهما لا حكم له أصلا وأن المار بهما
كغيره في عدم انقطاع سفره إلا بنية إقامة العشرة، والثالثة تدل على كون المرور بهما
قاطعا بشرط الاستيطان، وهي شاهدة للجمع بين الأوليين، فصار المتحصل من
الجميع أن المرور بالملك المستوطن فيه أيضا من القواطع مثل نية الإقامة.
ويشهد لما ذكرناه أنه جمع في رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع بين القاطعين
فدلت على أن كلا من الإقامة والمرور بالملك المستوطن فيه قاطع مستقل.
الإشكال الثاني: قد يتوهم أيضا أن الطائفة الثانية وثلاث روايات من الطائفة
الأولى متعرضة لحكم الضيعة فقط، والطائفة الثالثة المفصلة بين صورة
الاستيطان غيرها متعرضة لحكم المنزل، فكيف تجعل هذه مفسرة لهاتين؟
ويرد عليه - مضافا إلى القطع بعدم دخالة خصوصية الضيعة - أن المستفاد من
رواية محمد بن إسماعيل بن بزيع هو أن الضيعة بما أنها ضيعة لا حكم لها وإنما
الاعتبار بكون الشخص ذا منزل يستوطنه، فهي تفسر الأوليين ويصير محصل
الجميع أن المرور بالملك - أي ملك كان - يوجب الإتمام إذا كان للشخص في هذا
الموضع منزل يستوطنه، فتدبر.
201

تكميل
حكم ما استوطنه ستة أشهر
قد عرفت أنه لا يراعى بحسب اللغة والمتفاهم العرفي في صدق الوطن على بلد
خاص الاعتبارات السالفة، من كونه مسقطا لرأس الإنسان، أو محلا لإقامة
آبائه أجداده، ولا اللاحقة ككونه عازما على البقاء فيه دائما مثلا. بل هو عبارة عن
محل الإقامة والمقر الفعلي للشخص بحسب طبعه ووضعه الفعلي، سواء ملك فيه شيئا
أم لا. وعرفت أيضا أن كون المرور به قاطعا للسفر أمر واضح لا يحتاج إلى تعبد
شرعي، إذ المسافر يخرج بالمرور به من كونه مسافرا حقيقة ويدخل في عنوان
الحاضر. فهذا مما لا إشكال فيه
نعم هنا شيء آخر، وهو أنه ربما نسب إلى المشهور تفسير الوطن بالموضع الذي
له فيه ملك وقد استوطنه فيما مضى ستة أشهر ولو متفرقة، وربما عبروا عن ذلك
بالوطن الشرعي وجعلوه من القواطع. ومستندهم في هذا الفتوى رواية ابن بزيع لا
محالة.
فاللازم ذكر كلمات الأصحاب ثم التدبر في رواية ابن بزيع حتى يظهر ما هو
الحق في المقام فنقول:
نقل كلمات القدماء في المسألة
1 - قال في الفقيه - بعد ما روى خبر إسماعيل بن الفضل السابقة (الأولى من
الطائفة الأولى): - " قال مصنف هذا الكتاب: يعني بذلك إذا أراد المقام في قراه أرضه
عشرة أيام، ومتى لم يرد المقام بها عشرة أيام قصر إلا أن يكون له بها منزل فيكون
فيه في السنة ستة أشهر، فإن كان كذلك أتم متى دخلها. وتصديق ذلك ما رواه محمد
بن إسماعيل بن بزيع... " (1)

1 - الفقيه 1 / 451، باب الصلاة في السفر، ذيل الحديث 1307.
202

2 - وقال الشيخ في النهاية: " ومن خرج إلى ضيعة له وكان له فيها موضع ينزله
ويستوطنه وجب عليه الإتمام، فإن لم يكن له فيها مسكن وجب عليه التقصير ". (1)
3 - وقال في المبسوط: " وإذا سافر فمر في طريقه بضيعة له، أو على مال له، أو
كانت له أصهار، أو زوجة فنزل عليهم ولم ينو المقام عشرة أيام قصر. وقد روي أنه
عليه التمام، وقد بينا الجمع بينهما، وهو أن ما روي أنه إن كان منزله أو ضيعته مما قد
استوطنه ستة أشهر فصاعدا تمم وإن لم يكن استوطن ذلك قصر ". (2)
4 - وقال القاضي في مهذبه: " من مر في طريقه على ما له، أو ضيعة يملكها، أو كان
له في طريقه أهل، أو من يجري مجراهم ونزل عليهم ولم ينو المقام عندهم عشرة أيام
كان عليه التقصير ". (3)
5 - وعنه في الكامل: " من كانت له قرية له فيها موضع يستوطنه وينزل به خرج
إليها وكانت عدة فراسخ سفره على ما قدمناه فعليه التمام، وإن لم يكن له فيها مسكن
ينزل به ولا يستوطنه كان له التقصير ". (4)
6 - وفي الكافي لأبي الصلاح: " فإن دخل مصرا له فيه وطن فنزل فيه فعليه التمام
ولو صلاة واحدة، وإن لم ينزله، أو لم يكن له فيه وطن فعزم على الإقامة عشرا تمم،
وإن لم يعزم قصر ما بينه وبين شهر. " (5)
7 - وعن ابن الجنيد: " من وجب عليه التقصير في سفر فنزل منزلا أو قرية
يملكها أو بعضها أتم وإن لم يقم المدة التي توجب التمام على المسافر، وإن كان مجتازا
بها غير نازل لم يتم. " (6)

1 - النهاية / 124، باب الصلاة في السفر.
2 - المبسوط 1 / 136، كتاب صلاة المسافر.
3 - المهذب 1 / 106، باب صلاة السفر.
4 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 560؛ والمختلف / 170 (= ط. أخرى 2 / 561)؛ الذخيرة /
408.
5 - الكافي / 117، باب تفصيل أحكام الصلاة الخمس.
6 - راجع المختلف / 170 (= ط. أخرى 2 / 563)، الفصل السادس، المسألة 407.
203

8 - وفي السرائر: " والسفر خلاف الاستيطان والمقام، فإذن لا بد من ذكر حد
الاستيطان، وحده ستة أشهر فصاعدا، سواء كانت متفرقة أو متوالية. فعلى هذا
التقرير والتحرير من نزل في سفره قرية أو مدينة وله فيها منزل أو مملوك قد
استوطنه ستة أشهر أتم وإن لم يقم المدة التي توجب على المسافر الإتمام أو لم ينو
المقام عشرة أيام، وإن لم يكن كذلك قصر ". (1)
9 - وفي الوسيلة - في حكم من مر بضيعة له -: " إن كان له فيها مسكن نزل به
ستة أشهر فصاعدا أتم، وإن لم يكن قصر، إلا إذا نوى الإقامة عشرة ". (2)
هذه أقوال القدماء من أصحابنا، ثم اشتهر من زمن المحقق والعلامة القول بثبوت
الإتمام على من مر بموضع له فيه ملك قد استوطنه فيما مضى ستة أشهر ولو متفرقة،
فأفتى بذلك المحقق والعلامة ومن تأخر عنهما، وادعى بعضهم عليه الإجماع. (3) شاع
بين متأخري المتأخرين من المقاربين لعصرنا التعبير عن ذلك بالوطن الشرعي.
هذا. ولكن ناقش فيه في الرياض، وتبعه بعض آخر، (4) إلى أن انقلب الشهرة أخيرا
إلى إنكاره وحمل رواية ابن بزيع على تحديد الوطن العرفي.
وكيف كان فإثبات ما سموه وطنا شرعيا بسبب الشهرة مشكل، فإن الشهرة إنما
تكون حجة إذا كانت متحققة بين القدماء من أصحابنا بنحو يستكشف بها كون
المسألة من المسائل المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا بيد (5)، والشهرة في هذه المسألة إنما
حدثت من عصر المحقق (قده)، فإن عبارة الشيخ في نهايته التي ألفها لنقل المسائل

1 - السرائر 1 / 331، باب صلاة المسافر. وفي هذا النسخة: " وله فيها منزل مملوك ".
2 - الوسيلة لابن حمزة / 109، في فصل بيان أحكام صلاة السفر.
3 - راجع الشرائع 1 / 133 (= ط. أخرى / 101)، في الشرط الثالث من شروط القصر؛
والمنتهى 1 / 393؛ والذكرى / 259؛ والروض / 386؛ وغيرها.
4 - راجع الرياض 4 / 419؛ والذخيرة 5 / 408. ولتفصيل الأقوال في المسألة راجع
مفتاح الكرامة 3 / 565 - 560.
5 - قد مر توضيح ذلك في أوائل البحث عن صلاة الجمعة، فراجع. (ص 20).
204

المتلقاة عنهم (عليهم السلام)، وكذلك عبارة الفقيه وكلمات القاضي وأبي الصلاح ظاهرة في
الخلاف، وبعض القدماء كالمفيد مثلا لم يتعرض للمسألة أصلا. نعم، عبارة المبسوط
الذي هو كتاب تفريعي، وكذا السرائر ظاهرة في إثباته ولكن لا يتحقق الشهرة
المعتمد عليها بمثل ذلك.
وعلى هذا فإن نهض رواية ابن بزيع لإثبات ما سموه وطنا شرعيا فهو، وإلا
فالمرجع عمومات أدلة القصر في السفر، فنقول:
محتملات رواية ابن بزيع
المحتملات في الحديث ثلاثة:
1 - أن يحمل على ما يستفاد من ظاهر كلام الفقيه، أعني ما يقيم فيه في كل سنة
ستة أشهر.
2 - أن يحمل على ما سموه وطنا شرعيا.
3 - أن يحمل على تحديد الوطن العرفي ويكون ذكر ستة أشهر من باب المثال كما
سيأتي توضيحه.
أما الأول: فتقريبه أن يقال: إن قوله (عليهم السلام) في تفسير الاستيطان: " أن يكون له
فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر " جاء بلفظ المضارع، بل الموجود في أكثر روايات ابن
يقطين وصدر رواية ابن بزيع أيضا استعمال الاستيطان كذلك، بل لا يوجد في
الروايات المتعرضة لحكم الاستيطان ما يكون بلفظ الماضي سوى قوله: " سكنه " في
رواية سعد بن أبي خلف، إذ لفظة: " توطنه " في رواية الحلبي وإن احتملنا فيها بدوا
أن تكون ماضيا من التفعل لكن الظاهر كون التوطن لغة مستحدثة، ولذا لم يذكر في
الصحاح والقاموس، وإنما ذكره المنجد كما عرفت، فيتعين كون لفظة: " توطنه " في
الحديث أيضا مضارعا من الإفعال أو التفعيل.
وعلى هذا فلا يمكن حمل الاستيطان ونظائره في أخبار الباب على ما نسب إلى
205

المشهور من كفاية الاستيطان ستة أشهر فيما مضى. فيجب حمل المضارع في
الروايات على ما هو ظاهره من الاستمرار، ويكون المراد من قوله (عليه السلام) في تفسير
الاستيطان: " أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر " كون المرور بالضيعة موجبا
للإتمام إذا كان له فيها منزل كان من عادته أن يقوم فيه في كل سنة ستة أشهر، يتكرر
ذلك منه في جميع السنوات من الماضية والحاضرة والمستقبلة.
وإن شئت قلت: إن المراد بقوله: " يقيم فيه ستة أشهر " الإقامة في الحال أو
الاستقبال أو بنحو الاستمرار. لا إشكال في بطلان الأولين، فإن إقامة ستة أشهر في
المستقبل لا يعقل أن تصير موجبة لثبوت الإتمام فعلا، إذ الإقامة شرط لثبوته وما لم
يتحقق الشرط لا يتحقق المشروط، والإقامة في الحال أي في هذا السفر الذي مر
فيه بمنزلة أيضا ليست بمرادة قطعا، إذ محط النظر في أخبار الباب بيان ثبوت الإتمام
بنفس المرور ولو آنا ما من جهة تحقق الاستيطان مع قطع النظر عن هذا السفر،
فتعين الحمل على الاستمرار وهو المطلوب. هذا.
ويمكن أن يناقش في ذلك بأن الاعتبار هل يكون بجميع السنوات من زمن
التولد إلى الممات، بحيث لا يتخلف عنها سنة، أو يكفي الأقل من ذلك؟ لا شبهة في
بطلان الأول. وأما على الثاني فيصير الموضوع مجملا من حيث المبدأ، فيحتمل أن
يكون الاعتبار بعشر سنوات مثلا قبل الحاضرة، وأن يكون بخمس ونحو ذلك، فمن
أي سنة يبتدأ السنوات المعتبرة؟
هذا مضافا إلى أن الإقامة في السنوات الماضية قد تحققت لا محالة وأما في الآتية
فلم تتحقق بعد، فكيف تعتبر في الإتمام فعلا؟! ولو قيل بكفاية قصدها بالنسبة إلى
الآتية لزم أن يكون قوله " يقيم " بمعنى نفس الإقامة بالنسبة إلى السنوات
الماضية بمعنى قصدها بالنسبة إلى السنوات الآتية، وذلك مساوق لاستعمال اللفظ في
معنيين. ولو قيل بعدم الاعتبار بالسنوات الماضية أصلا وكفاية قصدها فقط بالنسبة
206

إلى الآتية لزم الخروج من ظهور اللفظ، إذ الفعل قد وضع لبيان تحقق نفس المادة
لا لقصدها. فتدبر.
وأما الثاني أعني حمل الحديث على ما سموه وطنا شرعيا، فغاية تقريبه أن
يقال: إن لفظ الاستيطان في أخبار المسألة وكذلك الإقامة في رواية ابن بزيع وإن
استعملا بلفظ المضارع لكن يجب القول بانسلاخهما عن الزمان، لعدم جواز حملهما
على الحال ولا الاستقبال ولا الاستمرار كما اتضح ذلك في أثناء تقريب كلام
الصدوق والمناقشة عليه، فيكون المراد منهما نفس تحقق المادة خارجا. فالمتبادر من
قوله في رواية ابن بزيع: " يقيم فيه ستة أشهر " بعد عدم جواز حمله على الاستمرار
أو الاستقبال أو الإقامة في هذا السفر هو أن تحقق الإقامة خارجا في منزل بمقدار
ستة أشهر مما يوجب الإتمام حال المرور به، ولا محالة ينطبق ذلك على ما مضى، إذ
المستقبل لم يتحقق بعد، فلعل ذلك هو وجه فتوى جل المتأخرين بكفاية الإقامة
ستة أشهر فيما مضى في ثبوت الإتمام، مع أن أغلب أخبار الباب وفتاوى القدماء من
الأصحاب وردت بلفظ المضارع.
فإن قلت: لو كان معنى الاستيطان عبارة عن نفس الإقامة لصح ما ذكرت من
وجوب حمل روايات الباب على المضي، ولكن من المحتمل أن يكون الاستيطان
عبارة عن قصد الإقامة في مكان بعنوان الاستيطان، بأن يكون الاستيطان من
العناوين القصدية التي لا تنطبق على معنوناتها إلا بالقصد كالتعظيم ونظائره، وعلى
هذا الفرض يمكن حمل أخبار المسألة على زمان الحال أيضا، فيكون المراد دوران
الإتمام مدار كون المسافر ناويا للاستيطان في هذا المنزل بحسب وضعه الفعلي وإن
كان في سفره هذا مارا به آنا ما. وبالجملة الإتمام يدور مدار كون المكان الممرور به
وطنا اتخاذيا فعلا، وهو أمر متقوم بالقصد.
قلت: كون القصد معتبرا في الاستيطان ممنوع، فإن الوطن كما عرفت سابقا
207

عبارة عن محل الإقامة والمقر الفعلي، من دون أن يؤخذ فيه قصد الوطنية أو
قصد البقاء فيه دائما، وقد عرفت تفسير الوطن والإيطان في كلمات أهل اللغة
بالإقامة. يشهد لذلك أيضا شعر رؤبة الذي حكاه عنه في الصحاح، بل واستعمال
لفظي الوطن والموطن في مرابض الغنم، إذ الظاهر عدم كونها معنى آخر للفظين، بل
الموضوع له فيهما هو محل الإقامة سواء كان للإنسان أم لغيره. بل قوله (عليه السلام) في رواية
ابن بزيغ في تفسير الاستيطان: " أن يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر " أيضا
يظهر منه أن المراد بالاستيطان نفس الإقامة، فإنه بعد ما قال الإمام (عليه السلام): " إلا أن
يكون له فيها منزل يستوطنه " سأله الراوي عن الاستيطان، فأجابه الإمام
بذلك، الظاهر أن تفسير الاستيطان هو من قوله: " يقيم "، إذ ما ذكر قبله هو بعينه ما
ذكر قبل قوله: " يستوطنه " في بادئ الأمر. فمعنى الاستيطان حينئذ هو نفس الإقامة،
وليس في الرواية اسم من القصد والنية، بل يمكن أن يقال: إن كون الاستيطان بمعنى
الإقامة كان أمرا واضحا للرواة، لكونه من المفاهيم العرفية، ولأجل ذلك علق
الحكم في الروايات الأخر على الاستيطان من غير أن يذكر له تفسير مع كونها
بصدد البيان، بل في صدر رواية ابن بزيع أيضا علق الحكم على الاستيطان بنحو
الإطلاق، بحيث لو لم يسأل الراوي عن مفهومه لم يكن الإمام (عليه السلام) مبينا له كما في سائر
الأخبار.
وبالجملة مفهوم الاستيطان مفهوم مبين عرفي وليس القصد مأخوذا فيه
قطعا، لعل سؤال ابن بزيع أيضا لم يكن عن ماهية الاستيطان وإن وقع بلفظة " ما "،
بل عن مقدار الإقامة الذي يعتبر في وجوب الإتمام بعد علمه إجمالا بكونه بمعنى
الإقامة، فالجواب بحسب الحقيقة هو قوله: " ستة أشهر ".
والحاصل أن تتبع كتب اللغة واستعمالات العرب يرشدنا إلى أن الوطن
واشتقاقاته مما لم يعتبر في مفهومها قصد العنوان أو قصد الدوام حتى يكون الوطنية
من العناوين القصدية الحاصلة بالإنشاء عن قصد، بل هو عبارة عن محل الإقامة
208

والمقر الفعلي للشخص بحسب طبعه ووضعه الفعلي، وقد أوضحنا ذلك في صدر
المبحث. نعم، ربما يتبادر بحسب عرف العجم من تلك الألفاظ مفاهيم أخر، كمسقط
الرأس ومحل إقامة الآباء والأمهات أو ما اتخذ مقرا بالقصد أو نحو ذلك، لكن
الاعتبار باللغة وعرف العرب كما لا يخفى وجهه.
وكيف كان فيمكن القول باستفادة ما نسب إلى المشهور من رواية ابن بزيع بعد
تعذر حمل المضارع فيها على الحال والاستقبال والاستمرار، فيكون الفعل فيها
منسلخا عن الزمان ويكون المراد أن إقامة ستة أشهر في موضع بفعليتها وخارجيتها
تؤثر في وجوب الإتمام بالمرور عليه، فتدبر جيدا.
وينبغي التنبيه على أمرين:
الأول: أن قوام ما سموه وطنا شرعيا بأمرين:
1 - أن يكون له في الموضع الممرور به ملك ثابت من ضيعة أو دار، بل ولو كان
نخلة واحدة كما في رواية عمار، بل اكتفى بعضهم بنصف النخلة، سواء كان الملك قابلا
للسكنى كالدار أم لا كالنخلة.
2 - أن يكون الموضع مما استوطنه ستة أشهر ولو متفرقة حال كونه مالكا فيه.
واستفادوا الشرط الأول من رواية عمار، والثاني من رواية ابن بزيع، والتعميم
لصورتي التوالي والتفرق من إطلاق قوله: " يقيم فيه ستة أشهر ".
وليس في كلامهم تقييد الإقامة بكونها بقصد الاستيطان واتخاذ المكان وطنا أو
بقصد البقاء فيه دائما، كما أن الرواية أيضا خالية عن أمثال هذه القيود. والاستيطان
المذكور فيها ليس إلا بمعنى نفس الإقامة، ولذا فسره بقوله: " يقيم ".
الثاني: لا يخفى أن المذكور في كلامهم أن مرور المسافر بالموضع الذي له فيه
ملك وقد استوطنه ستة أشهر مما يوجب الإتمام، من دون أن يطلقوا عليه لفظ الوطن
الشرعي، وإنما حدث هذا الاصطلاح على ألسنة متأخري المتأخرين، وقد عرفت أنه
209

مع قطع النظر عن رواية ابن بزيع أيضا ليس حكم انقطاع السفر دائرا مدار
صدق الوطن عرفا، بل المرور بالمقر الفعلي مما يخرج الإنسان من كونه مسافرا
حقيقة، سواء ساعد العرف واللغة على إطلاق لفظ الوطن عليه أم لا. وبالجملة
المرور بالمقر الفعلي يقطع السفر حقيقة، والمرور بالموضع الذي له فيه ملك وقد أقام
فيه ستة أشهر أيضا يقطعه حكما عند من يقول به، وليس الحكم أبدا دائرا مدار
عنوان الوطن وليس في كلمات الأصحاب أيضا اسم منه. والتعبير به وكذا
تفسيره تقسيمه إلى الشرعي والعرفي ثم الثاني إلى الأصلي والمستجد أمور حدثت
بين متأخرين المتأخرين، فتتبع.
هذا كله على فرض حمل رواية ابن بزيع على ما هو ظاهر الفقيه، أو على ما نسب
إلى المشهور.
وأما الثالث، أعنى حمل الرواية على تحديد الوطن العرفي والمقر الفعلي
للشخص بحسب طبعه كما فسرناه سابقا فغاية تقريبه أن يقال: إن روايات علي بن
يقطين والحلبي وابن بزيع كلها بصدد البيان، وقد علق وجوب الإتمام فيها على
الاستيطان والتوطن، من غير أن يتصدى الإمام (عليه السلام) بنفسه لتفسير الاستيطان، ولا
ريب أنه كان يتبادر إلى أذهان السائلين من هذا اللفظ مفهومه العرفي. فلو كان
مراده (عليه السلام) معنى آخر لكان الاكتفاء بذكر الاستيطان من غير بيان المراد منه إغراء
بالجهل، فيكشف بذلك أن المراد به مفهومه العرفي. وهذا البيان يجري حتى في رواية
ابن بزيع أيضا، حيث علق الإمام (عليه السلام) فيها الإتمام على أن يكون له في الضيعة منزل
يستوطنه، واكتفى بذلك مع كونه في مقام البيان، بحيث لو لم يسأل السائل عن مفهوم
الاستيطان لم يتعرض هو بنفسه لتفسيره كما في سائر الأخبار. ولو كان مراده (عليه السلام)
غير المفهوم العرفي لكان عليه بيانه ابتداء. واحتمال كون المفهوم الشرعي للوطن أمرا
معروفا عند السائلين بحيث لم يكن محتاجا إلى البيان في غاية الضعف.
وبالجملة تعليق الحكم في الأخبار السابقة على الاستيطان وعدم التعرض
210

لتفسيره مع كونها في مقام البيان مما يقرب إلى الذهن أن المراد به مفهومه العرفي،
يحمل قوله في رواية ابن بزيع: " يقيم فيه ستة أشهر " على الاعتياد والاستمرار بحيث
يتحقق الصدق العرفي.
فإن قلت: صدق مفهوم الوطن عرفا لا يتوقف على الإقامة في كل سنة ستة
أشهر، ولا على كون الشخص مالكا في الموضع، فما وجه التحديد بالستة
أشهر وتعليق الحكم في رواية عمار على المالكية؟
قلت: أما ذكر الستة أشهر فمن باب المثال، أو من جهة أن الغالب فيمن له وطنان
أن يقيم في كل منهما ستة أشهر من كل سنة، والمفروض في أخبار المرور بالضيعة أن
للشخص وطنا آخر غير الضيعة وقد سافر منه ومر في الأثناء إلى ضيعته، ففرض
استيطانه في الضيعة يساوق كونه ذا وطنين. والحاصل أن ظهور قوله: " ستة أشهر "
في دخالة خصوصية الستة يعارض ظهور قوله: " يستوطنه " في كون الاعتبار
بالاستيطان العرفي. وفي مقام تعارض ظهور المفسر والمفسر وإن كان مقتضى
القاعدة تقديم ظهور المفسر بالكسر لكن هذا فيما إذا لم يكن ظهور المفسر أقوى، فيما
نحن فيه ظهوره في إرادة المفهوم العرفي في غاية القوة، فيجب رفع اليد عن ظهور
المفسر بالكسر وحمله على كونه من باب المثال أو الغلبة.
وأما المالكية فمحمولة على الغلبة أيضا، حيث إن اتخاذ بلد مخصوص
وطنا واختياره من بين البلاد لذلك إنما يتحقق غالبا بسبب وجود علاقة ملكية
للشخص في هذا البلد.
هذا كله مضافا إلى أنه لما كان الوطن الأصلي لمن مر في أثناء سفره على ضيعته
غير هذا الموضع الممرور به، كما أشرنا إليه آنفا، كان تعليق الإمام (عليه السلام) حكم الإتمام
على الاستيطان في الضيعة موردا لاستبعاد السائل واستغرابه، لعدم تصوره كون
الضيعة وطنا عرفيا لهذا المسافر مع فرض كونه متوطنا في بلد آخر، ولأجل
211

ذلك سأل الإمام (عليه السلام) عن الاستيطان، فأجابه الإمام (عليه السلام) بذكر أظهر أفراد الوطن
المستجد، وهو الموضع الذي يكون للشخص فيه علاقة ملكية ويقيم فيه في كل سنة
ستة أشهر، ليكون أبلغ في دفع استغرابه واستبعاده، وإلا فالوطن العرفي يتحقق بأقل
من ذلك أيضا، إذ يمكن أن يتصور للشخص أزيد من وطنين، وإنما يتصور ذلك إذا لم
نعتبر في صدقة عرفا إقامة ستة أشهر في كل سنة.
فإن قلت: لو كان المراد من قوله (عليه السلام): " يستوطنه " مفهومه العرفي وكان هذا
متبادرا إلى ذهن السائل لم يتصد للسؤال عن الاستيطان، فيدل سؤاله عنه على
كونه عالما بثبوت الوطن الشرعي إجمالا فسأل عن حده.
قلت: لعل وجه سؤاله ما أشير إليه آنفا من استغرابه لكون الضيعة وطنا له مع
كونه متوطنا في بلد آخر، أو احتماله لأن يكون للشارع وضع جديد للاستيطان بأن
يكون الوطن بنظر الشرع أوسع مما يراد منه عرفا، ويكون جواب الإمام (عليه السلام)
متضمنا لبيان أظهر أفراد الوطن المستجد الذي هو من أفراد الوطن العرفي.
هذه غاية ما يمكن أن يقال في مقام تطبيق الأخبار على الوطن العرفي.
ما هو محط النظر في الأخبار وتقريب " الوطن الشرعي "
أقول: الظاهر أن ما ذكر لا يلائم ما هو محط النظر في هذه الأخبار سؤالا وجوابا،
واللازم في مقام الاستفادة من أخبار كل باب ملاحظة خصوصيات الأسئلة الواقعة
فيها والظروف التي صدرت فيها هذه الأخبار، ولا يخفى أن كون المرور بالمقر الفعلي
والوطن العرفي موجبا للإتمام لم يكن أمرا مبحوثا عنه في عصر الأئمة (عليهم السلام)، بل هو
أمر واضح لا ينبغي البحث عنه، لما عرفت من أن تعليق الحكم بالقصر على
السفر والضرب في الأرض يدل بنفسه على انقطاع السفر حقيقة بالمرور بالمقر الفعلي
ومحل الإقامة. فالروايات الواردة في المسألة لا ترتبط بمسألة المرور بالمقر الفعلي
الذي
212

ربما يسمى في أعصارنا بالوطن المستجد في مقابل الأصلي، بل الذي كان مبحوثا
عنه في عصرهم (عليهم السلام) كما يظهر للمتتبع هو مسألة مرور المسافر أثناء سفره بضيعة له
أو غيرها من الأملاك، فكان يفتي بعضهم ومنهم الشافعي في أحد قوليه بوجوب
الإتمام على من مر بملكه، وآخرون بوجوب القصر. ومنشأ توهم الإتمام ما قد
اختلج في أذهانهم من كون الحكمة لوجوب القصر كون السفر موجبا للمشقة
المقتضية للتسهيل، ووصول المسافر إلى محل له فيه علاقة ملكية مما يوجب زوال
بعض المشقة، فناسب الإتمام. وبالجملة كأن المار بملكه يكون برزخا بين
الحاضر والمسافر، فألحقه بعضهم بالحاضر وآخرون بالمسافر، وبعدما كانت المسألة
مبحوثا عنها بين فقهاء العامة صار أصحابنا الإمامية أيضا بصدد استفسار
الأئمة (عليهم السلام) عن حكمها، فأجابوا تارة بالإتمام، وأخرى بالقصر، وثالثة بالتفصيل بين
صورة الاستيطان وغيرها. فمفروض السائلين في الأخبار هو المسألة المبحوث عنها
بين العامة، أعني مرور المسافر أثناء سفره بضيعته أو غيرها من أملاكه، لا المقر
الفعلي الذي لا ريب في خروج المسافر بسبب المرور به من كونه مسافرا
حقيقة. الظاهر أن تفصيل الإمام (عليه السلام) بين صورة الاستيطان وغيرها أيضا إنما يكون
بعد انحفاظ أصل موضوع البحث والسؤال، فلا يمكن حمل الاستيطان في الأخبار
على الوطن العرفي بمفاده عند العجم. كيف! وإلا يلزم أن يكون الاستثناء في قوله (عليه السلام):
" إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه " بنحو الانقطاع، إذ المفروض في السؤال كما
عرفت عدم كون الضيعة وطنا عرفيا.
ومما يؤيد ما ذكرناه أن الغالب والمتعارف بين مالكي القرى والضياع عدم
إقامتهم في ضياعهم المتباعدة عن الأمصار بمقدار يصدق عليها الوطن العرفي
العجمي، بل يمرون بها لضبط المحصولات أو التنزه مثلا ولا سيما مثل ابن يقطين وابن
بزيع المتمكنين الذين كثرت ضياعهما، فيكون حمل الاستيطان في هذه
213

الأخبار على مفهومه العرفي عند العجم حملا له على الأفراد النادرة.
ويشهد لذلك أيضا أن الوطن العرفي باصطلاح العجم وصف للبلد الذي
يسكن فيه الشخص، ولا يوصف به المنزل، مع أن الاستيطان في الأخبار قد أضيف
إلى نفس المنزل، فيعلم بذلك أن المقصود في الأخبار المفصلة ليس بيان قاطعية
الوطن العرفي العجمي الذي لا ريب في قاطعيته بل لا ينبغي البحث عنها، بل
المقصود فيها بيان التفصيل في المسألة التي تداول البحث عنها بينهم مع فرض
انحفاظ موضوع البحث، والاستيطان المذكور فيها ولا سيما باعتبار إضافته إلى نفس
المنزل لا يراد به إلا السكون والإقامة، فيصير محصل الروايات أن المار بالضيعة
يجب عليه أن يقصر فيها إلا أن يكون له فيها منزل يسكنه؛ فإن المارين بضياعهم
على قسمين: قسم منهم لا يهيء لنفسه في ضيعته منزلا يسكنه إذا مر بها بل ينزل في
منازل رعاياه، وقسم منهم يهيء لنفسه في الضيعة والقرية منزلا ويعد فيه أسباب
التعيش لينزل فيه إذا مر بقريته لقضاء حوائجه من ضبط المحصولات والتنزه نحوهما
ولكنه مع ذلك لا يكون إقامته في القرية بنحو يصدق عليها أنها مقر إقامته وأنها
وطن له بمفاده عند العجم حتى يكون وصوله إلى القرية موجبا لخروجه من كونه
مسافرا عرفا. والإمام (عليه السلام) حكم بوجوب الإتمام على القسم الثاني، أعني من كان له
فيها منزل يسكنه إذا مر بها، وبين مقدار السكون الكافي في الحكم بالإتمام في رواية
ابن بزيع بكونه ستة أشهر. والتعبير وإن كان بلفظ المضارع لكن الواجب حمله على
أصل التحقق المنطبق على المضي قهرا، لما عرفت من عدم جواز الحمل على الحال أو
الاستقبال أو الاستمرار، وليس الحكم بوجوب الإتمام في المقام بسبب صيرورة
القرية وطنا عرفيا أو شرعيا، لما عرفت من أن الحكم ليس معلقا على الوطنية بل
الحكم بالإتمام هنا من باب التخصيص ويكون خروجه من أدلة القصر خروجا
تعبديا، ولا بعد في ذلك بعد ما نهض عليه الأدلة، فتدبر.
214

تنبيه وفذلكة لما سبق
قال العلامة في القواعد عند ذكر شرائط القصر: " الثالث: استمرار القصد،
فلو نوى الإقامة في الأثناء عشرة أيام أتم وإن بقي العزم، وكذا لو كان له في الأثناء
ملك قد استوطنه ستة أشهر متوالية أو متفرقة، ولا يشترط استيطان الملك بل البلد
الذي هو فيه، ولا كون الملك صالحا للسكنى بل لو كان له مزرعة أتم (إلى أن قال:)
فلو اتخذ بلدا دار إقامته كان حكمه حكم الملك. " (1)
أقول: قد ذكر الأصحاب طرا من قواطع السفر العزم على إقامة العشرة والبقاء
ثلاثين يوما مترددا. وذكر الشيخ في المبسوط في عدادها مرور المسافر أثناء سفره
بملكه الذي استوطنه ستة أشهر، وتبعه ابن إدريس وبعض آخر، إلى أن اشتهر
الإفتاء به من زمن المحقق (قده) كما عرفت. وأما ما ذكره العلامة أخيرا من كون
المرور بدار الإقامة قاطعا فلا يوجد في كلام من سبقه حتى المحقق، وليس وجه عدم
ذكر الأصحاب لذلك عدم تسليمهم لقاطعيته، بل لوضوح الحكم عندهم وغناه عن
الذكر، حيث إن كلامهم كان في حكم المسافر الضارب في الأرض، والمرور بدار
الإقامة والمقر الفعلي مما يخرج الشخص من كونه مسافرا حقيقة. وبالجملة محط نظر
الأصحاب بيان القواطع التي توجب الإتمام مع انحفاظ موضوع القصر، أعني السفر،
فعدوا منها العزم على إقامة العشرة وإقامة ثلاثين مترددا والمرور بالملك الذي
استوطنه ستة أشهر، وقاطعية الأمور الثلاثة عندهم قاطعية تعبدية لا حقيقية، ولم
يذكروا المرور بدار الإقامة التي تسمى في عرفنا بالوطن لوضوح كونه قاطعا للسفر
حقيقة وعدم انحفاظ موضوع القصر معه. ولعل ذكر العلامة له كان لبعض الشبهات
التي وقعت في زمانه كما يأتي نظيرها عن صاحب المستند. وقد عرفت أن

1 - القواعد 1 / 50.
215

الأخبار السابقة أيضا ليست بصدد بيان قاطعية الوطن العرفي، لعدم كونها مبحوثا
عنها، بل عدم قابليتها للبحث، بل هي ناظرة إلى مسألة كانت مبحوثا عنها بين العامة
في أعصار الأئمة (عليهم السلام)، وهي مسألة قاطعية المرور بالملك، فتوهم بعضهم ومنهم
الشافعي في أحد قوليه كونه قاطعا لحكم السفر من جهة أن القصر إنما شرع لدفع
مشقة السفر؛ والمسافر ما دام يضرب في الأرض أو يقيم قليلا في منزل لاستراحة
مختصرة يشق عليه الإتمام، وأما إذا وصل إلى منزل له فيه علاقة ملكية فيزول تعبه،
لكونه برزخا بين السفر والحضر، بل يقرب من الحضر غالبا إذا كان له فيه رعايا
كثيرة يدفعون عنه مشقة السفر، وقد صارت هذه المسألة معركة للآراء حتى اطلع
عليها أصحاب الأئمة (عليهم السلام) وسألوهم عنها فأجابوا تارة بالإتمام وأخرى بالقصر وثالثة
بالتفصيل بين صورة الاستيطان وغيرها، وفسر الاستيطان في رواية ابن بزيع بأن
يكون له في ضيعته منزل يقيم فيه ستة أشهر، وظاهرها وإن كان التوالي لكن أفتى
أصحابنا المتأخرون بكفاية الستة أشهر ولو متفرقة، ولعل التعميم من جهة أن
الموضوع هو الضيعة، وإقامة أرباب الضياع في ضياعهم ستة أشهر متوالية مما لا تتفق
غالبا، إذا الغالب مسافرتهم إليها في السنة مرارا، تارة لتعيين وظائف الرعايا، وأخرى
لضبط المحصولات، وثالثة للتنزه مثلا، وكل سفر منهم لا يزيد على أيام، ولكنهم مع
ذلك يختلفون: فقد لا يكون لهم فيها منزل مخصوص لورودهم فيه، وقد يكون لهم
فيها منزل أعد لذلك، فحكم الأئمة (عليهم السلام) بالتقصير في الأول وبالإتمام في الثاني إذا كان
إقامته في هذا المنزل بمقدار ستة أشهر، وقد عرفت أن الاستيطان في الروايات لا
يحمل على الوطن العرفي المصطلح عليه في أزماننا، إذ هو عنوان ينتزع عن بلد الإقامة
ولا يصح إطلاقه على المنزل، وليس في أخبارنا اسم من هذا الاصطلاح العجمي، بل
المذكور فيها عنوان الاستيطان مضافا إلى نفس المنزل، فيجب أن يراد به نفس
السكون فيه، والمضارع في الأخبار يحمل على المضي لما عرفت، والخروج من
216

حكم السفر عند المرور بهذا المنزل خروج تعبدي لا حقيقي، وبهذا البيان صار
ما نسب إلى المشهور في هذا المقام قويا، فتدبر جيدا. (1)

1 - أقول: إطلاق الوطن على البلد قد ورد في سؤال علي بن يقطين بإحدى الروايات
عنه، حيث قال " وله بالمصر دار وليس المصر وطنه " (د - مما ذكر سابقا).
ثم لا يخفى أن عمدة ما بنى عليه الأستاد (مد ظله العالي) حمل رواية ابن بزيع على الوطن
الشرعي وعدم جواز حملها على الوطن العرفي أمران: 1 - أن الاستيطان في الروايات
أضيف إلى المنزل لا البلد. 2 - أن المضارع في الأخبار لا يمكن أن يحمل على الحال ولا
الاستقبال ولا الاستمرار، فيجب أن يحمل على المضي.
أقول: لأحد أن يحمل المضارع في الأخبار على الحال ولكن بنحو من التوسعة ويقرب
الروايات بنحو تكون بصدد بيان معنى عرفي، بتقريب أن الاستيطان لما أضيف فيها إلى
المنزل يراد به نفس الإقامة والسكون، فيرادف قوله: " يستوطنه " قول العجم: " حالا
مى نشيند آنجا. " فإذا استأجر زيد لنفسه دارا وأعد فيها وسائل التعيش وأسكن فيها
زوجته وأولاده وسكن فيها بنفسه أياما ثم قيل له: " حالا كجا مى نشينى؟ " يقول في مقام
الجواب: " حالا در خانه فلان مى نشينم. " وإذا اتفق له سفر في هذا الأثناء وسئل في حال
السفر بذاك السؤال بعينه أجاب بعين هذا الجواب ويريد بذلك مسكنه الذي استقر فيه
أهله فعلا ويرجع هو أيضا إليه، ففي حال كونه في السفر أيضا استعمل بالنسبة إلى منزله
لفظة " حالا " التي هي بمعنى الحال بضرب من التوسعة ولو كان من أول استيجاره للدار إلى
زمن السؤال ستة أشهر قال في مقام الجواب: " حالا شش ماه است فلان خانه مى نشينم. "
وذلك من جهة اتصال نهاية الستة بالآن الحاضر، ولو لا ذلك لم يستعمل لفظة: " حالا " ولم
يعبر ب‍ " مى نشينم "، بل كان يقول: " مى نشستم. " وعلى هذا يصير مفاد الروايات وجوب
الإتمام إذا مر في سفره بالمنزل الذي يسكنه فعلا، أي يكون مقرا فعليا لأهله وعياله يرجع
هو أيضا إليه بعد قضاء وطره من السفر، وبمقتضى رواية ابن بزيع تقيد الروايات بما إذا كان
من بدو سكناه إلى زمن الحال ستة أشهر، وقد عرفت أن اتصال نهاية الستة بزمان الحال
مصحح لاستعمال المضارع الموضوع للحال والاستقبال، ولعل اعتبار الستة ليس من باب
التعبد، بل ليصدق على المنزل كونه مقرا فعليا له عرفا. وعلى هذا فلا يعتبر قصد الدوام، لا
يكفي إقامة الستة في المستقبل ولا الستة بنحو التفرق، ولا نسلم أن المفروض في الروايات
كون المقر الفعلي له غير هذا المكان، إذ من المحتمل أن يكون إنشاء السفر من بلد أقام فيه
عشرة أيام مثلا ومر في أثنائه بمقره الفعلي، فتدبر. ح ع - م.
217

عدم اعتبار قصد الدوام في الاستيطان
ثم إنك قد عرفت سابقا أن المرور بمحل الإقامة الفعلية مما يخرج المسافر حقيقة
من كونه مسافرا ويجعله حاضرا سواء كان وطنا أصليا أو مستجدا كما هو اصطلاح
المتأخرين، وعرفت أيضا عدم اعتبار قصد الدوام في صيرورة بلد وطنا ومقرا
للشخص، بل قد لا يضر التوقيت أيضا.
وقد يشتبه الأمر في بعض المصاديق، ومنها المجامع العلمية مثل قم
والنجف نحوهما بالنسبة إلى الطلاب المجتمعة فيها لتحصيل العلم، وربما يطول مدة
إقامة بعضهم فيها، فيهيؤون فيها لأنفسهم أسباب التعيش ووسائل الإقامة من
شراء الدار أو استيجارها وتهيئة الفروش والظروف ونحوها، فصاروا بحيث يعد
البلد مقرا فعليا لهم ويكون بقاؤهم فيه بالطبع والخروج بالقسر، ويرون الخروج منه
سفرا والوصول إليه حضورا في المقر والمسكن، مع أنهم لم يقصدوا البقاء فيه دائما بل
يغفل بعضهم عن ذلك ويقصد بعضهم الهجرة منه بعد حصول الاستغناء العلمي.
وحينئذ فهل يترتب على هذا البلد بالنسبة إليهم آثار الوطن العرفي من انقطاع
السفر حقيقة بصرف مرورهم به أو لا؟
لا يبعد القول بالانقطاع، بداهة أن مثل قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض)
الآية، لا يشمل هذا القبيل من الأشخاص بعد وصولهم إلى مقرهم. فإذا كان أحد
من طلاب النجف مثلا يسافر كل جمعة إلى كربلاء للزيارة ويعود فورا إلى
النجف يأوي مأواه ويشتغل بشغله من التحصيل والتدريس فهل يساعد العرف
على إطلاق عنوان المسافر عليه بعد ما وصل إلى النجف واستقر في مسكنه كما
يساعد على إطلاقه عليه حين الذهاب والإياب وحين كونه في كربلاء؟ لا إشكال
في عدم مساعدة العرف على ذلك بعد ما اتخذ هذا الشخص بلدة النجف ولو في مدة
218

عشرين سنة مثلا مقرا لنفسه وأهله واشترى فيه الدار وهيأ أسباب التعيش
بحيث يكون خروجه منه أمرا طارئا ويكون بحسب طبعه ووضعه الفعلي ولو إلى
زمن الفراغ من التحصيل مائلا إليه يرجع اليه متى ارتفع القواسر والطوارئ، فتدبر.
الفصل الثاني:
في بيان قاطعية الإقامة بقسميها
لا خلاف بين أصحابنا الإمامية في أن المسافر إذا عزم على إقامة عشرة أيام في
مكان زال عنه حكم السفر ووجب عليه الإتمام. وكذلك إذا بقي فيه ثلاثين يوما
مترددا أتم فيما بعدها ولو كانت صلاة واحدة، وقال أبو حنيفة: إنه إذا أزمع على إقامة
خمسة عشر يوما أتم، وقال الشافعي: إنه يتم إن نوى مقام أربعة أيام سوى يوم
دخوله وخروجه، وبه قال مالك وأحمد أيضا. وقال ربيعة: إن نوى مقام يوم
أتم، قالت عائشة: إنه متى وضع رحله أتم أي موضع كان. (1)
ثم لا يخفى أن مسألة قاطعية الإقامة بقسميها من المسائل الأصلية المتلقاة عن
الأئمة (عليهم السلام) في الجملة واستفاضت فيها الأخبار. وقد ذكرها في الوسائل في الباب
الخامس عشر. والمذكور فيه عشرون حديثا لا دلالة لثانيها فيبقى تسعة عشر:
ثمانية منها تعرضت لحكم الإقامة بقسميها، وتسعة منها مخصوصة بمسألة العزم على
إقامة العشرة، واثنان منها يختصان بمسألة إقامة الشهر. والثمانية المشتركة بين
المسألتين ترجع إلى ستة، حيث إن الثالث والثالث عشر يرجعان إلى واحدة، وكذا
الثاني عشر والسادس عشر.
فلنذكر بعض أخبار الباب وعليك بالرجوع إلى البقية:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن حماد، عن يعقوب بن

1 - راجع الخلاف 1 / 573، المسألة 326 من كتاب الصلاة؛ وبداية المجتهد 1 / 145.
219

شعيب، عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إذا عزم الرجل أن يقيم عشرا
فعليه إتمام الصلاة، وإن كان في شك لا يدري ما يقيم، فيقول: اليوم أو غدا، فليقصر
ما بينه وبين شهر، فإن أقام بذلك البلد أكثر من شهر فليتم الصلاة. " (1)
2 - ما رواه بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن أبي جعفر، عن الحسن بن محبوب،
عن أبي ولاد الحناط، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث، قال: " إن شئت فانو المقام
عشرا وأتم، وإن لم تنو المقام فقصر ما بينك وبين شهر، فإذا مضى لك شهر فأتم
الصلاة. " وتمام الحديث مذكور في الباب الثامن عشر. (2)
3 - ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن حماد بن عثمان، عن حريز،
عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قلت له: أرأيت من قدم بلدة، إلى متى ينبغي له
أن يكون مقصرا ومتى ينبغي له أن يتم؟ فقال: " إذا دخلت أرضا فأيقنت أن لك بها
مقام عشرة أيام فأتم الصلاة وإن لم تدر ما مقامك بها، تقول: غدا أخرج أو بعد غد،
فقصر ما بينك وبين أن يمضي شهر، فإذا تم لك شهر فأتم الصلاة وإن أردت أن تخرج
من ساعتك. " ورواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه؛ وعن محمد بن
يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وعن محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان
جميعا، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد الله، عن زرارة. (3)
والظاهر أن في سند الرواية سقطا فإن أحمد بن محمد بن عيسى لا يروي عن
حماد بلا واسطة.
4 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن علي بن السندي،
عن حماد، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال: سألته عن المسافر يقدم الأرض؟

1 - الوسائل 5 / 527 (= ط. أخرى 8 / 502)، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 13.
2 - المصدر السابق 5 / 525 و 532 (= ط. أخرى 8 / 499 و 508) والباب، الحديث 5؛
والباب 18 منها، الحديث 1.
3 - المصدر السابق 5 / 526 (= ط. أخرى 8 / 500)، الباب 15 منها، الحديث 9.
220

فقال: " إن حدثته نفسه أن يقيم عشرا فليتم، وإن قال: اليوم أخرج أو غدا
أخرج لا يدري، فليقصر ما بينه وبين شهر، فإن مضى شهر فليتم، ولا يتم في أقل
من عشرة إلا بمكة والمدينة وإن أقام بمكة والمدينة خمسا فليتم. " (1)
5 - ما رواه بإسناده عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي
أيوب، قال: سأل محمد بن مسلم أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا أسمع عن المسافر إن حدث
نفسه بإقامة عشرة أيام؟ قال: " فليتم الصلاة، فإن لم يدر ما يقيم، يوما أو أكثر،
فليعد ثلاثين يوما ثم ليتم وإن كان أقام يوما أو صلاة واحدة. " فقال له محمد بن
مسلم: بلغني أنك قلت خمسا؟ قال: " قد قلت ذلك. " قال أبو أيوب فقلت أنا: جعلت
فداك، يكون أقل من خمسة أيام؟ قال: " لا " ورواه الكليني أيضا عن علي بن
إبراهيم. (2)
ولا يخفى أن ذكر الثلاثين لا يوجد إلا في هذه الرواية، وأما باقي الروايات فذكر
فيها لفظ الشهر حتى في رواية محمد بن مسلم السابقة المظنون اتحادها مع هذه
الرواية. وما تضمنته الرواية من حكم الخمسة يحمل على التقية، كما قيل لقربه من
مذهب مالك والشافعي، أو على الإقامة في مكة والمدينة، كما في رواية محمد بن
مسلم السابقة عليها؛ والثابت فيهما عندنا وإن كان جواز الإتمام مطلقا لكن التعليق
على الخمسة لعله لمراعاة التقية أيضا. وكيف كان فالحكم بقاطعية إقامة الخمسة
خلاف إجماع الإمامية، فيجب طرحه أو تأويله. (3)
وقد عرفت أن قاطعية الإقامة بقسميها من الأصول المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا
بيد، وأودعها الأصحاب في كتبهم المعدة لنقل المسائل المأثورة، وتكرر منا مرارا أن
مسائل الفقه على قسمين: قسم منها أصول مأثورة عنهم (عليهم السلام) وتلقاها الأصحاب

1 - المصدر السابق 5 / 527 (= ط. أخرى 8 / 502) والباب، الحديث 16.
2 - المصدر السابق 5 / 527 (= ط. أخرى 8 / 501) والباب، الحديث 12.
3 - نعم، عن ابن الجنيد أنه اكتفى بإقامة الخمسة، فراجع المختلف / 164 (= ط. أخرى
2 / 536).
221

يدا بيد وأودعوها في كتبهم المعدة لنقلها كالمقنع والهداية والنهاية والمراسم
ونحوها، وقسم منها مسائل تفريعية استنبطها الأصحاب من تلك الأصول بإعمال
الاجتهاد والنظر، ومن هذا القبيل تشريح موضوعات الأحكام المأثورة وبيان
حدودها. ولا إشكال في وجوب الأخذ بالقسم الأول وإن لم يوجد على وفقها
رواية في الجوامع التي بأيدينا، فيكفي فيها اشتهارها بين الأصحاب فضلا عن
الإجماع. وأما القسم الثاني فلا يفيد فيها الإجماع فضلا عن الشهرة.
ومسألة قاطعية الإقامة بقسميها من قبيل القسم الأول، فلا يبقى فيها ريب وإن
لم يوجد على وفقها رواية، كيف! وقد عرفت استفاضة الروايات فيها.
وأما بيان معنى الإقامة وحدودها فمن قبيل القسم الثاني، فيجب فيه إعمال النظر
والبحث.
ولا يخفى أن المراد بالإقامة في مسألة إقامة العشرة ومسألة إقامة الشهر أمر
واحد، وما هو المعني بها في إحداهما هو المقصود في الأخرى، فما يكون العزم عليه
عشرا موجبا للإتمام يكون نفس تحققه خارجا بمقدار ثلاثين يوما أيضا موجبا
له. على هذا فتحديد الإقامة في مقام يكفي عن تحديدها في المقام الآخر.
فنقول:
تحديد الإقامة وخصوصياتها في مسائل
البحث في تحديد الإقامة وخصوصياتها ولواحقها إنما يتم بعقد مسائل:
هل تكفي الإقامة في البادية؟
المسألة الأولى: هل يجب أن تكون الإقامة في بلدة، أو قرية أو خيم متقاربة
تشبه البلدة، أو يكفي في الإتمام عزمها أو تحققها ولو كانت في بادية؟
الظاهر هو الثاني، للعلم بعدم دخالة خصوصية البلدة ونحوها، مضافا إلى إطلاق
222

