الكتاب: بلغة الطالب ، الأول
المؤلف: السيد الگلپايگاني
الجزء:
الوفاة: ١٤١٤
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٩٩
المطبعة: مطبعة الخيام - قم
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني (وفاة ١٤١٤)

بلغة الطالب
في التعليق على بيع المكاسب
تقرير أبحاث
فقيه العصر سماحة آية الله العظمى
السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني
دام ظله الوارف
بقلم
السيد علي الحسيني الميلاني
(الجزء الأول)
1

مطبعة الخيام قم
1399 ه‍
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وصلى الله
على أفضل سفرائه المقربين محمد المبعوث رحمة للعالمين ثم الصلاة
والسلام على آله وعترته الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم
إلى يوم الدين وبعد فإن شرف العلم لا يخفى وفضله لا يحصى
قد ورثه أهله من الأنبياء وقد فضل الله مداد العلماء على دماء
الشهداء فنالوا بذلك الدرجات العلى وممن سلك سبيل السلف
الصالح في طلب العلم والفضيلة فضيلة العلامة ثقة الإسلام
السيد علي نجل العلامة حجة الإسلام السيد نور الدين وحفيد
المرحوم المبرور سماحة آية الله السيد محمد هادي الميلاني تغمده الله
برحمته فحضر أبحاثنا الفقهية العليا حضور تفهم وتحقيق
وتعمق وتدقيق وصرف زهرة شبابه وأتعب نفسه كتبا وضبطا
لمحاضراتنا في الحوزة العلمية بمدينة قم المقدسة وقد سرحنا
النظر - رغم تراكم الأعمال واشتغال البال - في قسم مما دونه
في هذا الكتاب (بلغة الطالب في التعليق على بيع المكاسب)
للمرحوم المغفور له الشيخ المرتضى الأنصاري أعلى الله مقامه
فوجدناه وافيا بالمراد حسن التعبير بديع الاسلوب تبويبا
مما يدل على ذكائه وتعمقه فلله تعالى دره وعليه سبحانه أجره
والله تبارك وتعالى أسأل أن يوفقه لمراضيه إنه ولي التوفيق
والسلام عليه ورحمة الله وبركاته
غرة ربيع الثاني 1399 ه‍
محمد رضا الموسوي الگلپايگاني
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد
وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
وبعد: فهذه بحوث فقهية عالية وتحقيقات علمية شامخة، دونتها من
المحاضرات التي ألقاها سيدنا الأستاذ الأكبر الفقيه العظيم والمحقق
الشهير آية الله العظمى السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني دام
ظله العالي على فضلاء الحوزة العلمية بجامعة العلم الكبرى (قم المقدسة)
في كتاب البيع.
وقد تفضل سماحته دام ظله الشريف فلاحظها وأقرها وأبدى رأيه
الكريم حولها.
ولما كان عنوان بحثه كتاب المكاسب لعلم التقى وأستاذ الفقهاء
الشيخ المرتضى الأنصاري - أعلى الله مقامه - فقد حررت ما أفاده بطريق
5

التعليقة على الكتاب، وسميته ب‍ (بلغة الطالب في التعليق على بيع المكاسب).
وإني إذ أقدم هذه البحوث إلى زملائي الفضلاء وإخواني العلماء
ابتهل إلى الله عز وجل أن يمتعنا - والأمة الاسلامية - بدوام وجود سيدنا
الأستاذ ويمن علينا ببركاته إنه سميع مجيب.
قم المقدسة
علي الحسيني الميلاني
6

كتاب البيع
7

حقيقة البيع
قال الشيخ " قده: البيع وهو في الأصل - كما عن المصباح
مبادلة مال بمال.
أقول: لا بد من الوقوف على معنى البيع وحقيقته في اللغة
والعرف، وإنه هل له حقيقة شرعية أو لا، ليتسنى لنا التمسك بعمومات
البيع صحة وفسادا وغير ذلك.
قال في المصباح: " والأصل في البيع مبادلة مال بمال، لقولهم
بيع رابح وبيع خاسر، وذلك حقيقة في وصف الأعيان، لكنه أطلق على
العقد مجازا لأنه سبب التمليك والتملك.. الخ " فهو يرى أنه قد أخذ
في مفهوم البيع كون المال عينا لا منفعة، وإن اطلاقه على العقد مجاز من
باب اطلاق المسبب على السبب.
ولقد كثر الكلام حول حقيقة البيع، فعبارة المصباح تفيد أن
البيع هو المبادلة بين المالين، بمعنى كون الثمن ملكا للبائع بالبيع
9

وصيرورة المثمن ملكا للمشتري. إلا أن ظاهر قول البائع " بعت " وقول
المشتري " اشتريت " وعملهما هو التبديل، لكن الحاصل من ذلك هو
المبادلة - وإن لم تكن مقصودة لهما - بمعنى تحقق ملكية كل منهما لما
كان ملكا للآخر.
وبما ذكرنا ظهر اندفاع ما أورده بعضهم قائلا: إن الأولى أن
يقال " تبديل مال بمال "، وإن كان التعريف بالتبديل صحيحا أيضا باعتبار
النظر إلى ما هو المقصود من المتبايعين.
وقيل: إن البيع تمليك مال بمال. وأشكل عليه بأن التمليك
ايجاد السلطنة وليس بيعا.
وفيه: أن الباء هذه للمقابلة، أي جعل المال ملكا في قبال الآخر،
فهو كالتعريف بالمبادلة ولا غبار عليه، وكأن الاشكال قد نشأ من توهم
تعلق الباء ب‍ " تمليك.. " وهو خلاف الظاهر.
والملكية - في اصطلاح الفقهاء - أمر اعتباري متقوم بالمالك
والمملوك، فبالبيع الواحد تتحقق إضافة بين البائع والثمن من جهة
وبين المشتري والمثمن من جهة أخرى. وهي من الوضوح بحيث
لو أرسل الصبي إلى السوق لشراء شئ ما فهم ما هو المراد من البيع
والشراء، وهو يعلم أن هذا الثمن سيصبح للبائع في مقابل المثمن الذي
سيأخذه منه، فالحاصل من البيع صيرورة مال البائع للمشتري ومال
المشتري للبائع، وهذا المعنى يفهمه كل أحد.
10

معاني البيع
ثم " البيع " يستعمل في فعل البائع وفعل المشتري معا وفي
كتب اللغة أنه موضوع لكل منهما، فهو من الأضداد. نعم الأكثر استعماله
في الأول.
وأما الفقهاء: فتارة يريدون من البيع عمل البائع - أي بأذل
السلعة - وأخرى المعاملة الخاصة المتحققة من فعل المتعاملين في قبال
المعاملات الأخرى كالصلح والإجارة.. وهذا هو مرادهم من عنوانهم
" كتاب البيع " في الكتب الفقهية، وهو أيضا المراد في قوله تعالى
" أحل الله البيع.. ". وثالثة يقصدون من البيع السبب وهو " العقد "
المركب من الايجاب والقبول.
وكأن مراد صاحب المصباح هو المعنى الثاني من هذه المعاني
وإنما عبر ب‍ " المبادلة " لأنها عنوان منتزع من جعل كل من المتبايعين
العلقة الحاصلة له بالنسبة إلى ملكه للآخر، فتعريفه ناظر إلى هذا الأمر
الانتزاعي الحاصل من تحقق منشأ الانتزاع - كما أشرنا إليه سابقا.
هذا، والظاهر أن البائع يقصد - أولا وبالذات - نقل عينه
إلى المشتري وانتقال عين المشتري إلى نفسه، وأن المشتري يقبل ذلك
وأما السلطنة والملكية لكل منهما بالنسبة إلى ما للآخر فتحصل بالتبع،
فليسا مقصودين بالأصالة، وهذا هو المرتكز العرفي وعليه سيرتهم.
وعلى هذا فمن عرف البيع ب‍ " تمليك مال بمال " فقد نظر إلى
11

هذا الحيث البنائي المقصود، كما أن التعريف ب‍ " مبادلة مال بمال "
ناظر إلى المفهوم المنتزع من فعل المتبايعين وعقدهم كما تقدم، وإن
التعريف ب‍ " العقد بينهما " ناظر إلى سبب تحقق هذا الموضوع البنائي
عند العرف والشرع - بناءا على اعتبار الصيغة -.
وبما ذكرناه ظهر أن اختلافهم في التعبير والتعريف إنما هو لأجل
الاختلاف في النظر واللحاظ، كما علم أن حقيقة البيع هو بناء كل من
المتبايعين على ايجاد علقة الملكية بالنسبة إلى ماله للآخر.
تعريف البيع في الكتب الفقهية
هذا، ولقد اختلفت كلمات الأصحاب في تعريف " البيع ":
ففي المبسوط " انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر
على وجه التراضي "، وفي النافع " الايجاب والقبول اللذان تنتقل بهما
العين المملوكة من مالك إلى غيره بعوض مقدر "، وفي جامع المقاصد
" والأقرب أن البيع هو نقل الملك من مالك إلى آخر بصيغة مخصوصة "،
وفي المستند " نقل الملك بعوض من مالك إلى آخر بعقد مخصوص ".
أما الشيخ " قده " فقد عرفه - بعد مناقشة تلك الكلمات بقوله " فالأولى
تعريفه بأنه انشاء تمليك عين بمال ".
والظاهر أن المراد من " البيع " في قوله تعالى " أحل الله البيع "
هو المعاملة المتداولة بين الناس، لا خصوص ما يصدر من البائع أو
المشتري. وهذا البيع بهذا المعنى يتحقق من اجرائهما العقد المخصوص،
12

ثم العرف يعتبره بيعا ويرتب عليه الأثر، ثم الشارع كذلك - إن كان
جامعا للشرائط التي يعتبرها -.
وقد ذكر بعضهم: إن المتبادر من قول زيد " بعت داري لعمرو
أمس " اجراؤه العقد معه، وإن المراد من قول الفقهاء " كتاب البيع "
هو العقد الذي تترتب عليه الآثار فيما إذا كان جامعا لشرائط الصحة وقيودها،
فكأن الباب معقود لذكر تلك الشرائط المعتبرة في الايجاب والقبول
المتحقق بهما " البيع " وغير ذلك.
ثم المسبب من الايجاب والقبول فعل آخر، وهو النقل - بالمعنى
المصدري - تارة والانتقال أخرى، إلا إذا أريد من النقل المعنى الاسم
مصدري، فإنه حينئذ والانتقال بمعنى واحد.
وعلى هذا فليس مراد الفقهاء من هذه الكلمات تعريف حقيقة
البيع، فالاشكال على " الانتقال " أو غيره في غير محله. وعندنا إن هذه
التعاريف كلها صحيحة وقد لوحظ في كل واحد منها جهة من الجهات.
وأما قول الشيخ " قده " بأنه " انشاء تمليك.. " فغير واضح،
إذ ليس " بعت " بمعنى " أنشأت التمليك ". ولعله " قده " يريد انشاء
تمليك عين بعقد مخصوص، وهذا الانشاء من البائع يتوقف اعتباره عند
العرف على تعقبه بانشاء من المشتري، ثم الشارع يرتب الأثر عليهما
إن كانا جامعين لشرائط الصحة المعتبرة. وعلى هذا فهو كالتعريف بأن
" البيع عبارة عن الايجاب والقبول.. الخ " إذا الايجاب والقبول
مشروطان بالانشاء لا محالة.
13

