الكتاب: مفتاح البصيرة في فقه الشريعة
المؤلف: اسماعيل الصالحي المازندراني
الجزء: ٣
الوفاة: ١٤١٨
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: رمضان المبارك ١٤٢١ - ١٣٧٩ ش
المطبعة:
الناشر: إنتشارات صالحان
ردمك: ٩٦٤-٩٣٠٣١-١-١
ملاحظات:

صالحي مازندراني، إسماعيل، 1312 -
مدارك العروة الوثقى: مفتاح البصيرة في فقه الشريعة / إسماعيل الصالحي المازندراني. - [بي جا]:
مكتب إسماعيل الصالحي المازندراني، 1418 ق. = 1376 -.
12000 ريال (ج. 1). 19000 ريال: (ج. 2) 6 - 17 - 6863 - ISBN 964. 19000 ريال: (ج. 3)
فهرستنويسى بر أساس اطلاعات فيپا. عربي. كتابنامه.
مندرجات: ج. 1 و 2 و 3. الطهارة. - -
ج. 1 (چاپ أول: 1376). ج. 2 (چاپ أول: 1379). ج. 3 (چاپ أول: 1379).
(ج. 3) 1 - 1 - 93031 - ISBN 964
جلد أول توسط دفتر معظم له وجلد دوم توسط موسسه فرهنگى انتشاراتى مشهور وجلد سوم
توسط صالحان منتشر مى شود.
1. يزدي، محمد كاظم بن عبد العظيم، 1247؟ - 1338؟ ق. العروة الوثقى - - نقد وتفسير. 2. فقه
جعفري - - قرن 14. الف. يزدي، محمد كاظم بن عبد العظيم، 1247؟ - 1338؟ ق. العروة الوثقى.
شرح. ب. عنوان. ج. عنوان: العروة الوثقى. شرح. د. عنوان: مفتاح البصيرة في فقه الشريعة.
25. 4 ع 4 ى / 5 / BP 183 - 342 / 279
ص ش / ع 52 ى
محل نگهدارى: كتابخانه ملى إيران 2646 - 78 م
هوية الكتاب
* اسم الكتاب: مفتاح البصيرة في فقه الشريعة (مدارك العروة الوثقى) ج 3.
* تأليف: سماحة الفقيه آية الله العظمى الشيخ إسماعيل الصالحي المازندراني.
* سنة الطبع: رمضان المبارك 1421 ه‍. ق. - آذر 1379 ه‍. ش.
* الطبعة: الأولى.
* الكمية: 1000 نسخة.
* الناشر: إنتشارات صالحان.
* تنظيم الحروف الكمبيوترية: محمد حسن الأكرمي.
* السعر: 1900 تومانا.
جميع الحقوق محفوظة لمكتب المعظم له
4

* ((عليهما السلام)) *
(1)

(1) تحف العقول: ص 410، وبحار الأنوار: ج 10، الباب 16، الحديث 13، ص 247،
وبحار الأنوار: ج 78، الباب 25، الحديث 19، ص 321.
5

الإهداء والشكر
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، ثم الصلاة والسلام على النبي
المصطفى محمد وآله سادات الورى الغر الميامين الطيبين الطاهرين.
وبعد فيقول العبد الراجي عفو ربه، إسماعيل خلف العالم الزاهد التقي المغفور له
الملا رحمة الله الصالحي المازندراني.
هذا ما وفقني الله عز وجل من تأليف كتاب في فقه الإمامية، جعلت محور
أبحاثه، ومدار تحقيقاته، فروع العروة الوثقى، للسيد اليزدي (قدس سره) وتتبعت فيه،
أقوال الفقهاء والمحققين، من القدماء، والمتأخرين، مع مستندها وما فيها من النقض و
الإبرام، واخترت ما هو الصواب في كل مقام، بعد ما كشفت عنه ما كان عليه من
الشبهة والإبهام، وسميته بمفتاح البصيرة في فقه الشريعة، راجيا من المولى العلي
القدير أن ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
وأود أن أقدم شكري وامتناني إلى السادة الأفاضل وهم:
1 - الشيخ علي أصغر الأميري.
2 - الشيخ أحمد المحيطي الأردكاني.
3 - السيد جعفر الحسيني النوري.
الذين ساعدونا في تحصيل مداركه، وتنسيق مباحثه وتهذيب مطالبه، ثم بعد
ذلك، في طبعه وتقديمه إلى رواد العلم والفضيلة، أسأل الله السميع العليم، أن يبارك
لهم في جهود هم العلمية ويوفقهم لمواصلة مسيرتهم الحوزوية.
وكان ذلك في جوار بنت الإمام موسى بن جعفر السيدة فاطمة المعصومة
صلوات الله وسلامه عليها وعلى آبائها الطاهرين وعلى أخيها علي بن موسى الرضا
وأبنائه المعصومين.
إسماعيل الصالحي المازندراني
7

فصل
في شروط صحة الصلاة
اشتراط صحة الصلاة بالطهارة
اشتراط الطهارة في توابع الصلاة
اشتراط الطهارة في موضع السجود
وضع الجبهة على محل بعضه نجس
9

فصل
[في شروط صحة الصلاة]
يشترط في صحة الصلاة، واجبة كانت أو مندوبة، إزالة النجاسة
عن البدن، حتى الظفر والشعر واللباس، ساترا كان، أو غير ساتر، عدا
ما سيجئ من مثل الجورب ونحوه مما لا تتم الصلاة فيه.
]
اشتراط صحة الصلاة بالطهارة
أما اشتراط إزالة النجاسة عن البدن واللباس في صحة الصلاة، فإجماعي
لا خلاف فيه. (1)
وتدل عليه النصوص الكثيرة، فوق حد التواتر (2)، الواردة في أبواب
متعددة:
منها: ما ورد في أبواب النجاسات، كصحيحة محمد بن مسلم، قال: " سألته
عن جلد الميتة، أيلبس في الصلاة إذا دبغ؟ قال: لا وإن دبغ سبعين مرة ". (3)

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 89.
(2) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 488.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 61 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1080.
11

[...]
ومنها: ما ورد في أبواب لباس المصلي، كمرسلة ابن أبي عمير، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) في الميتة، قال: " لاتصل في شئ منه ". (1)
وأما عدم الفرق في الصلاة بين الواجبة والمندوبة، فلإطلاق النصوص
المتقدمة ومعقد الإجماع، كما أن مقتضى الإطلاق المذكور - أيضا - عدم الفرق فيها
بين الأداء والقضاء.
وأما عدم الفرق في اشتراط الإزالة بين البدن وعوارضه من الشعر والظفر،
فهو مما لا إشكال فيه، لكونها من البدن.
على أنه يمكن استفادة اشتراط الإزالة عن لواحق البدن، مما دل على اشتراطها
عن ملابسات البدن - كالثياب والألبسة - بالأولوية القطعية.
كرواية زرارة، قال: " قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شئ من مني
- إلى أن قلت -: فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو، فأغسله؟ قال: تغسل
من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون على يقين من طهارتك... ". (2)
وجه الأولوية هو أن ظاهر الرواية اعتبار طهارة المصلي، وقد أطلقها الإمام (عليه السلام)
على طهارة الثوب الذي يلاصق بدنه، وجعل (عليه السلام) طهارة الثوب بمنزلة طهارة المصلي.
ومن المعلوم: أن إطلاقها على طهارة شعره وظفره مما هو من توابع بدنه
يكون بالأولوية القطعية. م

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب لباس المصلي، الحديث 2، ص 249.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 7 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1006.
12

[وكذا يشترط في توابعها من صلاة الإحتياط، وقضاء التشهد
والسجدة المنسيين، وكذا في سجدتي السهو على الأحوط، ولا يشترط فيما
يتقدمها من الأذان والإقامة والأدعية التي قبل تكبيرة الإحرام، ولا في
ما يتأخرها من التعقيب. *]
وإن شئت فقل: إذا كان طهارة الثوب موجبة لاتصاف المصلي بالطهارة،
فطهارة مثل الظفر والشعر، موجبة له بطريق أولى.
وأما عدم الفرق في اللباس بين كونه ساترا أو غيره، بل عدم الفرق فيه بين
ما إذا كان ثوبا أو غيره (كالفرو، والدرع) فلإطلاق ما دل على المنع عن الصلاة في
النجس من الأخبار، ومعاقد الإجماعات المحكية.
وذكر الثوب في كثير من الفتاوى أو النصوص، محمول إما على المرادفة أو على
الغلبة، وإلا فليست فيه خصوصية وجهة خاصة، كما هو واضح.
ويشهد له استثناء مالا تتم فيه الصلاة، مع أنه ليس من الثياب عرفا وإن كان
لباسا عندهم، فالمدار، على صدق اللباس وإن لم يكن من قبيل الثوب.
إشتراط الطهارة في توابع الصلاة
* أما اعتبار الطهارة في صلاة الإحتياط، فلكونها صلاة.
وأما اعتبارها في قضاء الأجزاء المنسية، كالتشهد والسجدة، فواضح، إذ الصلاة
المعتبرة فيها الطهارة ليست إلا تلك الأجزاء، والقضاء - أيضا - ليس إلا عين الأداء،
لا اختلاف بينهما إلا في الزمان، ولذا لو لم تقض الأجزاء المنسية لبطلت الصلاة ألبتة.
13

[...]
وأما سجدتا السهو، فلاوجه لاعتبار الطهارة فيهما، لخروجهما عن الصلاة و
أجزائها، ولذا لا تبطل بالإخلال بهما، بل تجبان نفسيا، إرغاما للشيطان، كما ورد في
رواية معاوية بن عمار، قال: " سألته عن الرجل يسهو، فيقوم في حال قعود، أو يقعد في
حال قيام، قال: يسجد سجدتين بعد التسليم وهما المرغمتان ترغمان الشيطان ". (1)
فما عن ابن إدريس (2) والعلامة (3) والشهيد الأول (4) وغيرهم (قدس سرهم) (5)، من
اعتبار الطهارة فيهما، ضعيف جدا.
واستفادة قدح جميع منافيات الصلاة، ومنها الخبث في سجدتي السهو، من
الروايات الدالة على أنهما بعد التسليم وقبل الكلام (6)، كما ترى.
وأما الأذان، فهو - أيضا - مما لا تشترط فيه الطهارة، لأنه عمل مندوب

(1) وسائل الشيعة: ج 5، كتاب الصلاة، الباب 32 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة،
الحديث 1، ص 346.
(2) كتاب السرائر، ج 1، ص 259، حيث قال: " ولابد من الكون على طهارة إذا فعلهما ".
(3) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، ج 1، ص 548، حيث قال: " ويجب فيهما النية...
والأقرب وجوب الطهارة ".
(4) البيان، ص 148، حيث قال: " وتجب فيهما النية وما يجب في سجود الصلاة ".
(5) كتاب كشف الغطاء، ص 288، حيث قال: " إنه يشترط فيهما ما يشترط في سجود
الصلاة من شرائط الصلاة عن طهارة حدث وخبث " الطبعة القديمة.
(6) كرواية عبد الله بن ميمون القداح، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي (عليه السلام) قال:
" سجدتا السهو بعد التسليم وقبل الكلام " وسائل الشيعة: ج 5، كتاب الصلاة، الباب 5 من أبواب
الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3، ص 314.
14

[...]
مطلوب شرعا، أجنبي عن الصلاة، خارج عنها، وقد ورد في الروايات جوازه مع
الحدث، فكيف بجوازه مع الخبث!
منها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " تؤذن وأنت على غير
وضوء في ثوب واحد، قائما أو قاعدا... ". (1)
ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا بأس أن يؤذن الرجل
من غير وضوء ". (2)
ومنها: رواية إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أن
عليا (عليه السلام) كان يقول (في حديث): " ولا بأس بأن يؤذن المؤذن وهو جنب... ". (3)
وأما الإقامة، فهي كالأذان، لخروجها عن الصلاة، أيضا.
نعم، وردت فيها روايات (4) دالة على أنها من الصلاة، وأن الدخول فيها، هو
الدخول في الصلاة، إلا أن مقتضاها هو التنزيل والعناية، والحث عليها والإهتمام

(1) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الأذان والإقامة، الحديث 1، ص 627.
(2) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الأذان والإقامة، الحديث 2،
ص 627، وفي الفروع من الكافي، ج 3، ص 304، الحديث 11.
(3) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الأذان والإقامة، الحديث 6،
ص 627 و 628.
(4) منها: رواية سليمان بن صالح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "... وليتمكن في الإقامة، كما
يتمكن في الصلاة، فإنه إذا أخذ في الإقامة، فهو في صلاة "، وراجع، وسائل الشيعة: ج 4، كتاب
الصلاة، الباب 13 من أبواب الأذان والإقامة، الحديث 12 و 9، ص 635 و 636، والفروع من
الكافي: ج 3، ص 306، الحديث 21 وفيه: " فهو في الصلاة " وهو الصحيح.
15

[...]
بشأنها، لا أن الإقامة من الصلاة وأجزائها على وجه الحقيقة.
كيف! وقد ورد أن الصلاة تفتتح بالتكبير (1)، وتختتم بالتسليم (2)، أو تحريمها
التكبير وتحليلها التسليم (3)، والمفروض أن تلك الروايات وردت في مقام البيان و
التحديد، قد بين فيها أجزاء الصلاة بأسرها، بلا إشارة إلى الإقامة، ولهذا لا يعتبر فيها
الاستقبال وغيره، من شرائط الصلاة حتى ترك التكلم.
نعم، تستحب الإعادة لو تكلم بعدما قال: " قد قامت الصلاة ".
هذا، ولكن تعتبر في الإقامة، الطهارة من الحدث، لامن جهة كونها من أجزاء
الصلاة، بل لما ورد من النهي عنها بلا طهارة من الحدث (4)، كما ورد النهي عنها
بلا قيام. (5)

(1) كرواية ناصح المؤذن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في حديث) قال: " فإن مفتاح الصلاة التكبير "
وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب تكبيرة الإحرام، الحديث 7، ص 714.
(2) كرواية أبي بصير، قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في رجل صلى الصبح... فإن آخر
الصلاة التسليم " وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب التسليم، الحديث 4، ص 1004.
(3) كرواية القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):... وتحريمها التكبير وتحليلها
التسليم " وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب التسليم، الحديث 1، ص 1003.
(4) كرواية إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) أن عليا كان يقول (في حديث):
"... ولا يقيم حتى يغتسل " وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 9 من أبواب الأذان والإقامة،
الحديث 6، ص 627 و 628.
(5) كرواية محمد بن مسلم، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يؤذن الرجل وهو قاعد؟ قال: نعم،
ولا يقيم إلا وهو قائم " وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الأذان والإقامة،
الحديث 5، ص 635.
16

[...]
وأما الأدعية المتقدمة على تكبيرة الإحرام، والمتأخرة عن الصلاة من
التعقيبات، فاتضح وجه عدم اعتبار الطهارة فيها، مما مر، فلا نعيد.
إعادة فيها إفادة، قد عرفت: أن أصل اعتبار إزالة النجاسة عن البدن و
اللباس، وتوقف صحة الصلاة ونحوها - مما تعتبر فيه الطهارة - عليها، أمر مسلم قد
أجمع الفقهاء عليه، ودلت عليه أخبار كثيرة، فوق حد التواتر، فهذا المقدار لاكلام فيه.
إنما الكلام في العمومية والكلية، إذ الروايات المتقدمة إنما وردت في موارد خاصة
من البول والمني ونحوهما، وليست في المسألة رواية دالة على اعتبار إزالة كل نجس،
أو إزالة عنوان النجس، أو على اعتبار طهارة البدن والثوب وخلوهما عن كل نجس.
وعليه: فالتعدي عن مورد الروايات إلى سائر النجاسات محتاج إلى الدليل.
قد ادعى بعض الأعاظم (قدس سره) (1): أنه يستفاد التعميم من صحيحة زرارة، قال:
" قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره، أو شئ من مني - إلى أن قال -: فإن
ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت، فلم أر شيئا ثم صليت، فرأيت فيه،
قال: تغسل، فلا تعيد الصلاة... ". (2)
بناءا على قراءة: " غيره " (3) في قوله (عليه السلام): " دم رعاف أو غيره " بالرفع، ليكون

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 9 و 10.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1053.
(3) قال في التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 255: " نعم، لو قرأ الضمير في: " غيره "
مرفوعا، بأن أرجعناه إلى الدم لا إلى الرعاف ". ولعله سهو من قلم المقرر، إذ الضمير مبني لا يقبل
الرفع، اللهم إلا أن يقال: إن مراده هو قراءته مضموما.
17

[...]
عطفا على الدم، فيراد به سائر النجاسات، لا " الجر " حتى يكون عطفا على الرعاف،
فيراد به سائر أقسام الدم كي تختص دلالتها بالمنع عن خصوص الدم والمني.
وفيه: أنه خلاف ظاهر الصحيحة، إذ ظاهرها هو قراءة: " غيره " بالجر، و
عطفه على: " رعاف " وإرجاع الضمير إليه، لا إلى الدم.
والشاهد لما قلنا، قوله (عليه السلام): " أو شئ من مني " بعد قوله (عليه السلام): " غيره "، إذ
بناءا على قراءة رفع: " غيره " وعطفه على الدم، لا حاجة إلى هذا القول، إذ المقصود
من كلمة: " غيره " حينئذ هو سائر النجاسات، فيشمل المني - أيضا - ولا خصوصية
- ظاهرا - في ذكره.
وتلحق بهذا القول في الضعف، دعوى (1) استفادة التعميم من حديث: " لا تعاد
الصلاة إلا من خمسة: الطهور، والوقت، والقبلة، والركوع، والسجود ". (2)
بتقريب: أن: " الطهور " بمعني ما يتطهر به، فيعم الطهارة من الخبث مطلقا،
فتجب إعادة الصلاة بالإخلال بها، كالإخلال بالطهارة من الحدث.
وجه الإلحاق هو أن " الحديث " يختص بالطهارة من الحدث، على ما سيأتي
تحقيقه (3).
هذا، ولكن يمكن استفادة التعميم من قوله (عليه السلام) في رواية زرارة المتقدمة:

(1) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 528 و 529.
(2) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 3 من أبواب الوضوء، الحديث 8، ص 260.
(3) سيأتي في الفصل الآتي (فصل إذا صلى في النجس).
18

[...]
" تغسل من ثوبك... حتى تكون على يقين من طهارتك... ". (1)
وكذا من قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: "... لأنك كنت على يقين من طهارتك
... " (2) إذ ظاهرهما هو أن المعتبر في الصلاة هي الطهارة عن جميع القذارات، وأن
المانع هو مطلق النجاسة بلا دخل خصوصية، ولعل ذكر الدم والمني فيهما - على
ما تقدم - يكون من باب المثال لا الانحصار.
ويمكن استفادة التعميم - أيضا - من الأخبار الدالة على جواز الصلاة، في
المتنجسات التي لا تتم فيها الصلاة، إذ ورد في بعضها لفظ: " القذر " وفي بعضها الآخر
لفظ: " الشئ ".
ومن المعلوم: أن: " القذر " أو: " الشئ " عام، يشمل جميع النجاسات
بلا خصوصية لبعض دون بعض، فإذا يكون مفادها اشتراط إزالة مطلق النجاسات
عن لباس المصلي، سوى ما إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة.
ومن تلك الأخبار: ما عن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " كل ما كان
لا تجوز فيه الصلاة وحده، فلا بأس بأن يكون عليه الشئ، مثل القلنسوة والتكة و
الجورب ". (3) م

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 7 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1006.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1053.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1045.
19

[ويلحق باللباس على الأحوط، اللحاف الذي يتغطى به المصلي
مضطجعا إيماءا، سواء كان متسترا به أولا، وإن كان الأقوى في صورة
عدم التستر به، بأن كان ساتره غيره، عدم الإشتراط، *]
ومنها: ما عن حماد بن عثمان، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في الرجل
يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر، فقال: إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة،
فلا بأس ". (1)
ومنها: ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " لا بأس بالصلاة في الشئ الذي
لا تجوز الصلاة فيه وحده، يصيب القذر، مثل القلنسوة والتكة والجورب ". (2)
ومنها: ما عن عبد الله بن سنان، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
" كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده، فلا بأس بأن يصلى فيه
وإن كان فيه القذر، مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه
ذلك ". (3)
* * *
* ولا يخفى: أن الملاك في اشتراط إزالة النجاسة عن لباس المصلي هو تحقق
اللبس به.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1045.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 4، ص 1046.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 5، ص 1046.
20

[...]
وعليه: فإذا لبس المصلي اللحاف حال الاضطجاع، تعتبر فيه الطهارة - أيضا -
كاللباس، سواء كان ساترا (بأن لم يكن على بدنه ساتر غيره) أو غير ساتر (بأن كان
له ساتر غيره) بخلاف ما إذا لم يلبس اللحاف، بل وضعه على رأسه، أو على منكبه،
فلا تجب فيه مراعاة الطهارة ولو كان ساترا، إذ هو حينئذ يكون محمولا متنجسا،
لالباسا للمصلي.
ومن هنا ظهر: أن ما ذهب إليه المصنف (قدس سره) من التفصيل في صورة صدق
اللباس على اللحاف، بين التستر به وعدمه، مما لا محصل له.
ولقد أجاد شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " إن
تفصيل المتن، لابد أن يكون لأحد الوجهين: الأول: أن يكون الثوب المذكور في
الرواية (1) كناية عن الساتر، فالملاك طهارة الساتر فقط.
الثاني: أن صيرورة اللحاف لباسا تنوط بعدم وجود ساتر غيره. ولا يخفى:
ضعف كلا الوجهين ". (2)
وبالجملة: فالملاك هو لبس اللحاف وعدمه، لاكونه ساترا أو غير ساتر، إذ
الساتر، كما عن بعض الأعاظم (قدس سره) (3) على وجهين: م

(1) وهي رواية يونس بن يعقوب: " انه سأل أبا عبد الله (عليه السلام)، عن الرجل يصلي في ثوب
واحد؟ قال: نعم، قال: قلت: فالمرأة؟ قال: لا " وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 28 من
أبواب لباس المصلي، الحديث 4، ص 294.
(2) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
(3) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 259.
21

ويشترط في صحة الصلاة - أيضا - إزالتها عن موضع السجود،
دون المواضع الاخر، فلا بأس بنجاستها، إلا إذا كانت مسرية إلى بدنه، أو
لباسه. *
]
أحدهما: ما يتستر به العورة عن ناظر محترم، وهذا لا تعتبر فيه أية
خصوصية، إذ الغرض منه المنع عن النظر بأي شئ حصل، ولو كان بالحشيش، أو
الظلمة، أو الوحل، أو وضع اليد، أو الصوف، أو ورق الشجر.
ثانيهما: الساتر المعتبر في الصلاة، وهذا يشترط فيه أن يكون من قبيل
اللباس، فيجب على المصلي أن يكون لابسا قبال كونه عاريا.
نعم، لا تعتبر في اللبس كيفية خاصة، أو كيفية متعارفة.
اشتراط الطهارة في موضع السجود
* يقع الكلام هنا في ثلاث موارد:
الأول: في مسجد الجبهة.
فنقول: إن اشتراط إزالة النجاسة عن مسجد الجبهة، هو المعروف بين
الأصحاب، بل ادعي عليه الإجماع. (1)
وتدل عليه - أيضا - عدة من الروايات:

(1) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 490.
22

[...]
منها: صحيحة زرارة، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن البول يكون على
السطح، أو في المكان الذي يصلى فيه، فقال: إذا جففته الشمس، فصل عليه، فهو
طاهر ". (1)
بتقريب: أن قوله (عليه السلام): " فصل عليه " بعد تجفيف البول فيه بالشمس، إنما هو
بملاحظة أنه طاهر بذلك، فتدل على أن موضع السجدة إذا لم يكن طاهرا ولو بإشراق
الشمس، لا تصح الصلاة عليه.
ومن هنا ظهر: ضعف ما استشكل السيد الحكيم (قدس سره) على دلالة الرواية، من
أن المفروض في السؤال هو المكان الذي يصلى فيه، وليس المسجد مما يصلى فيه، بل
هو مما يصلى عليه، وعليه: فالرواية أجنبية عن المقام. (2)
وجه ظهور الضعف: أن المعيار في الرواية هو ما أجاب الإمام (عليه السلام) من قوله:
" فصل عليه " فتكون ناظرة إلى موضع السجود.
ومنها: صحيحة الحسن بن محبوب، قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص
يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، ثم يجصص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إلي
بخطه: إن الماء والنار قد طهراه ". (3)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1042.
(2) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 490.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 81 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1099 و 1100.
23

[...]
تقريب الدلالة: هو أن السائل كان اعتقاده مانعية نجاسة مسجد الجبهة عن
الصلاة، والإمام (عليه السلام) قرره على اعتقاده ولم يرده، وإنما رخصه في السجود على
الجص، لأجل تطهيره بالماء والنار.
هذا، ولكن يشكل على الاستدلال بها، بأن الجص كيف يطهر بالماء والنار
- بعد تنجسه بالعذرة وعظام الموتى - بالإيقاد عليه بهما مع اشتمال العظام على المخ
الذي فيه دهن ودسومة يخرج منها بالنار!
وفيه: أولا: أن التقرير في الصحيحة دليل واضح على اشتراط الطهارة في
مسجد الجبهة، والجهل بوجه طهارة الجص، وأنه كيف يطهر بالماء والنار، غير
قادح في الاستدلال.
وثانيا: أن تطهير الجص بالماء والنار، معناه: أن النار تجعل العظام والعذرة
رمادا، وسيأتي: أن الاستحالة تكون من المطهرات، وأن الماء يطهر الجص بغسله به،
بناءا على كفاية مجرد الغسل في التطهير، وأن المتنجس مطلقا يطهر به، إلا إذا قام
الدليل على اعتبار التعدد، أو الأمر الآخر، كالتعفير.
وأما انفصال الغسالة عن الجص، فهو إما لا يشترط رأسا في حصول الطهارة
- كما سيأتي في محله - أو نقول: بتحققه هنا بالانجذاب، إذ الانفصال يختلف
باختلاف المحال.
ألا ترى أن الأراضي الرخوة تطهر بالصب والغسل مع عدم الانفصال، أو مع
الحاصل بالانجذاب.
24

[...]
وبالجملة: فالجص كالأرض الرخوة، يطهر بالصب والغسل بلا حاجة إلى
الانفصال، أو يكون انفصاله بالانجذاب.
نعم، يبقى الكلام في الرواية وهو أنه، هل يصح السجود على الجص، لعدم
الخروج من الأرض بالطبخ، أو لا؟ وهو أمر آخر يجئ البحث عنه في محله،
إن شاء الله تعالى.
المورد الثاني: في الستة الاخر من مواضع السجود.
فنقول: إن اشتراط الطهارة فيها مما لم يقل به أحد، إلا أبو الصلاح
الحلبي (قدس سره) (1) ولم يدل عليه دليل.
وأما الاستدلال بحديث: " جنبوا مساجدكم النجاسة " (2).
بتقريب: أن " مساجدكم " جمع مضاف (3) يفيد العموم، فتعم المواضع السبعة
بأجمعها.
وفيه: أولا: أن الحديث ضعيف السند، مع عدم انجباره بشهرة عملية
استنادية.

(1) الكافي في الفقه، ص 140، حيث قال: " لا يجوز السجود بشئ من الأعضاء السبع إلا
على محل طاهر ".
(2) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 24 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2، ص 504.
(3) هذا هو الصحيح، لا ما في التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج 3، ص 264 من قوله: " فإن
المساجد جمع محلى باللام يعم المساجد السبعة " ولعله سهو من قلم المقرر.
25

[...]
وثانيا: أن كلمة: " مساجدكم " لا ظهور لها في المواضع السبعة في الصلاة،
ولعل المراد منها هي بيوت الله، بقرينة قوله تعالى: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد...) *. (1)
وقد ورد - أيضا - في الأخبار ما يدل على هذا، مثل قوله (عليه السلام): " جنبوا
مساجدكم، صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم... ". (2)
وثالثا: أنه لو سلم الظهور، فالمراد هو خصوص مساجد الجبهة، كما هو
المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق.
المورد الثالث: في مطلق مكان المصلي.
والحق: عدم اشتراط الطهارة في مكان المصلي مطلقا.
ولكن نسب إلى السيد المرتضى (قدس سره) اشتراطها فيه، ولو غير مساقط الأعضاء
السبعة، كمحل الجلوس والقيام، مثلا. (3)
واستدل له بروايات:
منها: موثقة ابن بكير، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الشاذكونة (4) يصيبها

(1) سورة الحج (22): الآية 40.
(2) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 27 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2، ص 507.
(3) راجع، الحدائق الناضرة: ج 7، ص 194، ومستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 491.
(4) الشاذكونة: هي بالفتح ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن، مجمع البحرين: ج 5، ص 273 و
274، ولسان العرب: ج 6، ص 327، وقال في الحدائق الناضرة، ج 7، ص 195: " قال في الوافي:
الشاذكونة بالفارسية الفراش الذي ينام عليه ".
26

[...]
الاحتلام، أيصلى عليها؟ فقال: لا ". (1)
ومنها: موثقة عمار الساباطي، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البارية يبل
قصبها بماء قذر، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال: إذا جفت، فلا بأس بالصلاة
عليها ". (2)
دلالة هاتين الموثقتين على مدعاه (قدس سره) واضح، لا يحتاج إلى مزيد بيان.
ومنها: صحيحة زرارة، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن البول يكون على
السطح، أو في المكان الذي يصلى فيه، فقال: إذا جففته الشمس، فصل عليه، فهو
طاهر ". (3)
ومنها: صحيحة زرارة، وحديد بن حكيم الأزدي، جميعا قالا: " قلنا:
السطح يصيبه البول، أو يبال عليه، يصلى في ذلك المكان؟ فقال: إن كان تصيبه
الشمس والريح وكان جافا، فلا بأس به، إلا أن يكون يتخذ مبالا ". (4)
تقريب الاستدلال بهما على المدعى: هو أنهما دلتا بمفهومهما على عدم صحة
الصلاة في المكان النجس، ولابد من طهارته ولو بإشراق الشمس عليه.
ومنها: ما روي عن النبي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " نهى أن يصلى في سبع مواطن: في
المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام، وفي معاطن الإبل،

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 6،
ص 1044 و 1045، وتهذيب الأحكام: ج 2، ص 397، الحديث 68.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5، ص 1044.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1042.
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 29 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1042.
27

[...]
وفوق ظهر بيت الله ". (1)
بتقريب: أن النهي في مثل المزبلة والحمام ونحوهما، لاوجه له، إلا لأجل
نجاسة هذه الأمكنة.
هذا، ولكن هذه النصوص غير صالحة للاستدلال بها على المقام:
أما النبوي، فلضعفه من جهة السند، بل ومن جهة الدلالة، أيضا، وذلك، لأن
هذه العناوين المذكورة فيه، لا تلازم عنوان النجس، بل النسبة بينهما عموم من وجه،
فإن الصلاة في الحمام - مثلا - يمكن أن تقع مع طهارة المكان ولو بغسله عند إقامة
الصلاة.
وعليه: فظاهر النهي هو أن تلك الأماكن بعناوينها الأولية تكون منهية
لا بعناوينها الثانوية، ومن ناحية كونها نجسة.
ولا يخفى: أن النهي المذكور إنما هو لأجل عدم ملائمة الصلاة - مع كونها
معراجا للمؤمن - لتلك الأمكنة. وعليه: فيحمل على الكراهة.
وأما موثقة ابن بكير المتقدمة المانعة عن الصلاة في الشاذكونة، فلأجل كونها
معارضة بروايتين معتبرتين:
إحداهما: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " سألته عن الشاذكونة،
تكون عليها الجنابة، فيصلى عليها في المحمل، قال: لا بأس ". (2)

(1) الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي: ج 2، ص 178.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 30 من أبواب النجاسة، الحديث 3،
ص 1044، وتهذيب الأحكام: ج 2، ص 398، الحديث 69.
28

[...]
ثانيتهما: رواية ابن أبي عمير، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أصلي على
الشاذكونة وقد أصابتها الجنابة، فقال: لا بأس ". (1)
وعليه: فلابد من الجمع بينهما، إما بحمل كلمة: " لا " في الموثقة على الكراهة
بقرينة صراحة الصحيحتين في الجواز، أو بحمل الصحيحتين الظاهرتين في الإطلاق،
على صورة الجفاف، جمعا بينهما وبين الروايات الدالة على اعتبار الجفاف في مكان
المصلي على تقدير النجاسة، وحينئذ يقيد إطلاق الموثقة الشامل لصورتي الجفاف و
الرطوبة، فيكون المراد منها حالة الرطوبة.
وأما موثقة عمار والصحيحتان، فلأجل كونها معارضة - أيضا - بروايات
معتبرة:
منها: صحيحة علي بن جعفر: " أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن
البيت والدار لا تصيبهما الشمس، ويصيبهما البول، ويغتسل فيهما من الجنابة، أيصلى
فيهما إذا جفا؟ قال: نعم ". (2)
ومنها: صحيحته الأخرى، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: " سألته
عن البواري يبل قصبها بماء قذر، أيصلى عليه؟ قال: إذا يبست، فلا بأس ". (3)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 30 من أبواب النجاسة، الحديث 4،
ص 1044، وتهذيب الأحكام: ج 2، ص 398، الحديث 70.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1043 و 1044.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 2، 1044.
29

[...]
ومنها: موثقة عمار الساباطي، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن البارية يبل
قصبها بماء قذر، هل تجوز الصلاة عليها؟ فقال: إذا جفت، فلا بأس بالصلاة عليها ". (1)
فإذا لا مناص من الجمع بينهما، إما بحمل المنع على الكراهة، بقرينة صراحة
هذه الأخبار في الصحة والجواز، أو بحمله على خصوص مسجد الجبهة وأنه لابد
من خلوه عن النجاسة مطلقا، ولو كانت يابسة.
فتحصل: أن مقتضى ما تقدم من الأخبار، عدم صحة الصلاة في الموضع
المتنجس مع رطوبة مسرية موجبة لسراية النجاسة إلى ثوب المصلي أو بدنه.
ولا يخفى عليك: اختصاص هذا الأمر بما إذا كانت النجاسة غير معفو عنها
في الصلاة، أو بما إذا كانت مسرية إلى ما تتم فيه الصلاة من الثياب، فلا منع من نجاسة
موضع الصلاة إذا كانت معفوا عنها، أو مسرية إلى ما لا تتم فيه الصلاة.
نعم، حكى فخر المحققين (قدس سره) عن والده (قدس سره) الإجماع على المنع حتى في المعفو
عنها (2)، إلا أنه ادعى العلامة (قدس سره) الإجماع على خلافه. (3)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 30 من أبواب النجاسات، الحديث 5،
ص 1044.
(2) راجع، إيضاح الفوائد، ج 1، ص 90، وإليك نص كلامه: " وقال والدي دام ظله: الإجماع
منا واقع على اشتراط خلوه من نجاسة متعدية وإن كانت معفوا عنها في الثياب والبدن ".
(3) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، ج 1، ص 342، حيث قال: " ويشترط طهارة المكان
من النجاسات المتعدية إليه، غير المعفو عنها إجماعا ".
30

(مسألة 1): إذا وضع جبهته على محل بعضه طاهر وبعضه نجس،
صح إذا كان الطاهر بمقدار الواجب، فلا يضر كون البعض الآخر نجسا، و
إن كان الأحوط طهارة جميع ما يقع عليه، ويكفي كون السطح الظاهر من
المسجد طاهرا، وإن كان باطنه أو سطحه الآخر أو ما تحته نجسا، فلو وضع
التربة على محل نجس وكانت طاهرة ولو سطحها الظاهر صحت صلاته.]
وضع الجبهة على محل بعضه نجس
هنا فرعان: أحدهما: أن يكون بعض موضع الجبهة طاهرا وبعضه نجسا، فهل
تصح الصلاة - حينئذ - أو يعتبر في صحتها طهارة الجميع؟ ذهب المصنف (قدس سره) إلى
الأول - وإن احتاط استحبابا بالنسبة إلى طهارة الجميع - وهذا هو الصحيح.
والسر فيه: هو أن مقتضى أدلة اعتبار طهارة المسجد من الإجماع
والروايات، هو كفاية طهارة المقدار الذي يقع السجود عليه، ضرورة أن عنوان
السجدة يصدق بذلك، وهذا هو الذي يساعده تناسب الحكم والموضوع، وعليه:
فلاوجه لاعتبار طهارة أزيد منه.
وما عن الفقيه الهمداني (قدس سره) من اعتبار طهارة مجموع موضع الجبهة، فارقا بينه
وبين ما لو وضع الجبهة على ما يصح السجود، بأن الطهارة شرط للمسجد، فلابد
من كون جميع الموضع طاهرا، بخلاف ما لو وضع الجبهة على ما يصح السجود، فإنه
31

[...]
شرط للسجود، فيكفي فيه كون بعض ما يقع عليه السجود، طاهرا. (1)
ففيه: أن مرجع كليهما إلى أمر واحد، فاشتراط كون السجود على الطاهر،
معناه: اشتراط طهارة المسجد، وكذا العكس.
والحق: ما عرفت: من طهارة المقدار الذي يقع عليه السجود، كما هو ظاهر
الدليل ولو بمعونة تناسب الحكم والموضوع.
ثانيهما: أن يكون السطح الظاهر من المسجد طاهرا دون باطنه، أو سطحه
الآخر، أو ما تحته.
فحكم المصنف (قدس سره) فيه - أيضا - بصحة الصلاة، وهذا هو الصحيح، ووجهه
يظهر مما مر في الفرع الأول، فلا نعيد.

(1) راجع، كتاب الصلاة من مصباح الفقيه: ص 185.
32

أحكام المساجد
إزالة النجاسة عن المساجد
فورية وجوب الإزالة
تنجيس المساجد
إدخال عين النجاسة في المساجد
إدخال المتنجس في المساجد
كفائية وجوب إزالة النجاسة
الإزالة في وقت الصلاة
الصلاة في المسجد مع كونه نجسا
العلم بنجاسة المسجد أثناء الصلاة
تنجيس المسجد ثانيا
حفر أرض المسجد للتطهير
33

تطهير حصير المسجد
تخريب المسجد للتطهير
تنجيس المسجد الخراب
تنجيس المواضع الطاهرة من المسجد للتطهير
بذل المال في تطهير المسجد
تغير عنوان المسجد
تطهير المسجد حال الجنابة
تنجيس مساجد اليهود والنصارى
تنجيس بعض مواضع المسجد المعلوم عدم وقفيته
العلم الإجمالي بنجاسة أحد المسجدين
تنجيس المكان المعد للصلاة
إعلام الغير بنجاسة المسجد
تنجيس المشاهد المشرفة
35

(مسألة 2): تجب إزالة النجاسة عن المساجد، داخلها وسقفها و
سطحها والطرف الداخل من جدرانها،
]
إزالة النجاسة عن المساجد
هنا فروع:
الأول: وجوب إزالة النجاسة عن المساجد.
الثاني: حرمة تنجيسها.
الثالث: عدم جواز إدخال النجس فيها.
الرابع: عدم جواز إدخال المتنجس فيها.
أما الفرع الأول (وجوب الإزالة) فاستدل عليه بأدلة لبية، من الإجماع، و
لفظية من الكتاب والسنة.
أما الإجماع، فقد نقل عن جماعة كالشيخ (1) والحلي (2) والفاضلين (3) و
الشهيد الأول (قدس سرهم) (4)، بل ادعى بعض الأعاظم (قدس سره) تحققه قطعا (5)، وقال (قدس سره) - مضافا

(1) كتاب الخلاف، ج 1، ص 180، حيث قال: " لا خلاف في أن المساجد يجب أن تجنب النجاسة ".
(2) كتاب السرائر، ج 1، ص 163، حيث قال: " ولا خلاف أيضا بين الأمة كافة، أن المساجد
يجب أن تنزه وتجنب النجاسات العينيات ".
(3) الحدائق الناضرة: ج 5، ص 293.
(4) ذكرى الشيعة، ص 157، حيث قال: " يحرم إدخال النجاسة إليها وإزالتها فيها، قاله
الأصحاب ".
(5) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 33.
37

[...]
إليه -: إنه لا إشكال في وجوب الإزالة، وأنه مرتكز في أذهان المتشرعة.
وفيه: أنه لا يمكن الإعتماد عليه لكونه مدركيا، إذ مع وجود الدليل في المسألة
يقطع باستناد المجمعين إليه، أو لا أقل من احتمال ذلك، مضافا إلى أن صاحب
الحدائق (قدس سره) (1) خالف وذهب إلى جواز تنجيس المساجد، الملازم عرفا، لعدم وجوب
الإزالة، وكذا مال إليه صاحب المدارك (قدس سره). (2)
نعم، قد استدل صاحب الحدائق (قدس سره) (3) على مذهبه، مضافا إلى أصالة الجواز،
بموثقة عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن الدمل يكون بالرجل، فينفجر وهو
في الصلاة، قال: يمسحه ويمسح يده بالحائط، أو بالأرض، ولا يقطع الصلاة ". (4)
بتقريب: أن إطلاقها يشمل ما إذا كانت الصلاة في المسجد، فتدل على جواز
تنجيس أرض المسجد وحائطه.
وفيه: ما لا يخفى، إذ الرواية ناظرة إلى عدم قدح انفجار الدمل الملازم لسريان
الدم، في صحة الصلاة، لكون هذا الدم معفوا عنه، كالدم الأقل من الدرهم، لا إلى
جواز تنجيس المكان حتى يشمل إطلاقه ما إذا كانت الصلاة في المسجد.

(1) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 294.
(2) مدارك الأحكام، ج 2، ص 306، حيث قال: " وقد قطع الأصحاب بوجوب إزالة
النجاسة عن المساجد على الفور كفاية، لعموم الخطاب، وفيه توقف ".
(3) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 294.
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 32 من أبواب النجاسات، الحديث 8، ص 1030.
38

[...]
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) قد أجاب عن الاستدلال المذكور بقوله: " إن الرواية
إنما سيقت لبيان أن مسح المنفجر من الدمل بمثل الحائط أو الأرض، ليس من الفعل
الكثير القاطع للصلاة، ولانظر لها إلى جواز تنجيس المسجد أو غيره من الأمكنة
بوجه ". (1)
وفيه: أن هذا إنما يتم، إذا كان السؤال عن المسح، كما هو الواضح، والمفروض
أنه ليس كذلك، إذ المسح إنما جاء في الجواب، والسؤال يكون عن الإنفجار، وأنه
هل هو قادح في صحة الصلاة، أم لا؟ هذا كله في الإجماع.
أما الكتاب، فهو قوله تعالى: * (... وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع
السجود) *. (2)
بتقريب: أن التطهير، معناه: إزالة النجاسة، والأمر به ظاهر في الوجوب،
فيفيد وجوب إزالتها عن المساجد، إذ لافرق بينها وبين البيت، لعدم القول بالفصل.
وفيه: أن الأمر بالتطهير في الآية متوجه إلى إبراهيم الخليل (عليه السلام) أو إليه وإلى
ابنه إسماعيل (عليه السلام) (3) ويكون لأجل الطائفين وغيرهم، فالمراد منها وجوب تنظيف
المساجد لأجلهم، لا وجوب إزالة النجاسة عنها ولأجلها.

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 272.
(2) سورة الحج (22): الآية 26.
(3) كما ورد في سورة البقرة (2): الآية 125: * (... وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن
طهرا بيتي...) *.
39

[...]
ولقد أجاد الإمام الراحل (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " لا يبعد أن يكون
المراد من التطهير فيها هو التنظيف العرفي والكنس، لا التطهير من النجاسة ". (1)
أما السنة، فهي روايات من الصحاح والموثقات:
منها: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: " سألته
عن الدابة تبول، فيصيب بولها المسجد أو حائطه، أيصلى فيه قبل أن يغسل؟ قال: إذا
جف فلا بأس ". (2)
تقريب الاستدلال: هو أن الصحيحة ظاهرة في أن أصل وجوب إزالة
النجاسة كان أمرا مرتكزا، مفروغا عنه عند السائل، والترديد إنما هو في وقتها وفي
أن وجوبها فورى، أو يجوز تأخيرها واتيانها بعد الصلاة، والإمام (عليه السلام) قرره على
تلك المفروغية وذلك الارتكاز، ولم يردعه عن اعتقاده بوجوب الإزالة.
والسؤال عن بول الدابة مع أن المراد منها عند الإطلاق هو الخيل وأخواها، و
أبوالها تكون طاهرة، لعله لأجل كون السائل محتملا لنجاسته، أو معتقدا بها.
ويرد عليه: بأن الاستظهار المذكور، إنما يتم إذا قال السائل: أيصلى فيه قبل
أن يغسل، أو يصلي فيه بعد أن يغسل؟ فإنه يشعر بأن أصل الوجوب كان مفروغا عنه
عنده، والترديد إنما هو من ناحية الفورية وعدمها.

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 444.
(2) قرب الإسناد: ص 175، ووسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب
النجاسات، الحديث 18، ص 1012.
40

[...]
ولكن المفروض أنه قال: أيصلى فيه قبل أن يغسل؟ فيكون مراده هو
الاستعلام من جهة أصل الغسل، وأنه هل يجب أم لا؟
والذي يسهل الخطب هو عدم دلالة الصحيحة على نجاسة بول الخيل و
أخويها، توضيحه: إن الروايات الواردة في أبوال الدواب مختلفة، ففي بعضها التفصيل
بين جفاف البول فلا بأس به، وبين وعدمه ففيه بأس، كصحيحة علي بن جعفر
المتقدمة (1)، وصحيحته الأخرى عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن
الثوب يقع في مربط الدابة على بولها وروثها كيف يصنع؟ قال: إن علق به شئ
فليغسله، وإن كان جافا فلا بأس (2)، ورواية النخاس، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
إني أعالج الدواب، فربما خرجت بالليل وقد بالت، وراثت، فيضرب أحدها برجله،
أو يده، فينضح على ثيابي، فأصبح فأرى أثره فيه؟ فقال: ليس عليك بشئ ". (3)
فإن قول السائل: " فأرى أثره " معناه: أن البول صار جافا ولم يبق منه إلا
أثره، فالرواية ناظرة إلى التفصيل. غاية الأمر: يكون هذا التفصيل في السؤال، بخلاف
التفصيل الوارد في صحيحتي علي بن جعفر المتقدمتين، فإنه كان في الجواب.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 18، ص 1012.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 21،
ص 1012 و 1013.
(3) الفروع من الكافي: ج 3، الحديث 10، ص 58، وفي وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة،
الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1009 وفيه: " النحاس " و: " شئ " مكان:
" بشئ ".
41

[...]
وفي بعضها الآخر، التفصيل بين ما لا يؤكل لحمه فيوجب بوله فساد الصلاة و
بين ما يؤكل فلا يوجب فسادها، كموثقة ابن بكير، قال: " سأل زرارة أبا عبد الله (عليه السلام)
عن الصلاة... فأخرج كتابا زعم أنه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الصلاة في وبر كل
شئ حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شئ منه
فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله، ثم قال: يا زرارة! هذا
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاحفظ ذلك يا زرارة! فإن كان مما يؤكل لحمه، فالصلاة في وبره
وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شئ فيه جائز ". (1)
وفي الأخرى، ورد أن الإمام (عليه السلام) كره أبوال الدواب، كموثقة زرارة، عن
أحدهما (عليهما السلام): " في أبوال الدواب يصيب الثوب فكرهه، فقلت: أليس لحومها حلالا؟
فقال: بلى، ولكن ليس مما جعله الله للأكل " (2) إلى غير ذلك من الروايات.
ولا يخفى: أن المستفاد من الموثقتين الأخيرتين بل صريحهما هو أن أبوال
الدواب من الخيل وأخويها طاهرة.
وعليه: فتحمل الصحيحة وغيرها مما ورد فيها التفصيل بين صورتي جفاف
البول وعدمه، على استقذار البول عند رطوبته، لاشتماله حينئذ على الرائحة الكريهة،
وكذا يحمل ما ورد في بعض الروايات الآخر من الأمر بالغسل على رجحان التنزه
عن أبوال الدواب.

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1، ص 250.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب لباس النجاسات، الحديث 7، ص 1010.
42

[...]
فتحصل: أن الاستدلال بالصحيحة المتقدمة (1) على وجوب إزالة النجاسة
عن المساجد، يتوقف على ظهورها العرفي في مفروغية وجوب إزالة النجاسة عن
المسجد عند السائل، وكون وجه السؤال عن غسل بول الدابة، لأجل أن السائل
يحتمل نجاسته أو يعتقد بها. وقد عرفت: أنها ظاهرة في استعلام السائل من جهة
أصل الغسل، بأنه هل يجب أم لا؟ مضافا إلى قصورها عن الدلالة على نجاسة بول
الدابة من الخيل وأخويها، فتكون الصحيحة إذا أجنبية عن المقام.
هذا، ولكن أجاب بعض الأعاظم (قدس سره) عن الاستدلال بالصحيحة بقوله: " نحتمل
أن يكون سؤاله راجعا إلى حكم ترجيح أحد الأمرين المستحبين على الآخر، حيث
إن ظاهر الصحيحة سعة الوقت للصلاة، وتمكن المكلف من إتيانها قبل خروج وقتها
مع تقديم تطهير المسجد على الصلاة، ومن الظاهر: أن المبادرة إلى الواجب الموسع
مستحبة، كما أن تنظيف المسجد عن القذارة والكثافة أمر مرغوب فيه في الشريعة
المقدسة، ومن هنا تصدى للسؤال عن أن المستحبين أيهما أولى بالتقديم على غيره ". (2)
وفيه: أنه مخالف لظاهر الصحيحة جدا، كما أن ما أجاب به بعض المعاصرين
عن الاستدلال بها من: " أن الرواية سؤالا وجوابا ناظرة إلى مطلب آخر وهو أن
تنجس المسجد بإصابة بول الدابة النجس إليه، هل يمنع عن الصلاة فيه؟... أو لا يمنع
عن ذلك... " (3) مخالف لظاهرها، أيضا.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 9 من أبواب النجاسات، الحديث 18، ص 1012.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 273.
(3) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الطهارة: ص 294 و 295.
43

[...]
ومنها: (أي من الروايات التي استدل بها على وجوب الإزالة) موثقة الحلبي،
قال: " نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر، فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)
فقال: أين نزلتم؟ فقلت: نزلنا في دار فلان، فقال: إن بينكم وبين المسجد زقاقا قذرا،
أو قلنا له: إن بيننا وبين المسجد زقاقا قذرا، فقال: لا بأس، إن الأرض تطهر بعضها
بعضا، قلت: والسرقين الرطب أطأ عليه، فقال: لا يضرك مثله ". (1)
ومنها: ما ورد عنه - أيضا - بطريق آخر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له:
إن طريقي إلى المسجد في زقاق يبال فيه، فربما مررت فيه وليس علي حذاء فيلصق
برجلي من نداوته، فقال: أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت: بلى، قال:
فلا بأس، إن الأرض تطهر بعضها بعضا، قلت: فأطأ على الروث الرطب، قال: لا بأس
أنا والله ربما وطأت عليه، ثم أصلي ولا أغسله ". (2)
تقريب الاستدلال بهما: هو أن مقتضى تعليل نفي البأس بتطهير الأرض
بعضها بعضا، كون تنجس الرجل بوضعها على الزقاق القذر مانعا عن الدخول في
المسجد، لئلا يتنجس بملاقاتها.
وفيه: أنهما لو تمت دلالتهما لدلتا على حرمة تنجيس المسجد، لاعلى وجوب
إزالة النجاسة عنه، إلا من جهة الملازمة العرفية، لكن الدلالة غير تامة، لظهورهما في
مانعية نجاسة الرجل عن الصلاة، لافي حرمة تنجيس المسجد.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 32 من أبواب النجاسات، الحديث 4، ص 1047.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 32 من أبواب النجاسات، الحديث 9، ص 1048.
44

[...]
ويشهد لما قلنا: ذيل الرواية الثانية وهي جملة: " قلت: فأطأ على الروث
الرطب، قال: لا بأس، أنا والله ربما وطأت عليه، ثم أصلي ولا أغسله " فإن قوله (عليه السلام)
" ثم أصلي " يدل على أن المنع إنما هو من ناحية نجاسة البدن، لامن ناحية دخول
المسجد.
ومنها: روايات مستفيضة دالة على جواز اتخاذ الكنيف مسجدا بعد تنظيفه و
طمه بالتراب.
كصحيحة الحلبي، " أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام): عن مسجد يكون في الدار، فيبدو
لأهله أن يتوسعوا، بطائفة منه أو يحولوه عن مكانه، فقال: لا بأس بذلك، قال: قلت:
فيصلح المكان الذي كان حشا زمانا أن ينظف ويتخذ مسجدا؟ فقال: نعم، إذا القي
عليه من التراب ما يواريه، فإن ذلك ينظفه ويطهره ". (1)
وكرواية علي بن جعفر عن أخيه، موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: " سألته عن بيت
كان حشا زمانا، هل يصلح أن يجعل مسجدا؟ قال: إذا نظف فأصلح، فلا بأس ". (2)
وكرواية مسعدة بن صدقة الربعي، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: " سئل،
أيصلح مكان الحش أن يتخذ مسجدا؟ فقال: إذا ألقى عليه من التراب ما يواري ذلك،

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 10 و 11 من أبواب أحكام المساجد،
الحديث 1، ص 488 و 490.
(2) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 7،
ص 491.
45

[...]
أو يقطع ريحه، فلا بأس، وذلك، لأن التراب يطهره، به مضت السنة ". (1)
إلى غير ذلك من الروايات.
وقد اعتمد بعض الأعاظم (قدس سره) على هذه الأخبار، وادعى أن مقتضاها أمران:
أحدهما: وجوب إزالة النجاسة عن المساجد.
ثانيهما: وجوب إزالتها عن ظاهر المساجد دون باطنها، وإليك نص كلامه:
" فمقتضى تلك الأخبار أن المسجدية والنجاسة أمران متنافيان، ولا يجتمعان، فتجب
إزالتها عنه كما يحرم تنجيسه، ثم إنها إنما تقتضي وجوب إزالة النجاسة عن ظاهر
المساجد فحسب... لعدم منافاة نجاسة الباطن مع المسجدية، وإلا لم يكف طم
الكنيف في جواز اتخاذه مسجدا، لأن طمه إنما يقطع رائحته، ويمنع عن سراية نجاسته،
لا أنه يطهره، كما لعله ظاهر ". (2)
هذا، ولكن الحق: أن الأخبار لا تقتضي شيئا من الأمرين:
أما الأول: فلان المراد من المسجد في هذه الروايات ظاهرا هو المصلى و
المكان المخصوص الذي اتخذ للصلاة، لا المسجد المصطلح، كما يظهر ذلك لمن نظر إلى
صدر صحيحة الحلبي، وتأمل فيه، سيما في هذه الجملة: " أو يحولوه عن مكانه " و
كلمة: " يتخذ " الواردة في سائر الروايات.

(1) الإستبصار: ج 1، الباب 272، في باب بئر الغائط يتخذ مسجد، الحديث 4، ص 441 و
442، وفي وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 5،
ص 490 و 491، مع اختلاف يسير.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 274 و 275.
46

[...]
ولقد أجاد الإمام الراحل (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: "... فيكون سؤاله
عن جواز السجدة على مكان كان حشا بعد تنظيفه، وأما الحمل على السؤال عن
بناء المسجد، أو الوقف للمسجدية، فبعيد عن سوق الروايات ". (1)
ويشهد على ما ذكرنا: حديث عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" الأرض كلها مسجد إلا بئر غائط، أو مقبرة ". (2)
وأما الثاني: فلعدم ثبوت الفرق - بعد ما قلنا: بوجوب الإزالة - بين ظاهر
المسجد وباطنه، إذ المفروض أن عنوان المسجد يصدق على كليهما، كما أفاده الإمام
الراحل (قدس سره). (3)
ثم إن بعض المعاصرين أجاب عن الأمر الثاني بوجه آخر وهو قوله: " إن
ظاهر الروايات كون الطم وإلقاء التراب مطهرا، بل كونه أطهر من تنظيف المكان
الذي يكون ظاهره التنظيف بالماء، لا مجرد جمع العذرات والكثافات عنه ". (4)
وفيه: أن الطم ليس من المطهرات، بل هو لكمال النظافة، كما هو واضح.

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 445.
(2) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 11 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 8،
ص 491.
(3) راجع، كتاب الطهارة: ج 3، ص 446.
(4) تفصيل الشريعة، كتاب النجاسات وأحكامها: ص 297.
47

بل والطرف الخارج على الأحوط، إلا أن لا يجعلها الواقف جزءا
من المسجد، بل لو لم يجعل مكانا مخصوصا منها جزءا، لا يلحقه الحكم،
]
لا ريب: أن عنوان المسجد كعنوان البيت والدار، عنوان معهود واسم لبناء
مخصوص من الأرض والجدران والسقف، داخلها وخارجها.
وعليه: فلو وجبت إزالة النجاسة عنه، وجبت عن جميع أجزائه.
وبعبارة أخرى: يكون عنوان المسجد من باب عنوان الكل والمركب، له
أجزاء داخلية وخارجية، فإذا ترتب الحكم عليه، ترتب على أجزائه بأسرها،
داخلية أو خارجية.
وعليه: فما يقال: من أن المتيقن من معاقد الإجماع والروايات هو تطهير ظواهر
المسجد ودواخله، مردود، إذ المدار هو صدق عنوان المسجد، والمفروض صدقه على
الأجزاء بتمامها من الخارج والداخل، لاعلى كل واحد واحد منها - صدق المطلق أو
الكلي على الفرد - حتى يؤخذ بالمتيقن منه كالأخذ بالمتيقن من المطلقات أو الكليات. (1)
ومن هنا ظهر: أنه لاوجه لما عن المصنف (قدس سره) ومن تبعه (2) من الحكم بوجوب
إزالة النجاسة عن داخل المسجد، والاحتياط بإزالتها عن خارجه.

(1) راجع، كتاب الطهارة، ج 3، ص 446، حيث قال: " المسجد عنوان معهود واسم للمعبد
المعهود بين المسلمين... وهو مجموع ما جعلت للمعبدية أرضها إلى مقدار متعارف وسقفها و
جدارها داخلا وخارجا، وليس المسجد من قبيل المطلق حتى يؤخذ بالقدر المتيقن فيه، بل هو
كالعلم اسم لهذه الأبنية ".
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 288، حيث قال: "... وإن كانت الإزالة عن
خارجه وعدم تنجيسه هو الأحوط "، وتفصيل الشريعة، كتاب النجاسات وأحكامها، ص 300
حيث قال: " ولكن الإحتياط لا ينبغي تركه ".
48

ووجوب الإزالة فوري، فلا يجوز التأخير بمقدار ينافي الفور
العرفي. *
ويحرم تنجيسها، أيضا، * *]
فورية وجوب الإزالة
* والسند في الحكم بفورية وجوب إزالة النجاسة عن المساجد هو شرافتها
وكونها بيوت الله المعدة لعبادته، فيجب تطهيرها، وإزالة النجاسة عنها فورا، حتى
لا يلزم الهتك والإهانة.
وأما التمسك بصحيحة علي بن جعفر المتقدمة لإثبات فورية الإزالة، معللا بما
فيها من عدم جواز الصلاة قبل جفاف البول. (1)
ففيه: ما عرفت: من أنها أجنبية عن مسألة وجوب إزالة النجاسة عن
المساجد، فضلا عن دلالتها على فورية الإزالة.
تنجيس المساجد
* * هذا هو الفرع الثاني، والدليل عليه: هي الملازمة العرفية بين م

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 47.
49

بل لا يجوز إدخال عين النجاسة فيها وإن لم تكن منجسة إذا كانت
موجبة لهتك حرمتها، بل مطلقا على الأحوط، *
]
وجوب الإزالة وحرمة التنجيس، فلو قيل: بوجوب الإزالة وتمت دلالة ما ذكر
من الأدلة عليه، ثبتت حرمة التنجيس عرفا، كما أن حرمة تنجيس المسجد لو ثبتت
من طريق آخر، كالهتك والإهانة، استلزمت وجوب الإزالة عنها عرفا.
وبالجملة: يستفيد العرف من وجوب إزالة النجاسة عن المساجد وهو
الرفع، حرمة تنجيسها وهو الدفع، كما أنه يستفيد من حرمة التنجيس - أيضا -
وجوب الإزالة.
على أنه لو قلنا: بحرمة إدخال النجاسة في المسجد مطلقا ولو لم تكن مسرية (1)،
فلابد من القول بحرمة تنجيسه بالأولوية القطعية.
إدخال عين النجاسة في المساجد
* هذا هو الفرع الثالث:
توضيحه: أنه لا اشكال - بناءا على حرمة تنجيس المساجد - في عدم جواز
إدخال عين النجاسة فيها إذا كانت مسرية، وذلك، للزوم التنجيس مع السراية، و
كذا لا إشكال في عدم جوازه إذا استلزم الهتك والإهانة وإن لم يلزم التنجيس.
إنما الإشكال في حرمة مجرد إدخالها فيها بلا لزوم تنجيس وهتك وإهانة، كما
إذا جعل النجاسة في قارورة وسد رأسها ووضعها في جيبه.

(1) كما سيأتي في الفرع الثالث.
50

[...]
وقد نسب إلى المشهور حرمة ذلك (1)، واستدل له بالكتاب والسنة:
أما الكتاب فهو قوله تعالى: * (انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد
الحرام) *. (2)
تقريب الاستدلال به يتوقف على أمور:
الأول: أن القرب كناية عن الدخول.
الثاني: أن نجاسة المشركين غير متعدية.
الثالث: عدم القول بالفصل بين المسجد الحرام وسائر المساجد في حرمة
إدخال النجاسة.
فالنتيجة هو أن الآية كانت بصدد إثبات حرمة إدخال النجاسة في المساجد
مطلقا ولو لم تكن مسرية متعدية.
وفيه: أنه قد مضى في مبحث النجاسات: أن المقصود من النجاسة في الآية
غير النجاسة الشرعية المعهودة، ولو سلم ذلك، فهي مختصة بالمشركين، أو بالكفار
مطلقا، ولا تعم سائر النجاسات.
ولقد أجاد الإمام الراحل (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " إن حمل المصدر
على الذات لا يصح إلا بادعاء وتأويل، وهو لا يصح إلا في مقام المبالغة، سيما مع

(1) كفاية الأحكام، ص 12، حيث قال: " والمشهور بين الأصحاب أنه لا يجوز إدخال
النجاسة في المسجد، سواء كانت متعدية أم لا ".
(2) سورة التوبة (9): الآية 28.
51

[...]
المقارنة لكلمة: " إنما " المفيد للحصر أو التأكيد، فكأنه قال: لا حيثية للمشركين إلا
حيثية القذارة، أو المشركون بتمام حقيقتهم عين القذارة... وإنما تفرع عدم قرب
المسجد الحرام على هذه المرتبة من النجاسة الإدعائية، وهي مختصة بالمشرك أو هو
وسائر الكفار، وأما سائر النجاسات فلا دليل على إلحاقها بهم مالم يدعي لها ما
ادعى، فالحكم لم يتفرع على النجس " بالكسر " حتى يتعدى إلى سائر النجاسات، بل
على ما بلغ مرتبة يدعى له هذه الدعوى على سبيل المبالغة....
وبالجملة: إسراء الحكم من هذه الحقيقة الإدعائية المبنية على ما أشرنا إليه
إلى غيرها مشكل، بل ممنوع ". (1)
هذا كله، مضافا إلى أن من المحتمل قويا هو المنع عن الدخول لعمل المناسك،
لا المنع عن مطلق الدخول، فلعل الآية (2) تكون كناية عن مثل هذا، ويكون قوله
تعالى: * (بعد عامهم هذا) * قرينة على ذلك المحتمل، كما أن معهودية شد
رحال المشركين في كل سنة إلى المسجد الحرام لعمل المناسك - أيضا - قرينة عليه.
وتشهد على هذا المدعى روايات:
منها: ما عن ابن عباس (في حديث): " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث عليا (عليه السلام)
ينادي لا يحج بعد هذا العام، مشرك ولا يطوف بالبيت عريان... ". (3)

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 439 و 440.
(2) سورة البقرة (9): الآية 28.
(3) وسائل الشيعة: ج 9، كتاب الحج، الباب 53 من أبواب الطواف، الحديث 1، ص 463،
ففي مجمع البيان، ج 5، ص 20: " والعام الذي أشار إليه، هو سنة تسع الذي نادى فيه علي (عليه السلام)
بالبراءة ".
52

[...]
ومنها: ما عن حريز، عن أبي عبد الله (عليه السلام) (في حديث براءة) أن عليا (عليه السلام)
قال: " لا يطوف بالبيت عريان ولا عريانة ولا مشرك... ". (1)
ومنها: ما عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " خطب علي (عليه السلام) بالناس
واخترط سيفه وقال: لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحجن بالبيت مشرك ". (2)
منها: ما عن حكيم بن الحسين، عن علي بن الحسين (عليه السلام) (في حديث): " إن
عليا (عليه السلام) نادى في الموقف، ألا لا يطوف بعد هذا العام عريان، ولا يقرب مسجد الحرام
بعد هذا العام مشرك ". (3)
هذا كله في الآية.
وأما السنة: فهي الحديث النبوي المتقدم: " جنبوا مساجدكم النجاسة ". (4)
بتقريب: أن النجاسة التي أمر فيه بإبعادها عن المساجد، تعم ما إذا لم تكن
مسرية متعدية، ولم يكن مصداقا للهتك والإهانة.
وعليه: فمقتضى " الحديث " حرمة إدخال النجاسة في المساجد، ولو لم يستلزم
تنجيسها ولاهتكها.

(1) وسائل الشيعة: كتاب الحج، ج 9، الباب 53 من أبواب الطواف، الحديث 7، ص 464.
(2) كتاب التفسير للعياشي: ج 2، ص 74، وفي وسائل الشيعة: ج 9، كتاب الحج، الباب 53
من أبواب الطواف، الحديث 5، ص 464، وفيه: " خطب علي الناس ".
(3) وسائل الشيعة: ج 9، كتاب الحج، الباب 53 من أبواب الطواف، الحديث 6، ص 464.
(4) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 24 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2، ص 504.
53

[...]
وفيه: مضافا إلى ضعف سنده بالإرسال، أنه قاصر الدلالة على المدعى،
وذلك، لاحتمال أن يكون المراد من النجاسة، معناه المصدري الحدثي، فيدل " الحديث "
على حرمة تنجيس المساجد، لكونه تلويثا موجبا للهتك والإهانة، لا أن المراد منها
عين النجاسة كي يستفاد من " الحديث " المنع عن إدخالها في المساجد ولو لم يستلزم
التلويث ولا الهتك.
وبالجملة: ليس المراد من " الحديث " المنع عن إدخال البول والدم ونحوهما
من الأعيان النجسة في المساجد، بل المراد منه: لا تنجسوا مساجدكم ولا تلوثوها
بالنجاسات.
هذا، مضافا إلى أن تجنيب المساجد عن النجاسات، غير إدخالها فيها، كما
لا يخفى.
ثم إن السيد الحكيم (قدس سره) أجاب عن " الحديث " بقوله: " من المحتمل أن يكون
المراد منه، مسجد الجبهة، كما يشهد به إضافته إلى ضمير الجمع ". (1)
وفيه: أن هذا الإحتمال خلاف ظاهر كلمة: " مساجدكم " بل الظاهر أن المراد
منها بيوت الله، كما يشهد عليه ما ورد في الأخبار، من قوله (عليه السلام): " جنبوا مساجدكم
البيع، والشراء، والمجانين، والصبيان ".