بعض الأخبار. وتخصيصها بالبلدة واستفادة حكم البادية بالإجماع بلا وجه
بعد إطلاق كثير منها والعلم بعدم دخالة خصوصية البلدة المذكورة في بعضها.
هل يعتبر في الإقامة كونها في محل واحد؟
المسألة الثانية: هل الوحدة معتبرة في محل الإقامة، أو يكفي عزمها أو تحققها في
مجموع البلدتين أو البلاد المتقاربة كبغداد والكاظمين مثلا؟
لا شك في أن المستفاد من الأخبار والفتاوى اعتبار الوحدة بحيث يعد بنظر
العرف محلا واحدا. ويشهد لذلك قوله (عليه السلام) في رواية زرارة: " إذا دخلت أرضا
فأيقنت أن لك بها مقام عشرة أيام ".
اعتبار عدم قصد الخروج من البلد
المسألة الثالثة: هل الاعتبار في وحدة المحل باتصال الجدران مثلا، حتى يعتبر
فيمن أقام في البادية أن لا يتحرك في أطراف خيمته أيضا ولو قليلة، ويجوز للمقيم
في بلدة كبيرة أن يسير في جميع محلاتها وإن كانت في الكبر بحيث يصدق على من
سار من محلة منها إلى الأخرى عنوان المسافر، أو الاعتبار بالمنزل الذي سكن فيه،
فيعتبر أن لا يخرج منه سواء كان في البادية أو في البلد، أو الاعتبار بحد الترخص،
فيضر الخروج منه ولو إلى التوابع المتصلة ولا يضر السير في أطراف محل الإقامة
بلدا كان أو بادية ما لم يخرج من حد الترخص، أو الاعتبار بالبلد وتوابعه المتصلة
كالبساتين والمقابر ونحوها، أو الاعتبار بعدم الخروج من حد البلد بمقدار الأربعة
فيضر الخروج بهذا المقدار وإن لم يوجب القصر في حقه فعلا كما إذا لم يرجع ليومه
بناء على اعتباره، أو الاعتبار بعدم إيجابه للقصر فعلا فلا يضر الخروج ما لم يتحقق
السفر الموجب للقصر؟
223

في المسألة وجوه. وقد نسب إلى الفاضل الفتوني كون الاعتبار بسور البلد، (1) إلى
الشهيدين وجماعة أن الاعتبار بحد الترخص (2) ولعلهم استفادوا ذلك من الأخبار
الحاكمة بوجوب القصر بعد الخروج من حد الترخص وثبوت الإتمام على المسافر
بعد ما وصل في رجوعه إليه، بتقريب أن هذا الحكم ليس تعبدا محضا، بل من جهة
أن الخروج من البلد لا يصدق عرفا ما لم يخف عن السمع والبصر آثاره، وأن
الوصول إلى هذا الحد وصول إلى البلد عرفا. فالسائر في أطراف البلد لا يخرج من
كونه مقيما فيه ما لم يخف عنه آثاره من الجدران والأذان، فتأمل.
وكيف كان فالأقوى أن المسافر إذا خرج من البلد ومن توابعه المتصلة التي يعد
كونه فيها كونا في نفس البلد وصار بحيث لا يصدق عليه حين خروجه أنه في هذا
البلد أضر ذلك بإقامته في هذا البلد وإن تحقق منه ذلك في زمن قليل وحينئذ فإذا
كان من أول الأمر قاصدا لذلك كما هو مفروض الكلام في هذه المسألة لم يتحقق منه
الإقامة المعتبرة في انقطاع حكم السفر أصلا، وأما الخروج من المنزل إلى سائر نقاط
البلد بل إلى التوابع المتصلة به فلا يضر بصدق الإقامة قطعا.
وبعبارة أخرى: الأقوى في معنى الإقامة هو ما قويناه سابقا وعلقناه على
العروة، حيث قلنا: " إن إقامة المسافر يوما أو أياما في منزل عبارة في العرف عن
بقائه فيه متعطلا عما هو شغل المسافرين في كل يوم من طي مرحلة قصيرة أو
طويلة، لا جعله ذاك المنزل محل استراحته ونومه عند فراغه من شغل المسافرة في
يومه. " (3)

1 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 496. والفتوني هو الشيخ محمد مهدي بن محمد، من أساتيد
السيد محمد مهدى بحر العلوم " قدهما ". راجع الفوائد الرضوية / 673؛ ومعارف الرجال
3 / 79.
2 - قال في مفتاح الكرامة - 3 / 496 - الذي صرح به الشهيدان في البيان / 160 (= ط.
أخرى 266)؛ ونتائج الأفكار - والظاهر أنه المشهور - جواز التردد في حدود البلد وأطرافها
ما لم يصل إلى محل الترخص.
3 - راجع الثاني من قواطع السفر في فصل القواطع من العروة، المسألة 8. والتعليقة عند
قوله: كما إذا كان من نيته الخروج نهارا والرجوع قبل الليل.
224

وإن شئت توضيح ذلك فنقول: إنك إذا نظرت إلى وضع المسافرات التي كانت
تتحقق في زمن صدور الأخبار عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ظهر لك أنه كان من عادة
المسافرين تقسيم كل يوم وليلة وصرف مقدار منهما في الضرب في الأرض والباقي
منهما في الإقامة في مكان للاستراحة وتجديد القوى، وكان يختلف ذلك باختلاف
الفصول والمسافرين والطرق والمراكب، فكانوا في بعض الفصول يسيرون في النهار
ويقيمون في الليل، وفي بعضها بالعكس، وفي بعض بالتلفيق، وكان مقدار سير
بعضهم في مجموع اليوم والليلة ثمانية فراسخ، ومقدار سير بعضهم خمسة فراسخ أو
أربعة أو ثلاثة أو أقل حسب اختلاف الأشخاص والأحوال والطرق والمراكب ونحو
ذلك، وكان يعد بنظر العرف مجموع الضرب والإقامة الموقتة الحاصلة لتجديد
القوى سفرا. فإذا قيل لهؤلاء المسافرين: إن العزم على إقامة العشرة أو إقامة الشهر
مترددا، بحيث يقول المسافر: غدا أخرج أو بعد غد، يوجبان الإتمام كان يتبادر إلى
أذهانهم من لفظ الإقامة المعنى المقابل للسير في الأرض، وكانوا يستفيدون من كلام
الإمام (عليه السلام) أن المسافر الذي كان بحسب طبعه يسير بعضا من اليوم والليلة ويقيم
بعضا آخر إذا عرض له طارئ وقاسر خارجي فلم يتحقق منه السير في مقدار
ثلاثين يوما مثلا فصرف مجموع هذا المقدار في الإقامة لجهة من الجهات وجب على
هذا المسافر الإتمام بعد ما تحقق إقامة الشهر. وبعبارة أخرى: المتبادر إلى أذهان
العرف من لفظ إقامة الشهر ترك شغل السير والضرب في الأرض والتعطل عنه،
بحيث يصرف جميع مدة الشهر في الإقامة والبقاء في مكان، فيرادف لفظ الإقامة
قول العجم: " لنگ كردن ".
والحاصل أن المستفاد من أخبار المسألة ولا سيما بقرينة قوله: " غدا أخرج أو
بعد غد " هو أن المسافر الذي كان يتحقق منه الإقامة في كل يوم للاستراحة وتجديد
القوى إذا حصل له شاغل خارجي فألجأه إلى أن يعزم على إقامة العشرة أو طالت
225

مدة إقامته بنفسها في منزل من منازل السفر إلى أن صارت بمقدار ثلاثين يوما
وجب عليه الإتمام. وعلى هذا فينافي مفهوم الإقامة كل ما أطلق عليه السير والضرب
في الأرض مما هو شغل المسافرين في أسفارهم.
ولا يتوهم أن الاعتبار بتعطله عن إدامة السفر الذي أقام في أثنائه، فلا يضر
بالإقامة إنشاء سفر جديد إذا لم يكن بمقدار السفر الشرعي وقصر زمانه بحيث رجع
فورا.
وذلك لوضوح أن حكم القصر لم يعلق على السفر الشخصي بل على جنس
السفر، والمتبادر من الإقامة التي تقابل السفر هو التعطل عن جنس السفر والضرب
في الأرض. وعلى هذا فيضر بها الخروج ولو بمقدار فرسخين مثلا وإن رجع فورا،
بل الفرسخ الواحد أيضا يضر، إذ المعتاد بين بعض المسافرين أيضا طي فرسخ أو
فرسخين في بعض الأيام.
نعم، لا يضر بها الخروج إلى التوابع المتصلة التي يعد الكون والبقاء فيها كونا بقاء
في نفس المتبوع عرفا، وذلك كالمزارع، والبساتين، والمناظر الطبيعية الموجودة في
فناء البلد، والمشاهد، والمزارات الموجودة حوله، وإن خرج ذلك من حد الترخص
ما لم يصدق عليه الخروج من البلد الذي هو محل الإقامة، أو من الموضع الذي أقام
فيه في البادية، فلا يضر في البادية أيضا الخروج إلى حدود محل الإقامة وأطرافه ما لم
يصدق عليه عنوان السفر والضرب في الأرض. ولو فرض بلدة كبيرة بحيث صدق
على الخروج من جانب منها إلى جانب آخر عنوان المسافرة واحتاج هذا الخروج
إلى تهيئة أسباب السفر، مثل الأسفار المتحققة في خارج البلد، أضر هذا النحو من
الخروج أيضا بصدق الإقامة التي عرفت أن العجم يعبر عنها ب‍ " لنگ كردن ".
هذا ما عندنا في تعريف الإقامة.
وأما القوم فالمستفاد من كلماتهم أنهم جعلوا الإقامة عبارة عن اختيار مكان
226

مخصوص للاستراحة والبيتوتة فيه ليلا. فمن هيأ لنفسه منزلا وأعد فيه أسبابا
ليستريح فيه ويبيت فاتفق بقاؤه ثلاثين ليلة في هذا المنزل صدق على هذا الشخص
أنه أقام في هذا المنزل ثلاثين يوما وإن كان يخرج في الأيام أو في بعضها إلى ما دون
المسافة ولو بمقدار شبر مثلا لقضاء بعض الحوائج إذا كان يرجع إلى منزله ليلا
للاستراحة والبيتوتة.
ويرد عليهم أنه إذا كان الملاك في صدق عنوان الإقامة كون مكان مخصوص
محلا لاستراحته ومحطا لرحله فأي فرق بين أن يسافر في أثنائها فيما دون المسافة
الشرعية وبين أن يسافر بمقدار المسافة؟ فإذا فرضنا مسافرين وردا بلدا وجعلاه
محطا لرحلهما في مدة شهر وكان يخرج واحد منهما في كل يوم مقدار ثلاثة
فراسخ تسعة أعشار الفرسخ، والآخر إلى رأس الأربعة أو أزيد، ويرجعان معا في
الليالي إلى منزلهما فبأي ملاك يطلق المقيم على الأول دون الثاني؟
لا يقال: السفر الشرعي يوجب القصر فيقطع الإقامة.
فإنه يقال: المفروض ثبوت القصر في الثلاثين بنفس السفر الأول، وإنما الكلام في
بيان ما به يتحقق إقامة الثلاثين حتى يجب الإتمام بعد مضيها، والمفروض على
مذاقكم عدم أخذ التعطل عن المسير في مفهومها بل هي عبارة عن جعل مكان
مخصوص محلا للاستراحة والبيتوتة وإن حصل المسير في بعض الأيام أو في
جميعها وعلى هذا فلا يبقى فرق بين الخروج إلى ما دون المسافة وإلى أزيد منها ولا سيما
إذا رجع فورا.
والحاصل أن الفرق بين كلامنا وكلامهم هو أن إقامة الشهر مثلا عندنا عبارة عن
صيرورة المسافر في هذه المدة بحيث يصرف زمن سيره أيضا في الإقامة مضافا إلى
صرف زمان الإقامة فيها، فيكون الفرق بين هذا المسافر وبين غيره من المسافرين
أن غيره يصرف بعض اليوم والليلة في المسير وبعضهما في الإقامة، على اختلاف
227

أحوالهم كما عرفت، وأما هذا المسافر فيصرف جميع اليوم والليلة في الإقامة إلى
ثلاثين يوما، فلا يصدر عنه في هذه المدة مقدار السير الذي يحصل من المسافرين في
كل يوم من الفرسخ والفرسخين والأزيد.
وأما على مذاق القوم فهي عبارة عن جعل المسافر محل استراحته وبيتوتته في
مدة الثلاثين مكانا واحدا وإن حصل منه السير والضرب في الأرض في أثنائها،
فيكون الفرق بين هذا المسافر وبين غيره أن غيره يقيم في كل يوم للاستراحة في محل
غير المحل الذي أقام فيه في الأمس، وهذا المسافر يقيم في مدة الثلاثين في محل واحد
وإن اشتركا معا في حصول السفر منهما في هذه المدة، وقد عرفت أن المتبادر من
الروايات ومن إطلاق لفظ الإقامة بنظر العرف هو ما ذكرناه في تحديدها ولا سيما
بقرينة قوله: " غدا أخرج أو بعد غد "، فتدبر.
فإن قلت: سلمنا أن الإقامة عبارة عن التعطل عن شغل المسافرة رأسا لا جعل
المكان محلا للاستراحة فقط، ولكن الحكم لما كان معلقا على إقامة الشهر مثلا فما هو
المضر بصدق التعطل فيه وجود سفر من الصباح إلى المساء مثلا في أثنائه، وأما
وجود سفر قصير في زمان قصير فلا يضر بصدق التعطل في هذه المدة، لاستهلاك
زمان السفر بالنسبة إلى هذه المدة.
قلت: التمكن من طي فرسخين أو ثلاثة مثلا في مدة قصيرة بسبب الوسائل
النقلية التي بأيدينا من السيارات والطائرات لا يوجب تغيير الحكم، بل طي هذا
المقدار من المسافة إن أضر بصدق الإقامة أضر مطلقا وإن كان في ربع ساعة مثلا، إن
لم يضر بصدقها وجب الحكم بعدم الإضرار وإن طالت المدة. فالتفكيك بين طيه في
زمان قصير بالوسائل النقلية السريعة وبين طيه في زمان طويل مما لا يناسب الذوق
الفقهي.
كيف! ولو كان الأمر كذلك لزم تأسيس فقه جديد في باب صلا ة المسافر، فإن
228

مقدار المسافة الشرعية أعني الثمانية كانت في صدر الإسلام شاغلة لليوم وكان
طيها مستلزما لصرف زمان طويل وموجبا لمشقة شديدة، مع أن طيها بالوسائل
الفعلية ربما يكون في نصف ساعة من دون مشقة. فلو بني الأمر على مقتضيات
الزمان الفعلي لزم تغيير الحدود المعينة في باب السفر وتعيين المسافة بمقدار يشغل
اليوم فعلا كمأة فرسخ مثلا؛ ولا يلتزم بذلك أحد.
فيظهر بذلك أن الاعتبار في هذه الأمور ليس بما يقتضيه وضع زماننا، بل يجب
على كل أحد أن يفرض نفسه في العصر الذي صدر فيه الأخبار عن الأئمة
الأطهار (عليهم السلام)، ومن المعلوم أن طي الفرسخين مثلا في تلك الأعصار كان يتوقف على
تهيئة أسباب السفر وحمل الزاد وصرف زمان معتد به، وكان هذا المعنى عندهم
مباينا لمفهوم الإقامة التي أخذ فيها التعطل عن السفر، وإن كان طي هذا المقدار في
أعصارنا أمرا عاديا غير مستلزم لتهيئة الأسباب أو لصرف زمان معتد به.
وبالجملة في المفاهيم والتحديدات الواردة في هذا الباب، بل في جميع أبواب
الفقه، يجب أن نفرض أنفسنا في عصر صدور الأخبار؛ فما هو المتبادر بحسب وضع
ذلك العصر فهو الذي يجب أن نحمل عليه المفاهيم والتحديدات الواردة فيها، فافهم.
وقد تلخص مما ذكرناه أن المسافر إذا خرج من محل الإقامة بمقدار لم يصدق
عليه حين خروجه أنه كائن في محل إقامته أضر ذلك بإقامته في هذا المحل، سواء كان
خروجه بمقدار المسافة الشرعية أم لا، وسواء رجع لليلته أم لا، وسواء طالت مدة
الخروج أم قصرت جدا. والسر في ذلك أن الخروج بهذا المقدار بأنحائه ينافي صدق
التعطل الذي هو مفاد الإقامة. وأما الخروج بمقدار لا ينافي صدق التعطل في بلد مثلا
بأن يصدق عليه حين الخروج أيضا أنه كائن في هذا البلد كالتوابع المتصلة المعدودة
جزء فلا يضر بصدق الإقامة، سواء بلغ حد الترخص أم لا، بل وإن تجاوز عنه. نعم،
229

يمكن أن يقال: إن التوابع المتصلة المعدودة جزء من المحل تختلف سعة وضيقا
بحسب أوضاع الأزمنة والأمكنة، فإن بعض أطراف البلد يكون بحيث إذا لوحظ
بالنسبة إلى الأزمنة السالفة لكان الانتقال إليه متوقفا على تهيئة أسباب السفر ولكن
الوسائل السريعة أو جبت عده من أجزاء البلد ومن محلاته، فالملاك أن يصير بحيث
يصدق عرفا على الكائن فيه أنه كائن في هذا البلد. هذا، ولكن الالتزام بهذا المعنى
أيضا مشكل، فتدبر.
ثم إنه ربما يستدل لعدم كون الخروج من محل الإقامة مضرا بها بما رواه الشيخ
بإسناده عن حماد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من قدم قبل
التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة، وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى
منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة، وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى
منى حتى ينفر. " (1)
وبما رواه بإسناده عن صفوان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)
عن أهل مكة إذا زاروا، عليهم إتمام الصلاة؟ " قال: نعم، والمقيم بمكة إلى شهر
بمنزلتهم. " (2)
وبما رواه أيضا بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الجبار، عن
علي بن مهزيار، عن محمد بن إبراهيم الحضيني، قال: استأمرت أبا جعفر (عليه السلام) في
الإتمام والتقصير؟ قال: " إذا دخلت الحرمين فانو عشرة أيام وأتم الصلاة. " قلت: إني
أقدم مكة قبل التروية بيوم أو يومين أو ثلاثة أيام؟ قال: " أنو مقام عشرة أيام وأتم
الصلاة. " (3)

1 - الوسائل 5 / 499 (= ط. أخرى 8 / 464)، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 3.
2 - المصدر السابق 5 / 527 (= ط. أخرى 8 / 501)، الباب 15 منها، الحديث 11.
3 - المصدر السابق 5 / 546 (= ط. أخرى 8 / 528)، الباب 25 منها، الحديث 15.
230

ولا يخفى أن الاستدلال بهذه الروايات في غاية الضعف، فتدبر.
هذا كله فيما إذا كان من أول الأمر قاصدا للخروج من محل الإقامة، وأما إذا
تحققت الإقامة ثم نوى الخروج إلى ما دون المسافة فسيأتي بيان حكمه في مسألة
أخرى، فانتظر.
هل يكفي في الإقامة اليوم الملفق؟
المسألة الرابعة: هل المعتبر في اليوم في باب الإقامة بقسميها هو اليوم التام، أو
يكفي الملفق؟ فيه وجهان. ربما يقوى في النظر الوجه الأول، ولكن لا لما ذكره بعضهم
من ظهور اليوم في اليوم التام وأن النصفين من يومين لا يسمى يوما، إذ يرد عليه -
كما قيل - أن ما ذكرت وإن كان تصديقا للحقيقة إلا أنه تكذيب للعرف، حيث
يفهمون من إقامة العشرة إقامة مقدارها. بل الوجه في ذلك ما ذكرناه آنفا في بيان
معنى الإقامة، حيث عرفت أنه لما كان بناء المسافرين في تلك الأعصار على تقسيم
كل يوم وليلة وصرف مقدار منهما في المسير ومقدار منهما في الإقامة في منزل
ما للاستراحة وتجديد القوى، فلا محالة كان المنسبق إلى أذهانهم من إقامة
العشرة الشهر تعطل المسافر في هذه المدة عن شغل المسافرة بالكلية وصرفه مقدار
السير من كل يوم أيضا في التعطل والإقامة مضافا إلى صرف مقدار الإقامة فيها،
فيكون التفاوت بينه وبين غيره من المسافرين أن زمن سيره أيضا يصرف في هذه
المدة في التعطل والإقامة، بعد اشتراكه معهم في صرف زمن الإقامة فيها. وبالجملة
محط النظر في باب إقامة العشرة والشهر إنما هو حصول التعطل في ساعات السير، إلا
فساعات الإقامة باقية على حالها من كونها مصروفة فيها.
وحينئذ فإذا فرض ورود المسافر في منزل في الظهر من أول الشهر مثلا، وكان
من قصده البقاء فيه إلى ظهر اليوم الحادي عشر ثم الرحيل من هذا المنزل، لم يتحقق
231

منه قصد التعطل عن شغل المسافرة عشرة أيام، بل قصد التعطل في تسعة، فإن
يوم الورود ويوم الخروج قد صرف مقدار سير كل منهما في مصرفه أعني السير؛
وأما مقدار الإقامة منهما فهو وإن كان مصروفا في الإقامة في هذا المنزل لكنك
عرفت أن الاعتبار في صدق إقامة العشرة أو الشهر إنما يكون بحصول التعطل في
ساعات السير من هذه المدة بعد فرض كون ساعات التعطل مصروفة في مصرفها،
فالنظر إنما يكون بساعات السير لا ساعات التعطل.
والحاصل أن إقامة العشرة مثلا إنما تصدق إذا لم يصرف ساعات السير في مدة
العشرة في مصرفها، وهذا إنما يتحقق في العشرة التامة، وأما اليوم الذي وقع في
أثنائه الورود أو الخروج فقد صرف مقدار منه في السير، فلا يصدق التعطل عن
السير في هذا اليوم، ومقتضى ذلك عدم احتساب يومي الورود والخروج. هذا.
ولكن يمكن أن يقال بكفاية التلفيق أيضا مع ذلك، بتقريب أن صدق الإقامة
عشرة أيام مثلا وإن كان بلحاظ التعطل عن السير في ساعاته، لما مر من أن التعطل
في ساعات الإقامة مشترك فيه بين جميع المسافرين، لكن العرف يفرق بين ما إذا
صرفت ساعات الإقامة في مصرفها أثناء السير بحيث تخلل بينها المسير، وبين ما
إذا صرفت في مصرفها في محل إقامة العشرة بأن اتصلت الإقامة في ساعاتها
بالإقامة في ساعات السير. إذ في هذه الصورة يحتسب العرف جميعها تعطلا واحدا
يكون بدؤه أول ساعة الورود ومنتهاه آخر ساعات البقاء، فيصدق على المجموع
إقامة العشرة إذا كان بمقدارها، فافهم.
حكم الليلة الأولى والأخيرة
المسألة الخامسة: لا إشكال في دخول الليالي المتوسطة، لما عرفت من اعتبار
التوالي في الإقامة؛ وإنما الإشكال في دخول الليلة الأولى والأخيرة.
232

اختار في العروة عدم دخولهما، فاكتفى بإقامة عشرة أيام وتسع ليال. (1)
ولعل وجهه صدق اليوم عرفا على نفس النهار من دون أن يكون لليل دخل في
صدقه. (2)
نعم، في لفظ اليوم الوارد في تحديد أقل الحيض وأكثره يحتمل جدا دخول الليلة
في مفهومه، إذ الظاهر أن التحديد في باب الحيض ليس تعبدا محضا، بل هو من باب
الكشف عما يقتضيه طبيعة النساء من قذف الدم في هذه المدة، ولا ريب أن طباعهن
لا تختلف بحسب اختلاف بدؤ خروج الدم حتى يعتبر الأيام بلياليها إن كان بدؤ
الخروج أول الليل، والأيام بالليالي المتوسطة فقط إن كان بدؤه أول الفجر، بداهة أن
مدة قذف الدم لا تختلف طولا وقصرا بحسب اختلاف المبدأ.
ثم إن المعتبر في المقام هل هو يوم الصوم حتى يعتبر من الفجر أو اليوم العرفي
حتى يعتبر من طلوع الشمس؟ في المسألة وجهان. فتدبر.
حكم إقامة التابع والمكره
المسألة السادسة: لا يعتبر في العزم على إقامة العشرة أن يكون ذلك بحسب
اختياره وميله الطبيعي، فإن كان تابعا كالعبد مثلا وكان بانيا على المتابعة وعلم
عزم المتبوع على الإقامة كفى ذلك في وجوب الإتمام عليه، بل يكفي العزم الحاصل
قهرا للمكره والمجبور على الإقامة إذا علما واستيقنا بقاء الإكراه والجبر إلى
العشرة. بالجملة الاعتبار باليقين والجزم لا بالإرادة الناشئة من الميل الطبيعي.

1 - راجع العروة الوثقى 2 / 144، فصل قواطع السفر، الثاني من القواطع، المسألة 7.
2 - لا يخفى أن مقتضى ما ذكره الأستاذ (مد ظله العالي) سابقا في بيان معنى الإقامة دخول
الليلة الأولى أيضا، إذ المنقسم إلى مقدار السير والتعطل هو مجموع النهار والليل لا بياض
النهار فقط، والمفروض أن المعتبر في إقامة العشرة صرف زمان السير من كل يوم وليلة في
الإقامة مضافا إلى صرف زمان الإقامة فيها، فتدبر. ح ع - م.
233

حكم إقامة الصبي
المسألة السابعة: لا يعتبر في عزم الإقامة كونه مكلفا حين العزم، فلو عزم عليها
قبل البلوغ ثم بلغ الأثناء يتم وإن لم يعزم بعد البلوغ على إقامة العشرة من حينه. مثله
المجنون إذا تحقق منه العزم. ووجه ذلك واضح.
هل يعتبر العزم على العنوان أو الواقع؟
المسألة الثامنة: هل يعتبر في العزم على الإقامة العزم على عنوان إقامة العشرة،
أو يكفي العزم على ما هو بالحمل الشائع مصداق لها وإن لم يعلم حين العزم كونه
مصداقا لها؟
في المسألة وجهان. يظهر من صاحب العروة اختيار الثاني، حيث عنون فيها
مسألتين تتفرعان على ذلك:
الأولى: أن الزوجة والعبد إذا قصدا المقام بمقدار ما قصده الزوج
والسيد، المفروض أنهما قصدا العشرة، لا يبعد كفايته في تحقق الإقامة بالنسبة
إليهما إن لم يعلما حين القصد أن مقصد الزوج والسيد هو العشرة. نعم، قبل العلم
بذلك عليهما التقصير، ويجب عليهما التمام بعد الاطلاع. وإن لم يبق إلا يومان أو ثلاثة
فالظاهر وجوب الإعادة أو القضاء بالنسبة إلى ما مضى. وكذا الحال إذا قصدا المقام
بمقدار ما قصده رفقاؤه وكان مقصدهم العشرة. الخ.
الثانية: إذا قصد المقام إلى آخر الشهر مثلا وكان عشرة كفى وإن لم يكن عالما به
حين القصد، بل وإن كان عالما بالخلاف. الخ. (1)
واستشكل بعض المحشين في المسألة الأولى دون الثانية، مع أن الظاهر اتحادهما

1 - راجع العروة 2 / 146، فصل قواطع السفر، المسألتين 13 و 14. والمستشكل هو
آية الله العظمى السيد أبو الحسن الإصفهاني (قده).
234

بحسب المبنى والملاك، إذ الاعتبار في قصد الإقامة إن كان بقصد العنوان لزم
الحكم بعدم تحقق قصد الإقامة في كلتيهما، وإن كان بقصد ما هو مصداق لهذا العنوان
بالحمل الشائع وإن لم يعلم بانطباقه عليه لزم الحكم بالتحقق فيهما. وكيف كان
فالتفكيك بين المسألتين بلا وجه.
اللهم إلا أن يفرق بين المسألتين بأن متعلق القصد في الثانية عبارة عما هو
مصداق بالذات لإقامة العشرة، إذا الفرض تعلقه بالإقامة في زمان محدود والفرض
كونه عشرة أيام في الواقع. وبعبارة أخرى: يكون المتعلق للقصد محدودا بالحدود
الزمانية والمفروض كون الزمان عشرة في الواقع فيحصل القاطع، وهذا بخلاف
المسألة الأولى، فإن القصد فيها لم يتعلق بالإقامة في زمان محدود معين بالحدود
الزمانية، بل التحديد فيه بحدود خارجة من حقيقة الزمان كإقامة الزوج والسيد
والرفقة ونحوها، فالقصد كأنه تعلق أولا وبالذات بتبعية الزوج والسيد ونحوهما
لا بالإقامة في مقدار من الزمان، فتدبر.
ونظير هاتين المسألتين يتصور في باب قصد المسافة أيضا، فنظير المسألة الأولى
ما إذا قصدت الزوجة مثلا متابعة زوجها في طي كل ما قصده من المسافة مع كونها
جاهلة بما قصده. ونظير المسألة الثانية ما إذا قصد المسافر المسافة المعينة الواقعة بين
بلده والبلد الكذائي مع كونه جاهلا بمقدارها. وكلا البابين من واد واحد فما قيل في
هذا الباب يجب أن يقال في ذلك الباب. هذا.
ولكن المترائي من أخبار الباب أن المعتبر تعلق القصد واليقين بعنوان إقامة
العشرة، كما هو الظاهر من قوله في رواية زرارة: " إذا دخلت أرضا فأيقنت أن لك
بها مقام عشرة أيام. " وقصد البقاء بمقدار ما قصده الزوج أو إلى آخر الشهر ليس
قصدا لإقامة العشرة بل قصدا لعنوان آخر تصادف مع إقامة العشرة خارجا. بعبارة
أخرى: القصد واليقين ونحوهما من الصفات النفسانية إنما تتعلق بمفاهيم ثابتة في
الذهن متعينة فيه
235

منحازة عن غيرها، غاية الأمر أنها قد تتحد بحسب الوجود الخارجي مع
عناوين أخر، ولكن لا يصير هذا الاتحاد الخارجي سببا لتعلق القصد أو نحوه بتلك
العناوين الأخر، فقصد البقاء إلى آخر الشهر مثلا قصد لعنوان مشخص في الذهن
مباين لعنوان إقامة العشرة مفهوما وإن كان ربما يتحدان خارجا. فليس عنوان
إقامة العشرة في هذا المثال متعلقا للقصد أصلا، وإذا لم يتحقق قصد إقامة العشرة في
هذا المثال لم يتحقق في الأمثلة الأخر بطريق أولى.
فتلخص مما ذكرناه أن الواجب في باب قصد المسافة وقصد الإقامة كليهما قصد
العنوان، فتدبر.
ثم إنه بناء على ما اختاره في العروة من كفاية القصد الإجمالي كان اللازم في
الأمثلة السابقة الحكم بوجوب الاحتياط أو الفحص، بأن تسأل الزوجة مثلا عن
قصد زوجها، إذ تحتمل في بادىء الأمر أن يكون قصدها لمتابعة الزوج قصدا لإقامة
العشرة فيحصل لها العلم الإجمالي بوجوب القصر أو الإتمام ومقتضاه الاحتياط أو
الفحص. ولو لم يمكن الفحص، كما إذا قصد الإقامة إلى آخر الشهر مثلا في مفازة
لا يوجد فيها أحد يسأله عن مقداره، تعين الاحتياط. وعلى هذا فحكمه (قده)
بوجوب التقصير على الزوجة والعبد قبل العلم في غير محله، اللهم إلا أن يتمسك
باستصحاب القصر لو لم يشترط جريانه بالفحص. ثم على فرض جريانه يكون
حكمه (قده) بوجوب الإعادة أو القضاء بالنسبة إلى ما مضى بعد انكشاف الحال
مبنيا على عدم إجزاء امتثال الأمر الظاهري، فافهم.
هل يعتبر في إقامة الشهر إقامة الثلاثين؟
المسألة التاسعة: قد عرفت أن من القواطع إقامة الشهر أو ثلاثين يوما مترددا؛
وهذا إجمالا مما لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في أن الاعتبار هل يكون بمقدار الشهر
236

دائما حتى يترتب عليه كفاية مقدار تسعة وعشرين يوما وإن فرض كون ما بين
الهلالين أكثر، فإنه أقل ما يصدق عليه اسم الشهر، أو بمقدار الثلاثين دائما حتى يجب
فيما إذا أقام من الهلال إلى الهلال وكان بمقدار تسعة وعشرين يوما أن يضاف إليه
يوم آخر، أو يفصل بين ما إذا كان مقامه من أول الشهر وبين ما إذا كان من أثنائه؛
ففي الأول يكفي من الهلال إلى الهلال كيف ما كان وفي الثاني يعتبر أن يكون بمقدار
الثلاثين وإن فرض كون هذا الشهر الذي ورد في أثنائه تسعة وعشرين؟
في المسألة وجوه. وأما احتمال أن يكون لخصوص الهلال دخل في ذلك حتى يقال
بأن المعتبر في حق من ورد أثناء الشهر إقامة خمسة وأربعين يوما مثلا فاحتمال
ضعيف وإن كان ربما يستظهر ذلك من لفظ الشهر بتقريب أن الظاهر منه الشهر التام
فلا يكفي الملفق.
ولا يخفى أن المذكور في جميع أخبار المسألة هو لفظ الشهر، إلا في رواية محمد بن
مسلم بأحد النقلين، حيث ذكر فيها لفظ الثلاثين. فإن المروي عن ابن مسلم في هذا
الباب روايتان كما عرفت: إحداهما ما رواه هو بنفسه، وثانيتهما ما رواه أبو أيوب
الخزاز. قال: سأل محمد بن مسلم أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا أسمع. والروايتان متقاربتان
مضمونا، والمظنون اتحادهما. والمذكور في الأولى لفظ الشهر وفي ما رواه أبو أيوب
لفظ الثلاثين.
وكيف كان ففي المسألة وجوه كما عرفت. وقد صرح العلامة في التذكرة (1)
بكون الاعتبار بالثلاثين. وما يمكن أن يستدل به لذلك وجوه:
الأول: أن لفظ الشهر الوارد في أكثر الأخبار مجمل، لتردد مفهومه بين أن يراد به
ما بين الهلالين وأن يراد به الثلاثون يوما، ورواية أبي أيوب يرفع الإجمال ويبين

1 - راجع التذكرة 1 / 190 (= ط. أخرى 4 / 389) في صلاة القصر، الشرط الثالث من
شرائط القصر.
237

المراد، فيجب الأخذ بها.
الثاني: أن الشهر مطلق له فردان، وإطلاقه وإن كان يقتضي جواز الاكتفاء
بالأقل لكن رواية أبي أيوب بمنزلة المقيد، فيجب حمل المطلق على المقيد.
الثالث: أن الغالب في الشهر كونه ثلاثين فيحمل عليه حملا للمطلق على الأفراد
الغالبة. ولأجل ذلك أيضا ينصرف إطلاق الشهر في المحاورات العرفية إلى الثلاثين.
الرابع: أن كون مبدأ ورود المسافر أول الشهر ومبدأ خروجه آخره من
الاتفاقات النادرة، فإن الغالب كون الورود في أثناء الشهر، ولا ريب أن الوظيفة
حينئذ هي الإتمام بعد عد الثلاثين قطعا، فيجب حمل الشهر في الأخبار على الثلاثين
وإلا لزم حمله على الأفراد النادرة، وبعبارة أخرى: لما لاحظ الإمام (عليه السلام) أن الغالب
ورود المسافرين في أثناء الشهر وأن الشهر يحسب عندهم من الأثناء ثلاثين يوما
قطعا صار هذا سببا لتعبيره (عليه السلام) عن الثلاثين بلفظ الشهر، فيكون الاعتبار بالثلاثين
دائما.
الخامس: وهو عمدة الوجوه أن يقال: إن الاعتبار لو كان بالشهر كيفما اتفق لزم
اختلاف مصحح الإتمام في الطول والقصر بحسب اختلاف زمان الورود، فيكون
المصحح له في بعض الأوقات تسعة وعشرين وفي بعضها ثلاثين حسب اختلاف
الأوضاع الفلكية وكيفية سير القمر ونسبته مع الشمس، مع أنه من المستبعد
اختلاف موضوع الحكم سعة وضيقا باختلاف الأوضاع الفلكية، إذ الظاهر أن
الحكم بالإتمام بعد المدة المعينة مستند إلى طول مدة الإقامة وأن طولها بمقدار
مخصوص أوجب زوال حكم السفر، فيبعد أن يختلف ذلك باختلاف الأوضاع
الفلكية ويكون في وقت طول تسعة وعشرين يوما مصححا للإتمام وفي وقت آخر
طول ثلاثين.
ولا يتوهم ورود النقض على ذلك بمثل عدة الوفاة، حيث حددت بأربعة أشهر
وعشر مع أن الملاك فيها أيضا طول المدة، إذا الظاهر أن جعلها وتشريعها إنما يكون
238

لاحترام الزوج وحفظ حريمه، ولا يخفى أن مضى الشهر بما هو شهر له موضوعية
بنظر العرف في حصول الاحترام، فلا يكون حفظ الاحترام الحاصل بمضي أربعة
أشهر وعشر بأقل عندهم مما يحصل بمضي مأة وثلاثين يوما ولو فرض نقصان
الشهور، فتأمل.
وأما التفصيل بين كون الورود في أول الشهر وكونه في الأثناء؛ فيكون الاعتبار
في الأول بما بين الهلالين كيفما كان وفي الثاني بالثلاثين فقط، فوجهه أن يقال: إن
المذكور في أخبار المسألة هو لفظ الشهر، ومفهومه مبين عند العرف، أعني ما بين
الهلالين كيفما اتفق، فيجب الأخذ به. ورواية الثلاثين لم تثبت حتى يقيد بها الأخبار
الأخر، لما عرفت من الظن باتحادها مع ما رواه محمد بن مسلم بنفسه، والمذكور فيه
لفظ الشهر، فلعل التعبير بالثلاثين كان من نفس أبي أيوب. وكان غلبة ورود
المسافرين في أثناء الشهر وكون الثلاثين أظهر فردي الشهر سببا لتعبيره بذلك، النقل
بالمعنى كان أمرا شائعا بين الرواة. أو يقال: إن الاعتبار لعله كان بالشهر كيفما كان،
ولكن صار هذه الأظهرية وتلك الغلبة سببين لتعبير الإمام (عليه السلام) عن الشهر بلفظ
الثلاثين، والقيد الوارد مورد الغالب لا يقيد به الإطلاقات، فيكون الاعتبار بالشهر
الوارد في أكثر الروايات.
هذا إذا كان الورود في أول الشهر.
وأما إذا كان في الأثناء فلا يمكن القول بدخالة ما بين الهلالين، وإلا لزم كون
الاعتبار في بعض الصور بإقامة أربعين أو خمسين مثلا، فلا محيص عن التلفيق
حينئذ، ولا ريب أن الملفق يجب أن يحسب ثلاثين.
اللهم إلا أن يقال: إن المرجع في عدد التلفيق عدد أيام شهر الورود، فلو كان
عددها تسعة وعشرين وكان الورود بعد مضى تسعة أيام حصل الشهر الملفق عرفا
بانقضاء تسعة أيام من الشهر القابل، فتدبر.
239

وبالجملة في المسألة وجوه. ولو بقي الشك فيها فمقتضى العلم الإجمالي هو
الاحتياط في اليوم الثلاثين، اللهم إلا أن يتمسك بعمومات أدلة القصر بناء على
التمسك بها في الشبهات المفهومية، وعلى فرض القول بعدم التمسك بها يرجع إلى
استصحاب حكم القصر لو قلنا بجريانه في أمثال هذا المقام، إذ لأحد أن يناقش في
ذلك بأن وجوب القصر في الأيام المتعددة ليس تكليفا واحدا، بل وجوب القصر
في كل صلاة تكليف مستقل، فليس لنا متيقن واحد شك في بقائه حتى يستصحب،
فافهم. (1)
لا يعتبر في إقامة الثلاثين مضيها بنحو الترديد
المسألة العاشرة: لا يعتبر في قاطعية إقامة الثلاثين مضيها بنحو الترديد وإن دل
عليه بعض العبائر بل ربما يستفاد أيضا من قوله (عليه السلام): " وإن لم تدر ما مقامك بها،
تقول: غدا أخرج أو بعد غد... " بل الملاك تحقق إقامة الثلاثين كيفما اتفقت إذا لم
يحصل منه العزم على إقامة العشرة، فلو بقي ثلاثين يوما مع الغفلة أو عزم على إقامة
التسعة مثلا وبعد انقضائها عزم على إقامة تسعة أخرى وهكذا إلى أن حصل منه
الإقامة بمقدار الثلاثين يوما أتم بعده وإن بقي بمقدار صلاة واحدة. وهذا واضح
لا سترة فيه. (2)

1 - وهل يجري استصحاب بقاء الشهر وعدم تحقق القاطع؟ فيه إشكال، إذ الفرض أن
الشبهة هنا مفهومية فليس الشك حقيقة شكا في بقاء وجود شيء أو عدمه، بل في أن المراد
به هذا أو ذاك ويكون على أحد المعنيين متيقن البقاء وعلى الآخر متيقن الارتفاع.
فالاستصحاب في المقام نظير استصحاب اليوم مع الشك في كون ارتفاعه باستتار القرص
أو بزوال الحمرة، وقد حقق في محله عدم جريانه. ح ع - م.
2 - ويدل عليه أيضا بعض أخبار المسألة، كقوله (عليه السلام) في رواية أبي بصير: " وإن كنت تريد
أن تقيم أقل من عشرة أيام فأفطر ما بينك وما بين شهر. " وفي رواية معاوية بن وهب: " وإن
أردت المقام دون العشرة فقصر... ". ح ع - م. راجع الوسائل 5 / 525 و 528 (= ط.
أخرى 8 / 498 و 503)، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديثين 3 و 17.
240

خروج المقيم والمار بالوطن موضوعي أو حكمي؟
المسألة الحادية عشرة: من المسائل المهمة أن خروج المقيم بقسميها وكذا
خروج من مر بوطنه الشرعي على القول به خروج حكمي أو موضوعي.
ويترتب على الأول أن وظيفتهما الإتمام في الوطن ومحل الإقامة من دون أن
يكون المرور بالوطن أو الإقامة سببا لانقطاع سفرهما، فيضم ما قبل الوطن ومحل
الإقامة بما بعدهما إذا كان المجموع بقدر المسافة وإن لم يكن كل واحد منهما منفردا
بقدرها.
ويترتب على الثاني انقطاع السفر، فيلحظ كل من الطرفين مستقلا.
ولا يخفى عدم جريان هذا النزاع في الوطن العرفي وإن توهم، إذ المرور به قاطع
للسفر حقيقة من دون احتياج إلى تعبد شرعي، لما عرفت في محله من أن
التغرب البعد عن المقر الفعلي مأخوذان في مفهوم السفر، فالمرور بالوطن العرفي يجعل
السفر سفرين حقيقة، إذ لا يصدق على الإنسان حين كونه في مقره ووطنه ولو آنا ما
عنوان المسافر إلا بنحو من العناية.
وأما البقاء ثلاثين يوما مترددا فيجري فيه النزاع. وعدم تعرض الأصحاب
له في هذه المسألة من جهة أنهم عنونوا المسألة في باب شرائط القصر لا في باب
قواطع السفر بعد تحققه، ولا يتمشى البحث عن إقامة الثلاثين في ذلك الباب.
بيان ذلك: أنك قد عرفت سابقا أن إقامة العشرة والمرور بالوطن يمكن أن
يبحث عنهما في مقامين:
الأول: في مقام تحديد السفر الموجب للقصر؛ حيث إنه يشترط في ثبوت القصر
أن يكون من أول الأمر ناويا لمسافة لا يقطعها عزم الإقامة أو المرور بالوطن. فلو
عزم على مسافة ناويا للإقامة أو المرور بالوطن في أثنائها قبل بلوغ الثمانية لم يثبت
القصر أصلا.
الثاني: في مقام بيان ما يقطع السفر ويزيل حكمه بعد تحققه.
241

والبحث في المقام الأول يرتبط بباب شرائط القصر، ولا يتمشى البحث بهذا
النحو في إقامة الثلاثين مترددا، إذ لا يعقل العزم أولا على الإقامة في الأثناء مترددا.
وحيث إن الأصحاب عنونوا المسألة في المقام الأول اقتصروا فيها على ذكر الوطن
وإقامة العشرة، ولم يذكروا إقامة الثلاثين مترددا، وإلا فملاك البحث في القواطع
الثلاث واحد. فما عن المحقق البغدادي (1) من الفرق بين إقامة الثلاثين وبين
شقيقيه القول بكون القاطعية في إقامة الثلاثين حكمية فقط معتذرا بعدم ذكر
الأصحاب لها في قواطع السفر، في غير محله.
وكيف كان فمحط النظر في هذه المسألة هو أن قاطعية الأمور المذكورة قاطعية
حكمية فقط حتى يترتب عليها وجوب القصر في الطرفين إذا كان مجموعهما بقدر
المسافة، أو موضوعية حتى يترتب عليها انقطاع السفر الذي هو الموضوع
للقصر يلحظ كل من الطرفين مستقلا.
واعلم أنه وإن ادعى بعضهم الإجماع أو عدم الخلاف (2) في كون الخروج
موضوعيا لكن الإجماع في مثل هذه المسألة غير مفيد، لعدم كونها من المسائل
المأثورة والمتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا بيد، بل هي من المسائل التفريعية
الاستنباطية. (3)
نعم، أصل ثبوت الإتمام في الوطن ومحل الإقامة بقسميها من المسائل الأصلية

1 - حكاه عنه في الجواهر 14 / 243، في الشرط الثالث من شروط القصر. والمراد به
ظاهرا هو المحقق المقدس، السيد محسن بن الحسن الأعرجي الكاظمي البغدادي المتوفى
1227 ه‍. ق. راجع أعيان الشيعة 9 / 46، ويأتي ذكره في ص 295، الهامش 2.
2 - راجع الرياض 4 / 415، في الشرط الثاني من شروط القصر؛ والمدارك 4 / 441، في
الشرط الثالث منها.
3 - قد مر توضيح ذلك في أوائل البحث عن صلاة الجمعة، فراجع. (ص 18 وما بعدها).
242

المتلقاة عنهم (عليهم السلام)، ولأجل ذلك لم يتعرض الشيخ (قده) لمسألتنا هذه في كتاب
نهايته الذي ألفه على طريقة القدماء من أصحابنا لنقل خصوص المسائل الأصلية
المتلقاة عنهم (عليهم السلام)، وتعرض لها في مبسوطه (1) الذي ألفه على طريقة المتأخرين من
خلط التفريعات الاستنباطية بالأصول المتلقاة. نعم، ببالي أن ابن البراج أيضا
تعرض للمسألة في المهذب. (2)
وكيف كان فالمسألة من التفريعات التي يجب فيها إعمال الاجتهاد. ولا يخفى أن
إثبات القاطعية الموضوعية لا يخلو عن إشكال، ولذا استشكل فيها بعض
المتأخرين، منهم صاحب المستند، بل أراد (قده) في المستند ثم نشرع في تحقيق
المسألة.
قال في المستند ما حاصله: " أنه يشترط في شرعية التقصير أن لا يقصد
الدخول في وطن له في أثناء المسافة، ولا يعزم على إقامة العشر في موضع في أثنائها.
فلو قصد أحد الأمرين لم يجز له القصر في الطريق وكذا في نفس الوطن أو ذلك
الموضع ولا فيما بعد ذلك الموضع ما لم ينو مسافة جديدة بعده، ولا يكفي في القصر
انضمام ما بقي من المسافة بعد الانقطاع إليها قبله بلا خلاف في الجميع، كما صرح به
غير واحد، بل بالإجماع كما نقله جماعة.
واستدل له بالأخبار المستفيضة المصرحة بانقطاع السفر بوصول أحد
الموضعين ووجوب الإتمام فيه.
وهو غير واف بتمام المدعى، لأنه لا يثبت إلا وجوب الإتمام في نفس أحد
الموضعين، أما قبله وبعده فلا.
ولذا استدل لهما بعضهم بالإجماعات المنقولة، وبأن ما دل على القصر في المسافة
يدل عليه إذا كانت المسافة سفرا واحدا وهي هنا تسار في سفرين،

1 - راجع المبسوط 1 / 137، كتاب صلاة المسافر.
2 - راجع المهذب 1 / 107، باب صلاة السفر.
243

وباستصحاب وجوب التمام الثابت في البلد في الأول وفي أحد الموضعين في
الثاني مدعيا أنه ليس في إطلاق ما دل على وجوب القصر في المسافة عموم يشمل
نحو هذه المسافة المنقطعة بالتمام في أثنائها لاختصاصه بحكم التبادر بغيرها.
أقول: يضعف الأول بعدم حجية الإجماع المنقول. والثاني بمنع تعدد السفر عرفا،
فإنه لاوجه لكون المسافة المتخللة في أثنائها إقامة تسعة أيام ونصف سفرا
واحدا إقامة عشرة أيام سفرين عرفا. وكذا لا يفرق العرف بين ما إذا مر بمنزله الذي
يتوطنه، لاسيما إذا مر راكبا، لاسيما عن حواليه، وبين ما إذا لم يمر. والثالث بعدم إمكان
منع شمول أكثر أخبار التقصير لمثل ذلك بل الظاهر شمول الأكثر. وتسليم شمولها
للمقيم في الأثناء تسعة أيام ومنعه للمقيم عشرة لاوجه له. " (1)
وقال في مصباح الفقيه بعد نقل عبارة المستند ما محصله: " أن هذا البيان
لا يجري في الوطن العرفي، إذ السفر بحسب اللغة والعرف ضد الحضر، والغيبوبة عن
الوطن مأخوذة في مفهومه، فهو ما دام فيه لا يندرج في قوله تعالى: (ومن كان
مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر). والمرور به يجعل السفر سفرين حقيقة. (إلى
أن قال:) وأما الوطن الشرعي إن سلمناه فهو بمنزلته تعبدا. وأما إقامة العشرة فهو
أيضا كذلك، كما يدل عليه صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " من قدم قبل
التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة، وهو بمنزلة أهل مكة، فإذا خرج إلى
منى وجب عليه التقصير، فإذا زار البيت أتم الصلاة، وعليه إتمام الصلاة إذا رجع إلى
منى حتى ينفر. " ويؤيده أيضا صحيحة صفوان، عن إسحاق بن عمار، قال: سألت
أبا الحسن (عليه السلام) عن أهل مكة إذا زاروا، عليهم إتمام الصلاة؟ قال: " نعم، والمقيم بمكة
إلى شهر بمنزلتهم. " ولعل اعتبار الإقامة إلى شهر في تنزيله منزلتهم في هذا الحكم
عدم الاقتصار بقدومه قبل التروية بعشرة أيام كما في الصحيحة الأولى بلحاظ

1 - مستند الشيعة 1 / 564، في الشرط الثالث من شروط القصر.
244

اشتراطه بإقامة جديدة بعد انصرافهم للزيارة ". (1)
أقول: ما هو المهم في المقام ملاحظة أن أخبار الإقامة والمرور بالضيعة هل تكون
بصدد بيان ما هو الوظيفة في الموضع فقط، أو بصدد بيان قاطعيتهما للسفر؟ وأن
أخبار المسافة هل تشمل بإطلاقها لمثل هذه المسافة التي تخلل بينها الحكم بوجوب
الإتمام أولا؟ ولو فرض إطلاقها لمثل هذه المسافة فلا يكفي مثل روايتي زرارة إسحاق
بن عمار لتقييدها.
فالكلام يقع في مقامين: الأول في أن أخبار المسافة هل تشمل بإطلاقها
للمسافة التي تخلل في أثنائها إقامة العشرة أو الشهر أو المرور بالضيعة، أولا؟ وأنهما
يوجبان الإتمام في الموضع فقط، أو يوجبان انقطاع السفر ولو تعبدا؟
الثاني في أنه على فرض شمول أخبار المسافة لمثل هذه المسافة فلا تصلح
الروايتان لتقييدها.
أما المقام الأول فملخص الكلام فيه أن محط النظر في أخبار الإقامة ونحوها هو
بيان انقطاع السفر موضوعا، بحيث يصير الطرفان سفرين ولو تعبدا، فلا يشمل
الأخبار الواردة في تحديد المسافة لهذه المسافة التي تخلل في أثنائها أحد
القواطع. الاطلاع على ذلك يتوقف على التتبع العميق والإحاطة بالظروف التي
صدر فيها أخبار المسافة وروايات باب الإقامة ونحوها، والاطلاع على الأمور
المركوزة في أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من جهة أنسهم بفتاوى فقهاء العامة وما كان
مبحوثا عنه بينهم. وقد عرفت منا مرارا أن الاطلاع على مثل هذه الأمور له دخل
تام في استنباط الأحكام الشرعية من الروايات الصادرة عنهم (عليهم السلام) الملقاة إلى
أصحابهم.
وتفصيل المقام هو أن حكم القصر في الآية الشريفة والروايات قد علق على
السفر والضرب في الأرض، فمحط النظر فيها بيان حكم من يسير فيها، ولكن لما