المال وحقيقته
ثم إنه لم يقيد في جملة من الكلمات بالمال، بل قيدوا بالعين
كما في المبسوط من أنه " انتقال عين مملوكة " وظاهره عدم اشتراطهم
المالية في المبيع، فما هو المال؟ وهل المالية شرط؟
لقد قيل: المال ما يبذل بإزائه المال، ولكن هذا لا يفيد مفهوم
المال. وقيل: هو ما يعبر عنه في الفارسية ب‍ " پناه گاه "، وهذا غير معلوم
صحته. نعم لا يبعد تفسيره بالفارسية ب‍ " ارزش دار ". مثلا: الماء على
شاطئ البحر لا يقع عليه البيع لعدم المالية ولكن إذا حاز منه أحد في
إناء وابتعد قليلا عن البحر حصلت له مالية - ولذا لا يجوز التوضي به
من دون رضا صاحبه - إلا أن هذه المالية عارضة عليه من قبل غرض
التوضي به - مثلا - فهل يقع البيع عليه حينئذ عرفا؟
قد يقال: إن مالية الأشياء كلها تابعة لآثارها وفوائدها - إما بالأصالة
وإما بالعرض - بالنسبة إلى العرف والعقلاء بصورة عامة، وأما حاجة
أحد الأفراد إليه لغرض شخصي تعلق به اتفاقا فلا توجب أن يكون الشئ
ذا ثمن ومالا عند العقلاء. وكل شئ لم يعتبره العقلاء مالا لم يصححوا
بيعه وشراءه، وحينئذ لا يرتب عليه الشارع الأثر، فيكون البيع باطلا.
فإذن لا بد من اشتراط المالية.
وقد يقال: يكفي في المالية وصحة المعاوضة كون الشئ متعلقا
للغرض - ولو بنحو الموجبة الجزئية - وعليه فلا يشترط المالية ويصح
14

تعريف الشيخ " قده " في المبسوط.
قلت: الأمر راجع إلى نظر العرف فليتأمل.
المبيع واختصاصه بالأعيان
ثم إنه قد استظهر الشيخ " قده " اختصاص المعوض بالعين فقال
" والظاهر اختصاص المعوض بالعين فلا يعم ابدال المنافع بغيرها ".
وأما العوض فجوز أن يكون منفعة بلا اشكال قائلا " وأما العوض فلا اشكال
في جواز كونه منفعة.. " لكن في كلام بعضهم اشتراط كون العوضين
عينا، وفي كلام آخرين صحة المعاملة حتى إذا كانا منفعة.
أقول: إن الأدلة الشرعية منزلة هنا على ما هو الواقع عند العرف،
إذ لا حقيقة شرعية للفظ " البيع " وعدم قيام الاجماع على اشتراط " العين "
في المبيع.. فليراجع عمل العرف!
وقد وردت روايات في بيع سكنى الدار التي لا يعرف صاحبها. (1)

(1) أما رواية بيع سكنى الدار التي لا يعرف صاحبها فهي ما رواه الشيخ
قدس سره باسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن علي بن رئاب وعبد الله بن
جبلة عن إسحاق بن عمار عن عبد صالح عليه السلام قال: سألته عن رجل في
يده دار ليست له ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله قد أعمله من مضى من آبائه
أنها ليست لهم، ولا يدرون لمن هي، فيبيعها ويأخذ ثمنها؟ قال: ما أحب أن
يبيع ما ليس له. قلت: فإنه ليس يعرف صاحبها ولا يدري لمن هي، ولا أظنه
يجئ لها رب أبدا. قال: ما أحب أن يبيع ما ليس له. قلت: فيبيع سكناها أو
مكانها في يده فيقول: أبيعك سكناي وتكون في يدك كما هي في يدي؟ قال:
نعم يبيعها على هذا.
وسائل الشيعة 12 / 250 الباب الأول من أبواب عقد البيع من كتاب
التجارة.
وهذه الرواية موثقه بإسحاق بن عمار وغيره.
15

وفي بيع خدمة العبد المدبر (1)..
وأجيب عن ذلك بأنه " مجاز بإرادة الإجارة ".
وفيه نظر، إذ لو كان المراد من " البيع " هو " الإجارة " لردعه الإمام
عليه السلام عن التعبير بلفظ " البيع " في المقام وأمره بالإجارة، بل
المنافع تباع وتشترى في العرف كالأعيان، والروايات مؤيدة لعملهم

(1) وهي روايات:
(منها) ما رواه الشيخ قدس سره باسناده عن الحسين بن سعيد عن فضالة
عن أبان عن أبي مريم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن رجل يعتق جاريته
عن دبر، أيطأها إن شاء أو ينكحها أو يبيع خدمتها حياته؟ فقال: أي ذلك
شاء فعل.
(ومنها) ما رواه عنه عن القاسم بن محمد عن علي قال: سألت أبا عبد الله
عليه السلام عن رجل أعتق جارية له عن دبر في حياته. قال: إن أراد بيعها باع
خدمتها في حياته، فإذا مات أعتقت الجارية، وإن ولدت أولادا فهم بمنزلتها.
(ومنها) ما رواه الشيخ " قده " باسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن
إبراهيم بن هاشم عن النوفلي عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن
علي عليه السلام قال: باع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خدمة المدبر ولم
يبع رقبته.
وسائل الشيعة 16 / 74 كتاب التدبير، الباب الثالث.
16

ولا وجه لحملها على المجاز. والفرق بين " الإجارة " و " البيع " حينئذ
هو أنه في البيع تباع المنفعة رأسا، وأما في الإجارة فيسلط المستأجر على
العين لاستيفاء منافعها (1).
الكلام في بيع الكلي
وسواء كان البيع مختصا بنقل الأعيان أو يعم المنفعة والحق،
فإنهم قالوا بصحة بيع الكلي - سواء كان من قبيل النصف المشاع من
الدار مثلا، أو من قبيل الصاع من الصبرة المعينة، أو كان في الذمة
كأن يبيع المقدار الكذائي من الحنطة، فإنه يصح حتى وإن لم يكن
مالكا له حينئذ، بل لا يوجد في الخارج حنطة أصلا حتى زمان التسليم.
وكذا يصح فيما إذا كان المبيع كليا في ذمة الغير وهو " الدين ".
وقد أشكل في بيع الكلي مطلقا: بأن الملكية من الأعراض والعرض
لا يحتاج إلى المحل والكلي ليس موجودا فكيف يباع؟
وهذا الاشكال يأتي في الصلح والإجارة إذا كان مال الإجارة كليا.
وأشكل بالنسبة إلى الكلي في الذمة خاصة: بأن البائع ليس مالكا
للحنطة الآن " وإن كانت ذمته معتبرة "، وليس المبيع موجودا مع أنه

(1) قال السيد الأستاذ دام ظله في تعريف الإجارة: " الظاهر أن حقيقتها
اعتبار إضافة بين العين والمستأجر مستتبعة لملك المنفعة أو العمل والتسلط على
العين لاستيفائهما، ولذا تستعمل أبدا متعلقة بالأعيان ويقال: آجرت الدار مثلا " -
تعليقة العروة الوثقى.
17

- قد تقدم أن البيع مبادلة مال بمال.
وأيضا: أنه لا بيع إلا في ملك، فكيف يملك الانسان ما في ذمته؟
وأجيب عن الأول بوجوه أصحها: إن الملكية وإن كانت من
الأعراض لكنها ليست كالأعراض الخارجية كالسواد والبياض، بل إنها
في الحقيقة أمر اعتباري عقلائي. وحينئذ فإن من الممكن اعتبار هذا
المبيع موجودا، فيعامل معاملة الموجود الخارجي حيث إنه في عهدة
البائع، وقد تعلقت الملكية بهذا الموجود، ولا يلزم أن يكون متعلق
الملكية أمرا متحققا في الخارج.
وأما بناءا على ما اختاره بعضهم من أن الملكية أمر واقعي - لكنها
كسائر الأمور الواقعية التي لا نتمكن من درك مفاهيمها كالنجاسة والطهارة -
فالاشكال غير مندفع كما هو واضح.
وقد أجاب المحقق النراقي " قده ": بأنه لا يلزم فعلية الملك عند
النقل بل اللازم هو فعلية النقل.
وفيه: إن النقل أيضا من الأمور ذات الإضافة، فكيف يكون النقل
فعليا والمنقول ليس فعليا؟ وأجيب: بأن الكلي موجود بوجود ما يفرض من أفراده.
وفيه: إن أريد وجوده في الخارج فربما لا يكون هناك له أفراد
أصلا، وإن أريد وجوده في الذهن فيرجع إلى الاعتبار وهو الجواب
الأول.
وقد أجيب بوجوه أخرى، وهي إما مخدوشة وإما ترجع إلى
الوجه الأول.
18

والجواب عن الثاني هو: أن المال في الذمة يعد مالا عند العقلاء
ولذا يبذلون بإزائه المال.
وعن الثالث: أنه لما يتعهد تسليم الحنطة في حينه يعتبر العقلاء
ملكية للمتعهد به ويرتبون عليه الأثر، كما يعتبرون الملكية آنا ما لمن
اشترى أحد عموديه لأجل أن ينعتق عليه.. (ولا يشترط تحقق المالية
للشئ قبل " البيع " يكفي تحققها بنفس التعهد في حين المعاملة،
نظير عمل الحر، فإنه - كما ذكروا - لا مالية له بالذات لكنها تتحقق له
بنفس تعهده للعمل).
هذا كله - بالإضافة إلى الاجماع القائم على صحة بيع الكلي
والدين.
فتلخص: إن البيع عندهم لنقل الأعيان بخلاف الإجارة فهي لنقل
المنافع.
وقد تقدم منا الاشكال فيه. وقد جاء في بعض الروايات وقوع
البيع على خدمة العبد المدبر (1)، كما استعمل لفظ البيع في الأراضي
الخراجية في طائفة من الروايات (2)، مع أن المنقول منافعها لا أعيانها،
وكذا في سكنى الدار التي لا يعلم صاحبها، حيث عبر بالبيع، وقد قال

(1) تقدم في الهامش سابقا ذكر روايات في ذلك.
(2) راجع باب حكم الشراء من أرض الخراج والجزية، وباب أحكام
الأرضين من كتاب الجهاد من وسائل الشيعة 11 / 118 - 119 وتجد ذلك أيضا في
كتاب احياء الموات وغيره منه.
19