(1) مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 493.
54

وأما إدخال المتنجس، فلا بأس به مالم يستلزم الهتك. *
(مسألة 3): وجوب إزالة النجاسة عن المساجد كفائي،
ولا اختصاص له بمن نجسها أو صار سببا، فيجب على كل أحد. * *]
إدخال المتنجس في المساجد
* هذا هو الفرع الرابع.
وقد انقدح وجه ذلك، مما ذكرنا في الفرع الثالث، فلا حاجة فيه إلى بحث مستقل.
كفائية وجوب إزالة النجاسة
* * والوجه في كون إزالة النجاسة عن المساجد واجبا كفائيا، هو أن الإزالة
غير قابلة للتكليف مع قيام بعض المكلفين بها، فحينئذ تجب الإزالة كفائيا على كل
أحد مطلقا ولو لم يكن التنجيس مستندا إليه، ولا دليل على كون المقام واجبا عينيا،
نظير إنفاق الوالد على ولده، أو العكس، حيث إنه واجب عيني على كل واحد منهما،
إلا أنه لو عصى ولم ينفق، وجب على الناس كفاية، حفظا لنفس محترمة.
ونظير تجهيز الميت المسلم - من الغسل والكفن والصلاة والدفن - الذي يكون
من الواجبات العينية على وليه مباشرة أو تسبيبا، لكن لو عصى وجب على المسلمين
كفاية. م
55

(مسألة 4): إذا رأى نجاسة في المسجد وقد دخل وقت الصلاة،
تجب المبادرة إلى إزالتها مقدما على الصلاة مع سعة وقتها، ومع الضيق
قدمها، ولو ترك الإزالة مع السعة واشتغل بالصلاة، عصى لترك الإزالة،
لكن في بطلان صلاته إشكال، والأقوى الصحة.
هذا إذا أمكنه الإزالة، وأما مع عدم قدرته مطلقا أو في ذلك الوقت،
فلا إشكال في صحة صلاته، ولافرق في الإشكال في الصورة الأولى، بين
أن يصلي في ذلك المسجد، أو في مسجد آخر، وإذا اشتغل غيره بالإزالة،
لا مانع من مبادرته إلى الصلاة قبل تحقق الإزالة. *
]
وعليه: فلاوجه لما عن الشهيد الأول (قدس سره) من التفصيل: بين التنجيس المستند
إلى فاعل مختار، فتجب الإزالة عليه عينيا، وبين التنجيس المستند إلى غيره، فتجب
على الجميع كفائيا. (1)
الإزالة في وقت الصلاة
* الكلام في المسألة يقع في أربعة صور:
الأولى: في سعة وقت الصلاة، فيحكم فيها بوجوب المبادرة إلى الإزالة و
تقديمها على الصلاة، إذ المفروض أن الصلاة واجب موسع، والإزالة واجب مضيق.

(1) ذكرى الشيعة، ص 157، حيث قال: " لو كان في المساجد نجاسة ملوثة وجب إخراجها
كفاية، ولو أدخلها مكلف تعين عليه الإخراج " الطبعة القديمة.
56

[...]
ومن الواضح: أن الموسع لا يزاحم المضيق، كما هو المقرر في الأصول.
نعم، لو ترك الإزالة حينئذ واشتغل بالصلاة ولو في مسجد آخر أو مكان
ثالث، فالأقوى هو الحكم بصحة الصلاة، وذلك، إما لتعلق الأمر بالمهم على تقدير
عصيان الأهم، بناءا على القول بالترتب.
أو لدعوة الأمر المتعلق بالطبيعة، بناءا على القول بعدمه مع احتياج العبادة إلى
الأمر (1)، بأن يأتي بالفرد المزاحم مع المضيق، بداعي الأمر المتعلق بطبيعية الجامع بين
الأفراد، كما أشار إليه صاحب الكفاية (قدس سره). (2)
أو لدعوة الملاك الموجود في الصلاة، بناءا على القول بعدم احتياج العبادة إلى
الأمر، كما ذهب إليه المحقق الخراساني (قدس سره). (3)

(1) نعم، يمكن تصحيح الصلاة، بناءا على هذا القول بوجه آخر - أيضا - كما أفاده شيخنا
الأستاذ الآملي (قدس سره): " من تصوير الأمر بالمهم في عرض الأمر بالأهم، وقد حررنا هذا المبنى في
الأصول بما لا مزيد عليه " تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
(2) كفاية الأصول، ج 1، ص 219، حيث قال: " نعم، فيما إذا كانت موسعة وكانت مزاحمة
بالأهم في بعض الوقت لافي تمامه، يمكن أن يقال: إنه حيث كان الأمر بها على حاله وإن صارت
مضيقة بخروج ما زاحمه الأهم من أفرادها من تحتها، أمكن أن يؤتى بما زوحم منها بداعي ذاك
الأمر ".
(3) كفاية الأصول، ج 1، ص 212 و 218 و 219، حيث قال في رد مقالة الشيخ البهائي (قدس سره)
القائل باحتياج العبادة إلى الأمر، ما هذا لفظه: " وفيه: أنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى
كي يصح أن يتقرب به، منه، كما لا يخفى ". وقد نص عليه، بعد إبطال الترتب بقوله: " فقد ظهر أنه
لاوجه لصحة العبادة مع مضادتها لما هو أهم منها، إلا ملاك الأمر ".
57

[...]
ثم إن ما قويناه في هذه الصورة من صحة الصلاة بترك الإزالة، مبني على
القول بعدم اقتضاء الأمر بالشئ للنهي عن ضده وإن اقتضى عدم الأمر بضده.
وأما على القول بالاقتضاء، فلا مناص من البطلان، مضافا إلى العصيان،
لأجل النهي المتعلق بالضد المفروض كونه عبادة، وقد قرر في محله: أن النهي في
العبادة ولو كان غيريا يقتضي فسادها.
الصورة الثانية: في ضيق وقت الصلاة، فيحكم فيها بتقديم الصلاة على
الإزالة، وذلك، لأن المفروض: أن الواجبين حينئذ مضيقان، فيقدم الأهم منهما وهو
الصلاة، لأنها لا تترك بحال.
الصورة الثالثة: في عدم القدرة على الإزالة مطلقا، أو في ذلك الوقت،
فيحكم فيها بصحة الصلاة، كما ذهب إليه المصنف (قدس سره).
والوجه فيه: سقوط الأمر بالإزالة عن الفعلية، لأجل العجز وعدم القدرة،
وبقاء الأمر بالصلاة سليما عن المزاحمة.
الصورة الرابعة: في اشتغال الغير بالإزالة، فيحكم فيها بجواز المبادرة إلى
الصلاة، وذلك، لما تقدم من أن وجوب الإزالة كفائي، فمع مبادرة الغير إليها واشتغاله
بها يسقط التكليف عن الآخر، فإذا، لا مانع من مبادرته إلى الصلاة واشتغاله بها.
58

(مسألة 5): إذا صلى ثم تبين له كون المسجد نجسا، كانت صلاته
صحيحة، وكذا إذا كان عالما بالنجاسة ثم غفل وصلى،
]
الصلاة في المسجد مع كونه نجسا
ولا يخفى: أنه بناءا على القول بصحة الصلاة مع العلم بالنجاسة، للوجوه
المذكورة في المسألة المتقدمة، من وجود الأمر الترتبي، أو الأمر المتعلق بطبيعي الصلاة
أو الملاك، لا مجال للبحث عن صحتها في هذه المسألة، إذ الحكم بصحتها مع فرض
الجهل والغفلة يكون بالأولوية القطعية.
نعم، للبحث عنها مجال، بناءا على القول ببطلان الصلاة في صورة العلم
بالنجاسة، إما لاقتضاء الأمر بالنجاسة للنهي عن ضدها وهو الصلاة، أو لعدم وجود
الأمر بالضد، بناءا على عدم كفاية الملاك فيه، أو لعدم وجود الملاك - بناءا على كفايته -
بعد فقد الأمر الذي يستكشف به الملاك. (1)
فنقول في توضيح البحث: إنه بعد الفراغ عن عدم اقتضاء الأمر بالشئ للنهي
عن ضده، لو قلنا: بتزاحم الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة، وأنه لا أمر للفرد من الصلاة
المزاحم للإزالة، لكونها موسعة والإزالة مضيقة، بل الأمر يتوجه بحكم العقل إلى
الفرد الآخر غير المزاحم، حفظا لغرض المولى، وجمعا بين الحقين، فلا مناص من
الحكم بفساد الصلاة وبطلانها عند ترك الإزالة، وذلك، إما لعدم الأمر، كما هو

(1) هذا كله مما أفاده شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) في تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
59

[...]
المفروض، أو لعدم الملاك - بناءا على كفايته - بعد فقد الأمر.
والحق: عدم الفرق في ذلك بين العلم بالنجاسة، والجهل بها بجميع أنحائه
من الجهل البسيط، والمركب، والغفلة.
والوجه فيه: هو أن تقييد الأمر بالصلاة بصورة عدم المزاحمة، إنما هو تقييد
واقعي مع قطع النظر عن العلم والجهل.
وعليه: ففي صورة الجهل كصورة العلم، إما لا أمر للفرد المزاحم، بناءا على
لزومه في صحة العبادة، أو لاملاك فيه - بناءا على كفايته في صحتها - لفقد الأمر
الكاشف عن الملاك.
نعم، يمكن أن يقال: بوجود الأمر التخيلي في بعض أنحاء الجهل، إلا أنه لا شأن
لهذا الأمر، ضرورة أن المصحح للعبادة، إنما هو الأمر الواقعي، لا مطلق الأمر ولو كان
تخيليا.
هذا كله، بناءا على عدم اختصاص المزاحمة بصورة العلم، وأما بناءا عليه،
فلا تقييد في فرض الجهل، للأمر بالصلاة بصورة عدم المزاحمة، فتصح الصلاة بترك
الإزالة مع سعة وقتها لمكان الأمر حينئذ قطعا، بلا فرق بين أنحاء الجهل من البسيط و
المركب، والغفلة، كما لا يخفى.
ربما يتوهم الفرق بين صورة الغفلة والنسيان، وبين صورة الجهل البسيط وهو
الشك والترديد، بأن مقتضى الأولى: صحة الصلاة، لعدم تعلق النهي بالمغفول عنه، و
عدم تمكن المكلف حينئذ من الامتثال ولو على وجه الإحتياط، وأن مقتضى الثانية:
60

[...]
بطلانها لصحة تعلق النهي بفعل الجاهل، حيث إنه متمكن من الامتثال ولو بنحو
الإحتياط، وترك ما يحتمل حرمته، وذلك، لبقاء الالتفات إلى التكليف في صورة
الجهل البسيط.
وفيه: أن الجاهل الشاك وإن كان متمكنا من الامتثال بالاحتياط، إلا أن
هذا المقدار من الفرق لا يجدي بعد شمول المؤمن (حديث الرفع (1)) له.
هذا كله، لو قلنا: بابتناء فساد الصلاة على المزاحمة بعد الفراغ عن عدم اقتضاء
الأمر بالشئ للنهي عن ضده.
وأما لو كان وجه الفساد: هو أن الأمر بالإزالة يقتضي النهي عن الصلاة،
فيقال: مآل هذا إلى اجتماع الأمر والنهي، فحينئذ، لو قلنا: باندراجهما تحت كبرى
التزاحم، كانت النتيجة: صحة الصلاة في ظرف الجهل مطلقا ولو على القول بالامتناع،
ولهذا تسالم الأعلام على صحة الصلاة في الدار المغصوبة على تقدير الجهل. (2)
وأما لو قلنا: بامتناع اجتماع الأمر والنهي واندراجهما تحت كبرى التعارض و
رجحنا جانب النهي، كانت النتيجة: بطلان الصلاة في ظرف الجهل، كما تصح الصلاة،
لو رجحنا جانب الأمر على النهي. م

(1) وسائل الشيعة: ج 11، كتاب الجهاد، الباب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه،
الحديث 1، ص 295.
(2) راجع، فوائد الأصول: ج 1 و 2، ص 443.
61

وأما إذا علمها أو التفت إليها في أثناء الصلاة، فهل يجب إتمامها ثم
الإزالة، أو إبطالها والمبادرة إلى الإزالة؟ وجهان، أو وجوه، والأقوى
وجوب الإتمام. *]
والحق: أنه لو قلنا: باقتضاء الأمر بالإزالة، للنهي عن الصلاة، كان المقام
مندرجا تحت كبرى التعارض، لتعلق الأمر والنهي بشئ واحد ذي عنوان واحد و
هو الصلاة، فتكون مأمورا بها بأمر نفسي أصلي، ومنهيا عنها بنهي غيري تبعي، فإذا
رجح النهي بطلت الصلاة مطلقا، حتى حال الجهل.
اللهم إلا أن يقال: بعدم اقتضاء النهي الغيري للبطلان والفساد.
العلم بنجاسة المسجد أثناء الصلاة
* يقع الكلام في المسألة تارة في الحكم التكليفي، واخرى في الحكم
الوضعي.
أما الحكم التكليفي، ففيه وجوه، بل أقوال أربعة:
الأول: وجوب إتمام الصلاة، ثم الإزالة، وإليه ذهب المصنف (قدس سره).
والدليل عليه: عدم منافاة الإتمام مع الفورية المعتبرة في الإزالة، وهي الفورية
العرفية لا الدقية العقلية.
وعليه: فوجوب الإزالة لا يزاحم حرمة قطع الصلاة، فيجب حينئذ إتمام
الصلاة ثم الإزالة.
62

[...]
وإن شئت فقل: إن مقصود القائل بفورية الإزالة في سعة وقت الصلاة هي
الفورية العرفية، لا الدقية العقلية، فإذا لا ينافيها إتمام الصلاة، كما لا ينافيها غيرها مما
كان المكلف مشتغلا به، كأكل الغذاء وشرب الماء وغيرهما من الأمور التي يحتاج
إليها، فتجب الإزالة بعد إتمام الصلاة وغيرها بلا لزوم الإخلال بالفورية العرفية.
هذا، ولكن قد يقال: بوجوب إتمام الصلاة ولو كان مخلا بالفورية العرفية،
بدعوى: أن تقديم الإزالة إنما هو لأجل الأهمية، والمتيقن منها، هي صورة العلم
بالنجاسة قبل الدخول في الصلاة، وأما بعده، فلا أهمية للإزالة بالنسبة إلى الصلاة،
لانصراف أدلتها عن هذه الصورة.
وفيه: أن الدعوى المذكورة، إنما تتم لو كان المدرك في وجوب الإزالة هو
الإجماع، فيؤخذ حينئذ بالقدر المتيقن وهو وجوبها قبل الدخول في الصلاة لابعده.
وأما لو كان المدرك هو الدليل اللفظي، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " جنبوا مساجدكم
النجاسة " فلا مجال لتلك الدعوى، إذ المفروض أن مقتضى النبوي هو وجوب الإزالة
في جميع الأزمنة حتى الآن الأول، فكأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الرواية نهى عن تنجيس
المساجد بلسان الأمر بتجنيب المساجد عن النجاسة.
وعليه: فكما أن امتثال النهي في مثل: " لا تشرب الخمر " يتحقق بترك شرب
جميع الأفراد في جميع الأزمان، كذلك امتثال الأمر في الرواية.
ودعوى انصراف أدلة وجوب الإزالة عن صورة العلم بالنجاسة أثناء
الصلاة، كما ترى، لعدم إمكان القول بوجوب إتمامها لو صدق معه الهتك والإهانة.
63

[...]
وبالجملة: لو كان دليل وجوب فورية الإزالة من قبيل الأدلة اللبية،
كالإجماع، يمكن الاقتصار على فوريتها فيما إذا كان العلم بالنجاسة والالتفات إليها
قبل الدخول في الصلاة، وأما بعده، فلا، وذلك، للأخذ بالقدر المتيقن من الدليل
اللبي، وأما لو كان من قبيل الأدلة اللفظية، فاللازم حينئذ هو الحكم بوجوب
الإزالة فورا، بلا فرق بين زمان وزمان آخر من الأزمنة، لرجوع وجوب الإزالة و
الأمر بها إلى النهي عن وجود النجاسة في المسجد على نحو الطبيعة السارية.
هذا مما أفاده شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره).
ولكن الظاهر: أن الأدلة اللفظية - من الكتاب (1) والسنة (2) - التي يترائى
منها الدلالة على وجوب الإزالة، لا تدل على الفورية العقلية المنافية لإتمام الصلاة و
نحوها مما كان المكلف مشتغلا به، كالأكل والشرب وغيرهما من الأمور المحتاج
إليها، بل هي دالة على الفورية العرفية التي لا تنافي إتمام الصلاة ونحوها وإن قلنا: بأن
مرجع تلك الأدلة إلى النهي عن وجود النجاسة في المسجد، على وجه الطبيعة السارية
المستوعبة لجميع الأزمنة.
والوجه فيما ذكرنا، هو ما عرفت: من أن المعيار في مفهوم الفورية كسائر

(1) كقوله تعالى: * (وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) * سورة الحج (22):
الآية 26، وقوله تعالى: * (ولا يقربوا المسجد الحرام) * سورة التوبة (9): الآية 28.
(2) كالرواية المتقدمة الدالة على جواز اتخاذ الكنيف مسجدا بعد طمه، وكقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" وجنبوا مساجدكم النجاسة ".
64

[...]
المفاهيم هو الفهم العرفي، لا الدقي العقلي.
وعليه: فالإطلاقات الدالة على الفورية، إنما تنزل على العرفية منها
لا العقلية.
والذي يسهل الخطب، عدم دلالة الأدلة المذكورة على نفس وجوب الإزالة،
فضلا عن الفورية.
ثم إن المحقق العراقي (قدس سره) قد استدل على ما في المتن من وجوب إتمام الصلاة ثم
الإزالة، باستصحاب حرمة القطع. (1)
وقد أورد عليه السيد الحكيم (قدس سره) بما حاصله: أن المقام مندرج تحت كبرى
المزاحمة، للقطع ببقاء ملاك وجوب الإتمام، غاية الأمر: زاحمه ملاك وجوب الإزالة،
فيقدم الأهم لو كان، وإلا فيحكم بالتخيير لو لم تحرز، عملا بقاعدة التزاحم، ولا يصل
الدور إلى أصل من الأصول العملية المبتنية على أساس الشك والريب. (2)
وفيه: أن المزاحمة بين الملاكين وإن كانت متحققة، إلا أن المفروض عدم
ترجيح أحدهما على الآخر، فإذا بما أن من المحتمل هنا وجود ملاك أقوى وهو
وجوب الإزالة، يشك في وجوب الإتمام المتيقن قبل طرو المزاحمة، فيستصحب،
ويحكم بوجوبه حينئذ.

(1) تعليقة استدلالية، ص 30، حيث قال: " ففي وجوب الإتمام وجه، لأوله إلى التزاحم بين
وجوب الإزالة وحرمة القطع، فاستصحاب حرمة القطع، يوجب تقديم الإتمام على قطعه و
إزالته ".
(2) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 502.
65

[...]
هذا، إذا لم نقل بدلالة الأدلة اللفظية على الفورية المنافية لإتمام الصلاة، كما هو
مقتضى التحقيق، وإلا فلا يصل الدور إلى الاستصحاب المذكور، بل يجب حينئذ قطع
الصلاة بلا شبهة، إذ المفروض أن الفورية تنافي إتمام الصلاة.
نعم، قطع الصلاة وإن كان محرما، إلا أن الحرمة ثابتة بالإجماع، والقدر
المتيقن منه هو غير صورة المزاحمة، كما لا يخفى.
القول الثاني: التخيير بين إتمام الصلاة وإبطالها، وإليه ذهب بعض
الأعاظم (قدس سره). (1)
ولا يخفى: أن هذا القول مبتن على القول بإخلال الإتمام للفورية العرفية،
وذلك، لأن دليل حرمة إبطال الصلاة، وكذا دليل فورية وجوب الإزالة، ليس إلا
الإجماع، والمتيقن منه، كما أشرنا إليه آنفا، هو غير صورة المزاحمة.
وعليه: ففي صورة المزاحمة لا إجماع على حرمة الإبطال، ولاعلى فورية
وجوب الإزالة، فلا مناص إذا من الإلتزام بتخيير المصلي بين إتمام الصلاة وإبطالها.
القول الثالث: عدم حرمة قطع الصلاة، بل وجوب إبطالها، والمبادرة إلى
الإزالة.
والوجه فيه: هو أن حرمة القطع والإبطال، ليس مستندها هي الأدلة
اللفظية كي يتمسك بإطلاقها أو عمومها بالنسبة إلى المقام، بل مستندها هو الإجماع،

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 57.
66

[...]
والمتيقن منه هو غير مثل المقام الذي يكون قطع الصلاة فيه لأجل فعل واجب آخر،
فتأمل.
القول الرابع: وجوب الإبطال والمبادرة إلى الإزالة على تقدير، ووجوب
الإتمام ثم الإزالة على تقدير آخر.
توضيح ذلك: أنه يفصل بين ما إذا علم المكلف بنجاسة المسجد قبل الورود
في الصلاة فنسيها ودخل فيها، ثم تذكر والتفت إليها في الأثناء، فيجب عليه الإبطال
والمبادرة إلى الإزالة، وبين ما إذا لم يعلم بها قبل الصلاة، بل علم بها في أثناءها، أو
حدثت النجاسة فيه، فيجب عليه الإتمام ثم الإزالة.
والوجه فيه: هو أن في الصورة الأولى يكون التكليف بالإزالة سابقا على
التكليف بالصلاة، فيستصحب وجوب الإزالة، ومقتضاه المبادرة إليها ووجوب
إبطال الصلاة، وفي الصورة الثانية، يكون التكليف بالصلاة، سابقا على التكليف
بالإزالة، عكس الصورة الأولى، فيستصحب وجوب الصلاة، ومقتضاه وجوب
الإتمام ثم الإزالة.
وفيه: أن المفروض هو أن المسألة، كما ذكرناه، مندرجة تحت كبرى المزاحمة،
سواء أحرز التساوي، أو الأهمية، فلابد إذا من إعمال قواعدها بلا فرق بين إحراز
المزاحمة ابتداءا قبل الورود في الصلاة، وبين إحرازها بقاءا وفي أثناءها.
وعليه: فلا مجال لاستصحاب وجوب الإزالة فورا في الصورة الأولى،
بدعوى: كونه سابقا على التكليف بالصلاة، وكذا لا مجال لاستصحاب وجوب إتمام
67

[...]
الصلاة وحرمة قطعها في الصورة الثانية، بدعوى: كونه سابقا على وجوب الإزالة.
هذا كله في الحكم التكليفي.
وأما الحكم الوضعي، فالحق صحة الصلاة في فرض الكلام، سواء قلنا:
بعدم فورية وجوب الإزالة، فالصحة على هذا، واضحة، أم قلنا: بالفورية ولزوم
تقديم الإزالة على الصلاة، فالصحة حينئذ إما مستندة إلى الأمر الترتبي، أو الأمر
المتعلق بطبيعي الصلاة، بناءا على توقف صحة العبادة على الأمر، أو وجود الملاك،
بناءا على كفايته في صحة العبادة.
نعم، يتحقق العصيان، على هذا الفرض، لأجل تأخير الإزالة مع فوريتها عن
الصلاة المضادة لها، فتأمل جيدا.
68

(مسألة 6): إذا كان موضع من المسجد نجسا، لا يجوز تنجيسه ثانيا
بما يوجب تلويثه، بل وكذا مع عدم التلويث إذا كانت الثانية أشد وأغلظ
من الأولى، وإلا ففي تحريمه تأمل، بل منع إذا لم يستلزم تنجيس ما يجاوره
من الموضع الطاهر، لكنه أحوط.]
تنجيس المسجد ثانيا
في المسألة تفصيل بين ما إذا قلنا: بوجوب الإزالة في المسجد وحرمة تنجيسه
مطلقا ولو لم يلزم الهتك والإهانة، وكذا إذا قلنا: بتنجس المتنجس ثانيا مطلقا ولو
لم تكن النجاسة الثانية أشد وأغلظ، فيحكم حينئذ بعدم جواز تنجيس المسجد ثانيا
وإن لم يوجب تلويثه وهتكه، وبين ما إذا لم نقل: بذلك، فيحكم بجواز تنجيسه ثانيا
مطلقا ولو كانت النجاسة الثانية أشد وأغلظ، إلا إذا أوجب الهتك والإهانة.
وقد عرفت سابقا: أن الحق هو حرمة تنجيس المسجد إذا استلزم الهتك و
الإهانة.
وعليه: فمجرد تلويثه بلا لزوم الهتك، كالتلويث بماء فم الكافر، بناءا على
نجاسته، وكذا مجرد أشدية النجاسة الثانية وأغلظيتها بلا استلزام الهتك، كما عن
المصنف (قدس سره) لا شأن له، بل المدار هو صدق الهتك والإهانة.
69

(مسألة 7): لو توقف تطهير المسجد على حفر أرضه، جاز، بل
وجب، وكذا لو توقف على تخريب شئ منه، ولا يجب طم الحفر وتعمير
الخراب، نعم، لو كان مثل الآجر مما يمكن رده بعد التطهير، وجب.]
حفر أرض المسجد للتطهير
لا يخفى: أن وجوب حفر أرض المسجد، أو تخريب شئ منه إذا توقف
تطهيره عليه بعد تسليم وجوب الإزالة، مما لا إشكال فيه، كوجوب سائر مقدمات
الواجب، وكذا لا إشكال في عدم وجوب طم الحفر وتعمير الخراب، إذ المفروض
أنهما فعلا بإذن شرعي، فلا ضمان كي يقتضى وجوب الإصلاح والترميم، كما أنه
لاضمان في حفر أرض شخص، أو تخريب شئ من منزله إذا كان بإذن منه وإجازته.
وأما وجوب رد مثل الآجر مما يمكن رده بعد تطهيره، فلكونه إما جزءا
للمسجد، أو وقفا، كسائر آلات المسجد، فيكتفى بمقدار ما أذن الشارع فيه، من
إخراجه عن المسجد لتطهيره، وأما بعد التطهير، فلا أقل من وجوب رده إلى المسجد
لو لم نقل بوجوب رده إلى محله، ووضعه في مقره من المسجد، وذلك، لعدم الإذن في
تركه بحاله ووضعه في أي مكان شاء.
وهذا، نظير ما إذا أخرج شخص شيئا من أثاث بيت شخص آخر بإذنه
للتطهير والتنظيف، فكما لا يجوز له بعد التطهير أن يتركه بحاله ويضعه في أي مكان
شاء، بل يجب عليه رده إلى صاحبه، كذلك المقام. م
70

(مسألة 8): إذا تنجس حصير المسجد وجب تطهيره، أو قطع
موضع النجس منه إذا كان ذلك أصلح من إخراجه وتطهيره، كما هو
الغالب. *]
وبالجملة: يجب رد مثل الآجر بعد تطهيره إلى المسجد، لكونه وقفا للمسجد
أو للمسلمين، ولذا أفتى الفقهاء بحرمة التصرف في أجزاء المسجد من الحديد والآجر
ونحوهما بعد خرابه، لبقاء تلك الأجزاء على الوقفية وعدم صيرورتها من المباحات
الأصلية، فيجب صرفها في نفس ذلك المسجد مع الحاجة إليه، وإلا ففي المساجد
الاخر حفظا لغرض الواقف في الجملة.
ثم إنه ظهر مما ذكرنا: أن وجوب الرد مطابق للقاعدة، ومعه لا حاجة إلى
الاستدلال على وجوبه برواية معاوية بن عمار (1) الدالة على وجوب رد التراب و
الحصاة المأخوذين من بيت الله كي يرد عليه، بأنه لا مجال للمقايسة بين مورد الرواية،
وبين المقام، وذلك، لأن إخراج الآجر للتطهير إنما هو بإذن الشارع وإجازته، بخلاف
إخراج التراب والحصاة المذكور في الرواية.
تطهير حصير المسجد
* أما وجوب إزالة النجاسة عن حصير المسجد ونحوه من آلاته، فقد

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 26 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2،
ص 506، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أخذت سكا من سك المقام وترابا من تراب البيت
وسبع حصياة، فقال: بئس ما صنعت، أما التراب والحصى، فرده ".
71

[...]
ذهب إليه بعض الأعلام، منهم: الشهيد الثاني (قدس سره) (1)، بل عن المحقق الأردبيلي (قدس سره) (2)،
ما يشعر بالإجماع عليه.
ولكن الظاهر: عدم وجوب الإزالة، إلا إذا كان وجود النجاسة ملازما للهتك
والإهانة، وذلك، لأن الأدلة المتقدمة التي يستدل بها على وجوب إزالة النجاسة عن
المساجد من الإجماع والأدلة اللفظية، لا تدل على وجوبها عن حصيره، أو فرشه و
غيرهما من أدواته، لعدم انتساب هذه الأشياء إلى المسجد، انتساب الجزء إلى الكل.
أما الإجماع، فإن المتيقن منه هو نفس المسجد، لاما هو خارج عنها ويعد من
توابعه.
وأما الأدلة اللفظية من الكتاب والروايات، فإنها - أيضا - بعد تمامية دلالتها
مختصة بالمسجد نفسه، كما لا يخفى على من نظر إليها. هذا بالنسبة إلى وجوب إزالة
النجاسة.
وأما كيفية إزالة النجاسة عن حصير المسجد وغيره من آلاته بعد تسليم
وجوبها، فهل يجب إخراجها عنه وتطهيرها ثم ردها إليه، أو يجب قطع موضع م

(1) مسالك الأفهام، ج 1، ص 47، حيث قال: " إنما يحرم إدخال ما يخاف منه تلويث المسجد
أو آلاته... ويجب إخراج النجاسة منه كفاية " الطبعة القديمة.
(2) مجمع الفائدة والبرهان، ج 1، ص 324، حيث قال: " وإذا ثبت وجوب الإزالة للدخول،
فيجب الإزالة عن أجزاء المسجد، وقالوا: عن فرشه وآلاته، أيضا، وذلك، غير ظاهر... إلا أن
يكون الإجماع ونحوه "، فتأمل.
72

(مسألة 9): إذا توقف تطهير المسجد على تخريبه أجمع - كما إذا كان
الجص الذي عمر به، نجسا، أو كان المباشر للبناء كافرا - فإن وجد متبرع
بالتعمير بعد الخراب جاز، وإلا فمشكل. *]
النجس منها؟ فعن المصنف (قدس سره) أنه يدور ترجيح أحدهما على الآخر، مدار
الأصلح منهما، وهذا هو الصحيح.
ومن المعلوم: أنه يختلف باختلاف الموارد.
تخريب المسجد للتطهير
* لا يخفى: أن المسألة مندرجة في كبرى باب التزاحم، وذلك، لتزاحم
مصلحة تطهير المسجد مع مفسدة تخريبه الموجب لفناء الموضوع وانعدامه، فيقدم
جانب المفسدة على المصلحة، ومعه لا يجوز تخريب المسجد، وذلك، لأن تخريبه ينافي
جهة الوقف.
نعم، لو كانت النجاسة موجبة لمرتبة شديدة من الهتك والإهانة يجوز تخريبه،
لثبوت الترخيص الشرعي حينئذ للتخريب.
هذا، مضافا إلى أنه يمكن أن يقال: بعدم شمول أدلة التطهير لمثل هذه الصورة
الموجبة لانعدام الموضوع بالمرة.
73

(مسألة 10): لا يجوز تنجيس المسجد الذي صار خرابا، وإن
لم يصل فيه أحد، ويجب تطهيره إذا تنجس. *
(مسألة 11): إذا توقف تطهيره على تنجيس بعض المواضع
الطاهرة، لا مانع منه إن أمكن إزالته بعد ذلك، كما أراد تطهيره بصب الماء
واستلزم ما ذكر. * *]
تنجيس المسجد الخراب
* ولا يخفى: أن المراد من الخراب في المسألة هو ما لا يوجب تغير عنوان
المسجد، بل يصدق العنوان عليه عرفا، كدار خربة وحمام خرب ونحوهما مما
لا يزول عنوانه بطرو الخراب عليه، فحينئذ يترتب عليه جميع أحكام المسجد التي
منها وجوب تطهيره إذا تنجس.
وأما الخراب الذي يوجب تغير عنوان المسجد، كما إذا صار المسجد حماما، أو
دارا ونحوهما، فسيجئ البحث عنه في المسألة الثالثة عشر، إن شاءالله.
تنجيس المواضع الطاهرة من المسجد للتطهير
* * والدليل على عدم مانعية تنجيس بعض المواضع الطاهرة من المسجد إذا
توقف تطهيره عليه، هو الانصراف وعدم شمول أدلة حرمة التنجيس لمثل هذه
الصورة. م
74

(مسألة 12): إذا توقف التطهير على بذل مال، وجب، وهل يضمن
من صار سببا للتنجس؟ وجهان، لا يخلو ثانيهما من قوة. *]
وإن أبيت عن ذلك وقلت: بحرمة التنجيس مطلقا، فهنا وجه آخر يدل
على المقام وهو ما اختاره شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) - بعد ما أورد على الانصراف -
من أن المقام مندرج تحت كبرى التزاحم، وذلك، لوقوع المزاحمة بين حرمة التنجيس
ووجوب التطهير، والترجيح مع الثاني، إذ المفروض أنه يمكن إزالة النجاسة الثانية
بعد التطهير. (1)
وعليه: فبالتطهير يلزم طهارة المسجد بأسره، وإن لزم تنجيس بعض
مواضعه - أيضا - في برهة قليلة من الزمن، بخلاف ما إذا رجح جانب حرمة
التنجيس، فإنه يبقى المسجد، حينئذ على النجاسة إلى الأبد.
وبعبارة أخرى: يدور الأمر في المقام، بين بقاء المسجد على النجاسة دائما،
وبين تنجيس موضع طاهر منه مدة، ثم تطهيره بأسره.
ومن المعلوم: أن تنجيس الموضع الطاهر أقل محذورا، ونتيجته وجوب
تطهير المسجد وإن توقف على تنجيس بعض الموضع الطاهر منه، وهذا هو المطلوب.
بذل المال في تطهير المسجد
* الكلام في المسألة يقع في مقامين:

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
75

[...]
أحدهما: في وجوب بذل المال مقدمة للتطهير الواجب ولو كان تنجس
المسجد من قبل ما لا ضمان عليه، كالحيوان.
ثانيهما: في ضمان من صار سببا للتنجس وعدمه.
أما المقام الأول، فنقول في توضيحه: إنه يجب على المكلفين بذل المال إذا
توقف تطهير المسجد عليه وجوبا كفائيا، مشروطا بعدم وجود الأموال الموقوفة
للمسجد، سواء كانت موقوفة لمطلق مصالحه، أو لخصوص تنظيفه وتطهيره، وإلا
فلا يجب البذل على أحد من المكلفين، بل يؤخذ من الأموال الموقوفة، هذا لاكلام فيه.
إنما الكلام في أنه، هل يلاحظ في المقام - أيضا - عدم كون البذل حرجيا، أو
ضرريا على الباذل، أم لا؟
ذهب السيد الحكيم (قدس سره) إلى الأول، حيث قال: " إلا أن يكون ضررا، أو حرجا،
فيرتفع بما دل على نفى الضرر، أو الحرج ". (1)
واختار ذلك - أيضا - بعض الأعاظم (قدس سره) قائسا للمقام بباب تكفين الميت. (2)
ولكن الحق تبعا لشيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) أن يقال: أما الحرج فهو رافع
للتكليف في أي مورد لزم، وأما الضرر المالي الممكن تحمله، فلا.

(1) مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 508.
(2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، ج 2، ص 299 و 300، حيث قال: " وأما إذا كان ضرريا
أو موجبا للحرج، فالظاهر عدم وجوب بذله... ولا غرابة في ذلك، فإنهم ذهبوا إلى أن الميت إذا لم
يكن له مال يشترى به الكفن ولم يكن من تجب عليه نفقته موسرا لا يجب عليه ولا على غيره
شراء الكفن له فإنما يدفن عاريا... ".
76

[...]
ألا ترى أن الصلاة التي تكون واجبة مطلقة يجب تحصيل مقدماتها من ستر
العورة واستقبال القبلة والطهارات الثلاث، وإن احتاج تحصيل هذه الأمور إلى بذل
المال وصرف المؤنة، فالتطهير وإزالة النجاسة عن المسجد، وكذا تجهيز الميت من
الغسل، والكفن، والدفن - أيضا - من الواجبات المطلقة، يجب تحصيل مقدماتها وإن
احتاج إلى صرف المؤنة وبذل المال، وذلك، لوجوب مقدمة الواجب عقلا، أو
شرعا.
وبالجملة: فاحتياج بعض الأحكام في مقام الإمتثال إلى مؤنة قليلة، بل
كثيرة، غير حرجية لا يوجب رفعه بمقتضى قاعدة الضرر.
وقد أورد بعض المعاصرين على القول بعدم وجوب بذل المال إذا كان
ضرريا، أولا: بان لزوم الضرر والحرج، إنما هو إذا لم يجز الرجوع به على من نجسه
ولم يكن ضامنا له، فمن الممكن أن نختار ضمانه فيما سيجئ من البحث عنه، فنفس
الفرض يتوقف على نفي الضمان، وبدونه لا يتحقق أصلا، وثانيا: بثبوت الفرق بين
المقام وبين باب التكفين، وعدم كون المقايسة في محلها، ضرورة أن الواجب هناك
هو التكفين الذي من أعمال المكلفين، وبدون وجود الكفن يكاد لا يتحقق الواجب،
فلا معنى لبقاء وجوبه بدونه. (1)
وفيه: ما لا يخفى، أما الأول: فلأن الكلام فعلا، إنما هو في نفس وجوب بذل

(1) راجع، تفصيل الشريعة، كتاب النجاسات وأحكامها: ص 311.
77

[...]
المال وإن كان التنجيس بفعل ما لاضمان عليه، كالحيوان، والإيراد المذكور ناظر إلى
كلام آخر، وهو ضمان من صار سببا للتنجيس أو عدمه، وسيجئ البحث عنه.
أما الثاني: فلعدم فرق واضح بين المقامين، إذ كما أن التطهير يتوقف على الماء،
والمفروض وجوده، إلا أنه يحتاج تحصيله إلى شراءه من صاحبه، كذلك التكفين،
فإنه - أيضا - يتوقف على الكفن، والمفروض وجوده، إلا أنه يحتاج تحصيله إلى بذل
المال والشراء.
وكما أن موضوع الإزالة متحقق لفرض تلوث المسجد بالنجاسة، كذلك
موضوع التكفين متحقق وهو ميت المسلم - وأيضا - كما لا يكاد يتحقق الواجب و
هو التكفين بلا وجود الكفن، كذلك لا يتحقق الواجب وهو الإزالة بلا وجود الماء.
فتحصل: أن المقايسة بين المقامين كما جاء في كلام بعض الأعاظم (قدس سره) تكون
في محلها.
أما المقام الثاني: وهو ضمان من صار سببا للتنجس، أو عدمه ففيه: وجهان،
كما في المتن.
ذهب جمع من الأعلام منهم: المصنف (قدس سره) إلى عدم الضمان، وتبعه بعض
الأعاظم (قدس سره)، فقال: بعدم ضمان المنجس للمسجد، لا بالنسبة إلى اجرة التطهير، و
لا بالنسبة إلى النقص الحاصل بسبب التنجيس.
أما الأول فقد ذكر في وجهه، ما حاصله: إن تنجيس المسجد كتنجيس مال
الغير، فكما أن في الثاني لاضمان لأجرة تطهيره، كذلك في الأول - بل هو أولى، لعدم
78

[...]
دخوله في ملك مالك أصلا - بدعوى: أن أدلة الضمان إنما تشمل العين وأوصافها من
الصحة والكمال، فإذا غصب دابة سمينة، ثم صارت مهزولة وهي تحت يده، ضمن
النقص الحاصل في قيمتها، وكذا إذا كانت صحيحة، ثم صارت معيبة وهي تحت يده،
وهكذا إذا نجس مال الغير، وصار التنجيس سببا لنقصان في قيمته، أو سببا لسقوطه
عن المالية، نظير ما إذا نجس ماء الغير أو لبنه.
وأما اجرة التطهير وإرجاع المال إلى حالته السابقة، فمما لا دليل على ضمانه.
أما الثاني، فقال في وجهه: إن المساجد موقوفة، ومعنى وقفها، تحريرها،
فلا تقاس بسائر الوقوف التي هي ملك غير طلق، فلاتشملها أدلة الضمان، لاختصاص
أدلته بمال الغير، والمساجد لا تكون أموالا وأملاكا لأحد. (1)
وفيه: أما بالنسبة إلى ما قاله أولا: من عدم الدليل على ضمان اجرة التطهير،
وإرجاع المال إلى حالته السابقة في مال الغير، فلدلالة قاعدة اليد على الضمان، إذ هي
تقتضي لزوم إرجاع نفس العين الخارجية وتأديتها إلى صاحبها إذا كانت مأخوذة
مغصوبة، بعينها وبجميع أوصافها من الصحة والكمال، كما أن مقتضاها، أيضا - بعد
امتناع رد العين بجميع أوصافها - الإكتفاء بالقيمة في القيميات، والمثل في المثليات، أو
بما بين الصحيح والمعيب من التفاوت، ولذا لو أتلف فرس زيد - مثلا - ثم عاد
بصورته الأولية بالإعجاز، وجب عليه تأدية عينه إلى صاحبه، ولا يجوز الإكتفاء
حينئذ برد قيمته إليه.

(1) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 300.
79

[...]
وبالجملة: فالضمان أولا: يتعلق بعين التالف، وهي ثابتة على عهدة المتلف،
ويجب عليه ردها إلى صاحبه، وللمضمون له أن يطالب الضامن عين ماله.
وثانيا: بعد امتناع رد العين إلى صاحبها، يتعلق بقيمتها في القيميات، أو بمثلها
في المثليات، ويشهد على استقرار عين التالف في ذمة المتلف، أنه ضامن لقيمة يوم
الأداء، كما هو الحق، لا يوم التلف.
فعلى ما ذكرنا، لو نجس مال غيره، أو أحدث فيه أمرا موجبا لزوال وصف
الكمال، أو الصحة، وجب عليه رد ذلك المال، وإرجاعه إلى حالته السابقة لو أمكن
وإن احتاج إلى مؤنة، فيجب تطهيره بعد تنجيسه، أو تصحيحه بعد تعييبه، أو تسمينه
بعد تهزيله، إن أمكن ولو بصرف النفقة.
وأما بالنسبة إلى ما قاله ثانيا: من الفرق بين المسجد وغيره من الأموال
الموقوفة بعدم شمول أدلة الضمان للمسجد، لعدم كونه ملكا لأحد، فلأن الفرق المذكور
غير ثابت، إذ المسجد وإن لم يكن ملكا لشخص معين، إلا أنه كان متعلقا لحق
المسلمين والمصلين، فيثبت فيه الضمان، ولا يكون كالمباحات الأصلية، نظير السمكة
في البحر، والحمامة في الفضاء، والغزال في الجبال، مع أن فيها - أيضا - ضمانا و
مؤاخذة من جانب الدول والحكومات.
وبالجملة: فكل من صار سببا لحدوث نقص في المسجد، كان ضامنا، ولو
نجسه وكان تطهيره متوقفا على بذل مال، ضمنه.
80

(مسألة 13): إذا تغير عنوان المسجد بأن غصب وجعل دارا أو
صار خرابا بحيث لا يمكن تعميره ولا الصلاة فيه وقلنا: بجواز جعله مكانا
للزرع، ففي جواز تنجيسه وعدم وجوب تطهيره - كما قيل - إشكال، و
الأظهر عدم جواز الأول، بل وجوب الثاني، أيضا.]
تغير عنوان المسجد
توضيح المسألة يقتضي التكلم في موردين:
أحدهما: في أن المسجد إذا زال عنوانه، فهل يبقى أحكامه من حرمة
التنجيس، ووجوب التطهير ونحوهما، أو لا؟
ثانيهما: في أنه إذا زال عنوانه، فهل تبقى وقفيته، أو لا؟
أما الأول: ففيه وجوه، بل أقوال، أقواها عدم بقاء أحكام المسجد بعد زوال
عنوانه، وذلك، لدوران الأحكام مدار الموضوع والعنوان، وجودا وعدما، حدوثا و
بقاءا، ولذا لا تشمل الأدلة اللفظية الواردة في أحكام المسجد، صورة تغير عنوانه،
كما لا يجري في ذلك - أيضا - استصحاب أحكامه السابقة، لا تنجيزيا ولا تعليقيا.
ومن هنا يظهر، ضعف ما ذهب إليه المصنف (قدس سره) من القول بحرمة التنجيس و
وجوب التطهير، وضعف ما علله بعض الأعاظم (قدس سره) (1) - بعد عدم شمول أدلة اللفظية

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 71 و 72.
81

[...]
لفرض زوال عنوان المسجد - من جريان الاستصحاب التنجيزي في حرمة التنجيس
لفعليتها بفعلية موضوعها، وهو المكان المخصوص الذي كان مسجدا سابقا، ومن
جريان الاستصحاب التعليقي في وجوب التطهير، بتقريب أنه: كان سابقا لو تنجس
وجب تطهيره، والآن، كما كان.
هذا، مضافا إلى أن هذا التقريب للاستصحاب التعليقي في مثل المقام، ممنوع، إذ
المفروض أن التنجس يكون موضوعا لوجوب الإزالة وهو الموجود فعلا، لا معلقا
عليه الحكم، فالأولى أن يقال في التقريب: إن المكان المخصوص لو كان مسجدا لكان
تنجسه يوجب وجوب التطهير، والآن، كما كان، نظير ما يقال في العصير الزبيبي
المغلي: إنه لو كان عصيرا عنبيا وغلى، لكان حراما، والآن، كما كان.
ثم إن ما يتوهم من أن المسجد بعد الخراب وتغير العنوان وإن لم يكن مسجدا
عنوانا، إلا أنه مسجد واقعا وحقيقة، وتجري فيه الأحكام جميعا، ممنوع، لا دليل
عليه، كما أشار إليه شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره). (1)
كما أن دعوى كفاية حدوث العنوان لترتيب الأحكام حتى بعد انهدامه و
زواله، ممنوعة - أيضا - لا حجة لها، ضرورة أن العناوين والموضوعات تكون ذوات
الحدوث والبقاء، فتدور الأحكام مدارها حدوثا وبقاءا، كما تدور مدارها وجودا و
عدما.

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
82

[...]
فتحصل: أنه لو زال عنوان المسجد لم تبق أحكامه مطلقا، إيجابية كانت، أو
سلبية، وذلك، لما أشرنا إليه من دوران الأحكام مدار العنوان حدوثا وبقاءا، هذا
كله في المورد الأول.
وأما المورد الثاني: وهو هل تبقى وقفية المسجد بعد زوال عنوانه، أو لا؟
فالحق فيه أن يقال: ببقاء الوقفية، وذلك، لتعلق الإعتبار الوقفي بنفس المعنون،
لا بالعنوان، والمفروض: أن المعنون لا يزول بزوال العنوان، بل هو باق على حاله،
فتبقى الوقفية، أيضا.
ولقد أجاد المحقق الخراساني (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " السابع: أنه
لا يبطل الوقف بخرابه وانهدام رسمه وزوال عنوانه، وذلك، لكون الوقف، على ما
أشرنا إليه، نحو اختصاص خاص واعتبار مخصوص وهو كسائر الإختصاصات و
الإعتبارات، كالملكية والرهنية إذا تعلق بعين معنونة بعنوان كالدار والخان، يكون
على حاله وإن تغيرت عما هي عليه في حاله، كما إذا انهدما وصارا عرصة، لتعلق
هذه الإعتبارات بنفس المعنونات بواسطة عناوينها، لا بالعناوين على حيالها كي يزول
بزوالها زوال الحكم بزوال موضوعه، وانتفاء العرض بانتفاء معروضه، فتوهم بعض
العامة بطلانه بزوال عنوانه، فاسد قطعا ". (1)
تنبيه: إن ما أفاده المصنف (قدس سره) في المتن من قوله: " وقلنا: بجواز جعله مكانا
للزرع " مراده (قدس سره) هو أن المسجد لصيرورته خرابا بلغ إلى هذا الحد، لا أن الحكم م

(1) قطرات من يراع بحر العلوم، كتاب الوقف: ص 63 و 64.
83

(مسألة 14): إذا رأى الجنب نجاسة في المسجد، فإن أمكنه إزالتها
بدون المكث في حال المرور، وجب المبادرة إليها، وإلا فالظاهر وجوب
التأخير إلى ما بعد الغسل، لكن يجب المبادرة إليه حفظا للفورية بقدر
الإمكان، وإن لم يمكن التطهير إلا بالمكث جنبا، فلا يبعد جوازه بل وجوبه،
وكذا إذا استلزم التأخير إلى أن يغتسل، هتك حرمته. *]
بجواز التنجيس وعدم وجوب التطهير يبتنى عليه، ويكون بينهما الملازمة.
ومن هنا ظهر ضعف ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من: " أن ظاهر المصنف (قدس سره)
تعليق جواز التنجيس وعدم وجوب التطهير على القول بجواز جعل المسجد الخراب
مكانا للزرع، فكأنه يرى الملازمة بين الأمرين ". (1)
ثم إن في المتن مسائل أخرى من جواز جعل المسجد الخراب مزرعة، وغيرها
مما لا ينافي العبادة أو شأن المسجدية، وعدم جوازه، ومن جواز بيعه، أو إجارته، أو
التفصيل بينهما بجواز الإجارة دون البيع، أو غير ذلك، ينبغي إيكالها إلى مبحث الوقف.
تطهير المسجد حال الجنابة
* في المسألة صورتان:
الأولى: ما إذا تمكن الجنب من إزالة النجاسة عن المسجد حال المرور،

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 72.
84

[...]
فيحكم فيها بوجوب مبادرته إلى الإزالة مطلقا، أو على تقدير لزوم الهتك و الإهانة
لو ترك الإزالة، جمعا بين (امتثال وجوب الإزالة، وحرمة المكث).
الثانية: ما إذا لم يتمكن منها، إما لخصوصية المسجد، بأن كان أحد المسجدين
(مسجد الحرام ومسجد النبي) اللذين يحرم المرور فيهما، أو لعدم تمكنه من الإزالة إلا
حال المكث، فتقع المزاحمة حينئذ بين حرمة المرور أو المكث، وبين وجوب الإزالة،
فلابد من إعمال قاعدة باب التزاحم في المسألة، فنقول: إن المزاحمة هنا على ثلاثة
أقسام:
الأول: وقوعها بين حرمة المكث أو المرور، وبين فورية وجوب الإزالة
دون نفس وجوبها مع تمكن المكلف من الغسل فعلا، فهل يغتسل أولا ثم يزيل
مراعاة للحرمة، أو يزيل أولا ثم يغتسل مراعاة للفورية، وجهان، بل قولان:
ذهب المصنف (قدس سره) إلى القول الأول، وتبعه بعض الأعاظم (قدس سره) (1) وهو الصحيح.
ويدل عليه أولا: قصور دليل الفورية - لبيا كان أو لفظيا - عن شموله للمقام،
إذ المستفاد منه هي الفورية العرفية، لا الدقية العقلية، كما عرفت سابقا.
ومن المعلوم: أن الإشتغال بمثل الغسل، لا ينافي الفورية العرفية، كسائر
مقدمات الإزالة من تحصيل الماء أو إحضاره أو نحوهما مما لا ينافي الفورية العرفية،
فعليه لا مزاحمة في البين، كما هو الواضح.

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 73.
85

[...]
وثانيا: لو سلم شمول دليل الفورية للمقام وتحقق المزاحمة، فتقدم حرمة
المكث أو المرور ولو لاحتمال كونها أهم من نفس وجوب الإزالة، فضلا عن فوريته،
إلا إذا استلزم بقاء النجاسة الهتك والإهانة.
ودليل الأهمية هو الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فهو قوله تعالى: * (يا أيها الذين امنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا) *. (1)
وأما السنة: فهي ما ورد عن زرارة، ومحمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)
قالا: " قلنا له: الحائض والجنب يدخلان المسجد، أم لا؟ قال: الحائض والجنب
لا يدخلان المسجد، إلا مجتازين، إن الله تبارك وتعالى يقول: * (ولا جنبا إلا عابري
سبيل حتى تغتسلوا) * ". (2)
وما عن الفضل بن الحسن الطبرسي (في مجمع البيان) عن أبي جعفر (عليه السلام) في
قوله تعالى: * (ولا جنبا إلا عابري سبيل) * " أن معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من
المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين " (3)، فالمقام حينئذ يكون من باب توقف امتثال
الواجب على ارتكاب الحرام الذي هو الأهم، أو محتمل الأهمية من الواجب، فيقدم
الحرام على الواجب، ونتيجته: عدم وجوب الإزالة على الجنب حتى يغتسل.

(1) سورة النساء (4): الآية 43.
(2) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 15 من أبواب الجنابة، الحديث 10، ص 486.
(3) مجمع البيان: ج 3، ص 52.
86

[...]
نعم، لو كان بقاء النجاسة مستلزما للهتك والإهانة يعكس الأمر، فتجب
الإزالة فورا.
ثم إنه بناءا على تقديم الغسل، أو التيمم، هل يجوز إتيانه بداعي الإزالة و
تطهير المسجد، أم لابد من إتيانه بداعي غاية أخرى؟
قد يقال: بالثاني، لعدم توقف التطهير والإزالة على الغسل أو التيمم، لا عقلا
ولا شرعا حتى يؤتى بداعي ذلك.
نعم، يتوقف المكث في المسجد، أو المرور فيه عليه شرعا، وهذا كما ترى
أجنبي عن توقف التطهير عليه.
هذا، ولكن الصحيح هو الأول، إذ المفروض: أن التطهير والإزالة يتوقف
على المكث أو المرور، وهما متوقفان على الطهارة من الغسل أو التيمم، فيتوقف
التطهير عليها، أيضا.
وعليه، فلا مانع من إتيان الغسل أو التيمم لأجل التطهير والإزالة.
على أنه يجوز إتيانه بداعي المكث أو المرور - أيضا - لابداعي التطهير و
الإزالة.
القسم الثاني: وقوع المزاحمة بين حرمة المكث أو المرور، وبين وجوب
الإزالة مع عدم التمكن من الغسل فعلا، إما لعدم وجود الماء، أو لجهة أخرى، فيدور
الأمر إذا بين أن يمكث في المسجد جنبا ويزيل النجاسة عنه، وبين أن لا يمكث ويترك
87

[...]
الإزالة، رجح المصنف (قدس سره) وجوب الإزالة، ولعل وجهه هو: أن المقام مندرج تحت
كبرى توقف الواجب على مقدمة محرمة، ولا ريب: أنه يؤتى بالواجب لكونه هو
الأهم أو محتمل الأهمية.
نعم، يحتمل وجوب التيمم حينئذ بدلا عن الغسل، إلا أن يقال: بعدم
مشروعيته هنا، فتأمل جيدا.
هذا، ولكن يمكن أن يقال: بأهمية حرمة المكث، أو احتمال أهميتها، كما عن
بعض الأعاظم (قدس سره) (1)، فحينئذ لو قيل: بعدم مشروعية التيمم، فلاوجه للحكم بجواز
التطهير والإزالة، فضلا عن الوجوب، بل يحرم المكث، فيترك، فتترك الإزالة، إلا إذا
استلزم بقاء النجاسة الوهن والإهانة، فتزال فورا.
القسم الثالث: وقوع المزاحمة بين حرمة هتك المسجد، وبين حرمة المكث
فيه، ولا ريب في تقديم حرمة الهتك حينئذ، فيجب المكث فيه، لأجل إزالة النجاسة
لئلا تستلزم الهتك.
والوجه فيه: أن المقام مندرج - أيضا - تحت كبرى توقف الواجب على
مقدمة محرمة، فلابد من إتيان الواجب لأهميته، ونتيجته: أن الإزالة الرافعة لهتك
الحرمة، تقدم بتقديم حرمة الهتك على حرمة المكث.

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 74، وقد مر وجه ذلك في القسم الأول من أقسام
المزاحمة.
88

(مسألة 15): في جواز تنجيس مساجد اليهود والنصارى إشكال،
وأما مساجد المسلمين، فلافرق فيها بين فرقهم. *
(مسألة 16): إذا علم عدم جعل الواقف صحن المسجد أو سقفه، أو
جدرانه، جزءا من المسجد، لا يلحقه الحكم من وجوب التطهير وحرمة
التنجيس، بل وكذا لو شك في ذلك، وإن كان الأحوط اللحوق. * *
]
تنجيس مساجد اليهود والنصارى
* قد اتضح من المباحث الماضية حكم هذه المسألة، صدرا وذيلا.
تنجيس بعض مواضع المسجد المعلوم عدم وقفيته
* * لا ريب في أن صحن المسجد أو سقفه أو جدرانه لا يلحقه حكم المسجد
في صورة العلم بعدم جعله الواقف جزءا من المسجد، وكذا في صورة الشك، مع عدم
قيام الأمارة على المسجدية بالوقف.
والوجه في ذلك: أما صورة العلم، فلوضوح دوران الحكم مدار موضوعه
وجودا وعدما، وكذا حدوثا وبقاءا.
وأما صورة الشك، فلكون المورد من الشبهات المصداقية التي تجري فيها البراءة،
بل يجري فيها الاستصحاب الحكمي وهو استصحاب عدم حرمة التنجيس، م
89

(مسألة 17): إذا علم إجمالا بنجاسة أحد المسجدين، أو أحد
المكانين من مسجد، وجب تطهيرهما. *
(مسألة 18): لافرق بين كون المسجد عاما أو خاصا، وأما المكان
الذي أعده للصلاة في داره، فلا يلحقه الحكم. * *
]
أو عدم وجوب التطهير إذا تنجس، وكذا الاستصحاب الموضوعي، وهو
استصحاب عدم المسجدية، كما لا يخفى.
العلم الإجمالي بنجاسة أحد المسجدين
* لا ريب في أن مقتضى العلم الإجمالي بنجاسة أحد المسجدين، أو أحد
المكانين من مسجد، هو الإحتياط الوجوبي بتطهير كلا المسجدين، أو كلا المكانين،
كسائر موارد العلم الإجمالي، وذلك، لما تقرر في الأصول من كونه كالعلم التفصيلي،
منجزا مستدعيا للبراءة اليقينية، وهي لا تحصل هنا إلا بالاحتياط.
تنجيس المكان المعد للصلاة
* * في المسألة أمران:
أحدهما: عدم الفرق في ترتب أحكام المسجد، بين كونه عاما أو خاصا.
ثانيهما: عدم لحوق ما أعد للصلاة بالمسجد.
90

[...]
أما الأول: فلا كلام فيه، وذلك، لإطلاق الأدلة.
إنما الكلام في جعل المسجد موقوفا على طائفة خاصة، وتقسيمه بهذه
الملاحظة إلى العام والخاص، فعن العلامة (قدس سره) (1) إثبات ذلك، وتبعه المصنف (قدس سره)، كما
هو مقتضى عبارته هنا، وصريح كلامه في المسألة الثانية عشر من مسائل المسجد
المذكورة في كتاب الصلاة. (2)
وعن جملة من أكابر الفقهاء (3) إنكار ذلك في تعاليقهم على قول المصنف (قدس سره) و
ادعوا بأنه لا معنى للوقف الخاص في المساجد، إذ هي لا تختص بطائفة دون أخرى بعد
ما كانت موقوفة محررة لوجه الله، وكان الناس فيها شرعا سواء، ولذا وجهوا كلام
المصنف (قدس سره) بأن مراده (قدس سره) مثل مسجد السوق والقبيلة والمحلة في مقابل مسجد
الجامع، حيث إن الخصوصية فيها إنما هو باعتبار المصلين لا الموقوف عليهم.
هذا، ولكن فيه تأمل: إذ يمكن أن يقال: بأن عموم ما دل على أن الوقوف على
حسب ما يقفها أهلها (4)، الشامل للمساجد - أيضا - يقتضي جواز تخصيص المساجد

(1) تذكرة الفقهاء، ج 2، ص 435، حيث قال: " ولو شرط في الوقف اختصاص المسجد
بأصحاب الحديث، أو الرأي، أو بطائفة معلومة، فالأقوى الجواز ".
(2) هذا نص كلامه: " المسألة الثانية عشر: الظاهر أنه يجوز أن يجعل الأرض فقط مسجدا
دون البناء والسطح... كما أنه كذلك بالنسبة إلى عموم المسلمين، أو طائفة خاصة دون أخرى على
الأقوى ".
(3) كالسيد الإصفهاني، والسيد الحكيم، والإمام الراحل، والسيد الخوئي (قدس سرهم).
(4) كما ورد عن محمد بن يحيى، قال: " كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد (عليه السلام) في الوقوف وما
روى فيها، فوقع (عليه السلام): الوقوف على حسب ما يقفها أهلها، إن شاءالله " وسائل الشيعة: ج 13، كتاب
الوقوف والصدقات، الباب 2 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات، الحديث 2، ص 295.
91

[...]
بطائفة دون أخرى، كما أنه يقتضي جواز تخصيصها بموضع، كالأرض، دون موضع،
كالبناء والسطح.
أما الثاني: فهو - أيضا - مما لا كلام فيه، لوضوح أن المكان المعد للصلاة
ليس خارجا عن الملكية، تحريرا لله كي يصير مسجدا بالمعنى المصطلح، فيترتب
عليه أحكامه.
نعم، يصدق عليه عنوان المسجد بالمعنى اللغوي، كما يصدق عليه عنوان
المصلى، ولكن ليس شئ منهما موضوعا للأحكام، كما لا يخفى.
ويشهد له ما في بعض الروايات من جواز جعل ذلك المكان كنيفا، كما ورد
عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: " سألته عن رجل كان له
مسجد في بعض بيوته أو داره، هل يصلح أن يجعل كنيفا؟ قال: لا بأس ". (1)
وما ورد عن محمد بن أحمد بن أبي نصر صاحب الرضا (عليه السلام) قال: " سألته عن
رجل كان له مسجد في بعض بيوته أو داره، هل يصلح له أن يجعله كنيفا؟ قال:
لا بأس ". (2)

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الأحكام المساجد، الحديث 6،
ص 489.
(2) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 10 من أبواب الأحكام المساجد، الحديث 4،
ص 489.
92

(مسألة 19): هل يجب إعلام الغير إذا لم يتمكن من الإزالة؟
الظاهر، العدم إذا كان مما لا يوجب الهتك، وإلا فهو الأحوط.]
إعلام الغير بنجاسة المسجد
لا إشكال في أن المكلف لو لم يتمكن من إزالة النجاسة عن المسجد، يجب عليه
إعلام الغير إذا لزم هتك المسجد ببقاء النجاسة فيه، ضرورة أن هتكه من الأمور التي
لا يرضى به الشرع الأنور ولو كان في ساعة قليلة، كإنقاذ الغريق، أو إطفاء الحريق و
نحوهما من الأمور المهمة التي لابد من التصدي لها تسبيبا لو لم يمكن المباشرة.
وأما على تقدير عدم لزوم الهتك، فلا يجب الإعلام، بناءا على عدم وجوب
الإزالة عند عدم التمكن منها، على ما قرر في غير المقام.
وأما بناءا على وجوبها، فهل يجب الإعلام، أم لا؟ وجهان، بل قولان:
ذهب المصنف (قدس سره) إلى القول الثاني، ولعله لكون المورد من موارد الجهل
بالموضوع التي لا يجب فيها إعلام الغير، بخلاف الجهل بالأحكام، فإنه يجب فيها
إرشاد الجاهل بها، كما هو الواضح.
ويشهد له بعض الأخبار، كما ورد عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: " اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له:
ما كان عليك لو سكت؟! ثم مسح تلك اللمعة بيده ". (1) م

(1) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب الجنابة، الحديث 1، ص 524.
93

(مسألة 20): المشاهد المشرفة كالمساجد في حرمة التنجيس، بل
وجوب الإزالة إذا كان تركها هتكا، بل مطلقا على الأحوط، لكن الأقوى
عدم وجوبها مع عدمه، ولافرق فيها بين الضرائح وما عليها من الثياب
وسائر مواضعها إلا في التأكد وعدمه. *
]
هذا، ولكن ذهب السيد الحكيم (قدس سره) (1) إلى القول الأول (وجوب الإعلام)
بدعوى: أنه إذا علم، أو احتمل أن الإزالة الواجبة لا يجب فيها المباشرة، وكانت
متوقفة على الإعلام عند عدم التمكن منها، وجب حينئذ مقدمة لها، وهذا هو الحق
المختار.
تنجيس المشاهد المشرفة
* لا إشكال في حرمة تنجيس المشاهد ووجوب الإزالة عنها إذا لزم من
التنجيس وترك الإزالة هتك حرمتها، نظرا إلى أن الهتك حرام قطعا، والدليل عليه
هو أن المشاهد كالمساجد من حرمات الله وشعائره التي لابد أن تعظم، على ما جاء
في قوله تعالى: * (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه...) *. (2)
وقوله تعالى: * (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *. (3)

(1) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 514 و 515.
(2) سورة الحج (22)، الآية 29.
(3) سورة الحج (22)، الآية 31.
94

[...]
ولقد أجاد شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " لا يخفى
أنه لو كان تنجيس المشاهد موجبا لهتكها المستلزم لهتك صاحبها، لم يجز قطعا، ضرورة
أن الهتك حرام، كما أنه في الفرض يجب الإزالة والتطهير قطعا، لكون بقاء النجاسة
مهانة مبغوضة ". (1)
ولافرق في المشاهد بين الضرائح وما عليها من الثياب وسائر مواضعها إلا في
التأكد وعدمه حسب القرب والبعد، فتعظيم نفس القبر آكد من الضريح، كما أن
تعظيم الضريح آكد من الحرم، وهكذا.
ثم إن الحكم بحرمة التنجيس ووجوب الإزالة لا يختص بالأعيان النجسة، بل
يعم مطلق القذارات ولو كانت قبال النظافات العرفية، وذلك، لأن الملاك في الحكم
المذكور هو لزوم الهتك المحرم، فيحكم حينئذ بتحريم تلويث المشاهد بالقذارات
غير النجسة، كتلويثها بالنجاسات إذا لزم منه هتكها، وكذا يحكم بوجوب إزالتها
عنها وتنظيفها إذا كان بقائها موجبا لهتكها.
هذا كله لو كان التنجيس وترك الإزالة موجبين لهتك الحرمة، وأما إذا
لم يكونا كذلك، فهل يحرم التنجيس، أو لا؟ وعلى تقدير حرمته، فهل يجب التطهير،
أم لا؟

(1) تقريرات بحوث القيمة بقلم الراقم.
95

[...]
ذهب المصنف (قدس سره) إلى حرمة التنجيس وعدم وجوب الإزالة، فهو (قدس سره) أنكر
الملازمة بين الحكمين، حيث جعل الحكم بوجوب الإزالة وعدمه مدار هتك المشاهد
وعدمه، وأما حرمة التنجيس، فقد حكم بها مطلقا، وتبعه - أيضا - بعض
الأعاظم (قدس سره) معللا بأن المشاهد وما تشتمل عليه من الأسباب والآلات ملك
للإمام (عليه السلام) وقفت لأن يزار فيها، أو ملك للمسلمين وقفت لأن تكون مزارا لهم،
ولوحظ في وقفها نظافتها وطهارتها، فيحرم التصرف فيها على غير الجهة الموقوفة
لأجلها، ومن هنا كانت المشاهد أولى بحرمة التنجيس من المساجد، لأن حرمته فيها
تكون على القاعدة، ولا تحتاج إلى دليل خاص، وهذا بخلاف المساجد، فإن الوقف
فيها تحرير للملك عن رقبة الملكية، فتكون نظير المباحات الأصلية التي ليست ملكا
لشخص ولا أشخاص ولا لعناوين وجهات، فلا يحرم التصرف فيها ولو كان مغايرا
للجهة المعدة لها. (1)
هذا، ولكن الحق أنه يجري في مورد المشاهد، ما أشرنا إليه في مورد المساجد،
من دوران الحكم بحرمة التنجيس ووجوب الإزالة، وجودا وعدما، وكذا حدوثا و
بقاءا، مدار هتك الحرمة والإهانة، ولا دليل على ثبوت الحكم المذكور فيما إذا لم يكن
كذلك.
وأما الوجه الذي ذكره بعض الأعاظم (قدس سره) من ملاحظة النظافة والطهارة في

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 85 إلى 87.
96

[...]
وقف المشاهد، فيرد عليه: أنه لا يعلم مراده من لحاظ الطهارة، فإن أراد (قدس سره) أن
المشاهد وقفت للزيارات، والتنجيس عمل آخر مخالف للجهة الموقوفة لأجلها، ولذا
يحرم، فضعفه واضح، لعدم حرمة إتيان كثير من الأعمال الواقعة في المشاهد غير
الزيارة، كالتعليم والتعلم والوعظ، وإقامة الجمعة والجماعة ونحوها مما يكون مغايرا
للجهة الموقوفة لأجلها.
ويشهد لما ذكرنا: قيام سيرة العلماء والأخيار من أهل التقوى والمعرفة على
جواز ارتكاب هذه الأفعال في المشاهد.
وإن أراد (قدس سره) أن خصوص عمل التنجيس استثني حين الوقف.
ففيه: أنه خلاف الواقع، كيف! وأنه لم يخطر نفس التنجيس ببال الواقف حين
الوقف، فضلا عن استثنائه.
لا يقال: إن غرض الواقف كان كذلك، إلا أنه لم يبرزه بالإنشاء.
لأنه يقال: إنه لا أثر للأغراض المضمرة غير المظهرة بالإنشاء، كما لا يخفى.
97

أحكام المصحف
تطهير ورق المصحف
كتابة القرآن بالمركب النجس
إعطاء القرآن بيد الكافر
وضع القرآن على العين النجسة
إزالة النجاسة عن التربة الحسينية
وقوع ورق القرآن في بيت الخلاء
تنجيس مصحف الغير
كفائية وجوب تطهير المصحف
تطهير مصحف الغير بلا إذنه
99

(مسألة 21): تجب الإزالة عن ورق المصحف الشريف وخطه، بل
عن جلده وغلافه مع الهتك، كما أنه معه يحرم مس خطه أو ورقه بالعضو
المتنجس وإن كان متطهرا من الحدث، وأما إذا كان أحد هذه بقصد
الإهانة، فلا إشكال في حرمته. *
(مسألة 22): يحرم كتابة القرآن بالمركب النجس، ولو كتب جهلا، أو
عمدا وجب محوه، كما أنه إذا تنجس خطه ولم يمكن تطهيره يجب محوه. * *
(مسألة 23): لا يجوز إعطاؤه بيد الكافر، وإن كان في يده يجب
أخذه منه. * * *]
تطهير ورق المصحف
* قد اتضح حكم هذه المسألة مما ذكرنا في المسألة السابقة.
كتابة القرآن بالمركب النجس
* * حكم هذه المسألة - أيضا - ظاهر مما تقدم، فلا نعيد.
إعطاء القرآن بيد الكافر
* * * لا ريب في أن الحكم بعدم جواز إعطاء القرآن بيد الكافر، وكذا
الحكم بوجوب أخذه منه، يدوران مدار الوهن والإهانة، وإلا، فلم يرد فيهما أي
دليل من الكتاب والسنة يقتضي ذلك. م
101

(مسألة 24): يحرم وضع القرآن على العين النجسة، كما أنه يجب
رفعها عنه إذا وضعت عليه وإن كانت يابسة. *
(مسألة 25): يجب إزالة النجاسة عن التربة الحسينية، بل عن تربة
الرسول وسائر الأئمة (صلوات الله عليهم) المأخوذة من قبورهم، ويحرم
تنجيسها، ولافرق في التربة الحسينية بين المأخوذة من القبر الشريف، أو
من الخارج إذا وضعت عليه بقصد التبرك والاستشفاء، وكذا السبحة و
التربة المأخوذة بقصد التبرك لأجل الصلاة. * *]
اللهم إلا أن يتمسك بدليل الإعانة على الإثم، وهو كما ترى، موهون غاية
الوهن.
وضع القرآن على العين النجسة
* حكم المصنف (قدس سره) بحرمة وضع القرآن على العين النجسة، وكذا بوجوب
رفعها عنه بعد وضعها عليه ولو كانت يابسة، ولكن لا دليل عليهما من الكتاب و
السنة، بل هما يدوران مدار الوهن والإهانة، كما عرفت: في المسألة السابقة.
وعليه، ففي أي مورد صدق عليه عنوان الوهن، يحكم بحرمة الوضع و
وجوب الرفع، وإلا، فلا، كوضعه على رحل مصنوع من جلد الميتة بلا رطوبة مسرية
موجبة للتنجيس.
إزالة النجاسة عن التربة الحسينية
* * حكم هذه المسألة يعلم مما عرفت سابقا، بلا احتياج فيها إلى مزيد بيان.
102

(مسألة 26): إذا وقع ورق القرآن أو غيره من المحترمات في بيت
الخلاء، أو بالوعته، وجب إخراجه ولو بأجرة، وإن لم يمكن فالأحوط و
الأولى سد بابه وترك التخلي فيه إلى أن يضمحل. *
(مسألة 27): تنجيس مصحف الغير، موجب لضمان نقصه الحاصل
بتطيهره. * *]
وقوع ورق القرآن في بيت الخلاء
* لا شبهة في أنه يجب على المكلف إخراج ورق القرآن أو غيره من المحترمات
إذا وقع في بيت الخلاء ونحوه إذا أمكنه ذلك، وإلا فله الإحتياط وجوبا بسد بابه و
ترك التخلي إلى أن يضمحل، وكل ذلك إنما هو لصدق الهتك والوهن، لا أنه مقتضى
الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة، كما لا يخفى.
تنجيس مصحف الغير
* * لا يخفى: أن تنجيس مصحف الغير يوجب ضمان نقصه الحاصل بسبب
التطهير، كما أنه يوجب ضمان نقصه الحاصل بسبب التنجيس، بل يوجب - أيضا -
ضمان مؤنة التطهير إن احتاج إليها.
هذا، ولكن أنكر بعض الأعاظم (قدس سره) ضمان النقص الحاصل بالتطهير، وكذا
103

[...]
اجرته، بدعوى أنه: لا دليل على ضمانهما، إذ ليس شئ منهما مستندا إلى من صدر منه
التنجيس، بل هو مستند إلى التكليف الشرعي بالتطهير على نحو الوجوب الكفائي
على جميع المكلفين. (1)
وفيه: أن مجرد قاعدة الضمان يكفي كونها دليلا على إثبات الضمان في
الموردين، إذ قضيتها هو لزوم تأدية العين بنفسها وبجميع أوصافها من الكمال و
الصحة إلى صاحبها، فحينئذ يجب إرجاعها إلى حالتها السابقة - على تقدير إزالتها -
بنفسها وبجميع أوصافها من الكمال والصحة، هذا إذا أمكن الإرجاع ولو بصرف
المؤنة، وأما إذا لم يمكن، أو أمكن ولكن امتنع عن الإرجاع، فيكتفي حينئذ بالقيمة
في القيميات، أو المثل في المثليات، أو بما بين الصحيح والمعيب من التفاوت.
نعم، إذا تنجس المصحف يجب تطهيره على جميع المكلفين كفائيا، وهذا مما
لا ينكر، إلا أن وجوب تطهيره تكليفيا كفائيا، لا ينافي وجوب الضمان وضعيا عينيا،
كما لا يخفى.