1 - مصباح الفقيه / 735 (كتاب الصلاة) في الشرط الثالث من شروط القصر.
والحديثان قد مضيا عن الوسائل 5 / 499 و 527 (= ط. أخرى 8 / 464 و 501)، الباب 3
من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3؛ والباب 15 منها، الحديث 11.
245

كان المتعارف في الأسفار تخلل وقوفات يسيرة في أثنائها لتجديد القوى الاستراحة
صارت هذه الوقوفات المتخللة بين كل سفر بمنزلة الجزء له عرفا وكان الحكم الثابت
للسفر ثابتا لها أيضا بنظر العرف.
هذا إذا كانت مدة تلك الوقوفات قصيرة وكان المقصود بها تجديد القوى لإدامة
السير فقط، وأما إذا طالت مدة الوقوف فلا يتبادر إلى أذهان العرف كونه جزء من
السفر وكون حكم السفر مترتبا عليه، بحيث لو لم يكن أخبار الإقامة أيضا لم يفهم
المخاطبون بآية القصر ثبوت حكم القصر بالنسبة إلى هذا القسم من الوقوفات
الطويلة وكان ثبوته بالنسبة إليها مستبعدا عندهم، لعدم عدهم إياها من أجزاء
السفر.
ولأجل هذا المعنى تشتت آراء أهل الرأي في تلك الأعصار في بيان حد الوقوف
الذي ينصرف عنه إطلاق آية القصر ورواياته، وحده كل منهم بحد مخصوص
بحسب مناسبة خاصة. فعن عائشة أنها قالت بثبوت القصر للمسافر ما لم يحط رحله
عن مركبه، وحده الشافعي بأربعة أيام سوى يومي الورود والخروج، وأبو حنيفة
بخمسة عشر يوما (1). وبالجملة كل منهم بعد استبعاد بقاء حكم السفر عند طول
مدة الوقوف اتخذ في بيان حده مشربا خاصا، وكان هذا المقدار من الوقوف بنظرهم
قاطعا للسفر وموجبا لزوال اسمه، بحيث يتوقف ثبوت القصر على إنشاء سفر جديد
حتى يصير به ثانيا مصداقا للآية الشريفة.
فهذا المعنى كان مركوزا في أذهان الفقهاء المعاصرين لأئمتنا (عليهم السلام)، وكان أصحابنا
الإمامية أيضا ينسبق إلى أذهانهم هذا المعنى ولا سيما بعد اختلاطهم بهؤلاء الفقهاء،
ولكنهم لما كانوا متعبدين بفتاوى الأئمة (عليهم السلام) راجعوهم وسألوهم عن حد الإقامة
التي شأنها قطع موضوع السفر بعد كون أصل هذا المعنى مركوزا في

1 - راجع التذكرة 1 / 190 (= ط. أخرى 4 / 383)، في الشرط الثالث من شروط
القصر، المسألة 630؛ والمغني 2 / 132.
246

أذهانهم، ففصل الأئمة (عليهم السلام) بين صورة العزم وعدمه، من جهة أن العزم يوجب
فراغ خاطر المسافر وانصرافه عن الضرب في الأرض بالكلية، بحيث ينشئ بعد
مضي مدة إقامته سفرا جديدا. وهذا بخلاف المتردد، فإنه لتردده وقوله: " غدا أخرج
أو بعد غد " كأنه لم يخرج بعد من كونه مسافرا إلا إذا طال مدة وقوفه جدا. وبعد
ما بين الأئمة (عليهم السلام) هذا المعنى انسبق إلى أذهان السائلين انقطاع السفر السابق بالكلية
بعد بلوغ مده الوقوف إلى هذا المقدار الذي ذكره الإمام (عليه السلام)، إذ كان أصل هذا المعنى،
أعني كون مقدار من الوقوف بحيث يوجب قطع السفر السابق، مركوزا في أذهانهم،
وسؤالهم كان عن حده بعد كون أصله مفروغا عنه.
فبهذا البيان ربما يقطع الفقيه المتتبع المطلع على ارتكازات المخاطبين وعلى
الظروف التي صدرت فيها الأخبار أن مقصود الأئمة (عليهم السلام) كان بيان حد الإقامة التي
توجب قطع السفر السابق وزوال حكمه بالكلية. وعلى هذا يصير كل من طرفي
الإقامة موضوعا مستقلا لأخبار المسافة ولا ينضم اللاحق إلى السابق، فافهم اغتنم.
وأما المقام الثاني فملخص الكلام فيه أنه لو سلم عدم دلالة أخبار الإقامة على
انقطاع السفر وشمول روايات المسافة أيضا لمثل هذه المسافة التي تخلل في أثنائها
الإقامة ونحوها فلا محيص عن الأخذ بمفادها والقول بثبوت القصر في
الطرفين، لا يكفي روايتا زرارة وإسحاق بن عمار المذكورتان في كلام الهمداني (قده)
لتقييدها.
أما رواية زرارة فلأنه إن أريد إثبات ذلك منها بسبب تفريعه (عليه السلام) ثبوت
التقصير في سفر عرفات على كون المقيم بمكة بمنزلة أهلها، ففيه: أن هذا التفريع
لا يمكن أن يؤخذ بظاهره، بداهة عدم تفرع القصر في سفر عرفات على كون المقيم
بمنزلة الأهل وكون الإقامة قاطعة للسفر موضوعا، إذ القصر ثابت في سفر عرفات
على أي حال، سواء كان المقيم بمكة بمنزلة أهلها أم لم يكن، غاية الأمر أنه على الأول
يستند إلى
247

نفس السفر إلى عرفات ذهابا وإيابا، وعلى الثاني يستند إلى السفر الامتدادي
كما لا يخفى. فلعل التفريع في الحديث بلحاظ الحكم بالإتمام بعد الرجوع إلى مكة
لزيارة البيت وبعد الرجوع إلى منى، وإنما ذكر السفر إلى عرفات توطئة لبيان حكم
الرجوع. هذا إذا سلم كون سفر عرفات بقدر المسافة، وأما إذا لم نسلم ذلك أو قلنا
باعتبار الرجوع ليومه في السفر التلفيقي فالرواية على خلاف مطلوب المستدل أدل،
لدلالتها حينئذ على عدم قاطعية الإقامة وانضمام الطرفين كما لا يخفى.
وإن أريد إثبات ذلك منها بعموم المنزلة الذي يستفاد من الحديث، حيث يشمل
حكم القاطعية أيضا، ففيه: أن عموم المنزلة في المقام غير معمول به، إذ مقتضاه كون
الرجوع إلى محل الإقامة موجبا للإتمام بلا احتياج إلى إقامة جديدة، كما هو المستفاد
أيضا من التفريع الثاني في الحديث، وهذا مما لم يفت به أحد. وإذا صارت فقرة من
الحديث غير معمول بها سقطت عن الحجية رأسا، إذ عمدة الدليل عليها بناء العقلاء
وليس بناؤهم على التبعيض في الحجية.
وبهذا البيان أيضا يظهر الإشكال في الاستدلال برواية إسحاق بن
عمار. لا يخفى أن كلام الهمداني (قده) بعد نقل هذه الرواية كلام مجمل لم يتحصل لنا
منه معنى محصل، فتدبر. (1)

1 - أقول: ليس في رواية إسحاق بن عمار كون إقامة الشهر قبل سفر عرفات، فلعل المراد
منها أن من رجع من عرفات إذا أقام بمكة شهرا صار بمنزلة أهلها في وجوب الإتمام عليه
ما دام فيها. ووجه الاقتصار على ذكر إقامة الشهر دون العزم على إقامة العشرة أن من قدم
قبل التروية بعشرة فهو يعزم على الإقامة غالبا لندرة خروجه قبلها، وهذا بخلاف من أتم
أعمال الحج، فإن العزم على الإقامة لا يتمشى منه غالبا، حيث إنه يقصد العود إلى وطنه،
فإن حصلت منه الإقامة حينئذ كانت بلا قصد. ويظهر من عبارة الهمداني (قده) أيضا أنه
حمل الإقامة في الحديث على الإقامة بعد أعمال الحج، ولا يخفى أن الرواية على ما ذكرناه في
معناها تصير معمولا بها، غاية الأمر أنه يجب أن يراد بالزيارة فيها الطواف الواقع بعد
أعمال منى، أو يقال بعدم إضرار الخروج إلى منى في صدق الإقامة بمكة، فافهم. ح ع - م.
248

إذا عزم على الإقامة ثم بدا له أن لا يقيم
المسألة الثانية عشرة: إذا عزم على إقامة العشرة ثم بداله أن لا يقيم فمقتضى
صحيحة أبي ولاد أنه يجب عليه الإتمام ما لم يخرج إن كان صلى قبل البداء فريضة
بتمام وإلا رجع إلى القصر.
واللازم أولا تحقيق ما يقتضيه أدلة قاطعية الإقامة مع قطع النظر عن صحيحة
أبي ولاد، ثم الرجوع إلى بيان مفادها.
فنقول: هل يكون مفاد أخبار الإقامة قاطعية اليقين بإقامة العشرة، أو قاطعية
العزم عليها وإن لم يوجد يقين؟
وعلى الأول فلا مجال لتوهم كون اليقين طريقيا، إذ عليه يرجع الأمر إلى كون
القاطع نفس إقامة العشرة، مع أن قاطعية نفس الإقامة تتوقف على انتهائها إلى
ثلاثين، فيتعين كون اليقين تمام الموضوع أو جزء منه.
وأما على الثاني فهل الموجب للإتمام بالنسبة إلى جميع الصلوات هو نفس تحقق
العزم آنا ما، سواء تحقق في وقت الصلاة أم لا، وسواء بقي أم زال فورا؛ فبتحققه آنا
ما يجب الإتمام ما لم يحصل الخروج، أو هو خصوص العزم الباقي إلى وقت تعلق
التكليف بصلاة تامة مثلا، سواء زال بعده أم لا، وسواء صلاها معه أم لا، أو
خصوص العزم الباقي إلى هذا الوقت مع الإتيان بصلاة تامة معه وإن زال بعده، أو
المصحح للإتمام بالنسبة إلى كل صلاة هو خصوص العزم الباقي إلى آخر العشرة،
بحيث يكون بقاء العزم في الأزمنة اللاحقة أيضا دخيلا في صحة الصلوات السابقة
بنحو الشرط المتأخر، أو المصحح للإتمام بالنسبة إلى كل صلاة هو بقاء العزم إلى زمن
التكليف بها وامتثاله، سواء زال بعده أم لا؛ فلا يضر زواله بالنسبة إلى الصلوات
السابقة وإن أزال حكم الإتمام بالنسبة إلى اللاحقة؟
249

في المسألة وجوه. ولا يخفى أن كلا منها محتمل، وإن كان الأظهر من وجوه العزم
هو الوجه الأخير، لأن تعليق الحكم على موضوع ربما يستظهر منه بقاؤه ببقائه زواله
بزواله بحيث يدور الحكم معه حدوثا وبقاء.
فإن قلت: مقتضى توقف الإتمام في كل صلاة على تحقق العزم حينها أن يكون
المسافر في وقت كل صلاة عازما على إقامة العشرة، فإنها الموضوع للإتمام، مع أنه في
اليوم التاسع مثلا لا يعزم إلا على إقامة يوم واحد متمم للعشرة السابقة.
قلت: لا نريد بتوقف الإتمام في كل صلاة على العزم حينها توقفه على عزم
مستقل حادث، بل المراد أن العزم الأول بحدوثه علة للإتمام في أول العشرة، وببقائه
في وقت كل صلاة علة للإتمام في هذه الصلاة. فالشرط للصلوات اللاحقة هو نفس
الوجودات البقائية للعزم الأول. وبعبارة أخرى: العزم على متمم العشرة المقصودة
أولا، لا العزم على عشرة تامة سوى الأولى.
وبالجملة لولا صحيحة أبي ولاد لتمشى في المسألة وجوه، وأظهرها الأخير،
ولكن بعد ورودها يتعين العمل على وفقها، لكونها صحيحة معمولا بها بين
الأصحاب. نعم، ربما يقع النزاع في التعدي عن مضمونها. فلنذكرها ثم نشرح
مفادها، فنقول:
روى الشيخ بإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن الحسن بن محبوب، عن أبي
ولاد الحناط، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت نويت حين دخلت المدينة أن
أقيم بها عشرة أيام فأتم الصلاة، ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها، فما ترى لي أتم أم أقصر؟
فقال: " إن كنت حين دخلت المدينة صليت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك
أن تقصر حتى تخرج منها، وإن كنت حين دخلتها على نيتك التمام (المقام - خ ل) فلم
تصل فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال
بالخيار؛ إن شئت فانو المقام عشرا وأتم، وإن لم تنو المقام فقصر ما بينك وبين
250

شهر، فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة. " ورواه الصدوق أيضا بإسناده عن أبي ولاد. (1)
ولا يخفى أن الظاهر من تقابل القصر والإتمام في الحديث كون المراد من قوله (عليه السلام):
" فريضة واحدة بتمام " الرباعية التامة، في مقابل المقصورة، لا الفريضة التامة
الأجزاء في مقابل الفاسدة. فمفاد الرواية هو أن نفس تحقق العزم آنا ما لا يكفي في
ثبوت الإتمام ما لم يخرج، بل الذي يوجب ذلك هو العزم الباقي إلى حين الإتيان
برباعية تامة، وهذا مما لا إشكال فيه.
إنما الكلام في أنه هل يقتصر على مورد الرواية، وهو الصلاة الفريضة التامة، أو
يتعدى عنها إلى كل ما يتوقف صحته على انقطاع السفر كالصوم والنافلة التي
لا تشرع في السفر؟
فيه وجهان. من رجوعه إلى القياس، ومن أن المتبادر من الرواية أن المصحح
للإتمام هو العزم الذي ترتب عليه الأثر المترقب منه إجمالا من ثبوت أحكام الحضر
بشرط أن يترتب عليه الامتثال ولو دفعة واحدة. وذكر الصلاة من باب المثال.
فبإلقاء الخصوصية يتعدى منها إلى كل ما يكون وزانه وزان الصلاة الرباعية في كون
صحته متوقفة على انقطاع السفر.
وبعبارة أخرى: المترائي من سؤال أبي ولاد أن دخول في المدينة لم يكن في
شهر رمضان، فلم يكن مبتلى إلا بالصلاة، ولذا قال: " أن أقيم بها عشرة أيام فأتم
الصلاة "، فأجابه الإمام (عليه السلام) في مورد سؤاله بأن الشرط في بقاء حكم العزم هو تأثيره
في الجملة، وحيث إن محل ابتلاء السائل ومورد سؤاله كان حكم الصلاة اقتصر
الإمام (عليه السلام) على ذكرها، وإلا فالمستفاد من الجواب بمقتضى إلقاء الخصوصية عرفا هو
أن الملاك في بقاء حكم العزم ليس بقاء العزم إلى آخر العشرة ولا وجوه آنا ما، بل

1 - الوسائل 5 / 532 (= ط. أخرى 8 / 508)، الباب 18 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 1؛ عن التهذيب 3 / 221 (= ط. الحجرية 1 / 185)، أبواب الزيادات من كتاب
الصلاة، باب الصلاة في السفر.
251

تأثيره ولو مرة واحدة فيما يتوقف صحته عليه.
وبهذا البيان يدفع ما ربما يتوهم من أن إطلاق الفقرة الثانية من الحديث، أعني
قوله: " وإن كنت حين دخلتها على نيتك التمام فلم تصل فيها صلاة فريضة واحدة
بتمام... "، ينفي جواز التعدي عن الصلاة الفريضة.
ووجه الدفع هو ما أشرنا إليه من أن سؤال أبي ولاد سؤال شخصي، ويظهر من
سؤاله عدم ابتلائه بالصوم وإلا لذكره أيضا. فجواب الإمام (عليه السلام) في كلتا الفقرتين
أيضا ناظر إلى مورد السؤال وليس بصدد بيان النفي بالنسبة إلى الصوم والنافلة. هذا.
ولكن مساعدة العرف على إلقاء خصوصية الصلاتية والتعدي عنها مشكلة
جدا بعد احتمال دخالتها في الحكم. فالمرجع ما يقتضيه القواعد، فإن رجحنا من
الوجوه السابقة كفاية العزم الباقي إلى أن يؤثر ولو مرة واحدة في أي تكليف كان
كان مقتضاه كفاية الصوم ونحوه أيضا، وإلا كان المرجع إطلاقات أدلة القصر، لعدم
خروج المسافر بصرف العزم من كونه مسافرا حقيقة. ولو أبيت عن ذلك أيضا كان
اللازم هو الاحتياط بالجمع.
وربما يقال أن مفهوم لفظ الفريضة المذكورة في الحديث يدل على عدم كفاية
النافلة.
ويرد عليه أيضا ما عرفت من أن القضية شخصية، فلعل ابتلاء أبي ولاد كان
بخصوص الفريضة. فالحديث ناظر سؤالا وجوابا إلى بيان حكم الفريضة، من دون
نظر إلى نفي النافلة، فتدبر. (1)
هل الرباعية القضائية تكفي في استقرار حكم العزم؟
المسألة الثالثة عشرة: هل الرباعية الموجبة لاستقرار حكم العزم يجب أن
تكون أدائية، أو تكفي القضائية أيضا؟

1 - سيأتي في المسألة الرابعة عشرة ما يرتبط بهذه المسألة، فانتظر.
252

لا يخفى أن ظاهر صحيحة أبي ولاد وما ينصرف إليه إطلاقها هو اعتبار كون
الإتيان بالرباعية مستندا إلى العزم، بحيث لولاه أتى بها قصرا.
وبعبارة أخرى: ظاهرها كما عرفت هو أن المصحح للإتمام بالنسبة إلى
الصلوات الآتية العزم المؤثر فعلا في إيجاب الإتمام مع ترتب الامتثال عليه، وعلى
هذا فإذا كانت القضائية قضاء لرباعية فاتت منه في وطنه مثلا لم تكف فيما نحن فيه،
إذ الإتمام فيها ليس من آثار العزم الفعلي، ولذا يتمها وإن لم يعزم أصلا، لكون القضاء
تابعا للأداء.
نعم، إن عزم من أول وقت الصلاة على الإقامة وبقي العزم إلى آخر وقتها بحيث
استقر وجوب الإتمام عليه ولكن لم يأت بهذه الصلاة في وقتها ثم قضاها خارج
الوقت ثم زال عزمه فيمكن أن يقال إن الإتمام في هذه الصلاة مستند إلى العزم، إذ
العزم الثابت في الوقت صار سببا لاستقرار وجوب الإتمام الموجب للقضاء تماما.
فالعزم قد أثر في إيجاب الإتمام وترتب عليه الامتثال أيضا، ومقتضى ما ذكر كفايته
في بقاء حكم العزم ما لم يخرج. هذا.
ولكن التحقيق عدم كفاية ذلك أيضا لا لمجرد الانصراف، كما ادعي (1) بل لأن
الظاهر من الحديث لزوم كون الإتمام مستندا إلى العزم بلا واسطة، بحيث يصدق أنه
يتم لكونه عازما على الإقامة، والرباعية القضائية ليست كذلك، إذ بعد استقرار
وجوب الإتمام في الوقت يجب قضاؤها تماما، سواء بقي عزمه أم لا، بل ولو أتى بها في
حال السير والسفر.
وبالجملة المتبادر من الرواية أن الموضوع لبقاء حكم الإتمام ليس نفس بقاء
العزم إلى زمن تأثيره في الوجوب، بل الموضوع صدور الصلاة تماما من المكلف
مستندا في عمله هذا إلى العزم، بحيث لو لم يكن عازما كان يقصر؛ والفريضة

1 - راجع كتاب الصلاة لآية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري (قده) ص 637،
الفرع الثاني.
253

القضائية ليست كذلك، إذ بعد استقرار وجوب الإتمام يجب القضاء تماما ولو في
حال السفر.
وبعبارة أخرى: إما أن يقال بكفاية استقرار الإتمام عليه ولو لم يمتثل، كما حكاه
في الجواهر (1) عن غير واحد من الأصحاب، وإما أن يقال باعتبار صدور العمل عنه
مستندا في عمله هذا إلى العزم، كما هو المتبادر من الحديث. وأما القول باعتبار
صدور العمل خارجا ولو قضاء فلا مجال له، إذ الإتيان بالقضاء تماما ليس مستندا
إلى العزم، ولذا يتمها ولو أتى بها في السفر، والمتبادر من الحديث كون الإتمام مستندا
إلى العزم والنية.
هل البداء كاشف أو ناقل؟
المسألة الرابعة عشرة: إذا عزم على الإقامة ثم بداله قبل أن يأتي برباعية تماما،
فهل يكون البداء كاشفا أو ناقلا؟ وبعبارة أوضح: هل البداء يكشف عن عدم تحقق
موضوع الإتمام من أول الأمر، أو يوجب تبدل الموضوع من حينه؟
فيه وجهان. ظاهر أخبار العزم هو الثاني، بداهة ظهورها في أن صرف تحقق
العزم يكفي في جواز ترتيب آثار الحضور وإجزاء ما يرتب عليه.
ويتفرع على ذلك فروع: منها: صحة النوافل غير المشروعة في السفر إذا أتى بها
بعد العزم ثم بداله قبل أن يأتي برباعية تامة. ومنها: صحة الصوم إذا صام ثم بداله
قبل أن يأتي برباعية عمدا أو لطروء النوم أو النسيان أو نحو ذلك. ومنها: وجوب
الإتيان بالقضاء تماما إذا مضى عليه الوقت عازما ولم يصل ثم بداله، إذ القضاء تابع
للأداء ومقتضى النقل كونه في الوقت مكلفا بالإتمام.
وربما يستدل على النقل أيضا - مضافا إلى ما استظهرناه من أخبار العزم - بأن

1 - راجع الجواهر 14 / 324، ذيل الشرط السادس من شروط القصر.
254

الكشف يستلزم المحال.
بيان ذلك أنك إن سلمت بأن وجود العزم خارجا يكفي في ترتب آثار الحضور
فهو، وإن أبيت ذلك وقلت إن الموضوع لتلك الآثار هو العزم الباقي إلى أن يترتب
عليه الإتيان برباعية تامة - بتقريب أن هذا هو مقتضى الجمع بين أخبار العزم على
الإقامة وبين صحيحة أبي ولاد؛ فعدم الإتيان بالرباعية مع زوال العزم يكشف عن
عدم تحقق الموضوع من أول الأمر - لزم من ذلك كون وجوب الإتمام في الرباعية
الأولى أيضا مشروطا بتحققها في الخارج تماما، وهو فاسد بالبداهة لا لبطلان
الشرط المتأخر، فإن بطلانه غير واضح، حيث إن المعتبر في الشرط هو التقدم طبعا
لا زمانا، بل لأن شرط الوجوب متقدم عليه طبعا، والإتيان بالواجب متأخر عن
الوجوب كذلك، فلا يعقل جعل الإتيان بالواجب شرطا لوجوب نفسه. وبعبارة
أخرى: شرط الوجوب ما جعل مفروض الوجود في رتبة سابقة عليه، والواجب ما
أريد بسبب الوجوب التحريك نحوه حتى يوجد، فلا محالة يتأخر عن الوجوب
طبعا، فلو جعل الواجب بوجوده شرطا لوجوبه لزم تقدم الشيء على نفسه طبعا هو
محال.
فبهذا البيان يظهر بطلان الكشف في المقام وصحة الأعمال المأتي بها قبل
البداء ووجوب القضاء أيضا تماما إذا فات منه الصلاة التامة حال عزمه. نعم، بالنسبة
إلى ما بعد البداء يكون الإتيان بالرباعية دخيلا في ترتب آثار الحضور، فالرباعية
الأولى شرط لاستقرار حكم الإتمام بالنسبة إلى الصلوات الآتية لا بالنسبة إلى
نفسها، فتدبر.
وبهذا البيان أيضا ربما يقرب كفاية الإتيان بصوم تام أو بنافلة تامة من نوافل
الرباعيات في استقرار حكم الإتمام وإن بداله، بتقريب أن صحتهما تكشف عن
صحة إقامته وانقطاع سفره بها، لما عرفت من أن الإقامة قاطعة لموضوع السفر
فيكون عوده إلى التقصير متوقفا على سفر جديد، والرجوع عن العزم ليس سفرا،
255

اللهم إلا أن يفرق بين العزم على إقامة العشرة مع تحققها خارجا وبين ما إذا عزم
عليها وصلى رباعية مثلا ثم بداله، فيقال إن الأول قاطع لموضوع السفر دون الثاني،
إذ ما ذكرناه سابقا في بيان كون الإقامة قاطعة لموضوع السفر هو أن حقيقة السفر
عبارة عن الضرب في الأرض، غاية الأمر أن الوقوفات المتخللة اليسيرة أيضا تعد
من أجزاء السفر عرفا، ولكن الإقامة إذا طالت مدتها وخرجت من كونها فانية في
جنب المدة المصروفة في السير لا يساعد العرف على عدها من أجزاء السفر، لأجل
هذا الارتكاز تشتت آراء أهل الرأي في تحديد الإقامة الموجبة لانقطاع
السفر وتمييزها مما يعد جزء منه، فاختار كل منهم مذهبا، وأصحابنا الإمامية بعد كون
هذا المعنى مركوزا في أذهانهم وأنسهم بفتاوى أهل الرأي سألوا الأئمة عليهم السلام
عن تحديدها، فأجابوهم بالتفصيل بين صورة العزم وغيرها، وقد تبادر إلى أذهان
السائلين من تلك الأجوبة انقطاع السفر بهما موضوعا، حيث إن أصل قاطعية
الإقامة للسفر كانت مفروغا عنها عندهم وإنما كان نظرهم في الأسئلة إلى استفسار
مقدارها. وكيف كان فالتحديد في الأخبار وقع بالعشرة وبالثلاثين، فلا يجري هذا
البيان في مثل ما إذا عزم على إقامة العشرة ثم بداله، فإن العرف لا يستبعد كون هذا
المقدار من الإقامة جزء من السفر بل يساعد على عدها جزء منه، فلا ينسبق من
صحيحة أبي ولاد الحاكمة بترتب آثار الإقامة التامة عليها أزيد من القاطعية
الحكمية، فلا يكون العود إلى التقصير متوقفا على إنشاء سفر جديد. (1)
وبالجملة مقتضى ظواهر أخبار العزم على الإقامة كون الحكم بالإتمام دائرا
مداره حدوثا وبقاء، خرج من ذلك صورة الإتيان برباعية تامة، كما يقتضيه
صحيحة أبي ولاد، ولا دليل على إلحاق غيرها بها، فيقتصر عليها، فتدبر.

1 - لا يخفى أن مقتضى هذا البيان انضمام الطرفين في هذه الصورة ووجوب القصر فيهما إن
لم يكن كل واحد منهما بقدر المسافة، والالتزام به مشكل. ح ع - م.
256

حكم خروج المقيم إلى دون المسافة
المسألة الخامسة عشرة: من المسائل التي استصعبها القوم وتشاجروا فيها
مسألة خروج المقيم إلى ما دون المسافة بعد ما تحقق منه الإقامة، أو ما بحكمها كما إذا
عزم عليها وأتى برباعية تامة ثم بداله. فإذا خرج من تحقق منه الإقامة أو ما بحكمها
إلى ما دون المسافة ثم رجع إلى محل الإقامة فإن كان حين الخروج عازما على
الرجوع وإقامة جديدة أتم ذاهبا وعائدا وفي المقصد بلا إشكال (1) إلا على القول
بكون الإقامة قاطعة حكما فقط وقد مر إبطاله، وأما إذا كان حين الخروج من محل
الإقامة عازما على الرجوع إليه، من دون أن يكون عازما على إقامة جديدة بل كان
ناويا للعود إلى وطنه مثلا، فعن الشيخ ومتابعيه (2) وجوب القصر بصرف الخروج
ذاهبا وعائدا وفي المقصد وفي محل الإقامة وبعد الخروج منه ثانيا إلى أن يصل إلى
وطنه مثلا، وعن الشهيد الأول ومتابعيه (3) متابعة الشيخ في العود ومحل الإقامة
دون الذهاب فحكموا فيه بالإتمام. وأما حكم المقصد فلم يصرح به في كلام الشهيد،
ولكن يمكن أن يقال: إن الالتزام بثبوت الإتمام في الذهاب يقتضي الالتزام بثبوته في
المقصد بطريق أولى، إذ القصر يدور مدار تحقق السفر خارجا، والمفروض عدم
كفاية المسافة الذهابية في ذلك، والكون في المقصد أيضا ليس بنفسه سفرا، فيتوقف
القصر على الشروع في العود.

1 - قال في مفتاح الكرامة 3 / 589: " قد حكى على الإتمام في الحالات الثلاثة الإجماع في
" الروض " / 399؛ و " المقاصد العلية "؛ وعليه عامة الأصحاب كما في " الغرية ". وفي
" كشف الالتباس " أنه لا شك ولا خلاف فيه. وفي " مجمع البرهان " 3 / 440 أن دليله
واضح لا إشكال فيه. "
2 - يأتي نقل كلام الشيخ. وراجع المهذب - للقاضي ابن البراج - 1 / 109؛ والسرائر
1 / 345؛ والمنتهى 1 / 398، الفرع العاشر.
3 - راجع البيان / 160 (= ط. أخرى / 266)؛ وجامع المقاصد 2 / 515؛ وغيرهما مما هو
مذكور في مفتاح الكرامة 3 / 595.
257

وكيف كان فالظاهر تسالم الفقهاء طرا من عصر الشيخ (قده) إلى عصر الشهيد
الثاني (قده) على ثبوت القصر في العود ومحل الإقامة مطلقا، وإنما وقع النزاع بينهم
في حكم الذهاب والمقصد، فحكم الشيخ ومتابعوه بضمهما إلى العود وثبوت القصر
فيهما أيضا، والشهيد الأول ومتابعوه بعدم ضمهما إليه. وبالجملة كانت المسألة ذات
قولين فقط إلى عصر الشهيد الثاني، ومن عصره حدث قولان آخران يكون كل
منهما تفصيلا بين صور الإياب بعد اختيار الإتمام في الذهاب والمقصد: أحدهما ما
اختاره الشهيد، وثانيهما ما اختاره كثير من متأخري المتأخرين، وسيجئ
تفصيلهما. هذا.
ولكن يجب أن يعلم أن المسألة مع هذا التسالم المشار إليه ليست من المسائل
الأصلية المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا بيد؛ بل هي من المسائل التفريعية المستنبطة منها
بإعمال الاجتهاد والنظر، ولذا لم تذكر في الكتب المعدة لنقل خصوص المسائل الأصلية
المأثورة، كالمقنعة والمقنع والهداية والنهاية وأمثالها؛ وأول من تعرض لها هو الشيخ
(قده) في مبسوطه الذي صرح بكونه موضوعا لذكر المسائل التفريعية استنباطها من
الأصول المتلقاة رغما لأنوف المخالفين وإعلاما لهم بقدرة الخاصة على استخراج الفروع
من دون احتياج إلى العمل بالقياس والاستحسان نظائرهما. وقد مر منا مرارا أن
الإجماع - فضلا عن الشهرة - ليس عندنا حجة في المسائل التفريعية المستخرجة بإعمال
النظر، وإنما الذي نعتمد عليه هو الإجماع بل الشهرة المتحققان في المسائل الأصلية
المودعة في الكتب المعدة لنقل خصوص المسائل المأثورة المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا
بيد. (1) وعلى هذا فانتظار إتمام مسألتنا هذه بالإجماع أو الشهرة في غير محله. ولو فرض
تحقق الاتفاق أيضا في المسألة على ثبوت القصر في العود مطلقا لم يكن ذلك من الإجماع
المصطلح عليه الكاشف عن قول المعصوم (عليه السلام).
فاللازم إتمام المسألة على طبق ما يقتضيه القواعد. ولنذكر أولا كلام الشيخ في
المبسوط ثم نعقبه ببيان ما هو الحق في المقام:

1 - إن شئت تفصيل المقام فارجع إلى أوائل البحث عن صلاة الجمعة. (ص 18 وما
بعدها).
258

قال في المبسوط: " إذا خرج حاجا إلى مكة وبينه وبينها مسافة يقصر فيها
الصلاة ونوى أن يقيم بها عشرا قصر في الطريق، فإذا وصل إليها أتم. فإن خرج إلى
عرفة يريد قضاء نسكه، لا يريد مقام عشرة أيام إذا رجع إلى مكة، كان له القصر
لأنه نقض مقامه لسفر بينه وبين بلده يقصر في مثله. وإن كان يريد إذا قضى نسكه
مقام عشرة أيام بمكة أتم بمنى وعرفة ومكة حتى يخرج من مكة مسافرا فيقصر. " (1)
أقول: لا يخفى أن حكمه (قده) بالقصر في سفر عرفات ليس لكونه بنفسه سفرا
ملفقا من الذهاب والإياب، بل لكونه سفرا بينه وبين بلده، كما صرح به. فيكون
السفر إلى عرفات عنده (قده) من أفراد ما نحن فيه. وأنت ترى أنه (قده) لم يعتن في
المسألة بصحيحة زرارة السابقة الحاكمة بكون المقيم بمكة بمنزلة أهلها مع كونها
صحيحة ولم يعتمد عليها غيره من الأصحاب أيضا، فتصير معرضا عنها، وتسقط
بذلك عن الحجية.
إذا عرفت هذا فنقول: يجب البحث عن المسألة في مقامين:
1 - في بيان حكم الذهاب والمقصد، وأن الثابت فيهما هو القصر كما عليه الشيخ
والمعظم، أو الإتمام كما عليه الشهيد الأول ومتابعوه.
2 - في بيان حكم العود، والإشارة إلى اختلافات المتأخرين فيه بعد البناء على
ثبوت الإتمام في الذهاب والمقصد.
أما المقام الأول فملخص الكلام فيه أن من خرج من محل إقامته عازما على
العود إليه بلا إقامة جديدة، صار بخروجه منه مسافرا عازما على المسافة الشرعية
بلا قاطع. إذا المفروض أنه قاصد للرجوع إلى بلده مثلا بلا إقامة جديدة في الأثناء،
والإقامة السابقة قد ارتفعت حقيقة وصار محلها بالنسبة إليه مساويا لغيره من
البلدان. وعلى هذا فمقتضى القاعدة ثبوت القصر له بمجرد خروجه إلى أن يحصل له
إحدى القواطع. هذا.

1 - المبسوط 1 / 138، كتاب صلاة المسافر.
259

ولكن حكم الشهيد الأول وجماعة أخرى بثبوت الإتمام في الذهاب والمقصد؛
وعمدة مستندهم في ذلك ما ادعوه من دلالة أخبار التلفيق وظهور الإجماع على أن
الذهاب لا يضم إلى الإياب ولا يحسب جزء من المسافة المعتبرة إلا إذا كان بمقدار
أربعة فراسخ، والمفروض في المقام كونه أقل من الأربعة.
وفي هذا الاستدلال نظر، فإن أخبار التلفيق ومعقد الإجماع على فرض ثبوته
لا تشملان المقام.
وتوضيح ذلك يتوقف على إشارة إجمالية إلى مفاد أخبار المسافة، فنقول:
قد عرفت سابقا أن أخبار المسافة ثلاث طوائف:
1 - ما تدل على أن التقصير في بريدين: ثمانية فراسخ، وظاهرها الثمانية
الامتدادية الواقعة بين المبدأ والمقصد.
2 - ما تدل على أن التقصير في بريد: أربعة فراسخ، وهي أيضا ظاهرة في
الامتدادية.
3 - ما تدل أيضا على أن التقصير في بريد، غاية الأمر أنه علل ثبوت القصر فيه
بأنه إذا رجع صار سفره بريدين: ثمانية فراسخ.
فالطائفتان الأخيرتان تشتركان في الدلالة على اعتبار كون البعد المكاني
الحاصل بالسفر أربعة فراسخ، غاية الأمر أن الثالثة تدل على أن الموجب للقصر
ليس نفس الأربعة بما هي هي، بل باعتبار صيرورتها بضم الرجوع ثمانية. فظهور
كلتا الطائفتين في اعتبار كون البعد بين المبدأ والمقصد أربعة فراسخ مما لا يزاحمه
شيء، فيجب الأخذ به. وبهذا البيان قربنا سابقا اعتبار كون الذهاب في المسافة
الملفقة بمقدار الأربعة. وإن شئت تفصيل ذلك فعليك بالمراجعة.
إذا عرفت هذا فنقول: إن المقام غير مرتبط بباب التلفيق وأخباره، فلا يعتبر
فيه ما يعتبر في التلفيق.
توضيح ذلك أن المستفاد من أخبار التلفيق هو أن خروج المسافر من مقره حضره
بمقدار الأربعة إنما يوجب القصر باعتبار أنه لا محالة يرجع إلى حضره هذا، فيصير مقدار
260

سفره ثمانية: أربعة منها مصروفة في البعد من الحضر، والبقية مصروفة في الرجوع إليه.
فمحط نظر أخبار التلفيق هو صورة عزم المسافر على مسافة لا يكون جميعها
مصروفة في البعد من الحضر، كما في الثمانية الممتدة، بل يكون بعضها مبعدا له عن
الحضر وبعضها الآخر مقربا له إلى هذا الحضر بعينه.
وأما إذا كان عازما على مسافة لا تكون كذلك، بل تكون بحيث يصير المسافر
بسبب الشروع في طيها خارجا من الحضر ويخرج الحضر أيضا من كونه حضرا
بصرف الخروج منه بحيث لا يعد الرجوع إليه بعد الخروج منه رجوعا إلى الحضر
بل يصير نسبته إلى هذا المسافر كنسبة سائر البلدان المتوسطة بين الحضرين، فهذا
النحو من المسافة ليست ملتئمة من الذهاب من الحضر والإياب إليه بنفسه، بل
تكون ممتدة واقعة بين حضرين، فلا تشملها أخبار الذهاب والإياب، بل تكون من
مصاديق المسافة الامتدادية. بداهة أن السفر في الصورة المفروضة كله ذهاب واقع
بين حضرين، ولا يخفى أن المقام من هذا القبيل.
فإذا عزم الإنسان على أن يخرج من وطنه إلى مقصد ثم يرجع إليه كان سفره هذا
ملتئما من الذهاب والإياب ومشمولا لأخبار التلفيق واعتبر فيه مضافا إلى كون
المجموع ثمانية كون الذهاب بنفسه أربعة.
وأما إذا خرج من وطنه معرضا عنه بحيث خرج من الوطنية بصرف الخروج
منه، أو خرج من محل إقامته الذي يخرج قهرا من كونه حضرا بصرف الخروج
منه كان عازما على المسافرة إلى مقصد لا يعزم أن يقيم فيه ثم المسافرة منه إلى وطن
آخر أو محل آخر يعزم على الإقامة فيه - غاية الأمر أن سفره هذا يكون بحيث
يوجب المرور إلى الوطن الذي أعرض عنه أو محل الإقامة الذي خرج قهرا من كونه
حضرا بصرف الخروج منه - فهذا الشخص يكون عازما على الخروج من حضر
إلى حضر آخر، وجميع مسافته مسافة ذهابية واقعة بين حضرين، فلا يكون سفره
هذا تلفيقيا مشمولا لأخبار التلفيق، بل يكون مشمولا للأخبار التي تدل على
ثبوت
261

القصر إذا كان الذهاب بنفسه أو الإياب بنفسه ثمانية.
فإن قلت: أخبار الثمانية ظاهرة في الامتدادية، والمسافة فيما نحن فيه ليست
امتدادية وإن لم تشملها أخبار التلفيق أيضا.
قلت: ليس معنى الامتداد هنا ما يكون بصورة الخط المستقيم أو ما يقرب منه،
فإذا فرض عزم المسافر على طي ثمانية نصفها من الجنوب إلى الشمال ونصفها من
المشرق إلى المغرب مثلا كان سفره امتداديا قطعا ويكون جميعه ذهابا. وكذا إذا
خرج من وطنه بقصد المرور على مقصد ثم الخروج منه إلى مقصد آخر وكان
يستلزم خروجه من المقصد الأول إلى الثاني القرب من حد ترخص الوطن. وكذا
إذا قصد مسافة تكون بصورة الخط المنحني وإن كان كثير الانحناء، أو نحو ذلك من
الفروض.
فالمراد بالمسافة الامتدادية ما تكون واقعة بين حضرين وما بحكمهما في مقابل ما
تكون ملتئمة من الذهاب من حضر والعود اليه بعينه.
وبالجملة لو كان لنا إجماع أو دليل دال على عنوان أن الذهاب لا ينضم إلى
الإياب إلا إذا كان أربعة لكان لما ذكره الشهيد ومتابعوه وجه، ولكن لا دليل لنا على
هذا العنوان؛ وإنما استظهرنا من أخبار التلفيق اعتبار كون الذهاب أربعة في الثمانية
الملفقة، وهي عبارة عن كون المسافة ملتئمة من الذهاب من حضر والإياب إليه، ما
نحن فيه ليس من هذا القبيل، فإن الشخص بخروجه من محل إقامته يصير مسافرا
قاصدا للثمانية، ويخرج محل إقامته أيضا من الحضرية، فليس عوده إليه عودا إلى
الحضر، ولا يخرجه المرور به من عنوان المسافرة ما لم يصل إلى المقصد النهائي الذي
توطنه أو عزم على الإقامة فيه. فمسافته هذه تكون بأجمعها مسافة ذهابية واقعة بين
محل الإقامة وبين المقصد النهائي، غاية الأمر كونها بنحو الاعوجاج.
ونظير المقام أيضا ما إذا خرج من دون العزم على الثمانية، وبعد طي ثمانية فراسخ
مثلا بنحو التردد عزم على أن يذهب فرسخين ثم يعود إلى وطنه الذي أنشأ منه
السفر مارا في عوده على المحل الذي عزم فيه، فتدبر.
262

ويمكن أن يقرب عدم شمول أخبار التلفيق للمقام وشمول أخبار الامتداد له
ببيان آخر (1)، وهو أن أخبار الثمانية الممتدة لا تدل على الثمانية بشرط لا، بل على
الثمانية لا بشرط من حيث الزيادة وعدمها. فمفادها أن السفر المشتمل على ثمانية
فراسخ امتدادية يوجب القصر. وحينئذ فإذا خرج من محل الإقامة إلى المقصد ومنه
إلى وطنه مثلا مارا فيه بمحل الإقامة، وكان بين المقصد والوطن ثمانية، ثبت حكم
القصر في الإياب قطعا كما سيأتي. والظاهر ثبوته في الذهاب والمقصد أيضا، لأن
سفره من محل الإقامة إلى المقصد ليس سفرا آخر منحازا من السفر الواقع بين
المقصد والوطن، بل هو متصل به ويكون المجموع سفرا واحدا اعوجاجيا. فهذا
الشخص من حين خروجه من محل الإقامة يصير مسافرا، ويصدق عليه هذا
العنوان ما لم يصل إلى وطنه، ولا يخرج بوصوله إلى المقصد من كونه مسافرا حتى
يصير سفره سفرين. وإذا ثبت كون المجموع سفرا واحدا، والمفروض اشتماله على
الثمانية الممتدة، ثبت فيه حكم القصر من أول السفر، إذ لا يمكن الالتزام بكون السفر
الواحد الشخصي محكوما بإيجاب القصر في بعض نقاطه دون بعض. فالظاهر أن
الحق في هذه المسألة مع الشيخ وأتباعه، فتدبر جيدا.
المقام الثاني في بيان حكم الإياب. قد عرفت أن الأصحاب إلى عصر الشهيد
الثاني (قده) كانوا متسالمين على ثبوت القصر في الإياب مطلقا، وإنما كان اختلافهم
في حكم الذهاب والمقصد، وكانت المسألة ذات قولين، ولكنه حدث من عصر
الشهيد الثاني قولان آخران في المسألة بالنسبة إلى الإياب:
الأول: ما اختاره الشهيد، حيث قال ما حاصله: أن المقصد الذي هو دون

1 - لا يخفى وجود فرق ما بين هذا التقريب والتقريب السابق بحسب النتيجة، إذ مقتضى
التقريب السابق وجوب القصر وإن لم يكن من المقصد إلى الوطن ثمانية إذا كان المجموع من
الذهاب إلى المقصد والعود منه إلى الوطن بمقدارها، وأما بناء على هذا التقريب فيعتبر في
القصر كون العود بنفسه مسافة، فتدبر. ح ع - م.
263

المسافة إن كان في الجهة المقابلة للمقصد النهائي، أعني الوطن أو ما بحكمه أو كان
قريبا منها وكان محل الإقامة واقعة بينهما بحيث يعد سفره من المقصد عودا منه إلى
الوطن وما بحكمه، وجب القصر في مجموع الإياب، وإن لم يكن كذلك، بل كان
المقصد الذي خرج إليه من محل الإقامة في طريق الوطن أو قريبا من طريقه بحيث
يصير بالخروج إلى هذا المقصد قريبا من وطنه وبالعود منه إلى محل الإقامة بعيدا
عنه، فلا يقصر حينئذ في العود إلى محل الإقامة، إذ لا يعد العود إليه في هذه الصورة
عودا إلى الوطن لكونه مبعدا عنه. (1)
ويرد عليه أن هذا التفصيل مبني على كون المراد بالامتداد ما يكون بصورة
الخط المستقيم أو ما يقرب منه، وقد عرفت فساده. فالمسافة وإن كانت اعوجاجية
بحيث يكون بعضها إلى جهة المقصود وبعضها إلى الجهة المقابلة تكون امتدادية ما لم
تلتئم من الذهاب من حضر والإياب إليه بعينه. وبالجملة أخبار الثمانية لا تختص
بخصوص ما يكون بصورة الخط المستقيم وما يقرب منه، بل تشمل جميع المسافات
الواقعة بين حضرين أو ما بحكمهما.
الثاني: ما اختاره بعض متأخري المتأخرين (2) من التفصيل بين ما إذا أعرض عن
محل الإقامة بالكلية وخرج منه برحله ومتاعه وكان مروره به ثانيا من جهة أنه منزل
من منازله في سفره الجديد، وبين ما إذا لم يعرض عنه بل كان رحله ومتاعه باقيا فيه
وله فيه بعد شأن أو شؤون، غاية الأمر أنه خرج منه إلى ما دون المسافة لغرض موقت
وبعد حصول الغرض يعود إلى محل الإقامة بما أنه مقره ومنه ينشئ السفر إلى بلده بعد
ما فرغ من شؤونه. ففي الصورة الأولى يقصر في الإياب مطلقا، أما في الثانية فلا
يقصر إلا بعد الخروج من محل الإقامة ثانيا، إذ لا يعد خروجه من محل الإقامة

1 - راجع نتائج الأفكار (المطبوعة مع جملة من رسائل الشهيد) ص 174؛ والروض /
399.
2 - راجع الجواهر 14 / 375.
264

أولا وعوده إليه جزء من سفره الذي قصد إنشاءه بعد العود إلى محل إقامته. هذا.
ويرد عليه أن ما ذكروه مبني على كون المراد بالإقامة في موضع جعله محطا
للرحل ومكانا للبيتوتة، بحيث لا يضر بصدق الإقامة فيه الخروج منه إلى ما دون
المسافة إذا كان رحله باقيا فيه ويعود فيه لنومه واستراحته، وقد عرفت سابقا
فساد ذلك وأن المراد بالإقامة هو التعطل عن شغل المسافرة بالكلية، ويعبر عنها
بالفارسية: " لنگ كردن " (1). وحينئذ فإذا خرج من محل الإقامة خرج من كونه
مقيما فيه، وصار المحل بالنسبة إليه كسائر الأمكنة الواقعة في طريق سيره، المفروض
كونه حين خروجه من محل الإقامة عازما على طي ثمانية لا يحصل بينها إحدى
القواطع، فيصير بخروجه منه خارجا من عنوان المقيم داخلا في عنوان المسافر
القاصد للثمانية فيجب عليه القصر.
فتلخص مما ذكرناه أن الظاهر ثبوت القصر في الذهاب والمقصد والإياب ومحل
الإقامة.
هذا كله إذا كان عازما على عدم إقامة جديدة في محل الإقامة أو في محل آخر
قبل بلوغ الثمانية: وأما إذا كان مترددا في ذلك أو غافلا عنه فالمسألة مبنية على أنه
هل يعتبر في ثبوت القصر كون الشخص عازما على مسافة غير مقطوعة بإحدى
القواطع، أو يكفي فيه العزم على المسافة مع عدم العزم على إحدى القواطع فلا يضر
بثبوت القصر التردد في وجود إحداها؟
وحيث لم نتعرض نحن لهذه المسألة سابقا نتعرض لها هنا، فنقول:
إذا عزم على ثمانية فراسخ، وكان يحتمل من الابتداء أن يعرض له في أثنائها العزم
على إقامة العشرة، أو البقاء ثلاثين يوما مترددا، أو المرور بالوطن بأن كان

1 - إن شئت توضيح المقام فارجع إلى المسألة الثالثة الباحثة عن حقيقة الإقامة وحكم
من يقصد من أول الأمر الخروج من محلها إلى ما دون المسافة. (ص 223 وما بعدها).
265

للمقصد طريقان يمر أحدهما به، فهل يضر ذلك بثبوت القصر أو لا؟ وجهان.
وربما يقرب الثاني بوجهين:
1 - أن هذا الشخص عازم على السفر ثمانية فراسخ وجدانا، ولا مانع عن تأثيره
في ثبوت القصر، إذ المانع عنه تحقق إحدى القواطع خارجا، حيث إن القاطعية من
آثار الوجود الخارجي لكل منها، ولا أثر للتردد في تحققها، فيجب القصر.
2 - أنه إذا عزم على الثمانية من غير احتمال لعروض القاطع ثم بعد طي أربعة منها
مثلا اتفق له شغل يحتمل لأجله البقاء ثلاثين يوما مترددا فهل يمكن القول حينئذ
بعوده إلى التمام بصرف طروء هذا الاحتمال؟ مع أن مقتضى القول بكون الاحتمال من
أول الأمر مضرا كون طروءه في الأثناء أيضا مضرا، إذ العزم كيفما كان يجب أن
يكون مستمرا إلى آخر الثمانية.
أقول: وفيما ذكر نظر، إذ الموضوع للقصر ليس مطلق العزم على الثمانية، بل العزم
على سفر واحد يكون بهذا المقدار. ومن يحتمل طروء إحدى القواطع في الأثناء وإن
كان عازما على طي الثمانية لكنه لا يعزم على طيها في سفر واحد، إذ يحتمل أن يكون
طيها في سفرين مستقلين تخلل بينهما إحدى القواطع، فليس عازما على ما هو
موضوع القصر.
والسر في ذلك هو ما ذكرناه سابقا من صيرورة القاطع ولا سيما المرور بالوطن
موجبا لانقطاع السفر اللاحق عن السابق بالكلية وصيرورتهما فردين للسفر
حقيقة أو تعبدا.
فالحق كما عليه الأكثر من مقاربي عصرنا (1) أن المعتبر في القصر هو العزم على
ثمانية غير منقطعة بإحدى القواطع، ومع الترديد لا يحصل هذا العزم، فتدبر.