الشيخ " قده " في الجواب عن هذه الروايات " إنها مسامحة في التعبير "
لكنه دعوى بلا دليل كما تقدم.
وعلى هذا فلا مانع من أن يكون المبيع حقا أو منفعة، نعم الأكثر كونه
عينا كما أنه لا مانع من نقل المنافع بالبيع، كأن يقال " بعتك منفعة هذه
الدار " وإن كان الأكثر نقلها بالإجارة وتتعلق حينئذ بنفس العين، فيقال
مثلا " آجرتك الدار لمدة كذا ".
الكلام في عوض المبيع
قال الشيخ " قده ": وأما العوض فلا اشكال في جواز كونه منفعة.
أقول: إن جعل أحدهما عوضا والآخر معوضا جاء من قبل قولهم
" بعتك هذا بهذا "، وإلا فإن كلا منهما يعطي في مقابل الآخر، فالفارق
هو الاعتبار. فهم اعتبروا ما يحصل ملكيته بالايجاب معوضا وما يحصل
تمليكه بالايجاب عوضا. ولكن اعتبر أكثر الفقهاء العينية في المعوض
ولم يشترطوها في العوض، فيصح عندهم أن يكون منفعة. ولما كانت
المنفعة مالا عرفا صح وقوعها عوضا عما يعد مالا، فيصدق حينئذ المبادلة
بين المالين، فيقال " بعتك هذا الثوب بالخدمة الكذائية "، إلا أن هذا
عند العرف قليل، بل الأكثر - في مثل ذلك - الإجارة لا البيع. لكن
ادعي أنه لا خلاف بين الفقهاء في صحة هذا البيع كما عن العلامة " قده ".
وعن بعضهم اشتراط العينية فيه كذلك. ولعله لندرة وقوع المنفعة
عوضا في البيع عند العرف كما هو كذلك.
20

واحتمل الشيخ " قده " كونه من جهة " ما اشتهر في كلامهم من أن
البيع لنقل الأعيان " فأجاب بأن " الظاهر إرادتهم بيان المبيع. ".
وهذه المنفعة - المذكورة - يقال لمن يملكها إنه ذو مال، كما
أنه ليس فقير شرعا.
هل يقع عمل الحر عوضا؟
وأما عمل الحر - وهو من المنافع - فهل يجوز وقوعه عوضا،
كأن يقول " بعتك هذا الثوب بخياطة هذا الثوب " أو " بعتك هذا
الثوب بكتابة هذا الكتاب "؟
قالوا: إن عمل الحر بعد المعاوضة مال، فتكون خياطة الثوب
أو كتابة الكتاب ملكا لصاحب الثوب، ويجوز له حينئذ أن يبيع هذا
العمل لثالث في مقابل شئ، وإنما الكلام في ماليته قبل المعاوضة.
أقول: إن هذه المسألة تترتب عليها آثار كثيرة في موارد عديدة:
منها: أنه إن كان عمله (سواء كان صنعة أو حرفة أو خدمة) مالا لم
يجز له الأخذ من الزكاة وتجب عليه الفطرة وإن لم يكن ذا مال بالفعل
إذ المفروض أنه يمكنه العمل وتحصيل المؤنة. وأما إذا اشترط المالية
الفعلية فليس مالكا لشئ، فيصدق عليه عنوان " الفقير " وتترتب الآثار
المترتبة عليه.
ومنها: مسألة الحج..
ومنها: مسألة الحجر على المفلس، فمن حجر عليه التصرف
21

في أمواله لأجل الافلاس فهل يحجر عليه التصرف والاستفادة من عمله
فيؤجر نفسه ويؤخذ مال الإجارة ويقسم بين الغرماء كسائر أمواله - كما
هو الشأن في العبد فإن عمله لمالكه كنفسه - أو أن متعلق حق الغرماء
هو أمواله التي كانت له قبل الحجر وأما عمله فلنفسه والأجرة له؟
وبالجملة: إن كان عمل الحر مالا صح وقوعه عوضا لما تقدم
من تحقق المالية له بالتعهد، وإلا فلا - بناءا على اشتراط المالية في
العوضين.
والحق هو الأول، فإنه مال كعمل العبد بلا فرق بينهما من هذه
الجهة، فكما يبذل المال بإزاء عمل العبد فإنه يبذل بإزاء عمل الحر
عرفا.
نعم في الحر أحكام توهم الفرق، مثلا لو حبس شخص عبدا
ضمن لمالكه عينه وعوض عمله، دون الحر فإنه لا ضمان عليه.
لكن لعل عدم الضمان من جهة عدم القدرة على التسلط على
عمله بخلاف العبد.
فالحق هو القول الأول (وإن احتمل الإجارة في مثل هذه الموارد
دون البيع) فإن عمل الحر - في حد نفسه - مال سواء قبل المعاوضة
وبعدها، ومجرد تعهده والتزامه يكفي لصحة المعاملة ويصلح العمل
للمالية. وبالجملة: المعاملة صحيحة بناءا على صحة وقوع المنفعة
عوضا، فإنه - أي عمل الحر - مال بناءا على اشتراط المالية في العوضين
كما في عبارة المصباح.
نعم، لو قيل إن العمل ليس مالا مطلقا لم يقع عوضا مطلقا.
22

الكلام في الحقوق وأقسامها ووقوعها عوضا
قال الشيخ " قده ": وأما الحقوق الأخر كحق الشفعة وحق
الخيار...
أقول: الفرق بين المعاوضة على " العين " والمعاوضة على
" الحق " واضح، ففي الأولى ينتقل إلى المشتري متعلق السلطنة وفي
الثانية ينتقل إليه نفس الحق الذي صح وقوعه عوضا.
والحقوق على قسمين كما أشار إليه " قده "، ولا بد أولا من
الوقوف على حقيقة " الحق " فنقول:
[الحق] سلطنة:
أما على العين الخارجية التي هي ملك للغير كتعلق حق المرتهن
بمال الراهن، فله " حق " استيفاء دينه ببيع مال الراهن فيما إذا لم يؤد
الدين عند حلول الأجل المعين.
وأما على مال ليس ملكا لأحد كحق التحجير.
وأما على عين خارجية لا تعد مالا شرعا كالخمر، فإن من انقلب
خله خمرا له حق الأولوية في التصرف فيه من غيره، فله أن يبقيه حتى
ينقلب خلا أو يفعل به ما شاء - على قول. -
وأما على شئ ليس عينا في الخارج كحق القصاص، قال الله
تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا. " (1).
وأما على غير الشخص كحق الخيار، فإنه يتعلق بالعقد، فذو

(1) سورة الإسراء: 36.
23

الخيار له أن يفسخ العقد وله أن لا يفسخ.
وربما يقال في الأخيرين: إنه حق متعلق بالعين، وهو الشخص
الذي يكون مورد القصاص والمال الذي وقع العقد عليه واشترط فيه
الخيار فيملكه بفسخ العقد. ومن هنا قيل: لو أتلف غير ذي الخيار
المال ضمنه له إن فسخ العقد، لأنه مال تعلق به حق الغير.
وفي حق القصاص تردد فهل هو متعلق بالشخص أو بالمال؟
فإن قلنا بجواز تقاص الدائن من مال المدين الممتنع من أداء
الدين - مع إذن الحاكم أو بدونه على القولين - كان حقا متعلقا بالمال،
وإن قلنا بعدم جوازه كان متعلقا بشخص المدين.
وأما الحكم بإباحة التصرف في شئ فلا يفيد تعلق حق به، لأن
الإباحة ترخيص من قبل الشارع، وليس هناك سلطنة مجعولة ولا يعتبر
العقلاء للمباح له حقا، فلا يقال: إنه ذو حق بالنسبة إلى الماء المباح له
شربه، بخلاف ما تعلق بالأثمار الممرور بها، فإنه سلطنة للمار على تلك
الأثمار مجعولة من قبل الشارع، ويعبر عنها ب‍ " حق المارة ".
ونظير المقام ما ثبت من الفرق في مسألة الانفاق بين الوالدين
والزوجة، فالانفاق على الوالدين حكم وعلى الزوجة حق، وتظهر الثمرة
في صورة عدم الانفاق، فلو لم ينفق على الزوجة مدة ضمنه لها، بخلاف
نفقه الوالدين فلو لم يؤد لم يضمن ولم يكن مدينا.
الفرق بين " الحق " والحكم
والحاصل: أن " الحكم " جعل من الله تعالى من غير أن يكون
24

للمكلف سلطنة، بخلاف " الحق ". ومن آثار ذلك: إن " الحق " يقبل
النقل والاسقاط من قبل المكلف بخلاف " الحكم " فإنه لا يتغير. اللهم
إلا أن يغير موضوعه ليتغير بتبعه، كأن يسافر ليكون حكمه القصر بعد
أن كان عليه الاتمام، وأما " الحق " فيمكن تغييره حتى مع عدم تغيير
الموضوع، بأن يسقطه أو ينقله إلى غيره.
لكن تشخيص " الحكم " عن " الحق " والتفريق بينهما مشكل،
لأن بعض " الحق " لا يقبل الاسقاط كالحكم. نعم لو قام الدليل على عدم
قبول أمر للاسقاط على وجه العموم كشف عن كونه " حكما " أو قام على
الضمان في مورد كشف عن وجود " الحق "، لكن لو دل على " الحق "
لم يدل على قبوله للاسقاط.
وبالجملة: فطريق التفريق هو الدليل، وإلا فمشكل ولا بد من
الرجوع إلى الأصول.
ثم إن بعض الحقوق لا يقبل الاسقاط ولا الانتقال ولا المعاوضة
عليه بمال أو غيره مثل حق الأبوة.
وبعضها يقبل الاسقاط دون الانتقال، كاسقاط المغتاب حقه عمن
استغابه (1). نعم يجوز له أخذ مال في مقابل الاسقاط، لكنه ليس معاوضة
إلا إذا وسع مفهومها.
وبعضها يقبل الاسقاط والانتقال دون المعاوضة، كحق القصاص

(1) هذا بناءا على عدم كفاية النوبة والاستغفار، وكونه حقا للناس بمعنى
وجوب الاستحلال والبراءة، قال الشيخ " قده " - بعد أن بحث المسألة بالتفصيل -
" والأحوط الاستحلال إن تيسر وإلا فالاستغفار ".
25

فإنه يجوز لصاحبه اسقاطه كما أنه يورث لكن لا يباع - مثلا نعم يجوز
المصالحة عليه.
وبعضها يقبل ذلك كله كحق التحجير.
قال الشيخ " قده ": وأما الحقوق الأخر كحق الشفعة وحق
الخيار..
أقول: الظاهر أن كلمة " الآخر " زائدة وإن وجهها بعضهم بناءا
على صحة النسخة.
وحق الشفعة هو: استحقاق الشريك تملك الحصة المبيعة في
شركته بمثل الثمن الذي وقع عليه عقد البيع، وهو لا يقبل المعاوضة
بالمال لكن يقبل الاسقاط وينتقل بموت الشفيع إلى ورثته - فيقسم بينهم
كسائر الأموال -.
قلت: ويمكن أن يقال بتحقق الشفعة للوارث - بتملكه للحصة
لا بتورثه إياها. فتأمل.
وإذا كان قوام " البيع " هو " المبادلة " بأن يدخل في ملك
كل من المتبايعين شئ بإزاء ما يبذله - فإن الحقوق القابلة للاسقاط دون
الانتقال لا يصح وقوع البيع عليها، فلو دفع إليه مالا في مقابل اسقاطه
حقا له لم يتحقق بيع لعدم تحقق حقيقة المعاملة وإن لم يكن ذلك لغوا.
وأما إن قيل بعدم شرطية ما ذكر بل يكفي حصول المنفعة لكل
من المتعاملين ووجود المصحح العقلائي فلا اشكال.
قال " قده ": لأن البيع تمليك الغير.
26