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 96.
104

(مسألة 28): وجوب تطهير المصحف كفائي لا يختص بمن نجسه،
ولو استلزم صرف المال وجب، ولا يضمنه من نجسه إذا لم يكن لغيره وإن
صار هو السبب للتكليف بصرف المال، وكذا لو ألقاه في البالوعة، فإن
مؤنة الإخراج الواجب على كل أحد ليس عليه، لأن الضرر إنما جاء من
قبل التكليف الشرعي، ويحتمل ضمان المسبب، كما قيل، بل قيل:
باختصاص الوجوب به، ويجبره الحاكم عليه لو امتنع، أو يستأجر آخر
ولكن يأخذ الأجرة منه.]
كفائية وجوب تطهير المصحف
في المسألة بحثان: الأول: في الحكم التكليفي، الثاني: في الحكم الوضعي.
أما الأول: فقد اختار المصنف (قدس سره) عدم اختصاص وجوب تطهير المصحف
بالمنجس، بل يجب كفائيا على جميع المكلفين، كسائر الواجبات الكفائية. وهذا، هو
الحق، وكذا يجب - أيضا - على جميعهم كفائيا صرف المال إذا توقف تطهيره عليه،
كما تقدم نظير ذلك في المسألة الثانية عشر.
أما الثاني: فقد حكم المصنف (قدس سره) بعدم ضمان المنجس اجرة تطهير مصحفه إذا
طهره غيره، وقال بعض الأعاظم (قدس سره) (1) بعد الضمان مطلقا، بلا فرق بين ما إذا كان
المصحف لنفس المنجس، أو لغيره.

(1) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 323.
105

[...]
نعم، ظاهر كلام المصنف (قدس سره): " إذا لم يكن لغيره " هو الاحتراز عما إذا كان
المصحف لغيره، فيثبت الضمان حينئذ، إلا أن مراده (قدس سره) ليس ذلك، كيف! وأنه (قدس سره) نص
في ذيل هذه المسألة بعدم الضمان في الفرض، معللا بأن الضرر جاء من قبل التكليف
الشرعي، والتعليل يعم ما إذا كان المصحف لغيره، كما أنه قال (قدس سره): في المسألة الثانية
عشر بعدم الضمان في الفرع المذكور، أيضا.
هذا، ولكن الحق هو أن المنجس ضامن لأجرة تطهير المصحف إذا كان
لغيره، شخصا كان ذلك الغير، أو جهة.
والوجه فيه: هو أن المنجس أوجب بسبب التنجيس زوال وصف كمال
المصحف، ومن المعلوم: أن زواله يستدعي الضمان، كما هو مقتضى ما تقدم في المسألة
الثانية عشر.
وعليه: فلو طهر المصحف من لم ينجسه وصرف مؤنة لتطهيره بلا قصد
التبرع، كان له الرجوع إلى المنجس، ولا ينافي كفائية الوجوب التكليفي عينية
الوجوب الوضعي، بمعنى: أن الأمر بالتطهير المتوجه إلى المنجس وغيره على وجه
الكفاية، لا يلازم توجه المؤنة ووجوب بذلها إلى غيره - أيضا - على وجه الكفاية،
فإذا لا يصح ما عن المصنف (قدس سره) في ذيل المسألة من قوله: " وكذا لو ألقاه في البالوعة،
فإن مؤنة الإخراج الواجب على كل أحد ليس عليه ".
ثم انقدح مما ذكرنا من عدم التنافي، بين كفائية الوجوب التكليفي، وبين عينية
الوجوب الوضعي، حكم ما لو كان المصحف ملكا لنفس المنجس، فيضمن مؤنة
تطهيره لو طهره غيره مع صرفها. م
106

(مسألة 29): إذا كان المصحف للغير، ففي جواز تطهيره بغير إذنه
إشكال، إلا إذا كان تركه هتكا ولم يمكن الاستيذان منه، فإنه حينئذ لا يبعد
وجوبه. *
]
نعم، لو طهره هو نفسه مع صرف المؤنة، لا معنى للضمان، كما لا يخفى على من له
أدنى مسكة.
تطهير مصحف الغير بلا إذنه
* الكلام في المسألة يقع في ثلاث صور:
الأولى: فيما إذا كان ترك تطهير مصحف الغير موجبا لهتكه مع عدم إمكان
الاستيذان منه، فيحكم فيها بوجوب التطهير، وذلك، لوقوع المزاحمة بين وجوب
الإزالة وبين حرمة التصرف، فيقدم الوجوب لأهميته في مورد المصحف الذي
لا يرضى الشارع بانهتاكه.
الثانية: فيما إذا كان ترك تطهيره موجبا لهتكه مع إمكان الاستيذان من
صاحبه وكان يأذن، أو يتصدى هو بالتطهير ولو بإجبار الحاكم، إما مباشرة أو
تسبيبا، فيحكم فيها بعدم جواز التطهير بلا إذنه، وذلك، لعدم تحقق المزاحمة حينئذ بين
وجوب الإزالة وحرمة التصرف، ضرورة إمكان الجمع بين التكليفين بالإزالة بعد إذنه.
الثالثة: فيما إذا لم يكن ترك تطهيره موجبا لهتكه، كما إذا كان متنجسا بمثل الماء
المتنجس، فيحكم فيها بعدم جواز التطهير بلا إذن المالك مطلقا ولو لم يمكن الاستيذان
منه، إذ يقع التزاحم حينئذ بين وجوب الإزالة - لو وجب في الفرض - وحرمة
التصرف، ولا ريب في أهمية حرمة التصرف، أو احتمال أهميتها من وجوب التطهير
فتقدم ألبتة.
107

أحكام المأكول والمشروب
إزالة النجاسة عن المأكول والمشروب
الإنتفاع بالأعيان النجسة
التسبيب لأكل النجس
سقي المسكرات والأعيان النجسة للأطفال
إعلام الضيف بنجاسة الفرش
إعلام المستعير بتنجس ما عنده
109

(مسألة 30): يجب إزالة النجاسة عن المأكول وعن ظروف الأكل
والشرب، إذا استلزم استعمالها تنجس المأكول والمشروب.]
إزالة النجاسة عن المأكول والمشروب
لا ريب في أن وجوب إزالة النجاسة عن المأكول والمشروب وعن ظروف
الأكل والشرب، وجوب شرطي لا نفسي تعبدي، بمعنى: أنه تشترط في جواز الأكل
والشرب طهارة المأكول والمشروب، وكذا طهارة ظروفهما.
وتدل عليه مضافا إلى الإجماع (1) ودعوى: أنه لعل من الضروريات، (2)
روايات كثيرة وردت في موارد مختلفة لعلها تكون متواترة:
منها: ما ورد في مورد المرق الواقع فيه فأرة، أو نبيذ مسكر، أو قطرة من خمر،
كما عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن قدر طبخت،
فإذا في القدر فأرة، فقال: يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل ". (3)
وكما عن زكريا بن آدم، قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ
مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير، قال: يهراق المرق، أو يطعمه أهل

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 99.
(2) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 521.
(3) وسائل الشيعة: ج 16، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 44 من أبواب الأطعمة المحرمة،
الحديث 1، ص 463.
111

[...]
الذمة أو الكلب، واللحم إغسله وكله ". (1)
ومنها: ما ورد في مورد الخبز المعجون بالماء المتنجس، كما عن حفص بن
البختري، قال: " قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): في العجين يعجن من الماء النجس، كيف يصنع
به؟ قال: يباع ممن يستحل أكل الميتة ". (2)
ومنها: ما ورد في مورد السمن والعسل والزيت، كما عن معاوية بن وهب،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت: جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل، فقال: أما
السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله، والزيت يستصبح به ". (3)
ومنها: ما ورد في مورد النهي عن استعمال الماء القليل المتنجس، فيما تشترط
فيه الطهارة، كما عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال:
" سألت عن رجل رعف، فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه،
هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان
شيئا بينا فلا تتوضأ منه... ". (4)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 38 من أبواب النجاسات، الحديث 8،
ص 1056.
(2) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 11 من أبواب الأسئار، الحديث 1، ص 174.
(3) وسائل الشيعة: ج 16، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 43 من أبواب الأطعمة المحرمة،
الحديث 1، ص 461، ووسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به،
الحديث 1، ص 66.
(4) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 8 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1، ص 112.
112

(مسألة 31): الأحوط ترك الإنتفاع بالأعيان النجسة خصوصا
الميتة، بل والمتنجسة إذا لم تقبل التطهير، إلا ما جرت السيرة عليه من
الإنتفاع بالعذرات وغيرها للتسميد والاستصباح بالدهن المتنجس،
لكن الأقوى جواز الإنتفاع بالجميع حتى الميتة مطلقا في غير ما يشترط
فيه الطهارة.]
الإنتفاع بالأعيان النجسة
في المسألة بحثان: الأول: في حرمة الإنتفاع بالأعيان النجسة بل المتنجسة و
عدمها.
الثاني: في حرمة بيعها، إما مطلقا أو بشرط قصد الاستعمال في الحرام.
أما الأول: فلا ريب في أنه يجوز الإنتفاع مطلقا بجميع الأعيان النجسة حتى
الميتة، فضلا عن المتنجسة في غير ما تشترط فيه الطهارة، كما قواه المصنف (قدس سره) بعد
الإحتياط بترك الإنتفاع.
والوجه فيه واضح، إذ القاعدة الأولية تقتضي جواز ذلك، والمنع محتاج إلى
الدليل، والمفروض: أنه لم يرد فيها ما يدل على المنع، إلا في مثل الخمر والمسكر،
فيحرم الإنتفاع بها إلا حال الضرورة، وليس ملاك الحرمة فيها هي نجاستها حتى
يتعدى منها إلى سائر النجاسات، بل الملاك هي الخمرية وإسكارها، أو غيرها من
جهات أخرى، ولذا أفتى الفقهاء حتى القائلين بطهارتها بالحرمة.
113

[...]
هذا، ولكن قد يتراءى المنع عن الإنتفاع بالأعيان النجسة من رواية تحف
العقول، حيث ورد فيها النهي عن الإنتفاع بالنجاسات وجميع التقلبات فيها. (1)
وهي تشمل المتنجسات - أيضا - إذ يصح إطلاق النجس عليها، كما تقدم في
محله، من أن عدم إطلاق النجس على المتنجس، وإحداث عنوان المتنجس قبال
عنوان النجس، اصطلاح من الفقهاء، وهو أمر مستحدث.
وفيه: أولا: أن الرواية مرسلة، كسائر الروايات الواردة في تحف العقول.
وثانيا: أنها مضطربة المتن، مشتملة على التكرار والتطويل وتكون - أيضا -
ذات تعقيد، فلا تصلح لتخصيص العمومات وتقييد الإطلاقات الدالة على صحة
العقود والإيقاعات، أو للحكومة على أدلة الحل والإباحة والبراءة، الجارية في المقام.
ولنعم ما أفاده المحقق الإيرواني (قدس سره) من قوله: " هذه الرواية مخدوشة بالإرسال
وعدم اعتناء أصحاب الجوامع بنقلها مع بعد عدم إطلاعهم عليها، مع ما هي عليه في
متنها من القلق والاضطراب، وقد اشبهت في التشقيق والتقسيم كتب المصنفين،
فالاعتماد عليها ما لم يعتضد لمعاضد خارجي مشكل، والخروج بها عن عموم مثل:
* (أوفوا بالعقود) * و: * (أحل الله البيع) *، و: * (تجارة عن تراض) * أشكل ". (2)
وبالجملة: لا يمكن الإعتماد على الرواية ولا تشملها أدلة حجية الخبر، حتى
بناءا على القول بأنها تعم الخبر الموثوق صدوره، إذ الرواية لا وثوق بصدورها،

(1) راجع، تحف العقول: ص 247.
(2) حاشية المكاسب: ص 2.
114

[...]
مع ما أشير إليه من الجهات العديدة الموهنة لها، والمفروض - أيضا - عدم انجبار
ضعفها بالشهرة، إذ لم يتحقق الشهرة من القدماء على حرمة الإنتفاع في فرض الكلام،
حتى تكون جابرة لضعفها، كيف! وأن الرواية لم تكن موجودة في كتب القدماء من
الفتاوية والروائية.
ومن المعلوم: أن المقصود من الشهرة الجابرة هي الشهرة المتحققة من
القدماء، حيث إن بنائهم على التعبد بالروايات وآثار العترة الطاهرة (عليهم السلام) وعلى
عدم الإفتاء وإظهار الرأي بمعونة القياسات والاستحسانات، فيكون مثل هذه
الشهرة كاشفة عن أخذهم عن المعصومين (عليهم السلام) يدا بيد، أو عن اطلاعهم على قرائن
اختفت علينا، وهذا بخلاف الشهرة المتحققة من المتأخرين، فإن آرائهم مبتنية على
اجتهاداتهم، لاعلى الأصول المتلقاة من العترة الطاهرة (عليهم السلام) هذا كله في البحث الأول.
أما البحث الثاني: وهو حرمة حرمة بيع الأعيان النجسة أو جوازه وضعا و
تكليفا، فالصواب هو الجواز، لكونه مقتضى أدلة البيع، كقوله تعالى: * (أحل الله البيع
وحرم الربا) *، ولا مقيد لهذا الإطلاق، إلا رواية تحف العقول المتقدمة، والشهرة
المدعاة أو الإجماع.
وفي الجميع إشكال: أما الرواية، فقد عرفت: ضعفها آنفا.
وأما الشهرة والإجماع، فلكونهما مدركين، إذ من المحتمل قويا استنادهما إلى
ما سيأتي من الأدلة المانعة القابلة للمنع والمناقشة.
115

[...]
هذا، مضافا إلى أن بعض القدماء (قدس سرهم) لم يدع الشهرة أو الإجماع على وجه
الكلية، بل ادعى في بعض مصاديق خاصة، كالكلب والخمر، ولعل المدعين بنحو
الإطلاق والعموم ألغوا الخصوصية، فقالوا: بمنع البيع في جميع الأعيان النجسة.
فتحصل: أن مقتضى الأصل الإجتهادي من الإطلاق أو العموم، جواز بيع
الأعيان النجسة وصحته، كما أن مقتضى الأصل الفقاهي العملي جوازه التكليفي و
عدم حرمته، ولافرق في الحكم بالجواز، بين أن يكون البيع للاستعمال المحلل وهو
الاستعمال غير المشروط بالطهارة، أو للاستعمال المحرم وهو الاستعمال المشروط
بالطهارة، كما أنه لافرق - أيضا - في مورد الاستعمال المحرم بين أن يكون على وجه
الإشتراط، إذ غايته فساد الشرط، لافساد البيع، وبين أن لا يكون كذلك، بل كان
هناك مجرد علم البائع باستعمال المشتري له في الحرام، إذ المفروض: أنه لا تسبيب هنا،
ولا إعانة على الإثم.
ثم إن هنا أدلة اخر، قد يتراءى منها منع البيع المذكور:
منها: الأصل المقتضي لفساد المعاملات لدى الشك في الصحة والفساد وهو
إما يعبر عنه بأصالة عدم ترتب الأثر، أو استصحاب عدم ترتبه، وكلاهما واحد.
وفيه: أن الأصل العملي استصحابا كان أو غيره، إنما يرجع إليه إذا لم يكن في
البين دليل اجتهادي، وإلا فهو حاكم عليه على ما هو المقرر في محله، والمفروض: أنه
موجود في المقام وهو الإطلاقات أو العمومات الدالة على صحة العقود، كقوله تعالى:
* (أوفوا بالعقود) * و: * (أحل الله البيع) * و: * (تجارة عن تراض) *.
116

[...]
إن قلت: إن الإطلاقات أو العمومات إنما تجدي لدفع الشبهة الحكمية، كما إذا
شك في صحة معاملة أو فسادها، وأما الشبهة من ناحية القابلية، بأن المحل، هل هو
قابل لإيقاع المعاملة أو لا؟ فلا، كما لا تجدي لدفع الشبهة المصداقية.
ومن المعلوم: أن الأعيان النجسة مشكوكة من حيث القابلية، فإذا لا مجال
للتمسك بالإطلاقات أو العمومات لدفع هذا الشك وإحراز القابلية.
قلت: إن قابلية المحل لإيقاع المعاملة، تدور مدار المالية العرفية وهي هنا
متحققة، وعليه: فليس الشك في المقام من قبيل الشك في القابلية كي يقال: بعدم جواز
التمسك بالعمومات أو الإطلاقات فيه، كما لا يجوز التمسك بها في الشبهات المصداقية.
ومنها: قوله تعالى: * (يا أيها الذين امنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب و
الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) * (1) وهذا مما استدل به
العلامة (قدس سره) حيث قال: " ولو باع نجس العين كالخمر والميتة والخنزير، لم يصح إجماعا
لقوله تعالى: " فاجتنبوه ". (2)
ولعل تقريب الاستدلال هو أن ذكر: " الفاء " في قوله تعالى: " فاجتنبوه " بعد
كلمة: " الرجس " قرينة واضحة على كونه علة لوجوب الإجتناب، وإطلاق وجوب
الإجتناب، مقتضاه - أيضا - وجوبه بالنسبة إلى جميع التصرفات والتقلبات، ومنها
البيع والشراء.

(1) سورة المائدة (5): الآية 90.
(2) تذكرة الفقهاء: ج 1، ص 464.
117

[...]
وفيه: أن غاية ما يستفاد من الآية هو الإجتناب من عمل الشيطان، ومن
الواضح: أن عمله هو شرب الخمر لانفسها، كما هو المتبادر من اجتنابها، وأنه هو
المتوقع منها، والمترتب عليها في تلك الأيام.
وعليه: فليس مفاد الآية هو الإجتناب عن جميع التقلبات وأنه من عمل
الشيطان، ولا أقل من الشك في كون مثل البيع والشراء من عمل الشيطان، ومعه
لا يمكن التمسك بالآية لإثبات حرمة بيع الأعيان النجسة، لكونه من قبيل التمسك بها
في الشبهة المصداقية.
على أن " الرجس " ليس بمعني: " النجس " المصطلح، كي تدل الآية على
وجوب الإجتناب عن مطلق النجس بحسب جميع التقلبات.
ومنها: قوله تعالى: * (والرجز فاهجر) *. (1)
بتقريب: أن هجر النجس بإطلاقه لا يتأتى إلا بهجر جميع التقلبات فيه، ومنها
البيع.
وفيه: أولا: أن تفسير: " الرجز " بالنجس المصطلح غير معلوم، حتى يقال:
إن الآية تدل على وجوب هجر النجس بجميع التقلبات، بل من المحتمل تفسيره بمعان
اخر، كالعذاب والاضطراب وغيرهما. (2)

(1) سورة المدثر (74): الآية 5.
(2) راجع، المفردات: ص 187 و 188، ومجمع البيان: ج 10، ص 385، والميزان: ج 20، ص 81.
118

[...]
وثانيا: لو سلمنا ذلك، فمن المحتمل أن يراد بالآية هو هجر النجس في
الصلاة، أو في المآكل والمشارب، لا مطلقا وبحسب جميع التقلبات، ونحوهما غيرهما
من الآيات الأخر.
ومنها: ما ورد في الروايات، كالنبوي المشهور: " إن الله إذا حرم شيئا حرم
ثمنه ". (1)
وفيه: أن الرواية عامية، نقلوها عن ابن عباس، وذكر في جميع مسانيدهم و
سننهم كلمة: " الأكل " إلا في موضع من مسند أحمد (2)، فلم يذكر فيه كلمة: " الأكل "،
فحينئذ يحتمل أن يكون فيه نقيصة.
ففي سنن أبي داود (3) والبيهقي (4) بسندهما عن ابن عباس: " قال رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا عند الركن، قال: فرفع بصره إلى السماء فضحك، فقال:
" لعن الله اليهود " - ثلاثا - إن الله تعالى حرم عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها و
أن الله - تعالى - إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه ".
وعليه: فالرواية تدل على حرمة البيع وفساده إذا كان المبيع المحرم أكله مما
يعتاد أكله، وإنما بيع للأكل، وأما لو بيع لمآرب اخر، فلا تدل الرواية على فساد البيع.

(1) محاضرات في الفقه الجعفري: ص 19، وفي مستدرك الوسائل: ج 2، ص 427 وفيه:
" إن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه ".
(2) مسند أحمد: ج 1، ص 483.
(3) سنن أبي داود: ج 3، ص 280.
(4) سنن البيهقي: ج 6، كتاب البيوع، ص 13.
119

[...]
ويؤيد ذلك ما في صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجل
ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا... ثم قال: إن رجلا من ثقيف أهدى إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) راويتين من خمر، فأمر بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأهريقتا، وقال: إن
الذي حرم شربها حرم ثمنها... ". (1)
وفي رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: " سألته عن ثمن الخمر، قال:
أهدى إلى رسول الله راوية خمر بعد ما حرمت الخمر، فأمر بها أن تباع، فلما أن مربها
الذي يبيعها، ناداه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلفه: يا صاحب الراوية! إن الذي حرم
شربها فقد حرم ثمنها، فأمر بها فصبت في الصعيد... ". (2)
وجه تأييد هاتين الروايتين، هو أن الخمر كانت في تلك الأزمنة مما يعتاد
شربها، فتباع لأجله، وإلا فلا ملازمة بين حرمة الشرب وفساد البيع ولو لأجل
غير الشرب كالتخليل ونحوه.
نعم، وردت في المقام روايات خاصة ناهية عن بيع النجاسات الخاصة، من
الخمر والكلب ونحوهما، كقوله (عليه السلام) في ذيل رواية أبي بصير المتقدمة: "... فقال: ثمن
الخمر ومهر البغي وثمن الكلب الذي لا يصطاد من السحت ". (3)
وكرواية السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " السحت ثمن الميتة، وثمن

(1) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1، ص 164.
(2) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6، ص 165.
(3) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 55 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6، ص 165.
120

[...]
الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغي والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن ". (1)
وكالرواية المروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن بيع
الأحرار وعن بيع الميتة والخنزير والأصنام... ". (2) إلى غير ذلك من الروايات.
ولكن يرد عليها: بأن الظاهر، كما أشرنا آنفا، أن النهي فيها كان باعتبار
ما يتوقع منها ويترتب عليها من الآثار في تلك الأعصار، من الأكل والشرب و
نحوهما، لا باعتبار جميع التقلبات، فلا تدل على الحرمة وعدم الجواز لو بيعت لمآرب
اخر.
وعليه: فلا مجال للاستدلال بها، في إثبات حرمة بيع النجس بما هو نجس
بإلغاء الخصوصية، وتنقيح أن المناط والعلة للمنع والحرمة، هي النجاسة.
فتحصل: أنه لم يقم دليل، لامن الكتاب والسنة، ولامن الأصل العملي على
حرمة الإنتفاع من النجاسات بأسرها، وعدم جواز استيفاء واحدة من منافعها.
نعم، بعض المنافع منها حرام قطعا، كالأكل والشرب، ولكن هذا المقدار من
الحرمة لا يستلزم بطلان المعاملة وحرمتها لو أوقعت بلحاظ منافعها الاخر.
وأنت تعلم: أن الأشياء تختلف من حيث المالية والمنفعة باختلاف الأعصار و
الأمكنة والأزمنة.
وكيف كان، تفصيل الكلام والنقض والإبرام في مثل هذه المسألة، موكول إلى
محالها المقررة.

(1) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، ص 62.
(2) مستدرك الوسائل: ج 13، كتاب التجارة، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5، ص 71.
121

(مسألة 32): كما يحرم الأكل والشرب للشئ النجس، كذا يحرم
التسبيب لأكل الغير أو شربه، وكذا التسبيب لاستعماله فيما يشترط فيه
الطهارة، فلو باع أو أعار شيئا نجسا قابلا للتطهير، يجب الإعلام بنجاسته،
وأما إذا لم يكن هو السبب في استعماله بأن رآى أن ما يأكله شخص، أو
يشربه، أو يصلي فيه، نجس، فلا يجب إعلامه.]
التسبيب لأكل النجس
يقع الكلام في المسألة، تارة في الإعانة على أكل الغير، أو شربه للنجس، و
أخرى في التسبيب له، وثالثة في إعلامه بالنجس.
أما الإعانة: فلا دليل على حرمتها مطلقا، حتى بالنسبة إلى من قدم طعاما لمن
يعلم أنه نجس ويأكله، لعدم مبالاته في الدين وعدم اعتداده بالنجاسة.
نعم، تحرم الإعانة على وقوع الحرام، الذي يكره الشارع وقوعه في الخارج
بأي وجه كان، كالإعانة على قتل نفس محترمة، أو غيره من الأمور المهمة، فلا يجوز
لأحد أن يمسك شخصا يريد الغير قتله، إعانة عليه، فإذا أمسكه عصى ويحبس حتى
يموت، وكذا لا يجوز له إعطاء السكين لمن يريد قتل الغير.
ثم إنه ذهب بعض الأعاظم (قدس سره) إلى حرمة الإعانة بإيجاد مقدمة للحرام فيما إذا
كانت علة تامة للفعل الحرام، أو جزءا أخيرا منها. (1)

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 107.
122

[...]
وفيه: ما لا يخفى، ضرورة عدم صدق الإعانة في الفرض ألبتة، مضافا إلى أنه
يمنع عن كون فعل المعين علة تامة، أو جزءا أخيرا منها بالنسبة إلى فعل المعان مع
كونه مكلفا مختارا ذا إرادة، كما هو الواضح، هذا في الإعانة.
وأما التسبيب: فيحكم فيه بحرمته لو كان السبب أقوى من المباشر، بأن يكون
المباشر مسلوب الإرادة أو المغلوب إرادته، كالحيوان المرسل إلى الزرع، وكالصبي
المأمور بالقتل، وكالضيف الجاهل بنجاسة الطعام، أو الماء، بلا إعلام وإخبار من
المضيف.
وكذا يحكم بحرمة التسبيب لاستعمال النجس فيما تشترط فيه الطهارة الواقعية،
وهي الطهارة عن الحدث، كالوضوء، أو الغسل، أو التيمم، بخلاف الطهارة عن
الخبث، كاشتراط الصلاة بطهارة الثوب والبدن، فإنها تكون شرطا ذكريا لا واقعيا،
كما يعلم ذلك من إفتاء الفقهاء بصحة صلاة من صلى مع ثوب أو بدن نجس جهلا،
وأنه لا يجب الإعلام على من أعار ثوبا نجسا للصلاة فيه، فلا يحكم في مثله بحرمة
التسبيب.
وبالجملة: لا يحرم التسبيب لاستعمال النجس في الشرائط الذكرية، كاشتراط
الصلاة بطهارة البدن والثوب وإباحة المكان، فلا إثم على من قدم ثوبا نجسا لمن أراد
أن يصلي، فلبسه وصلى جاهلا بنجاسته، أو أعد له مكانا غصبيا، فصلى فيه جاهلا
بالغصب، كما أنه لا يجب عليه الإعلام - أيضا - هذا مما لاكلام فيه.
123

[...]
إنما الكلام، فيما إذا كان الشرط أو المانع واقعيا يترتب على عدمه أو وجوده
بطلان العمل ولو جهلا، أو كان الشئ حراما مبغوضا واقعا ولو كان الفاعل معذورا،
فهل يحرم التسبيب في أمثاله أم لا؟ وجهان:
والتحقيق هو الأول، وهذا كالتسبيب للتوضؤ، أو الاغتسال بماء نجس، أو
مغصوب، أو التسبيب لشرب النجس، أو الخمر، أو أكل الميتة.
والدليل على ما قلناه: هو أن قضية النواهي في أدلة المحرمات المذكورة،
مبغوضية صدورها من المكلفين، وحرمة وقوعها من ناحيتهم مطلقا ولو على وجه
التسبيب، فوقوع شرب الخمر وتحققه في الخارج حرام مبغوض عند الشارع من أي
مكلف، وعلى أي وجه صدر، مباشرة أو تسبيبا، وكذا الوضوء بالماء النجس و
الصلاة معه، فإنه حيث يوجب بطلانها ولو جهلا، يستدعي حرمة التسبيب لمثله، إذ
هو مؤد إلى تفويت الغرض الذي يكون محرما.
نعم، لا حرمة للمباشر، لكونه معذورا، لأجل جهله بنجاسة الماء.
وتشهد لما ذكرنا الروايات الواردة في مورد الزيت، أو السمن النجس الآمرة
بالإعلام حتى يستصبح بها المشتري، ولا يستعمله فيما يشترط بالطهارة، كالأكل:
منها: ما عن أبي بصير، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفأرة تقع في السمن،
أو في الزيت، فتموت فيه، فقال: إن كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي، و
إن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته ". (1)

(1) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3، ص 66.
124

[...]
ومنها: ما عن معاوية بن وهب، وغيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في جرذ مات
في زيت، ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: بعه وبينه لمن اشتراه ليستصبح به ". (1)
ومنها: ما عن إسماعيل بن عبد الخالق، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سأله سعيد
الأعرج السمان وأنا حاضر، عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفأرة، فتموت،
كيف يصنع به؟ قال: أما الزيت، فلاتبعه إلا لمن تبين له فيبتاع للسراج، وأما الأكل،
فلا، وأما السمن فإن كان ذائبا، فهو كذلك، وإن كان جامدا والفأرة في أعلاه،
فيؤخذ ما تحتها وما حولها، ثم لا بأس به، والعسل كذلك إن كان جامدا ". (2)
فإن المستفاد من هذه الروايات: أن البائع لو لم يبين النجاسة في مثل الزيت أو
السمن أو العسل، فصرفه المشتري في الجهة المحرمة وهو الأكل، كان ذلك تسبيبا منه
إلى صدور ما هو مبغوض للشارع من المشتري وهو حرام.
ومن هنا ظهر ضعف ما عن السيد الحكيم (قدس سره) من نفي دلالة صحيح معاوية بن
وهب وغيره على حرمة التسبيب، لاستعمال غير النجس من المحرمات الاخر ولو في
الأكل والشرب، ومن الإشكال على التعدي عن المأكول والمشروب إلى غيرهما،
معللا بعدم مساعدة الارتكاز عليه، فيتعين الاقتصار عليهما، كما يشير إلى ذلك، موثق
ابن بكير المتضمن للنهي عن إعلام المستعير إذا أعاره ثوبا لا يصلي فيه. (3)

(1) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4، ص 66.
(2) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5،
ص 66 و 67.
(3) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 523.
125

[...]
وجه ظهور الضعف هو ما أشرنا آنفا، من أن مقتضى الروايات حسب
المتفاهم العرفي، حرمة التسبيب إلى الحرام، بلا فرق بين حرام وحرام، أو بين حرام
طاهر وحرام نجس، وبلا فرق بين أنحاء الاستعمال من الأكل والشرب وغيرهما.
وأما موثق ابن بكير، فقد عرفت: خروج مورده عن محل الكلام، ضرورة أن
مورده هو الصلاة التي تشترط فيها طهارة الثوب والبدن ولو كانت ظاهرية، ومعه
لا تسبيب إلى الحرام على تقدير عدم التبيين والإعلام. هذا كله في التسبيب.
وأما الإعلام - مع عدم التسبيب، كما إذا رأى شخصا يأكل ويشرب نجسا،
أو يصلي في ثوب نجس، أو في مكان مغصوب - فهل يجب أم لا؟ وجهان:
والصحيح هو الثاني، كما قال به المصنف (قدس سره).
والوجه فيه: أنه لا دليل على وجوب الإعلام فيما إذا لم يكن في البين تسبيب
إلى الحرام، كما هو مفروض الكلام.
نعم، ربما يتوهم وجوب الإعلام في المقام استنادا إلى أمور ثلاثة:
الأول: أدلة وجوب التعليم.
وفيه: أن موردها هو الجهل بالحكم، والمقام ليس كذلك، إذ المفروض فيه
هو أن الشخص عالم بالحكم، جاهل بالموضوع، فيعلم حرمة أكل النجس أو شربه،
لكن لا يعلم أن هذا الماء أو الغذاء، نجس أو لا؟
والثاني: وجوب النهي عن المنكر.
126

[...]
وفيه: أنه لا يصدق عنوان المنكر مع الجهل بالموضوع، كما في المقام، فمعه،
كيف يقال: بوجوب النهي عنه مع أن الواجب هو النهي عن المنكر المعلوم المنجز،
لا الواقعي المجهول غير المنجز؟!
والثالث: وجوب إرشاد الجاهل.
وفيه: أنه ناظر إلى مورد الجهل بالحكم، وأما الإرشاد في مورد الجهل
بالموضوع، فقد يكون مرجوحا وفي بعض الأحيان حراما، كما هو واضح، بل يكون
مرجوحا، أو يكون في بعض الأحيان حراما، كما إذا أوجب عسرا، أو حرجا، أو
إيذاءا، أو اختلالا للنظام.
والشاهد لما قلنا: ما تقدم من رواية عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما
كان عليك لو سكت؟ ثم مسح تلك اللمعة بيده ". (1)
نعم، يجب الإعلام، بل الردع في الأمور المهمة التي يهتم الشارع فيها بعدم
تحققها في الخارج بوجه من الوجوه، كقتل النفوس المحترمة، وهتك الأعراض، و
نهب الأموال.

(1) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب الجنابة، الحديث 1، ص 524.
127

(مسألة 33): لا يجوز سقي المسكرات للأطفال، بل يجب ردعهم، و
كذا سائر الأعيان النجسة إذا كانت مضرة لهم، بل مطلقا.
وأما المتنجسات فإن كان التنجس من جهة كون أيديهم نجسة،
فالظاهر عدم البأس به، وإن كان من جهة تنجس سابق، فالأقوى جواز
التسبيب لأكلهم وإن كان الأحوط تركه،
وأما ردعهم عن الأكل أو الشرب مع عدم التسبيب، فلا يجب
من غير إشكال.
]
سقي المسكرات والأعيان النجسة للأطفال
توضيح المسألة يقتضي التكلم في أمور:
الأول: في سقي المسكرات للأطفال.
الثاني: في سقي الأعيان النجسة والمتنجسات لهم.
الثالث: في ردعهم عن الأكل والشرب للنجس مع عدم التسبيب.
أما الأول: فقد حكم المصنف (قدس سره) بوجوب الردع وعدم جواز السقي وهو
الصحيح، وهذا، لا لأجل كون السقي من باب التسبيب إلى الحرام، لعدم حرمة
شرب المسكرات عليهم، بل إما لأجل العلم بأن الشارع لا يكون راضيا بتحقق
بعض الأعمال الشنيعة والمحرمات الغليظة كشرب المسكر، وقتل المسلم ونحوهما،
من أي شخص وبأي وجه كان، وبأن ترك هذه السيئات من كل أحد مطلوب
128

[...]
عنده، أو لما ورد في منعه من الأخبار، كرواية أبي الربيع، قال: " سئل أبو عبد الله (عليه السلام)
عن الخمر، فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل بعثني رحمة للعالمين... وقال:
أقسم ربي لا يشرب عبد لي خمرا في الدنيا... ولا يسقيها عبد لي صبيا صغيرا أو
مملوكا، إلا سقيته مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة، معذبا أو مغفورا له ". (1)
أما الثاني: فقد حكم المصنف (قدس سره) فيه بحرمة سقيها للأطفال مطلقا ولو لم تكن
مضرة لهم، ولكن الحق هو التفصيل بين صورة الإضرار بحالهم، وبين صورة عدمه.
ففي الأولى: يحكم بحرمة السقي لأجل الإضرار المحرم.
نعم، حرمة الإضرار لا تختص بالأعيان النجسة، بل تعم جميع الأمور المضرة،
سواء كانت نجسة، أو غيرها.
وفي الثانية: يحكم بجواز السقي، وذلك، لعدم الدليل على المنع بنحو
الإطلاق، إذ النصوص المانعة إنما وردت في المسكرات التي لا يرضى الشارع بوقوع
شربها حتى من الأطفال، فلا يجوز إعطائها لهم وتقديمها إليهم مطلقا ولو في فرض
عدم الإضرار.
وأما الأعيان النجسة، فيكتفى في منعها بمورد الضرر فقط، إذ لا دليل على
منعها إلا الإضرار المحرم.

(1) وسائل الشيعة: ج 17، كتاب الأطعمة والأشربة، الباب 10 من أبواب الأشربة المحرمة،
الحديث 1، ص 245 و 246.
129

[...]
وأما المتنجسات، فيحرم التسبيب إليها في مورد الإضرار - أيضا - وإلا
فلا يحرم، بلا فرق بين ما إذا كان التنجس من جهة نجاسة أيدي الأطفال، أو من جهة
تنجس سابق، وعليه: فلاوجه للتفصيل المذكور في المتن من نفي البأس عن التسبيب
في الأول، والاحتياط الاستحبابي بترك التسبيب في الثاني.
وأما الثالث: فعن المصنف (قدس سره) أنه لا إشكال في عدم وجوب ردع الأطفال
عن أكل النجس وشربه مع عدم التسبيب، ولكن هذا، إنما يتم في غير المسكرات أو
الأمور المضرة المهلكة، فلا يجب الردع فيه بالنسبة إلى الأطفال، كما لا يجب فيه
بالنسبة إلى المكلفين، أيضا.
وأما في المسكرات، أو الأمور المضرة المهلكة، فيحكم بوجوب الردع، كما
يحكم بوجوبه في كل ما يكون مضرا موجبا للهلاكة ولو لم يكن من أنواع النجاسة،
ضرورة وجوب حفظ النفس المحترمة على كل من له القدرة، سواء كانت تلك النفس
كبيرة، أو صغيرة.
130

(مسألة 34): إذا كان موضع من بيته أو فرشه نجسا، فورد عليه
ضيف وباشره بالرطوبة المسرية، ففي وجوب إعلامه إشكال وإن كان
أحوط، بل لا يخلو عن قوة، وكذا إذا أحضر عنده طعاما ثم علم بنجاسته،
بل وكذا إذا كان الطعام للغير وجماعة مشغولون بالأكل، فرأى واحد
منهم فيه نجاسة، وإن كان عدم الوجوب في هذه الصورة لا يخلو عن قوة،
لعدم كونه سببا لأكل الغير، بخلاف الصورة السابقة.
]
إعلام الضيف بنجاسة الفرش
في المسألة فروع:
الأول: ما إذا كان موضع من بيت شخص أو فرشه نجسا، فباشره الضيف
بالرطوبة المسرية، فهل يجب عليه إعلام الضيف، أم لا؟
قوى المصنف (قدس سره) وجوب الإعلام، والحق عدمه، إذ المفروض: أن المقام لا يعد
من الأمور المهمة ولا تسبيب فيه إلى الحرام.
وكذا لا تسبيب إلى فساد الصلاة لو صلى الضيف مع نجاسة البدن، أو الثوب،
لمامر من أن نجاستهما مانعة ذكرية لا واقعية، فتصح الصلاة في مثله، بل لا تسبيب رأسا
وبالمرة، ولو كانت صلاته باطلة بأن صارت يده، أو ظهر رجله نجسة بالملاقاة،
فتوضأ ثم صلى، حيث إن الطهارة الحدثية تكون شرطا واقعيا، أو الحدث الأصغر
يكون مانعا كذلك.
131

[...]
هذا ولكن ذهب بعض الأعاظم (قدس سره) إلى وجوب الإعلام للضيف فيما إذا كان
الشئ النجس معدا للاستعمال بالرطوبة، كالمنديل، وإناء الماء ونحو ذلك، معللا بأن
التسبيب يصدق بسكوت صاحب البيت عن إعلام نجاسة المنديل، أو الإناء، وكذا
يصدق بما إذا وضع المضيف المنديل المتنجس في الموضع المعد للتنشف بحيث لو غسل
الضيف يده تنشف بذلك المنديل. (1)
وفيه: ما لا يخفى، إذ لا دليل على وجوب الإعلام، وكذا الردع في فرض
التسبيب، إلا فيما يستعمله في الأكل والشرب، أو فيما تشترط فيه الطهارة الواقعية.
الفرع الثاني: ما إذا أحضر عند ضيفه طعاما ثم علم بنجاسته، فيحكم فيه
بوجوب الإعلام بلا كلام، ضرورة أن سكوت المضيف حينئذ يكون تسبيبا إلى الحرام
وهو أكل الضيف للطعام المتنجس.
الفرع الثالث: ما إذا كان الطعام للغير، ورآى واحد من المشتغلين بأكله
نجاسة فيه، فقد حكم المصنف (قدس سره) بعدم وجوب الإعلام فيه، معللا بعدم كونه سببا
لأكل الآخرين، وتبعه - أيضا - بعض الأعاظم (قدس سره) وهذا هو الحق.
نعم، خالفه السيد الحكيم (قدس سره) مدعيا: بأن صحيح معاوية بن وهب المتقدم
ظاهر في وجوب الإعلام في الفرض.
وفيه: ضعف واضح، إذ عرفت سابقا: أن صحيح معاوية يختص بصورة
التسبيب إلى أكل الحرام، والمقام ليس كذلك، كما لا يخفى. م

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 116 و 117.
132

(مسألة 35): إذا استعار ظرفا أو فرشا أو غيرهما من جاره
فتنجس عنده، هل يجب عليه إعلامه عند الرد؟ فيه إشكال، والأحوط
الإعلام، بل لا يخلو عن قوة إذا كان مما يستعمله المالك فيما يشترط فيه
الطهارة. *
]
فتحصل: أن الفرق بين الفرعين الأخيرين واضح، إذ المفروض في الفرع
الثاني هو أن الرائي للنجاسة شخص المضيف، فيجب عليه الإعلام كي لا يتحقق
التسبيب إلى الحرام وهو أكل الغير للطعام النجس، وهذا، بخلاف الفرع الثالث، فإن
الرائي للنجاسة فيه هو الأجنبي، كالضيف، أو أحد المشتغلين بأكل الطعام، فلا تسبيب
من قبله أصلا كي يجب عليه الإعلام.
إعلام المستعير بتنجس ما عنده
* أشار المصنف (قدس سره) في هذه المسألة إلى أن التسبيب المحرم - كالتسبيب
لاستعمال النجس فيما تشترط فيه الطهارة - لافرق فيه بين أن يكون من ناحية مالك
العين أو من ناحية غيره كمالك المنفعة، أو الإنتفاع، أو لا هذا ولا ذاك، كالمباح له الذي
أبيح له التصرف، بلا مالكية له أصلا، وكالغاصب، وهذا هو المتين جدا، ووجهه
واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
133

فصل
في الصلاة في النجس
صور الصلاة في النجس
الأولى: الصلاة في النجس عالما وعامدا
الثانية: الصلاة في النجس جاهلا بالحكم
الثالثة: الصلاة في النجس جاهلا بالموضوع
الرابعة: الصلاة في النجس ناسيا للموضوع
الخامسة: الصلاة في النجس ناسيا للحكم
135

فصل
[في الصلاة في النجس]
إذا صلى في النجس، فإن كان عن علم وعمد، بطلت صلاته، وكذا
إذا كان عن جهل بالنجاسة من حيث الحكم، بأن لم يعلم أن الشئ الفلاني
مثل عرق الجنب من الحرام نجس، أو عن جهل بشرطية الطهارة للصلاة.
وأما إذا كان جاهلا بالموضوع، بأن لم يعلم أن ثوبه أو بدنه لاقي
البول مثلا، فإن لم يلتفت أصلا، أو التفت بعد الفراغ من الصلاة صحت
صلاته، ولا يجب عليه القضاء، بل ولا الإعادة في الوقت، وإن كان أحوط،
وإن التفت في أثناء الصلاة، فإن علم سبقها وأن بعض صلاته وقع مع
النجاسة، بطلت مع سعة الوقت للإعادة، وإن كان الأحوط الإتمام ثم
الإعادة. ومع ضيق الوقت إن أمكن التطهير أو التبديل وهو في الصلاة
من غير لزوم المنافي، فليفعل ذلك ويتم وكانت صحيحة، وإن لم يمكن أتمها
وكانت صحيحة.
وإن علم حدوثها في الأثناء مع عدم إتيان شئ من أجزائها مع
النجاسة، أو علم بها وشك في أنها كانت سابقا، أو حدثت فعلا، فمع سعة
الوقت وإمكان التطهير أو التبديل يتمها بعدهما، ومع عدم الإمكان
يستأنف، ومع ضيق الوقت يتمها مع النجاسة ولا شئ عليه، وأما إذا
137

كان ناسيا، فالأقوى وجوب الإعادة أو القضاء مطلقا، سواء تذكر بعد
الصلاة، أو في أثنائها، أمكن التطهير، أو التبديل أم لا.
]
صور الصلاة في النجس
هنا صور خمسة:
الأولى: ما إذا صلى في النجس عامدا عالما بالموضوع والحكم.
الثانية: ما إذا صلى فيه جاهلا بالحكم.
الثالثة: ما إذا صلى فيه جاهلا بالموضوع.
الرابعة: ما إذا صلى فيه ناسيا للموضوع.
الخامسة: ما إذا صلى فيه ناسيا للحكم.
فلنشرع الآن في توضيح كل واحدة من هذه الصور:
الأولى: الصلاة في النجس عالما عامدا
والحكم فيها بطلان الصلاة، ويدل عليه مضافا إلى الإجماع (1) وإلى ما تقدم
من الروايات الدالة على شرطية الطهارة في صحة الصلاة، أو مانعية النجاسة عن

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 207، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 527.
138

[...]
صحتها (1)، الروايات الخاصة الدالة على البطلان:
منها: صحيحة عبد الله بن سنان، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل
أصاب ثوبه جنابة أو دم، قال: إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة، أو دم قبل أن
يصلي، ثم صلى فيه ولم يغسله، فعليه أن يعيد ما صلى... ". (2)
ومنها: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان، أو سنور، أو كلب، أيعيد صلاته؟ قال: إن
كان لم يعلم، فلا يعيد ". (3)
فإنهما دلتا بمفهومهما على بطلان الصلاة في صورة العلم بنجاسة الثوب، كما هو
واضح.
وقد يستدل على البطلان - أيضا - بفحوى الروايات الدالة على بطلان صلاة
الناسي لنجاسة الثوب، كرواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن أصاب ثوب
الرجل الدم، فصلى فيه وهو لا يعلم، فلا إعادة عليه، وإن هو علم قبل أن يصلي
فنسي وصلى فيه، فعليه الإعادة ". (4) م

(1) راجع، وسائل الشيعة: ج 2، أبواب 18 إلى 22 و 30 و 31 و 40 إلى 47 و 61، كما تقدم
في فصل اشتراط صحة الصلاة بالطهارة.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 3،
ص 1059 و 1060.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 5، ص 1060.
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 7، ص 1060.
139

[...]
بتقريب: أن العلم بالنجس قبل الصلاة مع طرو النسيان أثنائها إذا كان مانعا
عن صحتها، فالعلم به المقارن لها يكون مانعا بطريق أولى.
الثانية: الصلاة في النجس جاهلا بالحكم
فقد ألحقها المصنف (قدس سره) بصورة العلم والعمد في الحكم ببطلان الصلاة، و
لم يفرق في الحكم المجهول بين أن يكون من قبيل نجاسة شئ، كعرق الجنب من
الحرام، وبول الخفاش، وخرئه، والعصير العنبي بعد الغليان وقبل ذهاب ثلثيه، أو
يكون من قبيل اشتراط الصلاة بالطهارة عن الخبث.
ولكن ينبغي في المقام أن يتكلم في موردين:
أحدهما: في الجاهل المقصر.
ثانيهما: في الجاهل القاصر.
أما الجاهل المقصر وهو الذي يترك تعلم الحكم اجتهادا، أو تقليدا مع التمكن
منه، فبطلان صلاته أوضح من أن يخفى، إذ المأمور به وهو الواجد للشرائط، أو
الفاقد للمانع لم يقع، وما وقع لم يكن بمأمور به، وقضية هذه وجوب الإعادة في الوقت،
والقضاء في خارجه بعد ارتفاع الجهل وانكشاف بطلان ما وقع.
ولافرق في الفرض بين الجاهل الملتفت إلى جهله المعبر عنه بالشاك المتردد في
صحة العمل وبطلانه، وبين الجاهل الغافل الزاعم للصحة.
140

[...]
أما الأول: (وهو الجاهل الملتفت) فلأن الشاك في مقام الإمتثال لابد وأن
يرجع بحكم العقل إلى أصل الإشتغال المقتضي لإعادة الصلاة في الوقت، أو خارجه،
إذ الإشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينية، فلا يجوز الإكتفاء بما هو مشكوك الصحة.
وبالجملة: كانت وظيفة الجاهل الملتفت الشاك هو الرجوع إلى الإحتياط
المبرء لذمته، لكونه مخاطبا بما هو الواقع، والواقع منجز عليه حال الشك والاحتمال،
فإذا تركه وصلى في النجس بطلت صلاته، حيث إنها فاقدة لشرط الطهارة أو واجدة
لما هو المانع من الصحة وهو النجاسة.
وأما الثاني (وهو الجاهل الغافل): فلان الغفلة لا توجب صحة العمل برفع
الشرطية أو المانعية، ولا تقتضي تغييرا في متعلق الأمر ومصب الخطاب، بأن توجب
تعلقه بما هو الفاقد للشرط أو المقترن بالمانع، غاية الأمر: أنها ترفع العقاب.
وعليه: فلو ارتفعت الغفلة في الوقت تجب الإعادة، وبعده يجب القضاء،
لصدق عنوان الفوت، سواء كان في الوقت تكليف، كما في العاصي العالم العامد، أم لم
يكن، كما في الغافل، أو النائم أو السكران.
هذا كله بناءا على ما عليه المشهور، من عدم شمول الخطابات الإلهية
للجاهلين والغافلين ونحوهما.
وأما بناءا على ما قررنا في الأصول، من أن الخطابات تتوجه إلى هؤلاء
- أيضا - فالأمر أوضح.
141

[...]
وحاصل ما قلنا هناك تبعا لجمع من الأعلام منهم الإمام الراحل (قدس سره) (1): هو
أن الخطابات الإلهية ليست شخصية كي يكون توجهها إلى ذوي الأعذار - كالجاهل
والغافل - من الأمور القبيحة عند العقول السليمة، بل تكون قانونية، فتعم الناس
قاطبة، بحيث إنها بالنسبة إلى جميع المكلفين، حتى ذوي الأعذار منهم، فعلية، إلا أن
العقاب مرفوع عنهم دون غيرهم.
وعليه: فالخطابات القانونية شاملة لذوي الأعذار - أيضا - كسائر المكلفين
وتكون الأحكام والتكاليف بالنسبة إليهم - أيضا - فعلية، وإنما المرفوع عنهم
- لأجل الغفلة والجهل والعجز - هو العقاب، لا التكليف والخطاب.
فتحصل: من جميع ما ذكرنا: أن مقتضى الأدلة هو بطلان صلاة الجاهل
المقصر مطلقا، سواء كان ملتفتا مترددا بين الصحة والفساد، أم كان غافلا زاعما
للصحة، ولم يرد في المقام ما يقيد تلك الأدلة المطلقة إلا حديث: " لا تعاد " وهو
ما ورد عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: " لا تعاد الصلاة إلا من خمسة: الطهور، و
الوقت، والقبلة، والركوع، والسجود... " (2) بناءا على أن المراد من الطهارة في عقد
المستثنى هي الحدثية فقط، لا الخبثية - أيضا - فقد يتخيل أن إطلاق هذا " الحديث "
بعقده المستثنى منه يعم الجاهل المقصر، فلا يجب عليه الإعادة لو صلى في النجس.