1 - راجع المدارك 4 / 481؛ والذخيرة / 415؛ والعروة 2 / 151، فصل قواطع السفر،
الثاني من القواطع، الصورة الخامسة من المسألة 24.
266

الخامس: أن لا يكون السفر في معصية الله
ومن شروط القصر: أن لا يكون السفر في معصية الله. وهذا إجمالا مما لا خلاف
فيه عندنا، فإنه من المسائل الأصلية المتلقاة عن الأئمة (عليهم السلام) يدا بيد، بحيث لو لم يصل
إلينا في هذه المسألة نص ظاهر أيضا لاستكشفنا وجود النص عليها من تسالم
الأصحاب وتعرضهم لها في كتبهم المعدة لنقل المسائل المأثورة. كيف! وقد ورد فيها
نصوص مذكورة في كتب الحديث، فنذكرها:
1 - ما رواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن عمار بن
مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " من سافر قصر وأفطر، إلا أن يكون
رجلا سفره إلى صيد، أو في معصية الله أو رسولا لمن يعصي الله، أو في طلب عدو أو
شحناء أو سعاية أو ضرر على قوم من المسلمين. " ورواه الكليني عن عدة من
أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب. ورواه الشيخ بإسناده عن
الكليني (1).
2 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن
الحسين، عن الحسن، عن زرعة، عن سماعة، قال: سألته عن المسافر في كم يقصر
الصلاة؟ فقال: " في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ. ومن سافر قصر
الصلاة وأفطر، إلا أن يكون رجلا مشيعا (لسلطان جائر - الاستبصار)، أو خرج إلى
صيد أو إلى قرية له تكون مسيرة يوم يبيت إلى أهله لا يقصر ولا يفطر. " (2)

1 - الوسائل 5 / 509 (= ط. أخرى 8 / 476)، الباب 8 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 3.
2 - المصدر السابق 5 / 510 (= ط. أخرى 8 / 477) والباب، الحديث 4؛ عن التهذيب
3 / 207؛ والاستبصار 1 / 222.
267

3 - ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عيسى، عن عبد الله بن
المغيرة، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر، عن أبيه، قال: " سبعة لا يقصرون
الصلاة (إلى أن قال:) والرجل يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا، والمحارب الذي يقطع
السبيل. " ورواه أيضا بسند آخر. ورواه الصدوق أيضا. (1)
4 - ما رواه بإسناده عن الصفار، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن هلال، عن أبي
سعيد الخراساني، قال: دخل رجلان على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بخراسان فسألاه عن
التقصير؟ فقال لأحدهما: " وجب عليك التقصير، لأنك قصدتني "، وقال للآخر:
" وجب عليك التمام، لأنك قصدت السلطان. " (2)
5 - ما رواه الكليني عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، عن
حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: (فمن اضطر غير باغ ولا
عاد) قال: " الباغي: باغي الصيد، والعادي: السارق. ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا
اضطرا إليها، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما هي على المسلمين، وليس لهما أن
يقصر في الصلاة. " ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن محمد. (3)
6 - ما رواه الكليني أيضا عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن
بعض أصحابه (عن أبي عبد الله - الوسائل) قال: " لا يفطر الرجل في شهر رمضان
إلا في سبيل حق. " ورواه الصدوق أيضا مرسلا. (4)

1 - المصدر السابق 5 / 510 و 516 (= ط. أخرى 8 / 477 و 486)، الباب 8 منها،
الحديث 5، والباب 11، الحديث 9.
2 - المصدر السابق 5 / 510 (= ط. أخرى 8 / 478)، الباب 8، الحديث 6.
3 - المصدر السابق 5 / 509 (= ط. أخرى 8 / 476) والباب، الحديث 2. والآية مكررة
في القرآن، منها ما في سورة البقرة (2)، رقمها 173.
4 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 1.
268

ويمكن أن يقال بعدم ارتباط هذه الرواية بباب السفر، بل يكون مفاده أن الرجل
المسلم لا يفطر صومه الواجب إلا بسبيل حق ومجوز شرعي، فتأمل.
ولا يخفى أن إبراهيم بن هاشم كان كوفيا نزل بقم، وهو أول من نشر حديث
الكوفيين بقم. وابن أبي عمير بغدادي من وجوه الشيعة من الطبقة السادسة. ولم نجد
له حديثا يرويه عن المعصوم (عليه السلام) بلا واسطة إلا حديثا واحدا في الأمالي (1)، رواه
عن أبي إبراهيم (عليه السلام). ويحتمل عدم كون الراوي في هذا الحديث ابن أبي عمير
المعروف، إذ الإمام (عليه السلام) خاطبه بقوله: " يا أبا أحمد "، والتعبير بالكنية كان للكبار، ابن
أبي عمير المعروف كان في عصر أبي إبراهيم (عليه السلام) من الصغار. وكيف كان فروايات
ابن أبي عمير معتمد عليها عند الأصحاب وإن كانت مرسلة؛ ومنها هذه الرواية.
فهذه ست روايات في باب سفر المعصية، فلنشرع في تنقيح موضوعها وبيان
أقسامه وأحكامه: فنقول:
السفر قد يكون بنفسه معصية كما إذا تعلق النهي بعنوان متقوم بالسفر كالفرار
من الزحف وتشييع السلطان الجائر ونحوهما، وقد لا يكون بنفسه معصية ولكن
يكون المقصود منه غاية محرمة، بحيث يكون السفر في نظر هذا المسافر فانيا في هذه
الغاية المحرمة منظورا إليه بالنظر الآلي، وذلك كالسفر بقصد السرقة أو المحاربة أو
نحوهما، فإن السفر في هذه الأمثلة وإن لم يكن بنفسه محرما لكن لما كان المقصود منه
غاية محرمة وكان نظر المسافر إليه نظرا طريقيا بحيث يعد بنظر العرف شروعه فيه
شروعا في المعصية ثبت لهذا السفر أيضا حكم سفر المعصية.
فهذان قسمان لسفر المعصية.

1 - لم نظفر بالحديث في الأمالي، ولكنه موجود في " التوحيد " ص 76، باب التوحيد ونفي
التشبيه، رقمه 32. وراجع مسند الإمام الكاظم (عليه السلام) 3 / 503، كتاب الرواة عنه (عليه السلام).
269

واستفادة حكم الثاني منهما من أخبار الباب بلا إشكال إذ الأمثلة المذكورة في
رواية عمار بن مروان يلتقط منها العموم قطعا لكل ما يكون غايته محرمة، للقطع
بعدم دخالة الخصوصيات المذكورة فيها، والعموم الملتقط بنحو القطع حجة
جزما، لعل مراد القدماء من الاستقراء الذي عدوه من الأدلة أيضا هذا المعنى.
وأما القسم الأول فربما نوقش في شمول الأدلة له، كما نسب إلى الشهيد الثاني. (1)
ولكن المناقشة فيه في غير محلها، إذ يصدق عليه أيضا أنه سفر في معصية الله،
مضافا إلى أن مشيع السلطان المذكور في خبر سماعة من مصاديق هذا القسم، ومن
المقطوع فيه عدم دخالة خصوصية ذلك بل يلتقط منه العموم.
وبالجملة وجوب الإتمام فيما إذا كان السفر بنفسه محرما أو كانت غايته محرمة مما
لا ريب فيه.
وأما إذا لم يكن كذلك ولكن كان مضادا لواجب، كما إذا وجب على المكلف
حضور الجمعة أو أداء الدين أو تعلم الواجبات الشرعية فسافر، فهل يقال بوجوب
الإتمام ولو قيل بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده من جهة أن استلزامه
لترك الواجب يوجب اندراجه في المعصية عرفا وإن لم يكن بالدقة العقلية من
المحرمات الشرعية، أو يقال إن الظاهر من قوله (عليه السلام): " في معصية الله " كونه بنفسه
معصية أو واقعا في طريق المعصية بحيث يعد الشروع فيه شروعا فيها وأما إذا كان
بنفسه بما هو هو مباحا ولم يكن واقعا في طريق المعصية أيضا فلا يصدق عليه
بحسب نظر العرف " أنه في معصية الله " وإن قيل باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن
ضده بحسب الدقة العقلية، أو يقال بدوران المسألة

1 - راجع الروض / 388، (ذيل الشرط الخامس من شروط القصر).
270

مدار مسألة الضد؟ في المسألة وجوه.
والحق أن يقال: إنه إن قصد بسفره الفرار من الواجب بحيث كان الفرار منه
بمنزلة الغاية لسفره صدق على سفره أنه في معصية الله، إذ المعصية أعم من فعل
الحرام وترك الواجب، والمفروض كون ترك الواجب غاية لسفره، وأما إذا لم يقصد
بسفره ذلك بل كان ملازما لترك الواجب من باب الاتفاق فلا وجه للحكم بحرمة
سفره ووجوب الإتمام عليه، لعدم سراية حكم أحد المتلازمين إلى الآخر. ومثل
ذلك ما إذا كان السفر بحسب الاتفاق ملازما لفعل الحرام من دون أن يكون بحسب
القصد غاية له، إذ لا يصدق عليه حينئذ أنه في معصية الله تعالى.
ولو لم يكن السفر بما هو سفر محرما ولكن اتحد معه أو لازمه عنوان آخر محرم،
كما إذا كانت الجادة ملكا للغير أو كان المركوب مغصوبا أو لبس ثوبا مغصوبا أو
استصحب مال الغير بنحو يتحركان بحركته، فهل يتم أو يقصر؟ وجهان.
والتزم في الجواهر (1) بالإتمام حتى فيما إذا كان نعل دابته أو رحلها مغصوبا.
وغاية ما يمكن أن يقال في تقريبه أما في المثال الأول فهو أن نفس حركة المسافر
التي ينتزع عنها عنوان السفر تقع فيه مصداقا للتصرف في مال الغير، فيتحد عنوان
السفر والعنوان المحرم وجودا وإن تخالفا مفهوما. وأما في الأمثلة الأخر فهو أن الحركة
القائمة بنفس المسافر التي ينتزع عنها عنوان السفر وإن كانت بحسب الوجود مغايرة
للحركة القائمة بالثوب أو المركوب أو نحوهما إلا أن حركة المسافر لما كانت علة
لحركة الثوب ونحوه وكان صدورهما عن المكلف بإصدار واحد صدق على سفره
هذا بجهة انتسابه إليه أنه سفر في معصية الله، لكون إصداره بعينه إصدارا للمعصية
التي هي عبارة عن حركة الثوب أو المركوب أو نحوهما.

1 - راجع الجواهر 14 / 260، (ذيل الشرط الرابع من شروط القصر).
271

أقول: يرد على ذلك أن حركة الثوب ونحوه وإن كانت معلولة لحركة المسافر وكان
انتسابهما إليه بسبب إصدار واحد إلا أن عنوان التصرف العدواني لا ينتزع عن
حركة الثوب ونحوه بل عن تلبس الثوب ومحاطيته له سواء صدر عنه الحركة
الموجبة لحركة الثوب أم لا. وكذلك نفس ركوب الدابة ينتزع عنه كونه تصرفا فيها
من غير دخل للحركة في ذلك. وتوهم كون الحركة تصرفا زائدا على التصرف
البقائي الحاصل ببقاء الركوب أو التلبس، توهم فاسد، لاستلزامه كون المتحرك
مرتكبا لمعصيتين، وهو كما ترى.
ويرد هذا الإشكال بعينه في الجادة المغصوبة أيضا، فإن الكائن في الأرض
المغصوبة إنما ينتزع العنوان المحرم من نفس كونه فيها بوجوده البقائي بلا دخل
للحركة في ذلك. هذا.
ولكن الظاهر مع ذلك ثبوت الفرق بين هذا المثال وبين الأمثلة السابقة، من
جهة أن الكون في المثال قد وجد بنفس الحركة القائمة بنفس المسافر وتكون هي
بنفسها أيضا منشأ لانتزاع عنوان السفر، فاتحد التصرف العدواني المحرم مع عنوان
السفر وجودا، وهذا بخلاف الأمثلة السابقة، فتدبر.
والظاهر أنه لا فرق في الجادة المغصوبة بين صورة الانحصار وغيرها، وإن كان
المستفاد من حاشيتنا على العروة وجود الفرق بينهما.
ووجه الفرق أنه في صورة عدم الانحصار ليس نفس السفر محرما وإنما المحرم
فرده الخاص.
ويرد عليه أنه لا دخل لذلك في المقام، إذا الملاك اتحاد السفر وجودا مع العنوان
المحرم حتى يصير السفر بوجوده مصداقا للمعصية، وفي صورة عدم الانحصار أيضا
حيث إن المسافر باختياره للطريق المغصوب أوجد سفره بنحو اتحد مع المحرم
وجودا وهوية صار سفره هذا مصداقا لقوله (عليه السلام): " في معصية الله " وإن كان يقدر أن
272

لا يوجده كذلك.
وقد تلخص مما ذكرناه أن السفر إن كان بنفسه معصية لله تعالى أو كانت
غايته معصية وجودية كانت أو عدمية لم يوجب القصر، بخلاف ما إذا كان مقارنا
للمعصية الوجودية أو العدمية فلا يضر ذلك بثبوت القصر، فافهم. (1)
وهاهنا سبع مسائل
حكم ما إذا كان بعض السفر معصية...
الأولي: إذا سافر لغاية مباحة ثم عدل في الأثناء إلى المعصية، أو سافر لغاية
محرمة ثم عدل في الأثناء إلى الطاعة، فهل يثبت القصر في مجموع هذا السفر

1 - وجملة الأقسام المتصورة أن السفر إما أن يكون بعنوانه محرما كما إذا قال المولى لعبده:
" لا تسافر في شهر رمضان " مثلا، أو يكون المحرم عنوان متقوم بالسفر بحيث لا يوجد إلا
به ويكون السفر بمنزلة الجنس له كالفرار من الزحف وتشييع الجائر، أو يكون الغاية
المترتبة على السفر عصيانا لله وجوديا كان كفعل المحرمات في المقصد أو عدميا كترك
الواجبات إذا سافر لأجل ذلك.
فهذه أربعة أقسام. لا إشكال في الثلاثة الأول. وأما الأخير فيمكن أن يناقش فيه بأن
الأمثلة المذكورة في رواية عمار بن مروان كلها معاصي وجودية، فالتقاط العموم منها بنحو
يشمل العدميات مشكل. ويرد عليه أن قوله (عليه السلام): " في معصية الله " يشمل ذلك أيضا.
وهنا أقسام أخر أيضا: 1 - أن يكون السفر بحسب الاتفاق متحدا مع عنوان محرم كالسفر
في الأرض المغصوبة، فإن التصرف العدواني لا يستلزم السفر، نظير الفرار من الزحف،
لكن اتحد معه في هذا المثال من باب الاتفاق. 2 - أن يكون ملازما لمعصية وجودية، بحيث
يكون إصدارهما بإصدار واحد وإن لم يتحدا وجودا كما في ركوب الدابة المغصوبة ونحوه.
3 - أن يكون ملازما لمعصية عدمية كما في السفر المستلزم لترك الواجب إذا لم يجعل غاية
له. 4 - أن يكون مقارنا لمعصية وجودية أو عدمية من باب الاتفاق بلا ارتباط بينهما ومن
دون أن يكون إصدارهما أيضا بإصدار واحد، ومثاله واضح. وحكم الجميع أيضا قد
اتضح في المتن، فتدبر. ح ع - م.
273

أو الإتمام في مجموعه أو يتبعض؟
في المسألة وجوه. والأقوى هو الأخير.
ويوجه الأول بأن أدلة القصر في السفر مطلقة، وغاية ما خرج منها صورة
كون مجموع السفر معصية لله تعالى، فيبقى غيرها داخلا تحت عمومات القصر.
ويوجه الثاني بأن مقتضى أخبار الباب كون موضوع القصر مقيدا بعدم كونه
معصية لله تعالى، والسفر المبعض سفر واحد يصدق عليه عنوان العصيان ولو
باعتبار جزئه. وإن شئت قلت: إن المستفاد من أخبار الباب أن القصر مشروط
بكون السفر سائغا شرعا فلا يشمل المبعض.
ويوجه الثالث بأن الظاهر من أخبار الباب تقسيم المسافر الذي يريد الصلاة
أو الصوم إلى قسمين: 1 - أن يكون سفره في معصية فيتم. 2 - أن لا يكون كذلك
فيقصر. والمتبادر من هذا المعنى أنه يجب عليه ملاحظة حاله وقت الصلاة والصيام،
فإن كان عاصيا بسفره أتم وإلا قصر، ألا ترى أن ضم أدلة التقصير في السفر إلى
الأدلة الأولية يقتضي تقسيم المكلف المريد للصلاة مثلا إلى قسمين وأنه يجب عليه
في وقت كل صلاة لحاظ حالته الفعلية، فإن كان في هذا الوقت في سفر قصر، وإن
كان في حضر أتم، فكذلك الأمر فيما نحن فيه. وبالجملة السفر المبعض يتبعض بحسب
الحكم أيضا.
ثم إن هذا القسم من السفر على أقسام: إذ قسمة الطاعة منه مع قطع النظر عن
قسمة المعصية إما أن تكون بقدر المسافة الشرعية أو لا، وعلى الأول فإما أن تكون
قسمة الطاعة في أول السفر أو في آخره أو في الطرفين.
فهذه أربعة أقسام:
الأول: أن لا يكون قسمة الطاعة منه بنفسها مسافة ولكن كان المجموع بقدرها.
والوجوه المتصورة فيه كما أشرنا إليه ثلاثة:
274

الأول: أن يقال بثبوت القصر في المجموع، بتقريب أن غاية ما يستفاد من أخبار
سفر المعصية - ولا سيما بقرينة الموارد المذكورة فيها من مشيع السلطان
والمحارب نحوهما ممن يستبعد جدا حصول التبدل في عزائمهم - هو ثبوت الإتمام على
من كان جميع سفره في معصية الله، فيبقى غيره مشمولا لإطلاقات أدلة القصر على
المسافر.
الثاني: أن يقال بثبوت الإتمام في قسمة المعصية، والقصر في غيرها وإن لم يكن
لنفسه مسافة.
أما الأول فلأن المستفاد من أخبار الباب بمناسبة الحكم والموضوع أن العاصي
لكونه عاصيا وكون مسيره مسير باطل لا يستحق للإرفاق فلا يثبت له القصر
الثابت لسائر المسافرين إرفاقا، ولا فرق بين كون السفر بأجمعه محرما وبين كونه
ببعضه كذلك بعد ظهور الروايات في كون الملاك لعدم الترخص هو سوء نية الرجل.
وبالجملة المستفاد من الأخبار دوران الترخيص وجودا وعدما مدار كون السفر في
معصية أو لا في معصية.
وأما الثاني فلأن المستفاد من أخبار الباب ليس إلا ثبوت التخصيص في ناحية
الحكم وأن وظيفة المسافر تختلف بحسب حالاته، من دون أن يتحقق تقييد في
ناحية الموضوع. وبعبارة أخرى: ليس موضوع القصر عبارة عن الثمانية التي لا
تكون معصية حتى يخرج منه هذا الفرد بالكلية، بل الموضوع له بحسب الأدلة هو
الثمانية المقصودة والمفروض تحققها في المقام غاية الأمر أن المستفاد من أخبار
المسألة عدم ثبوت الترخيص له في حال عصيانه، فيكون سفر هذا الشخص من
مصاديق موضوع القصر ويوجب ثبوته له بالنسبة إلى غير حالة العصيان، فتدبر.
الثالث: أن يقال بثبوت الإتمام في المجموع، أما في قسمة المعصية فلما عرفت. وأما
في قسمة الطاعة فلأن المفروض عدم كونها بنفسها مسافة، وتتميمها بقسمة
275

المعصية مناف لأخبار الباب، إذ المستفاد منها أن موضوع القصر هو المسير الحق
وأن المسير الباطل لا يوجب القصر ولا يكون سببا لا بنحو العلية التامة ولا بنحو
الجزئية لها، فوجوده وعدمه سواء لا كرامة فيه أصلا. وبالجملة بعد ضم أخبار الباب
إلى أخبار المسافة يتحصل من المجموع أن موضوع القصر ليس مطلق الثمانية، بل
طي الثمانية بشرط أن لا يكون مسير باطل وأن يكون في سبيل حق ونحو ذلك من
التعبيرات الواردة في الروايات.
فإن قلت: سلمنا ظهور الأخبار في أن سفر المعصية لا يؤثر في ثبوت القصر من
جهة أن فاعله لا يستحق للإرفاق، لكن الظاهر منها أنه بنفسه لا يوجب القصر ولا
يكون علة لثبوته، وأما كون وجوده كالعدم، بحيث لا يصير جزء للسبب أيضا، فلا
يستفاد من الأخبار. فبضم قسمة المعصية إلى قسمة الطاعة يصير المجموع علة
لثبوت القصر في حال الطاعة.
قلت: ليس قسمة المعصية بالنسبة إلى ثبوت القصر في حالها علة تامة وبالنسبة
إلى ثبوته في حال الطاعة جزء من العلة حتى يقال: إن ما دل عليه الأخبار نفي العلية
التامة لا الناقصة، بل هي بالنسبة إلى ثبوت القصر في حالها أيضا جزء سبب، إذ
الموضوع للقصر هو مجموع البريدين، فكل جزء فرضت منهما فنسبته إلى جميع
الصلوات الواقعة حال طيهما على حد سواء، بمعنى أن كل جزء من أجزاء البريدين
جزء سبب لثبوت القصر بالنسبة إلى كل واحدة من الصلوات الواقعة في حال طيهما.
وعلى هذا سلمت عدم تأثير قسمة المعصية في ثبوت القصر بالنسبة إلى حال
المعصية فعليك أن تلتزم بعدم تأثيرها فيه أصلا، لما عرفت من أن دخالتها في الجميع
إنما تكون بنحو الجزئية للسبب، فتأمل.
ولنا أن نقرب الوجه الثالث ببيان آخر أيضا، وهو أن يقال: إن الصلاة بحسب
طبعها ووضعها تامة، فلا يحتاج ثبوت الإتمام فيها إلى موجب، وإنما القصر يتوقف
276

على علة تقتضيه وتوجبه، وقد دلت الأخبار على أن سفر الثمانية علة له ثم
وردت أخبار أخر دالة على أن حيثية العصيان تمنع السفر عن تأثيره في القصر الذي
شرع إرفاقا، فيثبت حكم الإتمام للعاصي لا من جهة كونه أثرا للعصيان بما هو
عصيان بل من جهة كونه أصلا في الصلاة، فيثبت بعد ما لم يؤثر موجب القصر أثره.
وبالجملة مفاد أخبار الباب هو كون حيثية العصيان مانعة عن تأثير السفر في
إيجاب القصر الذي شرع للإرفاق، ومقتضى ذلك كون وجود السفر في هذا الحال
كالعدم بالنسبة إلى هذا التأثير، سواء لوحظ بالنسبة إلى الصلوات الواقعة في زمانه
أو بالنسبة إلى الصلوات الأخر، فافهم.
هذا كله فيما إذا لم يكن قسمة الطاعة بنفسها مسافة، وقد عرفت أن الوجوه
المحتملة فيه ثلاثة، والأقوى هو الوجه الثالث.
القسم الثاني: أن يكون قسمة الطاعة بنفسها مسافة ويكون مجموعها في أول
السفر. والظاهر ثبوت القصر في قسمة الطاعة والإتمام في قسمة المعصية، ووجههما
واضح (1).
ومنه يظهر حكم القسم الثالث أيضا، أعني كون قسمة الطاعة بنفسها مسافة مع
وقوعها في آخر السفر.
القسم الرابع: أن يكون قسمة الطاعة بنفسها مسافة وتكون واقعة في الطرفين.
ولا إشكال في ثبوت الإتمام في الوسط، وإنما الإشكال في الطرفين إذا لم يكن كل

1 - لا يخفى أن مقتضى اختياره (مد ظله) في القسم الأول ثبوت الإتمام مطلقا كون التقييد
بعدم العصيان ملحوظا في ناحية موضوع القصر، أعني السفر، لا في جانب الحكم، فأخبار
الباب ناظرة إلى أخبار المسافة، وتبين أن موضوع القصر هو المسافة التي لا يكون سيرها
باطلا، ولازم ذلك ثبوت القصر في القسم الثاني حتى في قسمة المعصية، لأن موضوع
القصر قد تحقق في بادئ الأمر، وبحصوله يثبت الحكم ما لم يحصل إحدى قواطع
السفر، المفروض أن حيثية العصيان لا تصرف لها في ناحية الحكم، فتدبر. ح ع - م.
277

واحد منهما مسافة ولكن كان المجموع بقدرها، فهل يضم الطرفان أولا؟
نسب الأول إلى الشيخ والصدوقين وجماعة، (1) والثاني إلى العلامة في
القواعد؛ (2) فاعتبر في ثبوت القصر كون الباقي بعد العود إلى الطاعة مسافة.
ويوجه الأول أولا بأن إطلاق أخبار المسافة يشمل الثمانية المتصلة والمنفصلة.
وثانيا بأن غاية ما يستفاد من الأخبار هو اعتبار وحدة السفر واتصاله، بمعنى
عدم تخلل ما يقطع السفر ويجعله سفرين كالمرور بالوطن ونحوه، وأما اتصال الثمانية
بنحو الإطلاق فلا دليل على اعتباره، والمفروض في المقام أن طي الثمانية قد تحقق في
سفر واحد، حيث إن قسمة المعصية المتخللة ليست خارجة من السفر، فمجموع
الطرفين والوسط سفر واحد حقيقة، غاية الأمر وقوع التخلل بين ما يوجب القصر
منه بما ليس خارجا من جنسه، ولا دليل على كون ذلك مضرا بعد إطلاق أخبار
المسافة، فتدبر.
ويوجه الثاني بأن المتبادر من أخبار المسافة اعتبار كونها بنحو
الاستمرار والاتصال، والمفروض في المقام تخلل قسمة المعصية بينها وعدم كونها
محكومة بأحكام السفر شرعا.
حكم تبدل قصد المسافر
المسألة الثانية: إذا سافر بقصد الطاعة ثم عدل عنه إلى قصد المعصية في منزل
من منازل السفر، أو سافر بقصد المعصية ثم عدل إلى قصد الطاعة كذلك، فهل يكون
المنزل بحسب الحكم تابعا للسابق أو اللاحق؟
فيه وجهان: من أن النازل في منزل وإن لم يكن متصفا بالسير لكنه متصف

1 - راجع النهاية / 124؛ والفقيه 1 / 452؛ والمعتبر 2 / 472؛ والذكرى / 260، (في
الشرط الرابع من شروط القصر).
2 - راجع القواعد 1 / 50، (في الشرط الخامس).
278

بوصف السفر الذي هو عبارة أخرى عن البعد عن الوطن ولذا يحكم عليه
بأحكام المسافر. وعلى هذا فإذا تبدل قصده وجب عليه العمل بالوظيفة اللاحقة.
ومن أن السفر حقيقة هو السير المبعد عن الوطن، والنازل في منزل للاستراحة
لا يتصف بوصف المسافرة باعتبار كونه بالفعل مشغولا بإيجاد فعل السفر، لا باعتبار
السير اللاحق لعدم تلبسه به بعد، بل باعتبار كونه في السابق مشغولا بالسير المبعد
عن الوطن وبقاء البعد الحاصل به. وعلى هذا فكما يكون انطباق هذا العنوان عليه
فعلا بتبع السابق فكذلك يكون تابعا له بحسب الحكم. فمن كان في أول سفره بقصد
الطاعة مثلا ثم تبدل قصده في أحد المنازل لا يصدق عليه كونه مسافرا في معصية
الله وكون مسيره مسير باطل ما لم يسافر من هذا المنزل ولم يخرج منه بالقصد
الطارئ، فكيف يحكم عليه بحكم سفر المعصية. هذا.
ولكن يتوجه على هذا البيان ما أشير إليه من منع كون السفر عبارة عن
خصوص السير في الأرض وكون إطلاقه على الإقامة بتبع السير السابق، بل الحق
أنه عنوان ينطبق على مجموع السير والإقامات المتخللة في أثنائه. فالشخص في
حال الوقوف في أحد منازل السفر أيضا يصدق عليه عنوان المسافر حقيقة من دون
نظر إلى السير السابق أو اللاحق، إذ الملاك في صدقه ليس إلا البعد عن الوطن، وهو
حاصل في حال الوقوفات المتخللة أيضا. وإذا صدق عليه في هذا الحال عنوان
المسافر - والمفروض أيضا تبدل قصده وتبدل العنوان أيضا بسبب تبدله - صار
بحسب الحكم تابعا للعنوان الطارئ من المطيع أو العاصي، فافهم.
ولقائل أن يقول بثبوت الإتمام في كلا الفرضين. وبيان ذلك يتوقف على تمهيد
مقدمة، وهي أن الأصل في الصلاة بحسب وضعها وطبعها هو الإتمام، والقصر يتوقف
على مؤونة زائدة ومقتض خارجي، وإتمام العاصي بالسفر أيضا ليس لجهة العصيان
بأن يكون عنوان العصيان مقتضيا للإتمام، بل غاية ما في الباب أن طروء هذا العنوان
279

يمنع عن تأثير مقتضي القصر في مقتضاه، فإذا لم يؤثر مقتضي القصر ثبت الإتمام
الثابت بحسب الأصل الأولي. وبالجملة الإتمام ثابت في الصلاة بحسب طبعها ما لم
يحصل موجب القصر ولم يؤثر أثره.
إذا عرفت هذا فنقول: أما العاصي بسفره إذا تبدل قصده إلى الطاعة في المنزل
فهو يتم، ولكن لا لما توهم من أن صدق عنوان السفر على الإقامة المتخللة إنما يكون
بتبع السير السابق فتتبعه في الحكم أيضا، إذ يرد على هذا البيان أن تبدل القصد
يوجب اختلاف الإقامة مع السير السابق بحسب العنوان، بل لأن هذا الشخص وإن
زال عنه عنوان العصيان لكن الإتمام لم يكن باقتضاء هذا العنوان حتى يرتفع
بارتفاعه، بل كان بحسب وضع الصلاة وطبعها بعد ما صار العصيان مانعا عن تأثير
مقتضي القصر في مقتضاه. وبعد تبدل القصد وإن زال هذا المانع لكن المفروض
زوال موجب القصر أيضا، فيثبت الإتمام الثابت بالأصل.
وإن شئت قلت: إنه في حال السير وجد مقتضي القصر ولكن لم يؤثر أثره
لوجود المانع، وفي حال الإقامة وإن ارتفع المانع لكن لا يوجد المقتضي أيضا، لعدم
تلبسه بعد بسفر الطاعة، فيثبت الإتمام الثابت بحسب طبع الصلاة.
وأما المطيع بسفره إذا تبدل قصده إلى المعصية في المنزل فهو أيضا يتم، إذ بتبدل
قصده يخرج المنزل من كونه تابعا للسابق، فيثبت الإتمام، لا أقول إن العصيان
يقتضي الإتمام، بل أقول إن الإتمام ثابت بحسب طبع الصلاة ما لم يثبت موجب
القصر، والمفروض في المقام عدم تلبسه بالسفر الموجب له، أو نقول: سلمنا أنه في
حال الإقامة أيضا متلبس بالسفر ويصدق عليه عنوان المسافر، ولكنه إذا كان
طروء عنوان العصيان في حال السير يمنع عن تأثير السفر في القصر ففي حال الإقامة
يكون مانعا بطريق أولى.
اللهم إلا أن يقال إن مقتضى هذا البيان ثبوت القصر في الفرض الأول، حيث
280

إنك سلمت كون المسافر في حال الإقامة أيضا متلبسا بالسفر، والمفروض في
ذلك الفرض تبدل قصده من المعصية إلى الطاعة، فيثبت مقتضي القصر ويرتفع
مانعه فيجب الحكم بثبوته، فتأمل.
حكم حال الرجوع من سفر المعصية
المسألة الثالثة: إذا سافر لغاية محرمة فهل يقصر في حال الرجوع منه كما اختاره
في الجواهر (1)، أو يتم، أو يفصل بين ما إذا تاب بعد ارتكاب المعصية وبين ما إذا لم
يتب، أو يفصل بين ما إذا انصرف من قصد المعصية قبل ارتكابها وبين غيره؟ في
المسألة وجوه.
ويوجه الأول بأن الإتمام كان دائرا مدار كون السفر بنفسه معصية أو كون
غايته محرمة، وكلاهما منتفيان في حال الرجوع إلى الوطن مثلا. أما الأول
فواضح، أما الثاني فلأن غاية الشيء لا تتقدم عليه خارجا، فالعصيان المتحقق في
المقصد لا يعقل أن يكون غاية للرجوع. وبعبارة أخرى: موضوع الإتمام كون السفر
بنفسه معصية أو كونه واقعا في طريق المعصية بحيث يعد الشروع فيه شروعا فيها،
وكلاهما منتفيان في المقام.
ويوجه الثاني بأن الرجوع وإن لم يكن بنفسه معصية وليس أيضا واقعا في
طريقها لكنه يعد عرفا من توابع الذهاب وينسب غاية الذهاب إلى الرجوع أيضا،
بمعنى أن مجموع الذهاب والإياب يعد عرفا سفرا واحدا أو جده الشخص للغاية
الحاصلة في منتهى الذهاب. ألا ترى أن المسافر إذا تحمل مشاق كثيرة في إيابه نسبت
عرفا إلى غاية الذهاب فيقال إن فلانا تحمل مشاق كثيرة لغرض الحج مثلا. والسر
في ذلك أن خروج الشخص من منزله بمنزلة الحركة القسرية، وكل حركة قسرية

1 - راجع الجواهر 14 / 261.
281

يتبعها لا محالة حركة طبيعية بعد زوال القاسر، ومجموع الحركتين ينسب عرفا
إلى القاسر. فمن رمى حجرا إلى جانب السماء نسب إليه مجموع الحركتين:
الارتفاعية والانخفاضية عرفا وإن كانت الثانية بالدقة العقلية معلولة للقوة
الطبيعة. لذلك ترى أنه لو صار الحجر في حال انخفاضه سببا لإتلاف نفس أو شيء
آخر عد القاسر ضامنا مع أن الرجوع والانخفاض كان بالقوة الطبيعة. وبالجملة من
سافر لغاية محرمة فبالدقة العقلية يكون ذهابه واقعا في طريق المعصية دون إيابه،
ولكن العرف يعد مجموع الذهاب والإياب سفرا واحدا فانيا في الغاية المحرمة، بحيث
يعد الإياب أيضا معلولا لهذه الغاية، لكونه من ضروريات الذهاب ومن
توابعه، لا يعد الإياب بنفسه سفرا مستقلا لغاية في نفسه حتى يختلف حكمه مع
الذهاب، إذ لو لم يكن غاية الذهاب لم يوجد سفر أصلا، فوجود الإياب أيضا مستند
إلى غاية الذهاب، فتدبر.
ويوجه الثالث بأن الإياب يعد من توابع الذهاب - بتقريب مضى ذكره - ما لم
يتخلل في البين توبة، وأما بعدها فيسقط من التبعية قطعا.
نظير ما ذكرناه في مسألة التوسط في الأرض المغصوبة بسوء الاختيار، حيث
قلنا في تلك المسألة إن مجموع الحركات الدخولية والبقائية والخروجية تصدر
عصيانا للمولى، من جهة أن الشخص بدخوله في أرض الغير بسوء اختياره اختار
الحركات البقائية والخروجية أيضا، ولكنه إذا تاب وندم على ما عمله خرج دخوله
بتوابعه من كونه مبغوضا ومعاقبا عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما هو
مقتضى إطلاقات التوبة، والمفروض أن الحركة الخروجية فعلا تكون مضطرا إليها،
لتوقف التخلص من الحرام الزائد عليها، فلا تقع عصيانا للمولى أصلا. وبعبارة
أخرى: إصدار المكلف لها واختيارها كان بعين إصدار الحركة الدخولية، والمفروض
زوال حكمها بالتوبة، وصدورها الفعلي أيضا مضطر إليه، فما سبق على التوبة يتلافى
بها، وما يوجد بعدها يكون بالاضطرار، فلا تقع عصيانا أصلا.
282

ففي المقام أيضا مجموع الذهاب والإياب يعد سفرا واحدا ذا غاية واحدة محرمة،
ولكن بعد ما تخللت التوبة صارت سببا لتلافي السابق، وإذا خرج السابق بسبب
التوبة من كونه عصيانا فاللاحق الذي هو من توابعه يخرج من كونه كذلك بطريق
أولى. بل الحكم فيما نحن فيه أوضح من تلك المسألة، حيث إن الحركة الخروجية في
تلك المسألة كانت بنفسها محرمة غاية الأمر ارتفاع فعليتها بسبب الاضطرار، وهذا
بخلاف الرجوع في المقام، فإنه ليس بنفسه معصية ولا واقعا في طريقها غاية الأمر
كونه من توابع الذهاب عرفا. فعصيانه إنما هو من جهة تبعيته للذهاب، والمفروض
ارتفاع عصيان الذهاب بالتوبة.
ومما ذكر في توجيه الوجوه الثلاثة يظهر تقريب الوجه الرابع أيضا. والأظهر
من هذه الوجوه الأربعة هو الوجه الثالث، فتدبر، جيدا.
إذا كانت غاية السفر ملفقة
المسألة الرابعة: لو كانت غاية السفر ملفقة من الطاعة والمعصية فإما أن يكون
إحداهما مقصودة بالاستقلال والأخرى مقصودة بالتبع، بحيث لا يستند السفر إليها،
وإما أن يكون كل منهما جزء من العلة بحيث يستند السفر إليهما معا.
لا إشكال في الأول، إذا الحكم يدور مدار كون السفر في معصية أولا؛ وصدق
ذلك يدور مدار الغاية المستقلة.
وأما الثاني فربما يتوهم كونه مشمولا لعمومات أدلة القصر في البريدين، إذ
غاية ما خرج منها صورة كون السفر في طريق المعصية بحيث يعد فانيا فيها، وهذا
إنما يكون فيما إذا كانت الغاية منحصرة في المعصية. هذا.
ولكن الظاهر عندنا كونه مشمولا لأدلة الإتمام في المقام، إذ يصدق عليه أنه
مسير باطل وأن هذا المسافر لا يستحق الإرفاق ولا كرامة في سفره.
283

إذا نذر أن يتم الصلاة فسافر
المسألة الخامسة: قال في العروة (المسألة 39): " إذا نذر أن يتم الصلاة في يوم
معين أو يصوم يوما معينا وجب عليه الإقامة. ولو سافر وجب عليه القصر على
ما مر من أن السفر المستلزم لترك واجب لا يوجب التمام إلا إذا كان بقصد التوصل
إلى ترك الواجب، والأحوط الجمع ". (1)
أقول: ربما يستشكل على القول بصيرورة هذا السفر حراما باستلزام وجود
الشيء عدمه، وهو محال. وتقريبه بوجهين:
1 - أن صيرورة السفر حراما تستلزم وجوب الإتمام، ووجوب الإتمام في المقام
يستلزم عدم كونه معصية، إذ المفروض أنه لاوجه لكونه معصية إلا كونه مستلزما
لترك الإتمام؛ فلزم من كونه معصية عدم كونه معصية.
2 - أن ثبوت الإتمام في هذا السفر يستلزم عدم كونه معصية، وهو مستلزم لعدم
ثبوت الإتمام، فلزم من ثبوت الإتمام عدم ثبوته. هذا.
والحق أن يقال: إن النذر إما أن يتعلق بالإتمام بإطلاقه، وإما أن يتعلق بالإتمام
المترتب على ترك السفر.
فعلى الأول يتوجه الإشكال بأنه يشترط في متعلق النذر كونه راجحا، ولا نسلم
كون الإتمام بإطلاقه أمرا راجحا.
وعلى الثاني فنقول: إن نذر الإتمام كذلك يرجع إلى نذر ترك السفر. ويرد عليه
أولا أنه غير راجح، وثانيا أنه لو سلم رجحانه فلا يرد محذور أصلا، فإن ترك السفر
حينئذ يصير بالنذر واجبا، فيصير نقيضه أعني السفر بنفسه عصيانا له، لأن عصيان
كل شيء بإيجاد نقيضه، فيصير المقام من أمثله ما يكون السفر بنفسه مصداقا

1 - العروة الوثقى 2 / 127، في الشرط الخامس من شروط القصر.
284

للمعصية، ووظيفة هذا الشخص هو الإتمام سافر أم لم يسافر.
ثم إنه يستفاد من عبارة العروة في المقام كون عصيان السفر ناشئا من مضادته
للواجب فقط، مع أنه يمكن تقريب كونه معصية في المقام بوجهين آخرين:
الأول: أن يقال إن الواجب، أعني الإتمام، يتوقف على الإقامة، فترك الإقامة
بنفسه عصيان للواجب لامن جهة القول بوجوب المقدمة بل من جهة أن الواجب
يصير بترك المقدمة متعذر الحصول، فنفس أمرية عصيانه وتركه بنفس ترك المقدمة
أعني ترك الإقامة، وهو عبارة أخرى عن السفر، فيصير السفر مصداقا للمعصية.
لا يقال: الإقامة والسفر ضدان وليس وجود أحد الضدين عين ترك الآخر.
فإنه يقال: نعم، هما مختلفان مفهوما ولكنهما يتحدان تحققا. وبعبارة أخرى: في
الضدين اللذين لا ثالث لهما يكون نفس أمرية عدم أحدهما بعين وجود الآخر، هذا
المقدار يكفي في عد وجود هذا الضد عصيانا للضد الآخر، فتدبر.
الثاني: أن يقال: إن المستفاد من الأدلة كون ترك السفر شرطا شرعيا للإتمام
نظير شرطية الوضوء للصلاة، ومعنى كون الشيء شرطا للواجب بحسب الشرع
كونه دخيلا في انطباق عنوان الواجب على معنونه، وعلى هذا فيصير السفر الذي هو
نقيض للشرط عصيانا للواجب، حيث إن رفع الشرط هو بعينه رفع للمشروط به،
فتأمل.
ما هو المعتبر في العصيان؟
المسألة السادسة: إذا اعتقد حلية السفر أو قام الأصل على حليته، فسافر ثم
بداله كونه حراما في الواقع فالظاهر عدم الإشكال في كون الاعتبار
بالاعتقاد ومقتضى الأصل لا الواقع، إذ الموضوع للإتمام كون السفر في معصية، ونفس
الحرمة الواقعية
285

لا تكفي في انتزاع عنوان العصيان ما لم تتنجز، والمفروض في المقام عدم تنجزها.
وأما إذا اعتقد حرمة السفر أو اقتضى الأصل حرمته وكان حلالا في الواقع، فهل
الاعتبار بالواقع أو بما اعتقده أو اقتضاه الأصل؟ فيه وجهان: من أن الظاهر من
تعليق الحكم على موضوع كونه منوطا بوجوده الواقعي. ومن أن المستفاد من أدلة
عدم الترخص في سفر المعصية بمناسبة الحكم والموضوع هو أن سوء نية المسافر وسوء
قصده أوجب عدم كونه مشمولا للحكم المشروع إرفاقا وعدم استحقاقه لهذا
الإرفاق، فيكون الاعتبار بالحرمة في اعتقاد المسافر لا بالحرمة الواقعية.
حكم تبدل قصد الصائم العاصي بسفره بعد الزوال
المسألة السابعة: إذا كان عاصيا بسفره فنوى الصوم، ثم تبدل قصده إلى
الطاعة، فإن كان قبل الزوال فلا ريب في وجوب الإفطار عليه، وأما إذا كان بعد
الزوال فهل يصح صومه أولا؟
الظاهر هو الصحة، فإن ما دل على صحة صوم المكلف إذا خرج من بيته بعد
الزوال يدل بالفحوى وتنقيح المناط على الصحة في المقام أيضا، بداهة أنه ليس
للخروج من المنزل بما هو هو دخل في الحكم، بل الملاك فيه تحقق موجب القصر بعد
الزوال.
فإن قلت: مقتضى ما دل على عدم صحة الصوم من المسافر بطلان الصوم في
المقام وفيمن سافر بعد الزوال، خرج منه الفرض الثاني بالدليل، فيبقى غيره تحت
العمومات.
قلت: بعد العلم بعدم دخالة الخصوصية يحكم بمساواة المقام للخارج بعد الزوال،
فكأن الدليل المخصص تعرض لمطلق من صام ثم عرض له موجب الإفطار بعد
الزوال، فتأمل.
286

تذنيب في حكم سفر الصيد
سفر الصيد على ثلاثة أقسام:
1 - أن يكون للتنزه واللهو.
2 - أن يكون للتجارة وتحصيل مال لا يحتاج إليه في إعاشته.
3 - أن يكون لتحصيل مال ينفقه على نفسه وعياله.
وقد تطابقت النصوص والفتاوى على عدم كون الأول موجبا للقصر لا في
الصلاة ولا في الصوم. وإنما الإشكال في أنه من أفراد سفر المعصية أولا؟ وعلى الثاني
فهل يتحد بحسب الملاك مع سفر المعصية، بمعنى أن المانع عن القصر في كليهما أمر
واحد، أو يختص كل منهما بملاك يخصه؟
ربما يظهر من بعض العبائر كعبارة الشرائع (1) مثلا كونه من أفراد سفر المعصية.
ومن لم يعده من أفراده أيضا ذكره في باب سفر المعصية. فيستفاد من ذلك عدم
كونه عندهم مانعا مستقلا، بل المانع عن القصر عنوان جامع بينهما ولعله عبارة عن
عنوان المسير الباطل المذكور في روايات الباب.
وكيف كان فسفر الصيد على ثلاثة أقسام، والبحث عنه يقع في مقامين:
1 - في أن أيا من أقسامه يوجب القصر، وأيا منها لا يوجبه.
2 - في بيان حكمه التكليفي من حيث الحرمة والإباحة.
ما يوجب القصر من سفر الصيد وما لا يوجبه
أما المقام الأول فلا إشكال في أن القسم الأول لا يوجب القصر مطلقا، وأن
القسم الثالث يوجبه كذلك، وإنما وقع الخلاف في القسم الثاني، أعني ما كان للتجارة

1 - راجع الشرائع 1 / 134 (= ط. أخرى / 102)، في الشرط الرابع من شروط القصر.
287

بالنسبة إلى الصلاة دون الصوم. فلنذكر بعض أخبار الباب ثم نشرع في تحقيق
المسألة. فنقول:
طوائف أخبار المسألة والتحقيق فيها
الأخبار المتضمنة لحكم سفر الصيد ثلاث طوائف:
1 - ما تدل على أن سفر الصيد لا يوجب القصر مطلقا.
2 - ما تدل على كونه مشاركا لغيره في إيجاب القصر مطلقا.
3 - ما تدل على التفصيل بين ما كان لقوته وقوت عياله وبين ما كان للهو أو
لطلب الفضول. وهذه الطائفة شاهدة للجمع بين الأوليين.
أما الطائفة الأولى فقد مر بعضها في ضمن أخبار سفر المعصية، ومنها أيضا: ما
رواه في الخصال عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن الحسن بن
علي بن أبي عثمان، عن موسى المروزي، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام)، قال: " قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أربعة يفسدن القلب وينبتن النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر:
اللهو، والبذاء، وإتيان باب السلطان، وطلب الصيد. " (1) (2)
وإطلاق النفاق هنا من جهة أن النفاق كالكفر مقول بالتشكيك، فكل ما حجب
العبد عن ربه وشغله بغيره ولو آنا ما فهو سبب لوجود مرتبة من الكفر والنفاق، كما
لا يخفى.
وأما الطائفة الثانية فمنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن
محبوب، عن محمد بن الحسين، عن صفوان، عن عبد الله بن سنان، قال: سألت

1 - الوسائل 5 / 513 (= ط. أخرى 8 / 481)، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 9.
2 - لا يخفى عدم دلالة الحديث على وجوب الإتمام في سفر الصيد إلا أن يقال بدلالته على
كونه من أفراد سفر المعصية، فيتم من تلك الجهة. ح ع - م.
288

أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يتصيد؟ فقال: " إن كان يدور حوله فلا يقصر، وإن
كان تجاوز الوقت فليقصر. " وروى الصدوق بإسناده عن العيص بن القاسم أنه
سأل الصادق عن الرجل يتصيد. وذكر مثله. (1)
وسؤال الراوي مجمل، حيث لا يعلم جهة سؤاله، وجواب الإمام (عليه السلام) ليس
تفصيلا في المسألة، بل يستفاد منه أن حيثية التصيد لا تغير حكم السفر، بل المتصيد
مطلقا كغيره: إن كان يدور حول بلده، أي لم يكن سفره بقدر المسافة، فلا يقصر، إن
كان تجاوز حد المسافة فليقصر. فكلمة الوقت هنا قد استعملت في الحد
المكاني، نظائره كثيره في الروايات والمحاورات.
ومنها أيضا: ما رواه الشيخ بإسناده عنه، عن العباس بن معروف، عن الحسن
بن محبوب، عن بعض أصحابنا، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ليس على
صاحب الصيد تقصير ثلاثة أيام. وإذا جاوز الثلاثة لزمه. " ورواه الصدوق أيضا
بإسناده عن أبي بصير. (2)
فإن الظاهر من هذا الحديث أيضا أن المتصيد مطلقا كغيره من المسافرين في أنه
إن جاوز حد المسافة لزمه القصر، غاية الأمر أن تحديد المسافة فيه وقع على طبق
فتوى أبي حنيفة من التحديد بثلاث مراحل، رعاية للتقية، فتدبر.
وأما الطائفة الثالثة المفصلة فمنها: ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن
محبوب، عن الحسن بن علي، عن عباس بن عامر، عن أبان بن عثمان، عن زرارة،
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عمن يخرج من أهله بالصقورة والبزاة والكلاب،
يتنزه الليلة والليلتين والثلاثة، هل يقصر من صلاته أم لا يقصر؟ قال: " إنما خرج في

1 - الوسائل 5 / 511 و 512 (= ط. أخرى 8 / 479 و 481)، الباب 9 من أبواب صلاة
المسافر، الحديثان 2 و 8.
2 - المصدر السابق 5 / 511 (= ط. أخرى 8 / 479) والباب، الحديث 3.
289

لهو، لا يقصر. " قلت: الرجل يشيع أخاه اليوم واليومين في شهر رمضان؟ قال:
" يفطر ويقصر، فإن ذلك حق عليه. " (1)
ومنها أيضا: ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن ابن بكير،
عن عبيد بن زرارة، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصر
أو يتم؟ قال: " يتم، لأنه ليس بمسير حق. " ورواه الكليني أيضا عن محمد بن يحيى،
عن أحمد بن محمد. (2)
وأوضح أخبار هذه الطائفة ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن
عمران بن محمد بن عمران القمي، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال:
قلت له: الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين (أو ثلاثة - الفقيه) أيقصر أو
يتم؟ فقال: " إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصر، وإن خرج لطلب الفضول
فلا، ولا كرامة. " ورواه الصدوق أيضا مرسلا. ورواه الكليني عن عدة من أصحابنا،
عن أحمد بن محمد. (3)
وإطلاق ذيل الحديث يشمل ما إذا كان التصيد بقصد التجارة إذا لم يحتج إليها
في إعاشته. ومقتضى ذلك وجوب الإتمام عليه في صلاته وصومه، ولكنه بالنسبة إلى
الصوم غير مفتى به. نعم، وقع الاختلاف بالنسبة إلى صلاته، كما سيأتي. ولأجل
ذلك ربما يقال: إن المراد بطلب الفضول خصوص ما كان للهو، ولكنه بعيد كما لا يخفى.
وكيف كان فالطائفة الثالثة شاهدة للجمع بين الأوليين، وبها يرتفع التهافت
بينهما.