أقول: إن هذا يصح أن يكون علة لعدم جواز جعل المبيع حقا
ولكن الكلام في العوض، اللهم إلا أن يكون مراده أن البيع تمليك من
الطرفين لا من طرف البائع فقط، وحيث إن الحق المزبور لا يقبل
التمليك فلا يجوز كونه عوضا كما لا يصح كونه معوضا، وحينئذ يتم
التعليل بما ذكر، وقد كان الأحسن التصريح بذلك.
وبالجملة، فيعلم من هذا التعليل - مع ما قررناه - أن مبناه " قده "
في باب البيع هو دخول المبيع في ملك المشتري والثمن في ملك
البائع. فلا يجوز جعل الثمن الكذائي عوضا وثمنا للمبيع.
هل يباع الدين على من هو عليه؟
ثم قال قدس سره: " ولا ينتقض ببيع الدين على من هو عليه،
لأنه لا مانع من كونه تمليكا فيسقط.. ".
أقول: يرد عليه أن البحث كان في جعل الحق عوضا لا في جعله
معوضا، وبيع الدين على من هو عليه من الثاني. اللهم إلا أن يقال بأن
الغرض هو التشبيه والتنظير. وبالجملة فقد أجاب الشيخ " قده " عن
النقض بالالتزام بكونه تمليكا وعدم مانع منه، وأثر هذا التمليك هو
السقوط.
ولكن يمكن أن يقال في مسألة بيع الدين على من هو عليه بأنه
ليس من باب بيع ما في ذمة أحد من نفسه، بل هو من بيع الكلي،
27

وحيث أن مثل هذا الكلي كان في ذمة المشتري للبائع فلذا يقع التهاتر قهرا.
لا يقال: إذا جاز هذا بالنسبة إلى ما في الذمة فليجز بالنسبة إلى
الملكين الخارجيين.
لأنه يقال: إن المشخصات الموجودة في الخارجيين يمنع من
التهاتر بينهما، بخلاف ما في الذمة.
والانصاف: أن القول بالتهاتر لا يرفع الاشكال، لأنهم يصرحون
ببيع نفس الدين ممن هو في ذمته، لا بيع كلي آخر مثله حتى يقع التهاتر.
فلنرجع إلى ما ذكره الشيخ في الجواب، فإنه قال: " لا مانع من
كونه تمليكا فيسقط " يعني: أن المشتري يصير مالكا آنا ما وأثره سقوط
ما كان عليه، بخلاف جعل الحق عوضا فإنه لا يمكن تحقق الملك فيه
حتى آنا ما.
ثم قال: " والحاصل أنه يعقل أن يكون مالكا لما في ذمته فيؤثر
تمليكه السقوط، ولا يعقل أن يتسلط على نفسه " ثم أضاف قوله " والسر
إن الحق سلطنة فعلية لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد، بخلاف الملك
فإنها نسبة بين المالك والمملوك ولا يحتاج إلى من يملك عليه حتى
يستحيل اتحاد المالك والمملوك عليه ".
أقول: أي فرق بين مالكية الانسان لما في ذمته ونقل الحق إليه،
وذلك: أن الملكية إضافة بين المالك والمملوك ونتيجتها سلطنته عليه،
فالإضافة هنا بين المالك وماله لا بين المالك ومن عليه، بخلاف الحق
فإن حق القصاص مثلا حق للمولي على من عليه الحق وهو القاتل، فيمكن
28

في الملك الإضافة بين زيد المديون بمقدار معين من الحنطة وبين هذا
المقدار، فيكون زيد مالكا له، ولا يمكن أن يكون له حق على نفسه.
وبالجملة فحيث أن الإضافة في باب الحق تكون بين الشخصين - أحدهما
المتسلط والآخر المتسلط عليه - فلذا لا يمكن الاتحاد فيه، بخلاف الملك
فإن الإضافة فيه بين المالك والمملوك بلا لحاظ واعتبار الشخص، فلذا
يمكن تحققها بين الشخص وما في ذمته.
ولكن هذا المحذور - وهو اتحاد من له الحق ومن عليه - إنما
يلزم فيما إذا بيع الحق من خصوص من عليه الحق، وأما لو نقله صاحب
الحق إلى ثالث وباعه منه فلا اشكال فيه، كما ترى أن حق التحجير ينتقل
إلى الآخر بلا لزوم مثل هذا الاشكال، لأنه إضافة بين الشخص والأرض
الكذائية المعينة بأن يحييها ويتملكها. فهنا يكون الحق قابلا لأن يجعل
عوضا في البيع ولا يلزم المحذور المذكور.
وأورد المحقق الأصفهاني " قده " بما حاصله: إن معنى السلطنة
على الغير كونه تحت يده ومتحركا بإرادته، وهذا المعنى جار في سلطنة
الانسان على نفسه، لأنه أولى بنفسه من كل أحد، نظير أن الانسان عالم
بنفسه فهو عالم ومعلوم، والحق أيضا كذلك، فيمكن أن يكون الانسان
مسلطا ومسلطا عليه بلا محذور.
أقول: فيه أنه قياس مع الفارق، فإن السلطنة إضافة لوحظ فيها
العلو والاستعلاء، ولازم ذلك وجود شئ آخر يكون مستعلى عليه
- نظير الفوقية والتحتية، فلا يعقل أن يكون شئ فوق نفسه أو تحت
29

نفسه فمن له السلطنة له التفوق على من عليه السلطنة إما من جميع
الجهات أو من بعضها، وأما المسلط عليه فهو في مرتبة دانية بالنسبة إليه،
وكون الانسان مسلطا على فعله معناه أن أمر فعله بيده، فهو بنفسه مسلط
وفعله الذي هو شئ آخر مسلط عليه، وأين هذا من كونه بنفسه مسلطا
ومسلطا عليه؟
فمن كان له التسلط على شحص لا فعل لا يمكن اتحاده مطلقا،
فلا يمكن تحقق الإضافة المعتبرة للمسلط للمسلط عليه في آن واحد.
هذا كله في الحقوق غير القابلة للانتقال..
هل تقع الحقوق القابلة للانتقال عوضا؟
قال الشيخ " قده ": وأما الحقوق القابلة للانتقال كحق التحجير
ونحوه، فهي وإن قبلت النقل وقوبلت بالمال في الصلح إلا أن في جواز
وقوعها عوضا في البيع اشكالا..
أقول: حاصل اشكاله: إن الظاهر من الفقهاء كون المالية شرطا
في ثمن المبيع، وكذا في أجرة الأجير في باب الإجارة، ولذا يقولون
" البيع مبادلة مال بمال "، وحيث أن الحق المذكور لا يعلم كونه مالا
فلا يمكن الجزم بصحة البيع لو وقع عوضا.
ولكن يمكن الجواب عنه بأن المال هو ما يبذل بإزائه المال وهذا
الحق كذلك فهو مال، إلا أن يريد " قده " عدم المالية عند أهل العرف،
إذ ليس كل ما يبذل بإزائه المال مالا عندهم، ألا ترى المناصب كالحكومات
30

وكذا الوجاهة أن بين الناس مثلا يبذل للوصول إليها المال وليست
مالا.. وبالجملة فلا بعد في عدم كون الحق مالا عرفا مع كون المنفعة
مالا عندهم.
والحاصل: أن الحق إن كان شيئا في مقابل المال وكان إضافة
من آثارها السلطنة لم يصح جعله عوضا في البيع، لأن البيع مبادلة
مال بمال، وإن كان مالا - باعتبار أنه يبذل بإزائه - المال صح جعله
كذلك ونفذ البيع. والتحقيق: الاشكال في صحة هذا البيع للفرق بين
الحق والملك، وذلك أن ما يقع عليه البيع في " الملك " هو نفس المملوك
الخارجي، أعني الدار والعقار ونحو ذلك، لا ملكية الدار - مثلا -
وهذا بخلاف " الحق " الذي صار أحد طرفي البيع، فإنه بنفسه يكون
متعلق البيع، وهو الملاحظ في مقام البيع، مع أن الحق سلطنة خاصة،
وقد ذكرنا أن العقلاء لا يعتبرون بيع السلطنة أصلا. نعم يجوز أخذ
شئ واسقاط الحق فيما إذا كان قابلا له كحق القصاص، وأما بيعه من
القاتل أو غيره فهو غير معقول. ووجهه يظهر بالتأمل.
لا حقيقة شرعية للفظ البيع
قال الشيخ " قده ": ثم الظاهر أن لفظ " البيع " ليس له حقيقة
شرعية ولا متشرعية..
أقول: أي أن المستعمل فيه هذا اللفظ في الكتاب والسنة وكلمات
الأصحاب هو المفهوم الذي يريده العرف منه.
31

لكن قال السيد " قده ": يمكن دعوى أن الفقهاء اصطلحوا فيه
معنى آخر، وهو العقد المركب من الايجاب والقبول، وأن مرادهم من
قولهم " كتاب البيع " هو كتاب عقد البيع، ومن قولهم " شرائط البيع "
هو شرائط عقد البيع. وهكذا.
قلت: هذه الدعوى - وكذا دعوى صاحب الجواهر " قده "
بالنسبة إلى لفظ النكاح - ممنوعة، فإن إرادة " العقد " من " البيع "
و " النكاح " في بعض الأحيان لا يدل على النقل والاصطلاح، بل ظاهر
بعض عباراتهم عدم إرادة غير المعنى العرفي، والقول بمخالفتهم
للاصطلاح فيها كما ترى.
فالحق ما ذكره الشيخ " قده ".
الكلام حول تعريف البيع
نعم نراهم في مقام تعريف " البيع " يعرفونه بتعاريف مختلفة:
ففي القواعد " البيع عبارة عن انتقال عين من شخص إلى غيره
بعوض مقدر على وجه التراضي " وتبعه عليه جماعة، مع أن " البيع "
فعل و " الانتقال " هو الأثر الحاصل منه، ولا يكاد يتبادر إلى الذهن من
" باع زيد متاعه " مفهوم الانتقال..
ومن هنا عدل جماعة إلى تعريفه بأنه " الايجاب والقبول الدالان
على الانتقال ".
وقد أورد عليه الشيخ " قده " بأن هذا من مقولة اللفظ و " البيع "
32

من مقولة المعنى، فهو فعل مسبب عن الايجاب والقبول.
واختار آخرون - كجامع المقاصد - القول بأنه " نقل العين. "،
فإن أراد من " النقل " المعنى المصدري وافق " البيع " فإنه فعل، ثم
قالوا " بالصيغة المخصوصة. ".
لكن أشكل الشيخ " قده " بأن " النقل " لا يرادف " البيع " بل
مرادف " البيع " هو " التمليك " ولازمه " النقل ". قال: ولذا صرح
في التذكرة بأن ايجاب البيع لا يقع بلفظ " نقلت " وجعله من الكنايات.
أي: ويشترط كون الايجاب باللفظ الصريح الدال على المقصود
بذاته.
وأيضا: " النقل " أعم من " البيع " فيشمل الصلح وغيره.
على أن قوله " بالصيغة المخصوصة " يخرج المعاطاة مع أنها
بيع عنده كما سيأتي.
كما أن في التعريف مسامحة من جهة جعله " الصيغة المخصوصة "
جزءا للمنشأ، قال الشيخ " قده ": ولا يندفع بأن المرد إن البيع
نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة، فجعله مدلول الصيغة إشارة إلى
تعيين ذلك الفرد من النقل لا أنه مأخوذ في مفهومه حتى يكون مدلول
" بعت " نقلت بالصيغة.
لأنه إن أريد بالصيغة خصوص " بعت " لزم الدور، لأن المقصود
معرفة مادة " بعت "، وإن أريد بها ما يشمل " ملكت " وجب الاقتصار
على مجرد التمليك والنقل.
33