(1) راجع، تهذيب الأصول: ج 1، ص 241 و 242.
(2) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 14، ص 683.
142

[...]
وفيه: أن " الحديث " أجنبي عن شموله لمثل الجاهل المقصر، لكونه ناظرا
- حسب المتفاهم العرفي - إلى حكم الصلاة من حيث الإعادة وعدمها - باعتبار
عقدي المستثنى منه والمستثنى - بعد الفراغ عنها، معتقدا للصحة غير متردد أصلا، لا
في الابتداء، ولا في الأثناء، وأنت تعلم أن الجاهل المقصر إما هو شاك متردد بين
الصحة والفساد، فيكون إذا عالما بالبطلان حال الإتيان، بالعقل والبرهان، أو هو
غافل زاعم للصحة فلا يعمه " الحديث " بل مقتضى قاعدة الإشتغال اليقيني في مثله هو
تحصيل الفراغ اليقيني، وعدم جواز الإكتفاء بما يكون مشكوك الصحة، ومعه يحكم
ببطلان الصلاة في المقام.
ولقد أجاد السيد الحكيم (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " إلا أن يقال:
خروج العالم بالحكم عن حديث: " لا تعاد... " ليس لدليل آخر، وإنما هو لقصوره عن
شموله، لأن قوله (عليه السلام): " لا تعاد " يراد منه نفي الإعادة في مقابل حدوث الداعي إليها، و
هذا لا يصدق في حق العالم، لتحقق الداعي إلى الإعادة فيه من أول الأمر ". (1)
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) أجاب عن " الحديث " بأنه وإن كان يشمل المقصر
مطلقا حتى الملتفت الشاك، إذ ليست النجاسة الخبثية من الخمسة، إلا أنه مع فرض
شموله للناسي، والجاهل القاصر لا يمكن الأخذ بإطلاقه والعمل به، إذ يلزم منه
تخصيص الأدلة الدالة على منع الصلاة مع النجاسة بمن صلى في النجس عن علم

(1) مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 529.
143

[...]
وعمد، وهذا هو التخصيص بالفرد النادر، بل المعدوم، حيث إن من علم بنجاسة
الثوب والبدن وباشتراط الطهارة في صحة الصلاة، لا يتمشى منه قصد الإمتثال و
القربة، ولا يقدم على إتيان الصلاة، فهو إما يريد اللعب بأمر صاحب الشريعة، أو
يريد التشريع والبدعة، والنتيجة: أن " الحديث " لا يصلح لتخصيص الأدلة المانعة،
بل لابد من إخراج الجاهل المقصر عن إطلاق " الحديث " وإدراجه تحت الأدلة
المانعة لكي لا يلزم محذور اختصاص تلك الأدلة بفرد نادر، بل معدوم. (1)
وفيه: أن عدم إقدام العالم العامد على الصلاة في النجس، إنما هو مستند إلى
الأدلة المانعة، ولولاها لما كان الإقدام منه لعبا أو بدعة، وعليه: فلا يكون اختصاص
الأدلة بالعالم العامد اختصاصا بفرد نادر، بل معدوم.
هذا، مضافا إلى أنه يحتمل أن يكون المقام من باب حكومة حديث: " لا تعاد "
على أدلة الأجزاء والشرائط، لامن باب تخصيصه لأدلة المنع كي يقال: بلزوم
التخصيص بالفرد النادر أو المعدوم، فتأمل.
ولقد أجاد شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " الظاهر
أنه لا إشكال في وجوب الإعادة في الوقت، والقضاء في خارجه لوجود المقتضي و
عدم المرخص المؤمن.
أما المقتضي، فهي الخطابات المتكفلة لبيان الأجزاء والشرائط الشاملة

(1) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 342 و 343.
144

[...]
للجاهلين - أيضا - إلا أن العقوبة ترتفع عنهم ما دامت حالة الجهل باقية، والمفروض
انكشاف الحال في الوقت أو خارجه، فلو كان هو حال الشك فاحصا لكان واصلا،
لكنه لم يفحص فلم يصل.
وأما عدم المرخص، فلأن المرخص، إما هو أدلة التفصيل بين صورتي العلم و
الجهل، بدعوى: أن الشاك الملتفت هو الجاهل فيأتي بالصلاة رجاءا، فتصح صلاته
كصلاة سائر الجاهلين.
وفيه: أن الظاهر المتفاهم عرفا من أحاديث التفصيل هو الجاهل بمعنى الغافل
الذي يرى نفسه واجدا للشرائط، لا الشاك الملتفت. (1)
وإما هو حديث: " لا تعاد " زعما أنه يعم الشاك الملتفت.
وفيه: أيضا، أنه خلاف الظاهر، إذ الظاهر أن " الحديث " ناظر إلى مرحلة
الفراغ والامتثال، وعلاج لما وقع حال الجهل والغفلة، ولما اتي به زعما للصحة حال
الإمتثال، وليس ناظرا إلى مقام الجعل وتشريع الحكم ظاهرا، وأنه يجوز للشاك
الملتفت وروده في الصلاة رجاءا، فتصح صلاته، فلا تعاد ولو انكشف الخلاف في
الوقت أو خارجه.
ولو سلم شموله للشاك - أيضا - فلا يجدي قطعا، إذ " الحديث " لسانه، لسان
تتميم العمل، وجعل الناقص أو الفاقد منزلة التام والواجد في مقام الفراغ والامتثال،

(1) هذا، ولكن لقائل أن يقول: إن أدلة التفصيل واردة في الجهل بالموضوع، والكلام هنا في
الجهل بالحكم.
145

[...]
فلا محالة يكون تتميما في هذه المرحلة مالم ينكشف الخلاف، لاما إذا انكشف - أيضا -
والنتيجة - والحال هذه - هو وجوب القضاء والإعادة ". (1)
هذا كله في المورد الأول وهو الجاهل المقصر.
أما المورد الثاني: وهو الجاهل القاصر (المعذر جهله) فالصواب صحة
صلاته في النجس.
واستدل له بحديث: " لا تعاد " المقتضي لعدم وجوب الإعادة، إلا في الخمسة،
بناءا على اختصاص الطهور فيه بالطهارة الحدثية، أو المراد منه هذه الطهارة بمعونة
القرينة، كما تأتي الإشارة إليها.
ولكن استشكل في الاستدلال به من وجوه:
الأول: ما حكي عن المحقق النائيني (قدس سره) محصله: أن حديث: " لا تعاد " إرفاقي
امتناني يرفع الإلزام ووجوب الإعادة تسهيلا وتوسعة على المكلفين في كل مورد
قابل لها، بحيث لولا الحديث لكانت الإعادة واجبة، وهذا إنما يتصور فيما لم يمكن فيه
الأمر بالواقع، كما في الناسي، حيث لا يمكن خطابه وأمره بالجزء المنسي، ففي مثله
لا مانع من الحكم بوجوب الإعادة بعد طرو الذكر وارتفاع النسيان، إلا أن الشارع
لم يأمر بها توسعة على الأمة، فقال: بعدم الإعادة إلا في الموارد الخمسة، فالناسي قابل
لإيجاب الإعادة، فقابل لرفعها إرفاقا له ومنة عليه، وهذا بخلاف الجاهل مقصرا كان

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
146

[...]
أو قاصرا، إذ هو مكلف بنفس الواقع من دون أن يسقط عنه الأمر بالعمل، فحينئذ
لاوجه للأمر له بالإعادة كي يكون المورد قابلا لإيجاب الإعادة ورفعها، بل المرجع
في مثل الجاهل قاصرا أو مقصرا، هي المطلقات المانعة عن الصلاة في النجس، ومن
المعلوم: أن مقتضاها هو وجوب الإتيان بالعمل.
نعم، الجاهل القاصر يكون معذورا في المخالفة، وهذه المعذورية لا توجب
سقوط التكليف الواقعي عنه بالمرة، بل توجب عدم استحقاق العقوبة. (1)
هذا، ولكن أجيب عن هذا الإشكال بوجهين:
أحدهما: ما عن شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) حيث قال في تقريب هذا الإشكال،
ما محصله: أن عدم الإعادة إنما يحسن إطلاقه فيما يحسن ويصح فيه إطلاق الإعادة، كما
إذا لم يمكن أن يكون المصلي مكلفا بتمام الأجزاء والشرائط، كالناسي لبعض الأجزاء أو
الشرائط، حيث لا يعقل خطابه بالمنسي من شطر أو شرط، لعدم قدرته على الإمتثال
في هذا الحال، ففي مثله يصح الأمر بالإعادة، لكن الشارع رفعها بمقتضى حديث:
" لا تعاد " بالإرفاق والمنة، وهذا بخلاف الجاهل بالحكم، حيث إنه مكلف بالواقع و
مأمور بإتيان المركب والكل الواجد للأجزاء والشرائط، فهو محكوم بالإتيان بما هو
وظيفته.
وعليه: لو انكشف الخلاف انكشف أنه لم يأت بالوظيفة ولم يمتثل، حتى يصح

(1) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 344 و 345.
147

[...]
في حقه إطلاق عنوان الإعادة، فترفع بحديث: " لا تعاد " إرفاقا ومنة.
ثم أجاب (قدس سره) عنه بقوله: إن الإعادة هو الإتيان بثاني الوجود من الطبيعة، سواء
كان أول الوجود منها فردا حقيقيا، كما في الناسي حال نسيانه، أو فردا زعميا
اعتقاديا، كما في الجاهل، ففي كلا الموردين يصح إطلاق الإعادة. (1)
وثانيهما: ما عن بعض المعاصرين، محصله: أن الإعادة حقيقة لا مجال لها في
مورد أصلا، سواء اتي بالمأمور به تاما، فلاوجه للإعادة، أم لم يؤت به كذلك، فيجب
حينئذ الإتيان به، لا إعادته، فإذا لابد أن يكون الأمر بالإعادة على تقدير الإخلال
ببعض الشرائط والأجزاء، إرشادا إلى ثبوت الجزئية والشرطية مطلقا، كما لابد أن
يكون نفي الإعادة إرشادا وإخبارا بعدم الجزئية والشرطية.
وعليه: فحديث: " لا تعاد " ناظر إلى أدلة الأجزاء الظاهرة في الجزئية المطلقة
لتمام الأجزاء، وناظر - أيضا - إلى أدلة الشرائط الظاهرة في الشرطية المطلقة لجميع
الشرائط، ومبين أنها على قسمين:
أحدهما: ما يكون له الشرطية والجزئية المطلقة في كل حال، وهي تلك
الخمسة المذكورة فيه بعنوان المستثنى.
وثانيهما: ما لا يكون كذلك وهو غير تلك الخمسة، وقد أشير إليه فيه بعنوان
المستثنى منه، فنفي الإعادة في صدر الحديث إرشاد إلى نفي الجزئية والشرطية، كما أن
إثبات الإعادة في ذيله إرشاد إلى إثباتهما بالنسبة إلى الخمسة، والتعبير بالإعادة بهذا

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
148

[...]
المعني، كما يناسب الناسي، كذلك يناسب الجاهل القاصر.
نعم، هذا التعبير لا يناسب الجاهل المقصر المتردد المتمكن من تعلم الحكم
اجتهادا أو تقليدا - كما لا يناسب العالم العامد - بل المناسب للجاهل تحريكه إلى تعلم
المأمور به، وللعالم تحريكه إلى الإتيان بالمأمور به، فلا يعمهما حديث: " لا تعاد " لو تركا
بعض الشرائط والأجزاء. (1)
وفيه: أن هذا الوجه وإن كان جيدا، لكن نفي الإعادة ليس نصا أو ظاهرا فيما
ذكر من نفي الجزئية أو الشرطية، فلعله لعدم إمكان استيفاء المصلحة غير المستوفاة
بالإتيان بالمأمور به ثانيا، أو لعله لتقبل الفاقد مكان الواجد، والناقص مكان التام
من ناحية الشرع الأنور، إرفاقا ومنة على الأمة، فتأمل جيدا.
الوجه الثاني: ما عن السيد الحكيم (قدس سره) من أن " الحديث " وإن كان حاكما
على أدلة تشريع الجزئية والشرطية، إلا أنه ورد في المقام ما دل على وجوب إعادة
الصلاة كصحيح عبد الله بن سنان، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أصاب ثوبه
جنابة أو دم، قال: إن كان قد علم أنه أصاب ثوبه جنابة أو دم قبل أن يصلى، ثم
صلى فيه ولم يغسله، فعليه أن يعيد ما صلى، وإن كان لم يعلم به، فليس عليه إعادة، و
إن كان يرى أنه أصابه شئ فنظر فلم ير شيئا، أجزأه أن ينضحه بالماء ". (2)

(1) راجع، تفصيل الشريعة، النجاسات وأحكامها: ص 343 و 344.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 3،
ص 1059 و 1060.
149

[...]
وعليه: فيمنع عن دلالة " الحديث " على نفي الإعادة في مثل المقام، ضرورة أن
النسبة بين صحيح عبد الله بن سنان، وحديث: " لا تعاد " إما هو العموم المطلق،
بتقريب أن الصحيح يثبت الإعادة في خصوص العالم بموضوع النجاسة قبل الصلاة، و
" الحديث " ينفيها مطلقا فيخصص بالصحيح، والنتيجة وجوب الإعادة على القاصر
العالم بموضوع النجاسة، والجاهل بحكمها من المانعية وشرطية الطهارة في صحة
الصلاة.
أو العموم من وجه، بتقريب أن " الحديث " بما أنه مختص بغير العامد العالم
بالحكم والموضوع، يثبت الإعادة على العالم بموضوع النجاسة وحكمها، والصحيح
لا يعارضه فيه، وأن الصحيح ينفي الإعادة بمفهومه من الجاهل بموضوع النجاسة و
حكمها، و " الحديث " لا يعارضه فيه، وإنما يتعارضان فيمن علم بموضوع النجاسة و
جهل بحكمها، فإن مقتضي الصحيح ثبوت الإعادة فيه، ومقتضى " الحديث " نفيها
عنه، والمرجع عند التساقط هو إطلاقات أدلة المانعية، أو الشرطية المقتضية للبطلان و
وجوب الإعادة. (1)
هذا، ولكن يرد عليه: بأن صحيح عبد الله بن سنان مشتمل على الفروض
الثلاثة، كلها ناظرة إلى موضوع النجاسة دون حكمها، غاية الأمر: يختص الفرض

(1) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 529.
150

[...]
الأول بمن نسي نجاسة ثوبه بدم أو جنابة، فصلى فيه، والفرض الثاني يختص بمن
جهل بنجاسته حين الصلاة، والفرض الثالث بمن يرى أنه أصابه شئ قبل الصلاة،
فنظر ولم ير شيئا ثم صلى فيه، فأنت ترى أنه لا أثر في هذا الصحيح من الجهل بالحكم
أصلا، لا تقصيرا ولا قصورا، وحينئذ، كيف تتحقق المعارضة بينه وبين حديث:
" لا تعاد " الذي يكون ناظرا إلى الجاهل بالحكم، أو إلى مطلق الجاهل ولو جهلا
موضوعيا! فيوافق الصحيح معه في الجهل بالموضوع.
الوجه الثالث: أن: " الطهور " المذكور في حديث: " لا تعاد " إما يكون هو
الأعم الشامل للطهارة الخبثية - أيضا - أو يكون مجملا، وعلى كلا الوجهين لا يجوز
التمسك " بالحديث " لإثبات عدم وجوب الإعادة على الجاهل القاصر.
أما على الأول، فواضح.
وأما على الثاني: فلسراية إجمال المخصص المتصل إلى العام، ومعه لا مجال
للتمسك بعموم " لا تعاد " بل المرجع حينئذ أدلة مانعية النجاسة، ومقتضاها بطلان
الصلاة مع النجاسة الخبثية.
وفيه: أن الإجمال لا مجال له، بل المراد من " الطهور " هنا هي الطهارة الحدثية
فقط، وإن كان هو الأعم وضعا حسب العرف واللغة.
والوجه فيما ذكرنا: هو أن هنا قرينتين دالتين على أن المراد من الطهارة هي
الحدثية فقط:
151

[...]
إحديهما: القرينة الداخلية وهي ما في ذيل الحديث من قوله (عليه السلام): "... القراءة
سنة، والتشهد سنة، ولا تنقض السنة الفريضة ". (1)
فيدل الحديث بمعونة هذا الذيل، على أن غير الخمسة المذكورة في المستثنى
ليست من الأركان، فلا تعاد منها الصلاة، وإنما تعاد من الأركان الخمسة فقط وهي
التي ذكرت في الكتاب العزيز (2) وليس منها الطهارة من الخبث.
ثانيتهما: القرينة الخارجية وهي الروايات الكثيرة الدالة على صحة الصلاة
في النجس مع الجهل بالموضوع، فيستفاد منها: أن الطهارة الخبثية لا تكون من تلك
الخمسة التي يوجب فوتها بطلان الصلاة مطلقا.
ومن هذه الروايات: ما عن زرارة، قال: " قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف
- إلى أن قال - قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه أصابه فطلبته، فلم أقدر
عليه، فلما أن صليت وجدته، قال: تغسله وتعيد الصلاة، قلت: فإن ظننت أنه قد
أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت، فلم أر فيه شيئا ثم صليت فرأيت فيه، قال: تغسله و
لا تعيد الصلاة، قلت: لم ذاك، قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت، فليس

(1) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5،
ص 770.
(2) سورة البقرة (2): الآية 43، وسورة آل عمران (3)، الآية 43، وسورة الشعراء (26)
، الآية 219، وسورة البقرة (2)، الآية 144 و 149 و 150، وسورة الإسراء (17)، الآية 78، و
سورة المائدة (5)، الآية 6.
152

[...]
ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ". (1)
ومنها: ما عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ذكر المني فشدده
فجعله أشد من البول، ثم قال: إن رأيت المني قبل، أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك
إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه، ثم صليت فيه، ثم رأيته بعد،
فلا إعادة عليك، فكذلك البول ". (2)
ومنها: ما عن ميمون الصيقل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: رجل
أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة، فقال: الحمد لله
الذي لم يدع شيئا إلا وله حد، إن كان حين قام نظر، فلم ير شيئا، فلا إعادة عليه، و
إن كان حين قام لم ينظر، فعليه الإعادة ". (3)
ومنها: ما عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من إنسان أو سنور أو كلب، أيعيد الصلاة؟ قال: إن
كان لم يعلم، فلا يعيده ". (4) م

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1061 و 1062.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 1062.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 3، ص 1062.
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 5،
ص 1060.
153

[...]
منها: ما عن العيص بن القاسم، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) صلى في ثوب
رجل أياما، ثم إن صاحب الثوب أخبره أنه لا يصلي فيه، قال: لا يعيد شيئا من
صلاته ". (1)
فتحصل: أن المراد من الطهارة في حديث: " لا تعاد " هو خصوص الطهارة
الحدثية، لا الأعم منها ومن الخبثية.
والوجه فيه: ما عرفت من وجود القرينتين الدالتين على الإختصاص، ولعل
لهذا الوجه، خص أرباب الفقاهة " الحديث " بالطهارة الحدثية.
الثالثة: الصلاة في النجس جاهلا بالموضوع
ولا يخفى: أن مورد البحث هو صورة عدم التفات الجاهل رأسا، أو التفاته
بعد الفراغ من الصلاة.
فنقول: إن في الحكم بصحة الصلاة فيه وعدمه، أقوالا أربعة:
الأول: صحة الصلاة وعدم وجوب الإعادة مطلقا، سواء في الوقت أو في
خارجه، وهذا القول هو الأشهر الأظهر أو المشهور. (2)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 6، ص 1060.
(2) الحدائق الناضرة، ج 5، ص 413 و 414.
154

[...]
الثاني: وجوب الإعادة مطلقا. (1)
الثالث: التفصيل بين الوقت وخارجه، فيحكم في الأول بوجوب الإعادة،
وفي الثاني بعدم وجوب القضاء، وإليه ذهب الشيخ (قدس سره) (2) ولعل وجهه هو كونه
مقتضى الجمع بين الروايات المتعارضة، على ما سيأتي ذكرها.
الرابع: التفصيل بين الشاك الفاحص عن النجاسة، فلا يجب عليه الإعادة، و
بين غير الفاحص عنها، فيجب عليه الإعادة، وإليه ذهب الشيخ المفيد (قدس سره) (3)، وعن
الشهيد الأول (قدس سره) إمكان هذا التفصيل. (4)
والصحيح عندنا هو القول الأول، كما ذهب إليه المصنف (قدس سره).

(1) كتاب الخلاف: ج 1، ص 163، مسأله 221، حيث قال: "... فمنهم من قال يجب عليه
الإعادة على كل حال... ".
(2) النهاية، ص 7 و 8، حيث قال: " وهذه المياه التي ذكرناها، متى لحقها حكم النجاسة،
فلا يجوز استعمالها في الوضوء والغسل معا ولاغسل الثوب... فمن استعملها في... غسل الثوب ثم
صلى... فإن لم يتقين حصول النجاسة فيها قبل استعمالها، لم يجب عليه إعادة الصلاة... اللهم إلا أن
يكون الوقت باقيا، فإنه يجب عليه غسل الثوب وإعادة الوضوء وإعادة الصلاة، فإن كان قد مضى
الوقت لم يجب عليه إعادة الصلاة ".
وفي موضع آخر من النهاية، ص 94، قال: بعدم إعادة الصلاة مطلقا، وإليك نص كلامه: " ومن
صلى في ثوب فيه نجاسة... فإن لم يكن قد علم وصلى ثم علم بعد ذلك، فليس عليه الإعادة ".
(3) المقنعة في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية، ج 3، ص 126، حيث قال: " من صلى في ثوب
يظن أنه طاهر ثم عرف بعد ذلك أنه كان نجسا ففرط في صلوته من غير تأمل له، أعاد ما صلى فيه
في ثوب طاهر ".
(4) ذكرى الشيعة: ص 17، حيث قال: " ولو قيل: لا إعادة على من اجتهد قبل الصلاة، و
يعيد غيره أمكن ".
155

[...]
والوجه فيه: أولا: ما تقدم من حديث: " لا تعاد " بناءا على أن المراد من
" الطهور " في عقد المستثنى هي الطهارة الحدثية، كما حقق ذلك آنفا، فتبقى الطهارة
الخبثية المبحوث عنها تحت عقد المستثنى منه، ومقتضاه عدم وجوب الإعادة على
الجاهل بالنجاسة مطلقا وإن التفت بعد الفراغ من الصلاة والوقت باق.
وثانيا: ما تقدم - أيضا - من الروايات (1) التي أكثرها الصحاح الظاهرة في
عدم وجوب الإعادة على من صلى جاهلا بالنجاسة، سواء كان غافلا أو ملتفتا
فاحصا قبل الصلاة غير واجد للنجاسة، أو غير فاحص.
نعم، تعارض تلك الروايات، روايتان دالتان على وجوب الإعادة في
الفرض:
إحديهما: صحيحة وهب بن عبد ربه، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في الجنابة
تصيب الثوب ولا يعلم به صاحبه، فيصلي فيه، ثم يعلم بعد ذلك، قال: يعيد إذا لم يكن
علم ". (2)
ثانيتهما: رواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن رجل صلى و
في ثوبه بول أو جنابة، فقال: علم به أو لم يعلم، فعليه إعادة الصلاة إذا علم ". (3)

(1) وهي صحيحة زرارة، ومحمد بن مسلم، وعبد الرحمن بن أبي عبد الله، وإسماعيل الجعفي،
والعيص بن القاسم، ورواية أبي بصير، وابن سنان.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 8،
ص 1060 و 1061.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 9،
ص 1061.
156

[...]
وعليه: فلابد حينئذ من العلاج بينهما.
فعن صاحب الجواهر (قدس سره) الجمع بينهما بحمل الروايات المتقدمة على عدم
الإعادة في خارج الوقت، وحمل الروايتين على الإعادة في الوقت. (1)
هذا، ولكن لا يمكن المساعدة على هذا الجمع من وجوه:
أحدها: أن هذا الجمع مما لا شاهد له ولا دليل عليه، فيكون جمعا تبرعيا
لا يعبأ به.
نعم، يتوهم وجود ما يصلح لكونه شاهدا لهذا الجمع وهو أمران:
الأول: الإجماع على عدم وجوب القضاء في خارج الوقت، فترفع اليد به عن
إطلاق المتعارضتين ويجمع بينهما بما ذكر، لدوران الأمر بين الطرح والجمع كذلك، و
من المقرر في محله: أن الجمع هو الأولى.
الثاني: كون الإعادة في الوقت مما يتيقن إرادته من الروايات الدالة على
الإعادة مطلقا.
ولكن في كلا الأمرين نظر:
أما الأول: فلأنه أولا: لا إجماع في المسألة.
وثانيا: لو كان، لكان من المحتمل أنه مدركي مستند إلى صحيح العيص
المتقدم، زعما أنه يدل على عدم وجوب القضاء.

(1) جواهر الكلام، ج 6، ص 211 و 212، حيث قال: "... وللجمع بين الأخبار السابقة و
بين صحيح وهب بن عبد ربه... وخبر أبي بصير... بحملهما على الوقت، والأولى على خارجه ".
157

[...]
وثالثا: لو سلم كونه تعبديا محضا، فهو قائم على خصوص عدم الإعادة في
خارج الوقت، دون الإعادة في الوقت.
وعليه: فلعل الإجماع موافق للروايات المتقدمة الدالة على عدم الإعادة مطلقا،
كما هو مسلك المشهور، فإذا كيف يمكن دعوى أن الإجماع شاهد للجمع المذكور!
هذا، مضافا إلى إمكان جمع آخر في المقام، وهو حمل الروايات الدالة على
الإعادة على الإستحباب، فلا ينحصر دوران الأمر بين الطرح والجمع المذكور كي
يلتزم به، نظرا إلى أولوية الجمع من الطرح.
أما الثاني: فلأنه لو كان ذلك وجها للجمع، لأمكن الجمع بين المتعارضين
غالبا، وارتفع التعارض من البين، وهذا كما ترى.
ثانيها: أنه يلزم التهافت من الجمع المذكور، كما قال به شيخنا الأستاذ
الآملي (قدس سره) (1)، وذلك، لأن عدم وجوب القضاء لابد وأن يكون من جهة عدم تحقق
موضوعه وهو الفوت، ومقتضاه هو أن المأتي به نفس المأمور به الواقعي، ومقتضى
ذلك - أيضا - عدم وجوب الإعادة في الوقت، والنتيجة: هو أنه يلزم من الجمع عدمه
وهذا هو التهافت.
ثالثها: أن الروايتين الدالتين على وجوب الإعادة، لا يمكن الإعتماد عليها، لا
لأجل السند، بل لأجل ما في متنهما من الاضطراب والتشويش.

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
158

[...]
أما صحيحة وهب، فلأن الجملة الشرطية في قوله (عليه السلام): " يعيد إذا لم يكن علم "
لو كان لها مفهوم لدلت بمنطوقها على الإعادة عند الجهل بالنجاسة، وبمفهومها على
عدم الإعادة عند العلم بها، وهذا في غاية الوهن، وأما لو لم يكن لها مفهوم لكان
الأولى، بل المتعين أن يقال: مكان كلمة: " إذا " كلمة: " وإن " أو: " حتى إذا " أو: " ولو ".
ولعل لهذا التشويش وقع الفقهاء في تفسير هذه الصحيحة في حيص وبيص.
فعن الشيخ (قدس سره) (1) أنها محمولة على صورة النسيان، وعن صاحب وسائل
الشيعة (قدس سره) يمكن حملها على الإستحباب، أو حملها على الاستفهام الإنكاري بحذف
أداته، فقوله (عليه السلام): " يعيد إذا لم يكن علم " معناه: " هل يعيد...؟ ". (2)
وعن شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره): يحتمل قويا، سقوط كلمة: " لا " فيكون
الجواب موافقا للسؤال. (3)

(1) الاستبصار، ج 1، ص 181، حيث قال: " لأن الوجه في الجمع بينها أنه إذا علم الإنسان
حصول النجاسة في الثوب ففرط في غسله ثم نسي حتى صلى، وجب عليه الإعادة ".
وفي التهذيب، ج 2، ص 360، نظير ذلك. ولا يخفى: أن هذا الجمع لا يناسب مع ما في هذين
الكتابين المطبوعين في عصرنا من ضبط كلمة: " لا " في قوله: " لا يعيد ".
وعليه: فالجمع قرينة على عدم اشتمال الصحيحة عند الشيخ (قدس سره) على هذه الكلمة. نعم، يناسب
الجمع المذكور مع نقل صاحب وسائل الشيعة (قدس سره) عنهما، حيث كان خاليا عن كلمة: " لا ".
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 8،
ص 1060 و 1061.
(3) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
159

[...]
وعليه: فلا تصلح هذه الصحيحة للنهوض في قبال تلك النصوص الكثيرة
المتظافرة التي تدل على عدم وجوب الإعادة.
وأما موثقة أبي بصير، فلأن الجملة الشرطية في قوله (عليه السلام): " فعليه الإعادة إذا
علم " لها احتمالان:
الأول: أن مفادها هو التنجيز، بمعنى أن وجوب الإعادة إنما يتنجز بعد العلم
بالنجاسة، كما هو في سائر التكاليف.
وعليه: فمعنى قوله (عليه السلام): " علم به أو لم يعلم " هو أنه لافرق في وجوب
الإعادة بعد العلم بالنجاسة بين ما إذا كان المصلي عالما بها قبل الدخول بالصلاة، أم
جاهلا، وبهذا تتحقق المعارضة بينهما، وبين ما دل على عدم وجوب الإعادة مع
الجهل بالنجاسة.
الثاني: أن مفادها هو البيان لأصل الحكم، وأنه تجب الإعادة إذا علم
بالنجاسة قبل الصلاة، وإلا، فلا.
وعليه: فقوله (عليه السلام): " علم به أو لم يعلم " ناظر إلى التقسيم، لا التسوية، بمعنى:
أن المصلي إذا علم بالنجاسة قبل الصلاة، يجب عليه إعادتها، كما هو مقتضى منطوق
الجملة الشرطية، وإذا لم يعلم بها قبلها، فلا إعادة عليه، كما هو مقتضى مفهوم الجملة
الشرطية، وبهذا ترفع المعارضة بينها، وبين الأدلة الدالة على وجوب الإعادة مع
الجهل بالنجاسة، إذ هي - أيضا - تفيد عدم وجوب الإعادة مع الجهل بها.
160

[...]
رابعها: أن بعض الأخبار النافية للإعادة، له ظهور تام في الإطلاق، بحيث
يكون كالنص فيه، فيأبى حينئذ عن الحمل على خارج الوقت، كرواية أبي بصير، عن
أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجل صلى في ثوب فيه جنابة، ركعتين، ثم علم به، قال: عليه
أن يبتدي الصلاة، قال: وسألته عن رجل يصلي وفي ثوبه جنابة، أو دم حتى فرغ
من صلاته، ثم علم، قال: مضت صلاته ولا شئ عليه ". (1)
إذ هي متضمنة للسؤال في موردين: أحدهما، في مورد العلم بالنجاسة في أثناء
الصلاة، فأجاب (عليه السلام) بإعادة الصلاة.
ثانيهما، في مورد العلم بها بعد الفراغ عن الصلاة، فأجاب (عليه السلام) بعدم الإعادة.
وعليه: فحيث إن السؤال الأول ناظر إلى صورة بقاء الوقت، لا مجال لحمل
إطلاق الثاني من جهة الوقت وخارجه على العلم بالنجاسة بعد خروج الوقت، وإلا
فيلزم أن تبقى صورة العلم بالنجاسة بعد الفراغ من الصلاة مع بقاء وقتها بلا حكم، و
هذا كما ترى.
وكرواية محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " سألته عن الرجل يرى في
ثوب أخيه دما وهو يصلي، قال: لا يؤذنه حتى ينصرف ". (2)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 1059.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1059.
161

[...]
بتقريب: أن كلمة: " حتى " في قوله (عليه السلام): " لا يؤذنه حتى ينصرف " تكون غاية
لعدم الإيذان، فيستفاد منها أن الإيذان بعد الفراغ من الصلاة، سواء في الوقت وعدمه
لا يوجب الإعادة، وإلا فيلزم أن لا يكون بين الإيذان حال الصلاة، وبين الإيذان
بعدها فرق في وجوب الإعادة، وهذا خلاف ظاهر التحديد والغاية.
والنتيجة: أنه لا مجال لحمل عدم الإعادة المستفاد من هاتين الروايتين على
خصوص خارج الوقت، بل العمل بالإطلاق هو المتعين.
وكصحيحة زرارة، قال: " قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف... قلت: فإن ظننت
أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر فيه شيئا ثم صليت، فرأيت فيه، قال:
تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذاك؟ قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم
شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ". (1)
بتقريب: أن عدم الإعادة قد علل فيها باستصحاب الطهارة، ومعناه: أن
الطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة متحققة ولو كانت ظاهرية، فلا مجال لإعادتها
مطلقا، لافي خارج الوقت ولا في الوقت.
ونتيجة ذلك: هو إباء هذا الإطلاق عن الحمل على خصوص عدم الإعادة
في خارج الوقت.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1061 و 1062.
162

[...]
وإن شئت فقل: إن مقتضى الجمع بين التعليل بالاستصحاب، وكون المقام من
موارد نقض اليقين باليقين لانكشاف الخلاف حسب الفرض، هو أن في فرض الجهل
لابد أن يلتزم، إما بإجزاء الحكم الظاهري، أو بأن شرط صحة الصلاة هي الطهارة
الأعم من واقعية والظاهرية، فحينئذ لا مناص من الحكم بعدم إعادة الصلاة عند
الجهل بالنجاسة مطلقا، سواء في الوقت أو في خارجه، وإلا فيلزم من حمل عدم
الإعادة على خارج الوقت، اختصاص إجزاء الحكم الظاهري، أو كون الطهارة هو
الأعم بصورة خارج الوقت، وهو كما ترى في غاية الوهن.
فتحصل: أن الجمع المذكور وحمل الأخبار النافية للإعادة على خارج الوقت
والمثبتة للإعادة على الوقت، غير وجيه، وأن الروايتين لا تصلحان للمعارضة
لاضطراب متنهما.
ولو سلم تحقق المعارضة، لكان الترجيح مع الأدلة النافية للإعادة، بل يمكن أن
يقال: إن الروايتين معرض عنهما، فتسقطان عن الإعتبار والحجية.
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) ارتضى هذا الجمع، مدعيا: بأن النصوص الواردة في
المقام على ثلاث طوائف:
الأولى: النافية للإعادة مطلقا وهي الأخبار المتقدمة.
الثانية: المثبتة للإعادة كذلك وهي الروايتان المتقدمتان.
الثالثة: النافية لوجوب القضاء فقط، كصحيح العيص المتقدم، والنسبة بين
الأولى والثانية وإن كانت هي التباين، إلا أنه بعد تقييد الثانية بالثالثة، جمعا بين
163

[...]
المطلق والمقيد المتنافيين، تنقلب النسبة من التباين إلى العموم المطلق، لاختصاص
المثبتة حينئذ بالإعادة في الوقت، فمقتضى الجمع بينهما هو حمل الطائفة الأولى على
عدم وجوب القضاء خارج الوقت، والثانية على وجوب الإعادة في الوقت. (1)
وفيه: أن صحيح العيص ليس نصا في نفي وجوب القضاء، فليس معنى
قوله (عليه السلام): " لا يعيد شيئا من صلاته " عدم وجوب القضاء، بل ظاهره عدم وجوب
شئ من صلاته بعد إخبار صاحب الثوب، سواء كان الإخبار بعد انقضاء الوقت،
فلا يجب القضاء، أم كان مع بقاء الوقت، فلا يجب الإعادة.
وعليه: فلا مجال لانقلاب النسبة، هذا كله في القول الأول.
أما القول الثاني (الإعادة مطلقا) فقد اتضح مما مر، أنه لاوجه له، فلا نعيد
الكلام فيه.
أما القول الثالث (التفصيل بين الوقت وخارجه): فليس له وجه واضح، إلا
كونه مقتضى الجمع بين الروايات المتعارضة، وقد عرفت آنفا: أن هذا الجمع مردود
بوجوه.
أما القول الرابع (التفصيل بين الشاك التارك للفحص، وبين غيره): فقد
استدل له بروايات:
منها: صحيحة زرارة المتقدمة: "... قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 134 و 135.
164

[...]
ذلك، فنظرت فلم أر فيه شيئا، ثم صليت فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد
الصلاة... ". (1)
تقريب الاستدلال بها كما عن صاحب الحدائق (قدس سره) (2): هو أن جوابه (عليه السلام) بعدم
إعادة الصلاة، حيث ترتب على ظن الإصابة مع النظر وعدم الرؤية، يفهم منه ترتب
الإعادة على الظن المذكور وعدم النظر، وهذا هو التفصيل.
وفيه: أولا: أن التقريب المذكور إنما يتم إذا لم يلاحظ ما في ذيلها: " قلت: فهل
علي إن شككت في أنه أصابه شئ أن أنظر فيه؟ فقال: لا، ولكنك إنما تريد أن
تذهب الشك الذي وقع في نفسك " (3) وإلا فلا دلالة فيها على التفصيل، إذ المستفاد
من هذا الذيل هو أن الفائدة المترتبة على النظر والفحص، إنما هي خصوص ذهاب
الوسوسة والشك الواقع في نفس المصلي، لاعدم الإعادة لو انكشف الخلاف، كما هو
المدعى.
وثانيا: أن الصحيحة مشتملة على التعليل للحكم بعدم الإعادة وهو
قوله (عليه السلام): " لأنك كنت على يقين من طهارتك... ".

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1053.
(2) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 416.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1053.
165

[...]
ومن المعلوم: أن مقتضى التعليل هو أن الحكم يدور مداره، كما عرفت آنفا:
من أن سبب عدم الإعادة إنما هو استصحاب الطهارة، وكون المصلي متطهرا ظاهرا
مع إجزاء الحكم الظاهري، أو كون الشرط هو الطهارة الأعم من الظاهرية و
الواقعية، بلا دخل لغيره كالفحص والنظر أصلا، بل لا حاجة إلى الفحص في مثل
المقام الذي يكون من الشبهات الموضوعية، إذ من المقرر في محله، أن جريان
استصحاب الطهارة في هذه الشبهة، لا يتوقف على الفحص.
وثالثا: أن الفحص والنظر إنما فرض في كلام السائل، لافي جواب
الإمام (عليه السلام) وعليه: فلا ينافي هذا الفرض إطلاق عدم الإعادة الشامل لكلتا صورتي
الفحص وعدمه.
ومنها: رواية ميمون الصيقل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: رجل
أصابته جنابة بالليل فاغتسل، فلما أصبح نظر، فإذا في ثوبه جنابة، فقال: الحمد لله
الذي لم يدع شيئا إلا وله حد، إن كان حين قام نظر فلم ير شيئا، فلا إعادة عليه، و
إن كان حين قام لم ينظر، فعليه الإعادة ". (1)
ومنها: مرسلة الصدوق (قدس سره) قال: " وقد روي في المني، أنه إن كان الرجل
حيث قام، نظر وطلب فلم يجد شيئا، فلا شئ عليه، فإن كان لم ينظر ولم يطلب،
فعليه أن يغسله ويعيد صلاته ". (2)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 3، ص 1062.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 4،
ص 1062.
166

[...]
ولا يخفى: أن هاتين الروايتين وإن دلتا على التفصيل بلا كلام، إلا أنه لا يعبأ
بهما لضعف السند، وذلك، للإرسال في الثانية ولجهالة ميمون الصيقل في الأولى.
نعم، نقلها الكليني (قدس سره) (1) عن منصور الصيقل ولكنه - أيضا - كميمون
الصيقل مجهول، لا يمكن الإعتماد عليه، مع أن إبدال " ميمون " ب‍ " منصور " اشتباه على
ما صرح به العلامة المامقاني (قدس سره) (2)، وذلك، لاشتمال الرواية على " سيف " وهو
لا ينقل غالبا إلا عن ميمون الصيقل.
هذا، مضافا إلى أن صحيحة زرارة المتقدمة المتضمنة للتعليل، تعارض هاتين
الروايتين.
وجه المعارضة هو أن مقتضى الصحيحة نفي التفصيل، إذ عرفت: أن التعليل
فيها بالاستصحاب يفيد عدم دخل الفحص والنظر في الحكم بعدم الإعادة، والحكم
يدور مدار العلة، فحسب.
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) أشكل على الروايتين: بأنهما متعارضتان مع صحيحة
محمد بن مسلم، ورواية أبي بصير المتقدمتين، إذ هما على ما عرفت سابقا: تدلان على
عدم الإعادة مطلقا، سواء فحص المصلي عن النجاسة قبل الصلاة أم لم يفحص. (3)
وفيه: أن دلالة الصحيحة ورواية أبي بصير على عدم الإعادة، حيث إنها

(1) راجع، الفروع من الكافي: ج 3، كتاب الصلاة، الحديث 7، ص 407.
(2) راجع، تنقيح المقال: ج 3، ص 265.
(3) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 144.
167

[...]
تكون بالإطلاق، فلا معارضة بينهما، وبين رواية ميمون الصيقل والمرسلة، إذ هما
تدلان على عدم الإعادة عند الفحص فقط، فتقيد الصحيحة ورواية أبي بصير بهما.
هذا، وقد أشكل بعض المعاصرين على رواية ميمون الصيقل - أيضا - بأنها
سؤالا وجوابا ناظرة إلى لزوم إعادة الاغتسال وعدمه على من وجد في ثوبه جنابة
بعد اغتساله منها، وذلك، لاحتمال تجدد الجنابة حال النوم بعد ما اغتسل منها قبله،
مع أن المفروض أمارية وجود الجنابة في الثوب على الاحتلام عرفا، ولانظر لها، بل
ولا إشعار في السؤال إلى وقوع الصلاة في الثوب الكذائي، والجواب - أيضا - لا يكون
متعرضا لحكم الصلاة فيه، فالمراد من الإعادة وعدمها هي إعادة الغسل وعدمها، كما
أن المراد من القيام هو القيام من النوم، لا القيام للصلاة. (1)
وفيه: أولا: أن حمل الرواية على صورة إعادة الاغتسال، لا يناسب مع
قوله (عليه السلام) في الجواب: " فعليه الإعادة " بل المناسب له هو أن يقول: فعليه الاغتسال، و
حينئذ فالمراد إعادة الصلاة لا الغسل.
ويشهد له ما أجاب الأمام (عليه السلام) في مرسلة الصدوق (قدس سره) عن السؤال المذكور،
بقوله: " فعليه أن يغسله ويعيد صلاته " مع أنه من المحتمل اتحاد رواية ميمون مع
المرسلة.
وثانيا: أنه ليس مجرد احتمال تجدد الجنابة حال النوم بعد ما اغتسل منها قبله

(1) راجع، تفصيل الشريعة: كتاب النجاسات وأحكامها، ص 339.
168

[...]
موجبا للغسل، بل تجري حينئذ أصالة البراءة، بل استصحاب عدم الحدوث
والتجدد، إذ المفروض: أنه لاعلم بحدوث الجنابة مرة ثانية، لا تفصيلا ولا إجمالا.
وأما أمارية وجود الجنابة في الثوب على الاحتلام حسب العرف.
ففيها: أن المفروض هو حدوث الاحتلام وتحقق الجنابة أولا، والجنابة
المرئية في الثوب بعد النظر إليه ثانيا، يحتمل أن تكون من تلك الجنابة، لامن جنابة
جديدة، فإذا ينافي هذا الإحتمال المقتضي لجريان البراءة، بل استصحاب عدم الحدوث
والتجدد، مع الأمارية العرفية.
نعم، تصح وتأتي الأمارية العرفية فيما إذا رآى في ثوبه المني بعد ما أصبح و
لم يكن رآى في منامه أنه احتلم، والشاهد له جملة من الروايات:
منها: ما عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته في الرجل يرى في ثوبه
المني بعد ما يصبح ولم يكن رآى في منامه أنه قد احتلم، قال: فليغتسل وليغتسل ثوبه
ويعيد صلاته ". (1)
ومنها: ما عنه - أيضا - قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل ينام ولم ير
في نومه أنه احتلم، فوجد في ثوبه وعلى فخذه الماء، هل عليه غسل؟ قال: نعم ". (2)
وأما رواية أبي بصير الواردة في قبالها، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل

(1) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 10 من أبواب الجنابة، الحديث 2، ص 480.
(2) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 10 من أبواب الجنابة، الحديث 1، ص 480.
169

[...]
يصيب بثوبه منيا ولم يعلم أنه احتلم، قال: يغسل ما وجد بثوبه وليتوضأ ". (1)
فحملها الشيخ (قدس سره) على ثوب مشترك، مع إمكان حملها - أيضا - على تجويز
كون المني من جنابة سابقة قد اغتسل منها، كما إذا انزل ثم اغتسل ثم نام وانتبه،
فوجده ولم يتيقن الاحتلام. (2)
وثالثا: أن مقصود السائل من قوله: " رجل أصابته جنابة بالليل، فاغتسل "
هو أنه اغتسل وصلى، وإلا فالإغتسال ليس واجبا نفسيا، بل إنما يكون واجبا
لاشتراط الصلاة به، ومعه تكون الرواية سؤالا وجوابا مرتبطة بالصلاة، إلا أن
يقال: إنه اغتسل لأجل استحبابه النفسي.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " ذكر المني، فشدده
فجعله أشد من البول، ثم قال: إن رأيت المني قبل، أو بعد ما تدخل في الصلاة، فعليك
إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد،
فلا إعادة عليك، فكذلك البول ". (3)
تقريب الاستدلال بها: هو أن الإمام (عليه السلام) رتب عدم الإعادة على فرض النظر
والفحص في الثوب، فيفهم منه وجوب الإعادة على تقدير ترك الفحص لو رأى
النجاسة بعد الصلاة.

(1) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 10 من أبواب الجنابة، الحديث 3، ص 480.
(2) راجع، الإستبصار: ج 1، الحديث 3، ص 111.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1062.
170

[...]
وفيه: ما لا يخفى، إذ مفاد الجملة الشرطية الأولى، وكذا الثانية في الصحيحة
هو أن الحكم بالإعادة وعدمه يدور مدار العلم بالموضوع والجهل به، وأنه تجب
الإعادة مع العلم بالنجاسة قبل الصلاة، أو في أثناءها، ولا تجب مع الجهل بها كذلك،
ومع العلم بها بعد الفراغ عنها.
ومن المعلوم: أن النظر والفحص ليس له دخل في الموضوع، إلا على نحو
المقدمية للعلم والرؤية، وإنما أشير إليه في بعض الروايات لأجل الغلبة والعادة،
تعرفا للحال ودفعا للوسوسة والدغدغة.
هذا، تمام الكلام في صورة عدم التفات الجاهل بالنجاسة رأسا، أو التفاته بها
بعد الفراغ من الصلاة. وقد عرفت: أن فيها أقوالا أربعة، والصواب هو القول
الأول من عدم وجوب إعادة الصلاة مطلقا، كما هو المشهور، وأما بقية الأقوال
فلا دليل عليها.
وأما صورة التفات الجاهل بالنجاسة في أثناء الصلاة، فهي على أقسام:
الأول: التفاته بالنجاسة في الأثناء مع علمه بوقوع جميع الأجزاء السابقة
المأتي بها، في النجاسة.
الثاني: التفاته بها فيه مع علمه بوقوع بعض الأجزاء السابقة فيها.
الثالث: التفاته بها فيه مع علمه أو احتماله بطروها حين الالتفات.
وفي الحكم بصحة الصلاة في تلك الأقسام مطلقا، أو عدمها كذلك، أو التفصيل
بين بعض دون بعض، أقوال ثلاثة:
171

[...]
أحدها: صحة الصلاة في جميع الأقسام وهو المشهور. (1)
وعليه: ففي سعة الوقت تجب الإزالة في الأثناء بأي وجه أمكن ما لم تستلزم
فعلا كثيرا، أو إخلالا بالشرائط أو الأجزاء، وإلا فيجب الاستيناف.
وأما في ضيق الوقت، فسيأتي التعرض لحكمه عند ذكر الدليل لهذا القول.
ثانيها: التفصيل بين القسمين الأولين، وبين القسم الثالث، فيحكم في الأولين
ببطلان الصلاة مع سعة الوقت، وأما مع ضيقه، فإذا أمكن التطهير أو التبديل،
بلا إخلال أو لزوم فعل كثير، يحكم بإتيانه وإتمام صلاته وكانت صلاته صحيحة، و
مع عدم الإمكان يحكم بإتمامها - أيضا - وكانت صحيحة.
ويحكم في الثالث بصحة الصلاة مع سعة الوقت - أيضا - وعليه: فإن أمكن
التطهير أو التبديل، فليفعل ويتم الصلاة، وإلا فليستأنف، ومع ضيقه يحكم بإتمام
الصلاة مع النجاسة ولا شئ عليه.
وهذا القول، هو مختار المصنف (قدس سره) (2).
ثالثها: التفصيل بين القسم الأول، فيحكم فيه ببطلان الصلاة، وبين القسمين
الأخيرين، فيحكم فيهما بصحة الصلاة مع سعة الوقت - أيضا - فمع إمكان التطهير أو
التبديل يجب ويتم صلاته، وإلا فلا، ومع ضيقه يحكم بإتمام الصلاة مع النجاسة

(1) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 427، وجواهر الكلام: ج 6، ص 222 و 223.
(2) وافق (قدس سره) المشهور في القسم الثالث فقط.
172

[...]
ولا شئ عليه، وهذا هو مختار بعض الأعاظم (قدس سره) (1) والصحيح عندنا هو القول
الأول، وهو صحة الصلاة في جميع الأقسام.
أما صحتها في القسم الثالث، فالدليل عليها، أن صحة الأجزاء السابقة مستندة
إلى إحراز الطهارة فيها، إما حقيقة، كما إذا علم بطرو النجاسة في الأثناء، أو تعبدا
بالاستصحاب، كما إذا احتمل طروها في الأثناء.
وصحة الأجزاء اللاحقة مستندة إلى تحصيل الطهارة لها بالتبديل أو التطهير
في الأثناء، والمفروض عدم اعتبار الطهارة في الأكوان الصلاتية المتخللة بين الأجزاء،
كما هو المستفاد من الروايات الواردة في الرعاف أثناء الصلاة، وهي كثيرة من
الصحاح وغيرها.
منها: صحيحة معاوية بن وهب، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرعاف
أينقض الوضوء؟ قال: لو أن رجلا رعف في صلاته وكان عنده ماء، أو من يشير إليه
بماء فتناوله، فقال: (فمال ظ) برأسه، فغسله، فليبن على صلاته ولا يقطعها ". (2)
ومنها: صحيحة زرارة، قال: " قلت له: أصاب ثوبي دم رعاف أو شئ من
مني - إلى أن - قال: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة، قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا
شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا، قطعت وغسلته ثم بنيت

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 146.
(2) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 11، ص 1246.
173

[...]
على الصلاة، لأنك لا تدري، لعله شئ أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين
بالشك أبدا ". (1)
فإنها صريحة في أن عروض النجاسة في أثناء الصلاة لا يوجب بطلانها، معللا
بالاستصحاب وهو قوله: " لأنك لا تدري... ".
ومنها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن الرجل يصيبه
الرعاف وهو في الصلاة، فقال: إن قدر على ماء عنده يمينا وشمالا أو بين يديه وهو
مستقبل القبلة، فليغسله عنه ثم ليصل ما بقي من صلاته، وان لم يقدر على ماء، حتى
ينصرف بوجهه أو يتكلم فقد قطع صلاته ". (2)
فإنها ظاهرة في أن إصابة الرعاف أثناء الصلاة لا توجب بطلانها، بل يجب
على المصلي الغسل والتطهير ثم التتميم والتكميل، بشرط عدم ارتكابه لما ينافيها من
التكلم أو الاستدبار، أو غيرهما من سائر المنافيات. (3)
فتحصل: أن مقتضى الدليل المذكور بضميمة تلك الأخبار، هو صحة الصلاة
مع سعة الوقت في الفرض إذا أمكن التطهير أو التبديل، فيتم بعدهما، وإلا يستأنف،

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 44 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1065.
(2) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 6،
ص 1245.
(3) نعم، ذكر في الرواية خصوص التكلم والاستدبار، ولكن الظاهر أنه من باب المثال،
لامن باب الانحصار، والملاك كله هو إتيان المنافي للصلاة بلا فرق بين فرد وفرد.
174

[...]
وأما مع ضيقه، فتصح الصلاة فيه بطريق أولي، فيتمها مع النجاسة ولا شئ عليه.
هذا كله في الدليل على صحتها في القسم الثالث.
وأما الدليل على صحتها في القسمين الأولين، فهو على وجهين:
الأول: فحوى الروايات المتقدمة الدالة على صحة الصلاة إذا وقعت بتمامها في
النجس، فإنها بالأولوية القطعية تدل على صحتها إذا وقعت ببعضها في النجس، كما
هو مفروض الكلام.
نعم، هنا مانع عن التمسك بتلك الروايات وهو الأخبار الدالة بمفهومها أو
منطوقها على البطلان في القسم الأول، فلابد إذا من رفعه.
منها: صحيحة زرارة المتقدمة آنفا، فإنها تدل منطوقا على صحة الصلاة عند
عروض النجاسة في أثناءها، كما هو مقتضى التعليل المذكور فيها، ومفهوما على
بطلان الصلاة فيها إذا علم بسبق النجاسة على الدخول في الصلاة، فدخل فيها جاهلا
بها ثم التفت إليها في الأثناء.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة، فإنها تدل بمفهومها على بطلان
صلاة الرجل الذي دخل فيها مع الثوب النجس جهلا إذا علم بها في الأثناء بإعلام
الغير له، كما هو المفروض في القسم الأول.
وفيه: أن هذه الدلالة إنما تتم إذا كان الانصراف في قوله (عليه السلام): " حتى
ينصرف " بمعنى الفراغ عن الصلاة، إذ مقتضاه بطلان الصلاة إذا علم بالنجاسة و
لم يفرغ عن الصلاة، وأما إذا كان بمعني المضي عن الصلاة، كما هو الظاهر أو المحتمل،
175

[...]
فلا تدل على البطلان في الفرض، بل تدل حينئذ على عدم وجوب الإيذان حتى يتم
صلاته حال الجهل لئلا يقع أثناء الصلاة في مشقة التبديل أو التطهير، فتأمل.
ومنها: صحيحته المتقدمة - أيضا - فإنها تدل بالفقرة الأولى وهي قوله (عليه السلام):
" إن رأيت المني قبل، أو بعدما تدخل في الصلاة، فعليك إعادة الصلاة " على بطلان
الصلاة إذا التفت بالنجاسة في أثناءها، كما هو المفروض في القسم الأول.
وفيه: أن من المحتمل قويا أنها ناظرة إلى صورة النسيان التي تكون الإعادة
على تقديرها، عقوبة ومؤاخذة على ما ورد في رواية سماعة (1)، كما أن الفقرة الثانية، و
هي قوله (عليه السلام): " وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم رأيته، فلا إعادة " ناظرة إلى
صورة الجهل.
ومنها: موثقة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجل صلى في ثوب فيه
جنابة، ركعتين، ثم علم به، قال: عليه أن يبتدي الصلاة، قال: وسألته عن رجل
يصلي وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم، قال: مضت صلاته، و
لا شئ عليه ". (2)
فإن الفقرة الأولى منها - أيضا - تدل على بطلان الصلاة في المقام، والجواب

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 5،
ص 1064، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرى في ثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي،
قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشئ إذا كان في ثوبه، عقوبة لنسيانه ".
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 1059.
176

[...]
عنها - أيضا - هو الجواب السابق، من أنها ناظرة إلى حال النسيان.
والشاهد له، تذكير الضمير في قول السائل: " ثم علم به " فإنه راجع إلى
الثوب، ومعناه: أنه تذكر في أثناء الصلاة، أن ثوبه هو ذلك النجس، لا الآخر وهو
الطاهر.
نعم، إنما يتم دلالتها على المطلوب إذا جاء الضمير بلفظ التأنيث، فإنه راجع
حينئذ إلى الجنابة، فيكون معناه: هو أنه علم بالجنابة بعد ما جهل بها حين دخوله في
الصلاة.
وبعبارة أخرى: أن " الموثقة " مشتملة على قرينة تدل على أن المراد من
قول السائل: " علم به " هو أنه تذكر بعد النسيان، لا أنه علم بعد الجهل، وهي استعمال
الضمير بلفظ التذكير لا التأنيث، كما هو الواضح.
فتحصل: أنه لا دليل على بطلان الصلاة في القسم الأول، إلا مفهوم التعليل
الوارد في صحيحة زرارة: " لأنك لا تدري... " ولولاه فالقاعدة تقتضي الصحة، فتأمل
في التعليل - أيضا - لعلك تجد المناقشة فيها.
والنتيجة: أن الصلاة في النجس صحيحة في القسمين الأولين، كما هي
صحيحة في القسم الثالث.
الوجه الثاني: إطلاق الروايات الدالة على صحة الصلاة في النجاسة
المجهولة المرئية في الأثناء:
منها: موثقة داود بن سرحان، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في الرجل يصلي فأبصر
177

[...]
في ثوبه دما، قال: يتم ". (1)
فإن مقتضى إطلاق حكم الإمام (عليه السلام) بصحة الصلاة وإتمامها، هو أنه لافرق
بين ما إذا كان الدم المرئي في أثنائها سابقا على الدخول في الصلاة، كما هو المفروض
في القسمين الأولين، أم حدث في زمان الرؤية.
وقد أورد عليها بعض الأعاظم (قدس سره): بأن هذا الإطلاق ممنوع، معللا بأنه
مقيد بالنصوص المتقدمة الدالة على بطلان الصلاة إذا سبقت النجاسة عليها. (2)
وفيه: أن هذا التقييد إنما يتم لولا ما أوردنا على هذه النصوص من المناقشة، و
إلا فالظاهر هو إتمام الصلاة في الفرض مع التبديل، أو التطهير مطلقا، سواء كان
النجس سابقا على الصلاة أم لم يكن، فتكون الموثقة حينئذ من الأدلة الدالة على
مذهب المشهور وهو صحة الصلاة مطلقا بلا ورود التقييد لها.
ومنها: حسنة محمد بن مسلم، قال: " قلت له: الدم يكون في الثوب علي وأنا
في الصلاة، قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره، فاطرحه وصل في غيره... ". (3)
ولا يخفى: أن الفقرة الأولى منها تدل على المدعى بالوجه الذي ذكرنا في
الموثقة، من أن إطلاق رؤية الدم أثناء الصلاة تشمل صورة سبقه عليها، أيضا.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 44 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1066.
(2) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 152 و 153.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6، ص 1027.
178

[...]
هذا في فرض سعة الوقت.
وأما مع ضيقه، فمع التمكن من ركعة في الوقت، كان حكمه حكم السعة، بناءا
على قاعدة من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدركها، وأما مع عدم التمكن منها، فمع
إمكان التبديل أو التطهير فعل وأتم الصلاة، وإلا فإما يتمها في النجس أو يأتي بها
عاريا بطرح الثوب النجس لو كان ساترا، والثاني هو المشهور، والتحقيق موكول
إلى محله.
وأما الروايات المتقدمة (1) الدالة على الاستيناف والإعادة لو التفت في الأثناء
إلى نجاسة سابقة على الصلاة، فمختصة بسعة الوقت للتمكن حينئذ من الصلاة في
الوقت مع الطهارة.
وأما مع ضيقه، فلا يمكن الإعادة مع الطهارة، إلا بانقضاء الوقت، مع كونه مما
لابد من رعايته لتقدمه على شرطية الطهارة الخبثية.
وعليه: فما في المتن من قوله (قدس سره): " ومع ضيق الوقت يتمها مع النجاسة و
لا شئ عليه " متين جدا.

(1) وهي صحيحة زرارة، وصحيحتي محمد بن مسلم، وموثقة أبي بصير التي ذكرت في
قبال القول المشهور، فراجع.
179

[...]
الرابعة: الصلاة في النجس ناسيا للموضوع
لا يخفى: أن المراد من الناسي الذي تعرضه المصنف (قدس سره) في ذيل المتن المذكور
هو ناسي الموضوع وهو النجاسة، وأما ناسي الحكم، فيتعرضه (قدس سره) في المسألة الأولى
الآتية من هذا الفصل.
فنقول: إن من نسي النجاسة وصلى معها وتذكر بعد الصلاة، قد اختلف
الأعلام في صحة صلاته وعدمها، ولهم أقوال ثلاثة:
الأول: عدم الصحة ووجوب الإعادة مطلقا، في الوقت أو خارجه، وإليه
ذهب المشهور (1)، بل عن ابن إدريس (قدس سره) نفي الخلاف عنه (2)، وعن ابن زهرة (قدس سره)
الإجماع عليه (3)، واختاره الشيخ (قدس سره). (4)
وهذا هو الحق الصواب.

(1) راجع، جواهر الكلام، ج 6، ص 215، حيث قال: " نعم، لا يلحق بالجاهل ناسي
النجاسة، فلم يذكرها إلا بعد الصلاة، فإن الأقوى فيه الإعادة وقتا وخارجا، وفاقا للمشهور بين
الأصحاب قديما وحديثا، نقلا وتحصيلا ".
(2) كتاب السرائر، ج 1، ص 183، حيث قال: " وإن علم أن فيه نجاسة ثم نسيها وصلى...
عليه الإعادة، سواء خرج الوقت أم لم يخرج بغير خلاف بين أصحابنا ".
(3) غنية النزوع، في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية، ج 4، ص 540، حيث قال: " ومتى وجد بعد
الصلاة على ثوبه نجاسة وكان علمه بها قد تقدم لحال الصلاة، أعادها على كل حال... للإجماع المذكور ".
(4) النهاية، ص 94، حيث قال: " فإن كان قد علم ونسي وصلى، ثم ذكر أنه كان فيه نجاسة،
أعاد - أيضا - الصلاة ".
180

[...]
الثاني: الصحة وعدم وجوب الإعادة مطلقا، وهو مختار صاحب
المدارك (قدس سره) (1) والمحقق (قدس سره) (2)، بل عن صاحب الحدائق (قدس سره) نسبة هذا القول إلى
جماعة من فضلاء متأخري المتأخرين. (3)
الثالث: التفصيل بين الوقت، فيعيد، وبين خارجه، فلا يعيد، وإليه ذهب
المشهور من المتأخرين (4) واختاره الشيخ (قدس سره) - أيضا - في بعض كتبه (5)، وكذا
اختاره الفاضل الهندي (قدس سره). (6)
هذه هي الأقوال في المسألة، وقد عرفت: أن الصواب هو القول الأول، و
المهم ذكر سنده، فنقول: إن عمدة ما يقال في مستنده: هي الروايات المستفيضة من
الصحاح والموثقات:

(1) مدارك الأحكام، ج 2، ص 348، حيث قال: " والأظهر عدم وجوب الإعادة لصحة
مستنده ومطابقته لمقتضى الأصل والعمومات، وحمل ما تضمن الأمر بالإعادة على
الإستحباب ".
(2) المعتبر، ص 122، حيث قال: " الثاني: علم النجاسة ثم نسيها وصلى ثم ذكر، فروايتان
إحديهما: هي كالأولى يعيدها... والرواية الأخرى لا يعيد... وعندي أن هذه الرواية حسنة و
الأصول يطابقها لأنه صلى صلاة مشروعة مأمورا بها فيسقط بها الفرض ".
(3) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 425.
(4) الحدائق الناضرة: ج 5، ص 419.
(5) الإستبصار: ج 1، ص 184، حيث قال: " فلا ينافي التفصيل الذي ذكرناه، لأن الوجه في
هذا الخبر أنه نحمله على أنه يكون قد مضى وقت الصلاة، لأنه متى نسي غسل النجاسة عن الثوب،
إنما يلزمه إعادتها ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه ".
(6) كشف اللثام: ج 1، ص 41، حيث قال: " وأما من صلى مع نجاسة بدنه أو ثوبه فلا يعيد إلا
في الوقت ".
181

[...]
منها: حسنة محمد بن مسلم، قال: " قال (عليه السلام):... وإذا كنت قد رأيته وهو
أكثر من مقدار الدرهم، فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صليت
فيه ". (1)
ومنها: صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "... وإن هو علم قبل
أن يصلي فنسي وصلى فيه، فعليه الإعادة ". (2)
ومنها: موثقة سماعة، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرى في ثوبه
الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي، قال: يعيد صلاته كي يهتم بالشئ إذا كان في ثوبه،
عقوبة لنسيانه ". (3)
ومنها: صحيحة الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "... وإن كان أكثر من قدر
الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى، فليعد صلاته ". (4)
ومنها: رواية جميل بن دراج، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام)، و
أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: " لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا شبه
النضح، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك، فلا بأس به مالم يكن مجتمعا قدر
الدرهم ". (5)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6،
ص 1027.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 7، ص 1060.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 5، ص 1064.
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1026.
(5) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 4، ص 1026.
182

[...]
ومنها: صحيحة أبي يعفور (في حديث) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل
يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم فينسى أن يغسله فيصلي، ثم يذكر بعد ما
صلى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته، إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا
فيغسله ويعيد صلاته ". (1)
إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الباب الثاني عشر من أبواب نواقض
الوضوء، والباب العاشر من أبواب أحكام الخلوة. (2)
فهذه الروايات تدل بإطلاقها على الإعادة، في الوقت، أو خارجه، لوضوح أن
المراد من الإعادة فيها هو المعني اللغوي الشامل للأداء والقضاء، لا الاصطلاحي
المقابل للقضاء.
وتشهد له أمور مذكورة في هذه الروايات:
الأول: قوله (عليه السلام) في الرواية الأولى: " فضيعت غسله وصليت فيه صلاة
كثيرة " إذ الصلاة الكثيرة تعم ما انقضى وقته وما وقع في أيام ماضية، ومع ذلك
أطلقت هنا لفظة: " الإعادة ".
الثاني: قوله (عليه السلام) في رواية سماعة: " عقوبة لنسيانه "، فإنه تعليل لقوله (عليه السلام):
" يعيد " ومن الواضح: أن التعليل يعم الأداء والقضاء.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1026.
(2) راجع، وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، ص 195 و 223.
183

[...]
الثالث: قوله (عليه السلام) في رواية جميل بن دراج: " فلا بأس به، ما لم يكن مجتمعا
قدر الدرهم "، فإن مفهومه هو البأس إذا كان مجتمعا قدره ولو كان خارج الوقت،
فهذه الرواية وإن لم تشتمل على كلمة: " الإعادة " إلا أنها حسب المفهوم تؤيد أن المراد
من: " الإعادة " في سائر الروايات هو الأعم.
هذا، ولكن تعارض تلك الروايات، الأخبار الدالة على عدم الإعادة:
كموثقة عمار بن موسى، قال: " سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لو أن رجلا نسي
أن يستنجي من الغائط حتى يصلي، لم يعد الصلاة ". (1)
وكصحيحة العلاء المتقدمة (2)، ونحوهما.
وهذه الأخبار، مما لا إشكال في سنده ودلالته، وعليه: فيستقر التعارض
بينها، وبين ما دل على الإعادة، ولا مناص من علاجه بالجمع بينهما إن أمكن، وإلا
فبالرجوع إلى المرجحات السندية، فنقول: إن غاية ما يمكن أن يقال في الجمع بينهما
وجهان:
الأول: حمل روايات الإعادة على الإستحباب، لكونها ظاهرة في الوجوب،
بخلاف روايات عدم الإعادة، فإنها نص في عدم الوجوب، فيرفع اليد عن الظهور
بالنص، ونتيجته استحباب الإعادة.

(1) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 10 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 3،
ص 224.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 42 من أبواب النجاسات، الحديث 3، ص 1064.
184

[...]
وفيه: أولا: أن هذا الجمع وإن كان عرفيا صحيحا، لكن مورده هو الخطاب
المولوي، فيرفع اليد هناك عن الظهور بقرينة النص، وهذا بخلاف الخطاب
الإرشادي، فلا مجال فيه لهذا الجمع، والمفروض: أن المقام من هذا القبيل، إذ الأمر
بالإعادة إرشاد إلى الفساد وعدم الصحة، لشرطية الطهارة أو مانعية النجاسة، و
هكذا خطاب عدم الإعادة، فإنه - أيضا - إرشاد إلى عدم الفساد أو إلى الصحة.
ومن المعلوم: أن الجمع بين الفساد والصحة كان من قبيل الجمع بين
المتناقضين، وهو مما لا يساعده العرف.
هذا، مضافا إلى أن مقتضى حمل الإعادة على الإستحباب حينئذ هو الإلتزام
باستحباب البطلان، وهو كما ترى.
وما عن شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) من حمل نفي الإعادة على الإرشاد إلى نفي
الشرطية عن مرتبة الصحة، وحمل الإعادة على الإرشاد إلى الدخل في مرتبة الكمال
الذي مرجعه إلى استحباب الإعادة، وإن كان علميا دقيقا، ولكنه أجنبي عن الجمع
العرفي.
وثانيا: أنه يأبى بعض الأخبار عن حمل الإعادة على الإستحباب كموثقة
سماعة المتقدمة، إذ هي مشتملة على تعليل الإعادة بالعقوبة وهي لا تلائم - ولو كانت
دنيوية، كما في الفرض - استحباب الإعادة، بداهة أنها إنما تكون مع وجوب الإعادة،
حيث إن الإعادة حينئذ جريمة ومؤاخذة.
185

[...]
وكصحيحة وهب بن عبد ربه، وموثقة أبي بصير المتقدمتين، فإن فيهما التفصيل
بإعادة الناسي دون الجاهل.
ومن الواضح: أنه ليس المراد من نفي الإعادة عن الجاهل نفيها استحبابا،
لكون الإعادة من الجاهل - أيضا - مطلوبة عند الشرع، ولا معنى لنفي المطلوبية، بل
المراد هو نفي وجوب الإعادة إرفاقا ومنة.
الوجه الثاني: حمل الأخبار المثبتة للإعادة، على كونها للعقوبة، لا لجبران
بطلان الصلاة، وحمل الأخبار النافية لها، على أن الصلاة لا تعاد لأجل الفساد، إذ
لافساد في البين.
وبعبارة أخرى: تحمل روايات عدم الإعادة على الحكم الحيثي، بقرينة
موثقة سماعة المتقدمة المشتملة على التعليل بالعقوبة، ومعنى الحكم الحيثي: أن إيجاب
الإعادة ليس للبطلان وفساد العبادة، بل يكون عقوبة وجريمة، لعدم اهتمام المصلي.
وفيه: أن هذا الجمع بعيد عن مذاق العرف - كما عن الإمام الراحل (قدس سره) (1) -
فليس جمعا عقلائيا مقبولا عندهم.
وبالجملة: ليس في المقام جمع عرفي وجيه، فإذا لابد من الرجوع إلى
الترجيح السندي.
ولا ريب: أن الترجيح مع الروايات الدالة على الإعادة من جهتين:

(1) راجع، كتاب الطهارة: ج 3، ص 580.
186

[...]
الأولى: أنها مخالفة للعامة، والروايات النافية للإعادة موافقة لهم (1)، فتحمل
على التقية.
الثانية: أنها موافقة لفتوى المشهور من القدماء وأنهم عملوا بها، والروايات
النافية شاذة أعرض القدماء عنها، كما صرح به الشيخ (قدس سره) (2).
ولا يخفى: أن الترجيح من هذه الجهة إنما هو باعتبار كونه موافقا للقاعدة
الأولية حيث إن الروايات المثبتة للإعادة مما علم صدورها عن الأئمة (عليهم السلام) وأنها هي
الحجة، بحيث يلزم من طرحها، طرح السنة المعلومة، بخلاف الروايات النافية، فإنها
شاذة ساقطة عن الإعتبار والحجية.
وعليه، فلا تعارض في البين حتى يعالج بالترجيح، لعدم المعارضة اللاحجة مع
الحجة.

(1) قد ذكر العلامة في التذكرة، ج 1، ص 97 و 98، القول بعدم وجوب الإعادة عن أحمد بن
حنبل، حيث قال: " ولو لم يعلم بالنجاسة حتى فرغ من صلاته وتيقن حصولها في ثوبه أو بدنه حال
الصلاة، فقولان لعلمائنا، أحدهما: الإجزاء، اختاره الشيخ (قدس سره) والمرتضى (قدس سره)، وبه قال ابن عمر... و
أحمد في أحد الروايتين ".
وكذا ذكر الشيخ في الخلاف، ج 1، ص 163، القول به عن الأوزاعي وعبيد الله بن عمر، و
الشافعي في أحد قوليه وأبي حنيفة، حيث قال: " ذهب إليه الأوزاعي، وروي ذلك عن ابن عمر، و
به قال الشافعي في القديم، وبه قال أبو حنيفة على ما حكاه عنه أبو حامد في تعليقته ".
(2) تهذيب الأحكام، ج 2، ص 360، حيث قال: بعد ذكر صحيحة العلاء، ما هذا لفظه:
" فإنه خبر شاذ لا يعارض به الأخبار التي ذكرناها ههنا، وفي ما مضى من كتاب الطهارة ".
187

[...]
ولقد أجاد الإمام الراحل (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " والإنصاف أن
الروايات متعارضة، والترجيح لروايات إيجاب الإعادة، بل الظاهر عدم عمل
متقدمي أصحابنا بروايات نفي الإعادة، وأعرضوا عنها، فلا تصلح للحجية، لما ذكرنا:
أن العمل بالأخبار لبناء العقلاء وإمضاء الشارع، وفي مثل تلك الروايات التي لم
يعمل بها رواتها، لا يتكل العقلاء عليها، فهي ساقطة عن الحجية، لا مرجوحة بعد
الفراغ عن حجيتها ". (1)
فتحصل: أن الأقوى هو القول الأول من وجوب الإعادة على ناسي النجاسة
مطلقا، في الوقت، أو خارجه، بل هذا هو الحق، كما هو المشهور بين الأصحاب قديما
وحديثا.
وأما القول: بعدم الإعادة مطلقا فمما لا دليل عليه، وكذا القول: بالتفصيل بين
الإعادة والقضاء، فإنه لاوجه له إلا الجمع بين الطائفتين من الأخبار، بحمل الأولى
الآمرة بالإعادة، على الوقت، والثانية النافية لها، على خارجه، بدعوى: أن كل واحد
منهما هو القدر المتيقن، وهو كما ترى، جمع تبرعي لا شاهد له.
على أن بعض أخبار الإعادة له ظهور تام في القضاء والإعادة خارج الوقت،
كصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: " سألته عن الرجل
احتجم فأصاب ثوبه دم، فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد، كيف يصنع؟ فقال: إن

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 582.
188

[...]
كان رآه فلم يغسله، فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي، ولا ينقص منه
شئ " (1)، وكحسنة محمد بن مسلم المتقدمة. (2)
كما أن بعض أخبار عدم الإعادة، له ظهور تام في عدمها في الوقت، كموثقة
عمار المتقدمة، وكصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال:
" سألته... قال: وإن ذكر وقد فرغ من صلاته، فقد أجزأه ذلك ولا إعادة عليه ". (3)
هذا، ولكن قد يقال (4): بوجود الشاهد للجمع بين الطائفتين وهو ما رواه علي
بن مهزيار، قال: " كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره أنه بال في ظلمة الليل، وأنه
أصاب كفه برد نقطة من البول، لم يشك أنه أصابه ولم يره وأنه مسحه بخرقة، ثم نسي
أن يغسله وتمسح بدهن، فمسح به كفيه ووجهه ورأسه، ثم توضأ وضوء الصلاة
فصلى، فأجابه بجواب قرأته بخطه، أما ما توهمت مما أصاب يدك، فليس بشئ إلا
ما تحقق، فإن حققت ذلك كنت حقيقا أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صليتهن بذلك
الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها وما فات وقتها، فلا إعادة عليك لها... ". (5)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 10، ص 1061.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6،
ص 1027.
(3) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 10 من أبواب أحكام الخلوة، الحديث 4،
ص 224.
(4) راجع، الاستبصار، ج 1، ص 184.
(5) الاستبصار: ج 1، الحديث 15، ص 184، ووسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب
42 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1063.
189

[...]
وقد اورد على هذه الرواية، تارة: بضعف السند، لجهالة الكاتب والمكتوب
إليه.
واخرى: باضطراب المتن للوجوه الأربعة المذكورة في الحدائق (1) وقد أجاب
بعض الأعاظم (قدس سره) عن هذه الوجوه المذكورة بما لا يخلو عن تكلف. (2)
بقي هنا كلام وهو أن قول المصنف (قدس سره): " مطلقا، سواء تذكر بعد الصلاة أو في
أثناءها " مستنده النص الخاص، كصحيحة علي بن جعفر، وعبد الله بن سنان
المتقدمتين.
على أن روايات وجوب الإعادة على ناسي النجاسة المتذكر بعد الفراغ عن
الصلاة، تدل على أن الحكم الوضعي (شرطية الطهارة للصلاة) لا يكون بسبب
النسيان مرتفعا، وأنه لا يوجب ارتفاعه، سواء ذكر بعد الفراغ، أم في الأثناء، وقد
عرفت: أن وجه الإعادة هي المؤاخذة والعقوبة، كما في موثقة سماعة المتقدمة.