1 - المصدر السابق 5 / 511 و 514 (= ط. أخرى 8 / 478 و 483)، الباب 9 منها،
الحديث 1؛ والباب 10، الحديث 4.
2 - المصدر السابق 5 / 511 (= ط. أخرى 8 / 479)، الباب 9، الحديث 4.
3 - المصدر السابق 5 / 512 (= ط. أخرى 8 / 480) والباب، الحديث 5.
290

وأما ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد
السياري، عن بعض أهل العسكر، قال: خرج عن أبي الحسن (عليه السلام): " أن صاحب
الصيد يقصر ما دام على الجادة، فإذا عدل عن الجادة أتم، فإذا رجع إليها قصر " (1)
فلا ينافي ما ذكرناه من التفصيل، لإمكان حمله على من سافر بغيره قصد الصيد
ثم عدل عن الجادة بقصده.
والسياري ممن رموه بالضعف، لما نسب إليه من الغلو. هذا، وقد عرفت منا
سابقا أن كثيرا ممن نسب إليهم الغلو كان لهم عقائد صحيحة متقنة، غاية الأمر أن
بعض الشيعة كانوا لقصورهم في بعض العقائد ربما يعدون بعض العقائد الكاملة
الصحيحة غلوا وإفراطا؛ فلا يلتفت إلى كثير مما ينسب إلى الأصحاب من
الغلو والإفراط.
وبالجملة يتحصل من الجمع بين أخبار الباب أن سفر الصيد إن كان للهو والبطر لم
يوجب القصر أصلا، لا في الصلاة ولا في الصوم، وإن كان للإعاشة أوجب القصر
فيهما، ولا خلاف أيضا بين الأصحاب في ذلك ولا إشكال.
حكم سفر الصيد إذا كان للتجارة
وإنما الإشكال فيما إذا كان للتجارة وتزييد المال، فإنهم بعد ما اتفقوا على ثبوت
الترخص له بالنسبة إلى صومه اختلفوا في وظيفته بالنسبة إلى صلاته:
فأفتى الشيخ في نهايته، وكذلك المفيد، وعلي بن بابويه، وابن البراج، وابن
إدريس، وابن حمزة بوجوب الإتمام عليه في الصلاة والتقصير في الصوم. (2)
وفي المبسوط: " وإن كان للتجارة دون الحاجة روى أصحابنا أنه يتم الصلاة

1 - المصدر السابق والصفحة والباب، الحديث 6.
2 - راجع النهاية / 122؛ والمقنعة / 349 (في باب حكم المسافرين في الصيام)؛ والمهذب
1 / 106؛ والوسيلة / 109. وحكاه عن ابن بابويه في المختلف / 161 (= ط. أخرى
2 / 521).
291

ويفطر الصوم. " (1)
وفي السرائر: " فأما إن كان الصيد للتجارة دون الحاجة للقوت روى
أصحابنا بأجمعهم أنه يتم الصلاة ويفطر الصوم، وكل سفر أوجب التقصير في الصلاة
أوجب التقصير في الصوم، وكل سفر أوجب التقصير في الصوم أوجب تقصير
الصلاة إلا هذه المسألة فحسب، للإجماع عليها ". (2)
وخالف في ذلك المحقق والعلامة، وتبعهما أكثر المتأخرين، (3) فأفتوا بأنه يقصر في
صلاته وصومه معا:
قال في المعتبر: " ولو كان للتجارة قال الشيخ في النهاية والمبسوط: يتم
صلاته يفطر صومه. وتابعه جماعة من الأصحاب، ونحن نطالبه بدلالة الفرق ونقول:
إن كان مباحا قصر فيهما، وإن لم يكن أتم فيهما ". (4)
أقول: لا يخفى أن فتوى هؤلاء الأعاظم والأجلاء بالفرق بين الصلاة والصوم،
مع عدم استفادته من عموم قاعدة وعدم موافقته لاعتبار عقلي، مما يكشف قطعا
عن وجود نص في المسألة واصل إليهم، وقد أشير إليه في المبسوط والسرائر أيضا،
بداهة أن هذه التفرقة لو كانت مما يمكن استنباطها من عموم أو إطلاق دليل أو كانت
مما يساعده الاعتبارات العقلية والاستحسانات الذوقية مثلا لأمكن القول بعدم
كشفها عن وجود النص، ولكنه من الواضحات أنه لا يساعد اعتبار عقلي ولا قاعدة
كلية على

1 - المبسوط 1 / 136، كتاب صلاة المسافر.
2 - السرائر 1 / 327، باب صلاة المسافر. والمتن هنا يوافق الطبعة الحديثة، ففيها زيادة
ليست في طبعته الحجرية ص 73، فلاحظ.
3 - راجع المختصر النافع / 51؛ والمختلف / 161 (= ط. أخرى 2 / 522) وغيره من كتب
العلامة؛ والبيان / 157 (= ط. أخرى / 263)؛ والروض / 388؛ وجامع المقاصد
2 / 514؛ ومجمع الفائدة 3 / 386؛ وغيرها مما هو مذكور في مفتاح الكرامة 3 / 580.
4 - المعتبر 2 / 471، في الشرط الثالث من شروط القصر.
292

التفكيك والتفرقة بين الصلاة والصوم كما هو واضح لا يخفى. وبالجملة لا يبقى
شك في أن فتوى هؤلاء الأعاظم في هذه المسألة المخالفة للاعتبارات والقواعد
يكشف كشفا قطعيا عن وجود نص واصل إليهم يدل عليها، وأنه كان حجة لديهم
قابلا للاعتماد عليه. فالإفتاء بخلافهم مشكل. كيف! واعتمادنا في باب جرح الرواة
وتعديلهم ليس إلا على هؤلاء الأعاظم " قدهم "، فكيف يمكن مخالفتهم في مثل هذه
المسألة؟! ألا ترى أن ابن إدريس مع تصلبه في إنكار حجية خبر الواحد قد وافقهم
في هذه المسألة ونسبها إلى الإجماع، فيستكشف بذلك وضوح الحكم لديهم بحيث لم
يكن قابلا للإنكار.
فإن قلت: لو كان في المسألة نص فلم لم يودعوها في جوامعهم؟
قلت: قد أشرنا مرارا إلى أن بناء مثل الكليني والشيخ والصدوق " قدهم " لم
يكن على إيداع جميع ما وجدوه في الجوامع الأولية في جوامعهم التي بأيدينا، ولعل
المتتبع في فقه الشيعة الإمامية يعثر على أكثر من خمسمأة مسألة أفتى فيها المشايخ طرا
بفتوى يستكشف بسببها وجود النص فيها مع عدم كونه مذكورا في جوامعهم التي
ألفوها لضبط الأحاديث.
ويشهد لذلك وجود أخبار كثيرة في جامع مع عدم ذكرها في جامع آخر. ولعل
الوجه في ذلك أن بناءهم لم يكن على نقل جميع ما يجدونه في الجوامع الأولية، بل
على نقل خصوص ما كان لهم طريق مسلسل إلى رواتها.
وبالجملة لا ينبغي لأحد أن يرتاب في أن الجوامع الأولية التي ألفها الطبقة
السادسة من أصحابنا كانت مشتملة على أخبار كثيرة لم يودعها المشايخ الثلاثة في
الجوامع الأربعة التي بأيدينا. (1)

1 - ربما يقال إن تسليم هذا المعنى يوجب سقوط أخبار الكتب الأربعة عن الحجية رأسا،
كما لا يخفى وجهه.
293

ولا يخفى أن المحقق والعلامة " قدهما " أيضا قد عثرا على هذه النكتة، ولذلك
تراهما في نظائر هذه المسألة يعتمدان على فتوى الأقدمين ويستكشفان بذلك
وجود النص. وعلى هذا فاعتراض المحقق في هذه المسألة على الشيخ بمطالبة الدليل
في غير محله، إذ للشيخ أن يقول إن تأخر العصر حجب عنك الدليل، ولو كنت في
عصرنا لاعترفت بما اعترفنا به من جهة وضوح المسألة لدى الأصحاب وروايتهم
لها.
ولعل مخالفة المحقق والعلامة في هذه المسألة كانت من جهة مخالفتها للاعتبار،
حيث إن مقتضى الاعتبار العقلي مساواة الصلاة والصوم في الترخص وعدمه، أو
من جهة مخالفتها للنصوص الدالة على تلازم التقصير والإفطار، كقوله (عليه السلام) في
صحيحة معاوية بن وهب: " إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت " (1). هذا.
ولكن يرد على ذلك أن الاعتبارات الظنية لا يستكشف بها الأحكام. وما دل
على التلازم بين الحكمين عام يمكن تخصيصه بالدليل، وقد عرفت أن فتوى
الأقدمين في أمر يخالف القواعد والاعتبارات مما يكشف عن وجود النص قطعا، مع
أن أصحابنا كانوا من أهل النص والرواية ولم يكونوا يعتمدون على
القياسات الاستحسانات أصلا.
فالقول بوجوب الإتمام في الصلاة والقصر في الصوم في هذه المسألة لا يخلو عن
قوة. ولو بني على الاحتياط بالجمع فمورده الصلاة دون الصوم، لاتفاق الجميع على
ثبوت التقصير فيه.
هذا كله ما يتعلق بالمقام الأول، أعني وظيفة الصائد بالنسبة إلى صلاته وصومه.
بيان حكمه التكليفي
وأما المقام الثاني، أعني بيان حكم التصيد من حيث الحرمة وعدمها، فملخص

1 - الوسائل 5 / 528 (= ط. أخرى 8 / 503)، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 17.
294

الكلام فيه أنه إن كان للإعاشة أو التجارة فلا إشكال في عدم حرمته. كيف! ولو
كان التصيد للتجارة محرما لما ثبت التقصير في صومه أيضا وقد عرفت أنه متفق
عليه.
وأما إذا كان بقصد اللهو والبطر، كما هو شأن المترفين والمتنعمين من أبناء الدنيا،
فهل يكون محرما ويكون ثبوت الإتمام فيه لذلك، أولا يكون محرما، وإنما يثبت
الإتمام فيه لأجل تحقق جامع بين سفر المعصية وبين هذا القسم من سفر الصيد
يكون هو الموضوع حقيقة لعدم الترخص؟
في المسألة وجهان: ربما يظهر من بعض العبائر حرمته، بل صرح بها بعضهم،
حيث عدوه من أفراد سفر المعصية، ومنهم المحقق في الشرائع. (1)
وناقش في ذلك المقدس البغدادي (قده) (2)، وأنكره أشد الإنكار وقال على ما
حكي عنه ما حاصله: " أنه في أي شئ شككنا فلا نشك في جواز الصيد للتنزه، إذ
لافرق بينه وبين التنزه بالمناظر البهيجة والمراكب الحسنة ومجامع الأنس ونحوها مما
قضت السيرة القطعية بإباحتها ". (3)
ويمكن تأييده في ذلك بأن التصيد للهو والبطر كان أمرا معروفا بين المترفين
متداولا بين المتنعمين من أبناء الدنيا حتى في أعصار الأئمة (عليهم السلام) وما قبلها، فلو كان أمرا
محرما لكان على الأئمة (عليهم السلام) إنكاره بأشد الإنكار وبيان حرمته لأصحابهم، ولو بينوها
لوصل إلينا وصارت حرمته من الضروريات عند الشيعة والمتدينين، نظير حرمة
الخمر والزنا ونحوهما من المحرمات، فإن الأمور المبتلى بها المتداولة بين الناس لو كانت

1 - راجع الشرائع 1 / 134 (= ط. أخرى / 102)؛ والقواعد 1 / 50؛ والذكرى /
260؛ الروض / 388؛ والذخيرة / 409؛ وغيرها.
2 - هو من أعاظم المحققين، وكان معاصرا للمحقق القمي ومجازا من قبله. كذا قال
الأستاذ (مد ظله العالي). راجع روضات الجنات 6 / 104؛ ومستدرك الوسائل 3 / 399،
الفائدة الثالثة من الخاتمة؛ وقد مر ذكره في ص 242، الهامش 1.
3 - حكاه عنه في الجواهر 14 / 265، في الشرط الرابع من شروط القصر.
295

محرمة لما خفيت حرمتها على المتدينين وكان أمرها واضحا بينهم، مع أن التصيد
اللهوي ليس بهذه المثابة وإلا لم يخف حرمته ولم يقع فيها خلاف، والقدماء قبل
المحقق والعلامة أيضا لا يستفاد من عباراتهم حرمته، بل يستفاد عدمها؛ فإن الشيخ
مثلا ذكر في نهايته سفر الصيد في قبال سفر المعصية ولم يجعله من أفراده. (1) في
الخلاف أيضا عقد لهما مسألتين ذكر في إحداهما سفر المعصية وقال ما حاصله: أنه
لا يوجب القصر، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق. وقال قوم: سفر المعصية
كسفر الطاعة في جواز التقصير، ذهب إليه الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
وذكر في المسألة الأخرى سفر الصيد وقال: " إذا سافر للصيد بطرا أو لهوا لا يجوز له
التقصير، وخالف جميع الفقهاء في ذلك ". (2)
وكيف كان فلا يستفاد من عبائر القدماء أيضا حرمة الصيد اللهوي.
نعم، الفاضل الكامل عبد العزيز بن البراج قسم في مهذبه السفر إلى أربعة أقسام:
واجب ومندوب ومباح وقبيح، ومثل للقبيح بسفر المعصية وسفر الصيد. (3) هذا.
ولكن القبح أيضا أعم من الحرمة الشرعية.
وبالجملة ليس لنا دليل متقن يستفاد منه حرمة التنزه بالصيد. ولو كان محرما
لصار حرمته من الضروريات كنظائره من المحرمات المتداولة بين الناس. فمقتضى
الإطلاقات الدالة على جواز التصيد في غير حال الإحرام جوازه مطلقا وإن كان
للتنزه والتفريح.
قال عز من قائل في سورة المائدة: (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم
غير محلي الصيد وأنتم حرم).
وقال فيها أيضا (وإذا حللتم فاصطادوا).

1 - راجع النهاية / 122، باب الصلاة في السفر.
2 - راجع الخلاف 1 / 587، المسألة 349؛ وص 588، المسألة 350.
3 - راجع المهذب 1 / 106 - 105، باب صلاة السفر.
296

والأمر في الآية وقع عقيب الحظر، فيدل على حلية مطلق الاصطياد.
وقال فيها أيضا: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم
عليكم صيد البر ما دمتم حرما) (1) (2)
هذا مضافا إلى أن مقتضى الأصل أيضا الإباحة والحلية. فبذلك كله يؤيد كلام
المقدس الكاظمي (البغدادي) (قده).
وأما القول بالحرمة فيمكن أن يستشهد له برواية حماد بن عثمان السابقة
(الخامسة من أخبار سفر المعصية)، حيث إنه (عليه السلام) جعل فيها باغي الصيد كالسارق
في عدم حلية الميتة له وإن اضطر إلى أكلها، فيستفاد من جعله رديفا للسارق حكمه
بحرمة الميتة له وإن اضطر إلى أكلها أن فعله هذا يقع مبغوضا للمولى.
هذا ولكن العمل بمضمون الرواية مشكل، فإن حفظ النفس من أهم الواجبات،
فكيف يمكن لفقيه أن يلتزم بحرمة أكل الميتة لمثل الصائد إذا توقف حفظ نفسه على
أكلها؟! (3)
وأما التعبيرات الواردة في غير رواية حماد: من قوله (عليه السلام): " إنما خرج في لهو " قوله:
" لأنه ليس بمسير حق "، وقوله: " فإن التصيد مسير باطل " (4) فلا يستفاد منها
الحرمة الشرعية، لكونها أعم من الحرمة.
وحرمة بعض أقسام اللهو وإن كانت قطعية لكن لا يمكن الالتزام بحرمة جميع

1 - رقم الآيات: 1 و 2 و 96 من المائدة.
2 - كون هذه الآيات بصدد بيان حلية التصيد بما هو هو حتى يتمسك بإطلاقها للمقام
محل تأمل. ح ع - م.
3 - الحرمة الشرعية بسبب كون الاضطرار بسوء الاختيار لا تنافي إلزام العقل بفعله
إرشادا إلى أقل المحذورين، وقد التزموا بنظير ذلك في مسألة الخروج من الأرض المغصوبة
إذا توسطها بسوء اختياره. ح ع - م.
4 - راجع الوسائل 5 / 512 - 511 (= ط. أخرى 8 / 481 - 479)، الباب 9 من أبواب
صلاة المسافر، الأحاديث 1 و 4 و 7.
297

أقسامه، إذ المحرم من اللهو هو ما أوجب خروج الإنسان، من حالته الطبيعية،
بحيث يوجد له حالة سكر لا يبقى معها للعقل حكومة وسلطنة، كالألحان الموسيقية
التي تخرج من استمعها من الموازين العقلية وتجعله مسلوب الاختيار في
حركاته سكناته فيتحرك ويترنم على طبق نغماتها وإن كان من أعقل الناس أمتنهم.
وبالجملة المحرم منه ما يوجب خروج الإنسان من المتانة والوقار قهرا ويوجد له
سكرا روحيا يزول معه حكومة العقل بالكلية؛ ومن الواضحات أن التصيد وإن
كان بقصد التنزه ليس من هذا القبيل، فتدبر.
298

السادس: الوصول إلى حد الترخص
ومن شروط القصر الوصول إلى حد الترخص في خروجه من البلد، وعدم
الوصول إليه في رجوعه إلى البلد.
واعتبار ذلك هو المشهور بين الأصحاب. نعم، نسب إلى علي بن بابويه القول
بعدم اعتباره وثبوت القصر بمجرد الخروج من المنزل، (1) ولكنه شاذ لا يعبأ به.
تعيين حد الترخص
وذكر الأصحاب في تحديد حد الترخص أمرين: 1 - أن يخفى عليه أذان البلد.
2 - أن يتوارى عنه جدرانه.
ومستند هم للثاني صحيحة محمد بن مسلم التي رواها المشايخ الثلاثة.
وللأول أخبار مستفيضة أهمها صحيحة عبد الله بن سنان، فلنذكر الصحيحين
ثم نشرع في تحقيق المسألة، فنقول:
روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى،
عن العلاء بن زرين، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يريد
السفر، متى يقصر؟ قال: " إذا توارى من البيوت. " قال: قلت: الرجل يريد السفر
فيخرج حين تزول الشمس؟ قال: " إذا خرجت فصل ركعتين ". قال الكليني: وروى
الحسين بن سعيد، عن صفوان وفضالة، عن العلاء مثله. ورواه الشيخ أيضا بإسناده
عن الكليني، وبإسناده عن الحسين بن سعيد. ورواه الصدوق أيضا بإسناده عن
محمد بن مسلم. (2)

1 - راجع المختلف / 163 (= ط. أخرى 2 / 534)، المسألة 392.
2 - الوسائل 5 / 505 (= ط. أخرى 8 / 470)، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 1.
299

وروى الشيخ بإسناده عن الصفار، عن عبد الله بن عامر، عن عبد الرحمان بن
أبي نجران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن التقصير؟
قال: " إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم، وإذا كنت في الموضع الذي
لا تسمع فيه الأذان فقصر، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك. " (1)
والمراد بالبيوت في الرواية الأولى: المجتمع الذي توطن فيه هذا المسافر، من الخيم
المجتمعة أو الدور المتلاصقة التي لا يطلق على هذا الشخص ما دام فيها عنوان المسافر
وإن كان البلد المتحصل منها معظما. هذا.
ولا يخفى أن المذكور في الرواية الأولى يخالف ظاهرا لما ذكره الأصحاب، إذ
المذكور في كلماتهم تواري الجدران من المسافر، والمذكور في الرواية تواري المسافر
من البيوت، والمتبادر من تواريه من البيوت عدم رؤية البيوت إياه، لو فرض كونها
مبصرة، أو عدم رؤية أهلها إياه، نظير قوله تعالى: (واسأل القرية). (2)
وبالجملة الحديث يدل على اعتبار غيبوبة المسافر عن البلد لا غيبوبة البلد عنه.
فإن قلت: لعلهما متلازمتان خارجا، وكلام الأصحاب مبني على التعبير عن
الشيء بلازمه.
قلت: لا نسلم تلازمهما، فإن تواري المسافر عن البيوت يحصل قبل تواري
البيوت عنه، من جهة أن الجسم كلما كان أصغر جثة وأقصر كان من الخفاء أقرب،
فالمسافر لصغر جثته يتوارى من أهل البيوت قبل أن يتوارى البيوت منه. هذا.
ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال بوجوه:
الأول أن اشتهار التعبير بتواري الجدران يكشف عن وجود نص واصل يدل
عليه، أو عن كون هذا النص الواصل على خلاف ما وصل إلينا متنا، وحينئذ فيكون
الاعتبار بما اشتهر بين الأصحاب.

1 - المصدر السابق 5 / 506 (= ط. أخرى 8 / 472) والباب، الحديث 3.
2 - سورة يوسف (12)، الآية 82.
300

الثاني أن الملاك واقعا هو تواري المسافر من البلد وغيبوبته عنه كما في
الرواية، لكن الأصحاب إنما عبروا عنه بما عبروا لما رأوا أن الرواية وردت في مقام
التحديد وبيان أمارة يعتمد عليها المسافر في قصره وإتمامه، وما يمكن أن يطلع عليه
المسافر إنما هو خفاء البلد عليه، وأما خفاؤه على البلد فأمر لا يطلع عليه إلا بمثل
التلغراف ونحوه مثلا، فعبروا عما هو الملاك واقعا بما يكون أمارة على تحققه
قبلها، يجوز جعل شيء يحصل عقيب شيء آخر أمارة على ذلك الشيء. فمحط
نظرهم هو أنه يجب القصر عند خفاء الجدران من جهة أنه يكشف عن تحقق ملاك
القصر قبله. ونظير ذلك ما ذكروه من أن وصول الكواكب الطالعة في أول الغروب
إلى دائرة نصف النهار أمارة على انتصاف الليل، مع أنه من الواضحات أن الليل
الشرعي من المغرب إلى الفجر، فالانتصاف يحصل قبل وصول الكواكب إلى دائرة
نصف النهار كما لا يخفى.
الثالث أن يقال: إنا لا نسلم أن تواري المسافر من البيوت يحصل قبل تواري
البيوت منه، بل لعلهما متلازمان، فيجوز التعبير عن أحدهما بالآخر.
بيان ذلك: أن المراد بالبيوت إن كان هي البيوت المرتفعة المتداولة في زماننا
المشتملة على طبقتين أو أزيد سلمنا عدم التلازم بين خفائها على المسافر وخفاء
المسافر عليها، ولكن الظاهر أن المراد منها ليس هذا القبيل من البيوت، بل المراد
منها هي البيوت المتداولة في عصر صدور الرواية: من بيوت الأعراب وخيمهم التي
لم يكن ارتفاعها أزيد من ارتفاع قامة الإنسان بكثير، فيتلازم خفاؤها المسبب عن
البعد مع تواري المسافر عنها، إذ المؤثر في قبلية الخفاء وبعديته هو طول
الارتفاع قصره، ولا دخالة لعرض الشيء في ذلك كما لا يخفى. وبالجملة خفاء
البيوت أمارة تكشف عن حصول خفاء المسافر وثبوت الترخص إما من حينه كما
هو مقتضى هذا الوجه أو من قبله كما هو مقتضى الوجه الثاني، فتدبر.
301

وربما يقال أيضا في الجواب عن الإشكال: إن التواري من باب التفاعل الدال
على المشاركة، فالمراد حصول الخفاء من الطرفين.
وفيه أن التفاعل إنما يدل على المشاركة إذا عطف على فاعله بالواو كقولنا:
" تضارب زيد وعمرو "، لا مطلقا، فلا يدل التواري المذكور في الرواية على
الاشتراك.
ثم إن الظاهر من الحديث أن الاعتبار بنفس البيوت لا بسور البلد، وبالبيوت
المتعارفة لا كثيرة الارتفاع المتداولة في أعصارنا، وببيوت البلد من القرية أو المصر
أو الخيم المتلاصقة لا ببيوت المحلة وإن عظم البلد؛ ما لم يبلغ في الكبر حدا يطلق على
من خرج من محلة منها إلى محلة أخرى عنوان المسافر. والمراد بالتواري هو التواري
الحاصل بسبب نفس البعد لا بسبب الجبال والأشجار المحيطة بالبلد وارتفاع
الأرض وانخفاضها، والاعتبار في العين بما توسط في الحدة والضعف. وهذا كله
واضح لا سترة عليه.
هذا مما يتعلق بالحد الأول المذكور في رواية محمد بن مسلم.
وأما خفاء الأذان فالظاهر أن المراد به خفاء ما تعارف من أذان المصر، الصادر
عن مؤذن متوسط الصوت، في المأذنة المعدة له، في الهواء المتوسط؛ لاكل أذان ولو
كان في صحن المسجد مثلا. وإذا كبر المصر وتعدد الأذان المتعارف فيه كان الاعتبار
بما يكون في جهة طريق المسافر، كما أن الظاهر عدم دخل خصوصية الأذان بل هو
بنظر العرف من باب المثال. فالملاك خفاء الأصوات المرتفعة في البلد أي صوت كان.
وبذلك يظهر أن الاعتبار في خفاء الأذان بخفاء أصل الصوت، بحيث لا يسمع شيئا،
لا عدم تمييز فصوله فقط وإن توهم.
ثم إنه لا ريب في عدم دخالة فعلية البيوت أو الأذان، بل المراد حصول البعد
عن المقر الفعلي بمقدار يخفى عليه البيوت أو الأذان على فرض وجودهما. فالملاك هو
مقدار البعد الملازم لهذين الحدين، أو لأحدهما، على الخلاف الآتي.
302

تكميل
رفع التهافت بين روايتي الخفاء والتواري
لا يخفى أن صحيحة محمد بن مسلم تدل بمنطوقها على أن التواري من البيوت هو
السبب الموجب للقصر، وبمفهومها على نفي سببية الغير، وصحيحة ابن سنان تدل
بفقرتها الثانية على أن خفاء الأذان بنفسه سبب للقصر، وبفقرتها الأولى التي هي
بمنزلة المفهوم للفقرة الثانية تدل على نفي سببية الغير.
وعلى هذا أشكل على القوم الجمع بين الصحيحتين:
فقيل بتقديم صحيحة ابن مسلم وطرح الأخرى، لكون نقل المشايخ الثلاثة سببا
لرجحانها.
وقيل بالعكس، لاعتضاد صحيحة ابن سنان بالروايات الأخر الواردة
بمضمونها.
وقيل بأنهما متكافئتان، فيتخير الفقيه في الأخذ بأيهما أراد، نظير سائر
التخييرات الظاهرية المذكورة في الموارد المختلفة. (1) ثم يقع النزاع في أن التخيير
ابتدائي أو استمراري.
هذا كله بناء على عدم تقديم الجمع العرفي على الترجيح أو التخيير، وأما بناء
على تقديمه كما هو الأقوى فهل يتمشى الجمع العرفي في المقام أو لا؟ وعلى فرض
التمشي فهل يجمع بينهما بالتخيير الواقعي بمعني أن المكلف يتخير في جعل هذا حدا
أو ذلك، نظير التخيير في باب خصال الكفارة، أو بتقييد منطوق كل منهما بمنطوق
الأخرى، فينتج عدم كفاية أحدهما في ثبوت الترخص ما لم يحصل الآخر، أو بتقييد
مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى، فينتج

1 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 545؛ والمختلف / 163 (= ط. أخرى 2 / 533)، المسألة
392.
303

كون كل واحد منهما سببا مستقلا للترخص؟
في المسألة وجوه.
والحق أن يقال: إن كلا من الجمع والتخيير والترجيح موقوف على التعارض،
وأنى لكم بإثباته في المقام، بل لنا أن نمنعه بأحد من الوجهين الآتيين:
الأول: أن التعارض متوقف على تسليم ما ذكروه من حصول خفاء الأذان قبل
خفاء الجدران دائما، ونحن لا نسلم ذلك، إذ لم يعلم بنحو الجزم أن المراد بالأذان أذان
آخر البلد من ناحية المسافر، أو أذان وسط الشهر، أو غيرهما؟ ثم المعتبر هو الأذان
في المأذنة المعدة له، أو مطلق الأذان؟ ثم إن الملاك هو خفاء نفس الصوت، أو عدم
تمييز الفصول؟ ثم إن المؤذن يعتبر فيه أن يكون رفيع الصوت، أو لا؟ ولو قيل
باعتبار التوسط في هذه الأمور فالأفراد المتوسطة أيضا مختلفة. ثم إن الاعتبار في
الأمارة الثانية بتواري المسافر من البيوت كما هو مقتضى الرواية لا بتواريها منه، لو
سلم فليس المراد بالبيوت: البيوت المتداولة في زماننا، بل البيوت التي تقرب في
الطول طول قامة الإنسان أعني بيوت الأعراب والقرى المتداولة في عصر صدور
الرواية، وخفاؤها لا يتوقف على طي مسافة كثيرة، ولو سلم فلا أقل من شمول
إطلاق البيوت لمثل هذه البيوت أيضا.
وعلى هذا فبعد ما تفاوت أفراد الأذان تفاوتا فاحشا لعل ما أريد منها واقعا
يلازم تواري المسافر من البيوت أو تواريها منه، أو لعل كلا من الحدين قد اعتبر
بعرض عريض بحيث يلازم بعض مراتبه بعض مراتب الحد الآخر. وبالجملة ليس
لكل من خفاء الأذان أو البيوت حد معين مشخص لا يحتمل الزيادة والنقصان حتى
يحكم بالمقايسة بينهما أن أيا منهما يحصل قبل الآخر. وقد عرفت أيضا في مطاوي
كلماتنا أن الاعتبار ليس بنفس الأمرين المذكورين وفعليتهما، بل جعل كل منهما
كناية عن مقدار من البعد. فالرواية الأولى تدل على أن الملاك في ثبوت الترخص
304

حصول البعد بمقدار يخفى معه المسافر أو البيوت، والرواية الثانية تدل على أن
الملاك فيه حصول البعد بمقدار يخفى معه الأذان. وعلى ما ذكرناه من مراتب الحدين
فإثبات اختلاف هذين البعدين مشكل. ولعل المراد من الرواية الأولى خفاء نفس
المسافر وجثته، ومن الرواية الثانية خفاء أذان يفرض في آخر البلد في جهة طريق
المسافر على المأذنة بصوت رفيع بحيث لا يسمع الصوت أصلا، ولعلهما متقاربان أو
متلازمان، فلا يثبت التعارض بين الروايتين حتى يجمع بينهما أو نختار الترجيح أو
التخيير.
الوجه الثاني أن يقال: إن الخبرين ليسا في مقام بيان الموضوع الواقعي، بل لعل
الموضوع الواقعي لثبوت الترخص بعد مخصوص واقعي يطلع عليه الشارع، ولكنه
لما كان العلم به والاطلاع عليه لغير الشارع أمرا مشكلا جعل لتشخيصه أمارتين
ظاهريتين، فالحكم في كل من الروايتين حكم ظاهري يجوز للمكلف أن يعتمد
عليه ما لم ينكشف الواقع، والنكتة في تعدد الأمارة تمكن بعض المسافرين من هذه
الأمارة وتمكن بعضهم من الأخرى. وبالجملة الروايتان بصدد بيان الحكم
الظاهري، فلا مجال لإعمال المعارضة بينهما.
هذا كله بناء على عدم تسليم التعارض. ولو سلم فهل يقدم الجمع بينهما، أو
الترجيح، أو التخيير؟
الظاهر أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، وفاقا للشيخ الأنصاري (قده) ومن
تبعه، (1) غاية الأمر وجوب تقييده بما إذا كان جمعا عرفيا. وبالجملة الجمع مقدم على
شقيقيه.
هذا بناء على وجود ملاك الترجيح في المقام، ولكن لنا منعه، حيث إن الملاك في

1 - راجع كتاب الصلاة للشيخ (قده) / 398؛ وشرح تبصرة المتعلمين للشيخ ضياء
الدين العراقي (قده) 2 / 335 (= ط. أخرى 2 / 396).
305

ترجيح أحد الخبرين موافقته للشهرة أو الكتاب أو مخالفته للعامة، والخبران في
المقام متكافئان من هذه الجهات، إذ كلاهما مشهوران بين الأصحاب وقد أفتوا
بمضمونهما بحيث يكشف بذلك صدورهما وجواز العمل بهما، وليس في الكتاب اسم
من حد ترخص البلد حتى يحكم بموافقة أحد الخبرين له أو بمخالفته، والحكم
باعتبار حد الترخص من متفردات الإمامية، وأما الجمهور فقد تسالموا تقريبا على
ثبوت القصر بصرف الخروج من البلد (1)، فليس أحد الخبرين موافقا للعامة حتى
يطرح لذلك.
فتعين الجمع أو التخيير الظاهري، وقد عرفت أن الجمع إذا كان جمعا عرفيا مقدم
على التخيير، فيجب بيان طرق الجمع في المقام وقد عرفت أنها ثلاثة: 1 - التخيير
الواقعي، نظير خصال الكفارة. 2 - تقييد المنطوقين. 3 - تقييد المفهومين:
أما الأول فيرد عليه أن التخيير الواقعي إنما يتصور في الحكم التكليفي كوجوب
إحدى الخصال ووجوب إنقاذ أحد الغريقين مثلا، وأما في التحديدات فلا يعقل ولا
يتصور، اللهم إلا إن يقال برجوع التخيير بين الحدين في المقام إلى تخير المكلف بين
القصر والإتمام في الصلوات التي يأتي بها بين الحدين. هذا. ولكن يرد عليه أيضا أنه
ليس جمعا عرفيا، إذ المركوز في أذهان أصحابنا كان تعين القصر على المسافر في

1 - قال ابن رشد في البداية - ج 1 ص 145 - ما حاصله: " أن مالكا قال في الموطأ: لا
يقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية، ولا يتم حتى يدخل أول
بيوتها، وقد روي عنه أنه لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال،
وبالقول الأول قال الجمهور. "
ولكن في الخلاف - ج 1 ص 572 - (المسألة 324): " إذا نوى السفر لا يجوز أن يقصر
حتى يغيب عنه البنيان ويخفى عنه أذان مصره أو جدران بلده، وبه قال جميع الفقهاء. وقال
عطاء: إذا نوى السفر جاز له القصر وإن لم يفارق موضعه. "
ولا يخفى ما في النقلين من التهافت، فراجع. ح ع - م.
306

قبال الجمهور القائلين بالتخيير، وإنما أرادوا بسؤالهم السؤال عن الحد الذي
يثبت عنده القصر بعد ما ارتكز في أذهانهم تعينه، فلو كان مراده (عليه السلام) ثبوته تخييرا
لكان عليه بيانه، فتدبر جيدا.
وأما الثاني فيرد عليه أن التقييد إنما يتصور فيما إذا كان هنا لفظ دال على كون
حيثية ما تمام الموضوع للحكم فأريد بدليل القيد بيان كونه جزء منه بمعنى دخالة
كل من الحيثيتين في الموضوع، وليس الأمر في المقام كذلك، إذ لا دخل لواحدة من
حيثية خفاء الأذان وحيثية خفاء الجدران في موضوع القصر، لما عرفت من أن
الاعتبار ليس بأنفسهما، بل كل منهما كناية عن مقدار البعد المعتبر، فلا مجال
للإطلاق والتقييد في المقام.
فيتعين الوجه الثالث من وجوه الجمع، أعني تقييد مفهوم كل منهما بمنطوق
الآخر، ومقتضاه كفاية حصول كل واحد منهما في الحكم بثبوت القصر.
نعم، يرد على الوجهين الأخيرين من وجوه الجمع أن مرجعهما إلى الطرح، إذ
الاحتياج إلى الجمع إنما هو بعد فرض التعارض، وقد عرفت أن التعارض في المقام
يتوقف على تسليم أن أحد الحدين كخفاء الأذان مثلا يحصل قبل الآخر، وحينئذ
فإن قلنا بمقتضى الجمع الثاني وكون الاعتبار بحصول الحدين معا كان مقتضاه طرح
رواية ابن سنان عملا، إذ الفرض حصول خفاء الأذان قبل خفاء البيوت دائما، وإن
قلنا بمقتضى الجمع الثالث وكفاية أحدهما كان مقتضاه طرح رواية ابن مسلم عملا،
إذ الفرض حصول خفاء البيوت بعد خفاء الأذان دائما.
فالأولى في المقام منع ثبوت المعارضة رأسا كما مر بيانه، ونحكم بكفاية أي من
الأمرين حصل أولا كما عليه المشهور من القدماء، فتدبر جيدا.
ثم لا يخفى أن الهمداني (قده) بعد ما ذكر ابتناء فتوى المشهور على تخصيص
مفهوم كل من الروايتين بسبب منطوق الآخر قال: " واعترض على هذا الجمع
307

شيخنا المرتضى بما لفظه: وهذا الجمع حسن لو كان المقام مقام بيان السبب
للتقصير فيحمل على تعدد السبب كما في نظائره، لكن المقام مقام بيان التحديد،
والحمل على تعدد الحد غير مستقيم بين الأقل والأكثر، ولعله لذا عكس المتأخرون
الجمع بين الصحيحتين فاعتبروا خفاء الأمرين. " انتهى. ثم قال في المصباح ما
حاصله: " أن العادة قاضية بكون تواري الشخص من البيوت فضلا عن تواري
جدران البلد عنه أخص من خفاء الأذان، وصحيحة محمد بن مسلم لا تدل على
انتفاء التقصير عند انتفاء التواري إلا بالمفهوم الذي غايته الظهور، فلا يصلح
معارضا للصحيحة الثانية التي هي نص في إناطة الحكم وجودا وعدما بسماع الأذان
وعدمه. فمقتضى الجمع حمل صحيحة ابن مسلم على تحديد تقريبي ببيان الموضوع
الذي يتحتم عنده التقصير من غير أن يقصد به الانتفاء عند الانتفاء، والحد الحقيقي
هو بلوغه إلى موضع لا يسمع فيه الأذان ". (1)
أقول: يرد على الشيخ (قده) أنه كر على ما فر منه، فإنه اعترض على المشهور
بأن تعدد الحد غير مستقيم بين الأقل والأكثر من جهة استلزامه طرح الأكثر وكون
التحديد به لغوا، مع أن القول باعتبار الأمرين أيضا يوجب طرح الأقل رأسا وكون
ذكره لغوا. وقد عرفت أن الحق في المقام أن يقال بعدم ثبوت التعارض والتنافي بين
الحدين حتى نتكلف للجمع بينهما، بل لعلهما يتلازمان غالبا، فجعل الشارع كل
واحد منهما علامة ومعرفا للبعد المخصوص، وللمكلف أن يعتمد على أي منهما
حصل. ثم لو فرض التنافي والتعارض فكلام صاحب المصباح كلام متين، ولكن
يجب أن يريد بالبيوت والتواري ما ذكرناه حتى يتقارب الحدان ويكون تواري
المسافر عن البيوت حدا تقريبيا، فتدبر.

1 - راجع مصباح الفقيه / 751 - 750 (كتاب الصلاة) في الشرط السادس من شروط
القصر، وكتاب الصلاة للشيخ (قده) / 398.
308

وهاهنا ست مسائل
اعتبار حد الترخص في طرف الرجوع
الأولى: لا إشكال في اعتبار حد الترخص في الخروج من الوطن كما عرفت، هل
يعتبر في الرجوع إليه، بأن يكون الوصول إليه موجبا للإتمام، أو لا يعتبر فيبقى حكم
القصر إلى أن يصل إلى منزله؟
المشهور بين الأصحاب اعتباره، فيكون القصر والإتمام دائرين مدار حد
الترخص دخولا وخروجا.
وقد دل على حكم كلا الطرفين بالصراحة صحيحة ابن سنان السابقة.
والمذكور في صحيحة ابن مسلم وإن كان حكم الخروج فقط لكن العرف يلقي
الخصوصية، بحيث لو لم يكن حكم الرجوع مذكورا في صحيحة ابن سنان أيضا
لاستفدنا من الروايتين حكم الرجوع أيضا.
والظاهر أن ابن مسلم أيضا استفاد ذلك.
والسر في ذلك هو أن مسألة تعيين الموضع الذي يثبت عنده القصر كانت
مبحوثا عنها بين فقهاء الجمهور:
فروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله. وقال
عطاء: إذا خرج من بيته قصر، وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد: لا يجوز
القصر حتى يفارق البلد، ولم يشترط خفاء الجدران ولا الأذان. وعن قتادة أنه قال:
إذا جاوز الجسر أو الخندق قصر. ولم يكونوا يفرقون في ذلك بين الخروج الرجوع. (1)
وكان أذهان أصحاب الأئمة (عليهم السلام) أيضا مسبوقة بهذا البحث، وصار هذا سببا

1 - راجع التذكرة 1 / 189 (= ط. أخرى 4 / 378)، في الشرط الثاني من شروط القصر،
المسألة 625؛ والمغني 2 / 96.
309

لسؤال ابن مسلم وابن سنان في الروايتين، وبعد ما أجاب الإمام (عليه السلام) انسبق إلى
أذهانهما لا محالة دوران القصر والإتمام مدار غيبة المسافر عن بلده، بحيث يخفى عليه
آثاره، وحضوره فيه كذلك.
وإن شئت قلت: ليس المتبادر من كلام الإمام (عليه السلام) كونه بصدد بيان حكم
تعبدي محض، بل المتبادر منه بمناسبة الحكم والموضوع هو أن اعتبار تواري البيوت
وخفاء الأذان من جهة أنهما ما لم يخفيا لم يحصل عرفا مفهوم السفر الذي أخذ فيه
الغيبوبة عن الوطن، فيتوقف القصر على تجاوز المسافر عن الحدود التي يتردد فيها
أهالي البلد غالبا ترددهم في نفس البلد ويكون الكون فيها بنظرهم كونا في نفس
البلد بحيث يعدونه مصداقا للحضور من جهة ظهور آثار البلد من البيوت
ونحوها وسماع الأصوات المرتفعة فيه، ولا يكون بحسب نظر العرف فرق في ذلك بين
الخروج والرجوع قطعا كما لا يخفى وجهه، اللهم إلا أن يقال: إن مقتضى هذا البيان
اعتبار المسافة أيضا من حد الترخص، فتدبر.
وبالجملة الشهرة المحققة القريبة من الإجماع، وقوله في صحيحة ابن سنان: " و
إذا قدمت من سفرك فمثل ذلك "، وشهادة العرف بتساوي الخروج والرجوع ملاكا
مما تدل على دوران القصر والإتمام مدار حد الترخص خروجا ورجوعا.
فلا يعتنى إلى الأخبار المعارضة الظاهرة أو الصريحة في بقاء القصر إلى أن
يدخل المسافر بيته، (1) وإن اعتنى بها بعض المتأخرين. (2)
إذ يرد عليها أولا: أن الأخبار الشاذة التي أعرض عنها الأصحاب ساقطة عن
الحجية وإن لم يكن لها معارض فكيف في صورة المعارضة؟! إذ عمدة الدليل على
حجية الأخبار بناء العقلاء على العمل بها، ولا شك في أن الخبر الواصل إلى عبيد

1 - راجع الوسائل 5 / 507 (= ط. أخرى 8 / 474)، الباب 7 من أبواب صلاة المسافر.
2 - منهم: الفيض والبحراني والسبزواري - قدس الله أسرارهم - راجع مفاتيح الشرائع
1 / 26؛ والحدائق 11 / 412؛ والكفاية / 33.
310

المولى إذا كان مما أعرض عنه بطانة المولى وخواصه العارفون بمرامه لا يعتني به
العبيد قطعا، وليس بناؤهم على العمل به البتة، وإن كان في غاية الصحة سندا، بل
كلما ازداد صحة ازداد ضعفا.
وثانيا: أنه لو سلم حجية الأخبار الشاذة في أنفسها فلا إشكال في سقوطها عن
الحجية إذا عارضها أخبار أخر اشتهر بين الأصحاب العمل بها والإفتاء على وفقها،
لما ورد في باب الخبرين المتعارضين من وجوب الأخذ بأشهرهما، وقد بينا في محله
أن المراد بهذه الشهرة هو الشهرة في مقام العمل والإفتاء، لا اشتهار الرواية فقط. (1)
وثالثا: أن هذه الأخبار موافقة لبعض من العامة كما عرفت بخلاف أخبار حد
الترخص، فإن اعتبار حد الترخص من متفردات الإمامية ولم يعتبره المخالفون لا في
الذهاب ولا في الرجوع، فيجب الأخذ بما خالفهم، لأن الرشد في خلافهم. ومورد
تلك الأخبار وإن كان صورة الرجوع لكن مقتضى إلقاء الخصوصية الذي يساعده
العرف تعرضها لحكم الخروج والرجوع معا، فتتعارض مع أخبار حد الترخص في
كلا الطرفين، فيجب طرح تلك الأخبار، أو توجيهها بأن يقال: إن المراد بدخول
البيت المذكور فيها هو الوصول إلى حد الترخص، من جهة أن العرف يطلقون على
من وصل إلى حدود بلده بحيث ظهر له آثاره أنه وصل إلى بيته ومنزله وأنه دخلهما،
فتدبر.
هل يعتبر حد الترخص في محل الإقامة؟
المسألة الثانية: كما يعتبر حد الترخص في الخروج من الوطن والرجوع إليه كما
مر فهل يعتبر في محل الإقامة بقسميها أيضا في الدخول والخروج، أو لا يعتبر مطلقا،
أو يفصل بين الدخول فيه والخروج منه فيعتبر في الثاني دون الأول؟
في المسألة وجوه.

1 - راجع نهاية الأصول / 541، المقصد السابع في الظن.
311

ويوجه الأول: بأن الإقامة قاطعة للسفر موضوعا كما مر بيانه في محله، فهي
تجعل السفر سفرين شرعا. فالمسافر بوصوله إلى محل الإقامة يخرج من كونه مسافرا
حتى ينشئ سفرا جديدا، وقد عرفت في المسألة السابقة أن اعتبار حد الترخص
ليس تعبدا محضا، بل هو من جهة أن الشخص ما لم يخرج من فناء البلد ولم يتجاوز
عن حدوده وتوابعه المتصلة به لا يعد بنظر العرف مسافرا، بل يعد حاضرا في هذا
البلد ما لم يخف عليه آثاره المدركة بالسمع أو البصر، ومقتضى هذا البيان أن يخرج
المسافر بوصوله إلى حد ترخص محل الإقامة من كونه مسافرا في طرف الدخول، أن
لا يصدق عليه هذا العنوان ما لم يصل إليه في طرف الخروج.
ويوجه الثاني: بأن أدلة ثبوت القصر للمسافر مطلقة، وغاية ما ثبت بسبب
الصحيحتين السابقتين تقييدها بالنسبة إلى الوطن فقط، فإنه وإن لم يذكر فيها لفظ
الوطن ولذلك ربما ادعي إطلاقهما لكل بلد أنشئ منه السفر لكنهما تنصرفان إلى
الوطن قطعا. ويؤيد ذلك قوله في صحيحة ابن سنان: " وإذا قدمت من سفرك فمثل
ذلك "، فيبقى محل الإقامة مشمولا لعمومات أدلة القصر. وما ذكر من وحدة الملاك
في الوطن ومحل الإقامة بعد تسليم القاطعية الموضوعية ممنوع، إذ العرف أيضا يفرق
بينهما، فيعد المسافر الذي لم يخف عليه آثار بلده حاضرا فيه، بخلاف من خرج من
محل الإقامة، فإنه بعد ما أعرض عنه بالخروج يصدق عليه عنوان المسافر وإن لم
يصل بعد إلى حد الترخص. والسر في ذلك أن محل الإقامة بالخروج منه يخرج من
كونه مقرا للإنسان بالكلية ويصير بالنسبة إليه كغيره من البلدان.
ويوجه الثالث: بأن الإقامة بعد ما تحققت تقطع السفر وتجعل محلها بمنزلة
الوطن فيترتب عليه آثاره، وأما قبل تحققها فلا يترتب على المحل حكم الوطن ولا
يخرج الإنسان بالوصول إليه من كونه مسافرا. هذا.
والأحوط في المسألة هو الجمع. أو تأخير الصلاة إلى أن يصل إلى محل لا يشك
في حكمه ولا سيما في طرف الدخول.
312

عدم اعتبار الحد في غير الوطن ومحل الإقامة
المسألة الثالثة: لا يعتبر حد الترخص في السفر الشرعي المنشأ من غير الوطن
ومحل الإقامة.
وذلك كالعاصي بسفره إذا تبدل في الأثناء قصده إلى الطاعة، وكالمسافر بلا
قصد للمسافة إذا قصدها في الأثناء، وكالمكاري مثلا إذا قصد في الأثناء سفرا في
غير شغله، ونحو ذلك.
ففي هذه الموارد يثبت القصر بصرف الشروع في السفر الموجب له، كما يدل عليه
إطلاقات أدلة القصر. وغاية ما ثبت بالصحيحتين تقييدها بالنسبة إلى الوطن أو
بإضافة محل الإقامة، فيبقى غيرهما مشمولا للإطلاقات.
والسر في ذلك ما أشرنا إليه من أن عدم ثبوت القصر بالنسبة إلى من لم يصل إلى
حد الترخص ليس تعبدا محضا، بل من جهة أنه يعد حاضرا في البلد ما لم يتوار عنه
جدرانه ولم يخف عليه أذانه، وإنما يصدق عليه بحسب نظر العرف عنوان المسافر إذا
تجاوز الحدين وخفي عليه آثار البلد بالكلية.
وهذا البيان لا يجري في غير الوطن وما بحكمه، فإن العاصي بالسفر مثلا إذا
تبدل قصده في الأثناء لا يتوقف صدق عنوان المسافر عليه على التجاوز عن حد
خاص، بل العنوان كان صادقا عليه قبل تبدل القصد أيضا، غاية الأمر عدم ثبوت
القصر له لوجود مانع يمنع عنه وهو العصيان، فإذا ارتفع المانع ثبت القصر بلا حالة
منتظرة، إذ ليس مكان تبدل القصد مثلا وطنا للمسافر حتى يعد كونه في
حدوده توابعه حضورا فيه ويتوقف صدق عنوان السفر على التجاوز عن حدوده
بالكلية، فتدبر.
313

إذا اعتقد الوصول إلى الحد فصلى قصرا...
المسألة الرابعة: قال في العروة: " إذا اعتقد الوصول إلى الحد فصلى قصرا ثم بان
أنه لم يصل إليه وجبت الإعادة أو القضاء تماما. وكذا في العود إذا صلى تماما باعتقاد
الوصول فبان عدمه وجبت الإعادة أو القضاء قصرا. وفي عكس الصورتين بأن
اعتقد عدم الوصول فبان الخلاف ينعكس الحكم، فيجب الإعادة قصرا في
الأولى تماما في الثانية ". (1)
أقول: إن كان مراده (قده) هو الإعادة أو القضاء في نفس الموضع الذي صلى فيه
أولا صح ما ذكر، وإن كان مراده الإعادة أو القضاء مطلقا في أي موضع كان، كما هو
ظاهر عبارته، فيرد عليه أن هذا الشخص بعد ما وقع صلاته الأولى باطلة يجب
عليه أن يراعي في الإعادة وظيفته الفعلية، فإن كان قبل الحد أتم وإن كان بعده
قصر. وفي القضاء أيضا يجب عليه مراعاة حاله في آخر الوقت، فإنه زمان الفوت،
فإن كان في آخر الوقت قبل الحد قضاها تماما، وإن كان بعده قضاها قصرا، فتدبر.
حكم من وصل في أثناء الطريق إلى ما دون الحد
المسألة الخامسة: وقال فيها أيضا: " إذا سافر من وطنه وجاز عن حد الترخص
ثم في أثناء الطريق وصل إلى ما دونه إما لاعوجاج الطريق، أو لأمر آخر، كما إذا
رجع لقضاء حاجة أو نحو ذلك، فما دام هناك يجب عليه التمام، وإذا جاز عنه بعد ذلك
وجب عليه القصر إذا كان الباقي مسافة ". (2)

1 - العروة الوثقى 2 / 138 في الشرط الثامن من شروط القصر، المسألة 68.
2 - المصدر السابق 2 / 139 في الشرط الثامن، المسألة 69.
314

أقول: قد مر منا سابقا أن مبدأ المسافة يعتبر من البلد لا من حد الترخص، فما
دون حد الترخص يحسب من المسافة مع ثبوت الإتمام فيه قطعا. وعلى هذا
فالوصول إلى ما دون حد الترخص لاعوجاج الطريق ونحوه لا يوجب انقطاع
السفر وعدم انضمام المسافة السابقة إلى اللاحقة، ولا يجعل السفر سفرين، بل القسمة
الواقعة فيما دون الحد أيضا تحسب من المسافة قطعا، لعدم كونها أسوء حالا من
القسمة الواقعة بين البلد وحد الترخص في ابتداء السفر، وبالجملة لا ملازمة بين
وجوب الإتمام وعدم الاحتساب من المسافة، فلو سلم وجوب الإتمام عليه إذا
وصل إلى ما دون المسافة لاعوجاج الطريق فقاطعيته للسفر وعدم احتساب هذه
القسمة من المسافة ممنوعة.
ويمكن أن يستشكل في أصل وجوب الإتمام أيضا، إذ الشخص بخروجه من
البلد صار مسافرا حقيقة، ولذا تحسب المسافة من نفس البلد، غاية الأمر أنه ثبت
بأدلة اعتبار حد الترخص ثبوت الإتمام فيما دونه تعبدا.
وحينئذ فلأحد أن يقول بانصراف الصحيحتين إلى خصوص مبدأ السفر ومنتهاه.
فالمسافر ما لم يصل في ابتداء سفره إلى حد الترخص لم يثبت له القصر شرعا،
بل لعل العرف أيضا لا يعتبر خروجه من البلد بالكلية، وقس عليه حكم الانتهاء.
وأما في الأثناء فلا دليل على ثبوت الإتمام بعد صدق عنوان السفر حقيقة.
اللهم إلا أن يقال بأن اعتبار حد الترخص ليس تعبدا محضا كما مر سابقا، بل من
جهة أن المسافر ما لم يتوار عنه آثار بلده لم يعد مسافرا بل يعد حاضرا في بلده
عرفا، ولا يفرقون في ذلك بين المبدأ والمنتهى، وبين الأثناء. هذا.
ولكن يرد على ذلك أن مقتضاه اعتبار المسافة أيضا من حد الترخص، مع
وضوح بطلانه، كما مر في محله.
315

حكم الوصول إلى حد الترخص في أثناء الصلاة
المسألة السادسة: وقال في العروة أيضا: " إذا كان في السفينة أو العربة فشرع في
الصلاة قبل حد الترخص بنية التمام، ثم في الأثناء وصل إليه، فإن كان قبل الدخول
في قيام الركعة الثالثة أتمها قصرا وصحت، بل وكذا إذا دخل فيه قبل الدخول في
الركوع، وإن كان بعده فيحتمل وجوب الإتمام، لأن الصلاة على ما افتتحت، لكنه
مشكل، فلا يترك الاحتياط بالإعادة قصرا أيضا. وإذا شرع في الصلاة في حال
العود قبل الوصول إلى الحد بنية القصر، ثم في الأثناء وصل إليه أتمها تماما وصحت،
والأحوط في وجه إتمامها قصرا ثم إعادتها تماما ". (1)
أقول: الظاهر أن القصر والإتمام ليسا من العناوين القصدية التي تتعين
بالقصد والنية، نظير حيثية الظهرية والعصرية المتقومتين بالقصد، بل صلاة الظهر مثلا
إذا حصلت أربعا في الخارج كانت تامة، وإذا حصلت ثنائية كانت مقصورة. وبعبارة
أخرى: ليست المقصورة والتامة طبيعتين مختلفتين متقومتين بالقصد والنية، بل
صلاة الظهر مثلا طبيعة واحدة، غاية الأمر أنها قد توجد في الخارج رباعية فيطلق
عليها أنها تامة، وقد توجد ثنائية فيطلق عليها المقصورة بلا دخل للقصد في ذلك.
نعم حيثية الظهرية والعصرية من العناوين المتقومة بالقصد، نظير حيثية التعظيم
والتحقير ونحوهما من العناوين الإنشائية التي لا تنطبق على معنوناتها إلا
بالقصد والنية.
ويشهد لذلك ما دل على العدول من العصر إلى الظهر، وما دل على بطلان صلاة
العصر مثلا إذا أتى بها في الوقت المختص بالظهر، إذ يظهر بذلك أن صرف وقوع
الصلاة أولا لا يكفي في انطباق عنوان الظهر عليها، بل هي أمر تتحقق خارجا
بالقصد، ويكون التفاوت بين الظهر والعصر بحسب القصد بعد اشتراكهما بحسب

1 - المصدر السابق 2 / 138 في الشرط الثامن، المسألة 67.
316

الصورة. كيف! ولو كانت الظهرية بمجرد وقوع الصلاة أولا لم يتصور تقدم
العصر عليها، ولم يكن معنى للعدول من إحداهما إلى الأخرى، كما لا يخفى.
وكيف كان فالقصر والإتمام ليسا من العناوين المتحققة بالقصد، بل التفاوت
بينهما بصرف وقوع التسليم على رأس الاثنتين أو الأربع.
وعلى هذا ففي الصورة الأولى من صورتي المسألة وإن كان الشروع في الصلاة
بنية التمام لكن القصد لا أثر له بل يقع لغوا، وإنما يجب على المكلف أن يراعي في
صلاته العنوان الفعلي المنطبق عليه من كونه بحيث يسمع أذان بلده أو لا يسمع،
فيتمها على حسب وظيفته الفعلية، فإن وصل في حال التشهد الأول مثلا إلى مكان
لا يسمع فيه الأذان صار مشمولا لقوله (عليه السلام): " وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع
فيه الأذان فقصر ". (1) ولا يضر بذلك وقوع ما سبق بقصد التمام، فإن هذا القصد لا
يوجب تعين المأتي به، لما عرفت من عدم كون القصر والإتمام من العناوين القصدية
المتعينة بالقصد والنية.
وبهذا البيان يندفع ما استدل به على وجوب الإتمام في مفروض المسألة من أن
الصلاة على ما افتتحت، لاختصاص ذلك بالعناوين المتقومة بالقصد مثل
الظهرية العصرية ونحوهما.
وقد ظهر بما ذكرنا أنه لو التفت قبل القيام للثالثة إلى قرب الوصول إلى حد
الترخص لم يجز له القيام، بل وجب عليه أن يصبر حتى يصل إليه ويسلم. هذا.
ولكن لأحد أن يدعي انصراف قوله: " وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه
الأذان فقصر " عن مثل هذا الفرض، إذ المتبادر منه ثبوت القصر لمن وقع جميع
صلاته في الموضع الذي لا يسمع فيه الأذان، لا لمن وقع جميع صلاته ما عدا السلام
مثلا فيما دون حد الترخص ثم وصل إليه فتردد أمره بين أن يسلم على الثنتين أو
يضيف ركعتين.