قلت: كأنه " قده " يريد من قوله " لا يندفع " أصل الاشكال،
لكن الظاهر اندفاعه غير أنه يلزم اشكال الدور.
تعريف الشيخ للبيع
ثم إن الشيخ " قده " عرف البيع بأنه " انشاء تمليك عين بمال "
وقال: " ولا يلزم عليه شئ مما تقدم ".
أقول: إن ما أورده " قده " على تعريف جامع المقاصد - من
أنه إذا كان النقل بالصيغة جزءا من المنشأ فإن النقل بالصيغة لا يقبل
الانشاء (وإن أجيب: بأن المنشأ هو النقل لا النقل بالصيغة) - هو نفسه
وارد على هذا التعريف، ولا يجاب عنه بما أجيب عن ذلك، لأن
كلمة " الانشاء " لا يمكن الغض عنها هنا كما أمكن غض النظر عن كلمة
" بالصيغة " هناك.
وأيضا: إن هذا التعريف يفيد " البيع " الذي هو في قبال " الشراء "
لا الذي يقابل " الإجارة " وغيرها، لأنه يصدق على فعل البائع، وأما
المشتري فهو ينشئ " التملك " أو قبول " التمليك ".
وقال السيد " قده " ما ملخصه: إن الشيخ " قده " يريد أن البيع
تمليك انشائي من الموجب (وإن لم يحصل به الملكية عند العرف
كبيع ما لا مالية له، وكذا عند الشارع كبيع الخمر) إذ مفهوم البيع
متحقق بمجرد انشاء الموجب في اعتباره.. فهو إنما قال " انشاء "
لبيان دخول هذا في التعريف وأنه لا يشترط في مفهوم البيع امضاء
34

الشرع أو العرف أو كليهما.
أقول: فالصحيح إذن زيادة كلمة " انشاء " كما اعترف به السيد
" قده " أيضا، لكفاية " التمليك " لأنه أمر اعتباري انشائي، ولو فرض
أنه " قده " أراد التصريح بهذه الناحية لكان الأولى أن يقول " البيع
تمليك انشائي.. ".
وأما ما عن بعضهم: من أن الشيخ " قده " يريد من " الانشاء "
ما يقابل " الاخبار " فإنه ليس بيعا.
ففيه ما لا يخفى.
وقال المحقق الخراساني " قده ": " إن انشاء التمليك ليس
ببيع كما أنه ليس بتمليك، نعم إنما هو جزء سببه. ".
أقول: هذا صحيح، فإن الانشاء من البائع والقبول من المشتري
هما الجزءان المتحقق بهما البيع.
ثم إن بعض الفقهاء يعرف البيع السببي وبعضهم البيع المسببي
وظاهر تعريف الشيخ " قده " هو الأول، فهو إذن كالتعريف ب‍ " الايجاب
والقبول. " فيرد عليه ما أورده " قده " على تعريفه.
الاشكالات حول تعريف الشيخ
هذا، وقد أورد الشيخ " قده " نفسه على تعريفه بأمور:
منها: أنه موقوف على جواز الايجاب بلفظ " ملكت " وإلا لم
يكن مرادفا لها.
35

وأجاب: بأنه الحق كما سيجئ.
أقول: إن الترادف بين " بعت " و " ملكت " بهذا المعنى غير
مسلم. فهو ليس كالترادف بين " البشر " و " الانسان " بل هو أعم من
البيع، مثل الترادف بين " الانسان " و " الحيوان الناطق "، فيكون
" ملكت " مع القيود اللاحقة به مرادفا للفظ " بعت "، وبذلك يخرج
التعريف عن عمومه ويختص ببيع العين بالمال، فلا يشمل بيع المنفعة
باسقاط الحق - مثلا -.
ومنها: أنه لا يشمل بيع الدين على من هو عليه، لأن الانسان
لا يملك مالا على نفسه.
وأجاب: أولا: بإمكان تصوير مالكية الشخص لما في ذمته.
أقول: وذلك لأن كل إضافة تتقوم بطرفيها، والملكية لا تتحقق
إلا بالمالك والمملوك - كما تقدم - أما كون المملوك في الخارج وتشخص
المالك.. ونحو ذلك فخارج عن قوام المفهوم الإضافي، ولذا يتحقق
البيع بانشاء الفضولي له. وعلى هذا فلا ريب في تحقق مفهوم البيع في
هذا المقام لصحة تصور طرفي النسبة فيه، ومن هذا القبيل ما إذا كان
للمدين في ذمة الدائن نفس المقدار الذي في ذمته له.
وثانيا: بأنه لو لم يعقل التمليك لم يعقل البيع.
ومنها: أنه يشمل التمليك بالمعاطاة.
وأجاب: بأنه بيع وأن مراد النافين نفي صحته.
أقول: أي هو عندهم من هذا الحيث كالبيع الغرري، فإنه وإن
36

كان باطلا لكنه بيع عند الكل.
ومنها: صدقه على الشراء، فإن المشتري بقبوله للبيع يملك ماله
بعوض المبيع.
وأجاب: بأن التمليك فيه ضمني، وإنما حقيقته التملك بعوض،
ولذا لا يجوز الشراء بلفظ " ملكت " تقدم على الايجاب أو تأخر..
وفيه نظر، لأن تعريفه " قده " يعم التمليك الضمني كذلك.
أقول: يرد عليه الاشكال ببيع السلف، فإن الفقهاء أجمعوا على
جواز كون الايجاب فيه من المشتري والقبول من البائع، فيكون تمليك
البائع ضمنيا وتمليك المشتري أصليا.
ولا يندفع هذا الاشكال بما ذكره السيد " قده " من أن المراد من
كون التمليك ضمنيا أن يكون المتعلق فيه على وجه العوضية، ومن كونه
أصليا أن يكون على وجه المعوضية، وفي السلم - وإن كان الايجاب
من المشتري - إلا أنه يملك على وجه العوضية، فكأنه قال " أعطيتك
الدراهم عوضا عن تمليك الطعام "، فالمملك الأصلي فيه هو البائع.
وجه عدم الاندفاع: إن الشيخ " قده " لم يذكر في تعريفه سوى
أن البيع انشاء تمليك عين بمال. وهذا يصدق على فعل المشتري هناك،
لأنه يملك البائع، وليس فيه اعتبار كونه على وجه المعوضية حتى
يخرج تمليك المشتري في الباب المذكور.
37

كلام المحقق الأصفهاني وما يرد عليه
هذا وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الالتزام بالتمليك في
موارد:
منها: بيع العبد على من ينعتق عليه.
أقول: إنه لا مانع عقلا وعقلاءا من اعتبار الإضافة الملكية بين
العبد ومن ينعتق عليه، لكن المانع هو الشرع " كما لا مانع تملك
الكافر للمسلم إلا شرعا فقد منع عنه مطلقا " لكن المتبع هو الدليل،
فلا بد من النظر إلى مدى دلالته فهل يمنع عنه مطلقا أو يستثنى " الآن "
لعدم صدق " السبيل " المنفي في الكتاب (1) عليه؟ الحق هو الثاني،
فالاشكال مندفع.
قال: وأما الالتزام بالملك الحكمي ففيه: أنه ليس بيعا حقيقيا،
والعبد إنما ينعتق في هذه الحالة من ملك البائع لا المشتري، لعدم تحقق
الانتقال.
أقول: لقد دل الدليل على عدم امتناع الملك القصير.
قال: والمستفاد من بعض الأخبار أن العتق يترتب على مجرد
الشراء، ولازم ذلك عدم الملكية الآنية.
أقول: الانعتاق بمجرد الشراء يعني أنه بالشراء يتحقق الملك
فالعتق، لا أن العتق معلول للشراء.

(1) قال الله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " سورة
النساء. الآية 141.
38

ثم إنه " قده " نسب إلى صاحب الجواهر " قده " القول بتقدم
الملك على الانعتاق تقدما ذاتيا لا زمانيا. واعترض عليه بأنه خلاف التحقيق،
إذ لا اعتبار للملك إلا في الزمان، فالملك لا في زمان غير معقول..
لكن صريح كلام صاحب الجواهر وجود الملك في زمان الانعتاق مقارنا
له ومتقدما عليه ذاتا، ولا يقول بأنه رتبي فقط كما نسب إليه فراجع.
الكلام على الاشكالات الأخرى على تعريف الشيخ
ثم قال الشيخ " قده ": وبه يظهر اندفاع الايراد بانتقاضه بمستأجر
العين بعين، حيث أن الاستيجار يتضمن تمليك العين بمال أعني المنفعة.
يعني: أن المستأجر هنا وإن كان بملك العين بمنفعة كسكنى الدار
- مثلا - إلا أن الإجارة أولا وبالذات اعتبار المؤجر الإضافة بين الدار
ومستأجرها التي لازمها صيرورة المنفعة ملكا للمستأجر أو كونه مسلطا
عليها، فالإجارة في حد ذاتها هي السلطنة الناقصة في قبال البيع الذي
هو السلطنة التامة، وتضمنها أحيانا لتمليك العين من طرف المستأجر
لا دخل له بحقيقة الإجارة.
قال: ومنها انتقاض طرده بالصلح على العين بمال وبالهبة المعوضة.
وأجاب بما حاصله: أن حقيقة الصلح - ولو تعلق بعين - ليس
هو التمليك على وجه المقابلة والمعاوضة، بل معناه الأصلي هو التسالم،
ولذا لا يتعدى بنفسه إلى المال. نعم قد يتضمن التمليك إذا تعلق بعين،
لكنه ليس تمليكا لما ذكر.
39

أقول: إن الغرض الأصلي من الصلح هو قطع المشاجرة والتراضي
بين المتنازعين، قال في مجمع البحرين: وفيه " الصلح جائز بين
المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " أراد بالصلح التراضي بين
المتنازعين، لأنه عقد شرع لقطع المنازعة... قال بعض الأفاضل:
أنفع العقود الصلح لعموم فائدته، فإنه يفيد فائدة سائر عقود المعاوضات
من البيع والإجارة والعارية ونحو ذلك، ويصح على ما في الذمة من
غير عوض، لأنه ليس من شرطه حصول العوض، وإنما شرع لقطع
المنازعة - الخ.
وبالجملة، فالصلح هو التسالم لا بمعنى تسليم كل من الطرفين
شيئا للآخر، بل بمعنى التوافق، وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ " سازش
وسازگارى "، ولذا لا تتعدى الصيغة إلى المال بنفسها. فظهر أن الصلح
أمر آخر غير البيع. نعم قد يستفاد منه فائدة البيع كما إذا أوقعا البيع
بصورة الصلح - لأجل سقوط الخيار الخاص بالبيع كخيار المجلس
حيث ورد " البيعان بالخيار ما لم يفترقا " - صار كل منهما مالكا لما انتقل
إليه فور وقوع الصلح، وقد يفيد فائدة الإجارة لو تعلق بالمنفعة، ولو
تعلق بالحق أفاد الاسقاط.
ويدل على أن حقيقة الصلح ليست إلا التسالم، عدم اعتبار طلب
الصلح من الخصم اقرارا بكون الشئ ملكا للآخر، بخلاف ما إذا طلب
التمليك فإنه يعتبر اقرارا.
قال " قده ": وبالهبة المعوضة.
40