(1) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 423.
(2) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 177.
190

(مسألة 1): ناسي الحكم تكليفا أو وضعا، كجاهله في وجوب
الإعادة والقضاء.]
الخامسة: الصلاة في النجس ناسيا للحكم
وقد ألحق المصنف (قدس سره) ناسي الحكم مطلقا، تكليفا كان أو وضعا (1) بالصورة
الثانية وهي الصلاة في النجس جاهلا بالحكم، فحكم فيه - أيضا - بوجوب إعادة
الصلاة في الوقت وقضاءها في خارجه، وهذا متين، بناءا على عدم شمول حديث:
" لا تعاد " للجاهل، إذ لو كان شاملا له، أو مختصا بالناسي، كما عن المحقق
النائيني (قدس سره) (2) يحكم فيه بعدم وجوب الإعادة والقضاء، وقد أشبعنا الكلام في شمول
" الحديث " لجاهل الحكم وعدمه، في محله، فراجع.

(1) كمن نسي أن بول الخشاف - مثلا - نجس، أو أن الصلاة مشروطة بالطهارة.
(2) راجع، كتاب الصلاة: ج 3، ص 6.
191

مصاديق الجهل بالموضوع
الأول: بقاء نجاسة الثوب بعد تطهيره
الثاني: الثوب المشكوك نجاسته
الثالث: الثوب الطاهر بإخبار الوكيل أو البينة
الرابع: الشك في وقوع النجاسة على الثوب
الخامس: العلم بإصابة الدم المعفو للثوب
السادس: الشك في إصابة الدم المعفو للثوب
الصلاة مع ما يلاقي النجس المنسي
الصلاة في الثوب النجس مع انحصاره
العلم بنجاسة أحد الثوبين
الصلاة في المشتبهين مع وجود ثوب طاهر
عدم التمكن من تطهير الثوب والبدن معا
تنجيس الموضعين من البدن أو اللباس
193

(مسألة 2): لو غسل ثوبه النجس وعلم بطهارته، ثم صلى فيه، و
بعد ذلك تبين له بقاء نجاسته، فالظاهر أنه من باب الجهل بالموضوع،
فلا يجب عليه الإعادة أو القضاء.
]
مصاديق الجهل بالموضوع
تعرض المصنف (قدس سره) هنا ستة فروع، جعلها من مصاديق الجهل بالنجاسة من
حيث الموضوع، وحكم فيها بعدم إعادة الصلاة في الوقت، وعدم قضاءها في
خارجه.
الأول: بقاء نجاسة الثوب بعد تطهيره
لا يخفى: أن من اعتقد بطهارة الثوب النجس بعد غسله ثم صلى فيه وانكشف
له بقاء نجاسته، فالظاهر أنه من موارد الجهل بالنجاسة، كما في المتن، فيحكم فيه بعدم
وجوب الإعادة، لافي الوقت ولا في خارجه.
هذا، ولكن ذهب شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) إلى أنه من موارد نسيان النجاسة
فحكم فيه بوجوب الإعادة مطلقا. (1)
والعمدة، ذكر الدليل في المقام.

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
195

[...]
فنقول: أما المختار، فتدل عليه الروايات الواردة في الجاهل بالنجاسة،
حيث إن المستفاد من ظاهرها عدم مانعية النجاسة المجهولة حال الصلاة، سواء علم
بها قبلها، أم لم يعلم، ومقتضاه عدم وجوب الإعادة - حينئذ - لافي الوقت ولا في
خارجه.
كرواية زرارة المتقدمة، فإن قوله (عليه السلام): "... قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه و
لم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر شيئا، ثم صليت فرأيت، قال: تغسله ولا تعيد
الصلاة... ". (1) يدل بوضوح على أن النجاسة الموجودة حال الصلاة، غير مانعة لأجل
الجهل بها وعدم رؤيتها بعد الفحص.
وكرواية أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إن أصاب ثوب الرجل الدم،
فصلى فيه وهو لا يعلم، فلا إعادة عليه... " (2) فإنها تدل على عدم مانعية النجاسة
حال الصلاة لأجل عدم العلم بها.
ومن الواضح: أن المعتقد بعدم النجاسة حال الصلاة لمكان التطهير والغسل،
كما هو مفروض الكلام، لا يصدق عليه الناسي للنجاسة حال الصلاة، بل يكون
مشمولا لإطلاق هذه الروايات الدالة على عدم وجوب الإعادة على الجاهل.
نعم، مقتضى إطلاقها - من جهة سبق العلم وعدمه - وإن كان عدم الإعادة

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1061 و 1062.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 40 من أبواب النجاسات، الحديث 7،
ص 1060.
196

[...]
على الناسي - أيضا - إلا أنه خرج عن تحت الإطلاق بأدلة خاصة دالة على وجوب
الإعادة عليه، عقوبة لنسيانه، وقد تقدم ذكرها سابقا.
ثم إنه مضافا إلى إطلاق الروايات المذكورة، يدل على المقام النص الخاص و
هو حسنة ميسر، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): آمر الجارية، فتغسل ثوبي من المني،
فلا تبالغ في غسله، فاصلي فيه، فإذا هو يابس، قال: أعد صلاتك، أما أنك لو كنت
غسلت أنت، لم يكن عليك شئ ". (1)
فإن ذيل هذه الحسنة صريح في أن المبالغة في الغسل بما أنه يحصل بها العلم
بزوال النجاسة المانع عن جريان استصحاب النجاسة، توجب عدم وجوب إعادة
الصلاة، لا في الوقت ولا في خارجه، حتى في فرض انكشاف الخلاف.
وأما صدرها، فهو متضمن للأمر بإعادة الصلاة، لفرض أن الجارية لم تبالغ في
الغسل، لعدم اهتمامها بإزالة النجاسة، وهذا يمنع عن إجراء الآمر لأصالة الصحة في
فعلها، بل لابد له من إجراء الاستصحاب، والحكم ببقاء النجاسة في الثوب، فلا يجوز
له - حينئذ - الشروع في الصلاة.
وعليه: فلا دلالة في الرواية على جواز الشروع فيها حتى تكون رادعة عن
العمل بأصالة الصحة حسب البقاء وانكشاف الخلاف، أو تحمل على استحباب
الإعادة، كما ذهب إليه بعض الأعاظم (قدس سره). (2)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 18 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1024.
(2) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 184 و 185.
197

[...]
هذا كله في الدليل على المختار.
أما الدليل على ما اختاره شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) من إلحاق المقام بالناسي،
والحكم فيه بوجوب الإعادة: هو أن المدار في وجوب الإعادة وعدمه، هو التلبس
بالعلم - ولو كان سابقا - وعدمه، ومن المعلوم، أن المعتقد بعدم النجاسة حال الصلاة
بعد التطهير، ممن تلبس بالعلم سابقا، فتجب عليه الإعادة، بل قال (قدس سره): إن قوله (عليه السلام)
في صدر رواية زرارة: " فإن أكن رأيت موضعه وعلمت أنه أصابه، فطلبته فلم أقدر
عليه، فلما أن صليت وجدته، قال: تغسله وتعيد الصلاة " يدل على أن المدار في عدم
وجوب الإعادة هو انقلاب علم المكلف بالجهل، بلا فرق بين أفراد الانقلاب و
مصاديقه (1)، ولذا اختار (قدس سره) أن الإعادة في الناسي تكون على وفق القاعدة، فتجب
عليه الإعادة وإن لم تكن في مورده أخبار خاصة.
وفيه: ما لا يخفى، إذ عرفت آنفا، أن مقتضى ظاهر الروايات عدم مانعية
النجاسة المجهولة حال الصلاة، وأنه المدار في عدم وجوب الإعادة، وأما صدر رواية
" زرارة " فهو راجع إلى العلم الإجمالي، كما هو مقتضى قول السائل: " لم أكن رأيت
موضعه وعلمت أنه أصابه " بلا انقلاب هذا العلم إلى الجهل، بل هو باق بحاله، فلابد
إذا من تطهير الثوب أو تبديله ثم الدخول في الصلاة، وحيث إن المفروض: هو أن
المكلف دخل في الصلاة بلا حصول التطهير أو التبديل، كان ممن قد صلى في النجس
عالما بها، ولذلك قال (عليه السلام): " تغسله وتعيد الصلاة ".

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
198

وكذا لو شك في نجاسته، ثم تبين بعد الصلاة أنه كان نجسا، *
وكذا لو علم بنجاسته، فأخبره الوكيل في تطهيره بطهارته، أو
شهدت البينة بتطهيره، ثم تبين الخلاف. * *
]
الثاني: الثوب المشكوك نجاسته
* جعل المصنف (قدس سره) الشاك في النجاسة من مصاديق الجاهل بها، وهو
واضح، نظرا إلى أن الجهل شامل للشك، والقطع بالخلاف، فيحكم فيه - أيضا - بعدم
الإعادة للنصوص الواردة في الجاهل بالنجاسة، كما عرفت، بل يدل عليه خصوص
رواية زرارة المتقدمة، فإن موردها هو الشك في النجاسة، كما هو الواضح.
الثالث: الثوب الطاهر بإخبار الوكيل أو البينة
* * لا ريب: أن هذا الفرع - بلحاظ شهادة البينة بتطهير الثوب - يكون من
مصاديق الجهل بالنجاسة، فلو صلى فيه ثم انكشف الخلاف، لا تجب إعادة الصلاة،
ضرورة أن البينة من الحجج الشرعية المعتبرة، فإذا قامت على التطهير، تسقط
النجاسة عن المانعية، ولا مجال لاستصحابها بعد قيام الدليل على خلافها.
وقد عرفت آنفا: أن الملاك في عدم وجوب الإعادة هو عدم تنجز النجاسة
حال الصلاة.
199

[...]
وأما بلحاظ إخبار الوكيل بالتطهير، فعن بعض الأعاظم (قدس سره) أن المورد
لا يكون من مصاديق الجهل بالنجاسة، مدعيا بعدم ثبوت الدليل على صحة الوكالة
الشرعية - وهي من العقود - إلا في الأمور الإعتبارية من البيع، والصلح، و
الإجارة، ففي أمثال هذه الأمور يكون إخبار الوكيل بما هو وكيل حجة معتبرة.
وأما الأمور التكوينية كالأكل واللبس والتطهير ونحوها، فلا تقبل الوكالة
الشرعية، فإخبار الشخص في هذه الأمور من باب الوكالة ليس بحجة معتبرة، و
إطلاق الوكالة - عرفا أو لغة - فيها لا يجدي، إذ المراد من التوكيل بحسبهما هو الإيكال،
وهذا لا يوجب ترتيب الآثار التي منها حجية إخبار الوكيل.
وعليه: فإخبار الوكيل بالتطهير بما هو وكيل ليس بحجة.
نعم، لو كان هو ثقة وقلنا: بحجية خبر الثقة في الموضوعات - أيضا - لكان
خبره بما هو خبر الثقة حجة. (1)
وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) بأن الطهارة، سواء كانت من الأمور
الإمضائية، أو التأسيسية، لها وجود في وعاء التشريع حسب ما اعتبر فيها من
الشرائط من جانب الشرع الأنور، فتقبل الوكالة بحسبه، فتأمل. (2)

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 185 و 186.
(2) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
200

وكذا لو وقعت قطرة بول، أو دم مثلا، وشك في أنها وقعت على ثوبه
أو على الأرض، ثم تبين أنها وقعت على ثوبه، *
وكذا لو رأى في بدنه أو ثوبه دما وقطع بأنه دم البق، أو دم القروح
المعفو، أو أنه أقل من الدرهم أو نحو ذلك، ثم تبين أنه مما لا يجوز الصلاة
فيه. * *
]
الرابع: الشك في وقوع النجاسة على الثوب
* والوجه في كون هذا الفرع من مصاديق الجهل بالنجاسة المقتضي لعدم
وجوب إعادة الصلاة، هو أن العلم الإجمالي فيه لا يكون منجزا، لخروج أحد طرفيه
وهو الأرض، عن محل الابتلاء، فيصير الشك في الثوب بدويا، ولا ريب: أن مقتضاه
عدم تنجز النجاسة حال الصلاة، وقد عرفت: أنه هو الملاك لعدم وجوب الإعادة.
ويدل على عدم تنجز النجاسة، في المقام، ما في رواية زرارة المتقدمة من
تعليل عدم الإعادة باستصحاب الطهارة. وجه الدلالة واضح.
الخامس: العلم بإصابة الدم المعفو للثوب
* * هذا الفرع - أيضا - من مصاديق الجهل بالنجاسة الذي لا تجب فيه
الإعادة في الوقت، ولا القضاء في خارجه. م
201

وكذا لو شك في شئ من ذلك، ثم تبين أنه مما لا يجوز، فجميع هذه
من الجهل بالنجاسة لا يجب فيها الإعادة أو القضاء. *]
الوجه فيه: أن المفروض في هذا الفرع: هو أن المصلي قاطع بأن الدم المرئي
مما يجوز فيه الصلاة بأن لا يكون نجسا، كالدم البق، أو يكون معفوا، كدم القروح و
الجروح، أو يكون أقل من الدرهم.
ومن المعلوم: أن هذا القطع ولو انكشف خلافه يكون عذرا يوجب عدم
تنجز النجاسة حال الصلاة، وقد عرفت في الفروع المتقدمة: أن النجاسة بوجودها
الواقعي لا توجب إعادة الصلاة، لافي الوقت ولا في خارجه.
السادس: الشك في إصابة الدم المعفو للثوب
* لا إشكال في أن هذا الفرع - أيضا - من مصاديق الجهل بالنجاسة،
لوضوح أن المصلي حسب الفرض شاك في أن الدم المرئي، هل هو مما يجوز فيه
الصلاة أو لا؟ فهو يكون حين الصلاة جاهلا بنجاسته المانعة عن صحتها، وهذا عذر
يوجب عدم كون النجاسة منجزة، فلا إعادة عليه مطلقا حتى في الوقت.
ثم إنه قد يتوهم أن ما حكم به المصنف (قدس سره) في هذا الفرع من عدم وجوب
الإعادة، ينافي ما سيأتي منه (قدس سره) (1) من الإحتياط اللزومي بعدم العفو في الدم
المشكوك كونه من القروح والجروح، وكذا المشكوك كونه بقدر الدرهم أو أقل.

(1) راجع، الأمر الأول والثاني مما يعفى عنه في الصلاة من الفصل الآتي مسأله 3 و 6.
202

[...]
وجه المنافاة واضح، إذ الفرع المذكور يقتضي أن هذين الموردين مندرجان في
كبرى عدم تنجز النجاسة الموجب لعدم الإعادة فيهما، لا أداءا ولا قضاءا، والاحتياط
المذكور في الفصل الآتي يقتضي وجوب الإعادة فيهما مطلقا، إذ لا معنى لعدم العفو إلا
ذلك.
ولكن أجيب عنه بوجهين:
أحدهما: ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من: " أن البحث في المقام في وجوب
الإعادة أو القضاء - بعد انكشاف الخلاف - مبني على القول بجواز الشروع في الصلاة
عند الشك في مصداق المعفو، وأما بناءا على القول بعدم الجواز - للشك في أنه من
مصاديق الجاهل بالنجاسة - فلا يبقى مجال للبحث عن الإعادة أو القضاء و
عدمهما ". (1)
ثانيهما: ما عن شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) من: أن مسألة الشك في الموردين
تكون ذات قولين، على ما سيأتي.
أحدهما: القول بالعفو، لعدم جريان الأصل الأزلي (أصالة عدم كون الدم
من القروح والجروح أو أقل من الدرهم) فيكون المورد شبهة مصداقية لعمومات
مانعية الدم عن صحة العبادة، فلا يتمسك بها، بل المرجع حينئذ أصالة عدم المانعية.

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 188.
203

(مسألة 3): لو علم بنجاسة شئ فنسي ولاقاه بالرطوبة وصلى،
ثم تذكر أنه كان نجسا وأن يده تنجست بملاقاته، فالظاهر أنه - أيضا - من
باب الجهل بالموضوع، لا النسيان، لأنه لم يعلم نجاسة يده سابقا، والنسيان
إنما هو في نجاسة شئ آخر غير ما صلى فيه.
نعم، لو توضأ أو اغتسل قبل تطهير يده وصلى، كانت باطلة من
جهة بطلان وضوءه أو غسله. *
]
ثانيهما: القول بعدم العفو، لجريان الأصل الأزلي، فينقح ويحرز موضوع العام
(عموم مانعية الدم) لو كان، والمصنف (قدس سره) لما لم يجزم بإجراء الأصل وعدم إجراءه،
التجاء إلى الإحتياط. (1)
وبالجملة: لم يحرز (قدس سره) المجوز للدخول في الصلاة حتى يكون المورد من
مصاديق الجهل بالنجاسة، وتحقيق المقام موكول إلى محله.
الصلاة مع ما يلاقي النجس المنسي
* في المسألة فرعان:
الأول: ما إذا علم بنجاسة شئ فنسيها، ثم لاقاه برطوبة مسرية ولم يعلم
بنجاسة الملاقي من يده أو ثوبه - مثلا - حتى صلى، فالتفت أثناءها إلى نجاسة

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
204

[...]
ذلك الشئ، ونجاسة الملاقي له، فهل يحكم حينئذ بصحة صلاته، نظرا إلى جهله
بالنسبة إلى نجاسة الملاقي، لأجل أنها غير مسبوقة بالعلم، فيجري عليه حكم
الجاهل؟ أو يحكم ببطلانها، نظرا إلى نسيانه بالنسبة إلى نجاسة الملاقى، لأجل كونها
مسبوقة بالعلم، فيجري عليه حكم الناسي.
فيه وجهان، بل قولان:
الأقوى هو الأول، إذ المفروض أن البدن أو الثوب الذي صلى فيه مما لم يكن
مسبوقا بالعلم، وأن الشئ النجس المنسي الذي كان مسبوقا بالعلم مما لم يصل فيه،
كي يوجب سبق العلم بالنجاسة بطلان الصلاة فيكون من موارد الجهل بالموضوع،
لا النسيان، فيحكم فيه بصحة الصلاة.
الفرع الثاني: ما إذا توضأ أو اغتسل قبل تطهير يده وصلى.
حكم المصنف (قدس سره) فيه ببطلان صلاته وهو الصحيح، إذ بناءا على اشتراط
طهارة محال الوضوء أو الغسل في صحتهما - على ما سيجئ البحث عنه في محله -
يصير كل منهما باطلا، ضرورة أن الطهارة من الحدث شرط واقعي لصحة الصلاة
فتبطل مع فقدها ألبتة.
205

(مسألة 4): إذا انحصر ثوبه في نجس، فإن لم يمكن نزعه حال الصلاة
لبرد أو نحوه صلى فيه، ولا يجب عليه الإعادة أو القضاء، وإن تمكن من
نزعه ففي وجوب الصلاة فيه أو عاريا أو التخيير، وجوه: الأقوى الأول،
والأحوط تكرار الصلاة.
]
الصلاة في الثوب النجس مع انحصاره
في المسألة صورتان:
الأولى: ما إذا انحصر ثوبه في نجس ولم يمكن نزعه حال الصلاة.
الثانية: ما إذا انحصر ثوبه فيه مع إمكان نزعه حالها.
أما الأولى: فلا إشكال ولا خلاف في جواز الصلاة في الثوب النجس (1)، بل
ادعي أن الضرورة قائمة على أن الصلاة لا تسقط بحال. (2)
هذا، مضافا إلى أن مقتضى روايات السلس والمبطون، جواز الصلاة في
النجس لمن لا يقدر على إزالة النجاسة، فورد في بعضها: " فالله أولى بالعذر "، كرواية
منصور بن حازم، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يعتريه البول ولا يقدر على
حبسه، قال: فقال لي: إذا لم يقدر على حبسه، فالله أولى بالعذر، يجعل خريطة ". (3)

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 252.
(2) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 190.
(3) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 19 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 2، ص 210.
206

[...]
وفي بعضها الآخر: " فإنما ذلك بلاء ابتلى به " كموثقة سماعة، قال: " سألته عن
رجل أخذه تقطير من قرحه (فرجه - خ ل) إما دم، وإما غيره، قال: فليصنع خريطة
وليتوضأ وليصل، فإنما ذلك بلاء ابتلا به، فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ
منه ". (1)
ومن المعلوم: أنه لافرق في الاضطرار الموجب لجواز الصلاة في النجس بين
نجاسة البدن واللباس، بل وردت في خصوص مورد الكلام (انحصار الثوب في
النجس) أخبار دالة على جواز الصلاة فيه، وقد صرح في بعضها بالاضطرار، كرواية
الحلبي، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس
معه ثوب غيره، قال: يصلي فيه إذا اضطر إليه " (2) بناءا على أن المراد من الاضطرار
إلى الثوب، هو الاضطرار إلى لبسه.
وأما بناءا على ما عن صاحب الحدائق (قدس سره) (3) من أنه يمكن حمل الاضطرار إليه
على معنى عدم وجود غيره، فتكون الرواية أجنبية عن المقام.
هذا، مما لاكلام فيه.
إنما الكلام، في وجوب الإعادة والقضاء إذا تمكن من التطهير أو التبديل في
الوقت أو خارجه.

(1) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 7 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 9، ص 189.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 7، ص 1067.
(3) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 352.
207

[...]
فنقول: أما القضاء، فعن المصنف (قدس سره) عدم وجوبه وهو الصحيح، ضرورة
أن موضوعه وهو الفوت لم يتحقق بعد تحقق الصلاة الواجدة للشرائط والأجزاء، و
الفاقدة للمانع، إذ المفروض: أن النجاسة حال الاضطرار ليست بمانعة، ولذا ورد في
الروايات أنه: " يصلى فيه إذ اضطر إليه " كرواية الحلبي المتقدمة، فيستفاد منها أن
النجاسة حينئذ معفوة.
وأما الإعادة، فعن المشهور (1) عدم وجوبها، وعن الشيخ (قدس سره) (2) وابن
جنيد (قدس سره) (3) وجوبها وعن صاحب المدارك (قدس سره) وصاحب الرياض (قدس سره) نسبته إلى جمع
معه (مع الشيخ (قدس سره)) (4) ولكن، ينبغي لنا أن نتكلم هنا، تارة حسب اقتضاء
القواعد، واخرى حسب اقتضاء الأخبار الواردة في المقام.
فنقول: أما القواعد العامة، فقد يقال: إنها تقتضي عدم الإعادة باعتبار أن
قضية الأمر الاضطراري هو الإجزاء.

(1) جواهر الكلام، ج 6، ص 252، حيث قال في شرح قول الماتن: " وقيل: لا يعيد " ما هذا
لفظه: " بل هو المشهور ".
(2) المبسوط، ج 1، ص 91، حيث قال: " فإن لم يمكنه خوفا من البرد أو غيره صلى فيه ثم
يعيدها في ثوب طاهر ".
(3) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 252.
(4) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 252، حيث قال: " لكن عن الشيخ في جملة من كتبه، بل
في المدارك والرياض نسبته إلى جمع معه ".
208

[...]
وفيه: أنه قد تقرر في الأصول في مبحث الإجزاء، أن مفاد الأدلة، إما هو
الاضطرار المستوعب للوقت، فلو بادر باعتقاد الإستيعاب وصلى ثم ارتفع أثناء
الوقت، وجب الإعادة قطعا ولا إجزاء ألبتة، لعدم أمر حينئذ في البين وعدم إتيان ما
هو مأمور به حتى يبحث عن الإجزاء، وإما هو مطلق الاضطرار ولو في بعض
الوقت، فالبدار حينئذ وإن كان جائزا بلا كلام وإشكال، إلا أنه يقع الكلام في
الإجزاء وعدمه، فعلى مسلك وحدة الأمر (1)، لا مناص من الإجزاء، وعلى مسلك
تعدد الأمر (2)، يبحث عن إجزاء امتثال الأمر الاضطراري عن الأمر الاختياري و
عدمه، والتفصيل موكول إلى محله.
وكيف كان، لا يمكن الحكم بالإجزاء في مثل المقام على المسلكين، لأن
المفروض فيه: هو تمكن المكلف من تطهير ثوبه أو تبديله في الوقت، فمقتضى القاعدة
هي الإعادة، كما لا يخفى.
هذا كله، لو كان للدليل تقييد أو إطلاق من جهة الاضطرار وأنه هو
الموضوع، إما مع الإستيعاب أو مطلقا.
وأما مع إهمال الدليل ووصول الدور إلى الشك في جواز البدار وعدمه،

(1) والمراد منه: أن الأمر متعلق بطبيعة الصلاة حال الاختيار والاضطرار بلا اختلاف فيه،
إنما الإختلاف في المصاديق والأفراد.
(2) والمراد منه: أن هنا أمرين: أحدهما: متعلق بطبيعتها حال الاختيار، ثانيهما: متعلق
بطبيعتها حال الاضطرار.
209

[...]
فعلى مبنى وحدة الأمر، كان المرجع هو الإشتغال، لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في
سقوط الأمر بإتيان الفرد الاضطراري بعد العلم بثبوته.
وبعبارة أخرى: أن الشك المذكور يرجع إلى الشك في التعيين والتخيير، إذ
مع جواز البدار يكون المكلف مخيرا المكلف بين امتثال فردي الطبيعة من الاختياري
بالإنتظار، والإضطراري بالبدار، ومع عدم جوازه يتعين الإمتثال بالفرد الاختياري
من الطبيعة.
ومن الواضح: أنه لابد حينئذ من الإتيان بالفرد الاختياري كي يحصل
الفراغ اليقيني، إذ هو المتيقن، والفرد الاضطراري هو المشكوك، والعقل يحكم بإتيان
المتيقن، كما في سائر موارد الإشتغال اليقيني.
وأما على مبنى تعدد الأمر، كان المرجع هي البراءة من إيجاب الإعادة بالفرد،
الاختياري لأن الشك يرجع حينئذ إلى الشك في أصل التكليف.
ثم إنه ذهب بعض الأعاظم (قدس سره) إلى عدم الإعادة في المقام تمسكا بحديث:
" لا تعاد " بتقريب أنه: " دل على أن الطهارة الخبثية لا تعاد منها الصلاة، وقد مر أن
الحديث يشمل الناسي والجاهل كليهما، والمكلف في المقام، حيث إنه جاهل باشتراط
الطهارة الخبثية في صلاته، فإنه بادر إلى الصلاة في ثوبه المتنجس، بالاستصحاب، أو
باعتقاد بقاء عذره إلى آخر الوقت، فهو لا يعلم باشتراط الطهارة في صلاته، فلا تجب
عليه إعادتها بالحديث ". (1)

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 385.
210

[...]
وفيه: ما عرفت سابقا من أن: " الحديث " لا يعم الجاهل بالحكم، هذا كله
حسب القواعد.
وأما حسب الأخبار: فقد يستدل للقائلين بوجوب الإعادة بمثل موثقة عمار
الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " أنه سئل عن رجل ليس عليه إلا ثوب، ولا تحل
الصلاة فيه، وليس يجد ماءا يغسله، كيف يصنع؟ قال: يتيمم ويصلي، فإذا أصاب
ماءا غسله وأعاد الصلاة ". (1)
ولكن أجاب عنه صاحب الجواهر (قدس سره) بحمل الأمر بالإعادة فيها على
الإستحباب (2)، إلا أنه مخدوش، على ما سيأتي في مبحث التيمم.
وأجاب عنه - أيضا - بعض الأعاظم (قدس سره) بما لا يخلو عن قوة، وهو أن الموثقة
أجنبية عن المقام، وذلك، لأن المفروض فيها فقدان الماء لأجل الطهارة الحدثية المائية
بحيث أمره الإمام (عليه السلام) بالصلاة مع التيمم، فصلى فاقدا للطهارتين (الحدثية والخبثية)
وعليه، فاستناد الأمر بالإعادة إلى فقد الطهارة الخبثية وحدها، كما هو المبحوث عنه
في المقام، غير صحيح، لاستناده فيها إلى فقد الطهارة الحدثية المائية، ولا أقل من
احتماله الموجب للإجمال المسقط للاستدلال. (3)
هذا كله في الصورة الأولى من المسألة.

(1) وسائل الشيعة: كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 8، ص 1067.
(2) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 252.
(3) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 194 و 195.
211

[...]
وأما الصورة الثانية وهي ما إذا انحصر ثوبه في النجس مع إمكان نزعه
حال الصلاة، ففيها أقوال ثلاثة:
أحدها: وجوب الصلاة في الثوب المتنجس.
ثانيها: وجوب الصلاة عاريا.
ثالثها: وجوب الصلاة مخيرا بين إتيانها في الثوب المتنجس، وبين إتيانها
عاريا.
والأقوى، كما عن المصنف (قدس سره) هو الأول، وذلك، لدلالة روايات كثيرة
من الصحاح وغيرها عليه.
كصحيحة محمد بن علي الحلبي، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أجنب
في ثوبه وليس معه ثوب غيره (آخر) قال: يصلي فيه، فإذا وجد الماء غسله ". (1)
وكصحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام): " قال: سألته عن رجل
عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم، أو كله دم، يصلي فيه أو يصلي
عريانا؟ قال: إن وجد ماءا غسله، وإن لم يجد ماءا صلى فيه ولم يصل عريانا ". (2)
ونحوهما غيرهما من الروايات المتقدمة. (3)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1066.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 5، ص 1066.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 45 من أبواب النجاسات، الحديث 4، 6
و 7، ص 1066.
212

[...]
فإن هذه الروايات بما أن المفروض فيها: عدم القدرة على غسل الثوب لاعلى
النزع، تدل على جواز الصلاة في الثوب المتنجس مع إمكان نزعه دلالة تامة واضحة،
بل قوله (عليه السلام): " ولم يصل عريانا " في صحيحة علي بن جعفر، نص على عدم جواز
الصلاة عريانا.
هذا، ولكن هنا طائفة أخرى من الروايات دالة على إتيان الصلاة عريانا،
فتعارض تلك الطائفة.
وهي ثلاث روايات:
منها: مضمرة سماعة، قال: " سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض و
ليس عليه إلا ثوب واحد وأجنب فيه، وليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال: و
يتيمم (1) ويصلي عريانا قاعدا يؤمي إيماءا ". (2)
ومنها: مضمرته الأخرى وهي كالأولى، إلا أن فيها كلمة: " قائما " مكان:
" قاعدا ". (3)
ومنها: رواية محمد بن علي الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): " في رجل أصابته
جنابة وهو بالفلاة وليس عليه إلا ثوب واحد، وأصاب ثوبه مني، قال: يتيمم
ويطرح ثوبه ويجلس مجتمعا، فيصلى ويؤمى إيماءا ". (4)

(1) هكذا في نسخة الوسائل، ولكن في نسخة الإستبصار، ج 1، ص 168: " يتيمم " بلا كلمة: " واو ".
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1068.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 3، ص 1068.
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 46 من أبواب النجاسات، الحديث 4،
ص 1068 و 1069.
213

[...]
فلا مناص حينئذ من الجمع بين هاتين الطائفتين، وقد ذكر الأعلام وجوها له:
الأول: ما عن الشيخ (قدس سره): من حمل الطائفة الأولى على حال الضرورة وعدم
التمكن من نزع الثوب، والثانية على حال الاختيار والتمكن من نزعه، مستشهدا
بذيل رواية الحلبي وهو قوله (عليه السلام): " يصلي فيه إذا اضطر إليه ". (1)
وفيه: ما لا يخفى، إذ المراد من الاضطرار، كما أشرنا آنفا، هو الاضطرار إلى
لبس الثوب المتنجس في الصلاة لاشتراط التستر فيها، لا الاضطرار إلى لبسه لجهة
أخرى من برد ونحوه، فالجمع المذكور تبرعي لا شاهد له.
والثاني: ما عنه (قدس سره) أيضا: من حمل الطائفة الأولى على صلاة الجنازة،
بدعوى: أنه ليس في شئ منها أنه يصلى فيه أي صلاة، وحمل خصوص صحيحة
علي بن جعفر المتقدمة على دم السمك الذي يجوز الصلاة في قليله وكثيره. (2)
وفيه: أن هذا الجمع - أيضا - كما ترى، تبرعي لا شاهد له، فلا يعتمد عليه.
والثالث: ما حكاه صاحب الوسائل (قدس سره) (3) عن جماعة: من الإلتزام بالتخيير
بين الصلاة في الثوب المتنجس وبين الصلاة عريانا، وارتضى هذا الجمع بعض
الأعاظم (قدس سره) وجعله من الجموع العرفية، مدعيا بأن لكل من الطائفتين نصا وظهورا،
بتقريب: أن الطائفة الأولى صريحة في جواز الصلاة في الثوب المتنجس، وظاهرة

(1) راجع، الإستبصار، ج 1، ص 169.
(2) راجع، تهذيب الأحكام: ج 2، ص 224 و 225.
(3) راجع، وسائل الشيعة: ج 2، ص 1069.
214

[...]
بمقتضى الإطلاق وعدم ذكر العدل، في تعينها، والطائفة الثانية صريحة في جواز
الصلاة عاريا، وظاهرة في تعينها، ومن المعلوم، أن مقتضى الجمع العرفي بينهما أن
نرفع اليد عن ظاهر كل منهما بنص الأخرى، ونتيجته هو التخيير، كما لا يخفى. (1)
وفيه: أن هذا الجمع إنما يتم إذا لم يكن في الطائفة الأولى قرينة على خلافه، و
المفروض: أنها موجودة فيها وهي قوله (عليه السلام) في صحيحة علي بن جعفر المتقدمة:
" ولم يصل عريانا " بعد قوله (عليه السلام): " صلى فيه " ضرورة أن لسان النهي عن الصلاة
عاريا، آب عن الحمل على التخيير، سيما إذا كان النهى إرشادا إلى فساد الصلاة.
فتحصل: أنه ليس للجمع الدلالي بين الطائفتين وجه صحيح يعتمد عليه،
فيصل الدور إلى الجمع السندي.
فنقول: إن الطائفة الثانية من الروايات كلها ضعاف، أما الأوليان منها، فلأجل
إضمارهما، والمفروض - أيضا - أن " سماعة " ليس شأنه شأن " محمد بن مسلم " و
" زرارة " الذين لا يسألان عن غير الإمام (عليه السلام) حتى يعبأ بإضماره، كما يعبأ بإضمارهما،
بل من المحتمل أن " سماعة " أضمر عن أحد أعاظم الشيعة، كما يؤيد ذلك وجود
الإختلاف فيهما، ففي الأولى: " ويصلي عريانا قاعدا " وفي الثانية: " قائما " وعليه،
فتسقطان عن الإعتبار. م

(1) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 390.
215

(مسألة 5): إذا كان عنده ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما يكرر
الصلاة، وإن لم يتمكن إلا من صلاة واحدة يصلي في أحدهما لا عاريا، و
الأحوط القضاء خارج الوقت في الآخر - أيضا - إن أمكن، وإلا عاريا. *
]
وأما رواية محمد بن علي الحلبي، فلأجل أن في طريقها " محمد بن عبد الحميد "
وهو مجهول لم يوثقه أرباب الرجال.
نعم، أبوه عبد الحميد، رجل ثقة، ولذا قال أبو جعفر (عليه السلام) في ذيل صحيحة
محمد بن إسماعيل بن بزيع: " إذا كان القيم به مثلك ومثل عبد الحميد، فلا بأس ". (1)
العلم بنجاسة أحد الثوبين
* في المسألة صورتان:
الأولى: أن يكون الشخص متمكنا من تكرار الصلاة في الثوبين الذين يعلم
بنجاسة أحدهما.
الثانية: أن لا يكون متمكنا إلا من صلاة واحدة فحسب.
أما الأولى: فلا إشكال في وجوب تكرارها في الثوبين، كما هو مقتضى القاعدة
في الشبهة المحصورة المقرونة بالعلم الإجمالي، على ما قرر في الأصول، من أنه كالعلم
التفصيلي، علة تامة لتنجيز التكليف، فتجب موافقته وتحرم مخالفته القطعية.

(1) وسائل الشيعة: ج 12، كتاب التجارة، الباب 16 من أبواب عقد البيع وشروطه،
الحديث 2، ص 270.
216

[...]
وقد قرر - أيضا - في الأصول عدم منافاة الإحتياط - بتكرار العمل - لقصد
القربة المعتبر في العبادة.
نعم، إن الإحتياط ينافي الجزم بالنية وقصد التميز، إذ لاجزم مع الإحتمال، إلا
ليس على اعتبار الجزم دليل عقلي ولا نقلي معتبر من اللفظي أو اللبي عليه، ولو كان
لأشتهر وبان، كأدلة شرائط الصلاة وأجزائها الواصلة إلينا والمعلومة عندنا، و
لا أقل من الشك، فالمرجع حينئذ هو الإطلاق اللفظي أو المقامي لو كان، وإلا
فالأصل العملي.
ولا ريب: أن مقتضى كل واحد منها عدم اعتبار الجزم بالنية، فالحق عدم
اعتباره في صحة العبادة حتى مع التمكن منه، فضلا عما إذا لم يتمكن.
وعليه: فلاوجه لما عن ابن إدريس (قدس سره): من القول بوجوب الصلاة عاريا،
نظرا إلى أن " الواجب عليه عند افتتاح كل فريضة، أن يقطع على ثوبه بالطهارة...
فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه، لأنه لا يجوز أن
يستفتح الصلاة، وهو شاك في طهارة ثوبه ". (1)
هذا، مضافا إلى أن هذا القول مخالف للنص، وهو ما عن صفوان بن يحيى، أنه
كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام): " يسأله عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول، و
لم يدر أيهما هو، وحضرت الصلاة وخاف فوتها، وليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال:

(1) كتاب السرائر: ج 1، ص 185.
217

[...]
يصلي فيهما جميعا ". (1)
نعم، هنا مرسلة رواها الشيخ (قدس سره) تدل على وجوب الصلاة عاريا في فرض
الكلام، وهي هذه: " أنه يتركهما ويصلي عاريا " (2) إلا أنها ضعيفة مهجورة معرض
عنها، فلا يعتمد عليها.
وأما الصورة الثانية: وهي عدم التمكن إلا من صلاة واحدة فقط، ففيها أقوال
ثلاثة:
الأول: وجوب الصلاة في أحد الثوبين.
الثاني: وجوبها عاريا.
الثالث: وجوبها مخيرا بين الأولين.
وقد عرفت في المسألة الرابعة: أن المختار هو القول الأول، بل هنا أولى، إذ
المفروض: أن الصلاة هناك كانت في ثوب معلوم نجاسته، وهنا تكون في ثوب
مشكوك نجاسته، فالروايات المتقدمة الدالة على جواز الصلاة في مقطوع النجاسة تدل
على جوازها في مشكوك النجاسة بالأولوية القطعية.
ثم إنه بقي الكلام هنا فيما تعرضه المصنف (قدس سره) في ذيل المسألة: من الإحتياط
الوجوبي بقضاء الصلاة في الثوب الآخر خارج الوقت إذا أمكن، وإلا يقضيها عاريا.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 64 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1082.
(2) المبسوط: ج 1، ص 39.
218

[...]
فنقول: لعل وجه الإحتياط هو وجوب تحصيل الموافقة القطعية، لأجل العلم
الإجمالي بوجوب إحدى الصلاتين عليه.
وفيه: ما لا يخفى، إذ العلم الإجمالي، إنما ينجز ويوجب الإحتياط إذا كان
المكلف متمكنا من إتيان جميع الأطراف في الوقت، وإلا فيكتفى على مقدار التمكن و
القدرة، نظير باب اشتباه القبلة، فإنه يجب إتيان الصلاة حينئذ إلى أربع جهات إذا
تمكن، وإلا فإلى الثلاث، وإلا فإلى الاثنتين، وإلا فإلى الواحدة، وهكذا في سائر
موارد الإشتباه، والمفروض: أن في المقام لا يتمكن المكلف إلا من صلاة واحدة،
لضيق الوقت، فتدور وظيفته بين أن يصلي في أحد الثوبين أو عاريا، فإذا عمل بهذه
الوظيفة وأتى بالصلاة في ثوب واحد، كما هو المفروض، فلا معنى للقضاء، إذ
موضوعه هو الفوت، وهذا غير متحقق.
وبعبارة أخرى: الأمر بعنوان الأداء قد امتثل بإتيان الصلاة في أحد الثوبين
وبعنوان القضاء لم يثبت موضوعه أصلا، بل ثبت خلافه قطعا، فلا مجال حينئذ
لوجوب القضاء.
ثم إنه لو سلم وجوب القضاء، أو استحبابه احتياطا لكان ذلك في خصوص ما
إذا أمكن إتيان الصلاة في الثوب الآخر وعليه، فلاوجه لقول المصنف (قدس سره): " وإلا
عاريا " إذ مع عدم الإمكان فعلا، لا يجب القضاء فورا عاريا.
اللهم إلا أن يقال: في باب القضاء بالمضايقة والفورية، قبال القول بجواز
219

[...]
التأخير والمواسعة الذي هو مختار عدة من الأعلام منهم: صاحب العروة (قدس سره). (1)
والحاصل: أن وزان ما نحن فيه، وزان الصلاة في ثوب نجس مع انحصاره، و
قد عرفت هناك: عدم وجوب القضاء، مع أن الصلاة وقعت في مقطوع النجاسة، ففي
المقام - أيضا - لا يجب القضاء قطعا، إذ المفروض: أن هنا وقعت الصلاة في مشكوك
النجاسة.
فما عن السيد الحكيم (قدس سره) من الفرق بين المقامين، حيث قال: " وقيام الدليل
على الإجزاء في صورة الانحصار لو صلى فيه، أو عاريا، لا يقتضي البناء على الإجزاء
هنا، للفرق بينهما بالعجز عن امتثال الواجب الأولي هناك، ولا كذلك هنا، لوجود
الثوب الطاهر عنده، فالعجز إنما هو عن العلم بالامتثال لاغير " (2) ممنوع.
بداهة، أن دليل الإجزاء وعدم وجوب القضاء هناك، لم يكن إلا عدم تحقق
الفوت في الوقت، والمفروض: أن الفوت لم يتحقق هنا - أيضا - ومجرد وجود ثوب
طاهر عنده مشتبه بالنجس مع عدم تمكنه إلا من صلاة واحدة في أحد الثوبين،
لا يوجب صدق عنوان الفوت، حتى يقال: بوجوب القضاء.
وإن شئت فقل: إن وظيفة المكلف في مثل المقام هو، الإتيان بالصلاة في أحد
الثوبين المشتبهين، والاكتفاء بالامتثال الإجمالي، والمفروض: أنه عمل بهذه الوظيفة
ومعه لا يصدق الفوت، فلا يجب القضاء عليه.

(1) مسألة 27 في فصل صلاة القضاء.
(2) مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 548.
220

(مسألة 6): إذا كان عنده مع الثوبين المشتبهين ثوب طاهر، لا يجوز
أن يصلي فيهما بالتكرار، بل يصلي فيه، نعم، لو كان له غرض عقلائي في
عدم الصلاة فيه، لا بأس بها فيهما مكررا.
]
الصلاة في المشتبهين مع وجود ثوب طاهر
لا يخفى: أن ما حكم به المصنف (قدس سره) في هذه المسألة، من عدم جواز إتيان
الصلاة في الثوبين المشتبهين بالتكرار، ووجوب إتيانها في الثوب الطاهر فقط، مبتن
على القول بعدم جواز الإمتثال الإجمالي مع التمكن من الإمتثال التفصيلي، وذلك،
لإخلال الإمتثال إجمالا بالجزم بالنية والتميز.
وفيه: أنه قد قرر في الأصول، أنه لا دليل على اعتبار الجزم والتميز في النية،
لا عقلا ولا نقلا، وأن الحاكم في باب الإطاعة والعصيان هو العقل، ومن المعلوم: أنه
لا يحكم إلا بامتثال أمر المولى بإتيان متعلقه، ونهي المولى بترك متعلقه، وأما الزائد
على ذلك، فإن دل على اعتباره دليل عقلي أو نقلي فهو، وإلا فالمرجع في دفع احتمال
اعتباره هو الإطلاق اللفظي أو المقامي إن كان، وإلا فالأصل العملي.
ودعوى: أن التكرار يكون لعبا بأمر المولى فلا يصدق الإمتثال، مندفعة:
أولا: بما عن المحقق الخراساني (قدس سره): من منع أصل اللعب إذا كان التكرار بداع
عقلائي (1)، كما إذا كان تحصيل العلم التفصيلي أشق من الإحتياط أو مساويا معه.

(1) كفاية الأصول، ج 2، ص 255، حيث قال: " وتوهم كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى وهو
ينافي قصد الإمتثال المعتبر في العبادة فاسد، لوضوح أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي ".
221

[...]
وقد أشار إلى هذا الجواب - أيضا - الإمام الراحل (قدس سره) بقوله: " ربما يترتب
الغرض العقلائي، فلا نسلم أن الإحتياط لعب بأمر المولى وتلاعب به ". (1)
وثانيا: لو سلم تحقق اللعب بالتكرار، يمنع عن كونه لعبا بأمر المولى، بل
يكون في كيفية الإمتثال بعد حصول الداعي إليه، وهذا لا يضر.
وأما ما عن المحقق النائيني (قدس سره): من أن الإطاعة ذات مراتب أربعة بحكم العقل
والفطرة، من التفصيلي والإجمالي والظني والاحتمالي، وأنه لا يكفي الإجمالي عند
التمكن من التفصيلي، وكذا الاحتمالي مع التمكن من الظني، مستدلا بأن حقيقة الإطاعة
هو الانبعاث عن بعث المولى والتحرك عن تحريكه والعمل بداعي أمره، والداعي في
الإمتثال الاجمالي لا يكون إلا احتمال الأمر، وهذا النحو من الانبعاث وإن كان نحوا
من الطاعة، لكنه يكون في رتبة متأخرة عن الإمتثال التفصيلي الذي يكون بداعي
الأمر الجزمي. (2)
ففيه: أولا: أن الحاكم في باب الإمتثال والإطاعة، كما عرفت آنفا، هو العقل،
ولا شك أن الآتي بداعي احتمال الأمر أطوع من الآتي بداعي الأمر القطعي.
وثانيا: أن الانبعاث في الإمتثال الإجمالي - أيضا - يكون عن بعث قطعي، و
من هنا ينبعث المكلف إلى إتيان جميع أطراف العلم الإجمالي، ولولا ذلك البعث
المعلوم المحرز، لما تحقق الانبعاث منه كذلك. م

(1) تهذيب الأصول: ج 2، ص 127.
(2) راجع، فوائد الأصول: ج 3، ص 69 - 74.
222

(مسألة 7): إذا كان أطراف الشبهة ثلاثة، يكفي تكرار الصلاة في
اثنين، سواء علم بنجاسة واحد وبطهارة الاثنين، أو علم بنجاسة واحد و
شك في نجاسة الآخرين، أو في نجاسة أحدهما، لأن الزائد على المعلوم
محكوم بالطهارة، وإن لم يكن مميزا، وإن علم في الفرض بنجاسة الاثنين
يجب التكرار بإتيان الثلاث، وإن علم بنجاسة الاثنين في أربع يكفي
الثلاث. والمعيار، كما تقدم سابقا، التكرار إلى حد يعلم وقوع أحدها في
الطاهر. *
(مسألة 8): إذا كان كل من بدنه وثوبه نجسا، ولم يكن له من الماء
إلا ما يكفي أحدهما، فلا يبعد التخيير، والأحوط تطهير البدن، * *]
وبالجملة: ففي موارد الإمتثال الإجمالي، ليس في نفس البعث إجمال، إنما
الإجمال في متعلقه، وهذا المقدار لا يوجب الإمتثال التفصيلي.
* * *
* والوجه في الصور المذكورة في المسألة ظاهر، لا يحتاج إلى البسط و
الإطالة.
عدم التمكن من تطهير الثوب والبدن معا
* * لا يخفى: أن هذه المسألة عند المصنف (قدس سره) وغيره، بل عند المشهور (1)
من صغريات كبرى باب التزاحم.

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 213.
223

[...]
توضيحه: أن الضابط الكلي في التزاحم: هو دوران الأمر بين جزء الصلاة و
جزئها الآخر، أو بين شرطها وشرطها الآخر، أو بين عدم مانع وعدم مانع آخر، أو
دورانه بين جزء وشرط، أو جزء وعدم مانع، أو شرط وعدم مانع، فتتحقق
المزاحمة في تلك الموارد، لوجوب كل واحد من الأمرين في نفسه وعجز المكلف عن
امتثالهما معا، بحيث لو تمكن منه وجبا في حقه، فلابد من إعمال قواعد باب التزاحم و
هي الترجيح لو كان، أو التخيير لو لم يكن.
ففي المقام - حسب الفرض - يدور الأمر بين عدم المانعين وهما النجاسة في
البدن والنجاسة في الثوب، وحيث إنه يجب رفع كل واحد منهما يقع التزاحم بينهما،
لعدم إمكان امتثالهما معا، لقلة الماء وعدم كفايته إلا لرفع أحدهما، فلا مناص من
إعمال قواعد التزاحم، ولذا حكم المصنف (قدس سره) أولا: بنفي البعد عن التخيير، ولعله
لأجل عدم وجود المرجح لأحد المتزاحمين، واحتاط. ثانيا: بتطهير البدن، ولعله
لكونه أهم أو محتمل الأهمية، ورجح أحدهما على الآخر في آخر كلامه (قدس سره) إذا كان
نجاسته أكثر أو أشد منه.
هذا، ولكن ذهب بعض الأعاظم (قدس سره) إلى أن المسألة مندرجة في باب
التعارض، فلابد إذا من إعمال قواعده، وهي الجمع العرفي بين المتعارضين إن أمكن،
أو المرجحات السندية إن لم يمكن، أو الرجوع إلى الأصل العملي عند فقد الترجيح
السندي وتساقط كل من المتعارضين. (1)

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 214 و 215.
224

[...]
فينبغي لنا أن نتكلم حول حقيقة المعارضة والمزاحمة على وجه الإجمال
حتى تعرف الحال في المسألة.
فنقول مستعينا بالله العليم: أما التعارض، فميزانه هو تكاذب الدليلين و
تنافيهما في موقف الجعل ومصب التشريع والتقنين، ومرحلة اشتغال الذمة، وهذا
التكاذب إما هو للتناقض أو التضاد، أو لتنافي الإرادتين المختلفتين، أو تنافي الإرادة و
الكراهة لو لم نقل بتضاد الأحكام على ما حرر في الأصول.
ولا يخفى عليك: أن التعارض ربما يكون بمعونة دليل خارجي، كما في
مورد جعل الحكمين على موضوعين، نظير ما دل على وجوب القصر لمن سافر
أربعة فراسخ ولا يريد الرجوع ليومه، وما دل على وجوب الإتمام عليه، ونظير ما
دل على وجوب صلاة الجمعة في يومها، وما دل على وجوب صلاة الظهر في هذا
اليوم، فيقع التعارض بين الدليلين فيهما، للقطع بعدم وجوب صلاتين في يوم واحد
قصرا وإتماما، وعدم وجوب صلاتين من الظهر والجمعة في يومها.
فيسمى هذا تعارضا عرضيا، لعدم امتناع اجتماع الحكمين المذكورين حقيقة،
بسبب تعدد الموضوع فيهما.
وربما يكون بتنافي نفس الحكمين، كما في مورد جعلهما على موضوع واحد،
نظير ما دل على وجوب صلاة الجمعة في يومها، وما دل على حرمتها، أو على عدم
وجوبها في هذا اليوم، فإنه يقع التعارض هنا بين الدليلين، لتنافي الحكمين المذكورين
نفسهما، فيسمى هذا تعارضا حقيقيا، كما هو واضح.
225

[...]
ولا يخفى عليك - أيضا - أنه مع العلم بالتعارض وإحراز التكاذب يعلم
بكذب أحد الدليلين واقعا، ونتيجة ذلك هو العلم بعدم الملاك لأحد الدليلين، إما
بنحو السالبة بانتفاء المحمول، بناءا على مسلك تبعية الأحكام للملاكات، كما ذهب
إليه العدلية، أو بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، بناءا على مسلك عدم التبعية.
وعليه: فما عن بعض الأعاظم (قدس سره): من: " أن العلم بالملاك وأنه واحد أو
متعدد يحتاج إلى علم الغيب المختص بأهله، وليس لنا سبيل إلى إحرازه إلا أن
يستكشف وجوده من الأحكام نفسها، ومعه كيف يمكن إحراز أنه واحد أو متعدد؟
مع الكلام في تعدد الحكم ووحدته " (1) غير وجيه.
فتحصل: أن ملاك التعارض هو عدم إمكان الجمع بين الحكمين في موقف
الجعل، لما يلزم من محذور طلب الضدين أو النقيضين، أو محذور اجتماع الإرادتين
المختلفتين، أو اجتماع الإرادة والكراهة، وهذا - كما ترى - مستحيل عقلا، ولافرق
فيه بين القول بتبعية الأحكام للملاكات، وبين القول بعدمها.
غاية الأمر: لو قيل: بالتبعية يستكشف من التعارض فقد أحد الحكمين
للملاك قطعا، بخلاف ما إذا لم نقل بها، وكيف كان، لا يدور التعارض مدار فقد أحد
الحكمين للملاك والمقتضي، ولا يبتنى على القول بالتبعية وعدمها، بل هو يدور مدار
التنافي والتكاذب بين الدليلين، كما عرفت آنفا، هذا كله في التعارض.

(1) التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 402.
226

[...]
وأما التزاحم، فليس مورده تنافي الدليلين، أو الحكمين في مرحلة الجعل و
موقف التقنين، لكونهما مجعولين على موضوعين، كوجوب الصلاة وحرمة الغصب،
فلا تنافي ولا تناقض ولا تضاد بين هذين الحكمين، لا حقيقة ولا عرضا، بل التنافي
بينهما، إنما هو في مرحلة الإطاعة والامتثال لعجز العبد وعدم قدرته على امتثالهما معا
في زمان واحد.
ثم إنه، هل يشترط في التزاحم أن يكون كل واحد من التكليفين مستقلا - كما
في مورد تزاحم وجوب إنقاذ الغريق مع وجوب إنقاذ غريق آخر، وتزاحم وجوب
الصلاة مع وجوب الإزالة - أم لا؟ بل يقع بين التكليفين الضمنيين - أيضا - كمزاحمة
وجوب جزء من الصلاة، مع وجوب جزء آخر منها، أو مزاحمة وجوب شرط في
الصلاة، مع وجوب شرط آخر فيها، وجهان، بل قولان:
ذهب بعض الأعاظم (قدس سره) إلى الأول، بدعوى: أن التكليف في الضمني ليس إلا
واحدا تعلق بعمل ذي أجزاء وشروط وجودية وعدمية، فإذا دار الأمر بين ترك
جزء وجزء آخر، أو شرط وشرط آخر، أو دار الأمر بين الإتيان بمانع ومانع آخر،
لا يعقل اندراج هذه الموارد في كبرى باب التزاحم، إذ المركب ذو الأجزاء والشرائط
فعل واحد ارتباطي، لدلالة أدلة وجوب الأجزاء والشرائط على الجزئية والشرطية
وكونها إرشادا إليهما، فالأمر بكل جزء أو شرط يكون مقيدا بانضمام البقية السابقة و
اللاحقة، فمقتضى القاعدة فيه سقوط التكليف بالمرة لو عجز المكلف عن بعض
227

[...]
الأجزاء أو الشرائط الوجودية أو العدمية، لانتفاء المركب بانتفاء بعض الأجزاء و
انتفاء المشروط بانتفاء بعض شروطه.
نعم، تخصص هذه القاعدة في الصلاة، لقيام الإجماع والضرورة على عدم
سقوط التكليف فيها بحال، بل دل عليه النص، كصحيحة زرارة: "... فإن انقطع عنها
الدم، وإلا فهي مستحاضة، تصنع مثل النفساء سواء، ثم تصلي ولا تدع الصلاة على
حال، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الصلاة عماد دينكم ". (1)
فإنها وإن وردت في خصوص المستحاضة، إلا أن اشتمالها على التعليل وهو
قوله (عليه السلام): " فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الصلاة عماد دينكم " يوجب إلغاء الخصوصية قطعا،
فيعم عدم السقوط جميع المكلفين، وعليه، فيحصل العلم الإجمالي بوجوب صلاة
فاقدة لهذا الجزء أو ذاك، أو فاقدة لجزء أو شرط وهكذا، إذ المفروض: عدم تمكن
المكلف من إتيان صلاة جامعة للأجزاء والشرائط وفاقدة للموانع، وهذا هو معنى
التعارض والتكاذب بين الدليلين، فلابد من إعمال قواعده وهو الجمع العرفي لو
أمكن، أو الأصل العملي بعد تساقطهما وعدم إمكان الجمع بينهما.
ولا ريب: أن مقتضى الأصل هو التخيير لدوران الأمر بين التعيين والتخيير
في كل من المحتملين، فيرجع إلى البراءة من التعيين، ففي المقام حيث دار الأمر بين
تطهير البدن والثوب ولا يمكن امتثالهما معا، يرجع إلى التخيير وإن احتمل أهمية

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 1 من أبواب الاستحاضة، الحديث 5، ص 405.
228

[...]
تطهير البدن، إذ ليس المقام مندرجا في باب التزاحم كي تلاحظ الأهمية، بل مندرج
في باب التعارض للشك في أن المجعول هذا أو ذاك. (1)
هذا، ولكن التحقيق يقتضي أن يقال: إن الأمر بالكل والمركب الإعتباري و
إن كان أمرا بالأجزاء، إذ الكل والمركب الإعتباري ليس إلا نفس الأجزاء بالأسر، و
مقتضى القاعدة في مثله هو سقوط التكليف بالمرة مع العجز عن بعضه، لكن الكلام في
المقام إنما يكون في الفرع المرتبط بالصلاة وهو العجز عن تطهير البدن والثوب معا
للصلاة، ومن الواضح: أن التكليف المتعلق بها لا يسقط بحال، كما ورد في صحيحة
زرارة المتقدمة، إلغاءا للخصوصية.
وعليه: فإذا دار الأمر بين التطهيرين لعدم إمكان امتثالهما معا، كان هنا أمران
متعلقان برفع كل واحد من المانعين بلا تناف وتكاذب بينهما في موقف التشريع و
الجعل، لعدم التناقض والتضاد بينهما في تلك المرحلة.
وبعبارة أخرى: إذا قيل: مثلا، طهر بدنك وطهر لباسك، أو قيل: صل
بشرط طهارة بدنك، وصل بشرط طهارة لباسك، فهل ترى بين هذين الخطابين و
بين خطابي صل ولا تغصب، أو خطابي صل وأزل النجاسة عن المسجد فرقا؟ فكما
أن منشأ التصادم بين الخطابين الأخيرين وعدم إمكان الجمع بينهما، إنما هو عجز
المكلف وعدم قدرته في مقام الإمتثال بلا تناف وتكاذب في مقام الجعل، كذلك

(1) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 403.
229

[...]
الخطابان المتقدمان، فالمكلف لفقد الماء بمقدار تطهير بدنه ولباسه معا، لا يقدر حين
الإمتثال إلا على أحدهما، فيندرج المقام إذا في كبرى التزاحم، كما أن المثالين يندرج
فيها.
على أن ارتباطية التكليف وضمنيته لو كانت سببا لوحدته الموجبة لعدم
معقولية التزاحم، للزم استحالة التعارض - أيضا - في المركبات ولو كانت من قبيل
الصلاة، إذ كيف يعقل التعارض في مثل الصلاة مع فرض وحدة الأمر والتكليف؟!
وبالجملة: فكل واحد من وجوب تطهير الثوب والبدن يكون مجعولا،
كمجعولية وجوب الصلاة ووجوب الإزالة، أو مجعولية حرمة الغصب ووجوب
الصلاة، فكما لا مجال لتوهم التعارض في الأخيرين، كذلك المقام.
ثم إن المصنف (قدس سره) قد احتاط في المتن بتطهير البدن، وقد عرفت: أنه لعل لأجل
أهميته أو احتمال الأهمية، فيدور الأمر حينئذ بين التعيين والتخيير، والأصل يقتضي
التعيين في أمثال المورد الذي يكون الشك فيه في السقوط، حيث نعلم أن نجاسة البدن
تكون مانعة عن صحة الصلاة أو طهارته شرطا لها، ونشك في أن العجز المفروض،
هل يكون مسقطا أم لا؟ وهذا بخلاف ما إذا كان الشك في أصل الثبوت، كدوران
الواجب بين التعيين والتخيير، فهنا تجري البراءة على ما قرر في الأصول، من أنها
تجري فيما إذا كان الشك في طور التكليف وكيفيته، كما تجري فيما إذا كان الشك في
نفس التكليف. م
230

وإن كانت نجاسة أحدهما أكثر أو أشد، لا يبعد ترجيحه. *
]
لا يخفى عليك: أن الحكم بتطهير البدن، بناءا على أهميته لابد وأن يكون بنحو
اللزوم والوجوب، فلا مجال لما في المتن من الإحتياط الاستحبابي، كما أن الحكم
بالتخيير، بناءا على عدم أهميته - أيضا - يكون بنحو اللزوم والجزم، فلاوجه لما في
المتن من قوله (قدس سره): " فلا يبعد التخيير ".
الأكثرية والأشدية في نجاسة الثوب والبدن
* حكم المصنف (قدس سره) بنفي البعد عن ترجيح تطهير ما كانت نجاسته أكثر أو
أشد، فنقول في توضيحه: أما مع عدم الأكثرية والأشدية، فالواجب هو تطهير
البدن مع إحراز أهمية نجاسته في المانعية أو احتمالها، لما عرفت آنفا، من أن الأصل
يقتضي التعيين في أمثال المورد الذي يكون الشك فيه في سقوط التكليف، لافي ثبوته
حتى تجري البراءة، والنتيجة هو أن يأتي بالصلاة مع طهارة بدنه ولو كان ثوبه نجسا.
نعم، إذا كان الوقت وسيعا، فالأحوط حينئذ أن يأتي بالصلاة عاريا مرة، و
لابسا أخرى، مقدما للأولى إذا كان الهواء حارا معرقا موجبا لسراية النجاسة من
الثوب إلى البدن، هذا مع التمكن، وإلا يصلي واحدة لابسا.
وأما مع ضيق الوقت، فيمكن أن يقال: بأنه يصلي بعد تطهير البدن عاريا، أو
بأنه يصلي لابسا، وهذا - أيضا - على تقدير التمكن من نزع الثوب وعدم لبسه، وإلا
فيصلي في ثوبه النجس، هذا كله لو أحرزت الأهمية، أو احتملت. م
231

(مسألة 9): إذا تنجس موضعان من بدنه أو لباسه ولم يمكن
إزالتهما، فلا يسقط الوجوب، *
]
وأما مع عدمهما، فيحكم بالتخيير بين تطهير الثوب والبدن، وهنا - أيضا -
ينبغي الإحتياط بنحو مذكور في فرض التعرق والسراية على تقدير سعة الوقت، و
على تقدير ضيقه يصلي عاريا لو تمكن، ولابسا مع عدم التمكن، هذا تمام الكلام فيما إذا
لم يكن في البين أكثرية أو أشدية في النجاسة.
وأما مع الأكثرية أو الأشدية، فلو كانتا في نجاسة البدن وجب تطهيره قطعا،
بناءا على كونهما من المرجحات ولو احتمالا، كما كان تطهيره واجبا، بناءا على كون
نجاسة البدن أولى في المنع وأهم ولو احتمالا، والاحتياط الذي قلناه آنفا في سعة
الوقت، جار هنا - أيضا - كما لا يخفى.
وأما لو كانتا في نجاسة الثوب فمع القول بأهمية نجاسة البدن ولو احتمالا، و
القول بكون الأكثرية أو الأشدية الحاصلة في نجاسة الثوب من المرجحات ولو احتمالا،
يحكم بالتخيير، والاحتياط المذكور يجري هنا - أيضا - وإن قلنا: بأهمية نجاسة
البدن فقط ولو احتمالا يجب تطهيره، كما يجب تطهير الثوب لو قلنا: بأهمية نجاسته،
بأكثريتها أو أشديتها، وعلى كل تقدير، فالاحتياط المشار إليه باق بحاله، أيضا.
تنجس الموضعين من البدن أو اللباس
* لا يخفى: أن ما حكم به المصنف (قدس سره) في المسألة من وجوب إزالة النجاسة
232

[...]
عن أحد الموضعين المتنجسين من البدن أو اللباس إذا لم يمكن إزالتها عنهما، إنما يتم،
بناءا على القول بأن النهي الوارد من ناحية الشرع ناش عن المفسدة المترتبة على
مطلق الوجود، لأجل كونها مترتبة على كل فرد من أفراد الطبيعة، كما هو الصحيح، و
يساعده الفهم العرفي، إذ حينئذ يكون كل فرد من أفراد النجاسة مانعا عن صحة
الصلاة مستقلا، سواء كان مسبوقا بفرد آخر، أو ملحوقا به، أم لا.
وعليه: فتجب إزالة النجاسة بقدر الإمكان والاستطاعة، لعدم ارتفاع المانعية
عن الفرد المتمكن من إزالتها عنه بوجود فرد آخر، غير المتمكن من إزالتها عنه، نظير
النهي عن الكذب، أو شرب الخمر وغيرهما من سائر المحظورات، فإن النهي لا يرفع
عن كذب مثلا، بجواز كذب آخر، للإضطرار ونحوه، وكذا لا يرفع عن مطلق شرب
الخمر بجواز شربها في مورد خاص للإضطرار.
وأما بناءا على القول بأن النهي ناش عن المفسدة القائمة بصرف الوجود،
فلا يجب في مثل المقام رفع النجاسة عن الفرد الذي يمكن رفعها منه، إذ المفروض: أن
المانع هو صرف الوجود وهو متحقق بالفرد المضطر إلى لبسه، من دون أن يكون
للفرد غير المضطر إليه مانعية حينئذ، لعدم ترتب الأثر عليه.
هذا نظير ما إذا نهى المولى عبده عن أن يدخل عليه أحدا، لاشتغاله بالمطالعة
- مثلا - فإذا أدخل عليه أحدا، أو دخل على المولى بغير اختياره، فقد فات بذلك
غرضه، وهو خلو الدار عن أي إنسان، فلا أثر بعد ذلك للفرد الثاني والثالث حينئذ،
233

[...]
إذ وجود بقية الأفراد وعدمها سيان من هذه الجهة، لفوات الغرض بأول الوجودات.
وبالجملة: بناءا على قيام المفسدة بصرف الوجود وتحققها بالفرد المضطر
إليه، لا أثر للمفسدة في الفرد الآخر غير المضطر إليه كي يوجب المنع عنه، فإذا اضطر
المكلف إلى لبس الثوب المتنجس، لعدم إمكان إزالة النجاسة عنه، يجوز له لبس
الثوب المتنجس الآخر ولو لم يضطر إليه، لإمكان تطهيره حسب الفرض، وكذا إذا
اضطر ولم يتمكن من تطهير موضع نجس من بدنه، يجوز له إبقاء نجاسة أخرى من
موضع آخر من بدنه ولو كان متمكنا من إزالتها وتطهيره.
234

دوران النجاسة بين الأقل والأكثر
عدم كفاية الماء لرفع الحدث والخبث معا
الصلاة مع النجاسة اضطرارا
الاضطرار إلى السجود على محل نجس
السجدة على الموضع النجس جهلا
235

ويتخير إلا مع الدوران بين الأقل والأكثر، أو بين الأخف والأشد،
أو بين متحد العنوان ومتعدده، فيتعين الثاني في الجميع، بل إذا كان موضع
النجس واحدا وأمكن تطهير بعضه لا يسقط الميسور، بل إذا لم يمكن
التطهير، لكن أمكن إزالة العين وجبت، بل إذا كانت محتاجة إلى تعدد
الغسل وتمكن من غسلة واحدة، فالأحوط عدم تركها، لأنها توجب خفة
النجاسة إلا أن يستلزم خلاف الإحتياط من جهة أخرى، بأن استلزم
وصول الغسالة إلى المحل الطاهر.
]
دوران النجاسة بين الأقل والأكثر
أشار المصنف (قدس سره) في هذا المتن إلى أن المقام مندرج في باب التزاحم، فمقتضى
قاعدته هو الحكم بالتخيير بين تطهير موضع وموضع آخر إذا لم يكن لأحدهما
ترجيح على الآخر ولو احتمالا، وإلا فيقدم، ولذا استثنى (قدس سره) من الحكم بالتخيير
الموارد التي يكون فيها ترجيح لأحدهما على الآخر، نظير ما إذا دار الأمر بين الأقل و
الأكثر، أو بين الأخف والأشد، كما إذا كان أحدهما متنجسا بدم الحيض والآخر بدم
غيره، أو بين متحد العنوان ومتعدده، كما إذا كان أحدهما متنجسا بدم حيوان نجس
العين كالكلب، والآخر بدم غيره، فحكم بتعين الثاني في الجميع.
ثم إنه (قدس سره) ألحق بتنجس الموضعين من البدن أو اللباس ما إذا كان موضع
النجس واحدا وأمكن تطهير بعضه، فحكم فيه - أيضا - بتطهير ما يمكن تطهيره مخيرا
بين بعض وبعض. هذا، لاكلام فيه.
237

[...]
إنما الكلام فيما إذا لم يمكن التطهير، ولكن أمكن إزالة العين، فهل الحكم فيه
بتعين إزالتها مبني على التزاحم والتقديم للأهمية، أو مبني على لزوم تخفيف النجاسة
بقدر الإمكان والاستطاعة؟ وجهان:
والحق هو الثاني، إذ المفروض: أن في المقام يدور الأمر بين الإزالة مع التطهير،
وبينها مع عدمه، فيندرج في الدوران بين الأقل وهو الإزالة فقط، وبين الأكثر وهو
الإزالة مع التطهير، فإن تمكن من الأكثر وجب تعيينا، وإن لم يتمكن إلا من الأقل، كما
هو مفروض الكلام وجب تعيينا، كما أنه لو لم يتمكن من الجميع سقط التكليف رأسا.
وعليه: فلاوجه لما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من أن الحكم بإزالة العين مبني
على التزاحم: " لدوران الأمر بين الصلاة في المتنجس مع وجود عين النجاسة، وفي
المتنجس بدونها، فيتقدم الأول، أي يزال العين، للأهمية ". (1)
والحاصل: أنه لا يعقل التزاحم بين الأقل والأكثر المفروضين في مورد
واحد، كما في فرض المسألة، بل يتعين الأكثر مع القدرة عليه، وإلا يتعين الأقل، كما
يسقط التكليف رأسا مع عدم القدرة على الأقل - أيضا - وعلى جميع التقادير
لا دوران ولاتزاحم في البين.