1 - الوسائل 5 / 506 (= ط. أخرى 8 / 472)، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 3.
317

وبعبارة أخرى: الظاهر كون الإمام (عليه السلام) بصدد تعيين الوظيفة لمن أراد أن يشرع
في صلاته فقال: " إذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر "، أي اقرأ
صلاة مقصورة.
وأما على فرض شموله للمقام فيصير معناه: اجعل المقروءة مقصورة، وهو
خلاف الظاهر جدا، لا أقول: إن قصد الإتمام أولا يضر حتى يدفع بعدم كون القصر
والإتمام من العناوين القصدية، بل أقول: إن الرواية إما أن تكون ناظرة إلى بيان
الوظيفة لمن أتم تشهده مثلا وتردد أمره بين أن يسلم أو يقوم، فيكون معنى قوله
" قصر ": " اجعل ما بيدك مقصورة "، وإما أن تكون ناظرة إلى تعيين الوظيفة لمن أراد
أن يشرع في صلاته، ويكون معنى قوله " قصر ": " اقرأ صلاة مقصورة ". ولا يخفى أن
المتبادر هو الثاني، وأما الحمل على الجامع بين المعنيين فمشكل جدا.
والحاصل أن شمول الرواية لمثل من شرع في صلاته قبل الوصول إلى حد
الترخص بنية الإتمام، ووصل إلى الحد في أثنائها مشكل، فيرجع إلى ما هو الأصل
في الصلاة، وهو الإتمام، فإنها بحسب طبعها غير مقصورة، كما يستفاد ذلك مما دل
على كون عدد الفرائض والنوافل إحدى وخمسين.
وقد اختار هذا القول في التذكرة أيضا، حيث قال: " ولو أحرم في السفينة قبل
أن تسير وهو في الحضر، ثم سارت حتى خفي الأذان والجدران لم يجز له القصر، لأنه
دخل في الصلاة على التمام ". (1)
والظاهر أن مراده (قده) من تعليله هو ما ذكرناه من كون أدلة القصر ناظرة إلى
بيان الوظيفة لمن وقع جميع صلاته في السفر، ولا يشمل إطلاقها لهذه الصلاة التي
وقعت عمدتها فيما دون حد الترخص، ولم يرد كون القصر والإتمام من العناوين
القصدية، وإن كان ربما يوهمه ظاهر كلامه، فتدبر.
وربما يتمسك في المقام لإثبات وجوب التمام بالاستصحاب، بتقريب أن هذا

1 - التذكرة 1 / 189 (= ط. أخرى 4 / 382)، في الشرط الثاني من شروط القصر،
المسألة 628.
318

المكلف حين ما شرع في هذه الصلاة كان مأمورا بالإتمام فيستصحب.
وفيه أن الذي ثبت وجوب الإتمام فيها هي الصلاة الواقعة بأجمعها فيما دون
الحد، وأما الصلاة التي يقع بعضها فيما دون الحد فحكمها مشكوك فيه من أول الأمر،
إذ لو علم المصلي من أول الأمر أن صلاته هذه لا تقع بأجمعها فيما دون الحد لكان
يشك في وظيفته من الأول. هذا.
مضافا إلى أن الرجوع إلى الأصل إنما يصح إذا لم يكن في المقام دليل
اجتهادي، فيما نحن فيه تكون عمومات أدلة الإتمام محكمة كما مر.
هذا كله فيما يتعلق بالصورة الأولى، ومما ذكرنا يظهر حكم الصورة الثانية أيضا،
أعنى ما إذا شرع في الصلاة في حال العود قبل الوصول إلى الحد بنية القصر ثم في
الأثناء وصل إليه.
ثم لا يخفى أن نظائر هذه المسألة كثيرة:
منها: ما إذا شرع المتردد في الإقامة في صلاته بنية القصر وفي أثنائها كمل
الثلاثون.
ومنها: ما إذا شرع العازم على الإقامة في صلاته بنية الإتمام وفي أثنائها تبدل
قصده إذا كانت هذه الصلاة أول صلاة تامة شرع فيها.
حكم من بدا له الإقامة وهو في الصلاة
ومنها: ما إذا شرع المسافر في صلاته بنية القصر وفي أثنائها عزم على الإقامة.
وقد ورد في هذا الفرض روايتان حكم فيهما بوجوب الإتمام:
الأولى: ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن يقطين أنه سأل أبا الحسن
الأول (عليه السلام) عن الرجل يخرج في السفر ثم يبدو له في الإقامة وهو في الصلاة؟ قال:
" يتم إذا بدت له الإقامة. " ورواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي
عمير، عن علي بن يقطين. ورواه الشيخ بإسناده عن علي، عن أبيه. (1)

1 - الوسائل 5 / 534 (= ط. أخرى 8 / 511)، الباب 20 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 1.
319

الثانية: ما رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سهل، عن أبيه،
قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يخرج في سفر تبدو له الإقامة وهو في صلاته،
أيتم أم يقصر؟ قال: " يتم إذا بدت له الإقامة ". (1)
ولأحد أن يدعي استفادة حكم الفروض السابقة أيضا من هاتين الروايتين
بسبب إلقاء الخصوصية:
بتقريب أن يقال: إن مورد السؤال وإن كان خصوص من بداله الإقامة في أثناء
صلاته، لكن الظاهر بحسب نظر العرف أن محط نظر السائل في سؤاله هو أن المسافر
إذا تعين عليه في أول صلاته القصر أو الإتمام ثم تبدل حاله في أثناء الصلاة بنحو
يوجب تبدل الوظيفة، فهل يكون وظيفته بالنسبة إلى الصلاة التي بيده على طبق
حالته عند الشروع فيها، أو على طبق الحالة الطارئة في الأثناء.
وعلى هذا فيستفاد من جواب الإمام (عليه السلام) أن المدار في تبدل الحالات هي الحالة
الطارئة وإن كان طروءها في أثناء الصلاة.
هذا ولكن دعوى القطع بعدم دخالة خصوصية المورد لا تخلو من إشكال، ولا
سيما مع افتراق مورد الروايتين مع بعض الصور السابقة، كمن شرع في صلاته قبل
الوصول إلى حد الترخص وفي أثنائها وصل إليه، فإنه قبل الوصول إليه مصداق
للحاضر وبعد الوصول إليه يتبدل العنوان حقيقة، فيصير مصداقا للمسافر، وأما في
مورد الرواية فيكون الشخص قبل أن يبدو له الإقامة مصداقا للمسافر، وبعد ما
عزم عليها أيضا يكون مصداقا له، غاية الأمر تبدل وظيفته حسب تبدل
القصد والنية. فاستفادة حكم تلك الصورة مثلا مما ورد في بيان وظيفة هذا الشخص
مما يشبه القياس مع الفارق، فتدبر.

1 - المصدر السابق والباب، الحديث 2.
320

خاتمة
قد فرغنا من بيان شروط القصر وبقي في باب صلاة المسافر ثلاثة أمور مهمة
يجب أن يبحث عنها:
1 - هل القصر بعد ما تحقق شروطه رخصة أو عزيمة؟
ومن فروع ذلك أيضا البحث عن التخيير في الأماكن الأربعة.
2 - حكم من قصر في موضع الإتمام، أو بالعكس.
3 - حكم من كان في أول الوقت حاضرا وفي آخره مسافرا، أو بالعكس.
القصر في السفر عندنا عزيمة
الأمر الأول: القصر في السفر فرض وعزيمة عند أصحابنا، وبه نطقت أخبارنا
المروية عن الأئمة (عليهم السلام).
ووافقنا في ذلك أبو حنيفة أيضا إلا أنه قال: إن زاد على ركعتين فإن كان تشهد في
الثانية صحت صلاته، وما زاد على الثنتين يكون نافلة.
وأما أصحابنا الإمامية فلم يقل أحد منهم في المقام بصحة صلاة من أتم عن علم
وعمد وإن جلس بقدر التشهد، مع أن بعضا منهم قال بصحة صلاة من زاد في
321

صلاته ركعة سهوا إذا كان قد جلس بعد الرابعة بقدر التشهد. ولعل تسالمهم
على البطلان في المقام من جهة الأخبار الواردة في المسألة الحاكمة بوجوب الإعادة
على من أتم في موضع القصر. هذا.
وقال الشافعي: التقصير في السفر أفضل، وقال المزني: الإتمام أفضل. (1)
ثبوت التخيير في المواطن الأربعة
مسألة: يستثنى مما ذكرنا من تعين القصر في السفر: المواطن الأربعة المعروفة،
أعنى مكة، والمدينة، والمسجد الجامع بالكوفة، والحائر. حيث إن المسافر يختار فيها
بين القصر والإتمام، بل الإتمام أفضل وإن لم ينو المقام.
والكلام في هذه المسألة في مقامين:
1 - في إثبات أصل الحكم.
2 - في بيان موضوعه من حيث العدد ومن حيث السعة والضيق.
إثبات أصل الحكم
أما المقام الأول فملخص الكلام فيه أن المشهور من عصر شيخ الطائفة (قده)
إلى عصرنا هذا جواز الإتمام في المواطن الأربعة لمن لم يعزم على الإقامة وكونه
أفضل من القصر. وعن السيد المرتضى (قده) تعين الإتمام فيها. وعن الصدوق القول
بتعين القصر على من لم يقم، وحمل ما دل على فضل الإتمام فيها على استحباب
اختيار الإقامة فيها ليتم. (2) هذا.

1 - راجع الخلاف 1 / 569، كتاب صلاة المسافر، المسألة 321؛ والوسائل 5 / 530 (=
ط. أخرى 8 / 505)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر؛ والمختلف / 132 (= ط. أخرى
2 / 378)، الفصل الأول من الباب الرابع من كتاب الصلاة، المسألة 266.
2 - راجع المختلف / 167 (= ط. أخرى 2 / 552)، الفصل السادس من الباب الرابع من
كتاب الصلاة، المسألة 400؛ والجواهر 14 / 329.
322

والأخبار في المسألة كثيرة جدا، فلنذكر بعضها تيمنا:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيي عن الحسن بن علي بن
النعمان، عن أبي عبد الله البرقي، عن علي بن مهزيار وأبي علي بن راشد جميعا، عن
حماد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " من مخزون علم الله الإتمام في أربعة
مواطن: حرم الله، وحرم رسوله، وحرم أمير المؤمنين، وحرم الحسين بن
علي (عليهم السلام). " (1)
2 - ما رواه الصدوق مرسلا، قال: قال الصادق (عليه السلام): " من الأمر المذخور إتمام
الصلاة في أربعة مواطن: مكة، والمدينة، ومسجد الكوفة، وحائر الحسين (عليه السلام). " (2)
3 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن
الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن عبد الملك القمي، عن إسماعيل بن جابر،
عن عبد الحميد خادم إسماعيل بن جعفر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " تتم الصلاة في
أربعة مواطن: في المسجد الحرام، ومسجد الرسول، ومسجد الكوفة، وحرم
الحسين (عليه السلام) ". ورواه الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد. (3)
4 - ما رواه الشيخ بإسناده عنه، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن
عبد الرحمان بن الحجاج، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التمام بمكة والمدينة؟ فقال:
" أتم وإن لم تصل فيهما إلا صلاة واحدة. " (4)
5 - ما رواه عنه، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن
صفوان، عن عبد الرحمان بن الحجاج، قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): إن هشاما روى

1 - الوسائل 5 / 543 (= ط. أخرى 8 / 524)، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 1.
2 - المصدر السابق 5 / 549 (= ط. أخرى 8 / 531) والباب، الحديث 26.
3 - المصدر السابق 5 / 546 (= ط. أخرى 8 / 528) والباب، الحديث 14.
4 - المصدر السابق 5 / 544 (= ط. أخرى 8 / 525) والباب، الحديث 5.
323

عنك أنك أمرته بالتمام في الحرمين، وذلك من أجل الناس؟ قال: " لا، كنت أنا
ومن مضى من آبائي إذا وردنا مكة أتممنا الصلاة واستترنا من الناس. " (1)
6 - ما رواه بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن أبي عمير، عن
سعد بن أبي خلف، عن علي بن يقطين، عن أبي الحسن (عليه السلام) في الصلاة بمكة؟ قال:
" من شاء أتم، ومن شاء قصر. " (2)
7 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم،
عن الحسين بن المختار، عن أبي إبراهيم (عليه السلام)، قال: قلت له: إنا إذا دخلنا مكة والمدينة
نتم أو نقصر؟ قال: " إن قصرت فذلك، وإن أتممت فهو خير تزداد. " (3)
8 - ما رواه الشيخ بإسناده عن جعفر بن محمد بن قولويه، عن أبيه، عن محمد بن
الحسن، عن الحسن بن متيل، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الله، عن صالح
بن عقبة، عن أبي شبل، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أزور قبر الحسين (عليه السلام)؟ قال:
" نعم، زر الطيب وأتم الصلاة عنده. " قلت: بعض أصحابنا يرى التقصير؟ قال: " إنما
يفعل ذلك الضعفة ". ورواه الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد. (4)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في المسألة.
وبالجملة الظاهر كون الإتمام في المواطن الأربعة أفضل، وفاقا للمشهور، ويدل
عليه روايات كثيرة.
وقد عرفت إنكار الصدوق لذلك. ووافقه في ذلك الوحيد البهبهاني والسيد
بحر العلوم " قدهما ". (5)

1 - المصدر السابق 5 / 544 (= ط. أخرى 8 / 526) والباب، الحديث 6.
2 - المصدر السابق 5 / 545 (= ط. أخرى 8 / 526) والباب، الحديث 10.
3 - المصدر السابق 5 / 547 (= ط. أخرى 8 / 529) والباب، الحديث 16.
4 - المصدر السابق 5 / 545 (= ط. أخرى 8 / 527) والباب، الحديث 12.
5 - راجع الجواهر 14 / 330.
324

ولعل مستند هما ما يستفاد من بعض الروايات من استقرار بناء الفقهاء من
أصحابنا المعاصرين للأئمة (عليهم السلام) عملا على التقصير، مع كون أخبار الإتمام
بمرآهم كونهم بأنفسهم راوين لها:
فعن جعفر بن محمد بن قولويه في كتاب كامل الزيارات عن أبيه، عن سعد بن
عبد الله، قال: سألت أيوب بن نوح عن تقصير الصلاة في هذه المشاهد:
مكة، المدينة، والكوفة، وقبر الحسين (عليه السلام) الأربعة والذي روي فيها؟ فقال: أنا أقصر،
وكان صفوان يقصر، وابن أبي عمير وجميع أصحابنا يقصرون. (1)
وروى الشيخ بإسناده عن على بن مهزيار، قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام):
إن الرواية قد اختلفت عن آبائك (عليهم السلام) في الإتمام والتقصير للصلاة في الحرمين، فمنها:
بأن يتم الصلاة ولو صلاة واحدة، ومنها: أن يقصر ما لم ينو مقام عشرة أيام، ولم أزل
على الإتمام فيهما إلى أن صدرنا في حجنا في عامنا هذا، فإن فقهاء أصحابنا أشاروا
علي بالتقصير إذا كنت لا أنوي مقام عشرة أيام، فصرت إلى التقصير، وقد ضقت
بذلك حتى أعرف رأيك.
فكتب (عليه السلام) إلي بخطه: " قد علمت - يرحمك الله - فضل الصلاة في الحرمين على
غيرهما، فأنا أحب لك إذا دخلتهما أن لا تقصر وتكثر فيهما من الصلاة ".
فقلت له بعد ذلك بسنتين مشافهة: إني كتبت إليك بكذا، وأجبتني بكذا. فقال:
" نعم ". فقلت: أي شيء تعني بالحرمين؟ فقال: " مكة والمدينة ". الحديث. (2)
والحاصل أنه يستفاد من خلال الأخبار أن أصحاب الأئمة (عليهم السلام) من الطبقة
السادسة والسابعة والثامنة كان بناؤهم فتوى وعملا على التقصير مع كونهم راوين
لأخبار الإتمام، وقد عرفت منا مرارا أن الشهرة الفتوائية كانت بمرتبة من الأهمية عند

1 - كامل الزيارات / 248، الباب 81. الحديث 7.
2 - راجع الوسائل 5 / 544 (= ط. أخرى 8 / 525)، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 4؛ عن التهذيب 5 / 428. وما نقل هنا يوافق نقل الكليني " ره " في الكافي
4 / 525.
325

الشيعة بحيث كانوا يطرحون لأجلها الأخبار المخالفة لها ويحملونها على التقية أو
على محامل أخر، ووجه ذلك أن اشتهار الفتوى بين أصحاب الأئمة وبطانتهم المطلعين
على مذاقهم (عليهم السلام) مما يكشف كشفا قطعيا عن مرادهم الجدى.
وبالجملة الشهرة في المقام موهنة لأخبار الإتمام وإن كانت مستفيضة بل
متواترة إجمالا، فيجب حملها على التقية، أو على ما حملها الصدوق من استحباب
العزم على الإقامة حتى يتم.
فإن قلت: يأبى هذا الحمل ما دل على فضل الإتمام وإن مر بهما مارا أو لم يصل
فيهما إلا صلاة واحدة.
قلت: أكثرها قابلة لهذا الحمل، وما لا يقبله خبر واحد يطرح بسبب الشهرة
على خلافه.
فإن قلت: رد هذه الشهرة ذيل صحيحة ابن مهزيار.
قلت: الرواية غير مقطوع الصدور، فلا تقبل لرد الشهرة.
فإن قلت: يعارض هذه الشهرة الشهرة على الإتمام من عصر الشيخ (قده) إلى
زماننا هذا.
قلت: لا اعتداد بالشهرة المتأخرة، كيف! ولو فرضنا أنفسنا في عصر الشيخ لم
نجد إلا اشتهار القصر بين أصحاب الأئمة، ولا يعقل كون الشهرة المتأخرة حجة لمن
تقدم عليها.
هذه غاية ما يمكن أن يقرب بسببه كلام الصدوق والعلمين " قدهم ".
أقول: لا يخفى اختلاف أخبار المسألة بحسب الظاهر والمضمون: فظاهر كثير منها
تعين الإتمام وفي بعضها التصريح بالإتمام ولو كانت صلاة واحدة وفي بعض منها أن
الإتمام في الحرمين من الأمر المذخور، أو من مخزون علم الله، والمستفاد من طائفة
أخرى منها ثبوت التخيير بين القصر والإتمام وكون الإتمام أفضل، وبإزاء هاتين
326

الطائفتين طائفة ثالثة تدل على تعين القصر ما لم يعزم على مقام عشرة أيام.
إذا عرفت هذا فنقول: حمل أخبار الإتمام على استحباب العزم على المقام حتى
يتم، كما نسب إلى الصدوق، وإن كان لا ينافيه جلها لكنه يوجب طرح ما يدل
بالصراحة على الإتمام وإن لم يصل فيهما إلا صلاة واحدة، هذا مضافا إلى أنه يأبى
هذا الحمل ما في بعضها من كون الإتمام من مخزون علم الله أو من الأمر المذخور، إذ
يستفاد من ذلك امتياز هذه المواطن من غيرها من الأماكن، اللهم إلا أن يقال: إن
امتيازها من غيرها إنما هو باستحباب العزم على المقام فيها دون غيرها، ولكنه بعيد
جدا، وكذلك يأبى هذا الحمل صحيحة ابن مهزيار الطويلة، إذ مورد سؤاله صورة
عدم العزم على الإقامة. وبالجملة الالتزام بما ذكره الصدوق يوجب طرح كثير من
الأخبار.
فإن قلت: يحمل أخبار الإتمام على التقية لا على ما حملها الصدوق.
قلت: لا أرى وجها للتقية في هذه المسألة، إذ المخالفون في باب صلاة المسافر على
قولين من غير أن يفرقوا بين الأماكن: فاختار أبو حنيفة تعين القصر، والشافعي جمع
من أصحابه منهم عثمان وعائشة ثبوت التخيير بين القصر والإتمام، ولم يفت أحد
منهم بتعين الإتمام مطلقا أو في الحرمين حتى يكون الأمر بالإتمام في أخبارنا
لموافقته. (1) هذا مضافا إلى دلالة خبر عبد الرحمان بن الحجاج السابقة (الخامسة مما
سبق) على عدم كون الأمر بالإتمام للتقية، فراجع.
وكيف كان فالظاهر أن أصل جواز الإتمام في المواطن الأربعة مما لا ريب فيه
بحسب الأدلة، وما تقدم من شهرة القصر عملا بين أصحاب الأئمة (عليهم السلام) غير متحققة،
بل الظاهر ثبوت الاختلاف في المسألة من أول الأمر إلى الآن، إذ لو

1 - راجع الخلاف 1 / 569، كتاب صلاة المسافر، المسألة 321؛ والتذكرة 1 / 186 (= ط.
أخرى 4 / 355)؛ والمغني 2 / 107.
327

تتبعت الأخبار وتدبرت فيها ظهر لك أن فقهاء الأصحاب في جميع الأعصار
كانوا على قولين: فبعضهم يتم وبعضهم يقصر، ومنشأ اختلافهم اختلاف الأخبار
التي كانت بأيديهم، وقد سرى الاختلاف من فقهاء كل طبقة إلى الطبقة اللاحقة،
وهكذا إلى هذه الأعصار، حيث إن سلسلة فقهنا - معاشر الإمامية - لم تنقطع منذ
تأسيسه أعني من عصر الصادقين (عليهما السلام) إلى عصرنا هذا، فكان كل طبقة تتلقى الفقه
من سابقتها بلا حصول فترة. وأما اختلاف الأخبار فلعله لمصالح رآها الأئمة (عليهم السلام) في
إلقاء الاختلاف، ولا ندري ما هو السبب في صدور هذه الأخبار المختلفة، فإن
أوضاع عصرهم وأحوال صحابتهم ليست بأجمعها مبينة لنا. ولعل صدور أخبار
القصر في المسألة كان لأجل تقيتهم (عليهم السلام) من بعض الشيعة الضعفة، كما يلوح ذلك من
خبر أبي شبل (الثامن مما سبق)، فإن عقائد الشيعة وسلائقهم كانت مختلفة جدا. ألا
تنظر إلى تقية فقهاء العصر من بعض مقلديهم وعدم تمكنهم من إظهار فتاويهم
الواقعية لهم اضطرارهم إلى إظهارها بنحو لا تخالف أنظار الناس وارتكازاتهم؟
وبالجملة لم يثبت في المسألة شهرة على القصر، فلا محيص عن الرجوع إلى
الأخبار، وما يدل منها على جواز الإتمام بلغت في الكثرة حدا يمكن دعوى القطع
بصدور بعضها، ولا يحتمل فيها التقية كما عرفت، فيجب الأخذ بها، وظهور بعضها
في تعين الإتمام لا يمنع عن القول بالتخيير بعد صراحة بعضها في التخيير. فيبقى ما
تدل على تعين القصر، وهي قليلة جدا لا تقاوم هاتين الطائفتين، وقد عرفت آنفا
تأويلها، فتدبر جيدا.
بيان موضوع المسألة...
وأما المقام الثاني، أعني البحث عن موضوع المسألة فملخص الكلام فيه أن
مفاد الأخبار في المقام مختلف جدا:
328

أما الحرمان فقد عبر عنهما تارة بالحرمين، وأخرى بحرم الله وحرم
رسوله، ثالثة بمكة والمدينة، ورابعة بالمسجد الحرام ومسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأشمل هذه العناوين وأوسعها هو الحرم، فإن حدود حرم الله تعالى كانت معينة
من زمن الخليل (عليه السلام)، وقد نصبت لها أعلام باقية إلى الآن، وهو أوسع من بلد
مكة حرم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حسب ما يستفاد من بعض الأخبار عبارة عما بين جبلي
عير ووعير. (1)
وحينئذ فهل المعيار وما هو تمام الموضوع للحكم هو الحرمان بسعتهما، ويكون
ذكر البلد أو المسجد من باب الغلبة، حيث إن الصلاة تقع غالبا في المسجدين أو
البلدين، أو يكون الموضوع خصوص البلدين أو المسجدين، ويكون ذكر الحرمين
من جهة ثبوت الحكم فيهما إجمالا بثبوته في بعضهما؟ في المسألة وجهان.
فإن قلت: لا مجال لاحتمال كون الحرمين تمام الموضوع للحكم بعد ما فسرا في
بعض الأخبار بنفس البلدتين، كقوله في صحيحة ابن مهزيار: فقلت أي شيء تعني
بالحرمين؟ فقال: " مكة والمدينة " (2)، وقوله في رواية عثمان بن عيسى: سألت أبا
الحسن (عليه السلام) عن إتمام الصلاة في الحرمين: مكة والمدينة (3).
قلت: يمكن أن يكون سؤال الراوي عن الحرمين وتفسيرهما له لأجل الجهل
بالمراد منهما، بأن احتمل كون المراد منهما غير الحرمين المعروفين، لا لأجل الجهل
بحدود الحرمين المعروفين ومقدارهما، فيكون جواب الإمام (عليه السلام) أيضا ناظرا إلى بيان

1 - راجع الوسائل 5 / 497 (= ط. أخرى 8 / 460)، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 12؛ وج 10 ص 283 (= ط. أخرى 14 / 362)، كتاب الحج، الباب 17 من
أبواب المزار.
2 - الوسائل 5 / 544 (= ط. أخرى 8 / 525)، الباب 25 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 4.
3 - المصدر السابق 5 / 547 (= ط. أخرى 8 / 529) والباب، الحديث 17؛ عن قرب
الاسناد / 123 (= ط. اخرى / 300).
329

المراد منهما إجمالا لا إلى تحديدهما.
اللهم إلا أن يقال: إنه من المستبعد جدا جهل الرواة بهما من حيث الموضع، ولا
سيما مع كون الراوي في الرواية الأولى علي بن مهزيار، وقد ذكر اختلاف الأصحاب
في المسألة وأنه بنفسه كان يتم فيهما إلى أن أشاروا إليه بالتقصير. فيعلم من ذلك عدم
جهله بالحرمين من حيث الموضع وأن المراد بهما: الحرمان المعروفان، وإنما أراد
بسؤاله الاستفسار عن حدودهما التي يثبت فيها الإتمام.
وعلى هذا فما وقع فيه تفسير الحرمين بالبلدتين يقع مفسرا لجميع أخبار
الحرمين، فيرتفع التعارض بينها وبين ما عبر فيه بالبلدتين.
وحينئذ فيتردد الأمر بين الأخذ بظاهر لفظتي مكة والمدينة وبين تخصيص
الحكم بخصوص المسجدين، إذ مقتضى الأول كون البلد تمام الموضوع للحكم بلا
دخالة لحيثية المسجدية في ذلك، ومقتضى الثاني كون خصوصية المسجدية أيضا
دخيلة، فيتعارضان نحو تعارض المطلق والمقيد المثبتين بعد إحراز وحدة الحكم، إذ
مع احتمال تعدده لا تنافي بينهما حتى يحمل أحدهما على الآخر.
فإن قلت: لا دليل في المقام على وحدة الحكم، لاحتمال كون الاختلاف بحسب
مراتب الفضيلة والاستحباب، فيكون استحباب الإتمام في المسجدين آكد من
غيرهما، فلا تعارض بين الروايات حتى يحمل بعضها على بعض، إذ المعارضة فرع
وحدة الحكم، ألا ترى أن المشهور بينهم عدم حمل المطلق على المقيد في
المستحبات، والسر في ذلك أنه لا سبيل فيها إلى إحراز وحدة الحكم، لاحتمال كون
الاختلاف فيها بحسب اختلاف مراتب الفضيلة.
قلت: يبعد ذلك تصفح أخبار المسألة وملاحظة الأسئلة والأجوبة الواقعة فيها،
إذ بالدقة فيها يظهر أن المقصود في جميعها بيان حكم واحد مختلف فيه بين
الأصحاب، وهو أن تعين القصر على المسافر هل يكون ثابتا مطلقا أو ورد عليه
330

تخصيص واستثناء بالنسبة إلى بعض المواطن في الجملة؟
فالمقصود في جميع أخبار الإتمام سؤالا وجوابا ثبوت امتياز ما للبلدين من سائر
البلدان، فلا يتمشى في المقام احتمال تعدد الحكم أصلا.
فينحصر علاج التعارض في المسألة في حمل المطلق على المقيد أو بالعكس، ولا
يخفي أن ظهور دليل المقيد في دخالة القيد أقوى من ظهور دليل المطلق في كون
الحيثية المطلقة تمام الموضوع للحكم، فيجب حمل أخبار البلدين على الأخبار الدالة
على دخالة خصوصية المسجدين، ولا سيما مع كون المترائي من أخبار البلدين عدم
كونها بصدد بيان تمام الموضوع للحكم، بل بصدد بيان أصل ثبوت الحكم
إجمالا وامتياز البلدين من غيرهما في الجملة، فالتمسك بالإطلاق فيها مشكل جدا.
هذا مع انصرافهما إلى خصوص المسجدين، إذ الغالب وقوع الصلاة فيهما، وهذه
الغلبة مانعة عن التمسك بالإطلاق.
اللهم إلا أن يقال: إن الغلبة كما تمنع عن التمسك بالإطلاق تمنع عن ظهور دليل
المقيد في دخالة القيد أيضا لاحتمال كون القيد واردا مورد الغالب، هذا.
ولكن مع ذلك كله الاقتصار على خصوص المسجدين لا يخلو من قوة إما من
جهة حمل المطلق على المقيد أو من جهة الأخذ بالقدر المتيقن في الحكم المخالف
لعمومات التقصير.
فإن قلت: ليس نسبة المسجد إلى البلد كنسبة المقيد إلى المطلق، بل كنسبة الجزء
إلى الكل، بداهة أنه لم يقصد بالمسجد الحرام مثلا مفهوم مكة المقيدة.
قلت: لا يلاحظ النسبة بين المسجد والبلد، بل بين الإتمام في المسجد والإتمام في
البلد، فتدبر، هذا.
ولكن لا يخفى أن تفسير الحرمين في رواية ابن مهزيار بنفس البلدتين لما لم يكن
بلحاظ تعيين الموضعين من بين بقاع الأرض، لعدم جهل ابن مهزيار بذلك كما مر،
331

فلا محالة يكون بلحاظ تحديد ما هو موضوع الحكم وبيان مقداره، وعلى هذا
فيكون الرواية ظاهرة جدا في ثبوت الحكم لجميع أجزاء البلدين، فافهم.
هذا تمام الكلام في الحرمين.
وأما مسجد الكوفة ففي روايات عبد الحميد، وحذيفة بن منصور عمن سمع،
وأبي بصير، ومرسلة الصدوق، وحماد بن عيسى عن بعض أصحابنا التعبير ب‍
" مسجد الكوفة ". (1)
وفي خبر زياد بن مروان القندي التعبير بلفظ " الكوفة ". (2)
وفي خبر حماد بن عيسى ومرسلة الشيخ التعبير ب‍ " حرم أمير المؤمنين ". (3)
والظاهر أن المراد به أيضا هو الكوفة كما ورد في بعض الأخبار أن مكة حرم الله،
والمدينة حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والكوفة حرم أمير المؤمنين (عليه السلام). (4) وكونها حرما له من
جهة كونها محلا لهجرته (عليه السلام) كالمدينة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وعلى هذا فلا تشمل النجف.
وأما احتمال أن يراد بحرمه مدفنه (عليه السلام) كما تعارف إطلاق لفظ الحرم في أعصارنا على
مدفنه ومدفن سائر الأئمة فبعيد جدا كما لا يخفى.
وبالجملة الأمر يدور بين بلدة الكوفة وبين خصوص مسجدها، وحيث إن أخبار
المسجد أكثر وجب الأخذ بها، وعليها يحمل خبر حماد ومرسلة الشيخ، حمل المطلق
على المقيد، كما مر نظيره في الحرمين. وأما خبر زياد فضعيف من حيث السند، فتأمل.
وأما الموضع الرابع ففي روايات أبي شبل، وزياد القندي، وإبراهيم بن أبي

1 - راجع المصدر السابق 5 / 550 - 546 (= ط. أخرى 8 / 532 - 528)، الباب 25،
الأحاديث 14 و 23 و 25 و 26 و 29.
2 - راجع المصدر السابق 5 / 546 (= ط. أخرى 8 / 527) والباب، الحديث 13.
3 - راجع المصدر السابق 5 / 543 و 548 (= ط. 8 / 524 و 530) والباب، الحديثين
241.
4 - راجع المصدر السابق 10 / 282 (= ط. أخرى 14 / 360)، كتاب الحج، الباب 16
من أبواب المزار، الحديث 1.
332

البلاد وعمرو بن مرزوق التعبير بقوله: " عند قبر الحسين ". (1)
وفي روايات حماد بن عيسى، وعبد الحميد، وحذيفة بن منصور عمن سمع، وأبي
بصير، ومرسلة الشيخ التعبير ب‍ " حرم الحسين ". (2)
وفي مرسلة الصدوق: " حائر الحسين ". (3)
وفي خبر حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا لفظ " الحائر ". (4)
ولا يخفى أنه لا يستفاد من الطائفة الأولى حد معين، إذ العندية مقولة بالتشكيك،
وأقرب مراتبها أن يكون المصلي متصلا بالقبر الشريف، ومن الواضح عدم التمكن
فعلا من هذه المرتبة مع وجود الضريح المطهر. وإرادة سائر المراتب غير معلومة،
فيجب الرجوع إلى مفاد سائر الأخبار فنقول:
أما الحرم فيراد به ما يجب احترامه ويحرم انتهاكه، كما في حرم الله وحرم
رسوله وغيرهما.
وقد اختلف الروايات في تحديد حرم الحسين (عليه السلام).
ففي رواية: " حريم قبر الحسين (عليه السلام) خمسة فراسخ من أربع جوانبه ". (5) وفي رواية
أخرى: " حرم الحسين (عليه السلام) فرسخ في فرسخ من أربع جوانب القبر ". (6)
وفي خبر إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إن لموضع

1 - المصدر السابق 5 / 545 و 546 و 548 و 550 (= ط. أخرى 8 / 527 و 530 و 532)،
الباب 25 من أبواب صلاة المسافر، الأحاديث 12 و 13 و 22 و 30.
2 - المصدر السابق 5 / 543 و 546 و 548 و 549 (= ط. أخرى 8 / 524 و 528
و 531530) والباب، الأحاديث 1 و 14 و 23 و 25 و 24.
3 - المصدر السابق 5 / 549 (= ط. أخرى 8 / 531) والباب، الحديث 26.
4 - المصدر السابق 5 / 550 (= ط. أخرى 8 / 532) والباب، الحديث 29.
5 - التهذيب 6 / 71، كتاب المزار، الباب 22، الحديث 1.
6 - المصدر السابق، الحديث 2.
333

قبر الحسين (عليه السلام) حرمة معروفة من عرفها واستجار بها أجير. " قلت: فصف لي
موضعها جعلت فداك. قال: " امسح من موضع قبره اليوم خمسة وعشرين ذراعا
من قدامه، وخمسة وعشرين ذراعا من عند رأسه، وخمسة وعشرين ذراعا من
ناحية رجليه، وخمسة وعشرين ذراعا من خلفه. وموضع قبره من يوم دفن فيه
روضة من رياض الجنة. " الحديث. (1)
وروى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " قبر
الحسين (عليه السلام) عشرون ذراعا مكسرا روضة من رياض الجنة. " (2)
والظاهر حمل اختلاف الروايات على مراتب الفضل والشرف، فيكون عنوان
الحرم أيضا مقولا بالتشكيك، والقدر المتيقن منه في المقام ما تدل عليه الرواية
الأخيرة، ويصدق على هذا المقدار عرفا مفهوم العندية أيضا كما لا يخفى. هذا.
وأما الفقهاء فالمذكور في كلماتهم لفظ الحائر، وقد أطلق الحائر والحير في كثير
من الأخبار على مدفنه (عليه السلام)، كما ورد أن علي بن محمد النقي (عليه السلام) لما اشتد مرضه قال:
" ابعثوا إلى الحير. " (3)
وروى الطبري ما حاصله: أن الرشيد أمر بإحضار ابن أبي داود - وكان عند
الحير -، فقال له الحسن بن راشد: إنه إن سألك عن سبب سكونتك في الحير فقل له:
أمرني بذلك أم موسى، فلما حضر عند الرشيد وسأله هو عن ذلك أجابه بما لقنه
الحسن، فلها عنه، وأمر بهدم القبر في آخر هذه السنة. (4) هذا.

1 - المصدر السابق، الحديث 3؛ والكافي 4 / 588، كتاب الحج، باب النوادر، الحديث 6.
2 - التهذيب 6 / 72، الحديث 4.
3 - الكافي 4 / 567، كتاب الحج، أبواب الزيارات، الباب 14، الحديث 3. وراجع كامل
الزيارات / 272، الباب 90؛ وبحار الأنوار 98 / 112 (= ط. إيران 101 / 112)، كتاب
المزار، الباب 32. وفيه: " يا أبا هاشم، ابعث رجلا من موالينا إلى الحير يدعو الله لي ".
4 - " تاريخ الأمم والملوك " لابن جرير الطبري 6 / 536. ولم نجد فيه مضمون الجملة
الأخيرة، ولكن حكى أصل أمره بالهدم في أعيان الشيعة 1 / 627 عن كتاب تسلية
المجالس، وراجع أمالي الشيخ 1 / 333 أيضا.
334

ويستفاد من كلمات اللغويين أيضا أن المراد بالحير والحائر مدفن الحسين (عليه السلام). (1)
فهذا إجمالا مما لا ريب فيه، وإنما الإشكال في أن المراد بهما مدفنه (عليه السلام) بسعته أعني
أرض كربلاء، أو خصوص الموضع المنخفض الذي وقع القبر الشريف في وسطه،
حيث إن اللفظين بحسب أصلهما يطلقان على الأرض المنخفضة من جهة أن الماء إذا
جمع فيها يحار فيها ولا يجد طريقا إلى الجريان والخروج، أو خصوص ما دار عليه
جدران حرمه الشريف فعلا؟ فيه وجوه.
وفي السرائر: " والمراد بالحائر: ما دار سور المشهد والمسجد عليه، دون ما دار
سور البلد عليه، لأن ذلك هو الحائر حقيقة، لأن الحائر في لسان العرب: الموضع
المطمئن الذي يحار الماء فيه، وقد ذكر ذلك شيخنا المفيد في الإرشاد في مقتل
الحسين (عليه السلام)، لما ذكر من قتل معه من أهله، فقال: والحائر محيط بهم إلا العباس (عليه السلام)،
فإنه قتل على المسناة ". (2)
ولا يخفى إجمال ما قاله ابن إدريس أيضا بحسب المقدار والحد، حيث لم يبق
السور الذي كان دائرا في الأزمان السابقة على المشهد الشريف، ولا يعلم
موضعه، قد اختلف جدا بحسب التغييرات الحاصلة في الأعصار المختلفة.
ثم المراد بالسور هل هو سور الحرم، أو الرواق، أو الصحن الشريف؟
كل محتمل، فلابد أن يقتصر في المقام على القدر المتيقن، فإن أخبار الإتمام في
المقام بالنسبة إلى أدلة القصر في السفر من قبيل المخصص المنفصل المجمل، فيقتصر

1 - راجع القاموس المحيط 2 / 16 - 15؛ ولسان العرب 4 / 223 و 226؛ والصحاح
2 / 641.
2 - السرائر 1 / 342، باب صلاة المسافر.
335

في التخصيص على الأقل، كما لا يخفى وجهه على من تأمل.
نعم الظاهر أن ما تضمنه رواية عبد الله بن سنان السابقة، أعني عشرين ذراعا
مكسرا، هو القدر المتيقن من بين ما يستفاد من أخبار الباب. وما ذكر فيها من كونه
روضة من رياض الجنة أيضا يناسب حكم الإتمام، فإن الإتمام إنما هو لشرف المكان
وفضله، والقدر المتيقن من الحرم والحائر والعندية أيضا ليس بأضيق مما دل عليه
هذه الرواية قطعا، فيجوز الأخذ بهذا المقدار بلا إشكال.
ولا يخفى أن مقتضى ذلك ثبوت الحكم في كل طرف من أطراف القبر الشريف
بمقدار خمسة أذرع تقريبا، إذ القبر يقرب من عشرة أذرع.
وكيف كان فأصل الحكم مما لا يقبل الإنكار، لدلالة الأخبار عليه واشتهاره بين
الأصحاب أيضا، فلاوجه لتشكيك صاحب المدارك فيه وتخصيصه الحكم
بالحرمين، (1) فتدبر.
حكم من أتم في موضع القصر
الأمر الثاني: إذا تعين القصر فأتم فصوره أربع:
1 - أن يكون عن علم وعمد.
2 - أن يكون ناشئا عن الجهل بالحكم.
3 - أن يكون ناشئا عن نسيان الحكم.
4 - أن يكون ناشئا عن نسيان الموضوع.
ففي الصورة الأولى يجب الإعادة في الوقت وخارجه عند علمائنا أجمع، (2) ويدل
عليه أيضا الأخبار الآتية.