أقول: المراد من الهبة المعوضة هو أن يهبه الشئ ويشترط عليه
الهبة - إما بصورة شرط الفعل أو بصورة شرط النتيجة - والأول كأن
يقول " وهبتك هذا بشرط أن تهبني كذا "، والثاني أن يقول " وهبتك
هذا بشرط أن يكون ذاك ملكا لي ". وأما لو وهبه شيئا ووهبه الآخر
شيئا كذلك فهو من باب المقابلة بالاحسان، ولا ينتقض به على التعريف
لعدم صدقه عليه أصلا.
وقد أجاب الشيخ عن النقض بالهبة المعوضة: بأن التعويض
المشترط في الهبة كالتعويض غير المشترط فيها من حيث كونه تمليكا
مستقلا يقصد به وقوعه عوضا، لأن أن حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة
في كل من العوضين.
توضيحه: إن البيع حقيقة تمليك مال بمال، وبعبارة أخرى تبديل
أحد المالين بالآخر. بخلاف الهبة المعوضة، فإنها وإن اشتملت على
العوض إلا أنه لم يقع أحد المالين مقابلا للآخر، فإن حقيقة الهبة الاعطاء
بلا عوض، غير أن لهذا الاعطاء المجاني داع البتة، والداعي يختلف
باختلاف الموارد، فتارة هو طلب رضا الله عز وجل وتحصيل ثوابه،
وأخرى أضاء نفسه، وثالثة علمه بأن هذا الاعطاء بالمجان يدعو الطرف الآخر على
أن يهبه شيئا. وما نحن فيه من هذا القبيل، فهو من باب الداعي
لا المقابلة، وذكر العوض بهذا النحو غير مناف لمفهوم الهبة.
وقال السيد " قده " ما ملخصه: إن حقيقة الهبة قوامها عدم العوض،
41

وأما الهبة المعوضة فهي عندهم أن يعطي الشئ للموهوب له ويشترط
عليه أن يهبه شيئا في مقابل هبته لا في مقابل العين التي وهبها، ويصح
أن يقول " وهبتك كذا بهبتك كذا " من غير اشتراط للعوض. بأن تكون
الهبة مقابلة بهبة.
أقول: إنه في مورد الاشتراط يتحقق التزامان، فإن وفى الآخر
بما اشترط عليه والتزم به فهو وإلا فإن الهبة من جهته صحيحة، والسيد
" قده " يصحح أن يقول: وهبتك كذا بهبتك كذا، ويترتب على ما ذكره
أنه لو لم يهب الآخر بطلت الهبة من طرفه.. كما صرح به، لكن
الصورة التي ذكرها " قده " لا تخلو من الجمع بين المتنافيين، فإنه إن
كان هبة كيف يجعل في مقابله شئ؟
وقد أوضح " قده " ما ذكره: بأن الهبة تكون تارة بنحو جعل
شئ في مقابل شئ وهذا ليس هبة في الحقيقة بل إنه بيع، وأخرى
يجعل فعله مقابلا لمال يدفعه المتهب. وهذه هبة معوضة.
أقول: هذا مما لا يمكن تعقله، لأن انشاء الهبة معنى وجعل المال
في مقابله يحتاج إلى لحاظه بالمعنى الاسمي، والجمع بين اللحاظين
غير معقول.
الكلام في اخراج القرض عن تعريف الشيخ
قال الشيخ: وبقي القرض داخلا في ظاهر الحد ويمكن اخراجه..
أقول: قد أخرج القرض بأنه - وإن كان تمليكا لا مجانا - لكنه
42

ليس فيه معاوضة، فلذا يكفي أن يقول " أقرضتك هذا " بلا أن يقول
بعده " بمثله أو بقيمته ".
فهو يجعل الشئ ملكا للآخر مع ضمانه بدفع عوضه إليه إن لم
تكن عينه موجودة، فلو تلفت توجه الضرر إليه لا إلى المقرض.
ومن هنا لا يعتبر في القرض الربوي ما يعتبر في البيع الربوي من
كونه مكيلا أو موزونا، كما أنه لا غرر في القرض، فلا يعتبر العلم بالوزن
أو الكيل أو القيمة، فلا يضر الجهل ويكفي أن يقول " أقرضتك هذا ".
أقول: لكن عدم اعتبار العلم إلى هذا الحد مشكل، فمن المستبعد
تصحيح العرف وامضاء الشارع معاملة أو عقدا لا يعلم الطرفان مقدار
المال أبدا، فإنه يؤدي إلى النزاع والاختلاف عند الأداء ويلزم الغرر.
نعم لا يضر الجهل بالخصوصيات في حين العقد فيما إذا علم المقترض
أو كلاهما بعدئذ بما ينتفي معه الغرر. اللهم إلا أن يقال إن هذا جار
في الجهل بالوزن أيضا.
نعم ما ذكره " قده " من عدم اعتبار ما يعتبر في الربوي في القرض
صحيح، ولكن هذا لا يقتضي التغاير، فلا يخرج به " القرض " عن حد
" البيع ". نعم ليس القرض تمليك مال بمال، بل هو تمليك مال لا على
وجه المجان.
المختار في تعريف البيع
وبالجملة، إن تمليك العين بمال هو البيع وليس صلحا إجارة
43

وهبة. ولو علم به وشك في أنه هل كان بيعا أو غيره؟ فالأصل هو البيع
وتترتب عليه آثاره دون غيره من المعاملات. والمراد من الأصل هنا
هو الغلبة.
ولو تلفظ بالبيع وشك هل أراد المعنى العرفي أو معنى مجازيا
كالإجارة؟ رتب أثر الأول لأصالة الحقيقة. وأما لو ملك عينا بمال بأن
قال " ملكتك كذا بكذا " فشك في أنه تمليك بيع أو صلح مثلا؟ فلا معنى
للأصل هنا، لأن احتمال الصلح ساقط، فلا يقال: الأصل هو البيع،
لأن تمليك العين بمال هو البيع في الحقيقة وهو حقيقة البيع.
فتلخص: أنه في كل مورد كان تمليك مال بمال فهو بيع.
أقول: وربما يتبادل الناس فيما بينهم الأشياء وليس هناك عنوان
" العوض " و " المعوض " وعنوان " البائع " و " المشتري "، وهذا
ما يقال له بالفارسية " سودا كردن ". فظاهر كلام الشيخ " قده " اعتباره
بيعا وترتيب آثاره عليه من الخيارات الخاصة بالبيع.
وربما يقال بعدم كونه بيعا لفقد بعض شرائطه، فليكن معاملة مستقلة
تشملها أدلة الوفاء بالعقود، وتترتب عليها الخيارات العامة مثل " خيار
الغبن ". وهذا هو الأولى.
هل يشترط وجود العوضين منحازين قبل البيع؟
هذا، وظاهر عبارة المصباح بل صريحها: وجود الثمن والمثمن
منحازين ذهنا أو خارجا وبغض النظر عن البيع وإلا لم ينعقد البيع،
44

لا أنه بيع فاسد. لكن الفقهاء يقولون بفساد بيع " المزابنة " و " المحاقلة "،
والمراد من الأول:
تارة: بيع التمر على النخل في مقابل التمر على النخل، وهذا
بيع لعدم الاتحاد بين الثمن والمثمن.
وأخرى: بيع رطب هذه النخل بتمرها وهذا ليس بيعا للاتحاد.
والمراد من الثاني: بيع السنبل، وهو على نحوين:
فتارة يباع كله في مقابل حبه.
وأخرى يباع السنبل بنفسه.
فالأول صحيح دون الثاني، للاتحاد وعدم تعقل طرفي الإضافية فيه،
إذ لا يعقل بيع الشئ بنفسه.
فالفقهاء: يقولون بتحقق البيع في هذه لكنه فاسد (خلافا لصاحب
المصباح حيث يقول بعدم تحقق مفهوم البيع، بل قد استثنوا من تحريم
بيع " المزابنة " بيع " العرية " للنص الوارد في ذلك (1).
ولكن الظاهر أن اطلاق " البيع " سواءا في الروايات وكلمات
الأصحاب على هذه المعاملات مجاز ولا سيما بيع العرية، فكأنه يقول
له لك هذا التمر وأعطني كذا تمرا، ويؤيد ذلك التعبير عنها بلفظ
" العرية " (2).

(1) وسائل الشيعة 13 / 25 الباب الرابع عشر من أبواب بيع الثمار من
كتاب التجارة.
(2) إن كان مأخوذا من الإعارة.
45

قال السيد " قده ": إلا أن يقال بكفاية التعدد الاعتباري.
أقول: وفيه نظر لا يخفى.
معان للبيع ذكرها كاشف الغطاء والكلام حولها
ثم إن الشيخ " قده " نقل عن بعض من قارب عصره أنه قال:
يستعمل البيع في ثلاثة معان:
أولها - إنه تمليك عين بمال بشرط تعقبه بالقبول. وعن بعض
مشايخه أنه المراد من " البيع " في كلمات علمائنا، ثم قال " قده ":
لعله للتبادر.
أقول: إن الشيخ " قده " يرى أن " البيع " يتحقق بنفس التمليك
ولا يشترط تعقبه بالقبول، لكن هذا اللفظ ينصرف إلى المتعقب بالقبول
عند الاطلاق، باعتبار أنه الفرد المؤثر من البيع، وأما الذي لم يتعقبه
فلا تترتب عليه الآثار وإن كان مفهوم " البيع " متحققا به.
قال: الثاني إنه الأثر الحاصل من الايجاب والقبول أو الأول
فقط وهو الانتقال.
والثالث - إنه نفس الايجاب والقبول، أي العقد. وقد أدعى
الاتفاق على أن المراد من قولهم كتاب البيع. الصلح. الإجارة هو
كتاب أحكام عقد البيع - الخ، فما وضعت له هذه العناوين هو " العقد ".
قال السيد " قده ": شرائط البيع تارة شرط للتأثير فلو لم يتحقق
تحقق البيع والملكية ولكن في اعتبار البائع ولا أثر له شرعا وعرفا،
46

كما إذا باع الخمر أو الحفنة من تراب، فهنا يتحقق البيع لكن لا يترتب
عليه الأثر شرعا.
وأخرى شرط لتحقق الملكية، كما إذا خاطب الحائط قائلا
بعتك كذا بكذا، فإن هذا ليس بيعا حتى عند البائع نفسه، لعدم صحة
اعتبار المالكية للجدار، فهنا لم يتحقق البيع أصلا.
أقول: والأوضح من هذا المثال: إنه لو خاطب في الظلام أحدا
تخيلا حضوره قائلا " بعتك كذا بكذا " ثم لما زالت الظلمة ظهر أنه
كان قد تخيل. فإنه ليس بيعا وإن تحقق اعتبار التمليك من البائع.
إذن في بعض الموارد ينتفي مفهوم البيع بعدم تعقب الايجاب
بالقبول.
ثم أورد السيد " قده " على نفسه: بأنه يلزم - على هذا - أن
يكون " بعت " في مورد الاخبار غيره في مورد الانشاء، بأن يكون في
الأول متعقبا بالقبول ولولاه لم يصدق الخبر دون الثاني، لأن القبول
ليس بيده حتى يكون موجدا للبيع المتعقب بالقبول، فربما لم يقبل
الطرف الآخر.
وأجاب بأنه لا مانع من الالتزام بذلك، فيختلف المعنى بالتعقب
وعدمه.
أقول: هذا نفس كلام الشيخ، فإنه يقول بتحقق المفهوم حينئذ
بغض النظر عن التعقب.
أقول: الحق إن البيع عند العرف أوضح من كل هذه التعاريف.
47