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 225.
238

[...]
نعم، يتحقق التزاحم بين الأقل والأكثر المفروضين في موردين، كتنجس
موضعين من البدن أو اللباس، فيقدم الأكثر - مثلا - لكونه أهم أو محتمل الأهمية، وهذا
أجنبي عن المقام، لما عرفت: من أن وجوب الإزالة في مفروض الكلام مبتن على مبنى
لزوم تخفيف النجاسة بقدر الإمكان والاستطاعة، لاعلى التزاحم والتقديم للأهمية.
وقد صرح المصنف (قدس سره) بهذا المبنى في صورة الاحتياج إلى تعدد الغسل وعدم
التمكن، إلا من غسلة واحدة، فقال (قدس سره): " فالأحوط عدم تركها، لأنها توجب خفة
النجاسة ".
لكن لاوجه للاحتياط هنا، بل تتعين حينئذ غسلة واحدة، كما هو واضح.
ثم إنه بقي الكلام فيما تعرضه المصنف (قدس سره) في ذيل المسألة من قوله: " إلا أن
يستلزم خلاف الإحتياط من جهة أخرى، بأن استلزم وصول الغسالة إلى المحل
الطاهر ".
توضيحه: أن في فرض عدم التمكن من تعدد الغسل، إنما يصح الإحتياط
بعدم ترك الغسل مرة، كما عن المصنف (قدس سره) أو القول بتعينه، كما هو المختار مع عدم
استلزامه لسراية النجاسة إلى المحل الطاهر، نظير ما إذا تنجست أطراف الأصابع
فصب عليها الماء وانفصلت الغسالة منها بسهولة وسرعة، ونظير ما إذا تنجس
جميع الثوب، فغسل بالماء مرة واحدة بلا حصول السراية.
وأما مع استلزام الغسل للسراية، فلا مجال للاحتياط المذكور، أو القول
بالتعين. م
239

(مسألة 10): إذا كان عنده مقدار من الماء، لا يكفي إلا لرفع الحدث
أو لرفع الخبث من الثوب أو البدن، تعين رفع الخبث ويتيمم بدلا عن
الوضوء أو الغسل، والأولى أن يستعمله في إزالة الخبث أولا، ثم التيمم
ليتحقق عدم الوجدان حينه. *
]
وعليه: فما عن السيد الحكيم (قدس سره) من دعوى طهارة الغسالة قبل الانفصال و
إنما تتنجس بعد الخروج عن المحل وانفصالها عنه، فلا تستلزم السراية وتكثير
النجاسة (1)، ممنوع، فهل ينبغي أن يقال: إن الانفصال من المنجسات، وأن ماء
الغسالة إذا انفصل ينجس ملاقيه وأنه ما دام باقيا في المحل لا ينجسه؟!
وقد مضى هذا البحث في مبحث الغسالة.
عدم كفاية الماء لرفع الحدث والخبث معا
* حكم المصنف (قدس سره) في المسألة بتعين رفع الخبث، وبوجوب التيمم بدلا عن
الوضوء أو الغسل، وهذا مما اتفق عليه الأصحاب (2) وهو مبتن على أمور:
الأول: أن المسألة مندرجة في كبرى باب التزاحم، وذلك، لعدم التنافي و
التكاذب بين دليلي اعتبار الطهارتين في مقام الجعل، لا بنحو التضاد ولا التناقض و
لاغيرهما، هذا مع اشتمال كل من الخطابين للملاك، بناءا على ما سلكه العدلية من

(1) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 553.
(2) الحدائق الناضرة، ج 4، ص 263، حيث قال: "... والظاهر أن الحكم بذلك اتفاقي عندهم ".
240

[...]
تبعية الأحكام للملاكات، إلا أنه لا يتمكن المكلف من الجمع بينهما في مرحلة
الإمتثال، لقلة الماء وعدم كفايته لهما.
الثاني: أن القدرة المعتبرة في الطهارة الحدثية شرعية لا تكوينية، ويدل عليه
لفظ: " مرضى " في قوله تعالى: * (وان كنتم مرضى أو على سفر...) * (1).
وعليه: فالمراد من عدم الوجدان في قوله تعالى: * (فلم تجدوا ماءا) * (2) هو
عدم التمكن من استعمال الماء شرعا، لاعدم الوجدان تكوينا، وكذا المراد من
الوجدان هو التمكن من استعماله شرعا، ولا ريب: في أنه يعد من موارد التمكن
الشرعي، عدم وجود ما يزاحم الطهارة الحدثية، وإلا سقط وجوبها وانتقل إلى
وجوب بدلها وهو التيمم.
الثالث: أن القدرة المعتبرة في الطهارة الخبثية عقلية لا شرعية، وذلك، لمقتضى
إطلاق أدلة وجوبها وعدم تقييدها بالقدرة الشرعية، وعليه: فالأدلة تدل على رفع
الخبث ولزوم تحصيل الطهارة الخبثية مطلقا، سواء كان هناك واجب آخر مزاحم، أم لا.
إذا عرفت هذه الأمور، ظهر لك حكم دوران الأمر بين الطهارتين (الحدثية و
الخبثية) من أنه يتعين تقديم الثانية لارتفاع موضوع الأولى - وهو وجدان الماء
شرعا - بتحصيل الثانية، وهذا هو الضابط في جميع موارد دوران الأمر بين ما تعتبر
فيه القدرة عقلا، وبين ما تعتبر فيه القدرة شرعا. م

(1) النساء (4): الآية 43.
(2) النساء (4): الآية 43.
241

(مسألة 11): إذا صلى مع النجاسة اضطرارا، لا يجب عليه الإعادة
بعد التمكن من التطهير، نعم، لو حصل التمكن في أثناء الصلاة استأنف في
سعة الوقت، والأحوط الإتمام والإعادة. *
]
نعم، الأولى استعمال الماء في إزالة الخبث أولا، ثم التيمم ليتحقق عدم وجدان
الماء حينه، بل هذا هو الأحوط، كما أنه لو تمكن من جمع غسالة الوضوء أو الغسل في
إناء ونحوه ورفع الخبث به، تعين ذلك قطعا.
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) قال: إن المسألة مندرجة في باب التعارض، وأن
مقتضى القاعدة حينئذ هو التخيير، لأصالة البراءة عن تعيين كل منهما، بل قال (قدس سره):
بالتخيير - أيضا - بعد تسليم اندراج المسألة في باب التزاحم. (1)
وفيه: ما عرفت في المسألة الثامنة من الضعف، فلا نعيده.
الصلاة مع النجاسة اضطرارا
* في المسألة صورتان:
الأولى: ما إذا تمكن من تطهير النجاسة بعد إتيان الصلاة معها اضطرارا.
الثانية: ما إذا تمكن من تطهيرها في أثناء الصلاة.
أما الأولى: فيحكم فيها بعدم وجوب إعادة الصلاة، كما عن المصنف (قدس سره) م

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 227.
242

(مسألة 12): إذا اضطر إلى السجود على محل نجس، لا يجب إعادتها
بعد التمكن من الطاهر. *
]
هذا إذا قلنا: بأن المناط في جواز الإتيان بالفرد الاضطراري هو مطلق الاضطرار
ولو لم يكن مستوعبا.
وأما إذا قلنا: باعتبار الإستيعاب، فلابد من الحكم بوجوب الإعادة في فرض
المسألة، كما لا يخفى.
وأما الثانية: فإن كان متمكنا من التطهير أو التبديل بلا ارتكاب أمر مناف
للصلاة، كاستدبار القبلة أو الفعل الكثير، لزمه ذلك، وإلا فتبطل صلاته على تقدير
سعة الوقت وعليه الاستيناف.
وأما مع ضيق الوقت، فيدور الأمر بين مراعاة الوقت، وبين مراعاة الطهارة،
والأولى هو المتعين.
الاضطرار إلى السجود على محل نجس
* قد ألحق المصنف (قدس سره) هذه المسألة بالصورة الأولى في المسألة المتقدمة،
وحكم بعدم وجوب إعادة الصلاة هنا - أيضا - ولكن فرق شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره)
في الحكم بعدم وجوب الإعادة بين المسألتين، فقال: بعدم وجوبها في المسألة المتقدمة،
لا لأجل فقد المقتضي للإعادة، بل لوجود المانع، وذلك، لأن المستفاد من أدلة
243

[...]
شرطية طهارة اللباس أو البدن هو شرطيتها مطلقا، حتى في حال الاضطرار،
فالمقتضي هناك تام، هذا بخلاف هذه المسألة، فإن الحكم بعدم وجوب الإعادة فيها
مستند إلى فقد المقتضي للإعادة، وذلك، لأن الدليل على شرطية طهارة محل السجود
أمران:
أحدهما: الإجماع.
ثانيهما: صحيحة حسن بن محبوب، قال: " سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص
يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ثم يجصص به المسجد، أيسجد عليه؟ فكتب إلي
بخطه: إن الماء والنار قد طهراه ". (1)
وليس في شئ منهما دلالة على اشتراط الطهارة فيه مطلقا حتى في حال
الاضطرار.
أما الإجماع، فلكونه لبيا لابد أن يقتصر فيه على القدر المتيقن وهو حال
الاختيار.
وأما الصحيحة، فلأنها وإن دلت على شرطية طهارة محل السجدة وكانت
مفروغا عنها في ذهن السائل وارتكازه، ولذلك سأل عن السجدة على الجص الذي
يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى، وقد قرره الإمام (عليه السلام) على ارتكازه، وبين كيفية
تطهيره، بأن الماء والنار قد طهراه، إلا أنه لا ندري، هل الارتكاز كان على الشرطية م

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 81 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1099 و 1100.
244

(مسألة 13): إذا سجد على الموضع النجس جهلا، أو نسيانا لا يجب
عليه الإعادة، وإن كانت أحوط. *
]
مطلقا في جميع الحالات والأزمنة، أم كان مختصا بحال الاختيار فقط؟ فتكون
الصحيحة من هذه الجهة مجملة لا يمكن الإعتماد عليها. (1)
هذا حاصل ما أفاده (قدس سره) ولكن المقام يحتاج إلى بسط الكلام، وسيأتي
إن شاءالله الرحمن.
السجدة على الموضع النجس جهلا
* حكم المصنف (قدس سره) في المسألة - أيضا - بعدم وجوب الإعادة، إلا أنه (قدس سره)
احتاط استحبابا بالإعادة، وظاهر كلامه (قدس سره) عدم الفرق بين السجدة الواحدة و
السجدتين، ولكن الحق ثبوت الفرق بين فقد الشرائط في السجدة الواحدة، وبين
فقدها في السجدتين، ففي الأول يحكم بعدم بطلان الصلاة وعدم وجوب إعادتها، و
ذلك، لأن المفروض: أن السجدة الواحدة ليست بركن، فلا يوجب تركها سهوا بطلان
الصلاة وإعادتها، فضلا عن كونها فاقدة للشرائط جهلا أو نسيانا.
ويدل عليه: إما حديث: " لا تعاد " بناءا على أن المراد من السجود فيه هو
السجود الركني وهو السجدتان معا.

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
245

[...]
وإما الروايات الدالة على عدم وجوب إعادة الصلاة بنسيان سجدة واحدة،
بناءا على إرادة طبيعي السجود المذكور في حديث: " لا تعاد " فإن هذه الروايات
- حينئذ - مخصصة للحديث، كما لا يخفى.
وأما في الثاني (السجدتان) فيدور وجوب إعادة الصلاة بإتيانهما مع فقد
الشرائط وعدم وجوبها، مدار أن السجود المأخوذ في مستثنى حديث: " لا تعاد " هل
يراد به السجود الركني، أو طبيعي السجود ولو كان فاقدا للشرائط؟ فعلى الأول
يحكم بوجوب إعادة الصلاة، كما هو واضح. وعلى الثاني يحكم بعدم وجوب
إعادتها، وذلك، لحصول المأمور به وهو طبيعي السجدة حسب الفرض، والإخلال
إنما هو في شرائطها، وهذا غير قادح.
246

فصل
فيما يعفى عنه في الصلاة
الأول: دم الجروح والقروح
شرائط العفو عن دم القروح والجروح
عدم المنع عن التنجيس فيما يعفى عنه
عدم اختصاص العفو بما في محل الجرح
العفو عن القيح والدواء
تلوث اليد في مقام العلاج
دم البواسير
دم الرعاف
غسل الثوب من دم القروح
الدم المشكوك
تعدد الجروح والقروح
247

فصل
فيما يعفى عنه في الصلاة
وهو أمور:
الأول: دم الجروح والقروح مالم تبرأ في الثوب أو البدن،]
الأول: دم الجروح والقروح
لا إشكال ولا كلام في نجاسة دم الجروح والقروح، ولا في منجسيته، كما لاكلام و
لا إشكال في أصل العفو عن هذا الدم في الصلاة، إنما الكلام في حد العفو وأنه هل هو
البرء؟ فلا عفو معه من باب السلب بانتفاء الموضوع، إذ لادم حينئذ حتى يعفى عنه،
أو أنه هو أحد الأمرين: إما عدم المشقة في الإزالة ولو لم تبرء الجروح أو القروح، وإما
عدم السيلان، فلا عفو مع أحدهما، أو أنه عدم السيلان والمشقة معا (1) وجوه بل أقوال:

(1) إعلم: إن في المشقة والسيلان على تقدير اعتبارهما وجوها واحتمالات: أما المشقة ففيها
ثلاثة احتمالات:
أحدها: المشقة الشخصية الرافعة للتكليف.
ثانيها: المشقة النوعية كذلك.
ثالثها: المشقة العرفية وإن لم تصل إلى حد يرفع به التكليف.
أما السيلان ففيه - أيضا - ثلاثة احتمالات:
أحدها: السيلان الفعلي، بمعنى: جريان الدم على وجه الاستمرار والدوام، بحيث لا فترة في
البين أصلا. م
ثانيها: السيلان الشأني، بمعنى: أن الدم لو غسل لجرى ثانيا، بحيث لا فترة في هذا الصلوح
والشأنية.
ثالثها: السيلان، بمعنى: عدم برء القروح والجروح أو عدم المرض وإن تحققت الفترة بمقدار
الصلاة، ولا يخفى: أن هذا المعنى الأخير كنائي، ويمكن أن يعبر عنه باستعداد الجريان على نحو يكثر
في الخارج ويتكرر تلبسه بالجريان الفعلي، كما هو الغالب في أفراد الجروح والقروح.
ولا ريب: أن اعتبار قيد المشقة في العفو يكون قرينة على عدم إرادة الإحتمال الأول والثاني
من السيلان، لعدم إمكان التطهير وإزالة النجاسة حينئذ، فلا مجال للعفو، كما أنه لا يمكن أن يراد من
المشقة، الحرج الرافع للتكليف لعدم اختصاص العفو حينئذ بدم الجروح والقروح، بل هو جار في
كل مورد يوجد هذا النوع من المشقة، وهو مقتضى قاعدة نفي الحرج بلا حاجة إلى دليل خاص،
فلابد من حمل المشقة على المشقة العرفية غير الواصلة إلى حد الحرج الرافع للتكليف، ومن حمل
السيلان على السيلان، بمعنى: عدم برء القروح والجروح أو عدم المرض.
249

[...]
ذهب جملة من الأعلام إلى الأول، منهم: الشهيد الثاني (1) والمحقق الثاني (2)
والمحقق الأردبيلي (3) وصاحب المدارك (4) وصاحب الحدائق (5)

(1) مسالك الأفهام، ج 1، ص 18، حيث قال: " أن الرخصة باقية إلى أن تبرء، سواء لزم من
الإزالة مشقة أم لا ".
(2) جامع المقاصد، ج 1، ص 17، حيث قال بعد ذكر قول الماتن: " ظاهر هذه العبارة يقتضي
كون العفو منه مخصوصا بما إذا شق إزالته، والرواية عن الصادق (عليه السلام) تدل على خلافه ".
(3) مجمع الفائدة والبرهان، ج 1، ص 328 و 329، حيث قال: " وأما دليل العفو عن دم
القروح والجروح مع عدم تقييده بالمشقة وعدم الفترة وعدم التخصيص بمحل القروح، كما هو
مذهب البعض، وظاهر بعض عبارات المصنف، فعموم الأخبار... ".
(4) مدارك الأحكام، ج 2، ص 309، حيث قال: " ومن كلام الصدوق... وإن كان بالرجل جرح
سائل فأصاب ثوبه من دمه، فلا بأس بأن لا يغسله حتى يبرء وينقطع الدم، وهذا هو المعتمد ".
(5) الحدائق الناضرة، ج 5، ص 301، حيث قال: " وكيف كان، فأظهر الأقوال وأصحها هو
القول الأول ".
250

[...]
وصاحب الجواهر (قدس سرهم) (1) وهذا هو مختار المصنف (قدس سره).
وذهب جمع آخر، إلى القول الثاني، منهم: العلامة (2) والشيخ (قدس سرهما) على ظاهر
قوله. (3)
وذهب - أيضا - جمع إلى القول الثالث، منهم: المحقق (4) والعلامة (قدس سرهما) في
بعض كتبه. (5)
هذه هي الأقوال في المسألة، والحق هو الرجوع إلى النصوص الواردة في
المقام، لاستظهار حقيقة الأمر منها وهي كثيرة:
منها: موثقة سماعة بن مهران، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا كان بالرجل
جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه، فلا يغسله حتى يبرأ وينقطع الدم ". (6)
ومنها: موثقة أبي بصير، قال: " دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وهو يصلي،

(1) جواهر الكلام، ج 6، ص 102، حيث قال: " وكيف كان، فاستمرار العفو إليه مطلقا هو
الأقوى ".
(2) إيضاح الفوائد، ج 1، ص 29، حيث قال: " وعفي - أيضا - عن دم القروح اللازمة و
الجروح الدامية وإن كثر مع مشقة الإزالة ".
(3) النهاية: ص 51.
(4) شرائع الإسلام، ص 15، حيث قال: " وعفى في الثوب والبدن عما يشق التحرز منه من
دم القروح والجروح التي لا ترقى "، الطبعة القديمة.
(5) منتهى المطلب، ج 3، ص 246 و 247، حيث قال: " فالأول دم الجروح السائلة والقروح
الدامية التي تشق إزالتها ولا يقف جريانها ".
(6) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب النجاسات، الحديث 7،
ص 1030.
251

[...]
فقال لي قائدي: إن في ثوبه دما، فلما انصرف، قلت له: إن قائدي أخبرني أن بثوبك
دما، فقال لي: إن بي دماميل ولست أغسل ثوبي حتى تبرء ". (1)
هاتان الروايتان صريحتان في أن حد العفو هو البرء وانقطاع الدم وأنه
لا يجب الغسل قبل البرء مطلقا، سواء كان فيه مشقة أم لا، وسواء كان الدم سائلا أم لا.
لا يقال: إن مقتضى مفهوم الشرط في صدر موثقة " سماعة " هو أن العفو يدور
مدار السيلان، حيث إنه يدل على وجوب الغسل لو لم يكن بالرجل جرح سائل، كما
أن مقتضى تحديد عدم وجوب الغسل في ذيلها بانقطاع الدم - أيضا - كذلك.
وعليه: فالبرء فيهما يراد به البرء عن سيلان الدم، لا البرء الحقيقي بمعنى
الاندمال، بداهة أنه لو كان هذا هو الحد، لكان ذكر انقطاع الدم مستدركا، وهو
خلاف الظاهر.
لأنه يقال: ليس شئ من المفهوم والتحديد المذكورين دليلا على التحديد
بعدم السيلان.
أما المفهوم، فلأنه إنما يتم إذا كان السيلان مأخوذا في الشرط، بأن قال (عليه السلام):
إذا سال الجرح فلا يغسله، وهذا بخلاف ما إذا كان قيدا للجرح المأخوذ في الشرط
حسب الفرض، فإن مفهومه إذا لم يكن به جرح سائل فيغسله، وهذا - أيضا - ليس
مفهوما حقيقة، بل يكون من باب السلب بانتفاء الموضوع.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1028.
252

[...]
وأما التحديد، فلأن المراد من الانقطاع ظاهرا هو الانقطاع بالمرة وهو البرء
الحقيقي والاندمال، والعطف في قوله (عليه السلام): " وينقطع الدم " عطف تفسير وبيان.
نعم، لو قلنا: بالمفهوم للوصف، يمكن القول بأن المدار في حد العفو على
السيلان، إذ المفروض: أنه وصف للجرح، ومقتضى مفهومه هو وجوب الغسل عند
انتفاء السيلان.
ولكن التحقيق: أنه لا مفهوم للوصف إذا كانت له فائدة أخرى سوى دخله
في الحكم، كما هو كذلك في المقام، إذ فائدة ذكر الوصف هنا، هو كونه توطئة لإصابة
الدم للثوب، ولذا قال (عليه السلام) بعد ذكر الدم موصوفا بالسيلان: " فأصاب ثوبه من دمه "
فلا موضوعية للوصف أصلا.
هذا كله، مضافا إلى أنه ليس المراد من قوله (عليه السلام): " جرح سائل " السيلان
الفعلي، بل المراد هو السيلان الشأني على ما هو طبع الدماميل، كما أفاده الإمام
الراحل (قدس سره). (1)
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " سألته عن الرجل
يخرج به القروح، فلا تزال تدمي، كيف يصلي؟ فقال: يصلي وإن كانت الدماء
تسيل ". (2)

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 419 و 420.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب النجاسات، الحديث 4،
ص 1029.
253

[...]
هذه الصحيحة - أيضا - تدل على تحديد العفو بالبرء، إذ كلمة: " إن " في قوله
(عليه السلام): " وإن كانت الدماء تسيل " وصلية وبيان للفرد الخفي النادر، بداهة أن استمرار
الدم بحيث لا ينقطع أصلا، نادر غير متعارف، وعليه: فالصحيحة تفيد العفو عند عدم
السيلان بالأولوية القطعية.
ونتيجة هذا، هو العفو ما لم تبرء، سواء كان الدم سائلا أم لا، وسواء كان في
الإزالة مشقة أم لا.
ومنها: صحيحة ليث المرادي، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل تكون به
الدماميل والقروح، فجلده وثيابه مملوة دما وقيحا، وثيابه بمنزلة جلده، فقال: يصلي
في ثيابه ولا يغسلها ولا شئ عليه ". (1)
ومنها: موثقة عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن الدمل يكون
بالرجل فينفجر وهو في الصلاة، قال: يمسحه ويمسح يده بالحائط، أو بالأرض، و
لا يقطع الصلاة ". (2)
ومنها: صحيحة أبي عبد الرحمن بن أبي عبد الله، قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
الجرح يكون في مكان لا يقدر على ربطه، فيسيل منه الدم والقيح فيصيب ثوبي،

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب النجاسات، الحديث 5،
ص 1029.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب النجاسات، الحديث 8،
ص 1030.
254

[...]
فقال: دعه فلا يضرك أن لا تغسله ". (1)
هذه الروايات - أيضا - تدل على اعتبار خصوص عدم البرء في العفو، وذلك،
لترك الاستفصال فيها بين المشقة والسيلان وعدمهما.
فتحصل: أن مقتضى هذه الروايات بأجمعها هو اعتبار عدم البرء والاندمال
في العفو.
ولكن قد يستدل على اعتبار السيلان في العفو بروايات اخر.
منها: مضمرة سماعة، قال: " سألته عن الرجل به الجرح والقرح فلا يستطيع
أن يربطه ولا يغسل دمه، قال: يصلي ولا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة، فإنه لا يستطيع
أن يغسل ثوبه كل ساعة ". (2)
بتقريب: أن الإمام (عليه السلام) علل العفو وعدم وجوب غسل الثوب بعدم
استطاعة الرجل غسل ثوبه كل ساعة، ومن المعلوم: أن عدم الاستطاعة كذلك
لا يكون إلا مع استمرار الدم، فيعلم منه أن العفو يدور مداره وجودا وعدما، حدوثا
وبقاءا، بحيث لو انقطع الدم بعض أوقات الصلاة وحصل استطاعة غسل الثوب فيه
لا يعفى عنه، بل يجب حينئذ غسله بلا إشكال.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب النجاسات، الحديث 6،
ص 1029 و 1030.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 1029.
255

[...]
وفيه: أن هذه الرواية ضعيفة سندا ودلالة، فلا تعارض الروايات المتقدمة
من الصحاح والموثقات.
أما ضعف السند، فلأجل إضمارها.
وأما ضعف الدلالة فإما لأجل المنع عن كون التعليل المذكور بصدد بيان
اعتبار السيلان في العفو، إذ هو تعبير عرفي يكون كناية عن التعدد والتكرار بلا دلالة
له على السيلان والاستمرار، وإما لأجل اشتمالها على ما لم يفت به أحد من
الأصحاب حتى القائلين باعتبار السيلان في العفو وهو غسل الثوب في كل يوم مرة.
ومنها: مضمرة محمد بن مسلم، قال: " قال: إن صاحب القرحة التي
لا يستطيع صاحبها ربطها، ولاحبس دمها، يصلي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من
مرة ". (1)
بتقريب: أن الإمام (عليه السلام) حكم بعفو الدم وعدم وجوب غسل الثوب لمن
لا يقدر على حبسه من جهة سيلانه واستمراره، فيعلم منه أن المعتبر في العفو إنما هو
خصوص السيلان والاستمرار دون غيره.
وفيه: أن هذه الرواية وإن تم سندها - إذ الإضمرار فيها ليس بمرتبة الإضمار
في رواية سماعة، وذلك، لبعد إضمار " محمد بن مسلم " - مع جلالة شأنه - عن غير
الإمام (عليه السلام) - إلا أن دلالتها مخدوشة، إذ هي مشتملة - أيضا - على غسل الثوب في
كل يوم مرة.

(1) كتاب السرائر: ج 3، ص 558.
256

[...]
وقد عرفت: المحذور فيه، مضافا إلى أن اعتبار عدم استطاعة ربط القرحة و
حبس دمها في العفو - أيضا - مما لم يقل به أحد من الأصحاب مطلقا، حتى في فرض
السيلان والاستمرار.
ثم إن بعض المعاصرين أجاب عن المضمرتين: بأن ظهورهما في الوجوب في
نفسه ضعيف، لكون العبارة مسوقة لنفي وجوب الزائد على مرة، لا لإثبات وجوب
المرة، كما لا يخفى، وعليه، فتسقطان عن الدلالة على اعتبار السيلان في العفو. (1)
وفيه: ما لا يخفى، بداهة أن الاستثناء من النفي يفيد الإثبات، فالجملة
المذكورة، كما تدل بعقد المستثنى منه (وهو النفي) على عدم وجوب الزائد على مرة،
كذلك تدل على وجوب المرة بعقد المستثنى، فهي مسوقة لنفي وجوب وإثبات
وجوب آخر على حد سواء في الظهور والدلالة.
وبالجملة: فمقتضى إطلاق النصوص المتقدمة الواردة في تحديد العفو بالبرء
هو أن المعتبر في العفو إنما هو عدم البرء لا السيلان والمشقة - أيضا - وأما الروايات
التي استدل بها على اعتبار السيلان والمشقة في العفو، فلا تصلح لتقييد تلك
النصوص، إذ لا يمكن الإعتماد عليها لضعفها، إما دلالة أو سندا ودلالة معا، كما عرفت
في المضمرتين المتقدمتين.
ولو سلم اعتبار هذه الروايات ودلالتها على كفاية السيلان والمشقة في تحقق

(1) راجع، تفصيل الشريعة، كتاب النجاسات واحكامها: ص 438.
257

[...]
العفو، فلا نسلم كونها قابلة لتقييد المطلقات المتقدمة - أيضا - ضرورة أن تقديم المقيد
أو الخاص على المطلق أو العام، إنما يكون بمناط أظهرية دلالة المقيد أو الخاص
لاغير، فلو فرض في مورد أن المطلق أو العام كان أظهر في الإطلاق أو العموم، لقدم
على المقيد أو الخاص، والمقام من هذا القبيل، حيث إن المطلقات أظهر في دلالتها على
الإطلاق بالنسبة إلى دلالة هذه الروايات على خصوص اعتبار السيلان والمشقة في
العفو، وعليه، فتقدم ويتعين العمل بها.
هذا، مضافا إلى أن إطلاق تلك النصوص آب عن التقييد، كإطلاق موثقة
أبي بصير، قال: " فقال لي: أن بي دماميل ولست أغسل حتى تبرء " (1) فإنه (عليه السلام)
أخبر عن عدم غسله إلى زمان البرء، ومن البعيد جدا عدم تمكن الإمام (عليه السلام) من
غسل ثوبه في اليوم مرة واحدة، ولعله لأجل ذلك حمل بعض الأصحاب (2) قوله
(عليه السلام) في مضمرة سماعة المتقدمة: " ولا يغسل ثوبه كل يوم إلا مرة " على الإستحباب.
وقد ظهر مما ذكرنا، أنه لاوجه للجمع بحمل المضمرتين على الإستحباب، إلا
على مبنى التسامح في أدلة السنن، استنادا إلى أخبار من بلغ، وتحقيق الأمر موكول إلى
محله.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1028 و 1029.
(2) مدارك الأحكام: ج 2، ص 311، ونهاية الاحكام: ج 1، ص 286 والحدائق الناضرة:
ج 5، ص 304، حيث قال: " إن ما ذكره العلامة ومن تبعه من حمل الرواية على الاستحباب إنما نشأ
من حيث ضعف سندها عندهم ".
258

قليلا كان أو كثيرا، أمكن الإزالة أو التبديل بلا مشقة، أم لا، *
نعم، يعتبر أن يكون مما فيه مشقة نوعية، فإن كان مما لا مشقة في
تطهيره أو تبديله على نوع الناس، فالأحوط إزالته، أو تبديل الثوب.
وكذا يعتبر أن يكون الجرح مما يعتد به، وله ثبات واستقرار،
فالجروح الجزئية يجب تطهير دمها، * *
]
ولقد أجاد شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " ولو سلم
ظهور مضمرة " سماعة " في اعتبار السيلان، فلا يخفى أن المطلقات أظهر في الإطلاق، ثم
قال: لو ثبت إعراض المشهور عن المضمرتين يسقطهما عن الإعتبار رأسا، فلا مجال
للحمل على الاستحباب ". (1)
* * *
* كل ذلك هو مقتضى إطلاق الأدلة المتقدمة، فراجع.
شرائط العفو عن دم القروح والجروح
* * قد اعتبر المصنف (قدس سره) في مورد العفو عن دم القروح والجروح أمرين:
أحدهما: أن يكون تطهير الدم أو تبديل الثوب مشتملا على مشقة نوعية و
هذا واضح، لخروجه متيقنا عن إطلاقات أدلة مانعية النجاسة أو شرطية الطهارة في

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
259

[...]
الصلاة، وقد نطق به - أيضا - ما ورد في العفو من الروايات المتقدمة، كصحيحة محمد
بن مسلم، حيث إنه سئل فيها عن الرجل الذي تكون به القروح التي لا تزال تدمي، و
كصحيحة ليث المرادي، فإنها وردت في مورد الرجل الذي تكون به الدماميل و
القروح، بحيث إن جلده وثيابه مملوة دما وقيحا، وكصحيحة أبي عبد الرحمن، إذ
المفروض فيها: أن الجرح يسيل منه الدم والقيح.
ولا ريب: أن هذه التعابير المذكورة في هذه الروايات حاكية عن المشقة (1)
التي لا يتحملها نوع الناس.
ثانيهما: أن يكون الجرح مما يعتد به، وله ثبات واستقرار، فما ليس كذلك،
كالجروح الجزئية يجب تطهير دمها، وهذا - أيضا - واضح، لإطلاق أدلة مانعية
النجاسة، أو شرطية الطهارة، واختصاص أدلة العفو بالقروح أو الجروح التي لها
ثبات واستقرار بحيث يكون في التطهير أو التبديل مشقة نوعية.

(1) والمراد من المشقة هي " العرفية " وإن لم تصل إلى حد العسر والحرج، إذ أدلة العفو أعم
من أدلتهما، كما لا يخفى.
260

ولا يجب فيما يعفى عنه منعه عن التنجيس، نعم، يجب شده إذا كان في
موضع يتعارف شده،
]
عدم المنع عن التنجيس فيما يعفى عنه
تعرض المصنف (قدس سره) في هذا المتن فرعين:
الأول: أنه لا يجب فيما يعفى عنه منعه عن التنجيس.
الثاني: أنه يجب شده إذا كان في موضع يتعارف شده.
أما الأول: فالوجه فيه إطلاق الروايات المتقدمة الدالة على العفو، فلو كان
المنع واجبا لبان وكان على المولى بيانه، إذ المفروض: أنه كان في مقام بيان وظيفة
المصلي، وحيث إنه لاعين ولا أثر من المنع في تلك الروايات مع ورودها في موارد
كثرة الدم والسراية والسيلان يستكشف منه عدم وجوبه، وهذا مما لا يخفى.
وأما الثاني: فلعل الوجه فيه هو رواية محمد بن مسلم المتقدمة الواردة في
صاحب القرحة التي لا يستطيع ربطها ولاحبس دمها، ورواية سماعة المتقدمة التي
فيها السؤال عن الرجل به الجرح والقرح، فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه،
ورواية أبي عبد الرحمن المتقدمة، حيث فرض فيها أن الجرح يكون في مكان لا يقدر
على ربطه، فيسيل منه الدم، فإن مقتضى مفهوم هذه الروايات هو وجوب الشد إذا
كان الجرح في موضع يمكن شده.
261

[...]
ولكن الحق عدم وجوب الشد مطلقا، سواء كان في موضع يتعارف شده أم لا،
كيف؟ وأن الشد أحد طرق المنع عن التنجيس الذي قال المصنف (قدس سره) بعدم وجوبه،
فيكفي في الحكم بعدمه إطلاق روايات العفو المتقدمة، كما عرفت ذلك في الحكم بعدم
وجوب المنع.
ولقد أجاد صاحب الجواهر (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " ومن هنا كان
القول بإيجاب التعصيب أو التخفيف أو الإبدال للثوب مع عدم المشقة، كما هو ظاهر
بعض، وعن محتمل آخر في البعض لنحو ذلك، ضعيفا منافيا لظاهر الأدلة إن لم يكن
صريحها... ولما عن الشيخ (قدس سره) من الإجماع على عدم وجوب عصب الجرح وتقليل
الدم، بل يصلي كيف كان وإن سال وتفاحش إلى أن يبرء ". (1)
وأما الروايات المتقدمة التي يتراءى منها وجوب الشد، فلا يمكن الإعتماد عليها
وأخذ المفهوم منها، لقصورها عن الدلالة على وجوب الشد.
أما رواية محمد بن مسلم، فلأنه يلزم من العمل بمفهومها ما لا يلتزم به أحد
من الفقهاء، حتى المصنف (قدس سره) وهو الحكم بوجوب المنع من التنجيس، أيضا.
هذا، مضافا إلى أن القيد يمكن أن يكون توطئة وتمهيدا لبيان إصابة الدم
للثوب، لا للإحتراز حتى يفيد المفهوم، فافهم وتأمل.
وأما روايتا سماعة وأبي عبد الرحمن، فلأن قيد عدم الاستطاعة والقدرة على
ربط الجرح، إنما هو في كلام السائل، لا الإمام (عليه السلام) حتى يعمل بمفهومه.

(1) جواهر الكلام: ج 6، ص 105.
262

ولا يختص العفو بما في محل الجرح، فلو تعدى عن البدن إلى اللباس،
أو إلى أطراف المحل، كان معفوا، لكن بالمقدار المتعارف في مثل ذلك الجرح،
ويختلف ذلك باختلافها من حيث الكبر والصغر، ومن حيث المحل، فقد
يكون في محل، لازمه - بحسب المتعارف - التعدي إلى الأطراف كثيرا، أو
في محل لا يمكن شده، فالمناط، المتعارف بحسب ذلك الجرح.]
عدم اختصاص العفو بما في محل الجرح
في المتن أقوال ثلاثة:
الأول: الاقتصار في العفو على حد الضرورة، وإليه ذهب جمع من الأعلام،
منهم: العلامة (قدس سره) (1) وصاحب المعالم (قدس سره). (2)
الثاني: العفو عن مطلق هذا الدم، حتى عما تعدى عن محل الضرورة من
الجروح والقروح، بل عما خرج عن المتعارف، بل ومع التعمد في التنجيس - أيضا -
وإليه مال صاحب الحدائق (قدس سره). (3)

(1) منتهى المطلب، ج 3، ص 248، حيث قال: " لو تعدى الدم عن محل الضرورة في الثوب أو
البدن... فالأقرب عدم الترخص فيه ".
(2) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 105.
(3) الحدائق الناضرة، ج 5، ص 305، حيث قال: " لا يبعد التفصيل هنا بين ما إذا تعدى الدم
بنفسه إلى سائر أجزاء البدن، أو الثوب الطاهر، وبين ما إذا عداه المكلف بنفسه... والقول بالعفو في
الأول دون الثاني ".
263

[...]
الثالث: العفو عما يتعارف مطلقا ولو مع التعدي، وهذا هو مختار المصنف (قدس سره).
ولا يخفى: أن أوسط الأقوال وخيرها هو هذا القول.
وأما القولان الأولان، فهما بين إفراط وتفريط.
والدليل على ما قلناه، كما أفاده صاحب الجواهر (قدس سره) (1): هو إطلاق روايات
العفو المتقدمة، فإنه ليس فيها - كما عرفت - أمر بالتحفظ عن هذا الدم كي لا يتوسع
ولا يسري إلى الأطراف، مع أنه قد مضى - أيضا - عدم الدليل على المنع عن
التنجيس، أو على وجوب الشد والربط.
نعم، لا يشمل الإطلاق الدم الخارج عن المتعارف، كما لا يشمل ما إذا عداه
المكلف اختيارا، وهذا واضح.
وقد ظهر مما ذكرنا، أنه لاوجه وجيها للقولين الأولين:
أما الأول: فلكونه منافيا لإطلاق روايات العفو الشامل لصورة التعدي
بالمقدار المتعارف، أيضا.
أما الثاني: فلما عرفت، من عدم شمول الإطلاق لما خرج عن المتعارف، كدم
قرحة اليد أو الرجل المصيب للرأس أو الكتف أو الظهر، كما أنه قاصر الشمول لما إذا
عدى المكلف الدم اختيارا، ولو شك في شمول الإطلاق، لكان المرجع عمومات أدلة
المنع أو إطلاقاتها، لا أدلة العفو، ضرورة أن الشك هنا يرجع إلى الشك في زيادة تقييد
أدلة العفو.

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 106.
264

[...]
بتقريب: أن الأدلة إنما تقيد أو تخصص بما إذا تعدى الدم بنفسه، فيشك - زائدا
عليه - في تقييدها بما إذا عداه المكلف اختيارا، فالمرجع فيه عمومات المنع أو
إطلاقاته، كما لا يخفى.
هذا، ولكن هنا رواية، قال صاحب الحدائق (قدس سره) بظهورها في القول الثاني (1) و
هي موثقة عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن الدمل يكون بالرجل، فينفجر
وهو في الصلاة، قال: يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض، ولا يقطع الصلاة ". (2)
وجه الظهور هو أن جواز مسح الدم باليد مقتضاه، أولا: عدم اختصاص
العفو بالمتعارف، بل يعم غيره كاليد - أيضا - وثانيا: جواز التعدية والتنجيس
اختيارا.
وفيه: منع واضح، أما إصابة مثل هذا الدم لليد، فليست خارجة عن
المتعارف سيما حال الضرورة، كما هو مورد الموثقة المتقدمة.
وأما التنجيس، فعن بعض الأعاظم (قدس سره) أنه لم يكن حال الاختيار، بل كان
للضرورة، فإنه كان في حال الصلاة ولم يكن عنده شئ يمسح الدم به، إذ مسحه
بالثوب يوجب تنجيسه اختيارا من دون موجب لذلك. (3) م

(1) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 305.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 22 من أبواب النجاسات، الحديث 8،
ص 1030.
(3) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 254.
265

(مسألة 1): كما يعفى عن دم الجروح، كذا يعفى عن القيح المتنجس
الخارج معه، والدواء المتنجس الموضوع عليه، والعرق المتصل به في
المتعارف، أما الرطوبة الخارجية إذا وصلت إليه وتعدت إلى الأطراف،
فالعفو عنها مشكل، فيجب غسلها إذا لم يكن فيه حرج. *
]
ولكن يرد عليه: أن مسحه بالثوب كما يوجب تنجيسه اختيارا، كذلك مسحه
باليد، وقد عرفت: عدم وجوب المنع عن التنجيس، فلا يجب المسح، لا باليد
ولا بالثوب.
نعم، لو أراد المنع اقتضت العادة أخذ الدم باليد والمسح بالحائط، أو بالأرض
كي لا ينتشر ويتفشى ولا يتلوث البدن والثوب كثيرا.
فتحصل: أن مقتضى إطلاق أدلة العفو هو صحة القول الثالث، وبطلان
القولين الأولين.
العفو عن القيح والدواء
* ألحق المصنف (قدس سره) بدم الجرح في العفو، الأشياء الثلاثة:
الأول: القيح المتنجس الخارج معه.
الثاني: الدواء المتنجس الموضوع عليه.
الثالث: العرق المتصل بالجرح.
266

[...]
والوجه في الإلحاق واضح، أما القيح فللتصريح به في صحيحتي ليث المرادي
وأبي عبد الرحمن المتقدمتين، وللتلازم الغالبي بين الدم والقيح في القروح والجروح،
بحيث يكون العفو عن الدم عفوا عنه - أيضا - ولذا لا مانع من الإلتزام بأن الأخبار
الخالية عن كلمة: " القيح " الدالة على العفو عن الدم بالمطابقة، تدل على العفو عن
القيح بالالتزام.
وأما الدواء المتنجس، وكذا العرق المتصل به، فلأجل الملازمة بينهما، وبين
دم الجرح غالبا، فيثبت العفو فيهما، أيضا.
وعليه: فلا مجال لحمل روايات الباب على القروح والجروح التي لم يوضع
عليها دواء، أو لم يتصل بها عرق، لكونه حملا على الفرد النادر.
ثم إن المصنف (قدس سره) قد أشكل في المتن على العفو عن الرطوبة الخارجية إذا
وصلت إلى دم الجرح، وحكم بوجوب غسلها إذا لم يكن فيه حرج، و
هو الصحيح، إذ عرفت: أن الأدلة تدل على العفو عن دم القرحة والجرحة و
ما يلازمه ولو ملازمة غالبية، والرطوبة الخارجية المتعدية إلى الأطراف ليست بشئ
منهما، كما لا يخفى، فالمرجع فيها إطلاقات أدلة المنع عن الصلاة في النجس.
والنتيجة هو وجوب غسل هذه الرطوبة إلا إذا كان حرجيا، فلا يجب كسائر
موارد الحرج، وهذا غير مسألة العفو.
هذا، ولكن قد يتوهم العفو عن الرطوبة الخارجية بالأولوية القطعية، بتقريب:
أنه إذا عفي عن الدم فقد عفي عن الماء قطعا، لعدم زيادة الفرع على الأصل. م
267

(مسألة 2): إذا تلوثت يده في مقام العلاج يجب غسلها، ولا عفو،
كما أنه [كذلك] إذا كان الجرح مما لا يتعدى، فتلوثت أطرافه بالمسح عليها
بيده، أو بالخرقة الملوثتين على خلاف المتعارف. *
]
وفيه: أن الأحكام لا تبتني على الذوق والاستحسان، بل المتبع فيها دلالة
الدليل ولو كانت التزامية مستندة إلى الملازمة الغالبية، والمفروض - كما أشرنا آنفا -
أن الملازمة بين الرطوبة الخارجية والدم منتفية، فتنتفي الدلالة بانتفاء تلك الملازمة.
تلوث اليد في مقام العلاج
* لا إشكال في أنه يجب غسل اليد المتلوثة بدم الجرح في مقام العلاج، وكذا
غسل أطراف الجرح المتلوثة باليد، أو بالخرقة المتلوثتين بدم الجرح، وذلك، لما مضى
آنفا، من أن أدلة العفو لا تعم إلا ما يتعارف إصابة الدم إياه طبعا، وأنت ترى، أن اليد
المتلوثة بالعلاج، وكذا أطراف الجرح التي لا تصيبها الدم بطبعها، بل بمعونة اليد أو
الخرقة المتلوثتين خارجتان عن التعارف، فلا تشملهما الأدلة، كما هو واضح.
268

(مسألة 3): يعفى عن دم البواسير خارجة كانت أو داخلة، وكذا
كل قرح أو جرح باطني خرج دمه إلى الظاهر.]
دم البواسير
حكم المصنف (قدس سره) في المسألة بالعفو عن الدم في موردين:
أحدهما: دم البواسير مطلقا، خارجة كانت أو داخلة.
ثانيهما: دم القرح أو الجرح الباطني إذا خرج إلى الظاهر.
ولكن الصحيح هو ثبوت العفو في الأول دون الثاني.
أما الأول: فلأنه يصدق صاحب القرحة على المبتلى بالبواسير والقروح
الداخلية التي تكون في أطراف المخرج، فتنفجر وتسيل إلى الخارج، فيصيب دمها
البدن أو اللباس، كما أنه يصدق على المبتلى بالبواسير والقروح الخارجية التي تكون
في أطراف المخرج، فتعمها أدلة العفو، والمفروض: أنها قروح متعارفة، فلا مجال
لدعوى انصراف الأدلة عنها.
أما الثاني: فلأن القروح الباطنية التي لا يتعارف إصابة دمها البدن أو اللباس،
كقروح الحلق أو الكبد أو الصدر وإن كانت قروحا أو جروحا بلا شبهة وكان الدم
الخارج منها دم القرح أو الجرح، إلا أنه لا تعمها أدلة العفو، بداهة أن العفو إنما ثبت في
دماء القروح أو الجروح التي تسيل وتصيب الثوب والبدن عادة ولو كانت باطنية،
لا في دماء لا تصيبهما كذلك، ولو شك كان المرجع هو إطلاقات أدلة المنع ومانعية
النجاسة عن الصلاة، لكونه شكا في زيادة التقييد.
269

(مسألة 4): لا يعفى عن دم الرعاف، ولا يكون من الجروح.]
دم الرعاف
والحكم بأن دم الرعاف مما لا يعفى عنه واضح، وذلك، لعدم صدق دم القروح
والجروح عليه، فلا تعمه الأدلة الدالة على العفو، ضرورة أنه خارج بانثلام القروح
الأنفية الشعرية لعلل وأسباب من حرارة الهواء وغيرها، ولا يصدق الجرح على
العرق المنفجر، وعلى فرض صدق عنوان الجرح، لا يكون من الجروح التي لها ثبات
واستقرار، وقد عرفت: اختصاص أدلة العفو بالجروح المستقرة.
وعليه: فدم الرعاف خارج عن أدلة العفو، إما تخصصا أو تخصيصا، و
مندرج تحت أدلة المنع.
على أنه قد وردت نصوص كثيرة دالة على عدم جواز الصلاة معه، فإذا أمكن
التطهير أو التبديل في الأثناء فهو، وإلا فيقطع الصلاة ويستأنفها، كصحيحة محمد بن
مسلم، قال: " سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يأخذه الرعاف والقئ في الصلاة،
كيف يصنع؟ قال: ينفتل فيغسل أنفه ويعود في صلاته، وإن تكلم، فليعد صلاته و
ليس عليه وضوء ". (1) م

(1) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 4،
ص 1244.
270

(مسألة 5): يستحب لصاحب القروح والجروح أن يغسل ثوبه من
دمهما كل يوم مرة. *
]
وكصحيحة الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سألته عن الرجل يصيبه
الرعاف وهو في الصلاة، فقال: إن قدر على ماء عنده يمينا وشمالا، أو بين يديه وهو
مستقبل القبلة، فليغسله عنه ثم ليصل ما بقي من صلاته، وإن لم يقدر على ماء حتى
ينصرف بوجهه أو يتكلم، فقد قطع صلاته ". (1)
نعم، لو كان دم الرعاف مستندا إلى قرحة داخلية مستقرة، لصدق عليه دم
القرحة، لكن لا تشمله أدلة العفو - أيضا - إلا أن يكون بحيث يصيب الثوب والبدن
بحسب الطبع والعادة، فتشمله الأدلة.
غسل الثوب من دم القروح
* لا يخفى: أن ما حكم به المصنف (قدس سره) في المسألة من استحباب غسل الثوب
من دم القروح والجروح كل يوم مرة، مستنده مقتضى الجمع بين الأخبار الآمرة
بالغسل - كمضمرتي سماعة ومحمد بن مسلم المتقدمتين - وبين الأخبار الدالة على
عدم وجوبه، على ما تقدم ذكرها. م

(1) وسائل الشيعة: ج 4، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 6،
ص 1245.
271

(مسألة 6): إذا شك في دم أنه من الجروح أو القروح، أم لا،
فالأحوط عدم العفو عنه. *
]
ولكن تقدم منا تفصيل الكلام في ابتداء الفصل وعرفت هناك: أنه لاوجه
للجمع بين الأخبار، بحمل المضمرتين على الإستحباب، إلا على مبنى التسامح في أدلة
السنن، استنادا إلى أخبار: " من بلغ " على ما قالوا، وفيه تأمل.
الدم المشكوك
* احتاط المصنف (قدس سره) بعدم العفو في الدم المشكوك كونه من الجروح أو
القروح، ولكن بناءا على القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي، لكان الأقوى
هو الحكم بعدم العفو عنه، وذلك، لأن الخارج عن أدلة العفو هو عنوان ما ليس من
القروح أو الجروح، فإذا جرى في المشكوك استصحاب عدم كونه من القروح أو
الجروح أزلا، يحرز ذلك العنوان بضم الوجدان إلى الأصل، بتقريب: أن المشكوك فيه
دم بالوجدان وأنه ليس من القروح والجروح بالاستصحاب، فيخرج مورد الشك إذا
عن أدلة العفو ويرجع فيه إلى أدلة المنع، ولا ريب: أن مقتضاها هو الحكم الجزمي
بعدم العفو في المشكوك، لا الإحتياط.
ولعل عدم جزم المصنف (قدس سره) بعدم العفو فيه، هو عدم تمامية جريان
الاستصحاب في العدم الأزلي عنده.
هذا، ولكن يمكن أن يقال: بإحراز عدم كون دم المشكوك من القروح
272

[...]
والجروح باستصحاب العدم النعتي بلا افتقار إلى استصحاب العدم المحمولي، خلافا
لبعض الأعاظم (قدس سره). (1)
بتقريب: أن الدم الموجود في البدن قبل خروجه ليس بدم قرح أو جرح، لأنه
كان في العروق، فلو شك بعد خروجه من البدن في كونه من قرح أو جرح، يستصحب
ذلك العدم، ونتيجة هذا الاستصحاب نفي الأثر وهو العفو بلا لزوم المثبتية في البين.
وقد قرر في محله، أنه يكفي في جريان الاستصحاب كون المستصحب ذا أثر
شرعي - ولو كان هو نفي الأثر - في ظرف التعبد ومرحلة البقاء، وإن لم يكن ذا أثر في
ظرف اليقين والحدوث، فالدم الموجود في الباطن ما لم يخرج، وإن لم يكن ذا أثر
بحسب ذلك الموقف، لكنه يكون ذا أثر إذا خرج، وهذا المقدار كاف لإجراء
الاستصحاب.
وبالجملة: فكما يجري الاستصحاب لإثبات الأثر، كاستصحاب العدالة
لجواز الإقتداء وقبول الشهادة، كذلك يجري لنفي ذلك الأثر، كاستصحاب عدم
العدالة لنفي ذينك الأثرين.
ثم إنه لو لم يجر الاستصحاب بكلا قسميه في المقام، كان المرجع أصالة البراءة
عن مانعية الدم المشكوك، والنتيجة جواز الصلاة فيه، ولا مجال للتمسك بأدلة المنع،
لكون المورد من باب الشبهة المصداقية للمخصص أو للمقيد على ما قرر في الأصول.

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 258 و 259.
273

(مسألة 7): إذا كانت القروح أو الجروح المتعددة متقاربة بحيث تعد
جرحا واحدا عرفا، جرى عليها حكم الواحد، فلو برأ بعضها لم يجب
غسله، بل هو معفو عنه حتى يبرأ الجميع، وإن كانت متباعدة لا يصدق
عليها الوحدة العرفية، فلكل حكم نفسه، فلو برأ البعض وجب غسله، و
لا يعفى عنه إلى أن يبرأ الجميع.
]
تعدد الجروح والقروح
والحكم في هذه المسألة ما ذكره المصنف (قدس سره) وهو واضح، فلا حاجة إلى
الشرح والتفصيل.
274

الثاني: الدم الأقل من الدرهم
الدم المعفو في البدن واللباس
الدم المعفو من نفسه أو غيره
الدماء الثلاثة
دم نجس العين
دم الميتة
دم الحيوان غير المأكول
الدم المتفرق
275

الثاني: مما يعفى عنه في الصلاة، الدم الأقل من الدرهم،]
الثاني: الدم الأقل من الدرهم
لا خلاف ولا إشكال (1) في أن الدم لو كان أكثر من الدرهم لا يعفى عنه، كما أنه
لو كان أقل منه يعفى عنه.
إنما الخلاف والإشكال في الدم المساوي للدرهم، ذهب جمع من الإعلام، منهم:
الصدوقان (قدس سرهما) (2) والشيخ (قدس سره) (3) والمفيد (قدس سره) (4) والفاضلان (قدس سرهما) (5)
والشهيدان (قدس سرهما) (6) إلى عدم العفو عنه وهو المشهور. (7)
وذهب السيد المرتضى (قدس سره) (8) وسلار (قدس سره) (9) إلى العفو عنه، والأقوى ما
عليه المشهور، وتدل عليه جملة من الروايات:

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 110، والحدائق الناضرة: ج 5، ص 306.
(2) الهداية بالخير في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: ج 1، ص 48، وراجع مختلف الشيعة:
ص 60.
(3) المبسوط: ج 1، ص 35 و 36.
(4) المقنعة في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: ج 1، ص 84.
(5) مختلف الشيعة: ص 60، والمعتبر: ص 119.
(6) البيان: ص 41، ومسالك الأفهام: ج 1، ص 18.
(7) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 110، والحدائق الناضرة: ج 5، ص 306.
(8) الإنتصار في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: ج 1، ص 110.
(9) المراسم في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: ج 1، ص 258.
277

[...]
منها: صحيحة ابن أبي يعفور في (حديث) قال: " قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به، ثم يعلم، فينسى أن يغسله فيصلي، ثم يذكر
بعد ما صلى، أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته، إلا أن يكون مقدار الدرهم
مجتمعا فيغسله ويعيد الصلاة ". (1)
ومنها: مرسلة جميل بن دراج، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام)
وأبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: " لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا
شبه النضح، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك، فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر
الدرهم ". (2)
هاتان الروايتان، كما ترى، صريحتان في عدم العفو عن الدم المساوى للدرهم.
ومنها: صحيحة إسماعيل الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " في الدم يكون في
الثوب إن كان أقل من قدر الدرهم، فلا يعيد الصلاة، وإن كان أكثر من قدر الدرهم
وكان رآه فلم يغسل حتى صلى، فليعد صلاته، وإن لم يكن رآه حتى صلى، فلا يعيد
الصلاة ". (3)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1026.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 4،
ص 1026.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 1026.
278

[...]
تقريب دلالة هذه الصحيحة على المختار، هو أن مفهوم قوله (عليه السلام): " إن كان
أقل من قدر الدرهم، فلا يعيد الصلاة " يفيد إعادة الصلاة فيما إذا لم يكن الدم أقل من
الدرهم، سواء كان مساويا أو أكثر، وعليه، فقوله (عليه السلام): " وإن كان أكثر من قدر
الدرهم... فليعد صلاته " إما بيان لهذا المفهوم، فيكون المراد منه مقدار الدرهم و
ما زاد، نظير قوله تعالى: " فإن كن نساءا فوق اثنتين " (1) حيث إن المراد منه اثنتان فما
فوقهما، أو بيان لأحد فردي المفهوم وهو الأكثر، فيكون تصريحا ببعض المفهوم، و
أما عدم التعرض لفرد آخر وهو المساوي، إنما هو لأجل كونه قليل الإتفاق. (2)
ولا يخفى: أنه بناءا على هذين الوجهين، لا تقع المعارضة بين صدر الصحيحة
وذيلها في المقدار المساوي للدرهم، إذ المفروض: أن الصدر يدل منطوقا على العفو إذا
كان الدم أقل من الدرهم، والذيل - باعتبار كونه بيانا لمفهوم الصدر - يدل على عدم
العفو إذا كان الدم أكثر من الدرهم أو مساويا له، وعليه: فالصحيحة تدل صدرا و
ذيلا على عدم العفو في المساوي.
نعم، بناءا على عدم تمامية الوجهين المتقدمين، تقع المعارضة بين مفهوم الصدر
والذيل في القدر المساوي، ضرورة أن مقتضى مفهوم الصدر وجوب إعادة الصلاة في
المساوي، ومقتضى مفهوم الذيل عدم وجوبها فيه، فيتساقطان، والمرجع حينئذ
عموم المنع، ونتيجته إلحاق المساوي بالأكثر في المانعية واختصاص العفو بالأقل،

(1) سورة النساء (4): الآية 11.
(2) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 111.
279

[...]
على أنه قد صرح في ذيل صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة بعدم العفو عن المساوي.
هذا، ولكن وردت هنا رواية قد يتراءى منها العفو عن المساوي - أيضا - و
بها استدل من خالف المشهور، وهي حسنة محمد بن مسلم - المسندة إلى أبي جعفر
(عليه السلام) في رواية الصدوق، والمضمرة في رواية الكليني - قال: " قلت له: الدم يكون في
الثوب علي وأنا في الصلاة، قال: إن رأيته وعليك ثوب غيره، فاطرحه وصل في
غيره، وإن لم يكن عليك ثوب غيره، فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ما لم يزد
على مقدار الدرهم، وما كان أقل من ذلك، فليس بشئ، رأيته قبل، أو لم تره، وإذا
كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم، فضيعت غسله وصليت فيه صلاة كثيرة
فأعد ما صليت فيه ". (1)
بتقريب: أن إطلاق قوله (عليه السلام): " ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار
الدرهم " يشمل المساوي والأقل، فيدل على العفو عن المساوي - أيضا - وأن
المقصود من قوله (عليه السلام): " وما كان أقل من ذلك " هو الأقل من الزائد فيعم المساوي و
الأقل، وأن قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: " وهو أكثر من مقدار الدرهم " يراد به البيان
لمفهوم الصدر، فيدل على عدم العفو عن الأكثر فقط، دون المساوي.
وعليه: فهذه الرواية تعارض صدر صحيحة إسماعيل الجعفي المتقدمة الدال

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 4،
ص 1026، ومن لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 161، الحديث 9.
280

[...]
بمفهومه على عدم العفو عن المساوي، فتتساقطان بالمعارضة، والمرجع عمومات المنع
عن الصلاة في النجس، أو ذيل صحيحة ابن أبي يعفور الصريح في عدم العفو عن
مقدار الدرهم.
وكذلك يعارض صدر الحسنة - لو كان المراد منه المساوي والزائد - ذيلها
- لو كان المراد منه هو الزائد فقط - إذ الصدر يقتضي عدم العفو عن المقدار المساوي، و
الذيل يقتضي العفو عنه، فيرجع بعد تساقطهما إلى عموم المنع، أو إلى ذيل صحيحة
ابن أبي يعفور.
نعم، لو كان المراد من الذيل هو المساوي والزائد، فلا تعارض بينه وبين
الصدر، إذ مقتضى كليهما حينئذ عدم العفو ووجوب الإعادة في المقدار المساوي
- أيضا - كما لا تعارض بينهما لو كان المراد من الصدر والذيل هو الزائد الأكثر فقط،
لأن قضية الصدر، العفو وعدم الإعادة ما لم يكن زائدا أكثر، سواء كان أقل أو
مساويا، وقضية الذيل، الإعادة وعدم العفو إذا كان أكثر، والعفو وعدم الإعادة إذا
كان أقل أو مساويا.
ويمكن أن يقال: إن هذه الروايات مهملة بالإضافة إلى المساوي، لكونها
متعرضة للعفو عن الأقل وعدم العفو عن الأكثر، فيرجع في المساوي إلى ذيل
صحيحة ابن أبي يعفور، وإلى مثل مرسلة جميل بن دراج.
وكيف كان، لو دلت رواية على العفو عن المساوي لكانت معرضا عنها، فلا
يعبأ بها.
281

سواء كان في البدن أو اللباس،]
الدم المعفو في البدن أو اللباس
قد تسالم الأصحاب على عدم الفرق في العفو عن الدم الأقل من الدرهم، بين
كونه في البدن أو اللباس، كما أن قضية روايات العفو هو سلب المانعية عن هذا الدم،
سواء كان في الثوب أم في البدن.
وأما ذكر خصوص الثوب في الروايات، فإنما هو لأجل أن الدم غير القرح و
الجرح يصيب الثوب غالبا ولا يصيب البدن المستور به، إلا نادرا.
على أن ذكر الثوب في بعض الأسئلة، لا يوجب اختصاص الجواب بالثوب، بل
مقتضى التأمل في الأجوبة هو كونها بصدد بيان القاعدة الكلية، وأن الملاك كله في
العفو، هي أقلية الدم، كان في الثوب أو البدن.
ولقد أجاد الإمام الراحل (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " وأما مقدار
المعفو عنه، فمستفاد... من صحيحة ابن مسلم المتقدمة، فإن قوله (عليه السلام): " وما كان أقل
من ذلك فليس بشئ " (1) ظاهر في أن القليل منه لأجل قلته ليس بشئ ولا يكون
مانعا، وأن القلة بما هي، تمام الموضوع لعدم المانعية، ولو كان الثوب دخيلا في الحكم
لم يتجه ذلك التعبير... فالقطع بعدم دخالته في غير المعفو عنه، وأنه ذكر تبعا للسائل أو

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6، ص 1027.
282

[...]
من باب المثال يقرب أن ذكره في المعفو عنه - أيضا - كذلك، فإن التفرقة بين الفقرات
خلاف ظاهر السياق وارتكاز العرف ". (1)
نعم، وردت في المقام رواية، يستدل بها، تارة على العفو عن الأقل في
خصوص الثوب، واخرى على التفصيل بين الثوب والبدن بالعفو عن الأقل من
الدرهم في الأول، وعن الأقل من الحمصة في الثاني، وهي رواية مثنى بن
عبد السلام، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " قلت له: إني حككت جلدي فخرج منه دم،
فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله، وإلا فلا ". (2)
تقريب الاستدلال بها على العفو في الثوب، مبني على أن يكون المراد من:
" قدر حمصة " قدرها وزنا، لا سعة، وهي تقرب سعة الدرهم مساحة.
وسر هذا التعبير على ما أفاده شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) أن الدم حين
خروجه يكون كرويا ثم ينتشر وينبسط شيئا فشيئا، فهو بمساحة حمصة حدوثا، و
بمساحة الدرهم بقاءا. (3)
هذا، ولكن لا يمكن الإعتماد على الرواية، لضعفها سندا ودلالة.
أما السند، فلأنه أولا: لم تثبت وثاقة مثنى بن عبد السلام.