1 - راجع المدارك 4 / 467.
2 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 601.
336

وفي الصورة الثانية أفتى المشهور بعدم وجوب الإعادة لا في الوقت ولا في
خارجه إن كان منشأ الإتمام الجهل بأصل ثبوت القصر للمسافر، لا الجهل
بالخصوصيات الأخر، كوجوب القصر على من كثر سفره مثلا في السفر الأول. (1)
وفي الصورة الرابعة أفتوا بوجوب الإعادة في الوقت لا في خارجه. (2)
وسيظهر حكم الصورة الثالثة أيضا في أثناء البحث.
أخبار المسألة ووجه الجمع بينها
والعمدة في المقام هو الجمع بين أخبار المسألة، وهي خمسة، فلنذكرها ثم نشرح
مفادها:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن حماد بن
عثمان، عن عبيد الله بن علي الحلبي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): صليت الظهر أربع
ركعات وأنا في سفر؟ قال: " أعد. " (3)
ومقتضى ترك الاستفصال في الرواية شمولها للعالم، والجاهل والناسي بأقسامهما.
والظاهر أن قوله: " أعد " أيضا مطلق يشمل الإعادة في الوقت وخارجه.
لا يقال: إن مثل الحلبي لا يصلي صلاته على خلاف ما أمر به عن علم وعمد.
فإنه يقال: الظاهر أنه لم يرد بسؤاله السؤال عن حكم واقعة شخصية اتفقت
لنفسه، بل كان بصدد استعلام حكم المسألة بنحو الإطلاق، وإنما ذكر نفسه من باب
المثال. (4)

1 - راجع المختلف / 164 (= ط. أخرى 2 / 537)، الفصل السادس من الباب الرابع من
كتاب الصلاة، المسألة 395؛ والحدائق 11 / 431؛ ومفتاح الكرامة 3 / 602.
2 - راجع المختلف / 164 (= ط. أخرى 2 / 537)، المسألة 395؛ والجواهر 14 / 343.
3 - الوسائل 5 / 531 (= ط. أخرى 8 / 507)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 6.
4 - ولو سلم انصرافها عن العالم العامد موضوعا دلت على حكمه بالفحوى، كما لا يخفى.
337

وبالجملة يستفاد من الرواية وجوب الإعادة في جميع صور المسألة.
2 - ما رواه في الخصال بإسناده عن الأعمش، عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في حديث
شرائع الدين، قال: " والتقصير في ثمانية فراسخ، وهو بريدان. وإذا قصرت
أفطرت. من لم يقصر في السفر لم تجز صلاته، لأنه قد زاد في فرض الله عز وجل. " (1)
وهذه الرواية أيضا كسابقتها تشمل جميع صور المسألة، والحكم فيها أيضا يعم
الوقت وخارجه.
3 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان بن
يحيى، عن العيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل صلى وهو
مسافر فأتم الصلاة؟ قال: " إن كان في وقت فليعد، وإن كان الوقت قد مضى فلا. "
ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يعقوب، وبإسناده عن سعد، عن محمد بن
الحسين. (2)
وربما يدعى انصراف الرواية إلى خصوص الناسي للموضوع (3)، فلو سلم ذلك
فهو، وإلا فتحمل بسبب ترك الاستفصال على العموم. نعم لا يبعد دعوى انصرافها
عن العالم العامد، إذ يبعد جدا إتمام المسافر عمدا مع علمه بتعين القصر عليه التفاته
إلى ذلك.
4 - ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن محمد بن الحسين، عن علي بن النعمان،
عن سويد القلاء، عن أبي أيوب، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن
الرجل ينسى فيصلي في السفر أربع ركعات؟ قال: " إن ذكر في ذلك

1 - الوسائل 5 / 532 (= ط. أخرى 8 / 508)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 8.
2 - المصدر السابق 5 / 530 (= ط. أخرى 8 / 505) والباب، الحديث 1.
3 - راجع كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري (قده) / 403؛ والجواهر 14 / 348.
338

اليوم فليعد، وإن لم يذكر حتى يمضي ذلك اليوم فلا إعادة عليه. " وروى الصدوق
بإسناده عن أبي بصير نحوه. (1)
وربما يتوهم شمول قوله: " ينسى " لكل من ناسي الموضوع وناسي الحكم.
أقول: إطلاقه إنما هو بتبع إطلاق متعلقه، وليس متعلقه مذكورا في كلام السائل،
ويبعد جدا أن يكون متعلقه في نظره لفظا عاما كلفظة " شيئا " مثلا حتى يعم الحكم
والموضوع معا، بل الظاهر أن نظره كان إلى أحدهما، غاية الأمر أنه لم يذكره، الأظهر
كونه ناظرا إلى نسيان الموضوع، فإن نسيان حكم السفر، أعني وجوب القصر، بعد
العلم به بعيد جدا، وإنما الذي يتفق غالبا هو نسيان الموضوع والغفلة عنه.
وبالجملة شمول النسيان المذكور في كلام السائل لنسيان الموضوع والحكم معا
مشكل. نعم لو لم يكن المتبادر من سؤاله نسيان الموضوع أمكن أن يستدل على
العموم بترك استفصال الإمام (عليه السلام)، كما لا يخفى.
ثم إن الظاهر رجوع تفصيل الإمام (عليه السلام) في هذه الرواية إلى التفصيل الوارد في
رواية العيص، إذ الظاهر بقرينة لفظ اليوم فرض السائل وقوع النسيان في صلاة
نهارية مثل الظهر أو العصر، ومضي اليوم في مثلهما مساوق لمضي الوقت، فليس
لمضي اليوم بما هو يوم خصوصية، وإنما الاعتبار بمضي الوقت كما في رواية العيص.
ثم لا يخفى أن هذه الرواية وإن اختصت بالناسي فلا تدل على حكم غيره، لكنها
لا تنافي الروايات العامة السابقة كرواية العيص مثلا، لإمكان اشتراك غير الناسي
أيضا معه في هذا الحكم غاية الأمر سكوت الرواية عنه من جهة كون المسؤول عنه
خصوص الناسي.
وعلى هذا فمقتضى الجمع بين الروايات المذكورة إلى هنا حمل الروايتين

1 - الوسائل 5 / 530 (= ط. أخرى 8 / 506)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 2.
339

الأوليين على رواية العيص حمل المطلق على المقيد، فإن الثلاثة مطلقة بحسب
الموضوع، ولكن الحكم بالإعادة في الأوليين مطلق وفي رواية العيص فصل فيه بين
الوقت وخارجه.
فالمتحصل من الجميع بعد الجمع العرفي هو أن المتم في موضع القصر يعيد في
الوقت دون خارجه عالما كان أو جاهلا أو ناسيا، إن لم نقل بانصراف رواية العيص
عن العالم العامد كما هو الظاهر، وإلا كان المرجع في حكم العامد ما يقتضيه
العمومات والأصل الأولي من وجوب الإعادة مطلقا.
5 - ما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن
ابن أبي نجران، عن حماد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم، قالا:
قلنا لأبي جعفر (عليه السلام): رجل صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال: " إن كان قرئت عليه
آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها
فلا إعادة عليه. " ورواه الصدوق بإسناده عن زرارة ومحمد بن مسلم. (1)
والظاهر أن المراد من قوله: " وفسرت له " تفسيرها بنحو يستفاد منها تعين
القصر، حيث إن المستفاد منها بدون التفسير كون القصر رخصة لا عزيمة، وقد أخذ
بذلك أكثر المخالفين كما عرفت. فمحصل كلامه (عليه السلام): أنه إن كان قرئت عليه الآية وعلم
وجوب القصر بسبب تفسيرها أعاد، وإن لم تقرأ أو قرئت ولم تفسر له بنحو يستفاد
منها الوجوب والعزيمة فلا إعادة عليه.
ثم إن المراد بالفقرة الثانية خصوص الجاهل بأصل وجوب القصر على المسافر،
لا الأعم منه ومن الجاهل بالخصوصيات، كمن علم بأصل وجوب القصر عليه
ولكنه لم يعلم أن من كثر سفره مثلا إذا أقام في بلده عشرا وجب عليه القصر في السفر
الأول، أو أن العاصي بسفره إذا عدل إلى الطاعة في الأثناء وكان الباقي مسافة وجب

1 - الوسائل 5 / 531 (= ط. أخرى 8 / 506)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 4.
340

عليه أن يقصر، ونحو ذلك، ففي هذه الموارد إذا أتم جهلا بوظيفته لم يشمله الفقرة
الثانية من الحديث، بداهة أن المستفاد من قراءة آية القصر وتفسيرها ليس أزيد
من وجوب القصر على المسافر بحسب طبعه الأولي، وأما الخصوصيات الأخر
فلا تستفاد منها، فيدخل الجاهل بهذه الخصوصيات في الفقرة الأولى من الحديث إن
استفدنا منها العموم، أو في موضوع رواية العيص ونحوها من الروايات العامة
الحاكمة بوجوب الإعادة المحمولة على رواية العيص لا محالة حمل المطلق على المقيد
كما عرفت بيانه. وبالجملة الفقرة الثانية من الحديث تختص بمن جهل أصل وجوب
القصر على المسافر.
وأما الفقرة الأولى من الرواية فهل تشمل جميع الأقسام أولا؟ الظاهر
انصرافها عن العالم العامد، لما عرفت من أنه يبعد جدا إتمام العالم بوجوب القصر
عليه عن عمد والتفات. (1)
ويمكن أن يدعى انصرافها إلى خصوص ناسي الحكم، كما يشعر بذلك التعبير
بالماضي في قوله: " إن كان قرئت عليه... ".
وعلى هذا فكلتا الفقرتين ناظرتان إلى جهة الحكم، ويكون المفروض فيهما
جهل المكلف بوظيفته حين صلاته، فيصير محصل جواب الإمام (عليه السلام): أن المتم عن
جهل بالحكم إن لم يعلم به أصلا لم يعد، وإن علم به ثم نسيه فعليه الإعادة، وقد
عرفت دلالة الروايتين الأوليين أيضا على وجوب الإعادة مطلقا في جميع الصور.
وحينئذ فلو سلم انصراف رواية العيص أيضا إلى ناسي الموضوع كما ادعي
صار المتحصل من مجموع روايات المسألة وجوب الإعادة على العالم العامد مطلقا،
وكذا على الجاهل بالخصوصيات والناسي لأصل الحكم، وعدم وجوبها على الجاهل

1 - نعم تدل الرواية على وجوب الإعادة عليه بالفحوى، كما لا يخفى.
341

بأصل الحكم كذلك، والتفصيل بين الوقت وخارجه في ناسي الموضوع، هذا هو
الموافق للمشهور كما عرفت.
هذا كله بناء على تسليم تلك الانصرافات.
وأما على تقدير عدم تسليمها فنقول: إن روايتي الحلبي والأعمش كما عرفت
مطلقتان موضوعا وحكما، فتحملان على روايتي العيص وزرارة ومحمد بن مسلم
حمل المطلق على المقيد، فيبقى الكلام في الجمع بين رواية العيص ورواية زرارة محمد
بن مسلم، والنسبة بين رواية العيص وكل واحدة من فقرتي روايتهما عموم من
وجه:
فإن أخذ بإطلاق كلتا الفقرتين من روايتهما لزم طرح رواية العيص رأسا، فإن
الفقرتين تعمان جميع الأقسام موضوعا، وإطلاق الحكم بوجوب الإعادة في الفقرة
الأولى وبعدم وجوبها في الفقرة الثانية أيضا يشمل الوقت وخارجه.
وإن عكس الأمر، فأخذ بإطلاق رواية العيص موضوعا وحمل الفقرتان من
روايتهما عليها بحمل الأولى الحاكمة بوجوب الإعادة على الوقت والثانية الحاكمة
بعدم الوجوب على خارجه؛ فيصير محصل المجموع اشتراك العالم والجاهل والناسي
مطلقا في وجوب الإعادة في الوقت وعدم وجوبها في خارجه، صار مقتضاه طرح
روايتهما، إذ هي صريحة في افتراق العالم والجاهل وكون الجهل سببا للعذر، مع أن
مقتضى ما ذكرت من حملها على رواية العيص عدم التفاوت بين العالم والجاهل
أصلا.
فيبقى في المقام احتمالان آخران:
الأول: أن يقيد بسبب رواية العيص الفقرة الثانية من روايتهما ويجعل الفقرة
الأولى من روايتهما باقية على إطلاقها، فيصير مقتضى ذلك وجوب الإعادة على
العالم والناسي بقسميه والجاهل بالخصوصيات، سواء كان في الوقت أو في خارجه،
342

وثبوت التفصيل في الجاهل بأصل الحكم بين الوقت وخارجه.
الثاني: أن يقيد بسبب رواية العيص الفقرة الأولى من روايتهما ويبقى الفقرة
الثانية على إطلاقها، فيصير مقتضاه عدم وجوب الإعادة على الجاهل بأصل الحكم
مطلقا وثبوت التفصيل بين الوقت وخارجه في العالم والناسي بقسميه والجاهل
بالخصوصيات.
وعلى كلا الاحتمالين يفترق الجاهل والعالم ولا يلزم طرح رواية
العيص ولا روايتهما.
نعم الاحتمال الأول مخالف لما عليه المشهور (1)، إذ المشهور كون الجاهل بأصل
الحكم معذورا مطلقا من غير فرق بين الوقت وخارجه. وأما الاحتمال الثاني فيقرب
من قولهم بعد إخراج العالم العامد الملتفت بادعاء انصراف الروايتين عنه، إذ مقتضى
هذا الاحتمال على هذا عدم وجوب الإعادة على الجاهل بأصل وجوب القصر لا في
الوقت ولا في خارجه، والتفصيل بين الوقت وخارجه في الناسي بقسميه والجاهل
بالخصوصيات، وأما العالم العامد فيحكم بانصراف الروايتين عنه من أول الأمر، لما
عرفت من أن الإنسان الذي هو بصدد الإطاعة يبعد جدا أن يخالف وظيفته مع
العلم والعمد، وعلى فرض عدم الانصراف أيضا يخرج من عموم الروايتين
بالإجماع.
وبالجملة الاحتمال الثاني - أعني التصرف في الفقرة الأولى من رواية
زرارة محمد بن مسلم بسبب التفصيل الوارد في رواية العيص وإبقاء الفقرة الثانية
على إطلاقها - يقرب من قول المشهور إلا بالنسبة إلى العالم العامد، وهو أيضا خارج
من أول الأمر إما بالانصراف أو بالإجماع.

1 - ولرواية أبي بصير أيضا، حيث فصل فيها بالنسبة إلى الناسي بين الوقت وخارجه،
بناء على حمل التفصيل الواقع فيها على ذلك كما عرفت. ح ع - م.
343

وعلى هذا فيجب أن يؤخذ بهذا الاحتمال دون الأول.
هذا مضافا إلى أن حفظ ظهور الروايتين أيضا يقتضي تقديم هذا الاحتمال.
توضيح ذلك أن الظاهر كون محط النظر في رواية زرارة ومحمد بن مسلم بيان
كون الجهل معذرا وموجبا لسقوط الإعادة، كما هو مفاد الفقرة الثانية، وأما وجوب
الإعادة على العالم كما هو مفاد الفقرة الأولى فليس فيه إعمال للتعبد أصلا، إذ هو
مقتضى الأصل في التكليف الذي لم يمتثل، فليست الرواية بصدد بيان حكمين، أعني
وجوب الإعادة في بعض الصور وعدم وجوبها في بعضها، بل هي بصدد بيان حكم
واحد، وهو سقوط الإعادة عن الجاهل بسبب جهله.
وعلى هذا فيكون ظاهر الرواية كون الجهل تمام الموضوع لسقوط الإعادة التي
يقتضيها الأصل الأولي.
وكذلك محط النظر في رواية العيص بيان كون مضي الوقت موجبا لسقوط
الإعادة، وأما عدم سقوطها في الوقت فليس فيه إعمال تعبد زائد.
فالروايتان سيقتا لبيان ما يكون معذرا ويوجب سقوط الإعادة بعد كون
مقتضى القاعدة عدم السقوط. فظاهر رواية زرارة ومحمد بن مسلم كون الجهل
بنحو الإطلاق تمام الموضوع لسقوط الإعادة، وظاهر رواية العيص كون مضي
الوقت تمام الموضوع له، ومقتضى الجمع بين الروايتين أن يقال: إن كلا منهما تمام
الموضوع بحيث لا يحتاج في كونه معذرا إلى ضم الآخر، فيكون للعذر علتان
مستقلتان غاية الأمر أنهما تجتمعان في الجاهل بالنسبة إلى خارج الوقت، وهذا هو
الموافق للاحتمال الثاني من الاحتمالين.
وأما بناء على الأول منهما فيلزم سقوط كل من الجهل ومضي الوقت عن كونه
علة تامة للعذر، وكون العذر متوقفا على تحقق كليهما، وهذا مخالف لظاهر الروايتين.
وبالجملة حفظ الظهور في كلتا الروايتين يقتضي القول بكون كل من
الجهل
344

ومضي الوقت علة تامة للعذر غاية الأمر اجتماعهما معا في الجاهل بالنسبة إلى
خارج الوقت.
وحينئذ فيوافق مفادهما لما عليه المشهور بعد إخراج العالم العامد، إذ المشهور
بينهم كما عرفت عدم وجوب الإعادة على الجاهل بوجوب القصر مطلقا، التفصيل
بين الوقت وخارجه في الناسي، ووجوب الإعادة مطلقا على العالم العامد، بل هو
إجماعي كما مر.
وأما ما حكي عن العماني من القول بوجوب الإعادة على الجاهل مطلقا، وعن
الإسكافي والحلبي من وجوب الإعادة عليه في الوقت دون خارجه، (1) فيردهما
الشذوذ. ولعل العماني لم يعثر في المسألة إلا على روايتي الحلبي والأعمش، الإسكافي
والحلبي لم يعثرا على رواية زرارة ومحمد بن مسلم، فتدبر.
هذا كله حكم من أتم في موضع القصر بالنسبة إلى صلاته. ومثل ذلك أيضا
صومه، كما يدل عليه أخبار مستفيضة (2) اشتهر بينهم العمل بها. فما في الجواهر في
المقام من قوله: " ولا يبعد إلحاق الصوم بالصلاة " (3) لا يخلو عن شيء، إذ التعبير
بالإلحاق إنما يصح فيما إذا لم يكن المسألة بخصوصها منصوصا عليها.
تذنيب في حكم من قصر في موضع الإتمام
لا يخفى أن ما ذكر إلى هنا كان بالنسبة إلى من أتم في موضع القصر، وأما من قصر
في موضع الإتمام فيجب عليه الإعادة مطلقا، وفاقا للمشهور، (4) ولما يقتضيه
القاعدة الأولية، حيث إنه لم يمتثل ما هو وظيفته.

1 - راجع المختلف / 164 (= ط. أخرى 2 / 538)، المسألة 395؛ والكافي للحلبي / 116.
2 - راجع الوسائل 7 / 127 (= ط. أخرى 10 / 179)، الباب 2 من أبواب من يصح منه
الصوم.
3 - الجواهر 11 / 345.
4 - راجع الروض / 398؛ والحدائق 11 / 436؛ ومفتاح الكرامة 3 / 602.
345

نعم هاهنا روايتان يستفاد منهما معذورية الجاهل في المقام أيضا:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد، عن موسى بن عمر، عن علي بن النعمان،
عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: " إذا أتيت بلدة
فأزمعت المقام عشرة أيام فأتم الصلاة، فإن تركه رجل جاهلا فليس عليه
إعادة. " (1)
والرواية ضعيفة بموسى بن عمر كما لا يخفى.
2 - ما رواه بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن
إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن امرأة كانت معنا في السفر وكانت
تصلي المغرب ركعتين ذاهبة وجائية؟ قال: " ليس عليها قضاء. " ورواه الصدوق
بإسناده عن الحسين بن سعيد، وبإسناده عن ابن أبي عمير نحوه. (2) هذا.
ولكن لا يخفى أن الأصحاب أعرضوا عن العمل بالروايتين، وقد عرفت سابقا أن
الرواية الشاذة ليست حجة شرعية وإن لم يعارضها غيرها، إذ عمدة الدليل على
حجية الخبر بناء العقلاء، وليس بناؤهم على العمل بما رويت عن المولى إذا أعرض
عنها بطانته وخواصه العارفون بآرائه وعقائده، وليس للعبد أن يحتج على المولى
بهذا القبيل من الروايات.
كيف! والكلام المسموع من الإمام (عليه السلام) بلا واسطة أيضا لم يكن حجة عند
الأصحاب في مقام العمل بعد ما أعرض عنه بطانته وخواصه المطلعون على عقائده
وأسراره، فكيف بالرواية الحاكية لقوله؟
فانظر إلى ما رواه الكليني والشيخ عن عبد الله بن محرز (عبد الله بن محمد -
التهذيب): قال " أوصى إلى رجل، وترك خمسمأة درهم أو ستمأة درهم، وله ابنة، قال:
لي عصبة بالشام. فسألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك، فقال: " أعط الابنة

1 - الوسائل 5 / 530 (= ط. أخرى 8 / 506)، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 3.
2 - المصدر السابق 5 / 531 (= ط. أخرى 8 / 507) والباب، الحديث 7.
346

النصف، العصبة النصف الآخر. " فلما قدمت الكوفة أخبرت أصحابنا بقوله،
فقالوا: اتقاك. فأعطيت الابنة النصف الآخر، ثم حججت، فلقيت أبا عبد الله (عليه السلام)،
فأخبرته بما قال أصحابنا، وأخبرته أني دفعت النصف الآخر إلى الابنة. فقال:
" أحسنت، إنما أفتيتك مخافة العصبة عليك "، (1) كيف أخذ الراوي بحسب فطرته
ووجدانه ما قاله أصحابنا بالكوفة، وترك ما سمعه من الإمام (عليه السلام) بعد ما أعرض عنه
أصحابنا المطلعون على آرائه وعقائده.
وبالجملة الروايتان الدالتان على معذورية من قصر في موضع الإتمام جهلا قد
أعرض عنهما الأصحاب، فيجب العمل على وفق ما تقتضيه القاعدة وهو وجوب
الإعادة مطلقا، فتدبر.
ورود إشكال عقلي في المقام والجواب عنه
بقي في المقام إشكال عقلي ربما يتوهم بالنسبة إلى معذورية الجاهل.
وملخصه على ما ذكره الشيخ في الرسائل: أن ظاهر كلام الأصحاب ثبوت
العذر من حيث الحكم الوضعي، وهي الصحة، بمعنى سقوط الفعل ثانيا، دون
المؤاخذة. فحينئذ يقع الإشكال في أنه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي
وصحت عقوبته عليه كان مقتضاه بقاء حكم القصر في حقه، وما يأتي به من الإتمام
إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب؟ وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر
به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟!
ثم أشار (قده) إلى دفع الإشكال بوجوه ستة: يرجع أربعة منها إلى إنكار الأمر
بالقصر فعلا، وواحد منها إلى إنكار الأمر بالإتمام بالتزام أن غير الواجب مسقط

1 - المصدر السابق 17 / 444 (= ط. أخرى 26 / 104)، الباب 5 من أبواب ميراث
الأبوين والأولاد، الحديث 4؛ عن الكافي 7 / 87؛ والتهذيب 9 / 278.
347

للواجب، ويرجع الأخير إلى ثبوت الأمرين معا بنحو الترتب.
وإن شئت الاطلاع على تفصيل ما ذكره فارجع إلى الرسائل. (1)
ونحن نقول أولا: إن تسالم الأصحاب على ثبوت العقاب في المقام غير معلوم.
وثانيا: إن المسألة ليست مسألة فقهية حتى يعتمد فيها على الإجماع
والتسالم، الإجماع إنما يكون حجة في إثبات المسائل الفقهية إذا أجمع عليها الفقهاء بما
هم فقهاء من جهة كونه كاشفا عن كون المسألة متلقاة عن الأئمة الأطهار (عليه السلام) يدا
بيد.
وثالثا: إن ما ذكر في تقريب الإشكال من أن هذا الشخص في هذا الحال مأمور
بالقصر أو بالإتمام أوبهما معا، مردود بأن الأمر المتعلق بالمسافر ليس أمرا مغايرا لما
تعلق بالحاضر حتى يلزم بالنسبة إلى الجاهل اجتماع أمرين، بل الأمر بالنسبة إلى
جميع المكلفين أمر واحد تعلق بطبيعة الصلاة، وكل واحد منهم مأمور بإيجاد هذه
الطبيعة، غاية الأمر أن مصاديق هذه الطبيعة تختلف بحسب حالات المكلفين.
فالصلاة عنوان بسيط ينتزع عن مجموع الأجزاء التي اعتبرها الشارع يوجدها
المكلف، ومنطبق هذا العنوان ومنشأ انتزاعه بالنسبة إلى بعض المكلفين أربع ركعات
مثلا وبالنسبة إلى بعض آخر ركعتان، وكذلك في سائر الحالات المختلفة التي تعرض
للمكلفين من كونهم واجدين للماء، أو فاقدين له، خائفين أو غير خائفين، قادرين
أو عاجزين.
فالأمر وكذا المأمور به بالنسبة إلى جميع المكلفين واحد، وإنما الاختلاف في
مصاديق المأمور به وما ينطبق عليه عنوانه.
فصلاة الظهر مثلا طبيعة واحدة أمر بها جميع المكلفين: من واجد الماء وفاقده،
الحاضر والمسافر، ونحو ذلك، وليست التامة والمقصورة طبيعتين مختلفتين حتى

1 - راجع الرسائل (فرائد الأصول) / 308 (= ط. أخرى / 523)، فيما استثني من عدم
معذورية الجاهل.
348

يتعلق بكل واحدة منهما أمر مستقل، لما عرفت من عدم كون القصر والإتمام من
العناوين القصدية، (1) بل الأمر تعلق بنفس طبيعة صلاة الظهر مثلا، وكل واحد من
المسافر والحاضر مأمور بإيجاد هذه الطبيعة، واختلافهما إنما هو في مصداق هذه
الطبيعة ومنشأ انتزاعها، فمصداقها بالنسبة إلى المسافر ركعتان وبالنسبة إلى الحاضر
أربع ركعات.
إذا عرفت هذا فنقول: بعد ما دلت الأدلة الشرعية على صحة صلاة الجاهل في
المقام، وفرغنا من مقام إثباته، فلنا أن نقول في تصوير ذلك ثبوتا: إنه من الممكن أن
يكون مصداق الصلاة بالنسبة إلى الجاهل بوجوب القصر عبارة عن الركعتين كما في
سائر المسافرين، والركعتان المزيدتان تقعان لغوا من دون أن تكون هذه الزيادة
مضرة بانطباق عنوان الصلاة المأمور بها على الركعتين الأوليين، لعدم وقوعها في
أثناء الصلاة إما لعدم وجوب السلام، أو لعدم جزئيته مطلقا أو في حق الجاهل. (2)
فإن قلت: الجاهل قصد امتثال الأمر الإتمامي جهلا، والمفروض أن المتوجه إليه
واقعا هو الأمر القصري، فما قصد ليس مأمورا به، وما هو المأمور به لم يقصد، فكيف
يحكم بثبوته وتحققه؟

1 - راجع الشرط السادس من شروط القصر، المسألة السادسة. (ص 316).
2 - لأحد أن يقول: إن احتمال عدم وجوب السلام أو عدم جزئيته بنحو الإطلاق غير
متمش بعد ما ثبت بالأدلة خلافهما، فيبقى في المقام احتمال عدم جزئيته بالنسبة إلى
خصوص الجاهل، أو عدم اعتبار الموالاة بين السلام وبين سائر الأجزاء بالنسبة إليه، أو
عدم إضرار الركعتين بالموالاة إذا لم يأت بهما بقصد التشريع والبدعة.
لا يقال: اختصاص الجزئية بالعالم يستلزم الدور.
فإنه يقال: إنما يلزم الدور إذا أخذ العلم بحكم في موضوع نفسه، وأما في المقام فقد أخذ
العلم بوجوب القصر في موضوع وجوب التسليم.
ثم إن مقتضى ما ذكره الأستاذ (مد ظله العالي) في تصوير صحة صلاة الجاهل هو صحة
صلاة الناسي ونحوه أيضا مطلقا، بداهة عدم انطباق عنوان رد الصدقة على صلاتهم أيضا.
ح ع - م.
349

قلت: قد عرفت أن الثابت في حق الحاضر والمسافر أمر واحد، وهو قوله تعالى:
(أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) (1) مثلا، وكل واحد منهما أيضا
بصدد امتثال هذا الأمر، غاية الأمر أن مصداق الصلاة بالنسبة إليهما مختلف،
فالجاهل في المقام أيضا لم يقصد إلا امتثال الأمر المتعلق بطبيعة صلاة الظهر مثلا، إلا
أنه تخيل بسبب جهله أن مجموع الأربع يقع مصداقا لهذه الطبيعة، مع كون مصداقها
بالنسبة إليه ركعتين، وهذا الاشتباه لا يضر بقصد امتثال الأمر.
فإن قلت: مقتضى ما ذكرت وقوع صلاة العالم العامد أيضا صحيحة إذا أتم في
موضع القصر.
قلت: من الممكن أن يكون ازدياد الركعتين عن علم وعمد سببا لانطباق عنوان
قبيح على الركعتين الأوليين، وباعتبار انطباق هذا العنوان تخرج الركعتان من
صلاحية وقوعهما مصداقا للمأمور به، ولا يكون هذا العنوان القبيح منطبقا على
صلاة الجاهل، وقد ورد أن إسقاط الركعتين في السفر صدقة من الله تعالى على
عباده، فلعل العنوان القبيح المنطبق على عمل العالم في المقام الموجب لفساده هو رد
صدقة الله وإظهار عدم الاعتناء بفضله بسبب هذا العمل، وهذا المعنى غير متحقق
فيمن جهل بوجوب القصر عليه كما لا يخفى.
هذه خلاصة ما ربما يحتمل في دفع الإشكال العقلي الوارد في المقام.
وأما الأجوبة التي ذكرها الشيخ (قده) فبعضها مما ينافي مبانيه القطعية، مضافا
إلى الاعتراضات الواردة عليها، فتدبر.
حكم ما إذا قصر الجاهل من باب الاتفاق
مسألة: إذا قصر الجاهل بوجوب القصر من باب الاتفاق، بأن سلم على الثانية

1 - سورة الإسراء (17)، الآية 78.
350

بتخيل كونها رابعة، فهل يصح صلاته أولا؟
نسب إلى المشهور القول بالبطلان ووجوب الإعادة. (1)
ولكن يجب أن يعلم أن المسألة ليست من المسائل الأصلية المتلقاة عن
الأئمة (عليهم السلام) يدا بيد حتى يتمسك فيها بالإجماع أو الشهرة، بل هي مسألة تفريعية
استنباطية، فيجب المشي فيها على طبق ما يقتضيه القواعد:
فنقول: بعد الرجوع إلى ما ذكرناه سابقا لا يبقى إشكال في صحة الصلاة في المقام.
وإن شئت إعادة الكلام فنقول: قد ظهر لك مما تقدم منا أمران:
الأول: أن القصر والإتمام ليسا من العناوين القصدية المتعينة بالقصد والنية،
فليس قصد الإتمام مثلا موجبا لتعين المأتي به للتمامية، بل الفرق بين المقصورة التامة
إنما هو بزيادة الركعتين الأخيرتين وعدمها، بلا دخل للقصد والنية في ذلك.
ويظهر ذلك من الشيخ (قده) أيضا في الخلاف، حيث قال: " القصر لا يحتاج إلى
نيه القصر، بل يكفي نية فرض الوقت، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يجوز
القصر إلا بثلاثة شروط: أن يكون سفرا يقصر فيه الصلاة، وأن ينوي القصر مع
الإحرام، وأن يكون الصلاة أداء لاقتضاء... " (2)
ووافق الشيخ في ذلك جمهور المتأخرين، (3) ولأجل ذلك جوزوا في أماكن
التخيير العدول من القصر إلى الإتمام وبالعكس. (4)
الثاني: أن الأمر المتوجه إلى المسافر ليس وراء الأمر المتوجه إلى الحاضر، بل الأمر
المتوجه إليهما أمر واحد متعلق بطبيعة واحدة، وهي صلاة الظهر مثلا، غاية الأمر أن

1 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 604؛ والجواهر 14 / 350.
2 - الخلاف 1 / 579، كتاب صلاة المسافر، المسألة 335.
3 - راجع مفتاح الكرامة 2 / 323، في نية الصلاة - الموضع السادس.
4 - راجع الجواهر 14 / 341.
351

مصداقها بالنسبة إلى المسافر ركعتان وبالنسبة إلى الحاضر أربع ركعات، فكل
واحد من المتم أو المقصر لا يتصدى إلا لامتثال قوله تعالى مثلا: (أقم الصلاة
لدلوك الشمس إلى غسق الليل).
إذا عرفت هذا فنقول: إن المصداق الواقعي لصلاة الظهر مثلا بالنسبة إلى
الجاهل أيضا هو الركعتان لا الأربع كما عرفت تصويره، والفرض أنه أتى به بقصد
امتثال الأمر المتوجه إليه، أعني الأمر بطبيعة صلاة الظهر الذي يشترك فيه الحاضر
والمسافر، غاية الأمر أنه تخيل كون فردها بالنسبة إليه عبارة عن الأربع، ولكن
لا يضر هذا التخيل بعد ما أتى بما هو الواجب عليه واقعا بقصد امتثال الأمر المتوجه
إليه، فلاوجه لعدم صحته بعد ما لم يخل بشيء من أجزاء العمل ولا بالنية.
ومما ذكرنا يعلم أيضا حكم القضاء بالنسبة إلى الجاهل إذا فاته الصلاة في
الوقت، وأنه يجب عليه القضاء قصرا، ولاوجه لتوهم استقرار القضاء عليه تماما، إذ
الثابت عليه هو القصر كسائر المسافرين، غاية الأمر دلالة الأخبار على إجزاء التمام
إذا أتى بها في الوقت كذلك، ولكن المفروض عدم الإتيان بها في الوقت.
وبالجملة لا يستفاد من الأخبار تبدل وظيفة الجاهل واقعا، وكون مصداق
الصلاة بالنسبة إليه عبارة عن الأربع، بل غاية ما يستفاد منها هو إجزاء الأربع إذا
أتى بها جهلا، والمفروض في المقام عدم الإتيان بها، وقد عرفت منا في مقام التصوير
أن الأربع لا تقع بمجموعها منطبقة لعنوان الصلاة، فتدبر.
حكم ما إذا كان في بعض الوقت حاضرا وفي بعضه مسافرا
الأمر الثالث: إذا كان في أول الوقت حاضرا وفي آخره مسافرا، أو بالعكس،
فهل يراعي في صلاته حال تعلق الوجوب أعني به أول الوقت، أو حال الأداء، أو
يتخير، أو يفصل بين سعة الوقت للإتمام وعدمها؟ فيه خلاف بين الأصحاب.
352

وليعلم أن محل النزاع ما إذا لم يصل في أول الوقت حتى تبدل عنوانه من الحضور
إلى السفر، أو بالعكس، وأما إذا أتى بصلاته قبل تبدل عنوانه فهي تقع صحيحة
بلا خلاف بينهم.
وبالجملة إذا كان في أول الوقت حاضرا مثلا فلا خلاف بينهم في أنه يجوز له أن
يأتي بصلاته تامة، وتجزي قطعا وإن كان ناويا للسفر، ولا يجب عليه التأخير إلى أن
يسافر. وكذلك في عكس المسألة يجوز له أن يأتي بصلاته في السفر قصرا، وتجزي
البتة وإن كان يعلم بتحقق الحضور قبل مضي الوقت.
فمحل الكلام ما إذا لم يصل حتى تبدل عنوانه.
إذا عرفت محل النزاع فنقول: ينبغي أولا بيان ما يقتضيه القاعدة مع قطع النظر
عن الأخبار الواردة في المقام:
فلأحد أن يقول: إن مقتضى القاعدة مراعاة حال الأداء. بتقريب أن إطلاق ما
دل على وجوب الإتمام على الحاضر يشمل من كان حاضرا في بعض الوقت أيضا،
وكذلك إطلاق ما دل على وجوب القصر على المسافر يشمل من كان مسافرا في
بعض الوقت. ثم إن تخير المكلف بين أجزاء الوقت تخير عقلي لا شرعي، إذ هو
مكلف مثلا بإيجاد طبيعة صلاة الظهر المقيدة بوقوعها بين الحدين، أعني من الزوال
إلى الغروب، وهذه الطبيعة المقيدة كما يكون لها أفراد عرضية فكذلك لها أفراد طولية
حسب أجزاء الوقت، والحاكم بتخير المكلف بين أفراد الطبيعة هو العقل. وعلى هذا
فمقتضى هذا التخيير العقلي وهذين الإطلاقين هو أن المصلي يتخير بين أن يوجد
الطبيعة في أول الوقت أو في آخره وأنه يجب عليه أن يراعي حاله حين أداء الصلاة،
فإن كان حاضرا كان مصداق الصلاة في حقه أربع ركعات، وإن كان مسافرا كان
مصداقها في حقه ركعتين، فتدبر.
ولقائل أن يقول: إن مقتضى القاعدة مراعاة حاله في أول الوقت، أعني حال
353

توجه التكليف، فإنه في أول الوقت يتوجه إليه التكليف لا محالة، وحينئذ فإذا
كان في أوله مسافرا يكون التكليف المتوجه إليه صلاة مقصورة، وتتنجز هي في
حقه، فيجب عليه الخروج من عهدتها وإن تبدل عنوانه، وكذلك من كان في أول
الوقت حاضرا كان المتوجه إليه صلاة تامة، فيجب عليه امتثالها.
ويمكن أن يستدل لهذا الوجه بالاستصحاب أيضا.
ولكن لأحد أن يناقش فيه بأن الاستصحاب يحتاج إلى متيقن سابق، وحكم
من تبدل عنوانه مشكوك فيه من أول الأمر، فتدبر.
وهاهنا احتمال ثالث، وهو القول بوجوب الإتمام في كلتا المسألتين. بتقريب أن
أدلة القصر في السفر منصرفة عمن كان مسافرا في بعض الوقت.
واحتمال رابع، وهو القول بثبوت القصر فيهما بادعاء انصراف أدلة الإتمام عنه.
هذا.
ولكن الاحتمالين الأخيرين لم يلتزم بهما أحد، فبقي الأولان.
هذا تمام الكلام فيما يقتضيه القاعدة في المقام، ولكن العمدة هي الأخبار الواردة
فيجب الدقة في مفادها.
والأولى هنا عقد ثلاث مسائل وإفراد كل منها ببحث يخصها:
1 - حكم من كان في أول الوقت مسافرا وفي آخره حاضرا.
2 - عكس ذلك.
3 - وظيفتهما بالنسبة إلى القضاء إذا فاتهما الصلاة في الوقت.
حكم من كان في أول الوقت مسافرا
المسألة الأولى: إذا كان في أول الوقت مسافرا ولم يصل حتى صار حاضرا فهل
يجب عليه مراعاة حال الوجوب أو حال الأداء؟
المشهور بين الأصحاب شهرة محققة في جميع الأعصار أنه يجب عليه مراعاة حال
354

الأداء، (1) وبه أفتى الجمهور أيضا، (2) وعن ابن الجنيد التخيير بين
القصر والإتمام. (3)
وفي النهاية: " فإن دخل من سفره بعد دخول الوقت وكان قد بقي من الوقت
مقدار ما يتمكن فيه من أداء الصلاة على التمام فليصل وليتمم، فإن لم يكن قد بقي
مقدار ذلك قصر ". (4)
وفي مفتاح الكرامة: " وحكى في الذكرى والروض القول بالتقصير، وقد تظهر
هذه الحكاية من نهاية الإحكام والمنتهى، واعترف جماعة بعدم معرفة قائله ". (5)
وبالجملة الأقوال المحكية في المسألة أربعة:
1 - تعين الإتمام، وهو الأقوى وفاقا للمشهور.
2 - تعين القصر، ولم نجد به قائلا، ولكن عرفت حكايته عن بعض.
3 - التخيير، وهو المحكي عن ابن الجنيد.
4 - التفصيل بين سعة الوقت للإتمام وضيقه، اختاره الشيخ في النهاية.
ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار، وهي بين ما يتعرض لحكم
المسألتين، ما يتعرض لهذه المسألة فقط، وما يتعرض للمسألة الثانية فقط. وأربعة
منها مروية عن محمد بن مسلم: تعرض واحدة منها لحكم هذه المسألة، وواحدة
منها للمسألة الثانية فقط، وثنتان منها للمسألتين،. وقد فرقها في الوسائل، ولكن
المناسب جمعها في النقل ليكون بعضها قرينة على بعض.
وكيف كان فلنذكر الأخبار:
1 - ما رواه الشيخ عن الحسين بن سعيد، عن صفوان ومحمد بن سنان جميعا،

1 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 490، ذيل قول المصنف: وكذا لو حضر من السفر في أثناء
الوقت.
2 - راجع التذكرة 1 / 186 (= ط. أخرى 4 / 354). قال فيه: وهو قول واحد للشافعي.
3 - راجع المختلف / 166 (= ط. أخرى 2 / 548)، المسألة 397.
4. النهاية / 123.
5. مفتاح الكرامة 3 / 490.
355

عن إسماعيل بن جابر، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يدخل على وقت الصلاة
وأنا في السفر فلا أصلي حتى أدخل أهلي؟ فقال: " صل وأتم الصلاة. " قلت: فدخل
على وقت الصلاة وأنا في أهلي أريد السفر فلا أصلي حتى أخرج؟ فقال: " فصل
وقصر، فإن لم تفعل فقد خالفت والله رسول الله. " ورواه الصدوق أيضا بإسناده
عن إسماعيل بن جابر. (1)
والرواية صحيحة من حيث السند. وهي تدل على كون الاعتبار بحال الأداء في
كلتا المسألتين.
وقوله: " فقد خالفت والله رسول الله " يدل على وجود مخالف في المسألة
إجمالا، فيمكن أن يكون مخالفته في خصوص هذه المسألة، أعني حكم من تبدل
عنوانه في أثناء الوقت، ويمكن أن تكون في أصل تعين القصر في السفر، ولعله
الأظهر، فيكون قوله هذا إشارة إلى رد العامة القائلين بكون القصر في السفر رخصة
لا عزيمة. (2) وأما الاحتمال الأول فيضعفه أن الظاهر أنه لم ينقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
في حكم من تبدل عنوانه شيء حتى يكون كلامه (عليه السلام) في هذه الرواية إشارة إليه،
فافهم.
2 - ما رواه الشيخ عنه، عن صفوان، عن العيص بن القاسم، قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يدخل عليه وقت الصلاة في السفر، ثم يدخل بيته قبل أن
يصليها؟ قال: " يصليها أربعا. " وقال: " لا يزال يقصر حتى يدخل بيته. " (3)
وهذه الرواية أيضا صحيحة، وهي تدل على كون الاعتبار بحال الأداء في
خصوص هذه المسألة.

1 - الوسائل 5 / 535 (= ط. أخرى 8 / 512)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 2.
2 - راجع الخلاف 1 / 569، كتاب صلاة المسافر، المسألة 321؛ والفقه على المذاهب
الأربعة 1 / 471.
3 - الوسائل 5 / 535 (= ط. أخرى 8 / 513)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 4.
356

3 - ما رواه بإسناده عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب،
عن جعفر بن بشير، عن حماد بن عثمان، عن إسحاق بن عمار، قال: سمعت أبا
الحسن (عليه السلام) يقول في الرجل يقدم من سفره في وقت الصلاة؟ فقال: " إن كان لا يخاف
فوت الوقت فليتم، وإن كان يخاف خروج الوقت فليقصر. " (1)
ورواة الحديث كلهم ثقات. وسعد من الطبقة الثامنة، ومحمد بن الحسين من
الطبقة السابعة، وابن بشير من الطبقة السادسة، وحماد وإسحاق من الطبقة الخامسة.
ورواه أيضا بإسناده عن سعد، عن محمد بن الحسين، عن الحكم بن مسكين،
عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام). ورواه الصدوق بإسناده عن الحكم بن مسكين
في كتابه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام)، وذكر مثله. (2)
وهذه الرواية هي مستند الشيخ (قده) في المسألة، حيث فصل بين سعة الوقت
وضيقه.
ولكن لا يبعد أن يكون مراده (عليه السلام): أنه إن لم يخف فوت الوقت أخر الصلاة حتى
يدخل منزله فيتمها، وإن خاف فوته أتى بها في السفر قصرا. وهذا احتمال قريب
يجب أن يلتزم به جمعا بين أخبار المسألة.
4 - ما رواه بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن محمد بن عبد الحميد، عن
سيف بن عميرة، عن منصور بن حازم، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " إذا كان
في سفر فدخل عليه وقت الصلاة قبل أن يدخل أهله فسار حتى يدخل أهله، فإن
شاء قصر وإن شاء أتم، والإتمام أحب إلى. " (3)
ومحمد بن أحمد بن يحيى أشعري قمي ثقة من كبار الطبقة الثامنة هاجر من

1 - المصدر السابق 5 / 536 (= ط. أخرى 8 / 514) والباب، الحديث 6.
2 - المصدر السابق والباب، الحديث 7.
3 - المصدر السابق والباب، الحديث 9.
357

قم إلى الري، له كتاب نوادر الحكمة المسمى عند القميين ب‍ " دبة شبيب "،
لاحتوائه على كل شيء. (1) وابن عبد الحميد من الطبقة السابعة، وسيف بن عميرة
من الطبقة الخامسة، وحينئذ فربما يستبعد روايته عنه، ولكن ابن عميرة كان من
المعمرين وأدرك الطبقة السابعة، فلا يبعد رواية ابن عبد الحميد عنه.
وظاهر هذه الرواية يوافق فتوى ابن الجنيد، ولكن يحتمل فيها نظير ما
احتملناه في سابقتها، فيكون مراده (عليه السلام) أنه يتخير بين أن يصبر حتى يدخل أهله
فيتم، وبين أن يصلي في السفر قصرا، والأول أفضل وأحب، ويجب الالتزام بهذا
الاحتمال أيضا جمعا.
فالأقوى في هذه المسألة، أعني حكم من كان في أول الوقت مسافرا ولم يصل
حتى حضر أهله، تعين الإتمام، وفاقا للمشهور. والأمر في هذه المسألة سهل، الخلاف
فيها غير معتنى به، وما يوهم خلافه من الأخبار لها محامل قريبة:
فمنها الرواية الثالثة، وكذا الرابعة، وقد عرفت تأويلهما.
ومنها أيضا بعض روايات محمد بن مسلم، وهي بعد جمعها وتفسير بعضها
ببعض لا يبقى لها دلالة على الخلاف، فلنذكرها بأجمعها، وهي أربعة:
1 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى وفضالة
بن أيوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهم السلام) في الرجل
يقدم من الغيبة، فيدخل عليه وقت الصلاة؟ فقال: " إن كان لا يخاف أن يخرج الوقت
فليدخل وليتم، وإن كان يخاف أن يخرج الوقت قبل أن يدخل فليصل وليقصر. " (2)
وهذا الخبر شاهد قوى لما احتملناه في روايتي إسحاق بن عمار ومنصور بن

1 - راجع رجال النجاشي / 348، الرقم 939.
2 - الوسائل 5 / 536 (= ط. أخرى 8 / 514)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 8.
358

حازم، فهو شاهد للجمع بين الأخبار المختلفة الواردة في المسألة، وبه يرتفع
التهافت بينها ويقوى قول المشهور
2 - ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن
محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يدخل من سفره وقد دخل
وقت الصلاة؟ قال: " يصلي ركعتين، وإذا خرج إلى سفر وقد دخل وقت الصلاة
فليصل أربعا. " (1)
3 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى وفضالة
بن أيوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يدخل من سفره وقد دخل وقت الصلاة وهو في الطريق؟ فقال: " يصلي
ركعتين، وإن خرج إلى سفره وقد دخل وقت الصلاة فليصل أربعا " وبإسناده عن
سعد، عن أبي جعفر، عن علي بن حديد والحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى،
عن حريز بن عبد الله، عن محمد بن مسلم مثله. ورواه الصدوق أيضا بإسناده عن
حريز، عن محمد بن مسلم. (2)
والظاهر اتحاد هذه الرواية مع سابقتها، لاتحادهما سندا وتقاربهما متنا، ويبعد
جدا أن يكون ابن مسلم سأل عن حكم المسألة مرتين. وبالجملة الروايتان ترجعان
إلى واحدة، والاختلاف الجزئي في متنهما نشأ من قبل الرواة عن ابن مسلم.
وقوله: " وهو في الطريق " قيد لقوله: " يدخل من سفره "، أو لقوله: " دخل وقت
الصلاة. " وعلى الأول فلا تنافي الرواية لقول المشهور، إذ يكون السؤال حينئذ عن
وظيفته وهو بعد في الطريق، ويكون المراد بقوله: " يدخل " كونه قاصدا للدخول في
معرضه. وكذلك في الفرض الثاني يكون المسؤول عنه وظيفته قبل أن يخرج إلى

1 - المصدر السابق 5 / 537 (= ط. أخرى 8 / 516) والباب، الحديث 11.
2 - المصدر السابق 5 / 535 (= ط. أخرى 8 / 513) والباب، الحديث 5.
359

السفر. ويشهد لهذا الحمل الرواية الأولى لابن مسلم والرواية الرابعة له.
والحاصل أن ملاحظة مجموع ما روي في المسألة عن محمد بن مسلم يوجب العلم
بعدم مخالفتها للمشهور، فإن بعضها يفسر بعضا. ولعلها لو وصلت إلينا بالقرائن
المحفوفة بها لاستفدنا من جميعها ما اختاره المشهور من كون الاعتبار بحال الأداء.
4 - ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن العلاء، عن
محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل يريد السفر (فيخرج) متى يقصر؟
قال: " إذا توارى من البيوت. " قلت: الرجل يريد السفر فيخرج حين تزول
الشمس؟ فقال: " إذا خرجت فصل ركعتين. " ورواه الكليني أيضا عن محمد بن
يحيى، عن محمد بن الحسين، عن صفوان؛ ثم قال: وروى الحسين بن سعيد، عن
صفوان وفضالة، عن العلاء مثله. ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن الكليني. ورواه
الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم. (1)
والرواية تدل على حكم المسألة الثانية فقط، ويستفاد منها كون الاعتبار بحال
الأداء.
وقوله: " فيخرج حين تزول الشمس " يحتمل أن يراد به كون الخروج مقارنا
للزوال، وأن يراد به تحقق الزوال قبله بمقدار يفي بالصلاة. وعلى الأول أيضا يمكن أن
يستدل به لكون الاعتبار بحال الأداء لا حال التعلق، إذ الخروج من البلد وإن قارن
الزوال لكنه يفي بالصلاة قطعا المقدار من الزمان المتوسط بين الخروج منه وبين
التجاوز عن حد الترخص، اللهم إلا إن يقال: إن المتبادر من قوله (عليه السلام): " يخرج "
بقرينة صدر الرواية هو الخروج من حد الترخص لا نفس البلد، فتدبر. (2)

1 - المصدر السابق 5 / 534 (= ط. أخرى 8 / 512) والباب، الحديث 1؛ و 5 / 505 (=
ط. أخرى 8 / 470)، الباب 6 منها، الحديث 1. والرواية مقطعة في الوسائل في البابين
جمعها هنا في المتن. راجع التهذيب 2 / 12، و 4 / 230؛ والكافي 3 / 434؛ والفقيه 1 / 435.
2 - لأحد أن يقول: إنه لو فرض كون الاعتبار بحال تعلق التكليف فلا يفرق فيه بين أن
يبقى في البلد بمقدار يفي بالصلاة أم لا، إذ الحضور ليس شرطا لصحة الإتمام فرضا، فله أن
يلتزم بأن الحضور في أول الوقت سبب لتنجز الخطاب بالإتمام سواء سافر بعده بلا فصل أم
لا. ح ع - م.
360

فهذه أربع روايات مروية عن محمد بن مسلم في المسألتين، وقد عرفت أنها
لا تنافي المشهور بعد تفسير بعضها ببعض، وعرفت أيضا تأويل روايتي إسحاق بن
عمار ومنصور بن حازم. فالمتبع في هذه المسألة ما يستفاد من صحيحتي إسماعيل بن
جابر والعيص بن القاسم، أعني كون الاعتبار بحال الأداء، بعد ما أفتى به المعظم، ولم
يوجد في قبال الصحيحتين ما يخالفهما بالصراحة. وبالجملة حكم المسألة الأولى
سهل، وإنما الإشكال في المسألة الثانية، فانتظر.
حكم ما إذا كان في أول الوقت حاضرا
المسألة الثانية: إذا كان في أول الوقت حاضرا ولم يصل حتى خرج من بلده،
فهل يراعي حال الأداء، أو حال تعلق الوجوب، أو يتخير، أو يفصل بين سعة
الوقت وضيقه؟
فيه أقوال، والأول مختار جماعة منهم الشيخ علي بن بابويه والسيد
المرتضى المفيد وابن إدريس، (1) والثاني مختار الصدوق وابن أبي عقيل، (2) والثالث
مختار الشيخ في خلافه وذكره في كتابي الحديث أيضا احتمالا، (3) والرابع مختاره في
النهاية وبه قال ابن البراج أيضا. (4)

1 - راجع المقنعة / 211، باب أحكام فوائت الصلاة؛ والسرائر 1 / 332. ونقله عن
مصباح السيد في السرائر 1 / 334؛ وعن رسالة علي بن بابويه في المختلف / 165 (= ط.
أخرى 2 / 541)، المسألة 396. وراجع مفتاح الكرامة 3 / 486.
2 - راجع الجوامع الفقهية / 10، باب الصلاة في السفر من كتاب المقنع. ونقله عن ابن أبي
عقيل في المختلف / 165 (= ط. أخرى 2 / 540)، المسألة 396.
3 - راجع الخلاف 1 / 577، المسألة 332؛ والتهذيب 3 / 223، ذيل الحديث
560؛ الاستبصار 1 / 241، ذيل الحديث 858.
4 - راجع النهاية / 123، باب الصلاة في السفر. ونقله عن ابن البراج في المختلف / 165
(= ط. أخرى 2 / 540)، المسألة 396.
361

ومنشأ القولين الأولين الأخبار المختلفة الواردة في المسألة، وأما الأخيران، أي
التخيير والتفصيل، فلا رواية على وفقهما في هذه المسألة، ولعل القول بالتفصيل نشأ
من الجمع بين الأخبار، أو من قياس المسألة بالمسألة السابقة، والقول بالتخيير نشأ
إما من الجمع بين الأخبار بحمل كل واحدة من الطائفتين على كونها بصدد بيان أحد
فردي التخيير فيكون التخيير واقعيا، أو من جهة ما ورد من الحكم بالتخيير بين
المتعارضين فيكون التخيير ظاهريا.
وكيف كان فليست هذه المسألة بوضوح المسألة السابقة، لتعارض
النصوص الأقوال فيها جدا، فلنذكر الأخبار ثم نتعرض لما هو الحق فيها.
فنقول: أما ما يدل على كون الاعتبار بحال الأداء فأربع روايات:
1 - صحيحة إسماعيل بن جابر، وقد مرت في المسألة الأولى، وهي صريحة في
بيان حكم كلتا المسألتين.
2 - الرابعة من روايات محمد بن مسلم، وقد مر شرحها أيضا.
3 - ما رواه الكليني عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن الوشاء، قال:
سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: " إذا زالت الشمس وأنت في المصر وأنت تريد السفر فأتم،
فإذا خرجت بعد الزوال قصر العصر. " ورواه الشيخ أيضا بإسناده عن الحسين بن
محمد، وبإسناده عن محمد بن يعقوب. (1)
والفقرة الأولى من الرواية ناظرة إلى بيان أن صرف نية السفر لا توجب القصر
ما لم يتلبس به، وقد عرفت سابقا ما عن الحارث بن أبي ربيعة من أنه أراد سفرا
فصلى بهم ركعتين في منزله، (2) وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد، فلم يردعوه.

1 - الوسائل 5 / 537 (= ط. أخرى 8 / 516)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 12.
2 - راجع ص 309 من الكتاب.
362

واعلم أن الحسين بن محمد من القميين، (1) ولكنه لم يرو عنهم، بل هو راوية معلى
بن محمد البصري. وربما نسب معلى إلى الغلو، (2) ولكن لم نجد في كتابه ما يدل على
ذلك.
4 - ما في الفقه الرضوي: " وإن خرجت من منزلك وقد دخل عليك وقت
الصلاة ولم تصل حتى خرجت فعليك التقصير، وإن دخل عليك وقت الصلاة وأنت
في السفر ولم تصل حتى تدخل أهلك فعليك التمام " (3). وقد عرفت سابقا حال فقه
الرضا وأنه لم يثبت لنا جواز الاعتماد عليه. (4) واحتمل بعض المعاصرين أن يكون
عبارة عن كتاب التكليف للشلمغاني.
وأما ما يدل على كون الاعتبار بحال تعلق الوجوب فخمس روايات:
1 - الرواية الثانية من روايات محمد بن مسلم، وقد مرت في المسألة السابقة.
2 - الرواية الثالثة منها، وقد مرت أيضا.
ولا يخفى أن رواية ابن مسلم أصح ما في الباب سندا، حيث رواها المشايخ
الثلاثة بأسانيد متعددة صحيحة.
ولكنك عرفت عدم جواز الاعتماد عليها، إذ من المحتمل جدا أن يكون رواياته
الأربع رواية واحدة تعددت واختلفت باختلاف الرواة عنه، فإنه من البعيد أن
يسأل ابن مسلم حكم مسألة واحدة مرتين أو مرات. والمستفاد من الأولى والرابعة
منها كون الاعتبار بحال الأداء. ومن الثانية والثالثة كون الاعتبار بحال تعلق
الوجوب. وإذا اختلفت مضمونا سقطت عن الاعتبار رأسا.