وتعريف الشيخ " قده " كسائر التعاريف لا يخلو عن النظر، غير أنهم
لم يكونوا بصدد التعريف الحقيقي كما هو ظاهر.
حول وضع ألفاظ المعاملات
ثم هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو الأعم منه والفاسد
وعلى الثاني لا اشكال في التمسك بقوله تعالى " أحل الله البيع " ونحوه
من العمومات في مشكوك الصحة، إلا إذا قام دليل خاص على بطلان
عقد أو معاملة. وعلى الأول فيه اشكال سيأتي الكلام عليه بالتفصيل.
قال في المسالك: البيع موضوع للصحيح، ولذا لو حلف
على بيع شئ وأوقع البيع الفاسد فقد حنث وعليه الكفارة، وكذا الكلام
في سائر العقود والعبادات إلا الحج لأن الفاسد منه يجب المضي فيه.
فلو حلف بترك الصلاة والصوم اكتفى بمسمى الصحة وهو الدخول
فيهما، فلو أفسدها بعد ذلك لم يقع الحنث، ويحتمل عدمه لأنه لا
يسمى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد.
وعليه الشهيد الأول " قده " أيضا.
وقد أشكل على المسالك: بأنه إذا كانت " الصلاة " موضوعة للصحيحة
وقد كان حلف على الترك فكيف لم يحنث إن أفسدها بعد الدخول فيها؟
وأيضا: لو حلف على الترك لم يجز له الاتيان بمتعلق الحلف،
فلا يجوز له الدخول في الصلاة حينئذ، فهي فاسدة من أول الأمر.
وأما الحج ففيه قولان: اختار بعضهم صحته، وذهب آخرون
48

إلى فساده - كما ذكرنا في محله بالتفصيل - وعلى الثاني فإن الأمر
بالمضي والاتمام عقوبة لا يستلزم حجا.
وكيف كان، فقد استدل للقول الأول بالتبادر وبعدم صحة السلب
عن الصحيح.
أقول: إن تم ذلك بالنسبة إلى الصحيح فلا ينافي كون الفاسد
موضوعا له أيضا. وهذا ما أورده في القوانين على المسالك.
واستدل الشيخ " قده " بصحة السلب عن الفاسد.
أقول: وفيه نظر، لأن البيع الفاسد " بيع " عند العرف، وفي
الخبر إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الغرر (1) فهو بيع
لكنه فاسد.
واستدل للثاني بصحة التقسيم.
وأجيب: بأنه أعم من الحقيقة والمجاز.
وفيه: أن ظاهر التقسيم - في كل مورد - كونه على الحقيقة، إذ
التقسيم لا يناسب التجوز.

(1) قال في مجمع البحرين 3 / 423: وفي الخبر " نهى رسول الله صلى
الله عليه وآله عن بيع الغرر ".
وفي الوسائل 12 / 266 عن الشيخ الصدوق قدس سره عن الصادق
عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المناهي قال: ونهى
عن بيع وسلف، ونهى عن بيعين في بيع، ونهى عن بيع ما ليس عندك، ونهى
عن بيع ما لم يضمن.
وانظر ما بعده عن معاني الأخبار.
49

فالحق: أن الالتزام بالقول الأول مشكل.
التمسك بالاطلاق في المعاملات
وعلى الأول يشكل التمسك بالعمومات والاطلاقات فيما شك
في كونه صحيحا أو فاسدا، كما إذا وقع العقد لا بالعربية - مثلا - لأنه
تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وقد أجاب السيد " قده " عن ذلك بصحة التمسك بها - بناءا على
الصحيح أيضا، في العقود بل العبادات كذلك، إذ ليس المراد من
الوضع للصحيح دخل مفهوم الصحة في الموضوع له بنحو الشرط أو
القيد، بل المراد أن الموضوع له هو الجامع لشرائط الصحة، فلو
شك في عقد بيع - مثلا - يتمسك بالاطلاقات لأنه بيع، لا أنه ليس
بيعا حتى يكون تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية.
أقول: إذا كان موضوعا للجامع لأجزاء الصحة وشرائطها شرعا
وعرفا فشك في صحة بيع من جهة شرطية شئ فيه أو جزئيته فقد شك
في أنه بيع أو لا، فإن تمسك بالعام حينئذ كان تمسكا بالعام في الشبهة
المصداقية.
فجوابه " قده " غير واضح.
وأجاب الشيخ " قده " بأنه يمكن أن يقال: إن " البيع " عند
العرف يستعمل في الصحيح، أي ما كان صحيحا واقعا، لكن ما كان
صحيحا عرفا صحيح شرعا تارة وأخرى غير صحيح عنده - لعدم جامعيته
50

لشرائط الصحة المعتبرة عنده - كما أن بيع الهازل ليس بيعا عرفا.
والتمسك بالاطلاق يتم بناءا على الصحيح العرفي عند الشك في
الصحة الشرعية.
أقول تارة يكون ما وضع له لفظ " البيع " حقيقة واحدة في
نظر الشارع والعرف معا، وهو البيع الجامع للأجزاء والشرائط المعتبرة
لدى العرف والشرع، غير أنه قد يشتبه الأمر على العرف في مرحلة التطبيق
فيجعل البيع الربوي - مثلا - من مصاديق هذا البيع والشرع يردعه
عن ذلك ويخطئه في تطبيقه.
وعلى هذا فالمراد من " البيع " في قوله تعالى " أحل الله البيع "
هو الجامع للأجزاء والشرائط المعتبرة شرعا وعرفا. وحينئذ فإن أخطأ
العرف في التطبيق ردعه الشارع، وإلا كان المراد من كلامه (أي الشارع)
نفس ما فهمه العرف، فالمفاهيم منزلة على نظر العرف ما لم يخطئه.
أقول: وهذا إنما يتم بناءا على ما ذهب إليه الشيخ " قده " من
أن الملكية أمر حقيقي خارجي لا اعتباري جعلي.
وأخرى: يكون للعقود حقيقة شرعية - بأن يكون ما وضع له
اللفظ عند الشرع غير الموضوع له لدى العرف - وعليه، فلا يجوز
التمسك بالاطلاقات.
وقد ذهب كثير من الأصحاب إلى أن الملكية أمر اعتباري لا
حقيقي، فالعين هي نفسها في يد عمرو كما كانت في يد زيد من حيث
الخصوصيات وغيرها، غير أن العقلاء اعتبروا للاختصاص بهذا - بعد
51

أن كان لذاك - أسبابا فيما بينهم حفظا للنظام ودفعا للهرج والمرج.
ومن هنا لو ردع الشارع عن بيع - كالبيع الربوي (وإن
كان بيعا عند العرف) كان بيانا لما هو الموضوع له " البيع " عنده وإنه
غير الذي وضع له عند العرف. وبعبارة أخرى: يكون للبيع حقيقة
شرعية ووضع آخر غير وضع العرف، وعلى هذا لا يمكن التمسك
بالاطلاقات عند الشك في صحة بيع.
فتلخص: أنه بناءا على الوضع للصحيح يصح التمسك بالاطلاقات
عن طريق القول بأن العقد الصحيح عند العرف والشرع واحد وحقيقة
فاردة، غير أن العرف قد يخطأ في التطبيق في مورد ما ثم الشارع يردعه
إلا أن هذا يتم بناءا على أن الملكية أمر واقعي.
وأما بناءا على أنها أمر اعتباري - وأن المعتبر عند الشرع غيره
عند العرف - فيتمسك لأن الخطابات الشرعية منزلة على المفاهيم العرفية
إلا ما خرج بالدليل.
ويرد عليه ما ذكره السيد " قده " من أنه: فما فائدة وضع
الشارع حينئذ؟
ويمكن أن يجاب عنه، بأنه إذا كان " بيع " صحيحا عند العرف
- وهو موضوع للأعم من الصحيح والفاسد - فإنه يتمسك بالاطلاقات
عند الشك، وأما إذا كان الوضع عندهم للصحيح فقط فإنه هو الموضوع
له عند الشرع أيضا (فليس الموضوع له الشرعي غير الموضوع له
العرفي) غير أنه لا جعل للشارع بالنسبة إلى بعض الأفراد التي يرى
52

العرف صحتها، فالموضوع له واحد غير أن الشارع لا يمضي بعض
الأفراد. إذن يتمسك بالاطلاق إلا في المورد الذي نص الشارع على
عدم ترتيبه الأثر عليه.
بقي اشكال السبب والمسبب:
وهو: أنه إن كان الشارع يريد من امضاء العقود في مثل " أوفوا
بالعقود " امضاء الأسباب، فلا اشكال في التمسك بالاطلاق - والمراد
من " العقود " هي العقود - العرفية لأن الخطابات الشرعية منزلة على
ما عند العرف، وأما إن أراد من ذلك امضاء المسببات، أي ما يحصل
منها - وهو النقل هو الممضى شرعا - فإن هذا لا يقتضي امضاء ما يعتبره
العرف سببا للنقل، فلا يمكن حينئذ التمسك بالطلاق المسبب فيما شك
في كونه سببا ناقلا.
وأجاب بعض المحققين: بأنه إن كان المراد من " أوفوا بالعقود "
هو الامضاء فإن امضاء المسبب يستلزم امضاء السبب، وإن كان المراد
منه جعل الحكم - أي وجوب الوفاء بالمسبب - فلا يستلزم الحكم
بالوفاء بالسبب.
أقول: الظاهر عدم الفرق بين الأمرين، فإنه يستلزم الوفاء بالسبب
إلا إذا نص على عدم انفاذه بسبب من الأسباب، فلا مانع من التمسك
بالاطلاق.
والمختار - بناءا على عدم الحقيقة الشرعية - إن المراد من
" البيع الصحيح " هو الصحيح العرفي الشرعي، وبهذا صرح الشيخ
53

" قده " في آخر كلامه، وعليه فالمحلل في " أحل الله البيع " هو البيع
العرفي. نعم يخطأ العرف في كل مورد لا يراه بيعا صحيحا ويردعهم
عن ترتيب الأثر عليه.
ولو لم يصح التمسك بالاطلاق يتمسك بالاطلاق المقامي المستفاد
من الآية مع عدم التقييد مع كونه في مقام البيان، بل هو في الواقع
انفاذ وقبول لما يراه العرف بيعا صحيحا وإلا لردع.
وعلى فرض عدم جواز التمسك به أيضا فلا سبيل إلى التمسك
بالبراءة، بل في مورد الشك في تحقق الملكية بعقد ما يبنى على عدم
الصحة، وأما المسبب فإن الأصل في العقود هو الفساد.
54