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 426.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 5،
ص 1027.
(3) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
283

[...]
وثانيا: لو سلمنا وثاقته (1) تعد الرواية من الشواذ التي لا يعتمد عليها، من
جهة مخالفة التحديد المذكور فيها لسائر النصوص والفتاوى. (2)
أما الدلالة، فلأن هذه الرواية ظاهرة في طهارة ما دون الحمصة ونجاسة ما
بقدرها، لكون الأمر بالغسل إرشادا إلى النجاسة، والنهي عنه إرشادا إلى الطهارة، و
هذا مما لم يقل به أحد من الفقهاء.
نعم، نسب ذلك إلى الصدوق (قدس سره)، ولكن فتواه بذلك غير محرزة، لاحتمال أن
يكون مراده (قدس سره) من قوله (قدس سره): " وإن كان الدم دون حمصة، فلا بأس بأن لا يغسل " (3)
هو العفو، لا الطهارة.

(1) كما في اختيار معرفة الرجال، ص 338، وإليك نص عبارته: " قال أبو النصر محمد بن
مسعود: قال علي بن الحسن: سلام، والمثنى بن الوليد، والمثنى بن عبد السلام كلهم حناطون
كوفيون لا بأس بهم ".
(2) جواهر الكلام، ج 6، ص 108، حيث قال بعد ذكر خبر المثنى، ما هذا لفظه: " لوجوب
تنزيله على وزن حمصة يساوى سعة الدرهم، وإلا كان من الشواذ المتروكة "، وراجع مدارك
الأحكام: ج 1، ص 208 و 209.
(3) من لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 42.
284

من نفسه أو غيره،]
الدم المعفو من نفسه أو غيره
حكم المصنف (قدس سره) بعدم الفرق في الدم المعفو، بين كونه من نفسه أو من غيره،
وهو الصحيح، وذلك، لإطلاق الروايات المتقدمة الدالة على العفو.
وقد خالف في ذلك صاحب الحدائق (قدس سره) (1) وقال: بأن دم الغير ولو كان
قليلا، كدم الحيض، تجب فيه الإزالة، مستندا إلى مرفوعة البرقي، عن الصادق (عليه السلام)
قال: " قال: دمك أنظف من دم غيرك، إذا كان في ثوبك شبه النضح من دمك،
فلا بأس، وإن كان دم غيرك قليلا أو كثيرا، فاغسله ". (2)
وفيه: أن دلالة هذه المرفوعة وإن كانت تامة، لكن لا اعتداد بها بعد إعراض
المشهور عنها، وعدم عمل الأصحاب بها.
ولقد أجاد صاحب الجواهر (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال بعد الإشارة إلى
قول صاحب الحدائق (قدس سره) ما هذا لفظه: " ولا ريب في ضعفه، بل بطلانه، لإمكان
تحصيل الإجماع على خلافه حتى منه فيما تقدم من صريح كلامه أو ظاهره، ولقصور
دليله بالضعف والإرسال والهجر عن مقاومة ما تقدم، خصوصا لو قلنا: بكون م

(1) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 328.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 1028.
285

عدا الدماء الثلاثة من الحيض والنفاس والإستحاضة، *]
معارضته لها بالعموم من وجه، باعتبار عموم القليل فيه للدرهم وغيره ". (1)
ثم إن المراد من كلمة: " غيره " في كلام المصنف (قدس سره) هو إنسان آخر مثله، وأما
الحيوان غير مأكول اللحم أو نجس العين، فدمه مانع عن الصلاة مطلقا، كما سيجئ
قريبا.
الدماء الثلاثة
* قد استثنى المصنف (قدس سره) من الدم المعفو، الدماء الثلاثة.
أما الحيض، فاستثناءه هو المشهور (2)، بل ادعي عليه الإجماع. (3)
وقد استدل على عدم العفو عنه - مضافا إلى الإجماع - برواية أبي بصير، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) أو أبي جعفر (عليه السلام) قال: " لا تعاد الصلاة من دم لا تبصره غير دم
الحيض، فإن قليله وكثيره في الثوب إن رآه، أو لم يره سواء ". (4)

(1) جواهر الكلام، ج 6، ص 122.
(2) الحدائق الناضرة، ج 5، ص 325، حيث قال: " إن المشهور بين الأصحاب من غير
خلاف يعرف، استثناء دم الحيض، حيث قطعوا بعدم العفو عنه، وأوجبوا إزالة قليله وكثيره عن
الثوب والبدن للصلاة ".
(3) جواهر الكلام: ج 6، ص 119، حيث قال: " نعم، لو علم أنه دم حيض لم يعف عن قليله و
كثيره بلا خلاف كما في السرائر، بل إجماعا صريحا، وظاهرا في غيرها ".
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 21 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1028.
286

[...]
فإنها صريحة في الاستثناء، فلا إشكال فيها من جهة الدلالة، كما لا إشكال فيها
- أيضا - من جهة السند، إذ هي وإن كانت مقطوعة غير مسندة في بعض نسخ
التهذيب (1) إلا أنها في الكافي (2) وفي بعض آخر من نسخ التهذيب، مسندة إلى
أبي عبد الله أو أبي جعفر (عليهما السلام). (3)
على أن قطع مثل " أبي بصير " الذي لا يروى إلا مع السماع عن المعصوم،
غير قادح، كما أفاده الإمام الراحل (قدس سره). (4)
أما تضعيف الرواية بأبي سعيد المكاري الواقفي الذي لم يوثق، فلا محل له
لانجبارها من هذه الناحية بعمل الأصحاب، كما أفاده المحقق (قدس سره). (5)
ويؤيد ما ذكرنا من عدم العفو عن دم الحيض، ما في الفقه الرضوي: " وإن كان
الدم حمصة، فلا بأس بأن لا تغسله إلا أن يكون دم الحيض، فاغسل ثوبك منه ". (6)
وما عن هشام بن سالم، عن سورة بن كليب، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن

(1) تهذيب الأحكام: ج 1، ص 272 و 273، طبع مكتبة الصدوق، طهران.
(2) الفروع من الكافي: ج 3، ص 405.
(3) تهذيب الأحكام: ج 1، ص 257، طبع دار الكتب الإسلامية، طهران.
(4) راجع، كتاب الطهارة: ج 3، ص 433.
(5) المعتبر، ص 119، حيث قال: " لا يقال: الراوي له عن أبي بصير، أبو سعيد وهو ضعيف،
والفتوى موقوفة على أبي بصير وليس قوله حجة، لأنا نقول: الحجة عمل الأصحاب بمضمونه و
قبولهم له فإن أبا جعفر بن بابويه قاله، والمرتضى والشيخان وأتباعهما ".
(6) مستدرك الوسائل: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 16 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 566، (الطبعة الحديثة).
287

[...]
المرأة الحائض، أتغسل ثيابها التي لبستها في طمثها؟ قال: تغسل ما أصاب ثيابها من
الدم، وتدع ما سوى ذلك، قلت له: وقد عرقت فيها، قال: إن العرق ليس من
الحيض ". (1)
وما روي عن أسماء بنت أبي بكر، قالت: " سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دم
الحيض يكون في الثوب، قال: اقرصيه (2) واغسليه وصلي فيه ". (3)
هذا كله في الحيض، فالأقوى فيه عدم العفو وإن كان أقل من الدرهم.
أما النفاس، فهو ملحق بالحيض، بلا خلاف بين الأصحاب (4)، بل ادعي عليه
الإجماع. (5)

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 28 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1040.
(2) مجمع البحرين، ج 4، ص 178، حيث قال: والقرص، الغسل بأطراف الأصابع، قاله
الجوهري وغيره.
(3) سنن ابن ماجة: ج 1، ص 206، وفي سنن أبي داود، ج 1، ص 99 و 100 عنها - أيضا -
أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض، فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصل " وفيه
- أيضا - عن هشام، بهذا المعنى، قال: " حتيه، ثم اقرصيه بالماء، ثم انضحيه ".
(4) جواهر الكلام، ج 6، ص 120، حيث قال: " ويلحق به دم الاستحاضة والنفاس
بلا خلاف فيه عندنا، كما في السرائر ".
(5) كتاب الخلاف، ج 1، ص 162، مسألة 220، حيث قال: " دم الحيض والإستحاضة و
النفاس، لا تجوز الصلاة في قليله ولا كثيره... دليلنا، إجماع الفرقة "، وغنية النزوع في ضمن سلسلة
الينابيع الفقهية، ج 2، ص 376، حيث قال: "... وهذا بخلاف دم الحيض والإستحاضة والنفاس،
فإن الصلاة لا تجوز في ثوب أصابه شئ منه، قليلا كان أو كثيرا، كل ذلك بدليل الإجماع ".
288

[...]
وعن شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره): أن دم النفاس حيض حكما بل موضوعا (1)،
كما صرح به صاحب الجواهر (قدس سره) بقوله: "... مضافا إلى ما دل على كون دم النفاس
حيض احتبس ". (2)
وعليه: فما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من قوله (قدس سره): " وأما دم النفاس، فلو سلم
أنه حيض محتبس، لم يشمله دليل الاستثناء، لاختصاصه بالحيض غير المحتبس، و
إسراء حكمه إلى المحتبس، يكون قياسا لا نقول به " (3) ممنوع، إذ الاحتباس لا يوجب
تعدد الموضوع، فلو احتبس دم الحيض بعلاج واستعمال دواء ثم خرج، لا يقال: هذا
موضوع آخر، فكذا النفاس.
وكيف كان، فالأحوط عدم العفو عن قليله، بل لا يخلو عن قوة.
وأما دم الاستحاضة، ففي عدم العفو عنه مطلقا حتى القليل منه، الإجماعات
المنقولة المستفيضة، مضافا إلى شهرة عظيمة مسلمة على لزوم تبديل القطنة في أوقات
الصلاة في القليلة من الاستحاضة، والغالب فيها أقلية الدم من الدرهم، وهذه
الشهرة قائمة من الصدر الأول بلا تفصيل، فتكون حجة قاطعة على ما ذكر من حكم
الاستحاضة. (4) م

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
(2) جواهر الكلام: ج 6، ص 120 و 121.
(3) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 277.
(4) راجع، كتاب الطهارة للإمام الراحل: ج 3، ص 434.
289

أو من نجس العين، *
]
فتحصل: أن مع وجود تلك الروايات وهذه الكلمات والإجماعات، لا ينبغي
التشكيك في الحكم بعدم العفو عن قليل الدماء الثلاثة، فلا يصغى إلى ما عن بعض
الأعاظم (قدس سره) من أنه: " لا دليل يعتمد عليه في استثناء دم الحيض عما عفي عنه من
الدماء، فضلا عن الاستحاضة والنفاس ". (1)
دم نجس العين
* قد استدل على استثناء دم نجس العين عن دليل العفو، كدم الحيض بوجوه:
الأول: أن دم نجس العين له نجاستان، إحديهما: ذاتية كسائر الدماء،
ثانيتهما: عرضية ناشئة من ملاقاته لسائر أجزاء نجس العين، وما ورد في العفو عن
قليل الدم، إنما هو من جهة نجاسته الذاتية لا العرضية.
وفيه: ما لا يخفى، إذ دم نجس العين مشارك لسائر أجزاءه في الجزئية المقتضية
للنجاسة الذاتية.
وعليه: فلا يعقل أن ينفعل بعض أجزاء نجس العين عن بعض آخر، و
يتنجس بنجاسة أخرى عرضية بسبب الملاقاة، كما لا يعقل أن ينفعل ويتنجس بعض
أجزاء نجس واحد من الدم أو البول - مثلا - بسبب ملاقاته لبعض آخر منه، أو
يتنجس بعض نجس وهو الدم - مثلا - بملاقاته لبعض نجس آخر وهو البول، مثلا.

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 277.
290

[...]
ولنعم ما أفاده الفقيه الهمداني (قدس سره) حيث قال: " إن اكتساب دم الكلب، أو أحد
أخويه، نجاسة عرضية بملاقاة لحمه وشحمه وسائر أجزاءه مع مشاركته لها في الجهة
المقتضية لنجاستها وهي كونه جزءا من الكلب ونحوه، غير معقول، لأن الأجزاء،
نجاستها من هذه الجهة متماثلة، فلا يعقل أن ينفعل أحد المتماثلين، بملاقاة الآخر ". (1)
الثاني: أن دم نجس العين يكون ذا عنوانين، أحدهما عنوان الدمية، والآخر
عنوان الجزئية لنجس العين، وروايات العفو تدل عليه من الناحية الأولى، لا الثانية،
فيحكم بوجوب الإزالة من هذه الناحية.
وفيه: أن جزئية الدم لنجس العين بما هي هي، مع قطع النظر عن كونه نجسا
ليست بمانعة عن الصلاة كي يقال: بعدم شمول أدلة العفو له في فرض القلة، بل المانع
عنها هو الدم من جهة نجاسته، وهذا - كما ترى - مشمول لأدلة العفو بلا إشكال.
وقد عرفت - أيضا - في رد الوجه الأول، أنه لا يعقل تنجس بعض الأجزاء
بنجاسة أخرى عرضية ناشئة من ملاقاته لسائر الأجزاء.
وعليه: فما عن السيد الحكيم (قدس سره) من: " أن أدلة العفو إنما دلت على العفو عن
النجاسة الدموية، لاعن النجاسة من حيث كونه من نجس العين، فيرجع من هذه
الجهة إلى عموم المنع، وقد عرفت: في مبحث نجاسة المتنجس، أن مقتضى القاعدة
الإلتزام باجتماع نجاستين في محل واحد، ولا دليل على امتناعه " (2) ممنوع.

(1) كتاب الطهارة من مصباح الفقيه: ص 593.
(2) مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 566.
291

[...]
على أنه قد عرفت في مبحث نجاسة المتنجس، عدم معقولية اجتماع نجاستين في
محل واحد، وقياس المقام بالمتنجس يكون مع الفارق، إذ تنجس المتنجس بنجاسة
أخرى أمر، وتنجس النجس بنجاسة أخرى من مثله أو غيره أمر آخر، والبحث
هنا في الثاني، لا الأول.
الثالث: أن دم نجس العين كما ينطبق عليه عنوان الدم، كذلك ينطبق عليه
عنوان كونه من أجزاء غير المأكول، وأدلة العفو ناظرة إلى العفو عن الدم الأقل من
حيث كونه دما نجسا، لا من جهة كونه من أجزاء ما لا يؤكل، لعدم الإطلاق في تلك
الأدلة بالنسبة إليها، بل المرجع فيه أدلة مانعية أجزاء ما لا يؤكل عن الصلاة، كموثقة
ابن بكير، قال: " سأل زرارة أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك و
السنجاب وغيره من الوبر، فأخرج كتابا زعم أنه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الصلاة
في وبر كل شئ حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل
شئ منه فاسدة، لا تقبل تلك الصلاة، حتى يصلى في غيره مما أحل الله أكله ". (1)
فهذه الموثقة - كما ترى - تدل على أن ما لا يؤكل لحمه - ولو لم يكن نجس العين -
يكون مانعا مستقلا، فلا تعارضها أدلة العفو عن الدم الأقل من حيث كونه دما نجسا،
لما عرفت: من أنها ناظرة إلى العفو عنه من ناحية النجاسة الدموية فقط، بلا تعرض
للعفو من ناحية أخرى، كالجزئية لما لا يؤكل.

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 2 من أبواب لباس المصلي، الحديث 1،
ص 250، والفروع من الكافي: ج 3، ص 397.
292

[...]
وبعبارة أخرى: أن أدلة العفو لا اقتضاء لها بالإضافة إلى جهة كون دم
نجس العين جزءا مما لا يؤكل لحمه، بل مقتضاها هو العفو من جهة كونه دما نجسا، و
أما الموثقة، فهي تقتضي مانعية الدم عن الصلاة من حيث كونه جزءا مما لا يؤكل.
ومن الواضح: عدم المعارضة بين اللا إقتضاء والاقتضاء، ونتيجته الإلتزام
بأن دم نجس العين إذا كان أقل من الدرهم يكون معفوا من ناحية عنوان الدمية، نظرا
إلى أدلة العفو، ويكون غير معفو عنه من ناحية عنوان الجزئية لما لا يؤكل لحمه، نظرا
إلى موثقة ابن بكير المتقدمة.
ثم إنه لو سلم شمول أدلة العفو للدم الأقل من الدرهم مطلقا، حتى من جهة
كونه جزءا لما لا يؤكل لحمه، لتقدم الموثقة الدالة على مانعية جزء ما لا يؤكل لحمه - و
لو كان دما أقل من الدرهم - على أدلة العفو، لكونها أظهر في الدلالة على المنع من
أدلة العفو.
والوجه فيه: هو أن الموثقة مشتملة على كلمة: " كل " فتدل على المانعية
بالعموم، وهذا بخلاف أدلة العفو، فإنها تدل عليه بالإطلاق، والعموم حيث كان
بالوضع، مقدم على الإطلاق في الدلالة، على ما قرر في الأصول.
إن قلت: إن الموثقة وإن تعم أجزاء ما لا يؤكل لحمه بالعموم لمكان كلمة:
" كل "، لكن شمولها لأفراد الأجزاء، كأفراد الدم من القليل وغيره، أو من نجس العين
وغيره، يكون بالإطلاق، فإذا تساوي الموثقة في الدلالة على المانعية، أدلة العفو في
الدلالة عليه، بلا ترجيح لأحدهما على الآخر.
293

[...]
قلت: سلمنا ذلك، ولكن نتيجته - أيضا - هو المنع عن الدم من جهة كونه
جزءا لما لا يؤكل، إذ ينتهي الأمر عند تساوي الموثقة وأدلة العفو في الدلالة، إلى
التعارض بينهما، فتتساقطان، والمرجع هو عموم أدلة المنع.
ولا يخفى: أن هذا الوجه هو المعتمد، فالحق المختار في المقام هو منع دم نجس
العين عن الصلاة ولو كان أقل من الدرهم، وهذا لا لكونه دما نجسا حتى يقال: إن
أدلة العفو شاملة له، بل لأنه جزء من غير المأكول.
ويؤيد ما اخترناه، استبعاد العفو عن دم نجس العين لو كان أقل من الدرهم، وعدم
العفو عن فضلاته الآخر ولو كانت في غاية القلة، كلعابه وبصاقه وشعيرة منه ونحوها.
الرابع: انصراف إطلاق أخبار العفو عن دم نجس العين، لندرة الإبتلاء به، بل
هي منصرفة إلى الدم الذي يتعارف الإبتلاء به، كدم الإنسان المسلم، أو الحيوان
المتعارف ذبحه، فيبقى دم نجس العين تحت عموم أخبار وجوب الإزالة والمنع.
هذا، ولكن لا يمكن المساعدة على هذا الوجه وإن اعتمد عليه صاحب
الحدائق (قدس سره) (1)، وذلك، لأن ندرة الإبتلاء وقلته لا توجب انصراف المطلق عن النادر،

(1) الحدائق الناضرة، ج 5، ص 328، حيث قال: " وأما دم الكافر وأخويه، فالظاهر أنه
لا عموم في الأخبار المتقدمة على وجه يشمله، إذ لا يخفى أن المتبادر من الدم فيها إنما هو الأفراد
الشائعة المتكاثرة المعتادة المتكررة الوقوع... دون الفروض النادرة التي ربما لا تقع مدة العمر ولو
مرة واحدة، فالواجب هو الحمل على الأفراد المتعارفة، من دم الإنسان أو الحيوانات التي يتعارف
ذبحها، أو نحو ذلك، وحينئذ يبقى على وجوب الإزالة وعدم الدخول تحت عموم أخبار العفو، و
لا ريب أن الإحتياط يقتضيه ".
294

[...]
كما أن كثرة الإبتلاء لا توجب انصرافه إلى الكثير الشائع، وهكذا الأكملية والأتمية،
فأنها - أيضا - لا توجب انصراف المطلق إلى الفرد الأكمل، بل الملاك في الانصراف هو
خصوص كثرة الاستعمال الموجبة لشدة انس اللفظ بالمعنى بحيث يصير وجها له.
هذا كله، مضافا إلى أن ندرة الإبتلاء بدم نجس العين لو كانت موجبة
للانصراف وعدم العفو عنه، لزم الانصراف عن دم الحيوان المحلل الذي لم يتعارف
ذبحه، أو لم يتمكن منه لكونه وحشيا، أو طيرا أو غيرهما، لندرة الإبتلاء بدمه - أيضا -
وهذا، كما ترى.
فتحصل: أن دم نجس العين من جهة انطباق عنوان ما لا يؤكل عليه، لا يكون
معفوا مطلقا ولو كان قليلا، نعم، هذا العنوان لا يعم أجزاء الإنسان، لما سيأتي
إن شاءالله.
وعليه: فيحكم بخروج المشركين وإخوانهم - بناءا على نجاستهم - عن هذا
العنوان.
295

أو الميتة، *
أو غير المأكول، * *]
دم الميتة
* والحكم باستثناء دم الميتة عن الدم المعفو، إنما هو من حيث كونه من
أجزاء ما لا يؤكل - لو كانت الميتة مما لا يؤكل لحمه - وإلا فدمها الأقل من الدرهم
يكون معفوا عنه.
اللهم إلا أن يقال: إن حمل الميتة بما هي ميتة، وحمل جزء من أجزاءها، يكون
مانعا عن الصلاة ولو كانت الميتة طاهرة، فضلا عما إذا كانت نجسة، كحمل غير
المأكول، وهذا أمر آخر سيأتي إن شاءالله. (1)
دم الحيوان غير المأكول
* * لا إشكال في أن دم الحيوان غير المأكول خارج عن أدلة العفو، وذلك،
لامن جهة كونه دما، بل من جهة عنوان غير المأكول، حيث إن هذا العنوان مانع
مستقل، كعنوان النجس، محمولا كان أو ملبوسا، نجسا كان أو طاهرا، وهذا هو
مقتضى عموم موثقة ابن بكير المتقدمة.

(1) يأتي في فصل شرائط لباس المصلي.
296

[...]
وقد مضى، أن أدلة العفو عن الدم الأقل، لا تعارض هذه الموثقة، لعدم
الإطلاق في أدلة العفو بالإضافة إلى عنوان ما لا يؤكل لحمه، حيث إنها لم تكن بصدد
بيان هذه الجهة، بل إنما هي ناظرة إلى خصوص الجهة الدمية.
ولو فرض ثبوت الإطلاق لها، لا تقاوم عموم الموثقة، لتقدم العموم على
الإطلاق على ما عرفت آنفا، وقد تقدم - أيضا - أنه لو سلم تساوي العموم مع
الإطلاق، لتحققت المعارضة بينهما، وكان المرجع بعد تساقطهما، عموم أدلة منع
النجس أو الدم عن الصلاة.
ثم إن الفقيه الهمداني (قدس سره) أنكر عموم موثقة ابن بكير للدم رأسا، بدعوى: أن
المراد من قوله (عليه السلام): " وكل شئ منه " هو ما يكون منعه ناشئا من عنوان حرمة
الأكل، والدم منعه ناش من النجاسة ولو كان من حيوان حلال الأكل، وعليه،
فلا تكون الموثقة حاكمة على أدلة العفو، أو معارضة لها. (1)
وفيه: ما لا يخفى، إذ الدم النجس لو كان مما يؤكل لحمه يمنع من الصلاة، لأجل
نجاسته ومنجسيته للثوب والبدن، ولا جهة أخرى فيه للمنع، وأما لو كان مما
لا يؤكل لحمه، ففيه جهتان للمنع، إحديهما: نجاسته، والاخرى: كونه مما لا يؤكل
لحمه، كما أنه لو كان من حيوان محرم الأكل وكان طاهرا، كالمتخلف في الذبيحة، يمنع
من جهة واحدة كالصورة الأولى وهي جهة كونه من فضلات ما لا يؤكل لحمه. م

(1) راجع، كتاب الطهارة من مصباح الفقيه، ص 594.
297

مما عدا الإنسان على الأحوط، بل لا يخلو من قوة، *
وإذا كان متفرقا في البدن أو اللباس أو فيهما وكان المجموع بقدر
الدرهم، فالأحوط عدم العفو، * *
]
وعليه: فعموم الموثقة يدل على مانعية ما لا يؤكل لحمه مستقلا بجميع أجزاءه
ومنها الدم ولو كان أقل من الدرهم، فتقع المعارضة بينها وبين أدلة العفو.
وقد مضى، أن القول بمانعية مثل الوبر والصوف والشعر ونحوها من الأجزاء
الطاهرة لما لا يؤكل، وعدم مانعية مثل الدم الذي يكون من الأجزاء النجسة له،
مستبعد جدا.
* * *
* لانصراف أدلة منع غير المأكول بجميع أجزاءه عن الإنسان، فلا يعمه
قوله (عليه السلام) في موثقة ابن بكير: " أن الصلاة في وبر كل شئ حرام أكله... فاسدة " بل
المراد منه هو الحيوان غير المأكول.
الدم المتفرق
* * هنا أقوال ثلاثة:
298

[...]
الأول: عدم العفو مطلقا، واختاره جماعة من الفقهاء، منهم: العلامة (1)
وكاشف الغطاء (2) والشهيد الأول (3) والشهيد الثاني (4) والمحقق الثاني (قدس سرهم) (5) وهو
المشهور. (6)
الثاني: العفو مطلقا وهو - أيضا - مختار جمع، منهم: الشيخ الطوسي في بعض
كتبه (7) وابن إدريس (8) والمحقق (9) وصاحب المدارك (10) والحدائق (11)
والمحقق السبزواري (12) والمحقق الأردبيلي (قدس سرهم). (13)
الثالث: التفصيل بين المتفاحش وغيره، بالعفو في الثاني، وعدمه في الأول، و
هذا - أيضا - مما اختاره جماعة، منهم: الشيخ في بعض كتبه. (14)

(1) منتهى المطلب: ج 3، ص 253، ونهاية الإحكام: ج 1، ص 287.
(2) كتاب كشف الغطاء: ص 175.
(3) البيان: ص 41.
(4) مسالك الأفهام: ج 1، ص 18.
(5) جامع المقاصد: ص 17.
(6) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 126.
(7) المبسوط: ج 1، ص 36.
(8) كتاب السرائر: ج 1، ص 178.
(9) مختصر النافع في ضمن جامع المدارك: ج 1، ص 207.
(10) مدارك الأحكام: ج 2، ص 318.
(11) الحدائق الناضرة: ج 5، ص 315.
(12) كفاية الأحكام: ص 12.
(13) مجمع الفائدة والبرهان: ج 1، ص 317.
(14) النهاية: ص 52.
299

[...]
ولا يخفى: أن هذا القول الأخير، كما سيجئ، لا مستند له، والعمدة: القولان
الأولان، ومنشأهما هو اختلاف الاستظهار من الأخبار، فلابد من الرجوع إليها.
منها: صحيحة الحلبي، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن دم البراغيث يكون في
الثوب، هل يمنعه ذلك من الصلاة فيه؟ قال: لا، وإن كثر، فلا بأس - أيضا - بشبهه من
الرعاف، ينضحه ولا يغسله ". (1)
ربما يقال: إن هذه الصحيحة تدل على أن المعيار في القدح والمنع لو كان الدم
بقدر الدرهم هو الإجتماع الفعلي، فلو كان بهذا المقدار أو زائدا عليه على تقدير
الإجتماع لم يكن مانعا، لما في الصحيحة من تشبيه دم الرعاف بدم البراغيث، فتفيد أن
دم الرعاف المشبه إذا كان نقطا متفرقا، كدم البراغيث المشبه به، لا يمنع من الصلاة ولو
كان على تقدير الإجتماع قدر درهم، فالمعيار هو اجتماع الدم أولا، وكونه قدر
الدرهم ثانيا، فلو كان مجتمعا فعلا ولم يكن على قدر الدرهم أو كان قدر الدرهم
فما زاد، ولم يكن مجتمعا فعلا، لم يمنع من الصلاة.
وفيه: أن ظاهر التشبيه وقوله (عليه السلام): " فلا بأس - أيضا - بشبهه من الرعاف "
يقتضي خلاف ذلك، كيف! وإن دم البراغيث لا يصل إلى قدر الدرهم بحسب العادة،
فدم الرعاف الذي يكون شبهه - أيضا - كذلك.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 7،
ص 1027.
300

[...]
وبعبارة أخرى: لم يجئ لفظ: " دم الرعاف " في الصحيحة على وجه الإطلاق
كي يقال: باحتمال وصوله إلى حد الدرهم فما زاد، بل جئ مصدرا بكلمة: " شبهه "
فلايراد منه إلا خصوص ما هو شبيه بدم البراغيث، فكأنه قيل: لا بأس بدم
البراغيث، ولا بأس - أيضا - بشبهه قدرا، وهو دم الرعاف.
ثم إنه لو سلمنا الإطلاق في الصحيحة وقلنا: بأنها تدل على عدم مانعية دم
الرعاف عن الصلاة إذا كان متفرقا ولو كان قدر الدرهم على تقدير الإجتماع، تقع
المعارضة بينها، وبين ما دل على منع هذا المقدار، وعدم العفو عنه ولو كان متفرقا،
كصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (1) فإن مفهوم قوله (عليه السلام): " ولا إعادة عليك ما
لم يزد على مقدار الدرهم " وكذا منطوق قوله (عليه السلام): " وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر
من مقدار الدرهم فضيعت غسله، وصليت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صليت فيه "
يدلان على مانعية الدم إذا كان بمقدار الدرهم أو أكثر، مطلقا وإن كان متفرقا، لعدم
تقييد فيهما بالاجتماع.
ويؤكد هذا الإطلاق ما ورد فيها من السؤال بنحو المطلق، حيث قال الراوي:
" الدم يكون في الثوب علي وأنا في الصلاة " فلم يفرض فيه الإجتماع كي يقال: بحمل
الجواب على ما فرض في السؤال.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 6،
ص 1027.
301

[...]
وكصحيحة إسماعيل الجعفي المتقدمة (1) فإنها - أيضا - تدل على منع الدم
بمقدار الدرهم أو أكثر، مطلقا حتى في صورة التفرق، فلا ريب في أن مقتضى القاعدة
بعد تساقط المتعارضتين هو الرجوع إلى عموم المنع عن النجس في الصلاة، أو
روايات منع الدم، إذ المتيقن في الخروج عنها هو الدم الأقل مطلقا، مجتمعا كان أو
متفرقا، فيبقى الدم بقدر الدرهم أو أكثر، مطلقا حتى في فرض التفرق، تحتها.
ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة (2) وفيها احتمالات:
يناسب بعضها القول الأول، وبعضها الآخر القول الثاني.
أحدها: أن اسم " يكون " في قوله (عليه السلام): " إلا أن يكون مقدار الدرهم مجتمعا "
ضمير راجع إلى كلمة: " الدم " في قول السائل: " وفي ثوبه نقط الدم " وخبره هو قوله
(عليه السلام): " مقدار الدرهم " ولفظ: " مجتمعا " يكون حالا عن اسم " يكون " فيصير المعنى
- بقرينة فرض كون الدم في السؤال نقطا متفرقا - إلا أن يكون ذلك الدم المتفرق،
مقدار الدرهم لو اجتمع.
وهذا يكشف عن كفاية الإجتماع التقديري في المانعية، إذ تدل الصحيحة على
هذا الإحتمال بعقد المستثنى منه، على العفو عن الدم الأقل من الدرهم، وبعقد المستثنى
تدل على عدم العفو عن الدم بقدر الدرهم، ولما فرض في السؤال تفرق الدم،

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 1026.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1026.
302

[...]
أراد (عليه السلام) من كلمة: " مجتمعا " في مقام الجواب، الإجتماع التقديري، ومعناه: أنه لو
اجتمع ذلك الدم المتفرق الموجود في الثوب وكان بقدر الدرهم، يمنع عن الصلاة، و
هذا يناسب القول الأول.
ثانيها: أن اسم " يكون " هو قوله (عليه السلام): " مقدار الدرهم " وخبره قوله (عليه السلام):
" مجتمعا " فيصير المعنى حينئذ: هو العفو عن مقدار الدرهم المتفرق، وعدم العفو عن
مقداره المجتمع، وهذا يدل على اعتبار الإجتماع الفعلي في المانعية، كما هو واضح.
ثالثها: أن اسم " يكون " هو الضمير الراجع إلى الدم، وخبره قوله (عليه السلام):
" مقدار الدرهم " وكذا قوله (عليه السلام): " مجتمعا " هذا - أيضا - يدل على اعتبار الإجتماع
الفعلي في المانعية.
رابعها: أن قوله (عليه السلام): " مجتمعا " يكون حالا لخبر " يكون " وهو قوله (عليه السلام):
" مقدار الدرهم " عكس الإحتمال الأول، هذا - أيضا - يقتضي دلالة الرواية على
اعتبار الإجتماع الفعلي، فهذه الإحتمالات الثلاثة تناسب القول الثاني.
هذه هي الإحتمالات الأربعة في الصحيحة، ولا ريب: أن الإحتمال الأول هو
الموافق لظاهرها دون الثلاثة الأخيرة، إذ بناءا على الأول يكون الاستثناء متصلا،
بتقريب: أن المراد من المستثنى هو المجتمع التقديري حسب الفرض، ومن المستثنى
منه هو المتفرق الفعلي.
ومن الواضح: أن استثناء اجتماع الدم بمقدار الدرهم تقديرا، عن صورة
تفرقه فعليا، يعد استثناءا متصلا، لعدم التنافي بينهما.
303

[...]
وأما بناءا على الثلاثة الأخيرة، يكون الاستثناء منقطعا، إذ المراد من المستثنى
حينئذ هو المجتمع الفعلي، ومن المستثنى منه هو المتفرق الفعلي.
ومن المعلوم: أنه لا يستثنى اجتماع الدم بمقدار الدرهم فعليا، عن صورة
تفرقه كذلك، إلا بنحو الانقطاع.
ومنها: مرسلة جميل بن دراج، عن بعض أصحابنا، عن أبي جعفر (عليه السلام) و
أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: " لا بأس بأن يصلي الرجل في الثوب وفيه الدم متفرقا شبه
النضح، وإن كان قد رآه صاحبه قبل ذلك، فلا بأس به ما لم يكن مجتمعا قدر
الدرهم ". (1)
هذه المرسلة - أيضا - تتضمن الإحتمالات الأربعة المتقدمة، والذي يوافق
ظاهرها، هو الإحتمال الأول، على ما عرفت في الصحيحة المتقدمة، فلا إشكال في
دلالتها، إنما الإشكال في سندها، للارسال.
فتحصل: أن مقتضى ظاهر الروايات الواردة في المقام، هو تعين القول
المشهور، وهو عدم العفو عن الدم بمقدار الدرهم ولو في فرض الإجتماع، مضافا إلى
أنه يمكن أن يستدل على هذا القول، بأن مانعية الدم ووجوب إزالته مترتبة على
طبيعة الدم وذاته، بلا دخل للاجتماع، وبلا قدح في الافتراق، إذ هما من حالات الدم.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 4،
ص 1026.
304

[...]
هذا كله بالنسبة إلى القولين الأولين.
وأما التفصيل بين المتفاحش وبين غيره، فقد أشرنا أنه لا مستند له، على أنه
لم يبين من قبل القائلين به، مقدار التفاحش.
ولنعم ما أفاده شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) حيث قال: " وأما التفصيل فلم
يعرف له مستند، كما اعترف به غير واحد، إلا المرسل المحكي عن دعائم الإسلام عن
الصادقين (عليهما السلام) أنهما قالا: " في الدم يصيب الثوب، يغسل، كما تغسل النجاسات " و
رخصا (عليهما السلام) في النضح اليسير منه ومن سائر النجاسات مثل دم البراغيث و
أشباهه، قالا (عليهما السلام): " فإذا تفاحش غسل " (1) ولكنه ضعيف أعرض عنه المشهور و
تركوا العمل به، مع كونه موافقا للعامة، على أن المراد من التفاحش، كما أفاده
المحقق (قدس سره) (2) مجمل، قدره بعض بالشبر، وآخرون بما يفحش في القلب، وقدره
أبو حنيفة بربع الثوب، وعليه، فالمرجع في التفاحش هو العرف والعادة، لو علق
الحكم عليه في خبر معتبر ". (3)

(1) مستدرك الوسائل: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 15 من أبواب النجاسات، الحديث 2،
ص 565 و 566.
(2) المعتبر: ص 119.
(3) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
305

[...]
تذنيب: ذهب المحقق الثاني (قدس سره) (1) والشهيد الثاني (قدس سره) (2) إلى أنه لافرق في العفو
عن الدم المتفرق، بين الثوب الواحد والمتعدد، إذ المراد من الثوب في الروايات هو
الجنس، فيعم المتعدد - أيضا - كما لافرق فيه، بين أن يكون في البدن أو الثوب أو
يكون فيهما معا، فيضم ما في البدن إلى ما في الثوب، فيقدران معا، وهذا هو الصحيح،
إذ أشرنا سابقا إلى أن موضوع العفو وعدمه، هو الدم النجس بما هو دم نجس مطلقا،
كان في بدن المصلي، أو في لباسه، في موضع واحد مجتمعا، أو في مواضع متعددة
متفرقا، كان اللباس واحدا أو متعددا، صدق عليه الثوب، أو لا، كقطعة كرباس أو
جلد تلبس بها المصلي وتستر بها.
وعدم ذكر البدن في الروايات، إنما هو لأجل أنه مستور بالثوب لا يصيبه الدم
غالبا، كما أن ذكر الثوب فيها إنما هو لأجل لبس الإنسان ما يصدق عليه هذا العنوان،
أو لأجل تعارف لبسه في تلك البلاد والأزمنة، وإلا فلا موضوعية لهذا العنوان،
فضلا عن وحدته، بل حكم العفو وعدمه جار - أيضا - لو لبس قطعة كرباس، أو
جلد وصلى فيها.

(1) جامع المقاصد: ج 1، ص 17 " قوله: والأقرب في المتفرق الإزالة... ولافرق بين الثوب
الواحد والثياب المتعددة في الحكم بوجوب الإزالة "، الطبعة القديمة.
(2) مسالك الأفهام، ج 1، ص 18، حيث قال: " ولافرق في ذلك بين المتفرق على الثوب
الواحد أو الثياب أو على البدن أو على الجميع "، الطبعة القديمة.
306

[...]
وبالجملة: مقتضى إطلاق روايات العفو، هو العفو عن الدم الأقل من الدرهم
وعدم العفو عن الدم المساوي له، أو الأزيد منه مطلقا، مجتمعا كان أو متفرقا، وفي
فرض التفرق، كان في الثوب والبدن، أو في البدن فقط، وفي الثوب، كان في ثوب
واحد، أو متعدد، بل في قطعة ملبوسة من كرباس ونحوه، أو قطعات منه.
وعليه: فما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من: " ظهور الروايات في أن مورد السؤال
والجواب فيها هو الثوب الواحد، لا الثياب المتعددة، ولا الجنس الشامل لها، فتدل
الروايات على العفو عن كل ثوب كان الدم فيه أقل من الدرهم " (1)، ممنوع.
مضافا إلى أن في قوله (قدس سره): " فتدل الروايات على العفو... " ما لا يخفى من الخلل،
إذ موضوع العفو وعدمه هو الدم، ونجاسة الثوب أو البدن به، لا الثوب.
ويؤيده وقوع كلمة: " الدم " في المتون الفقهية، حيث قالوا: " مما يعفى عنه في
الصلاة، الدم الأقل من الدرهم ".

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 293.
307

والمناط سعة الدرهم لاوزنه، وحده سعة أخمص الراحة، ولما حده
بعضهم بسعة عقد الإبهام من اليد، وآخر بعقد الوسطى، وآخر بعقد
السبابة، فالأحوط الاقتصار على الأقل وهو الأخير.]
تحديد سعة الدرهم
هنا بحثان:
الأول: بيان المناط في الدرهم، بأنه هل هو سعته، أو وزنه؟
الثاني: بيان حد الدرهم ومقدار سعته.
أما الأول: فالحق فيه ما ذكره المصنف (قدس سره): من أن المناط هو السعة لا الوزن،
كما يساعده الفهم العرفي.
وعليه: فالمراد من قوله (عليه السلام) في صحيحة ابن أبي يعفور (1) المتقدمة: " إلا أن
يكون مقدار الدرهم مجتمعا " هو سعة الدرهم ومساحته، لا أن المراد هو أن يكون
الدم وزنه، وزن الدرهم.
على أن العلم بوزن الدم وهو كالصبغ في الثوب، أمر صعب، إلا أن يوزن
الثوب قبل تنجسه بالدم، ثم يوزن بعد تنجسه به، حتى يعلم الوزن الذي زيد على
وزن الثوب وهو وزن الدم، وهذا كما ترى.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1026.
308

[...]
أما الثاني: فالكلام فيه يقع، تارة من جهة تعيين نوع الدرهم، واخرى من
جهة تعيين مقدار سعته.
أما الجهة الأولى: فلم يرد فيها بيان من ناحية الشرع الأنور، إذ الأخبار
الواردة في عفو الدم ناظرة إلى خصوص تحديده، بكون الدم أقل من الدرهم بلا تعيين
لنوعه، ولكن ورد ذلك في كلمات الأصحاب، حيث إنهم قيدوا الدرهم تارة:
" بالوافي " كما عن الشيخ الطوسي (قدس سره) والسيد المرتضى (قدس سره) والمفيد (قدس سره) بل ادعي عليه
الإجماع (1)، وأشير إليه في الفقه الرضوي، أيضا: " إن أصاب ثوبك دم، فلا بأس
بالصلاة فيه ما لم يكن مقدار درهم واف - والوافي: ما يكون وزنه درهما وثلثا - وما
كان دون الدرهم الوافي، فلا يجب عليك غسله، ولا بأس بالصلاة فيه ". (2)
واخرى: " بالبغلي " كما عن الفاضلين (العلامة والمحقق (قدس سرهما)) (3) ومن تأخر
عنهما. (4)
وثالثة: " بالوافي مع التصريح بأنه يسمى بالبغلي " كما عن المحقق (قدس سره) في بعض

(1) الخلاف: ج 1، ص 162، والانتصار في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: ج 1، ص 110،
وراجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 113.
(2) مستدرك الوسائل: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 15 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 565.
(3) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، ج 1، ص 285، حيث قال: " وإن كان مما لا يشق
إزالته، وجب إزالته عن الثوب والبدن معا إن كان أزيد من سعة الدرهم البغلي "، وجواهر الكلام،
ج 6، ص 107، حيث قال: " المحقق: " وعما دون الدرهم البغلي سعة ".
(4) راجع، كتاب الطهارة من مصباح الفقيه: ص 590.
309

[...]
كتبه (1) والشهيد الأول (قدس سره) (2) بل أكثر كتب المتأخرين. (3)
هذا، ولكن لا يمكن الإعتماد على واحد من هذه الأقوال خصوصا مع اختلافهم
في تفسير ذلك، فقال: المحقق (قدس سره): " الدرهم هو الوافي الذي وزنه درهم وثلث، وسمي
البغلي، نسبته إلى قرية بالجامعين ". (4)
وقال الشهيد الأول: " الدرهم الوافي وهو البغلي بإسكان الغين وهو منسوب إلى
رأس البغل، ضربه الثاني في ولايته بسكة كسروية، وزنته ثمانية دوانيق ". (5)
وبالجملة: يستفاد من كلمات الأصحاب أن الدرهم يفسر بثلاثة أنواع:
أحدها: الوافي المسمى بالبغلي.
ثانيها: الطبري.
ثالثها: الدرهم الإسلامي المتوسط بين ذينك النوعين.
ولكن عرفت آنفا: أن الدرهم الوارد في روايات العفو لم يفسر بأحد من هذه
الأنواع.

(1) المعتبر: ص 119.
(2) ذكرى الشيعة، ص 16، حيث قال: " عفي الدم في الثوب والبدن عما نقص عن سعة
الدرهم الوافي وهو البغلي ".
(3) راجع، جواهر الكلام، ج 6، ص 113، حيث قال: " بل عن أكثر كتب المتأخرين التصريح
بأنه الوافي ويسمى البغلي ".
(4) المعتبر: ص 119.
(5) ذكرى الشيعة: ص 16.
310

[...]
نعم، يستفاد من كلام صاحب المدارك (قدس سره): أن الدرهم في الروايات محمول على
الفرد الشائع المتعارف في زمن الصادقين (عليه السلام) - لورود أكثر أخبار العفو عنهما - (عليهما السلام)
وهو الدرهم الإسلامي المضروب زمن عبد الملك، المتوسط بين الوافي والطبري. (1)
ولكن هذا الكلام لو تم، لم يجد في تحديد سعة الدرهم، لأن المتوسط وزنا
لا يلازم المتوسط سعة، كما هو واضح.
أما الجهة الثانية، ففيها أقوال:
الأول: ما عن ابن الجنيد (قدس سره): من أن سعة الدرهم كعقد الإبهام الأعلى. (2)
الثاني: ما حكاه المصنف (قدس سره) عن بعض الأصحاب: من أن سعته كعقد الإبهام
الوسطى. (3)
الثالث: ما عن الحلي (قدس سره) من أن: " هذا الدرهم المعتاد، تقرب سعته من سعة
أخمص الراحة ". (4)

(1) مدارك الأحكام، ج 2، ص 314 و 315، حيث قال: " فإن الروايات التي وقفت عليها في
هذه المسألة، إنما تضمنت تعليق الحكم على قدر الدرهم... ولا تعيين لقدره، والواجب حمله على ما
كان متعارفا في زمانهم (عليهم السلام)... وأن البغلي ترك في زمن عبد الملك - عليه اللعنة - وهو متقدم على
زمن الصادق (عليه السلام) قطعا، فيشكل حمل النصوص الواردة منه (عليه السلام) عليه ".
(2) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 330.
(3) جواهر الكلام، ج 6، ص 118، حيث قال: " وأما التقدير بعقدة الوسطى فهو مع عدم
معرفة المقدر... ضعيف جدا ".
(4) كتاب السرائر: ج 1، ص 177.
311

[...]
الرابع: ما عن ابن أبي عقيل (قدس سره): من أن سعته ما كان بسعة الدينار. (1)
الخامس: ما حكاه المصنف (قدس سره) - أيضا - عن بعض، من أن سعته كعقد
السبابة.
والحق أنه لا طريق لنا إلى الإعتماد على واحد منها، فلا محيص عن العمل
بمقتضى القواعد، وهو الأخذ بالأقل المتيقن من التحديدات وهو الأخير.
بتقريب: أن العمومات الدالة على مانعية النجس من الصلاة، قد خصصت
بأخبار العفو المشتملة على كلمة: " الدرهم " الدائر أمرها بين الأقل والأكثر، فلابد
من الاقتصار على الأقل في العفو، وهو هنا سعة الدرهم كعقد السبابة، والرجوع إلى
عموم المنع في غيره.
وقد أجاد الإمام الراحل (قدس سره) حيث قال: " فمقتضى القاعدة، الاقتصار على الأقل
فيما دار الأمر بينه وبين الأقل منه ". (2)

(1) رسالتان مجموعتان من فتاوى العلمين، فتاوى ابن أبي عقيل، ص 22، حيث قال: " إذا
أصاب ثوبه دم فلم يره حتى صلى فيه، ثم رآه بعد الصلاة وكان الدم على قدر الدينار، غسل
ثوبه "، وجواهر الكلام: ج 6، ص 108 و 109.
(2) كتاب الطهارة، ج 3، ص 437.
312

(مسألة 1): إذا تفشى من أحد طرفي الثوب إلى الآخر، فدم واحد،
والمناط في ملاحظة الدرهم أوسع الطرفين، نعم، لو كان الثوب طبقات
فتفشى من طبقة إلى أخرى، فالظاهر، التعدد، وإن كانتا من قبيل الظهارة
والبطانة، كما أنه لو وصل إلى الطرف الآخر، دم آخر لا بالتفشي، يحكم
عليه بالتعدد وإن لم يكن طبقتين.]
تفشي الدم من جانب الثوب إلى الآخر
في المسألة صور:
الأولى: ما إذا تفشى الدم من أحد طرفي الثوب إلى الآخر، حكم المصنف (قدس سره)
فيها بأنه دم واحد، مطلقا، سواء كان في الثوب الرقيق، أو الغليظ، وبأن المناط - في
ملاحظة الدرهم - أوسع الطرفين.
أما الحكم بوحدة الدم، فهو أمر واضح جدا، إذ الدم جسم ذو أبعاد، و
التفشي لا يوجب التعدد مطلقا حتى مع غلظة الثوب، فضلا عن رقته، وهذا هو مختار
جماعة، منهم: الشهيد الثاني (قدس سره) (1) والمحقق الثاني (قدس سره) (2)، وفي قباله ما اختاره الشهيد

(1) مسالك الأفهام، ج 1، ص 18، حيث قال: " ولو أصاب وجهي الثوب، فإن كان بالتفشي
فواحد، وإلا تعدد " الطبعة القديمة.
(2) جامع المقاصد، ج 1، ص 17، حيث قال: " ولو أصاب الدم وجهي الثوب من جانب إلى
جانب آخر، فدم واحد، وإلا فدمان ".
313

[...]
الأول (قدس سره) (1) من التفصيل بين الثوب الرقيق، فحكم فيه بوحدة الدم، وبين الغليظ،
فحكم فيه بتعدده، ولكنه خال عن الوجه، بل العرف يشهد على الوحدة عند التفشي
بلا تفصيل.
نعم، يمكن أن يقال: بأن روايات العفو منصرفة عن بعض الفروض، نظير ما إذا
صب دم كثير على أحد سطحي اللباس ونفذ في الداخل وحبس فيه لضخامته، كما أشار
إليه شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) قائلا: بأن المناط في العفو وعدمه هو قلة الدم وكثرته. (2)
وأما الحكم بأن المناط أوسع الطرفين، فهو - أيضا - أمر واضح لا إشكال
فيه، إذ في خصوص هذا الفرض تلاحظ سعة الدم، فإن كان أقل من الدرهم، يعفى
عنه، وإلا فلا.
الصورة الثانية: ما إذا كان الثوب طبقات فتفشى الدم من طبقة إلى أخرى،
فيحكم فيها - كما في المتن - بتعدد الدم مطلقا، ولو في فرض كون الطبقات من قبيل
الظهارة والبطانة، وهذا - أيضا - مما لا إشكال فيه.
الصورة الثالثة: ما إذا وصل دم آخر إلى الطرف الآخر من الثوب
لا بالتفشي، حكم المصنف (قدس سره) فيها بتعدد الدم مطلقا، سواء اتصل الدمان، أو لم يتصلا،
ولكن الحق هو التفصيل بين فرض الإتصال، فيحكم فيه بوحدة الدم إلحاقا له
بالصورة الأولى، كما يساعده العرف، وبين فرض عدم الإتصال، فيحكم فيه بتعدده
- كما في المتن - وهذا - أيضا - مما يساعده العرف.

(1) ذكرى الشيعة، ص 16، حيث قال: " لو تفشى الدم فواحد إن رق الثوب، وإلا تعدد ".
(2) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
314

(مسألة 2): الدم الأقل إذا وصل إليه رطوبة من الخارج فصار
المجموع بقدر الدرهم، أو أزيد، لا إشكال في عدم العفو عنه، وإن لم يبلغ
الدرهم، فإن لم يتنجس بها شئ من المحل، بأن لم تتعد عن محل الدم،
فالظاهر بقاء العفو، وإن تعدى عنه ولكن لم يكن المجموع بقدر الدرهم،
ففيه إشكال، والأحوط عدم العفو.
]
وصول رطوبة خارجية إلى الدم
هنا صور:
الأولى: أن تصل رطوبة من الخارج إلى الدم الأقل من الدرهم، بحيث كان
المجموع قدر الدرهم فما زاد، والحكم فيها ما ذكره المصنف (قدس سره) من عدم العفو، وذلك،
لاختصاص أدلة العفو بالدم الأقل، والمفروض: أن الرطوبة الخارجية متنجسة بالدم
بعد وصولها إليه، فلا تعمها أدلة العفو، كما لا يخفى.
الثانية: أن لا يبلغ المجموع من الدم والرطوبة الخارجية إلى قدر الدرهم، مع
عدم تنجس جزء آخر من الثوب، بعدم تعدي الرطوبة عن محل الدم، والحق فيها
بقاء العفو، كما عن المصنف (قدس سره)، إذ المفروض: أن الثوب لم يتنجس بتلك الرطوبة زائدا
على تنجسه بالدم.
نعم، تكون الرطوبة المتنجسة حينئذ محمولة في الصلاة، وسيأتي أن الأقوى
جواز حمل النجس فيها، فضلا عن المتنجس. م
315

(مسألة 3): إذا علم كون الدم أقل من الدرهم، وشك في أنه من
المستثنيات أم لا، يبني على العفو، وأما إذا شك في أنه بقدر الدرهم، أو
أقل، فالأحوط عدم العفو، إلا أن يكون مسبوقا بالأقلية وشك في
زيادته. *]
الثالثة: أن لا يبلغ المجموع إلى قدر الدرهم مع تعدي الرطوبة عن محل الدم، و
تنجس جزء آخر من الثوب.
إحتاط المصنف (قدس سره) فيها بعدم العفو بعد الاستشكال في العفو، ولكن الأقوى
عدم العفو، لما ذكرنا آنفا، من أن أدلة العفو مختصة بالدم، وأن الرطوبة المتنجسة به
خارجة عنها، خصوصا إذا تنجس جزء آخر من الثوب بتعديها إليه، كما هو مفروض
الكلام.
الشك في الدم الأقل
* والمسألة متكفلة للصورتين من الشبهة الموضوعية للدم.
الأولى: أن يشك في أن الدم الأقل، هل هو من المستثنيات كي لا يعفى عنه، أم
لا؟ وهذه هي الشبهة الموضوعية للدم المستثنى من الدم المعفو، والحكم فيه هو
العفو، كما في المتن، وهذا لاكلام فيه، إنما الكلام في الوجوه التي استدل بها على
العفو، فبعضها تام، وبعضها غير تام.
الأول: عموم أدلة العفو للمورد، وذلك، لأجل الشك في تخصيصه بالنسبة
إليه، حيث إن التخصيص إنما هو بالدماء الثلاثة وغيرها من سائر المستثنيات،
316

[...]
والمفروض: أن الدم الأقل هنا مشكوك مردد بين المعفو وبين غيره، فلابد إذا من
الاقتصار على القدر المتيقن، والأخذ بالعموم في المشكوك.
وفيه: ما لا يخفى: إذ التمسك بالعام في الفرض يكون من قبيل التمسك به في
الشبهة المصداقية للخاص، وقد حقق في محله عدم جوازه.
الثاني: ما ذكره الفقيه الهمداني (قدس سره) (1) من استصحاب جواز الصلاة في الثوب
قبل طريان هذا الدم المردد بين المعفو وبين غيره من الدماء، حيث كانت الصلاة فيه
قبله جائزة يقينا، فيستصحب ذلك الجواز، والنتيجة هو العفو وصحة الصلاة.
وقد أورد عليه بعض الأعاظم (قدس سره): بأن موضوع جواز الصلاة إنما هو الثوب
الطاهر، لا ذات الثوب، وقد ارتفعت الطهارة بعروض الدم، وعليه، فلا حالة سابقة
لجواز الصلاة في الثوب المتنجس بالدم المشكوك حتى نستصحبه. (2)
وفيه: أن الجواز المذكور لم يكن مستندا إلى الطهارة كي ينتفي بارتفاعها، بل
كان مستندا إلى عدم المانع، وتنجس الثوب بالدم المردد لا يكون مقطوع المانعية حتى
يرفع الجواز المتيقن السابق، إذ المفروض: تردد الدم بين المعفو وغيره، فيستصحب
الجواز المشكوك بقاءا.

(1) كتاب الطهارة من مصباح الفقيه، ص 596، حيث قال: " لو تردد الدم الذي رآى في
الثوب بين كونه مما عفي عنه أو من دم الحيض ونحوه، استصحب جواز الصلاة في الثوب ".
(2) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 309.
317

[...]
وإن شئت فقل: إن الجواز لا يكون مستندا إلى خصوص الطهارة، بل مستند
إليها أو إلى عدم وجود الدم المساوي للدرهم أو الأكثر، أو إلى عدم الدم غير المعفو
مطلقا، وعليه، لا يلزم انتفاء الجواز بانتفاء الطهارة، بل يقال: إن الجواز كان قبل
طريان الدم المردد، متيقنا، فبعد طريانه شك في بقاءه، فيستصحب بلا إشكال، هذا ما
أفاده شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره). (1)
وأنت ترى، أنه راجع إلى عدم المنع من جريان الاستصحاب الحكمي وهو
جواز الصلاة.
ولكن يمكن أن يقال: بعدم المنع من جريان الاستصحاب الموضوعي في
المقام، أيضا.
بتقريب: أن موضوع الجواز ليس هو الثوب الطاهر، ولا ذات الثوب مطلقا،
بل الموضوع هو الثوب غير المتنجس بنجاسة غير معفوة، لما عرفت آنفا، فإذا نقول:
هذا الثوب لم يكن سابقا متنجسا بتلك النجاسة قطعا، والآن كما كان.
الثالث: استصحاب عدم كون الدم الطاري حيضا - مثلا - من باب العدم
الأزلي، ومعه لا مجال لاستصحابي الحكمي والموضوعي المتقدمين، إذ هو أصل
موضوعي آخر حاكم عليهما وإن كان موافقا لهما في النتيجة.

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
318

[...]
تقريبه: أن الدم قبل وجوده لم يكن متصفا بالحيضية قطعا، فإذا شك بعد
وجوده، في كونه باقيا على عدم الإتصاف أو متصفا بها، يستصحب عدم الإتصاف
بنحو العدم الأزلي، كاستصحاب عدم اتصاف المرأة بالقرشية، من باب عدم
الإتصاف، لا الاتصاف بالعدم.
وبالجملة: موضوع أدلة العفو هو الدم الأقل الذي ليس بحيض، فهو مركب
من جزئين، أحدهما: الدم الأقل، ثانيهما: عدم كونه حيضا، والأول: محرز
بالوجدان، والثاني: محرز بالتعبد والأصل، ومقتضى هذا الأصل هو العفو، ولك أن
تقول: موضوع العفو هو الدم الأقل غير المتصف بالحيضية، لا المتصف بعدم
الحيضية، وإلا لم يجر الاستصحاب لعدم الحالة السابقة لذلك، واستصحاب عدم
الحيضية بنحو العدم المحمولي، الذي له حالة سابقة لا يثبت الإتصاف بعدم الحيضية و
هو العدم النعتي، إلا على القول بحجية الأصل المثبت، وهذا ممنوع، كما قرر في
الأصول.
الرابع: أصالة البراءة العقلية والنقلية، إما عن وجوب إزالة الدم المشكوك و
تطهيره، أو عن مانعية نجاسته، أو عن شرطية طهارة الثوب عنه.
وعليه: فلا مجال لجريان قاعدة الإشتغال، إذ مع جريان البراءة لايبقى الشك
في الفراغ وبراءة الذمة حتى يحتاج إلى اليقين بالفراغ بالاحتياط.
وفيه: أن منشأ الشك في مانعية نجاسة الدم المشكوك، وكذا في شرطية طهارة
الثوب عنه هو الشك في أن هذا الدم، هل يكون حيضا أم لا؟ وهذا مجرى لاستصحاب
عدم الحيضية بنحو العدم الأزلي، كما عرفت آنفا، ومعه لا مجال لإجراء البراءة.
319

[...]
اللهم إلا أن يقال: بعدم اعتبار هذا النوع من الاستصحاب، فلا إشكال حينئذ
في إجراء البراءة، عقلية كانت أو نقلية. هذا كله في الصورة الأولى.
وأما الصورة الثانية: وهي أن يشك في أن الدم، هل هو بقدر الدرهم، أو
أقل منه؟ وهذه هي الشبهة الموضوعية للدم المعفو، فالحكم فيها هو عدم العفو، و
هذا لاكلام فيه، إنما الكلام في وجهه، فيمكن أن يكون هو التمسك بعموم المنع.
وفيه: أن المورد شبهة مصداقية للمخصص، وهو عموم العفو، والتحقيق
- كما أشرنا - عدم جواز التمسك بالعام فيها.
ويمكن أن يكون وجهه، كما عن بعض الأعاظم (قدس سره) (1) هو استصحاب العدم
الأزلي، بتقريب: أن موضوع العفو حيث كان أمرا وجوديا وهو الدم الأقل من
الدرهم، فإذا شك في أقليته من الدرهم مع كونها مسبوقة بالعدم الأزلي، يستصحب
ذلك العدم، والنتيجة هو عدم العفو.
ولكن للتأمل فيه مجال واسع، إذ لقائل أن يقول: إن هذا الاستصحاب
يعارض باستصحاب عدم أكثرية الدم من الدرهم، أو عدم تساويه معه، عدما أزليا،
إذ المفروض: أن الأكثرية والتساوي - أيضا - مسبوقان بالعدم الأزلي وأنهما
موضوعان للأثر الشرعي وهو عدم العفو، فإذا نتيجة هذا الاستصحاب هو العفو.
نعم، لو قيل: إن موضوع العفو هو الأمر العدمي وهو عدم كون الدم قدر

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 311.
320

[...]
الدرهم، أو أكثر، فلا مانع من إثباته بإجراء استصحاب عدم كون الدم قدر الدرهم أو
أكثر، عدما أزليا.
ولكن يشكل عليه: بأنه خلاف ظاهر الروايات، بل الظاهر منها هو أن
موضوع العفو أمر وجودي، كما لا يخفى على من راجع إليها.
ثم إنه لو سلم أن شيئا من الأمر الوجودي والعدمي لم يستظهر من الروايات،
بل هي مجملة من هذه الجهة، فلا محيص حينئذ عن الرجوع إلى أصالة البراءة
كالصورة الأولى، والنتيجة هو العفو، أيضا.
فتحصل: أن عدم العفو في الصورة الثانية، إما مستند إلى الأصل اللفظي
الإجتهادي وهو عموم المنع، بناءا على جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية
للمخصص، وقد أشير إلى أنه خلاف التحقيق، أو إلى الأصل العملي الفقاهي وهو
الاستصحاب، بناءا على أن موضوع العفو أمر وجودي وهو الدم الأقل من الدرهم.
وأما العفو فيها، فهو إما مستند إلى استصحاب العدم الأزلي، بناءا على أن
موضوع العفو أمر عدمي وهو عدم كون الدم قدر الدرهم، أو إلى أصالة البراءة من
العقلية والنقلية، كما عرفت في الصورة الأولى.
ثم إن المصنف (قدس سره) بعد الإحتياط بعدم العفو في الصورة الثانية، استثنى ما إذا
كان الدم مسبوقا بالأقلية وشك في زيادته، فيحكم فيه بالعفو.
والوجه فيه، واضح، إذ يجري استصحاب الأقلية، أو استصحاب عدم
الزيادة في الفرض بلا شبهة، كما يجري استصحاب الكثرة، أو استصحاب عدم القلة
لو كان الدم مسبوقا بالكثرة وعدم الأقلية.
321

(مسألة 4): المتنجس بالدم، ليس كالدم في العفو عنه إذا كان أقل
من الدرهم. *
(مسألة 5): الدم الأقل إذا أزيل عينه، فالظاهر بقاء حكمه. * *]
المتنجس بالدم
* قد عرفت: حكم هذه المسألة مما حقق في المسألة الثانية، من اختصاص
دليل العفو بالدم، فلا يتعدى منه إلى المتنجس به.
زوال عين الدم
* * ذهب العلامة (قدس سره) إلى أنه لافرق في العفو عن الدم الأقل بين أن تبقى
عينه، أو تزول (1)، وهذا هو الصحيح، بلا كلام فيه.
إنما الكلام في مدركه، فعن بعض الأعاظم (قدس سره) (2) أنه يدل عليه أمران:
أحدهما: الأولوية القطعية.

(1) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام، ج 1، ص 288، حيث قال: " ولو زالت عين الدم بما
لا يطهرها، فالأقرب جواز الصلاة، لجوازها مع بقاء العين وبزوالها يخف الحكم، فيكون أولى ".
(2) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 315.
322

[...]
بتقريب: أنه لا يحتمل كون بقاء عين الدم شرطا في العفو، وذلك، لأن
المستفاد من أدلة العفو هو عدم مانعية الدم الأقل من الدرهم في الصلاة، لا شرطية
بقاء عين الدم في العفو، فنقطع بأولوية العفو عند زوال العين.
هذا، ولكن للتأمل فيه مجال، كما سيأتي وجهه عند ذكر مقالة شيخنا الأستاذ
الآملي (قدس سره).
ثانيهما: إطلاق صحيحة ابن أبي يعفور (1) المتقدمة، بلا تفصيل فيها بين زوال
عين الدم قبل الصلاة بيبوسة وجفاف، أو بفرك ودلك، وبين بقاءها، هذا هو العمدة
في دليل المسألة.
ثم إن لشيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) في توضيح المسألة كلاما لا يخلو ذكره عن
الفائدة، قال (قدس سره): إن الدم الأقل المصيب بثوب المصلي له جهتان:
الأولى: جهة المحمولية، فهو محمول نجس في الصلاة.
الثانية: جهة المنجسية للثوب، فهو منجس لثوب المصلي والثوب متنجس
به، ولا شبهة في تكفل أدلة العفو لهاتين الجهتين، إذ الدم المصيب للثوب اخذ في أدلة
العفو، ومن المعلوم: ملازمته لتنجيسه وتنجسه به قهرا، هذا لا إشكال فيه.
إنما الإشكال في أن العفو، هل يكون أولا وبالذات متوجها إلى الدم من حيث
كونه محمولا نجسا، ويكون العفو عن تنجس اللباس ثانيا وبالعرض، أو يكون الأمر

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 20 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1026.
323

[...]
بالعكس، أو يكون العفو متوجها إلى كلتا الجهتين معا وبالأصالة؟ وجوه، والظاهر
هو الثاني وأن العفو متوجه أولا وبالذات إلى منجسية الدم وتنجس الثوب به، ولذا
ذكر في الصحيحة المتقدمة: " فينسى أن يغسله، فيصلي " وعلى هذا، فلا شأن في العفو
لبقاء عين الدم، بل بقاءه وزواله سيان.
نعم، لو كان العفو متوجها أولا وبالأصالة إلى جهة محمولية الدم، وكان العفو
عن المنجسية ثانيا وبالتبع ومن باب الملازمة القهرية، كان للشك في بقاء العفو بعد
زوال العين مجال، إذ من المحتمل حينئذ دخل وجود الدم ثبوتا في العفو، كما يكون
موضوعا إثباتا، وعليه: لا مجال لدعوى الأولوية القطعية، على أن الأولوية لو كانت
تامة مجدية، فلم لم يتمسك بها في المسألة الرابعة، بل قيل (1): هناك بكونها قاعدة
استحسانية، لا دليل على اعتبارها. (2)
وأنت ترى، أن مقتضى هذا الكلام هو أن دليل الأولوية إنما يتم في بعض
الفروض دون بعض. وعليه: فالدليل المعتمد في المسألة هو خصوص إطلاق صحيحة
ابن أبي يعفور المتقدمة.
ومن هنا ظهر أنه لا حاجة لإثبات العفو في فرض زوال العين، إلى التمسك
بالاستصحاب.