1 - هو الحسين بن محمد بن عامر الأشعري، كما صرح به في الكافي 1 / 205، في سند
الحديث 1 من باب أن الأئمة (عليهم السلام) ولاة الأمر.
2 - راجع رجال النجاشي / 418، الرقم 1117؛ ومجمع الرجال 6 / 113.
3 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام) / 162، باب صلاة المسافر والمريض.
4 - راجع ص 126 من الكتاب.
363

ولو سلم تعددها أيضا سقطت عن الحجية بسبب المعارضة. هذا مضافا إلى ما
عرفت من أن بعضها يفسر بعضا، فإذا دلت الأولى منها على كون الاعتبار في
المسألة الأولى بحال الأداء، والرابعة على كون الاعتبار في المسألة الثانية أيضا بحال
الأداء، وكانتا صريحتين في مفادهما، وجب حمل الثانية والثالثة أيضا عليهما وإن
أوجب التصرف فيهما، فيحمل قوله: " يدخل من سفره " على كونه بصدد الدخول في
معرضه لا على الدخول الفعلي، وقوله: " خرج إلى سفر " على كونه بقصد الخروج ولما
يخرج بعد، فتدبر.
3 - ما رواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن
داود بن فرقد، عن بشير النبال، قال: خرجت مع أبي عبد الله عليه السلام حتى أتينا
الشجرة، فقال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا نبال، قلت: لبيك، قال: " إنه لم يجب على أحد
من أهل هذا العسكر أن يصلي أربعا غيري وغيرك، وذلك أنه دخل وقت الصلاة
قبل أن نخرج. " ورواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد؛ وبإسناده عن الكليني. (1)
والرواية ظاهرة في كون الاعتبار بحال تعلق الوجوب، ولكنها ليست بصريحة
في ذلك، إذ من المحتمل أن يكونا قد صليا قبل الخروج من المدينة (2)، فلا تقاوم
لمعارضة صحيحة إسماعيل بن جابر الصريحة في كون الاعتبار بحال الأداء وكون
مخالفته مخالفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

1 - راجع الكافي 3 / 434، باب من يريد السفر...، الحديث 3؛ والوسائل 5 / 536 (= ط.
أخرى 8 / 515)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 10؛ عن التهذيب
3 / 224. ورواه الشيخ أيضا في التهذيب 3 / 161 عن الكليني.
2 - ويؤيد هذا الاحتمال أنه لو كان مراده (عليه السلام) بيان وجوب الإتمام عليهما فعلا لكان
الأنسب أن يقول: " لا يجب " بدل قوله: " لم يجب ". فيظهر بذلك كونه بصدد بيان الحكاية لما
مضى. ح ع - م.
364

هذا مع أن بشير قليل الرواية جدا، فيعلم من ذلك عدم كونه من فقهاء أصحاب
الأئمة (عليهم السلام)، فلا يقاوم نقله نقل فقهاء الأصحاب من قبيل ابن مسلم وابن جابر، فإن
ضبط العامي وإن كان ورعا جدا لا يقاس بضبط الفقيه المطلع. كيف! واشتباه العوام
وخطأهم في فهم ما يسمعونه وضبطه أكثر من أن يحصى. وبشير بن ميمون وأخوه
" شجرة " من أسراء العجم، (1) ولم يكونا من أهل اللغة العربية العارفين بأساليبه.
هذا مضافا إلى أنه يحتمل أن يكون المراد بالشجرة في الحديث غير مسجد
الشجرة.
وبالجملة ما حكاه بشير قضية في واقعة شخصية، فلا يقاوم ما تدل عليه
صحيحة ابن جابر، فتدبر.
4 - ما عن البحار والمستدرك، نقلا من كتاب محمد بن المثنى الحضرمي، عن
جعفر بن محمد بن شريح، عن ذريح المحاربي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن خرج
الرجل مسافرا وقد دخل وقت الصلاة كم يصلي؟ قال: " أربعا. " قال: قلت: وإن
دخل وقت الصلاة وهو في السفر؟ قال: " يصلي ركعتين قبل أن يدخل أهله، فإن
دخل المصر (وإن وصل العصر - خ. ل) فليصل أربعا. " (2)
وهذه الرواية تدل على كون الاعتبار في المسألة السابقة بحال الأداء، وفي هذه
المسألة بحال تعلق الوجوب، ولكنها أيضا ليست بصريحة، إذ من المحتمل أن يكون
مراده (عليه السلام) الترغيب على الإتيان بالصلاة قبل الخروج من حد الترخص، والخروج
يصدق مع عدم الوصول إلى حد الترخص أيضا، فلا تقاوم الرواية صحيحة ابن
جابر الصريحة في الخلاف.
هذا مضافا إلى أنه لا يجوز الاعتماد على أمثال هذه الروايات في إثبات

1 - راجع رجال الشيخ / 108 و 125؛ و 156 و 218، في أصحاب الإمام الباقر، أصحاب
الإمام الصادق (عليهما السلام).
2 - بحار الأنوار 86 / 55 (= ط. إيران 89 / 55)، باب وجوب قصر الصلاة، الحديث 18؛
ومستدرك الوسائل 6 / 541، الباب 15 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 2.
365

الأحكام الشرعية، فإن محمد بن المثنى من الطبقة السادسة، ولم يكن كتابه
معروفا شائعا بين الأصحاب إلى أن عثر عليه المجلسي بعد ألف سنة تقريبا، وكان
اعتماده عليه لا محالة من جهة أنه أتي له بكتاب مكتوبا عليه مثلا: " كتاب محمد بن
المثنى "، وبمثل هذه الروايات الموجودة في أمثال هذه الكتب غير المقروءة على
المشايخ لا يمكن إثبات الأحكام الشرعية، ثم بمثلها كيف يرفع اليد عن الروايات
الصحيحة الصريحة المودعة في الجوامع المقروءة على الشيوخ في جميع الأعصار
المكتوب عليها إجازاتهم في نقلها وروايتها؟!
5 - ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب جميل بن دراج، عن
زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) أنه قال في رجل مسافر نسي الظهر والعصر في السفر حتى
دخل أهله، قال: " يصلي أربع ركعات. " وقال لمن نسي صلاة الظهر والعصر وهو
مقيم حتى يخرج، قال: " يصلي أربع ركعات في سفره. " وقال: " إذا دخل على الرجل
وقت صلاة وهو مقيم ثم سافر صلى تلك الصلاة التي دخل وقتها عليه وهو مقيم
أربع ركعات في سفره. " (1)
ولا يخفى أن الرواية تشتمل على ثلاث فقرات: أما الأولى فيحتمل ارتباطها
بباب القضاء، كما يشهد بذلك لفظ النسيان الظاهر في استيعابه تمام الوقت، وكذا
الكلام في الفقرة الثانية. وعلى هذا فلا ربط لهما بالمسألتين. ويحتمل أيضا ارتباطهما
بهما ويكون التعبير بالنسيان مع عدم مضي الوقت من جهة أن بناء المسلمين عملا
كان على الإتيان بالصلوات في أوائل الأوقات. هذا. ولكن يحتمل حينئذ أن يراد
بقوله: " يصلي أربع ركعات " في الفقرة الثانية مجموع الصلاتين، وهذا وإن كان مخالفا
للظاهر لكن يجب المصير إليه جمعا بينها وبين صحيحة ابن جابر مثلا. وأما الفقرة
الثالثة فدلالتها على كون الاعتبار في المسألة الثانية بحال تعلق

1 - الوسائل 5 / 537 (= ط. أخرى 8 / 516)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر،
الحديثان 13 و 14.
366

الوجوب أوضح، ولا يتمشى فيها هذا الاحتمال المشار إليه، ولكن يمكن أن تحمل
على الإتيان بالصلاة فيما دون حد الترخص. هذا.
والذي يسهل الخطب أن ابن إدريس كان في القرن السادس، والفصل بينه وبين
جميل كثير جدا، ولم يكن هو كغيره من الفقهاء من أهل الاستجازة والإجازة في
نقل الأحاديث، ولم يكن ممن يعمل بخبر الواحد أصلا وإنما نقل في آخر السرائر
بعض الأخبار تطفلا من الكتب المنسوبة إلى بعض الأصحاب، وقد وقع منه
اشتباهات كثيرة في أسانيدها عثرنا عليها بالتتبع، فلا يقاوم نقله نقل المشايخ العظام
من الكتب المعتبرة المقروءة في جميع الأعصار على شيوخ الإجازة.
فهذه هي أخبار المسألة، وقد عرفت حالها.
وأما موثقة عمار الواردة في المقام فهي رواية مضطربة لا يثبت بها حكم شرعي،
فراجع. (1)
وربما يستدل أيضا للمقام بعموم التعليل المستفاد من رواية زرارة الآتية في
مسألة القضاء.
ولكن يرد عليه عدم الملازمة بين حكم الأداء والقضاء، فافهم.
وقد تلخص مما ذكرناه أن ما تدل على كون الاعتبار في المسألة بحال الأداء تدل
عليه بالصراحة، وأما ما تدل على الخلاف فقابلة للحمل والتأويل، فيجب حملها
على الطائفة الأولى. هذا مضافا إلى أن أصحها سندا روايتا ابن مسلم، وهما
معارضتان بالروايتين الأخريين له. وأما غيرهما فمن حيث السند لا يقاوم مثل
رواية إسماعيل بن جابر الصحيحة الصريحة.
ومما ذكرنا يظهر أن الأقوى في هذه المسألة أيضا كون الاعتبار بحال الأداء.
ويمكن تأييده أيضا مضافا إلى ما مر بموافقته للكتاب والأخبار الحاكمة بكون

1 - راجع الوسائل 3 / 62 (= ط. أخرى 4 / 85)، الباب 23 من أبواب أعداد
الفرائض نوافلها.
367

الصلاة في السفر ركعتين. ودعوى عدم شمول إطلاق الآية والروايات لمن كان في
أول الوقت حاضرا ثم سافر، غير مسموعة، إذ الظاهر منها أنه يجب على المصلي
حينما أراد الصلاة أن يلاحظ حالته من الحضور والسفر، فيأتي في كل منها بما يقتضيه
وظيفته، ولو لم يكن الأخبار الواردة في المسألتين لما شككنا في حكمهما، بل كنا
نستفيد حكمهما من الإطلاقات المشار إليها، وقد مضى شطر من الكلام في ذلك في
أول المبحث.
وبالجملة يمكن أن يستند في ترجيح الأخبار الدالة على كون الاعتبار بحال
الأداء على كونها موافقة للكتاب ولما دل على ثبوت القصر في السفر بنحو الإطلاق،
فتدبر.
وأما ترجيح أحد القولين في المسألة بالشهرة فمما لا وجه له، إذ كلاهما مشهوران
في هذه المسألة. نعم في المسألة السابقة اشتهر بينهم كون الاعتبار بحال الأداء، ولذا
أفتى العلامة في المسألة السابقة بكون الاعتبار بحال الأداء، وفي هذه المسألة قوى
كون الاعتبار بحال الوجوب. (1) وأما صاحب الجواهر فجعل كون الاعتبار بحال
الأداء في المسألة السابقة من المسلمات، ثم قاس عليه هذه المسألة. (2)
حكم ما إذا فاتته الصلاة
المسألة الثالثة: لو كان في أول الوقت حاضرا وفي آخر مسافرا أو بالعكس،
وفاته الصلاة رأسا، فهل يراعي في القضاء أول الوقت، أو آخره، أو يتم مطلقا، أو
يتخير؟
في المسألة وجوه، وربما عبروا عن ذلك بأن الاعتبار بحال الوجوب، أو حال
الفوات؟
وقبل الورود في تحقيق المسألة يجب أن ينبه على أمرين:
الأول: إذا كان في جميع الوقت حاضرا أو مسافرا وفاتت منه الصلاة فلا إشكال

1 - راجع المختلف / 166 - 165 (= ط. أخرى 2 / 547 - 540)، المسألتين 396 و 397.
2 - راجع الجواهر 14 / 354 و 361.
368

في أن الاعتبار في القضاء بحال الفوت لا بحال القضاء، فيقضي صلاة السفر قصرا
لو في الحضر، وصلاة الحضر تماما ولو في السفر، والمسألة إجماعية مضافا إلى
النصوص المستفيضة الدالة عليها. (1)
الثاني: أن النزاع في المسألة إنما يتمشى على القول بكون الاعتبار في المسألتين
السابقتين بحال الأداء، وأما إذا قلنا فيهما بكون الاعتبار بحال تعلق الوجوب أعني
أول الوقت ففي القضاء أيضا يتعين مراعاة أول الوقت قهرا، إذ مقتضى هذا القول أن
الذي يكون في أول الوقت مسافرا مثلا يتعين عليه القصر وإن تبدل عنوانه وأتى
بصلاته في الحضر، وحينئذ فإذا فاتت منه هذه الصلاة التي تعين فيها القصر وجب
عليه قضاؤها قصرا لا محالة، وكذا الكلام في عكسه.
إذا عرفت هذا: فنقول: قد اختار جماعة كون الاعتبار في القضاء بحال الفوت
أعني آخر الوقت، وآخرون كون الاعتبار بحال تعلق الوجوب، (2) وهنا احتمال
ثالث، وهو التخيير، ولم نجد به قائلا وإن ذكره بعضهم احتمالا. (3) وليس في المسألة
إجماع أو شهرة يعتمد عليهما، فيجب إتمامها على طبق القواعد.
فإن قلت: فلم لا يعتمد فيها على ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد،
عن النضر بن سويد، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن
رجل دخل وقت الصلاة وهو في السفر، فأخر الصلاة حتى قدم وهو يريد يصليها
إذا قدم إلى أهله، فنسي حين قدم إلى أهله أن يصليها حتى ذهب وقتها؟ قال:
" يصليها

1 - راجع مفتاح الكرامة 3 / 397؛ والوسائل 5 / 359 (= ط. أخرى 8 / 268)، الباب 6
من أبواب قضاء الصلوات.
2 - راجع الجواهر 14 / 382.
3 - قال في العروة 2 / 164، في فصل أحكام صلاة المسافر في المسألة 10: إذا فاتت منه
الصلاة وكان في أول الوقت حاضرا وفي آخره مسافرا أو بالعكس فالأقوى أنه مخير بين
القضاء قصرا أو تماما...
369

ركعتين صلاة المسافر، لأن الوقت دخل وهو مسافر، كان ينبغي له أن يصلي عند
ذلك. " (1)
حيث تدل على كون الاعتبار بأول الوقت؟
قلت: موسى بن بكر واقفي غير موثق في كتب الرجال، ولم يعلم روايته لذلك
حال استقامته، وهو متفرد بنقل الرواية، فتصير موهونة، ولم يعتمد عليها
الأصحاب أيضا، والقائل بكون الاعتبار بأول الوقت أيضا يتم المسألة على طبق
القواعد بنظره لا بهذه الرواية، فهذا أيضا موهن آخر. هذا مضافا إلى أنه ربما يناقش
في دلالتها على تعين المراعاة لأول الوقت، حيث عبر في مقام التعليل عليه بقوله:
" كان ينبغي له أن يصلي عند ذلك. " ولكن يرد على ذلك أنه من الممكن أن يكون
رجحان الإتيان بالصلاة في أول وقته ملاكا لتعين القضاء على وفقه.
ثم لا يخفى أن بين هذه الرواية والرواية الأولى من روايات ابن مسلم يوجد نحو
تعارض، إذ المفروض في كلتيها كون الشخص في أول الوقت مسافرا وفي آخره
حاضرا، والمستفاد من رواية ابن مسلم رجحان التأخير والإتمام، ومن هذه الرواية
رجحان الإتيان بها في أول الوقت قصرا، فتدبر.
وكيف كان فيجب إتمام المسألة على طبق القواعد.
فنقول: قال في السرائر - بعد ما اختار كون الاعتبار بأول الوقت -: " لأن
العبادات تجب بدخول الوقت وتستقر بإمكان الأداء، كما لو زالت الشمس على
المرأة الطاهرة فأمكنها الصلاة فلم تفعل حتى حاضت استقر القضاء ". (2)
ويرد عليه أن القضاء تابع للفوت، ولا يتحقق الفوت بالتأخير عن أول الوقت،
إذ لم يتعلق الوجوب بالصلاة في أول الوقت، بل بالصلاة المقيدة بوقوعها بين الحدين

1 - الوسائل 5 / 535 (= ط. أخرى 8 / 513)، الباب 21 من أبواب صلاة المسافر،
الحديث 3.
2 - السرائر 1 / 335.
370

أعني من الزوال إلى الغروب، ولها أفراد طولية بحسب مراتب الزمان، ففواتها إنما
يتحقق بانقضاء جميع مراتبه، وبما ذكرنا يظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين مثال
الحائض، فإنها وإن جاز لها تأخير الصلاة ظاهرا بمقتضى الاستصحاب، لكنها
تكون بحسب متن الواقع مكلفة بإتيان الصلاة في أول وقتها، فتأخيرها عنه يوجب
الفوات المستلزم للقضاء، فافهم.
وقال في الجواهر: " لكن ظاهرهم، بل هو كصريح الشهيد منهم أن التمام متى
تعين في وقت من أوقات الأداء كان هو المراعى في القضاء وإن كان المخاطب به حال
الفوات القصر. وعليه فمن كان حاضرا وقت الفعل ثم سافر فيه وفاتته الصلاة
المخاطب بقصرها حاله وجب عليه التمام في القضاء، كما أنه يجب عليه ذلك لو كان
مسافرا في الوقت ثم حضر. ولعله لأن الأصل في الصلاة التمام. وفيه بحث إن لم يكن
منع، بل في المفتاح أن الأكثر على مراعاة حال الفوات بالنسبة للسفر والحضر لا
الوجوب. ويؤيده أنه الفائت حقيقة لا الأول الذي قد ارتفع وجوبه في الوقت عن
المكلف برخصة الشارع له في التأخير. " (1)
وفي مصباح الفقيه: " فلو قيل بكون المكلف مخيرا بين مراعاة كل من حالتيه في
القضاء لكان وجها ".
وحاصل ما ذكره (2) في بيان ذلك بتقريب منا: أن الأمر في الواجبات الموسعة
يتعلق بالطبيعة الكلية المقيدة بوقوعها بين الحدين، أعني من الظهر إلى الغروب مثلا، و
هذه الطبيعة المقيدة كما يتصور لها أفراد عرضية يتصور لها أفراد طولية أيضا حسب
مراتب الزمان وأجزائه، والتخيير بين أفراد الطبيعة تخيير عقلي، وعلى هذا فالتخيير
بين أجزاء الزمان الوسيع تخيير عقلي لا شرعي. ونظير ذلك ظرف المكان أيضا إذا كان

1 - الجواهر 13 / 114. وراجع الذكرى / 136، المسألة 9؛ ومفتاح الكرامة 3 / 399.
2 - راجع مصباح الفقيه / 769.
371

وسيعا وصار قيدا للمأمور به، كعرفة بالنسبة إلى الوقوف. ومقتضى ذلك أن يقع
كل فرد يؤتى به في أحد أجزاء الزمان الوسيع أو المكان الوسيع مصداقا للامتثال بما
أنه فرد لتلك الطبيعة المقيدة بذلك الزمان أو المكان لا بما أنه أتى به في هذا الجزء
الخاص من هذا الزمان أو المكان.
ثم إن الصلاة التامة والمقصورة ليستا طبيعتين مختلفتين أمر بهذه تارة وبتلك
أخرى، بل الأمر بالنسبة إلى الحاضر والمسافر لم يتعلق إلا بطبيعة واحدة، فصلاة
الظهر مثلا طبيعة واحدة أمر بها كل واحد من الحاضر والمسافر، وواجد الماء وفاقده،
ونحو ذلك، غاية الأمر أن مصاديقها تختلف باختلاف حالات المكلفين ومنها السفر
أو الحضور، فمصداقها بالنسبة إلى الحاضر أربع ركعات، وبالنسبة إلى المسافر
ركعتان، وقد مر توضيح ذلك سابقا. (1)
وحينئذ فمن يكون في أول الوقت حاضرا وفي آخره مسافرا أو بالعكس لا
يكون مكلفا إلا بإتيان طبيعة صلاة الظهر مثلا مقيدة بكونها من الظهر إلى الغروب،
من دون أن يكون الخصوصيات المفردة - من الإتيان في أول الوقت أو في آخره، أو
الإتيان بها قصرا في السفر أو إتماما في الحضر - واقعة تحت الأمر، فإذا أتي بها في
آخر الوقت أيضا في السفر قصرا مثلا يكون ما أتي به محققا للامتثال بما أنه مصداق
لطبيعة الصلاة الواقعة بين الظهر والغروب لا بما أنها صلاة مقصورة أتي بها في آخر
الوقت.
وبالجملة تخيره بين الخصوصيات الفردية التي منها الإتيان في أول الوقت أو في
آخره، ومنها الإتيان بها تماما في الحضر أو قصرا في السفر تخير عقلي، والأمر إذا تعلق
بنفس الطبيعة ثم انحصرت في فرد، بحيث لم يتمكن المكلف من سائر الأفراد وتوقف
امتثاله على إتيان هذا الفرد، لا يصير هذا سببا لتجافي الأمر وتخطيه من نفس الطبيعة
إلى الخصوصيات المفردة المنضمة إليها، بل الأمر بعد باق متعلقا بنفس حيثية

1 - راجع ص 348 من الكتاب.
372

الطبيعة.
وعلى هذا فإذا كان الشخص مسافرا مثلا، ثم حضر وفات منه الصلاة رأسا، فلا
يستند الفوت إلى ترك آخر فرد كان يتمكن منه، لعدم تعينه شرعا وعدم الأمر به
بخصوصه، بل الفوت يستند إلى ترك الطبيعة في مجموع الوقت الذي كان في بعضه
حاضرا وفي بعضه مسافرا. لا أقول: إن الفوت يصدق في أول الوقت ووسطه أيضا
حتى يقال: إن عدم الطبيعة في أول الوقت ليس مصححا لصدق الفوت لإمكان
التدارك، بل أقول: إن الفوت يصدق في آخر الوقت، ولكن المصحح لصدقه هو عدم
الطبيعة في جميع الوقت المضروب لها لا عدمها في آخر الوقت لعدم الأمر بها
بخصوصها. وإن شئت قلت: إن الأمر تعلق بطبيعة يكون لها أفراد طولية بحسب
أجزاء الزمان، فوجودها بوجود فرد ما منها، وعدمها يستند إلى عدم جميع الأفراد
لا عدم فرد خاص منها. وعلى هذا فالفائت من المكلف في المقام طبيعة الصلاة لا
خصوص الصلاة المقصورة أو التامة المتعينة في آخر الوقت. انتهى.
هذه غاية ما يمكن أن يقال في تقريب كلامه.
أقول: يرد عليه (قده) أولا أن ما ذكر لا يقتضي التخيير في القضاء، إذ مقتضي ما
ذكر هو كون المكلف في الوقت مكلفا بأصل طبيعة صلاة الظهر مثلا، غاية الأمر كون
مصداقها بالنسبة إلى الحاضر أربع ركعات وبالنسبة إلى المسافر ركعتين، من دون أن
يكون خصوصية القصر أو الإتمام واقعة تحت الأمر، فلو كان يصليها في الوقت لكان
يجب عليه مراعاة حاله من الحضور أو السفر في إيجاد فرد الطبيعة. ولكن هذا البيان
لا يقتضي كونه في القضاء مخيرا بعد كونه في حال القضاء حاضرا مثلا، بل نحتاج إلى
دليل خارجي يعين ما هو الفرد لها بحسب حالته الفعلية، ويجب الاحتياط إن لم نعثر
عليه، أو نقول: إن الأصل الأولي في الصلاة بحسب التشريع حيث كان هو الإتمام
فاللازم في المقام هو القضاء تماما، سواء كان في أول الوقت حاضرا وفي
373

آخره مسافرا أو بالعكس.
وبالجملة إذا لم يكن خصوصية القصر أو الإتمام، أو الوقوع في أول الوقت أو في
آخره واقعة تحت الأمر كان الفائت من المكلف الذي تبدل عنوانه في الوقت نفس
طبيعة الصلاة الواقعة بين الحدين، وكونه في الوقت مخيرا عقلا بين أن يوجدها في
الحضر تماما أو في السفر قصرا بحيث لو أتى بها لكان يجوز له إيجادها في ضمن أي
منهما أراد، لا يقتضي بقاء التخيير في القضاء بعد ما لم يبق الحالة المغيرة للفردية.
وثانيا أن الأمر وإن تعلق أولا بنفس طبيعة الصلاة من دون أن يسري إلى
حيثية الإتمام أو القصر، لكن الأخبار الدالة على أن صلاة السفر تقضى قصرا وصلاة
الحضر تقضى تماما تدل على اعتبار الخصوصيتين في باب القضاء.
وحينئذ فمن كان في أول الوقت حاضرا وفي آخره مسافرا مثلا وإن فات منه
خصوصيتان لكن الخصوصية الأولى كان تركها إلى بدل وبإذن الشارع، فما يكون
محققا لفوت الطبيعة من رأس هو تركها في ضمن الخصوصية الثانية، فيجب في
القضاء مراعاة أصل الطبيعة بخصوصيتها التي فاتت في ضمنها.
وعلى هذا فلا يبعد في المسألة القول بكون الاعتبار بحال الفوت، وإن كان
الاحتياط بالجمع لا ينبغي تركه، فتدبر.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله
الطيبين الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
وقد وقع الفراغ من تقرير ما ألقاه السيد الأستاذ (مد ظله العالي) في باب صلاة
المسافر في الثالث من ربيع الثاني من شهور السنة 1369 ه‍. ق؛ وأنا العبد المفتقر إلى
رحمة الله وفضله، ابن من لا أطيق أداء حقوقه الحاج علي المنتظري، حسين علي
المنتظري النجف آبادي.
374

الفهرس المصادر
375

الفهرس المصادر
1 - اختيار معرفة الرجال، المعروف ب‍ " رجال الكشي ". أصله " معرفة الناقلين ": لأبي عمرو،
محمد بن عمر الكشي (من أعلام القرن الرابع). اختاره شيخ الطائفة. تحقيق الشيخ حسن
المصطفوي. نشر جامعة مشهد الرضوي.
2 - الإرشاد (إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان): للعلامة الحلي، جمال الدين أبي منصور،
الحسن بن يوسف بن المطهر (648 - 726 ه‍). تحقيق الشيخ فارس الحسون. نشر مؤسسة النشر
الإسلامي - قم، في مجلدين - 1410 ه‍. ق.
3 - الاستبصار فيما اختلف من الأخبار: لشيخ الطائفة، أبي جعفر، محمد بن الحسن الطوسي
(385 - 460 ه‍). تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان. نشر دارالكتب الإسلامية - طهران، 4
مجلدات.
4 - الأشعثيات (الجعفريات): يرويه أبو علي، محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي (من أعلام
القرن الرابع). طبعت من قرب الإسناد. أفسيت مكتبة نينوى الحديثة - طهران.
5 - أعيان الشيعة: للسيد محسن الأمين (1284 - 1371 ه‍) تحقيق حسن الأمين. نشر
دار التعارف - بيروت، 10 مجلدات - 1403 ه‍. ق.
376

6 - الأمالي: للشيخ الطوسي (385 - 460 ه‍). أفسيت مكتبة الداوري - قم، في مجلدين.
7 - الانتصار: للسيد المرتضى، علي بن الحسين (355 - 436 ه‍). أفسيت منشورات الشريف
الرضي - قم.
8 - بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار: للعلامة، محمد باقر بن محمد تقي المجلسي
(1037 - 1111 ه‍) 1 - أفسيت مؤسسة الوفاء - بيروت. 2 - نشر دارالكتب الإسلامية - طهران،
110 مجلد. مع تفاوت الطبعتين في ترتيب أرقام بعض المجلدات.
9 - بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبي الوليد، محمد بن أحمد بن رشد الأندلسي (520 -
595 أو 597 ه‍). نشر مكتبة التجارية الكبرى - مصر، في مجلدين.
10 - البيان: للشهيد الأول، شمس الدين، أبي عبد الله، محمد بن مكي (734 - 786 ه‍): 1 -
أفسيت مجمع الذخائر الإسلامية (من طبعته الحجرية) - قم. 2 - تحقيق الشيخ محمد الحسون. نشر
بنياد فرهنگي المهدي " عج " - قم.
11 - تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري): لأبي جعفر، محمد بن جرير الطبري (224 -
310 ه‍). أفسيت مكتبة أرومية - قم، 8 مجلدات.
12 - التحرير (تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية): للعلامة الحلي (648 - 726
ه‍). أفسيت مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث (من طبعته الحجرية). جزءان في مجلد
13 - التذكرة (تذكرة الفقهاء): للعلامة الحلي (648 - 726 ه‍): 1 - أفسيت المكتبة المرتضوية
لإحياء الآثار الجعفرية (من طبعته الحجرية) - طهران، في مجلدين. 2 -
377

تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم. خرج منه 5 مجلدات.
14 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن): لأبي عبد الله، محمد بن أحمد الأنصاري
القرطبي (ت 671 ه‍ على قول). أفسيت دار إحياء التراث العربي - بيروت، 20 جزء في 10
مجلدات.
15 - تنقيح المقال في علم الرجال: للشيخ عبد الله بن محمد حسن المامقاني (1290 -
1351 ه‍) نشر المطبعة المرتضوية (طبعة حجرية) - النجف الأشرف، 3 مجلدات - 1352 ه‍.
16 - التوحيد: للشيخ الصدوق، أبي جعفر، محمد بن علي بن بابويه (ت 381 ه‍). تصحيح
وتعليق السيد هاشم الحسيني. نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين - قم.
17 - التهذيب (تهذيب الأحكام في شرح المقنعة): للشيخ الطوسي (385 - 460 ه‍): 1 -
تحقيق السيد حسن الموسوي الخرسان. أفسيت دار صعب ودار التعارف - بيروت، 10 مجلدات -
1401 ه‍ 2 - أفسيت مكتبة الفراهاني (من طبعته الحجرية) - طهران، في مجلدين.
18 - جامع المقاصد في شرح القواعد: للمحقق الثاني، الشيخ علي بن الحسين الكركي (ت
940 ه‍). تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم، 14 مجلدا - 1415 - 1408 ه‍.
* الجعفريات. راجع الأشعثيات.
19 - الجوامع الفقهية: مجموعة من تأليفات القدماء في الفقه، منها: المقنع، الهداية، والغنية.
وللكتاب طبعتا:
378

1 - طبعة حجرية بخط محمد رضا الخونساري وابنه محمد على - طهران، 1276 ه‍. وفيها رسالة
في ترجمة أبي بصير.
2 - طبعة مصورة من تلك الطبعة، أفسيت انتشارات جهان - طهران، مع حذف الرسالة
الرجالية.
20 - الجواهر (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام): للشيخ محمد حسن بن باقر النجفي
(ت 1266 ه‍). نشر دارالكتب الإسلامية - طهران، 43 مجلدا.
21 - الحدائق (الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة): للشيخ يوسف بن أحمد
البحراني (1107 - 1186 ه‍). نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 25 مجلدا.
22 - الخصال: للشيخ الصدوق (ت 381 ه‍). تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري. نشر
مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين - قم.
23 - الخلاف (الخلاف في الأحكام، أو مسائل الخلاف): للشيخ الطوسي (385 - 460
ه‍): 1 - نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، خرج منه 4 مجلدات. 2 - نشر المطبعة الإسلامية -
طهران، جزءان في مجلد - 1369 ه‍. (المطبوع بأمر من آية الله العظمى البروجردي، بنفقة المغفور
له: الحاج محمد حسين كوشانپور).
24 - دراسات في المكاسب المحرمة: من أبحاث المقرر المحقق - دامت بركاته. نشر التفكر -
قم، خرج منه جزء واحد - 1415 ه‍.
25 - دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية: من أبحاث المقرر المحقق - دامت
بركاته. نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية، ودار الفكر - قم، 4 مجلدات - 1411 - 1408 ه‍.
26 - الدروس الشرعية في فقه الإمامية: للشهيد الأول، الشيخ محمد بن مكي (734 -
379

786 ه‍). تحقيق ونشر مؤسسه النشر الإسلامي - قم، 3 مجلدات.
27 - دعائم الإسلام: للقاضي، أبي حنيفة، النعمان بن محمد (ت 363 ه‍). تحقيق آصف بن علي
أصغر فيضي. أفسيت مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث.
28 - الذخيرة (ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد): للمحقق السبزواري، محمد باقر بن محمد
مؤمن (1017 - 1090 ه‍). أفسيت مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث (من طبعته الحجرية).
29 - الذكرى (ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة): للشهيد الأول، الشيخ محمد بن مكي
(734 - 786 ه‍). أفسيت مكتبة بصيرتي (من طبعته الحجرية)، قم.
30 - رجال الشيخ: للشيخ الطوسي (385 - 460 ه‍). نشر المكتبة الحيدرية - النجف
الأشرف، 1380 ه‍.
31 - رجال النجاشي: لأبي العباس، أحمد بن علي النجاشي (372 - 450 ه‍): 1 - تحقيق
السيد موسى الشبيري الزنجاني. نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم. 2 - أفسيت مكتبة الداوري -
قم.
* الرسائل. راجع فرائد الأصول.
32 - رسائل الشريف المرتضى: لعلم الهدى، أبي القاسم، علي بن الحسين (355 - 436 ه‍).
إعداد السيد مهدي الرجائي. نشر دار القرآن الكريم - قم، 3 مجلدات - 1405 ه‍.
33 - رسائل الشهيد: مجموعة من رسائل فقهية، منها: نتائج الأفكار، ورسالة مفصلة وأخرى
مختصرة في حكم صلاة الجمعة والترغيب فيها. للشهيد الثاني، زين الدين بن علي العاملي (911
- 965 أو 966 ه‍). أفسيت مكتبة بصيرتي (من
380

طبعته الحجرية) - قم.
* رسالة بحر العلوم. اسمها " مبلغ النظر في حكم قاصد الأربعة من مسائل السفر ": للسيد
العلامة، محمد مهدي بن مرتضى الطباطبائي البروجردي (ت 1212 ه‍). أوردها بتمامها في مفتاح
الكرامة 3 / 543 - 503.
* رسالة الجمعة المفصلة والمختصرة. راجع رسائل الشهيد.
34 - روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان: للشهيد الثاني (911 - 965 أو 966 ه‍).
أفسيت مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث (من طبعته الحجرية).
35 - الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: للشهيد الثاني. تحقيق السيد محمد كلانتر.
نشر دار العالم الإسلامي - بيروت، 10 مجلدات.
36 - الرياض (رياض المسائل في بيان الأحكام بالدلائل): للسيد علي الطباطبائي (1161 -
1231 ه‍). تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، خرج منه 7 مجلدات.
37 - السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي: لابن إدريس الحلي، أبي جعفر محمد بن منصور (558
- 598 ه‍): 1 - تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 3 مجلدات. 2 - أفسيت منشورات
المعارف الإسلامية (من طبعته الحجرية) - طهران، 1390 ه‍.
38 - سنن ابن ماجة: لأبي عبد الله، محمد بن يزيد القزويني (207 - 275 ه‍). تحقيق محمد
فؤاد عبد الباقي. نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت، في مجلدين - 1395 ه‍.
39 - سنن البيهقي (السنن الكبرى): لأبي بكر، أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 ه‍). أفسيت
دار المعرفة - بيروت، 10 مجلدات - 1355 ه‍.
40 - سيرة ابن هشام: لأبي محمد، عبد الملك بن هشام (ت 218 أو 213 ه‍). تحقيق
381

مصطفى السقاء، إبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شبلي. أفسيت دار إحياء التراث العربي -
بيروت.
41 - السيرة الحلبية: لعلي بن برهان الدين الحلبي الشافعي (975 - 1044 ه‍)، أفسيت دار
إحياء التراث العربي - بيروت، 3 مجلدات.
42 - الشرائع (شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام): للمحقق الحلي، أبي القاسم، نجم
الدين، جعفر بن الحسن (ت 676 ه‍): 1 - تحقيق عبد الحسين محمد علي. نشر مطبعة الآداب -
النجف الأشرف، 4 مجلدات - 1389 ه‍. 2 - تعليق السيد صادق الشيرازي. نشر الاستقلال -
طهران.
43 - شرح تبصرة المتعلمين: للشيخ ضياء الدين العراقي (ت 1361 ه‍): 1 - تحقيق محمد
هادي معرفة. نشر مطبعة مهر - قم. 2 - تحقيق الشيخ محمد الحسون. نشر مؤسسة النشر الإسلامي
- قم، خرج منه 5 مجلدات.
44 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية): لإسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه‍).
تحقيق أحمد عبد الغفور عطار. نشر دار العلم للملايين - بيروت، 6 مجلدات.
45 - الصحيفة السجادية: تشتمل على نيف وخمسين دعاء للإمام الهمام، علي بن الحسين بن
علي بن أبي طالب (عليه السلام) (38 أو 37 أو 36 - 95 أو 94 ه‍)
46 - العروة الوثقى: للسيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي (ت 1337 ه‍). نشر المكتبة العلمية
الإسلامية - طهران، في مجلدين - 1399 ه‍. مع تعليقات مراجع الشيعة الإمامية.
47 - علل الشرائع: للشيخ الصدوق (ت 381 ه‍). نشر مكتبة الحيدرية - النجف الأشرف،
1385 ه‍.
382

48 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام): للشيخ الصدوق (ت 381 ه‍). تحقيق السيد مهدي الحسيني.
نشر رضا المشهدي - قم، 1378 ه‍.
49 - الغدير في الكتاب والسنة والأدب: للعلامة الأميني، الشيخ عبد الحسين أحمد (ت
1390 ه‍). نشر دارالكتاب العربي - بيروت.
* الغنية: لأبي المكارم، حمزة بن علي بن زهرة (511 - 585 ه‍). راجع الجوامع الفقهية.
50 - فرائد الأصول: للشيخ الأعظم، مرتضى الأنصاري (1214 - 1281 ه‍). 1 - أفسيت
مكتبة المصطفوي (من طبعته الحجرية مع إضافات) - قم، 1374 ه‍. 2 - تحقيق وتعليق الشيخ
عبد الله النوراني. نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1407 ه‍
51 - الفوائد الرضوية: للشيخ عباس بن محمد رضا القمي (1290 - 1359 ه‍). نشر
" انتشارات مركزي " - إيران.
* فقه الرضا. راجع الفقه المنسوب للامام الرضا (عليه السلام).
52 - الفقه على المذاهب الأربعة: لعبد الرحمان الجزيري. أفسيت دار إحياء التراث العربي -
بيروت.
53 - الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): تحقيق مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث. نشر
المؤتمر العالمي للإمام الرضا (عليه السلام) - مشهد المقدسة، 1406 ه‍.
* الفقيه. راجع كتاب من لا يحضره الفقيه.
54 - القاموس المحيط: لمجد الدين، محمد بن يعقوب الفيروز آبادي الشيرازي (729 - 817
ه‍). أفسيت دارالمعرفة - بيروت، 4 مجلدات.
55 - قرب الإسناد: لأبي العباس، عبد الله بن جعفر الحميري القمي (من أعلام القرن الثالث
ومن أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام)). 1 - أفسيت مكتبة نينوى الحديثة -
383

طهران. 2 - تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم، 1413 ه‍.
56 - القواعد (قواعد الأحكام في مسائل الحلال والحرام): للعلامة الحلي (648 - 726 ه‍).
أفسيت منشورات الشريف الرضي (من طبعته الحجرية) - قم، جزءان في مجلد واحد.
57 - الكافي: لأبي جعفر، محمد بن يعقوب الكليني (ت 328 ه‍). 1 - تصحيح تعليق علي أكبر
الغفاري. نشر دارالكتب الإسلامية - طهران، 8 مجلدات. 2 - الطبعة الحجرية للفروع من الكافي في
مجلدين، 1315 ه‍.
58 - الكافي: لأبي الصلاح، تقي الدين بن نجم الدين الحلبي (374 - 447 ه‍). تحقيق الشيخ
رضا أستادي. نشر مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) - إصفهان.
59 - كامل الزيارات: لأبي القاسم، جعفر بن محمد بن قولويه (ت 367 ه‍). تصحيح وتعليق
العلامة، الشيخ عبد الحسين الأميني. نشر المطبعة المرتضوية - النجف الأشرف، 1356 ه‍.
60 - كتاب الزكاة: من أبحاث المقرر المحقق - دامت بركاته. نشر المركز العالمي للدراسات
الإسلامية، ونشر التفكر - قم، 4 مجلدات - 1413 - 1409 ه‍.
61 - كتاب الصلاة: للشيخ الأعظم، مرتضى الأنصاري (1214 - 1281 ه‍). أفسيت مكتبة
الرسول المصطفى - قم.
62 - كتاب الصلاة: لآية الله العظمى، الشيخ عبد الكريم الحائري (1276 - 1355 ه‍).
أفسيت مكتب الإعلام الإسلامي - قم.
63 - كتاب من لا يحضره الفقيه: (الفقيه) للشيخ الصدوق (ت 381 ه‍): 1 - تصحيح وتعليق
علي أكبر الغفاري. نشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين -
384

قم، 4 مجلدات. 2 - نشر المطبعة الجعفرية - لكهنو / هند، في المجلدين - 1307 ه‍.
64 - كشف الرموز: للفاضل الآبي، أبي علي، زين الدين، الحسن بن أبي طالب (من أعلام
القرن السابع). تحقيق الشيخ علي پناه والشيخ حسين اليزدي. نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم،
في مجلدين - 1410 - 1408 ه‍.
65 - الكفاية (كفاية الأحكام): للمحقق السبزواري، محمد باقر بن محمد مؤمن (1017 -
1090 ه‍). أفسيت المهدوي (من طبعته الحجرية) - إصفهان.
66 - لسان العرب: لابن منظور، أبي الفضل، أحمد بن علي (630 - 711 ه‍). أفسيت أدب
الحوزة - قم، 16 مجلدا - 1405 ه‍.
67 - المبسوط: لشيخ الطائفة، الطوسي (385 - 460 ه‍). تصحيح وتعليق السيد الكشفي
والبهبودي. نشر المكتبة المرتضوية - طهران، 8 مجلدات.
68 - مجمع البيان لعلوم القرآن: لأبي علي، الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه‍).
تصحيح السيد هاشم الرسولي والسيد فضل الله الطباطبائي. من منشورات شركة المعارف
الإسلامية - طهران، 5 مجلدات - 1379 ه‍.
69 - مجمع الرجال: للشيخ زكي الدين، المولى عناية الله بن علي القهپائي (من أعلام القرن
الحادي عشر). تصحيح وتعليق السيد ضياء الدين (العلامة الإصفهاني). أفسيت مؤسسة
إسماعيليان - قم، 7 أجزاء في 3 مجلدات.
70 - مجمع الفائدة البرهان في شرح إرشاد الأذهان: للفقيه المحقق، المولى أحمد، المقدس
الأردبيلي (ت 993 ه‍). تحقيق الشيخ آقا مجتبى العراقي والشيخ علي پناه والشيخ حسين اليزدي.
نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، خرج منه 12 مجلدا - 1414 - 1402 ه‍.
385

71 - المختصر النافع: للمحقق الحلي، أبي القاسم، جعفر بن الحسن (ت 676 ه‍) أفسيت
مكتبة المصطفوي (من طبعته المصرية) - قم.
72 - المختلف (مختلف الشيعة في أحكام الشريعة): للعلامة الحلي (648 - 726 ه‍): 1 -
أفسيت مكتبة نينوى الحديثة (من طبعته الحجرية) - طهران. 2 - نشر مركز الأبحاث والدراسات
الإسلامية - قم، خرج منه 3 مجلدات.
73 - المدارك (مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام): للسيد محمد بن علي الموسوي
العاملي (ت 1009 ه‍). تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم، 8 مجلدات - 1410 ه‍.
74 - المراسم: لسلار، حمزة بن عبد العزيز الديلمي (ت 463 ه‍). تحقيق الدكتور محمود
البستاني. أفسيت منشورات الحرمين - قم.
75 - مروج الذهب ومعادن الجوهر: لأبي الحسن، علي بن الحسين المسعودي (ت 346 ه‍).
نشر دار الأندلس - بيروت، 4 أجزاء في مجلدين.
76 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: للمحدث، الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي
(1254 - 1320 ه‍): 1 - أفسيت المكتبة الإسلامية (من طبعته الحجرية) - طهران، ومؤسسة
إسماعيليان - قم، 3 مجلدات مع الخاتمة. 2 - تحقيق نشر مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) قم، 18 مجلدا بلا
خاتمة المستدرك - 1407 ه‍.
77 - مستند الشيعة في أحكام الشريعة: للمولى أحمد بن محمد مهدي النراقي (ت 1244
وقيل 1245 ه‍). أفسيت المكتبة المرتضوية (من طبعته الحجرية) - طهران، في مجلدين.
78 - مسند أحمد: لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (164 - 241 ه‍). أفسيت دار صادر -
بيروت.
386

79 - مسند الإمام الكاظم (عليه السلام): جمع وترتيب الشيخ عزيز الله العطاردي. نشر المؤتمر العالمي
للإمام الرضا (عليه السلام) - مشهد الرضوي، 3 مجلدات - 1409 ه‍.
80 - مصباح الفقيه (كتاب الصلاة): للفقيه الهمداني، الحاج آقا رضا بن محمد هادي (ت
1322 ه‍). أفسيت مكتبة الداوري (من طبعته الحجرية) - قم.
81 - المصباح المنير: لأحمد بن محمد الفيومي (ت 770 ه‍). أفسيت دار الهجرة - قم، 1405
ه‍.
82 - معارف الرجال: للشيخ محمد حرز الدين. أفسيت مكتبة آية الله المرعشي النجفي - قم،
3 مجلدات - 1405 ه‍.
83 - المعتبر في شرح المختصر: للمحقق الحلي (ت 676 ه‍). نشر مؤسسة سيد الشهداء -
قم، في مجلدين.
84 - المغازي: للواقدي، محمد بن عمر (130 - 207 ه‍). أفسيت دارالمعرفة الإسلامية -
إيران.
85 - المغني (في فقه الحنابلة): لابن قدامة، أحمد بن محمد (541 - 620 ه‍). أفسيت
دارالكتاب العربي - بيروت، 12 مجلدا.
86 - مفاتيح الشرائع: للمولى محمد محسن، الفيض الكاشاني (ت 1019 ه‍). تحقيق السيد
مهدي الرجائي. نشر مجمع الذخائر الإسلامية - قم، 3 مجلدات.
87 - مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة: للسيد محمد الجواد بن محمد الحسيني العاملي
(ت 1226 ه‍). أفسيت مؤسسة آل البيت (عليه السلام) لإحياء التراث - إيران، 10 مجلدات.
387

* المقنع: للشيخ الصدوق (ت 381 ه‍). راجع الجوامع الفقهية.
88 - المقنعة في الأصول والفروع: للشيخ المفيد، أبي عبد الله، محمد بن محمد بن النعمان
(336 - 413 ه‍). تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1410 ه‍.
89 - المنتقى (منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان): لنجل الشهيد الثاني،
الشيخ أبي منصور، الحسن بن زين الدين (ت 1011 ه‍). تصحيح تعليق علي أكبر الغفاري. نشر
مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 3 مجلدات.
90 - المنتهى (منتهى المطلب في تحقيق المذهب): للعلامة الحلي (648 - 726 ه‍) أفسيت
(؟) (من طبعته الحجرية) - إيران، في مجلدين.
91 - المنجد في اللغة والأعلام: لعدة من المحققين. نشر دار المشرق - بيروت، الطبعة 21.
92 - الموسوعة الرجالية: لآية الله العظمى السيد حسين البروجردي (1292 - 1380 ه‍).
تنظيم الشيخ حسن النوري الهمداني. نشر مجمع البحوث الإسلامية في الآستانة الرضوية المقدسة
- 7 مجلدات، 1413 ه‍.
* الموصليات والميافارقيات: لعلم الهدى، السيد المرتضى (355 - 463 ه‍). راجع رسائل
الشريف المرتضى.
93 - المهذب: لابن البراج، القاضي عبد العزيز بن البراج (400 - 481 ه‍). نشر مؤسسة
النشر الإسلامي - قم، في مجلدين - 1406 ه‍.
94 - المهذب البارع في شرح المختصر النافع: لابن فهد الحلي، أبي العباس، أحمد بن محمد
(757 - 841 ه‍). تحقيق الشيخ مجتبى العراقي. نشر مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 5 مجلدات.
388

95 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال: لأبي عبد الله، محمد بن أحمد الذهبي (673 - 748 ه‍).
تحقيق علي محمد البجاوي. أفسيت دارالفكر - بيروت.
* نتائج الأفكار: للشهيد الثاني (911 - 965 وقيل 966 ه‍). راجع رسائل الشهيد.
96 - نجاة العباد في يوم المعاد: لصاحب " الجواهر "، الشيخ محمد حسن بن باقر النجفي (ت
1266 ه‍). الطبعة الحجرية، بخط محمد باقر، 1323 ه‍، مع ست تعليقات من الأعاظم والمراجع.
منها تعليقة الشيخ الأنصاري، وتعليقة الآخوند الخراساني، وتعليقة السيد محمد كاظم الطباطبائي
" قدهم ".
97 - نفائس الفنون في عرائس العيون: لشمس الدين، محمد بن محمود الآملي (من أعلام
القرن 8). تعليق الشيخ أبي الحسن الشعراني. نشر دارالكتب الإسلامية - طهران، 3 مجلدات -
1379 ه‍.
98 - النهاية في مجرد الفقه والفتاوي: لشيخ الطائفة، أبي جعفر، محمد بن الحسن الطوسي
(385 - 460 ه‍). أفسيت " انتشارات القدس " - قم.
99 - نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: للعلامة الحلي (648 - 726 ه‍). تحقيق السيد مهدي
الرجائي. أفسيت مؤسسة إسماعيليان - قم، في مجلدين - 1410 ه‍.
100 - نهاية الأصول: للمقرر المحقق - دامت بركاته (تقريرا لأبحاث أستاذه، آية الله العظمى،
السيد حسين البروجردي). طبعته الحديثة المشتملة على المقاصد الثلاثة الأخيرة زيادة على
المقاصد الخمسة الأولى المطبوعة سابقا. نشر التفكر - قم، 1415 ه‍.
101 - الوسائل (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): للشيخ محمد بن
الحسن، الحر العاملي (1033 - 1104 ه‍): 1 - تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم
389

الرباني والشيخ محمد الرازي. نشر المكتبة الإسلامية - طهران، 20 مجلدا. 2 - تحقيق ونشر
مؤسسة آل البيت (عليه السلام) - قم، 30 مجلدا - 1412 - 1409 ه‍. 3 - الطبعة الحجرية، المشتهرة بطبعة
أمير بهادر - طهران، 3 مجلدات - 1324 - 1323 ه‍.
102 - الوسيلة إلى نيل الفضيلة: لابن حمزة، محمد بن علي الطوسي (من أعلام القرن
السادس). تحقيق الشيخ محمد الحسون. نشر مكتبة السيد المرعشي النجفي.
390