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 314.
(2) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم، هذا ما أفاد شيخنا الأستاذ (قدس سره) ولكن فيه، ما لا يخفى:
إذ بين الأولويتين فرق واضح، حيث إن هناك دما ورطوبة خارجية، وهنا دم فقط، إما مع العين أو
بدونها.
324

[...]
بتقريب: أن العفو كان ثابتا قبل زوال عين الدم قطعا، ومع الشك في بقاءه
بعد زوالها يستصحب.
وجه الظهور هو ما تقرر في محله، من أنه لا مجال لإجراء الأصل فيما يدل عليه
الدليل اللفظي.
هذا، ولكن أجاب السيد الحكيم (قدس سره) عن هذا الاستدلال أولا: بأن
الاستصحاب تعليقي، وثانيا: بأن المرجع هنا هو عموم المنع، لكون المقام من موارد
دوران الأمر بين الرجوع إلى العام، أو استصحاب حكم المخصص، والمتعين هو الأول
دون الثاني. (1)
وفيه: أما الاستصحاب فلأنه إنما يكون تعليقيا، بناءا على تقريبه، بأنه لو كان
صلى في الثوب المذكور قبل زوال العين، لكانت جائزة صحيحة، والآن، كما كان، و
أما بناءا على تقريبه بالنحو المتقدم، أو بأن هذا الثوب المصاب بالدم - مثلا - كان قبل
زوال عينه مما تجوز فيه الصلاة، والآن، كما كان، أو بأن المانعية لم تكن قبل زوال
العين، والآن، كما كان، يكون تنجيزيا، فالجواب عن الاستصحاب هو ما ذكرنا آنفا.
وأما الرجوع إلى عموم المنع عند الدوران المذكور، فهو على ما قرر في محله،
إنما يتم فيما إذا كان للعام عموم أزماني، ثم خصص في زمان فشك بعده في بقاء ذلك
الحكم العام حسب عمود الزمان، نظير عموم قوله تعالى: * (أوفوا بالعقود) *. (2) م

(1) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 579.
(2) سورة المائدة (4)، الآية (1).
325

(مسألة 6): الدم الأقل إذا وقع عليه دم آخر أقل ولم يتعد عنه، أو
تعدى وكان المجموع أقل، لم يزل حكم العفو عنه. *
]
حيث إنه خصص بالعقد الغبني في الآن الأول بحكم دليل خيار الغبن، فإذا شك
في بقاء هذا الخيار بعد ذلك الآن وزوال الفورية، فالمرجع عندئذ هو العموم
لا استصحاب بقاء الخيار الثابت قطعا في الآن الأول، وأما في المقام، فليس الشك في
بقاء حكم العام حسب عمود الزمان، بل الشك إنما جاء من ناحية زوال عين الدم
الأقل الذي كان هو الموضوع لدليل العفو، فلا يرجع هنا إلى عموم المنع، بل المرجع
إطلاق دليل العفو المخصص، ونتيجته ثبوت العفو مطلقا، بقيت عين الدم، أو زالت، و
كيف كان، فتفصيل الأمر موكول إلى غير المقام.
وقوع دم آخر على الدم الأقل
* والحكم ببقاء حكم العفو في فرض المسألة إنما يتم، بناءا على أن المعيار في
تحديده سعة الدرهم لاوزنه، كما تقدم تحقيقه في المسألة الأولى، وقد مضى بعض
الكلام المناسب للمقام هناك.
326

(مسألة 7): الدم الغليظ الذي سعته أقل عفو، وإن كان بحيث لو كان
رقيقا صار بقدره أو أكثر. *
(مسألة 8): إذا وقعت نجاسة أخرى كقطرة من البول - مثلا - على
الدم الأقل بحيث لم تتعد عنه إلى المحل الطاهر، ولم يصل إلى الثوب - أيضا -
هل يبقى العفو أم لا؟ إشكال، فلا يترك الإحتياط. * *
]
الدم الغليظ الأقل
* جعل المصنف (قدس سره) الدم الغليظ الأقل من الدرهم، من مصاديق الدم المعفو
مطلقا وإن بلغ قدر درهم أو أكثر لو صار رقيقا، وهذا هو الحق، وذلك، لأن المدار
في تحديد العفو على السعة الفعلية، لا التقديرية.
نعم، عفو بعض فروض الغلظة الذي لا يكون سعة الدم فيه قدر الدرهم، محل
إشكال، بل يمكن دعوى انصراف أدلة العفو عنه، كما أشير إليه في المسألة الأولى.
وقوع نجاسة أخرى على الدم
* * قد أشكل المصنف (قدس سره) على العفو في فرض وقوع قطرة من البول - مثلا -
على الدم نفسه، بلا سراية إلى الموضع المتنجس من الثوب، وبلا تعد إلى الموضع
الطاهر منه.
327

[...]
ولكن الحق أن يقال: إنه مع جفاف تلك النجاسة الطارئة، لا مانع من الحكم
بالعفو، لعدم تنجس عين النجس ثانيا كي يقال: العفو عن الدم إنما يكون من ناحية
النجاسة الدموية، وأما من ناحية نجاسة البول، فلا عفو، ولعدم السراية إلى الثوب،
كما هو المفروض.
هذا، ولكن ربما يقال: إن نجاسة البول في الفرض وإن لم تقدح في العفو، إلا
أنها تقدح في الصلاة من جهة لزوم حمل النجس فيها عندئذ.
وفيه: أن الكلام إنما هو في صورة جفاف البول، وعلى هذا لا تبقى عين
النجاسة كي يلزم محذور حمل النجس في الصلاة، مضافا إلى أن في فرض عدم
الجفاف - أيضا - لا يلزم محذور في الحمل، بناءا على القول بجواز حمل النجس في
الصلاة، كما هو الحق.
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) جعل للمسألة ثلاث صور:
إحداها: ما هو المتن.
ثانيتها: ما إذا وقعت قطرة من البول - مثلا - على غير المحل المتنجس، و
حكم فيها بارتفاع العفو عن الصلاة فيه بلا إشكال، معللا باختصاص العفو بالنجاسة
الدموية، لاغيرها من سائر النجاسات.
ثالثتها: ما إذا وقعت على نفس الموضع المتنجس من الثوب ولم تتعد عنه، و
حكم فيها - أيضا - بعدم العفو. (1)

(1) راجع، التنقيح في شرح العروة الوثقى: ج 2، ص 459.
328

[...]
وأنت ترى: أن هاتين الصورتين الأخيرتين خارجتان عن فرض المسألة،
فلاينبغي أن تجعلا من صورها.
أما الصورة الثانية، فلأن خروجها واضح، مضافا إلى أنه لا معنى لارتفاع
العفو في هذه الصورة، إذ الدم الأقل معفو لا تجب إزالته، والنجس الآخر غير معفو
رأسا.
وأما الصورة الثالثة، فلأن المفروض في المسألة وقوع نجاسة أخرى على
الدم الأقل، غاية الأمر: إما تنفذ وتصل إلى الثوب، أو لا، وأما وقوعها على نفس
الموضع المتنجس بلا واسطة، فلا يمكن إلا مع زوال عين الدم والنجاسة، وحكمه
واضح وهو عدم العفو.
وكيف كان، النجس الآخر النافذ الواصل إلى الثوب إن كان دما - مثلا -
فالحكم هو العفو ما لم يبلغ المجموع قدر الدرهم، وإلا فلاعفو، وإن كان غيره كالبول
- مثلا - الذي له نجاسة أغلظ من الدم، بل مطلقا، فالظاهر عدم العفو.
329

الثالث: ما لا تتم فيه الصلاة
الرابع: المحمول المتنجس إذا لم تتم فيه الصلاة
الخامس: ثوب المربية
إلحاق البدن بالثوب في العفو
إلحاق المربي بالمربية في العفو
السادس: النجاسة حال الاضطرار
331

الثالث: مما يعفى عنه، ما لا تتم فيه الصلاة من الملابس، كالقلنسوة، و
العرقچين، والتكة، والجورب، والنعل، والخاتم، والخلخال، ونحوها،
بشرط أن لا يكون من الميتة، ولامن أجزاء نجس العين، كالكلب وأخويه،
]
الثالث: ما لا تتم فيه الصلاة
والكلام هنا يقع في موردين:
أحدهما: فيما إذا كان ما لا تتم فيه الصلاة من الملابس - كالأمثلة المذكورة في
المتن - نجسا بالعرض، كما إذا تنجس بالبول مثلا.
وثانيهما: فيما إذا كان نجسا بالذات، كما إذا صنع من أجزاء الكلب والخنزير
والميتة.
أما الأول: فيحكم فيه بالعفو، بلا خلاف، بل ادعى عليه الإجماع جملة من
الأعلام، منهم: السيد المرتضى (قدس سره) (1) والشيخ الطوسي (قدس سره) (2) والحلي (قدس سره) (3)

(1) الإنتصار في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية، ج 3، ص 194، حيث قال: " ومما انفردت
الإمامية به، جواز صلاة من صلى وفي قلنسوته نجاسة... والوجه في ذلك، الإتفاق المتقدم ذكره ".
(2) كتاب الخلاف، ج 1، ص 163 و 164، حيث قال: " كلما لا تتم به الصلاة منفردا، لا بأس
بالصلاة فيه وإن كان فيه نجاسة... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ".
(3) كتاب السرائر، ج 1، ص 263 و 264، حيث قال: " وما لا تتم الصلاة فيه من جميع
الملابس وما ينطلق عليه اسم الملبوس منفردا، كالتكة... تجوز الصلاة فيه وإن كان عليه النجاسة،
وأما ما لا يكون ملبوسا... لا تجوز الصلاة فيه إذا كان فيه نجاسة... والأول خرج بالإجماع من
الفرقة على ذلك ".
333

[...]
والعلامة (قدس سره) في ظاهر قوله. (1)
على أنه تدل عليه عدة من النصوص:
منها: موثقة زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة
وحده، فلا بأس بأن يكون عليه الشئ، مثل القلنسوة والتكة والجورب ". (2)
بتقريب: أن الظاهر من كلمة: " الشئ " هو النجس، فمقتضى نفي البأس عنه
هو العفو عما لا تتم فيه الصلاة إذا كان نجسا بالعرض، كما أن مقتضى كلمة: " كل " في
قوله (عليه السلام): " كل ما كان لا تجوز فيه الصلاة " هو أن هذا الحكم يعم جميع ما يكون من
قبيل ما لا تتم فيه الصلاة، بلا اختصاص بالأشياء المذكورة، وإنما هي من باب المثال.
ومنها: روايته، قال: " قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) إن قلنسوتي وقعت في بول،
فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت، فقال: لا بأس ". (3)
هذه الرواية صريحة في الدلالة على المطلوب، كما لا يخفى.
ومنها: مرسل عبد الله بن سنان، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
" كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه وحده، فلا بأس أن يصلى فيه

(1) تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 96، حيث قال: " كل ما لا تتم الصلاة فيه منفردا كالتكة... تجوز
الصلاة فيه وإن كان نجسا، ذهب إليه علماءنا ".
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 1،
ص 1045.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 3،
ص 1046.
334

[...]
وإن كان فيه قذر، مثل القلنسوة والتكة والكمرة والنعل والخفين وما أشبه
ذلك ". (1)
ومنها: مرسل حماد بن عثمان، عمن رواه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) " في الرجل
يصلي في الخف الذي قد أصابه القذر، فقال: إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة،
فلا بأس ". (2)
ومنها: مرسل إبراهيم بن أبي البلاد، عمن حدثهم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
" لا بأس بالصلاة في الشئ الذي لا تجوز الصلاة فيه وحده، يصيب القذر، مثل
القلنسوة والتكة والجورب ". (3)
هذه الروايات - كما ترى - ظاهرة بل صريحة في الدلالة على عفو ما لا تتم
فيه الصلاة إذا كان نجسا بالعرض، فلاينبغي الإشكال عليها، لا من ناحية الدلالة
- في بعضها كموثقة زرارة المتقدمة - بأنها مجملة، لا يعلم المراد من قوله (عليه السلام): " يكون
عليه الشئ " أو بأن المراد منه حمل القذر أو حمل مانع آخر، لا القذارة في الأشياء
المذكورة، ولا من ناحية السند - في بعضها الاخر - لانجبارها بعمل الأصحاب بها
قديما وحديثا.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 5، ص 1046.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 2، ص 1045.
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 4،
ص 1046.
335

[...]
ولنعم ما أفاده الإمام الراحل (قدس سره) حيث قال: " لكن الإنصاف عدم ورود
الإشكال بشئ، مع استفاضة الروايات وعمل الأصحاب بها قديما وحديثا، لا في
الأسناد، ولا في دلالة الموثقة... والتشكيك فيه وسوسة، ولهذا لم يعهد من أحد
الإشكال فيها من هذه الجهة ". (1)
أما الثاني: (ما إذا كان نجسا بالذات).
فنقول: أما المصنوع من أجزاء الميتة، فالحق فيه عدم العفو، ووجهه ظهور
الروايات الواردة في المقام، بل صراحتها في النجاسة العرضية، والتعدي عنها إلى
النجاسة الذاتية، لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، كما هو مقتضى الروايات
الخاصة والعامة الدالة على المنع من الصلاة فيما لا تتم فيه إذا كان من الميتة.
أما الخاصة، فكصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن الرضا (عليه السلام) قال:
" سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف، لا يدري أذكي هو أم لا؟ ما تقول في
الصلاة فيه وهو لا يدري؟ أيصلي فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخف من السوق و
يصنع لي وأصلي فيه، وليس عليكم المسألة ". (2)
تقريب الدلالة: هو أن الإمام (عليه السلام) حكم بجواز الصلاة في مثل الخف إذا

(1) كتاب الطهارة: ج 3، ص 402.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 6،
ص 1072.
336

[...]
لم يعلم أنه صنع من الميتة، ولا ريب، أن مقتضى هذا الحكم هو نفي الجواز في فرض
العلم، كما هو مفروض الكلام.
وكموثقة سماعة بن مهران: " أنه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن تقليد السيف في
الصلاة وفيه الفراء والكيمخت، فقال: لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة ". (1)
وكرواية علي بن أبي حمزة: " أن رجلا سأل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده، عن
الرجل يتقلد السيف ويصلي فيه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إن فيه الكيمخت، قال: وما
الكيمخت؟ قال: جلود دواب، منه ما يكون ذكيا، ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما
علمت أنه ميتة، فلا تصل فيه ". (2)
تقريب دلالتهما على المدعى، واضح.
وأما الروايات العامة، فكصحيحة ابن أبي عمير، عن غير واحد عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في الميتة، قال: " لاتصل في شئ منه، ولا في شسع ". (3)
فإنها تدل على المنع من الصلاة في جزء من أجزاء الميتة مطلقا، ولو كان من
قبيل شسع النعل، فلا إشكال فيها من جهة الدلالة، كما لا إشكال فيها من جهة السند،
أيضا، وذلك، لأن نقل ابن أبي عمير من غير واحد من الأصحاب، يقتضي

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 12،
ص 1073 و 1074.
(2) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 50 من أبواب النجاسات، الحديث 4، ص 1072.
(3) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب لباس المصلي، الحديث 2، ص 249.
337

[...]
صدور الرواية من المعصوم (عليه السلام) فلا تكون بمرسلة.
نعم، هنا روايتان قد يقال: بدلالتهما على العفو عما لا تتم فيه الصلاة ولو كان
نجسا بالذات.
إحديهما: رواية الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " كل ما لا تجوز الصلاة فيه
وحده، فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكة الإبريسم والقلنسوة والخف والزنار يكون
في السراويل ويصلى فيه ". (1)
وجه الدلالة هو أن لفظ: " الخف " مطلق، يشمل ما إذا كان من الميتة، بل يمكن
دعوى: أن الإمام (عليه السلام) كان في مقام إلغاء الخصوصية، وأن ما لا تتم فيه الصلاة
لا بأس به مطلقا، سواء كان نجسا بالذات، أو بالعرض، أو كان من قبيل الإبريسم -
كما هو مقتضي قوله (عليه السلام): " مثل التكة الإبريسم " فكانه (عليه السلام) قال: كل ما يكون مانعا
من جهة النجاسة الذاتية أو العرضية، أو من جهة أخرى، ككونه من الإبريسم، أو مما
لا يؤكل لحمه، فهو إذا كان بقدر ما لا تتم فيه الصلاة، لا يكون بمانع.
ثانيتهما: موثقة إسماعيل بن الفضل، قال: " سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لباس
الجلود والخفاف والنعال والصلاة فيها إذا لم تكن من أرض المصلين، فقال: أما النعال
والخفاف، فلا بأس بهما ". (2)

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 14 من أبواب لباس المصلي، الحديث 2،
ص 273.
(2) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 38 من أبواب لباس المصلي، الحديث 3، ص 310.
338

[...]
بتقريب: أن الإمام (عليه السلام) نفى البأس عن الصلاة في مثل النعال والخفاف مما
لا تتم فيه الصلاة، مع تركه (عليه السلام) الاستفصال بين ما إذا كانتا نجستين بالعرض، وما إذا
كانتا نجستين بالذات، ولا ريب: أن مقتضاه عموم العفو بالإضافة إلى ما لا تتم فيه
الصلاة حتى في فرض كونه نجسا بالذات.
على أنه يمكن أن يقال: إن السؤال في الموثقة ناظر إلى صورة ما إذا صنع ما
لا تتم فيه الصلاة من أجزاء الميتة، وذلك، لأن المراد من كلمة: " المصلين " في قول
السائل: " إذا لم تكن من أرض المصلين " هم المسلمون، فكانه سأل عن الصلاة فيما إذا
كان من أرض الكفر، ومن المعلوم: أن ما يجلب من بلاد الكفر محكوم بعدم التذكية،
فيكون ميتة، فقوله (عليه السلام): " لا بأس بهما " أيضا، محمول على هذه الصورة، كما لا يخفى،
فالموثقة إذا تدل على جواز الصلاة في الميتة إذا كان مما لا تتم فيه الصلاة، بالخصوص،
لا بالعموم.
وعليه: تقع المعارضة بين هاتين الروايتين، وبين الروايات المانعة المتقدمة، و
لابد من العلاج بينهما، فقد ذكر للجمع بينهما وجوه (1) ضعيفة لا يمكن الإعتماد عليها.
والظاهر استقرار المعارضة، فالمرجع بعد التساقط، عموم المنع من الصلاة في
النجس، أو إطلاقه الشامل لما لا تتم فيه الصلاة - أيضا - وقضية ذلك، هو المنع من
الصلاة في الميتة ولو كان مما لا تتم فيه. هذا كله بالنسبة إلى المصنوع من أجزاء الميتة.

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 325 و 326.
339

[...]
وأما المصنوع من أجزاء نجس العين، كالكلب والخنزير، فالوجه في عدم
جواز الصلاة فيما لا تتم فيه إذا كان منها، هو ما تقدم: من أن الروايات الواردة في
العفو، لا تعم النجاسة الذاتية، مع أن الكلب والخنزير مندرجان تحت عنوان
ما لا يؤكل لحمه، وهو مانع مستقل، ومن المستبعد جدا، أن يعفى عن جزء ما لا يؤكل
مع كونه نجس العين، ولا يعفى عنه إذا كان طاهر العين، كما أفاده شيخنا الأستاذ
الآملي (قدس سره). (1)
ومن هنا ظهر ضعف ما عن السيد الحكيم (قدس سره): من الاستدلال على خروج
الكلب والخنزير، عن أدلة العفو بصدق عنوان الميتة عليها، معللا بعدم قبول نجس
العين للتذكية. (2)
وجه ظهور الضعف هو أولا: أنه لا يعتبر الموت في مانعية أجزاء نجس العين،
بل هي مانعة ولو كانت مبانة من الحي، وثانيا: أن أجزاءه التي لا تحلها الحياة
كالشعر، لا يصدق عليه عنوان الميتة، ولا تعرضها بالموت نجاسة أخرى غير النجاسة
الذاتية.
وعليه: فلو كانت أجزاء نجس العين مانعة من الصلاة، لم يكن منعها من
ناحية صدق عنوان الميتة عليها، بل إنما هو من ناحية نجاستها الذاتية وكونها من
أجزاء ما لا يؤكل لحمه.

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
(2) راجع، مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 582.
340

والمناط عدم إمكان الستر بلا علاج، فإن تعمم أو تحزم بمثل
الدستمال مما لا يستر العورة بلا علاج، لكن يمكن الستر به بشدة بحبل أو
بجعله خرقا، لا مانع من الصلاة فيه، وأما مثل العمامة الملفوفة التي تستر
العورة إذا فلت، فلا يكون معفوا، إلا إذا خيطت بعد اللف بحيث تصير
مثل القلنسوة.
]
المناط في ما لا تتم فيه الصلاة
تعرض المصنف (قدس سره) في المتن: أن المناط في ما لا تتم فيه الصلاة هو عدم إمكان
الستر بالفعل ولو مع تغيير هيئته، وأخرج منه ما كان مثل العمامة الملفوفة، حيث إنها
كانت ساترة مع تغيير هيئتها كما إذا فلت.
فنقول في توضيحه: إنه يعفى عن مثل الجورب والتكة والقلنسوة ونحوها
من الأشياء الصغيرة التي لا يمكن الستر بها بالفعل ولو مع تغيير هيئته، إلا بالعلاج
بالخياطة أو الإنضمام أو الخرق أو نحوها، كما هو ظاهر عنوان: " ما كان لا تجوز فيه
الصلاة وحده " أو عنوان: " ما لا تتم فيه الصلاة " على ما ورد في موثقة زرارة، و
مرسلة حماد المتقدمتين.
وأما مثل العمامة الملفوفة المتعارفة في هذه الأعصار، فلا يعفى عنها، لكونها مما
تتم فيه الصلاة لو غيرت هيئتها من اللف إلى النشر، وهذا واضح.
341

[...]
نعم، تلحق العمامة الصغيرة بمثل القلنسوة والدستمال المتعمم به، إذ المفروض:
أنها لا تتم فيها الصلاة ولو بتغيير هيئتها.
ومن هنا ظهر: أنه لاوجه لما عن الصدوق (قدس سره) (1) من عد العمامة في جملة
ما يعفى عنه، كالقلنسوة والجورب، ونقله عن أبيه في الرسالة، أيضا (2)، معللا بأنه
لا تتم الصلاة في شئ من هذا وحده.
اللهم إلا أن يقال: إن مراد الصدوقين (قدس سرهما) هو العمامة الصغيرة كالعصابة - مثلا -
كما عن القطب الراوندي (قدس سره). (3)
ولقد أجاد صاحب الجواهر (قدس سره) فيما أفاده في المقام، حيث قال: " نعم، لا يلحق
بها العمامة قطعا وإن عدها منها في " الفقيه " تبعا للفقه الرضوي، لكونها مما تتم بها
الصلاة، فتبقى على أصالة الإزالة، اللهم إلا أن تحمل على عمامة لا تتم بها الصلاة ". (4)

(1) من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 42، حيث قال: " ومن أصاب قلنسوته أو عماته أو تكته
أو جوربه أو خفه، مني أو بول أو دم أو غائط، فلا بأس بالصلاة فيه، وذلك، لأن الصلاة لا تتم في
شئ من هذا وحده "، والمقنع: ص 14.
(2) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 337.
(3) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 337.
(4) جواهر الكلام: ج 6، ص 129.
342

الرابع: المحمول المتنجس الذي لا تتم فيه الصلاة، مثل السكين و
الدرهم والدينار ونحوها، وأما إذا كان مما تتم فيه الصلاة، كما إذا جعل
ثوبه المتنجس في جيبه - مثلا - ففيه إشكال، والأحوط الإجتناب، وكذا
إذا كان من الأعيان النجسة، كالميتة والدم وشعر الكلب والخنزير، فإن
الأحوط اجتناب حملها في الصلاة.
]
الرابع: المحمول المتنجس
الكلام في المحمول المتنجس يقع في ثلاثة موارد:
الأول: فيما لا تتم فيه الصلاة.
الثاني: فيما تتم فيه الصلاة.
الثالث: فيما يكون من الأعيان النجسة، كالميتة والدم وشعر الكلب والخنزير.
أما الأول: فالحق فيه هو العفو، سواء كان من الملابس كالجورب والقلنسوة
ونحوهما، أو من غيرها كالسكين والدرهم وغيرهما.
والعمدة في الاستدلال عليه هي الأولوية القطعية.
أما في الملابس، فيقال في تقريبها: أن ما لا تتم فيه الصلاة إذا كان معفوا حال
لبسه، كان معفوا عنه حال حمله بطريق أولى.
343

[...]
وأما في غيرها، فيقال في تقريبها: أن العفو عنه حال كونه من الملبوسات،
يستلزم العفو عنه حال كونه من المحمولات كالدرهم، بالأولوية.
وعليه: فلا حاجة في إثبات العفو في الفرض إلى دعوى إطلاق روايات العفو
الشامل للمحمول كالملبوس، حتى يورد عليه بانصرافها إلى خصوص الملبوس.
وقد يستدل - أيضا - على المقام برواية عبد الله بن سنان المتقدمة عمن أخبره،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " كل ما كان على الإنسان أو معه مما لا تجوز الصلاة فيه
وحده، فلا بأس أن يصلى فيه، وإن كان فيه قذر مثل القلنسوة والتكة والكمرة و
النعل والخفين وما أشبه ذلك ". (1)
تقريب الاستدلال هو أن قوله (عليه السلام): " أو معه " صريح في المحمول، والتمثيل
بالملبوسات، لا يوجب الإختصاص بها مع وجود هذه الصراحة وتلك الأولوية.
هذا، ولكن خالف في ذلك جملة من الأعلام، منهم: العلامة (قدس سره) (2) والشهيد
الأول (قدس سره) (3)، وذهبوا إلى عدم صحة الصلاة لو كان معه دراهم نجسة أو غيرها.

(1) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 31 من أبواب النجاسات، الحديث 5،
ص 1046.
(2) منتهى المطلب، ج 3، ص 260، حيث قال: " فلو كان معه دراهم نجسة أو غيرها لم تصح
صلاته "، ونهاية الإحكام في معرفة الأحكام: ج 1، ص 283.
(3) راجع، الحدائق الناضرة، ج 5، ص 336، حيث قال: " وما ذكره في المنتهى والنهاية وكذا
في البيان، من عدم صحة الصلاة لو كان معه دراهم نجسة أو غيرها ".
344

[...]
والإنصاف: أنه لا مستند لهم كي يعتمد عليه، كما عن صاحب الحدائق (قدس سره)،
حيث قال بعد الإشارة إلى هذا القول، ما هذا لفظه: " لا أعرف له وجها، ولا عليه
دليلا ". (1)
أما المورد الثاني: فالظاهر أنه يحكم فيه بالعفو وجواز الصلاة معه كالمورد
الأول، والسر فيه ما أشار إليه صاحب الحدائق (قدس سره) من: " أن غاية ما يفهم من الأدلة
إشتراط صحة الصلاة بطهارة ثوب المصلي، يعني: ملبوسه، شاملا كان للبدن أو غير
شامل، وأما محموله سيما مثل الدراهم ونحوها، فأي دليل دل على اشتراط صحة
الصلاة في طهارته ". (2)
ومن هنا ظهر: أنه لاوجه لما عن المصنف (قدس سره) من الإحتياط بالاجتناب في
فرض المسألة، بعد الاستشكال في الجواز.
أما المورد الثالث: فالصواب فيه هو الحكم بالعفو وجواز الصلاة معه
- أيضا - إلا إذا كان المحمول من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فلا يعفى عنه حينئذ.
والوجه فيما ذكرنا: ما أشير إليه آنفا، من عدم الدليل على اشتراط صحة
الصلاة بطهارة المحمول، فإذا لا مانع من حمل الأعيان النجسة فيها، كما إذا وضع قارورة
فيها الدم في جيبه حال الصلاة، بل المرجع حينئذ هو الأصل المقتضي للجواز.

(1) الحدائق الناضرة: ج 5، ص 336.
(2) الحدائق الناضرة: ج 5، ص 336.
345

[...]
هذا، ولكن ذهب جمع من الأصحاب إلى القول بعدم العفو، منهم: الحلي (قدس سره) (1)
والعلامة (قدس سره) في أكثر كتبه (2) والشيخ الطوسي (قدس سره) (3).
ويمكن أن يستدل لهذا المسلك بروايات:
منها: صحيحة علي بن جعفر، قال: " سألته عن الرجل يمر بالمكان فيه العذرة،
فتهب الريح، فتسفى عليه من العذرة، فيصيب ثوبه ورأسه، يصلي فيه قبل أن يغسله؟
قال: نعم، ينفضه ويصلي، فلا بأس ". (4)
بتقريب: أن قوله (عليه السلام): " ينفضه " أمر وإنشاء على هيئة الإخبار، فيدل على
مانعية العذرة الواقعة على الثوب والرأس، والمورد - كما ترى - يكون من مصاديق
حمل العين النجسة.
وقد أجاب عنه شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره): بأن المفروض في السؤال، ليس هو

(1) كتاب السرائر، ج 1، ص 189، حيث قال: " فإن حمل قارورة فيها نجاسة مشدودة
الرأس بالشمع أو بالرصاص، فجعلها في كمه أو جيبه، بطلت صلاته، لأنه حامل النجاسة ".
(2) مختلف الشيعة، ص 63، حيث قال: " إذا حمل المصلي قارورة فيها بول أو نجاسة مشدودة
الرأس بالرصاص وشبهه، قال الشيخ... في المبسوط: تبطل صلواته، واختاره ابن إدريس (قدس سره)
وهو الأقوى، لنا أنه حامل نجاسة "، ونهاية الإحكام في معرفة الأحكام: ج 1، ص 284.
(3) المبسوط، ج 1، ص 94، حيث قال: " فإن حمل ما هو نجس مثل الكلب والخنزير و
الأرنب والثعلب، بطلت صلاته، وإن حمل قارورة فيها نجاسة مشدودة الرأس بالرصاص فجعلها
في كمه أو في جيبه، بطلت صلاته، لأنه حامل للنجاسة ".
(4) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 26 من أبواب النجاسات، الحديث 12،
ص 1036.
346

[...]
العلم بإصابة أجزاء العذرة للثوب والرأس، بل مجرد احتمالها، فيكون الأمر بالنفض
للتنزه والتنظف، ولا يستفاد منه الوجوب الشرطي، والمنع من حمل العين النجسة في
الصلاة، وإلا فالنفض لا يوجب العلم بزوال العذرة، بل مقتضى الاستصحاب هو
الحكم ببقاءها، فيجب الغسل. (1)
وفيه: أن مقتضى الصحيحة عكس ما أدعاه (قدس سره)، وذلك، لأن في قول السائل:
" فتهب الريح فتسفى عليه من العذرة، فيصيب ثوبه ورأسه " ظهورا تاما في العلم
بالإصابة، لا الإحتمال.
وعليه: فلاوجه لحمل النفض الظاهر في الوجوب على التنزه والتنظف.
وأما قوله (قدس سره): " أن النفض لا يوجب العلم بزوال العذرة " فضعفه ظاهر، إذ هو
وإن لم يوجب العلم واليقين المنطقي، إلا أنه يوجب العلم العادي والاطمينان بزوال
العذرة وخلو الثوب منها، وهذا المقدار من العلم كاف للمنع من جريان استصحاب
بقاء العذرة.
والحق في الجواب عن الاستدلال المذكور، هو ما أشار إليه جمع من
الأساطين (2) من أن الصحيحة أجنبية عن المقام، إذ المفروض فيها، هو المنع من

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
(2) كالسيد الحكيم (قدس سره)، في مستمسك العروة الوثقى: ج 1، ص 585، والإمام الراحل (قدس سره)، في
كتاب الطهارة: ج 3، ص 395، وبعض الأعاظم (قدس سره) في دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 342، و
شيخنا الأستاذ الآملي في تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
347

[...]
الصلاة في الثوب والبدن الملوثين بأجزاء العذرة الملتصقة بهما، وهذا من مصاديق
الصلاة في النجس دون حمله فيها.
وبعبارة أخرى: العين النجسة في فرض الصحيحة صارت لأجل الالتصاق
كجزء من اللباس، فكان نفس الملبوس يكون نجسا، والكلام هنا في حمل النجس و
كون العين النجسة حال الصلاة محمولة.
ثم إنه لو سلم، أن الصحيحة خالية عن الإشكال من جهة الدلالة على عدم
العفو عن حمل الأعيان النجسة في الصلاة، وأنها معارضة مع روايات العفو، لتقدمت
روايات العفو عليها، لكونها أظهر دلالة عليه، فتحمل الصحيحة على التنزه.
نعم، لو لم يعلم الترجيح لإحديهما على الأخرى، يصل الدور إلى تساقط
المتعارضتين، والمرجع عندئذ هو عموم المنع، والنتيجة عدم العفو.
ومنها: صحيحته الأخرى، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)... قال: " سألته
عن الرجل يصلي ومعه دبة من جلد الحمار أو بغل، قال: لا يصلح أن يصلي وهي
معه، إلا أن يتخوف عليها ذهابها، فلا بأس أن يصلي وهي معه... ". (1)
ومنها: صحيحة علي بن جعفر - أيضا - عن أخيه موسى (عليه السلام) في (حديث)
قال: " وسألته عن الرجل صلى ومعه دبة من جلد حمار وعليه نعل من جلد حمار
هل تجزيه صلاته؟ أو عليه إعادة؟ قال: لا يصلح له أن يصلي وهي معه، إلا أن

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 60 من أبواب لباس المصلي، الحديث 3،
ص 337.
348

[...]
يتخوف عليها ذهابا، فلا بأس أن يصلي وهي معه ". (1)
تقريب الاستدلال بهما: هو أن المراد من قول السائل: " ومعه دبة من جلد
حمار... " هي الدبة المصنوعة من جلد الميتة، والمراد من قوله (عليه السلام): " لا يصلح له " هي
الحرمة، فيحرم حمل العين النجسة في الصلاة، إلا حال الاضطرار كالخوف من السرقة.
وفيه: أنه لا دليل على حمل كلمة: " دبة " على المصنوعة من جلد الميتة، ولعل
السؤال إنما هو لأجل احتمال المنع عن حمل المصنوع من جلد الحمار في الصلاة، لاحتمال
منع أكله، إما بمعنى الكراهة، كما هو الموافق لمذهبنا، أو بمعنى الحرمة، كما هو الموافق
لمذهب العامة.
وبالجملة: إذا كان منشأ السؤال هو كراهة أكل لحم الحمار أو حرمته، فلا يبقى
المجال لحمل مورد السؤال على الدبة المصنوعة من جلد الحمار الميتة.
نعم، نقل الشيخ الأنصاري (قدس سره) (2) هذه الصحيحة بزيادة كلمة: " ميت " بعد
قول السائل: " من جلد حمار " ولعله سهو من قلمه الشريف، إذ المفروض: أنها
رويت بطرق ثلاثة، من الصدوق (قدس سره) والشيخ (قدس سره) والحميري (قدس سره) بلا ذكر هذه الكلمة،
هذا بالنسبة إلى كلمة: " دبة " الواردة في السؤال.
وأما كلمة: " لا يصلح " الواردة في الجواب، فهي غير ظاهرة في الحرمة، بل
ظاهرة في معنى عدم ملائمة حمل الدبة حال العبادة، إذ " الدبة " وعاء يوضع فيه

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 60 من أبواب لباس المصلي، الحديث 4، ص 337.
(2) كتاب الطهارة: ص 332.
349

[...]
الدهن أو الدبس أو الماء أو غيرها، فمن المستبعد جدا أن تكون مصنوعة من جلد
الميتة النجسة، فهذه قرينة على حمل كلمة: " لا يصلح له " على عدم ملائمة حمل الدبة
حال العبادة.
ولو سلم أن المراد من كلمة: " دبة " هي المصنوعة من جلد الميتة، أو سلم ثبوت
زيادة كلمة: " ميت " كما في نقل الشيخ الأنصاري (قدس سره) كانت النتيجة هو المنع وعدم العفو
من الحمل في خصوص الميتة، لافي كل عين نجسة، فيكون الدليل أخص من المدعى.
ومنها: صحيحة عبد الله بن جعفر، قال: " كتبت إليه، يعنى: أبا محمد (عليه السلام) يجوز
للرجل أن يصلي ومعه فأرة مسك؟ فكتب: لا بأس به إذا كان ذكيا ". (1)
بتقريب: أن السؤال فيها حيث كان عن فأرة المسك، فالضمير في الجواب و
هو قوله (عليه السلام) " لا بأس به "، راجع إلى الفأرة، لا إلى المسك، فتدل بمفهومها على أن
الفأرة إذا لم يكن ذكيا، ففي الصلاة معها بأس.
هذا، ولكن أشكل عليها الإمام الراحل (قدس سره) بأن فيها إجمالا وتشويشا،
لا ركون إليها في إثبات منع حمل العين النجسة في الصلاة، قال (قدس سره) ما محصله: إن
الضمير في قوله (عليه السلام): " إذا كان ذكيا " حيث إنه مذكر يحتمل عوده إلى الغزال الذي
يؤخذ منه الفأرة، فيدل على نجاسة ما يؤخذ من الميتة ومن الحي، بناءا على كون
الذكي، بمعنى: المذكى قبال الميتة، لكن هذا الإحتمال غير موجه ولا حجة فيه، ويحتمل

(1) وسائل الشيعة: ج 3، كتاب الصلاة، الباب 41 من أبواب لباس المصلي، الحديث 2،
ص 315.
350

[...]
عوده إلى المسك وكون الذكي، بمعنى: الطاهر قبال النجس، وهذا الإحتمال بعيد جدا،
لأن السؤال إنما هو عن الفأرة، فلا يناسب الجواب عن مسكها، ويحتمل عود الضمير
إلى الفأرة مع كون الذكي، بمعنى: الطاهر، وهذا الإحتمال بعيد، أيضا، لعدم موافقته
للغة، وبعد استعمال الذكي في الطاهر مجازا، بل المظنون قويا أن الذكي في مقابل الميتة
وبمعنى: المذكى، كما في سائر الروايات.
ثم قال (قدس سره) وعود الضمير إلى الفأرة، إما بأن الأمر بالتذكير والتأنيث سهل
يتسامح فيه، وإما بمناسبة كونه معه، فعاد إلى ما معه.
ثم أشاره (قدس سره) إلى أن الرواية مع احتمال عود الضمير إلى الفأرة، تدل على أن
للفأرة نوعين: ذكية وغيرها، لكن لا يستفاد منها أن أي قسم منها ذكي أو غير ذكي،
فمن المحتمل أن تكون بعد استقلالها وبلوغها وخروج الروح منها برفض الطبيعة،
صارت ذكية وتكون حالها حينئذ كالظفر والحافر، ويكون غير المذكى ما لم يبلغ إلى
هذه المرتبة وقطعت قبل أوان بلوغها إليها، ونحن لا نعلم حال الفأرة، فمن المحتمل أن
تكون هي، أو يكون نوع منها يتبدل ما في جوفها مسكا قبل تمام استقلالها، فهذا النوع
تذكيته بتذكية الغزال، لاعلى وجه الاستقلال. (1)
وفيه: تأمل، إذ لا يلزم أن يبين في الصحيحة، أن أي قسم من الفأرة م

(1) راجع، كتاب الطهارة، ج 3، ص 95 و 96.
351

(مسألة 1): الخيط المتنجس الذي خيط به الجرح يعد من المحمول،
بخلاف ما خيط به الثوب والقياطين والزرور والسفائف، فإنها تعد من
أجزاء اللباس، لاعفو عن نجاستها. *]
ذكي، وأي قسم منها غير ذكي، بل هذا موكول إلى تحقيق موضوعي وهو بيد
المكلف، لا الشرع الأنور.
نعم، هذه الصحيحة بعد تسليم دلالتها على المنع، إنما تدل على خصوص المنع
وعدم العفو عن الميتة، لا سائر الأعيان النجسة، فيكون الدليل أخص من المدعى.
الخيط المتنجس
* فرق المصنف (قدس سره) في المسألة بين الخيط المتنجس الذي خيط به الجرح،
فحكم بالعفو فيه، وبين الخيط المتنجس الذي خيط به الثوب وغيره مما أشار إليه في
المتن، فحكم بعدم العفو فيه، وهذا هو الحق:
والوجه فيه: أن الخيط في الفرض الأول لا يعد جزءا من البدن الذي هو
مركب من اللحم والجلد والشعر والعظم، بل يعد محمولا متنجسا يعفى عنه قطعا، كما
يعفى عنه قطعا إذا نبت عليه اللحم والتحق بالباطن، وإن لم يصدق عليه عنوان
المحمول، بل الأمر كذلك لو كان الخيط متخذا من عين نجسة.
352

[...]
وأما الخيط في الفرض الثاني، فهو يعد من أجزاء الثوب، فلا تجوز الصلاة معه،
بل تجب إزالته وتطهيره، وذلك، لصدق الصلاة في النجس حينئذ.
ثم إن هنا بعض أمور يعد من المحمول عقلا لاعرفا، كما إذا أكل النجس أو
المتنجس عصيانا أو نسيانا، أو شربه كذلك، فإن مثل هذا لا يمنع من الصلاة ولو قيل:
بمنع المحمول المتنجس منها، ولا معنى للنهي عن الشرب حسب البقاء، نعم، يوجب
ذلك، الحزازة المعنوية، وهذه غير مسألة الصحة الفقهية.
ويلحق بصورة أكل النجس أو شربه ما إذا كان المأكول أو المشروب مغصوبا،
أو مما لا يؤكل، فلا يجب عليه " القئ " إذ المأكول أو المشروب يعد تالفا عرفا وإن كان
باقيا عقلا.
نعم، يجب " القئ " في بعض الفروض، كما إذا ابتلع قطعة مغصوبة من برليان،
أو ذهب، أو نحوهما، فتأمل.
353

الخامس: ثوب المربية للصبي، اما كانت أو غيرها، متبرعة أو
مستأجرة، ذكرا كان الصبي أو أنثى، وإن كان الأحوط الاقتصار على
الذكر، فنجاسته معفوة بشرط غسله في كل يوم مرة، مخيرة بين ساعاته، و
إن كان الأولى غسله آخر النهار لتصلي الظهرين والعشائين مع الطهارة،
أو مع خفة النجاسة، وإن لم يغسل كل يوم مرة، فالصلوات الواقعة فيه مع
النجاسة، باطلة، ويشترط انحصار ثوبها في واحد أو احتياجها إلى لبس
جميع ما عندها وإن كان متعددا، ولافرق في العفو بين أن تكون متمكنة
من تحصيل الثوب الطاهر بشراء أو استيجار أو استعارة أم لا، وإن كان
الأحوط الاقتصار على صورة عدم التمكن.
]
الخامس: ثوب المربية
البحث في المتن يقع من جهتين:
الأولى: من جهة العفو عن نجاسة ثوب المربية.
الثانية: من جهة خصوصيات العفو.
أما الأولى: فلا كلام في ثبوت العفو فيها، إنما الكلام في مدركه وهو لا يخلو
عن أحد الأمرين:
354

[...]
أحدهما: الشهرة، بل الإجماع. (1)
وفيه: منع صغرى وكبرى.
أما الصغرى، فلعدم ثبوت الإجماع، مع توقف المحقق الأردبيلي (قدس سره) (2) و
غيره في أصل الحكم.
وأما الكبرى، فلأن الإجماع لو ثبت لكان مدركيا، إذ المجمعون استندوا إلى
خبر أبي حفص الآتي، أو لا أقل من احتمال ذلك.
ثانيهما: خبر أبي حفص، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " سئل عن امرأة ليس
لها إلا قميص واحد ولها مولود، فيبول عليها، كيف تصنع؟ قال: تغسل القميص في
اليوم مرة ". (3)
هذا الخبر وإن كان تاما من جهة الدلالة على المدعى، إلا أنه ضعيف من جهة
السند، كما في كلام بعض الأعاظم (قدس سره). (4)

(1) جواهر الكلام، ج 6، ص 231، حيث قال بعد ذكر قول المحقق (قدس سره): " والمربية للصبي إذا
لم يكن لها إلا ثوب واحد، غسلته في كل يوم مرة " ما هذا لفظه: " على المشهور بين الأصحاب نقلا و
تحصيلا، بل لا أعرف فيه خلافا ".
(2) مجمع الفائدة والبرهان، ج 1، ص 339، حيث قال: " وأما دليل اكتفاء المرأة المربية
للصبي بالمرة الواحدة في غسل ثوبها، فهو الرواية الضعيفة... ولو تحقق الإجماع فيثبت المطلوب، و
إلا فالعمل بها مشكل ".
(3) وسائل الشيعة: ج 2، كتاب الطهارة، الباب 4 من أبواب النجاسات، الحديث 1، ص 1004.
(4) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 351 و 352.
355

[...]
ولكن اختار شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره): أن ضعفه منجبر باستناد المشهور إليه،
وقال: لا مانع من الإلتزام به سوى القول (1) بأن كبرى الانجبار ممنوعة، بدعوى: أن
مجرد عملهم برواية ضعيفة لا يجدي شيئا، ما لم يوجب الوثوق الشخصي بصحتها، و
لا يوجب ذلك مع اختلاف مشارب الأصحاب في العمل بالروايات، من دعوى صحة
روايات الكتب الأربعة، والقطع بصدورها عنهم (عليهم السلام) أو أنها حجج معتبرة، أو أن
عدالة الراوي ليست إلا مجرد إظهار الإسلام وعدم ظهور فسق منه، أو جواز الإفتاء
بمضمون الرواية مع قيام الإجماع على طبقها أو الشهرة، ولا ريب: أن شيئا من هذه
المشارب، لا يمكننا المساعدة عليها، بل العبرة في الحجية بوثاقة الراوي أو الوثوق
بصدور الرواية ولو بمعونة قرائن خارجية، وشئ من هذين الأمرين، لا يحصل
بمجرد عمل الأصحاب برواية ضعيفة.
وفيه: أن كثيرا من الأعلام والأساطين (قدس سرهم) المستندين إلى هذا الخبر والمفتين
بمضمونه لم يسلكوا شيئا من المسالك المذكورة، كالشهيد والعلامة وأقرانهم (قدس سرهم)
فاستناد أمثال هؤلاء الأكابر إليه وعملهم به، يوجب الظن النوعي، بل الاطمينان
بالصدور أكثر مما يحصل من توثيق أرباب الرجال، فلاحظ بعين الإنصاف، حتى تجد
حقيقة الحال (2)، هذا كله في الجهة الأولى.

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 352 و 353.
(2) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
356

[...]
وأما الجهة الثانية (خصوصيات العفو): فالكلام فيها يقع في موارد أشير
إلى بعضها في المتن.
الأول: في أن العفو، هل يختص بالام المربية أم لا؟ ذهب بعض الأعاظم
(قدس سره) (1) اختصاصه بالام، ولكن الحق هو عدم الإختصاص.
نعم، ظاهر قوله (عليه السلام): " ولها مولود " في خبر أبي حفص المتقدم وإن كان هو
الإختصاص، لكن العرف لا يلاحظ خصوصية كونها اما، بل يلغيها، إذ الملاك في
العفو هو تربية الطفل والتصدي لشؤونه، كما هو المستفاد من كلمات الأصحاب،
حيث عبروا عن مورد العفو، تارة ب‍ " ثوب المربية للصبي " (2) واخرى ب‍ " ثوب المربية
للطفل أو المولود ". (3)
ولعله لأجل الملاك المذكور جزم صاحب الجواهر (قدس سره) بعدم الفرق بين الام
وغيرها. (4)
وبالجملة: لا دليل على القول باختصاص العفو بالام، بل الذي يساعده
العرف والاعتبار هو دوران العفو مدار تربية المولود والتصدي لشؤونه وكونه في

(1) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 354.
(2) راجع، مدارك الأحكام: ج 2، ص 355، ومجمع الفائدة والبرهان، متنا وشرحا: ج 1،
ص 333 و 339، والحدائق الناضرة: ج 5، ص 345.
(3) راجع، كتاب الطهارة للإمام الراحل (قدس سره): ج 3، ص 583.
(4) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 238 و 239.
357

[...]
حجر المرأة، سواء كانت امه أم لا.
الثاني: في أن المولود، هل يختص بالذكر أو يعم الأنثى - أيضا - وجهان، بل
قولان:
ذهب جمع من الأصحاب إلى الأول، كما هو ظاهر المحقق (قدس سره) (1)، بل عن المحقق
الثاني (قدس سره) نسبة هذا القول إلى فهم الأصحاب (2) وهو مختار بعض الأعاظم (قدس سره) (3)،
وذهب إلى الثاني جمع من الأساطين، منهم: الشهيد الأول (قدس سره) (4) والشهيد
الثاني (قدس سره) (5) والمحقق الثاني (قدس سره) (6) بل عن صاحب المدارك (قدس سره) (7) ينبغي القطع به،
واختاره شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) (8) وهو الصحيح، لما أشير إليه آنفا من ملاك العفو.

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 234.
(2) جامع المقاصد، ج 1، ص 18، حيث قال: " مورد الرواية عن الصادق (عليه السلام) " مولود " و
المتبادر منه الصبي هكذا فهم الأصحاب ".
(3) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 355.
(4) ذكرى الشيعة، ص 17، حيث قال: " والأولى دخول الصبية، للمشقة ولأن السؤال عن
مولود ".
(5) مسالك الأفهام، ج 1، ص 18، حيث قال: " لافرق هنا بين الصبي والصبية، لأن مورد
الرواية " المولود " وهو شامل لهما ".
(6) جامع المقاصد، ج 1، ص 18، حيث قال: " ولا يبعد أن يقال: بشمول الحكم الصبية
لصدق المولود عليها ".
(7) مدارك الأحكام: ج 2، ص 355، حيث قال: " ثم إن قلنا: بالعفو، فينبغي القطع بعدم
الفرق بين الصبي والصبية ".
(8) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
358

[...]
وأما لفظ: " المولود " في الخبر المتقدم، فليس قبال لفظ: " المولودة " بل المراد
منه الجنس الشامل للذكر والأنثى.
الثالث: في وجوب غسل الثوب كل يوم مرة، وهذا لاكلام فيه، وعليه
الفتوى، لأنه مقتضى صريح قوله (عليه السلام): " تغسل القميص في اليوم مرة " في رواية أبي
حفص المتقدمة.
نعم، لما كان وجوب الغسل شرطيا مقدميا، وجب تقديمه على بعض صلواتها
اليومية حتى يتصف بالشرطية والمقدمية، كما لا يخفى.
والتخيير بين ساعات اليوم، كما في المتن، مستند إلى إطلاق قوله (عليه السلام): " في
اليوم مرة " حيث إنه لم يقيد الغسل بكونه أول النهار، أو آخره، ولا ريب: أن مقتضى
هذا التخيير هو عدم وجوب قضاء الصلاة لو لم تغسل اليوم أصلا، إلا لصلاة العشاء،
إذ لما تركت الغسل والتطهير لسائر الصلوات من صلاة الصبح إلى المغرب، يتعين
اشتراط الغسل والتطهير لتلك الصلاة، كما أن الأمر كذلك في جميع موارد الوجوب
التخييري، حيث يتعين أحد الأفراد مع تعذر الآخرين.
وعليه: فما عن المصنف (قدس سره) من بطلان جميع صلوات اليوم في الفرض، مبني،
إما على القول بوجوب الغسل في أول الوقت كي يكون شرطا متقدما للصلوات كلها،
أو على القول بوجوبه في آخر الوقت كي يكون شرطا متأخرا لبعض، ومتقدما
لبعض آخر، أو شرطا متأخرا للجميع.
359

[...]
ولكن كلا المبنيين خلاف ما ذهب (قدس سره) إليه من التخيير بين ساعات اليوم، و
خلاف ظاهر رواية أبي حفص المتقدمة وإطلاقها، على أن المراد من كلمة: " اليوم "
حسب الظاهر هو جميع أوقات الصلوات الخمس اليومية، لا خصوص النهار قبال
الليل، فيكفي الغسل ليلا للعشاء، أو للعشائين، كما يكفي نهارا، فمعنى قوله (عليه السلام):
" تغسل القميص في اليوم مرة " وجوب غسله في جميع أوقات الصلوات الخمس مرة
واحدة، ولذا سكت عن الليل ولم يشر إليه أصلا.
الرابع: في أنه يعتبر في الحكم بالعفو انحصار ثوب المربية في واحد، كما هو
مقتضى صريح السؤال: " ليس لها إلا قميص واحد " فيكون الجواب - أيضا - ناظرا إلى
هذه الصورة، فإذا لاعفو إذا تعدد الثياب وتمكنت المربية من غسل أحدها والصلاة
في الآخر الطاهر.
نعم، إذا كان الثوب متعددا ولكن تحتاج إلى لبس الجميع لبرد مثلا، يعد ثوبا
واحدا، كما يعد واحدا - أيضا - فيما إذا لم يكن القميص الآخر ساترا، أو كان مغصوبا،
أو من غير المأكول، إذ في هذا الفرض يكون الزائد كالمعدوم، وعليه، فلا يجب الغسل
في هذين الموردين إلا مرة واحدة في اليوم.
هذا، ولكن تأمل شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) فيه وقال: إن العفو ثبت في ثوب
واحد، وأما النجس المتعدد، فلا يشمله العفو مطلقا وإن احتاجت إلى لبس
360

[...]
الجميع. (1)
والإنصاف: أنه لا مجال لهذا التأمل، كما لا يخفى.
ثم إن بعض الأعاظم (قدس سره) (2) ذهب إلى أن مقتضى إطلاق رواية أبي حفص، هو
العفو ولو كانت متمكنة من تحصيل ثوب طاهر بشراء أو استعارة أو استيجار أو
نحوها، مضافا إلى أن التقييد بصورة العجز وعدم التمكن من تحصيل ثوب آخر،
يوجب حمل الرواية على الفرد النادر لأجل التمكن منه غالبا.
هذا، ولكن أورد عليه شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره) أولا:
بأن قول السائل: " ليس لها إلا قميص واحد " ظاهر في فرض صورة العجز و
عدم التمكن، لا سيما بالنسبة إلى الشراء، والجواب - أيضا - كذلك.
وثانيا: بأن الحمل على النادر غير لازم، لو كان المراد من عدم التمكن، عدمه
بالإضافة إلى الشراء أو الاستعارة أو نحوهما.
وثالثا: بأن الرواية لا إطلاق لها رأسا كي يلزم الحمل على النادر، إذ هي
راجعة إلى غير المتمكنات من النساء، ولذا ذهب جماعة جزما أو احتمالا إلى عدم
العفو في صورة التمكن والقدرة (3)، فتأمل.

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
(2) راجع، دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 360.
(3) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
361

(مسألة 1): إلحاق بدنها بالثوب في العفو عن نجاسته محل إشكال،
وإن كان لا يخلو عن وجه.
]
إلحاق البدن بالثوب في العفو
أشار المصنف (قدس سره) في هذه المسألة إلى المورد الخامس من موارد خصوصيات
العفو عن ثوب المربية، وهو أن بدن المربية، هل هو ملحق بثوبها في العفو عن
النجاسة، أم لا؟
واختار (قدس سره) أن الإلحاق لا يخلو عن وجه، ولكن الحق عدم الإلحاق، والوجه
فيه: عدم ثبوت الدليل على الإلحاق، بل اللازم هو وجوب غسل البدن حسب
مقتضى إطلاق أدلة مانعية النجاسة من الصلاة، إلا أن يلزم الحرج، فيسقط حينئذ
وجوب الغسل.
ومن هنا ظهر: أن ما قاله صاحب الجواهر (قدس سره) في مستند القول بالإلحاق من
عدم ورود الأمر بغسل البدن في الرواية، مع سراية نجاسة الثوب إليه غالبا، ووجود
المشقة في التحرز عنه نوعا (1)، ممنوع، إذ عدم الأمر لعله للاكتفاء بأدلة اشتراط
طهارة البدن للصلاة، على أن غسله يفارق غسل الثوب لوجود المشقة فيه دونه،
فلا مجال حينئذ للقول بالإلحاق، كما لا مجال - أيضا - للقول بعدم وجوب غسل البدن
رأسا، بدعوى: أن ترك الأمر بغسله مع أن المقام كان مقتضيا للأمر به لو كان واجبا،
كاشف عن عدم وجوب غسله.

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 232.
362

(مسألة 2): في إلحاق المربي بالمربية إشكال، وكذا من تواتر بوله.
]
إلحاق المربي بالمربية في العفو
هذه المسألة - أيضا - إشارة إلى المورد السادس من موارد خصوصيات
العفو، وهو أن العفو، هل يختص بالمرأة المربية، أم يعم الرجل المربي، أيضا؟ وجهان
بل قولان:
فعن صريح جماعة، بل لعله ظاهر الأكثر (1)، هو القول الأول، ولكن ذهب
عدة من الأعلام، منهم: العلامة (قدس سره) (2) والشهيد الأول (قدس سره) (3) والشهيد الثاني (قدس سره) (4)
إلى القول الثاني، وادعوا القطع باشتراك المربية والمربي في وجه الحكم بالعفو وهي
المشقة بلا دخل للأنوثية، وهذا هو الحق المختار، والوجه فيه: ما أشرنا آنفا، من أن
العفو عن ثوب المرأة المربية يدور مدار التربية والتصدي لشؤون الطفل وكونه في
حجرها.
ومن المعلوم: أن هذا الملاك لو كان موجودا في مورد الرجل، فهو - أيضا -
مشمول للعفو بلا كلام.

(1) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 231.
(2) تذكرة الفقهاء، ج 1، ص 98، حيث قال: " الظاهر مشاركة المربي للصبي، المربية ".
(3) ذكرى الشيعة، ص 17، حيث قال: " والأولى... دخول المربي ".
(4) مسالك الأفهام، ج 1، ص 18، حيث قال: " ويلحق... بالمربية، المربي ".
363

[...]
نعم، ورد النص في مورد المرأة سؤالا وجوابا، ولكن أنت ترى أن المورد
لا يوجب اختصاص النص بالعفو عن ثوب المرأة المربية، بل المرأة إنما ذكرت لأجل
إيكال التربية وتصدي شؤون الطفل إليها غالبا.
وبالجملة: لافرق بين المربي والمربية في الحكم بالعفو، إذ كل منهما مشترك في
وجه الحكم، وهي المشقة، كما لافرق - أيضا - في الحكم المذكور بين ما إذا كان الطفل
مذكرا أو مؤنثا على ما ذكرنا آنفا.
ومن هنا انقدح منع ما عن بعض الأعاظم (قدس سره) من: " أنه لاقطع بالعلة وإن
كانت المشقة حكمة، بل غايته الظن بذلك، مع أن مورد النص سؤالا وجوابا، إنما هي
المربية، ودعوى اشتراك المكلفين في الأحكام الشرعية، فلافرق بين الرجل والمرأة،
مندفعة بأن ذلك إنما يتم فيما إذا لم نحتمل الفرق لخصوصية في المرأة أو الرجل، وأما
معه، فلاقطع بالاشتراك، كيف! وقد افترقا في جملة من الأحكام في الصلاة والحج و
غيرهما، فلا يمكن دعوى الاشتراك في المقام مع احتمال الفرق بينهما " (1) إذ لم يدع أحد
اشتراك المرأة والرجل في أحكام الواجبات من الصلاة والحج والصيام، وفي جميع
موارد الحلال والحرام، بل الدعوى هنا اشتراكهما في العفو، لوضوح أن مداره هو
التربية وكونه لأجل التسهيل والإرفاق، وليس المورد، كبعض موارد الأحكام
الذي اختفى علينا الملاك والعلة فيها، كالسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمرة، و
الصلاة خلف مقام إبراهيم (عليه السلام) والجهر والإخفات في الصلوات الخمس اليومية ونحوها.

(1) دروس في فقه الشيعة: ج 4، ص 361.
364

[...]
وانقدح - أيضا - منع ما أفاده شيخنا الأستاذ الآملي (قدس سره)، حيث قال بعد
حكاية القول بالإلحاق عن العلامة والشهيدين (قدس سرهم) ما هذا لفظه: " وقد يعلل ذلك
بوجهين: الأول: تنقيح المناط القطعي وأنه هي المشقة، والثاني: اشتراك الرجال
والنساء في التكاليف، فلو سلم إهمال دليل العفو وعدم شموله للمربي، لثبت العموم و
كون المربي كالمربية في الحكم، بأدلة الاشتراك.
ثم قال (قدس سره): وفي كلا الوجهين نظر، لعدم إحراز المناط القطعي، وعدم ثبوت
الاشتراك، فرب حكم يختص بالنساء وبالعكس ". (1)
ثم إنه بقي من موارد خصوصيات العفو، المورد السابع والثامن ولم يشر
إليهما المصنف (قدس سره).
فنقول: أما المورد السابع، فهو أن العفو، هل يختص بما إذا كان للمربي أو
المربية مولود واحد، أو يعم المولود المتعدد، أيضا؟ ذهب الشهيد الأول (قدس سره) (2) إلى
الثاني وهو الصحيح، والدليل عليه، هو اشتراكهما في العلة وهي المشقة، بل هي في
المتعدد أكثر، فالعفو ثابت فيه بالأولوية القطعية.
على أن كلمة: " مولود " في صحيحة ابن أبي يعفور المتقدمة، يراد به الجنس
الشامل للمتعدد - أيضا - فإذا لا مجال لما عن صاحب الحدائق (قدس سره) من المناقشة في
شمول العفو للمتعدد، بأن التعدد - لكونه مقتضيا لكثرة النجاسة - يمكن أن يكون

(1) تقريرات بحوثه القيمة بقلم الراقم.
(2) ذكرى الشيعة، ص 17، حيث قال: " والأولى... دخول المربي والمتعدد ".
365

[...]
موجبا لاختصاص العفو بالقليل الضعيف دون الكثير القوي، فلاوجه لإلحاق المولود
المتعدد بالواحد. (1)
أما المورد الثامن: فهو أن العفو، هل يختص بالبول، أو يعم سائر النجاسات
من الدم والغائط وغيرهما؟ وجهان، بل قولان:
ذهب المحقق (قدس سره) (2) والشهيد الأول (قدس سره) (3) وغيرهما (4)، إلى الثاني، وهذا هو
الأقوى، لما عرفت آنفا: من أن الحكم بالعفو إنما هو لأجل المشقة، فهو مبتن على
أساس الإرفاق والتسهيل.
ومن المعلوم: أنه لافرق بين النجاسات في تلك العلة، فيعم العفو غير البول،
أيضا.
نعم، وقع السؤال في الصحيحة المتقدمة عن خصوص البول، ولكن هذا
لا يوجب اختصاص العفو به دون غيره من الدم والغائط ونحوهما، بل ذكره إنما هو
لأجل غلبة الإبتلاء به.
ومما ذكرنا ظهر، أن ما قال به بعض الأعاظم (قدس سره) (5): من أن الظاهر هو

(1) راجع، الحدائق الناضرة: ج 5، ص 347.
(2) و (3) و (4) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 233.
(3) و (3) و (4) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 233.
(4) و (3) و (4) راجع، جواهر الكلام: ج 6، ص 233.
(5) راجع، دروس في الفقه الشيعة: ج 4، ص 363.
366

[...]
اختصاص العفو بالبول لاختصاص النص المتقدم به، فلا يعم الغائط، فضلا عن سائر
النجاسات، ومن أن الاشتراك في العلة، ممنوع، لعدم القطع بها لا سيما مع كثرة الإبتلاء
ببول الصبي لتكرره دون الغائط، مخدوش، لا يمكن المساعدة عليه.
ثم إن المصنف (قدس سره) ألحق من تواتر بوله، بالمربية، في العفو، ولكن الأقوى عدم
الإلحاق، إلا إذا لزم الحرج، وذلك، لعدم دليل عليه يمكن الركون إليه، إذ غاية ما يمكن
أن يستدل عليه أمران: أحدهما: قاعدة نفي الحرج، وأنت ترى: أن هذا الدليل
أخص من المدعى.
ثانيهما: الروايات الواردة في المقام.
منها: رواية عبد الرحيم، قال: " كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) في الخصي يبول،
فيلقى من ذلك شدة، ويرى البلل بعد البلل، قال: يتوضأ وينتضح في النهار مرة
واحدة ". (1)
ومنها: ما رواه الكليني (قدس سره)... عن سعدان بن عبد الرحمن، قال: " كتبت إلى
أبي الحسن (عليه السلام) وذكر مثله ". (2)
ومنها: ما رواه الصدوق مرسلا عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، مثله،
إلا أنه قال: " ثم ينضح ثوبه ". (3)

(1) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 8،
ص 201.
(2) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 8، ص 201.
(3) وسائل الشيعة: ج 1، كتاب الطهارة، الباب 13 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 8، ص 202.
367

[...]
وفيها منع دلالة وسندا.
أما الدلالة، فلوضوح أنها ناظرة إلى سلس البول لا البول، وآمرة بالنضح و
الانتضاح، لا الغسل والاغتسال، والنضح لأجل البلل المشتبه المتوهم نجاسته، لعله
إما لدفع توهم النجاسة، لا لإزالة النجاسة المعلومة، وإلا فلابد من الغسل ولا يكفي
النضح، وإما لدفع اليقين بخروجه من الذكر، باحتمال أنه من النضح وليس من البلل.
على أن سلس البول ليس حكمه النضح ولا الغسل مرة واحدة - أيضا - بل له
حكم آخر قطعا، وقد تعرضه المصنف (قدس سره) في فصل حكم دائم الحدث، وقال:
بوجوب التحفظ من تعدي بوله بأخذ كيس فيه قطن، أو نحوه، وغسل الحشفة قبل
كل صلاة.
هذا، مضافا إلى عدم تقييد كلمة: " ثوبه " في مرسلة الصدوق المتقدمة بالوحدة،
كما في المربية، فإذا لايبقى المجال للقول بإلحاق من تواتر بوله بالمربية، هذا كله من
حيث الدلالة.
وأما من حيث السند، فلأن الرواية الأولى، وقع في سندها " سعدان بن
مسلم " و " عبد الرحيم " ولم يرد فيهما توثيق في كتب الرجال، والرواية الثانية، وقع في
سندها " سعدان بن عبد الرحمن " وهو مجهول، والرواية الثالثة مرسلة.
368

السادس: يعفى عن كل نجاسة في البدن أو الثوب في حال
الاضطرار.]
السادس: النجاسة حال الاضطرار
هذا، لا إشكال فيه ولا خلاف (1) من باب أن الاضطرار رافع للتكليف
فلا يجب معه التطهير.
هذا تمام الكلام في النجاسات وأحكامها.
ويأتي - إن شاءالله - البحث عن المطهرات في المجلد الرابع بعون الله الملك المنان.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
رمضان المبارك 1421 ه‍. ق.
قم المقدسة

(1) راجع، حدائق الناضرة: ج 5، ص 349.
369