المعاطاة
55

لا ريب في عدم تحقق " البيع " بالاعتبار المجرد، بل لا بد له
من مبرز، فإن كان الابراز بالقول - وهو الايجاب والقبول - فلا اشكال
ولا خلاف في تحققه بذلك، وإن كان بالفعل - وهو المعاطاة - فهو مورد
البحث والكلام، فهل تفيد المعاطاة الملك أو الإباحة؟ وعلى الأول
فهل هو لازم أو جائز!
أنحاء المعاطاة وآثارها
والمعاطاة: إن كانت على وجه الاجبار لم تفد شيئا، إذ لا اعتبار
حينئذ، ولا يمكن التعاطي من غير قصد، وأما مع القصد فلا تخلو من
ثلاثة أقسام:
1 - الاعطاء مع قصد الإباحة.
2 - الاعطاء مع قصد التمليك.
57

3 - الاعطاء مع قصد الأمانة.
فالأول يفيد الإباحة، والثاني التمليك، والثالث الأمانة. وفي
تعيين كل واحد منها لا بد من قرينة زائدة على الاعطاء ولو كان معاملة مفهمة
للمقصود حتى يؤثر فيه.
وأما الاعطاء بلا قصد فعلى فرض امكانه لا يفيد شيئا، لأن مجرد
الاعطاء لا يكفي دليلا على الرضا ويكون المال مغصوبا عند الأخذ،
فإن قصد النقل (من غير قصد لنوع من أنواعه بالخصوص) فلا أثر له
أيضا كذلك، لأن أقسام النقل معينة بعناوينها من البيع والهبة والإجارة..
فقصد الجنس دون الفصل غير ممكن - فتأمل.
وإنما الكلام في التعاطي بيعا وتمليكا - بأن يعطي أحدهما بقصد
التمليك بعوض ويقبل الآخر باعطاء العوض - أو إباحة - بأن يتعاطيا
على نحو التراضي والإباحة في التصرف منهما بلا تمليك فهل يصح أو لا؟
هنا مطالب:
الأول: ما هو المتعارف بين الناس؟ فيه قولان.
الثاني: ما هو الحكم في الحالين؟ إن قصد الإباحة لم يفد الملك
كما هو واضح، وأما إن قصد التمليك ففيه أقوال: فقيل إنه بيع لازم،
وقيل بل جائز، والثالث أنه بيع فاسد لعدم الصيغة. والملك لمالكه
لكن يترتب عليه الإباحة تعبدا عند بعضهم، وقيل بل من المالك، وذهب
بعضهم إلى عدم جواز التصرف.
58

وأما إذا لم يقصد لا الإباحة ولا التمليك فإما لا يعقل أصلا، وإما
لا يترتب عليه شئ. فيكون المعطى بحكم المغصوب.
كلمات الفقهاء حول المعاطاة
الثالث: ما المستفاد من كلمات الأصحاب في المقام؟
قال المحقق الثاني " قده ": إن محل النزاع هي المعاطاة المقصود
بها التمليك، ولذا فقد نزل الإباحة في كلام الفقهاء على الملك الجائز.
وقال صاحب الجواهر " قده ": إن محل النزاع هي المعاطاة
المقصود بها مجرد الإباحة، وأبقى الإباحة في كلامهم على ظاهرها.
ولنقل كلمات جماعة من الفقهاء في المقام ونذكر ما يمكن أن
يستفاد منها، فنقول:
قال في الخلاف: " إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال
أعطني بها بقلا أو ماءا فأعطاه فإنه لا يكون بيعا، وكذلك سائر المحقرات،
وإنما يكون إباحة له، فيتصرف كل منهما فيما أخذه تصرفا مباحا من دون
أن يكون ملكه.. ".
أقول: قوله " إنما يكون إباحة " يحتمل أن يكون حكما ويحتمل
إرادة أن المتعاطيين يبيح كل منهما التصرف في ماله للآخر. وأما قوله
" فيتصرف كل منهما " فصريح في عدم الملك.
وكلامه " قده " في المبسوط يحتمل فيه الوجهان المذكوران
كذلك، فقد قال هناك ما نصه " فأما البيع: فإن تقدم الايجاب.. وإن
59

تقدم القبول.. فإذا ثبت هذا فكل ما يجري بين الناس إنما هو استباحات
وتراض دون أن يكون ذلك بيعا منعقدا، مثل أن يعطي للخباز درهما
فيعطيه الخبز أو قطعة للبقلي فيناوله البقل، وما أشبه ذلك. ولو أن كل
واحد منهما يرجع فيما أعطاه كان له ذلك، لأنه ليس بعقد صحيح
هو بيع ".
لأن ظاهر قوله " إنما هو استباحات وتراض " عدم قصد المتعاطيين
الملك، وظاهر قوله " لأنه ليس بعقد صحيح هو بيع " كونه بيعا غير
صحيح.
فظهر أنه لا يمكننا نفي إرادته " قده " كون المعاطاة مقصودا بها
الإباحة، بمعنى استباحة كل من المتعاطيين التصرف في مال الآخر منه،
فما ذكره المحقق الثاني " قده " لا يساعده كلام الشيخ " قده ".
ثم قال في الخلاف - بعد العبارة المذكورة - " وفائدة ذلك أن
البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل أو أراد صاحب القطعة أن يسترجع
قطعته كان لهما ذلك، لأن الملك لم يحصل لهما. وبه قال الشافعي،
وقال أبو حنيفة يكون بيعا صحيحا وإن لم يحصل الايجاب والقبول،
وقال ذلك في المحقرات دون غيرها.
دليلنا، إن العقد حكم شرعي ولا دلالة في الشرع على وجوده
هنا فيجب أن لا يثبت، وأما الإباحة بذلك فهو مجمع عليها لا يختلف
العلماء فيها ".
60

لكن الاستدلال - للحكم بالإباحة - بالاجماع غير تام، لوجود
الخلاف في المسألة.
وقال في السرائر: ". فإذا دفع قطعة إلى البقلي أو إلى الشارب
فقال " أعطني " فإنه لا يكون بيعا ولا عقدا، لأن الايجاب والقبول ما حصلا،
وكذلك سائر المحقرات وسائر الأشياء محقرا كان أو غير محقر من الثياب
والحيوان، وإنما يكون إباحة له، فيتصرف كل منهما فيما أخذه تصرفا
مباحا من غير أن يكون ملكه أو دخل في ملكه، ولكل منهما أن يرجع
فيما بذله، لأن الملك لم يحصل لهما. وليس ذلك من العقود الفاسدة
لأنه لو كان عقدا فاسدا لم يصح التصرف فيما صار إلى كل واحد منهما،
وإنما ذلك على جهة الإباحة ".
أقول: وهذا ظاهر في دعوى صاحب الجواهر " قده "، إذ لو
كانا قاصدين للملك لكان عقدا فاسدا، بل إنهما يقصدان الاستباحة،
ولذا كان لكل منهما أن يرجع فيما بذله.
وقال في الغنية: " واعتبرنا حصول الايجاب والقبول تحرزا عن
القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري والايجاب من البائع، بأن يقول
" بعنيه بألف " فيقول " بعتك بألف "، فإنه لا ينعقد بذلك، بل لا بد أن
يقول المشتري بعد ذلك " اشتريت " أو " قبلت " حتى ينعقد، واحترازا
أيضا عن القول بانعقاده بالمعاطاة، نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول
61

" أعطني بقلا " فيعطيه، فإن ذلك ليس ببيع وإنما هو إباحة للتصرف.
يدل على ما قلناه الاجماع المشار إليه، وأيضا فما اعتبرناه مجمع
على صحة العقد به وليس على صحة ما عداه دليل، ولما ذكرنا نهى
صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المنابذة والملامسة، وعن بيع الحصاة
على التأويل الآخر، ومعنى ذلك أن يجعل اللمس بشئ أو النبذ له والقاء
الحصاة بيعا موجبا ".
أقول: يعني أنه كما لا ينعقد البيع فيما إذا لم يقل المشتري بعد
الايجاب " اشتريت " أو " قبلت " كذلك المعاطاة لا ينعقد بها البيع مطلقا،
وهذا ظاهره قصد المتعاطيين التمليك لا الإباحة.
ويحتمل أن يكون في مقام بيان الفرق بين قول المشتري للبائع
" بعني " وقوله له " أعطني "، فإن كليهما لا ينعقد به البيع، إلا أن الثاني
يفيد الإباحة للتصرف.
والذي يظهر لي أن المراد من هذه " الإباحة " هي " الإباحة المالكية "
لا " الإباحة الشرعية ".
كما أن استدلاله بالأدلة الثلاثة ظاهر في أن المفروض قصدهما
الملك، وإلا لكان الأولى أن يستدل لعدم انعقاده بعدم القصد، لكن من
المحتمل استدلاله بها لعدم انعقاد البيع بقوله " بعني " لا لعدم انعقاده
بقوله " أعطني ".
وقال الحلبي " قده " في الكافي بعد ذكر شروط صحة البيع:
62

" فإن اختل شرط من هذه لم ينعقد البيع ولم يستحق التسليم، وإن
جاز التصرف مع اخلال بعضها للتراضي دون عقد البيع ويصح معه
الرجوع ".
قال الشيخ " قده ": وهو في الظهور قريب من عبارة الغنية.
أقول: بل أظهر منها، غير أنه لم يتعرض للمعاطاة ونفى كونها
بيعا بصراحة.
وقال المحقق في الشرائع: " ولا يكفي التقابض من غير لفظ وإن
حصل من الأمارات ما دل على إرادة البيع ".
أقول: أي لا ينعقد البيع بالتقابض سواء قصد المتقابضان البيع
أو لا.. وليس في عبارته ما يفيد إباحة التصرف حينئذ وعدمها.
وقال الشهيد " قده " بعد قوله قد يقوم السبب الفعلي مقام السبب
القولي: " وأما المعاطاة في المبايعات فهي تفيد الإباحة لا الملك وإن
كان في الحقير عندنا ".
أقول: قوله " فهي تفيد الإباحة لا الملك " صريح في عدم إفادة
المعاطاة الملك، وأما إفادتها الإباحة فهي بناءا على ما ذهب إليه " قده "
من أن تسليط شخص غيره على ماله بالعقد الفاسد يفيد جواز تصرفه
فيه وعدم ضمانه له إذا تلف، ولا يستفاد من عبارته هذه أنهما إن قصدا
الملك أفادت الإباحة دونه، فلعله يقول بإفادتها الإباحة من حيث أن
63

التسليط على الشئ مع العلم بفساد المعاملة يستلزم إباحة التصرف.
إلا أن هذا مما لا يلتزم به الفقهاء، بل إنهم يقولون في خصوص المعاطاة
بأن الفعل لا يقوم مقام القول، فتفيد الإباحة لكن لا مطلقا، كما لا يلتزمون
بعدم الضمان في المأخوذ بالعقد الفاسد، إلا بعضهم مع علم المعطى
بفساد العقد.
نتيجة البحث
وبعد، فقد ظهر أن عبارات الفقهاء في المقام مختلفة، فلا سبيل
إلى جمعها على معنى واحد، وحينئذ نقول: لا اشكال في جواز التصرف
فيما أخذ بالمعاطاة إن كان التعاطي بقصد الإباحة، وإنما الاشكال في
التصرفات الموقوفة على الملك. فقد قيل، بأن الإذن بالتصرف يقتضي
الإذن في التملك أولا ثم التصرف فيه بشتى أنحائه، وقيل بعدم كفاية الإذن
لهذه الجهة.
ثم إن الشائع بين الناس في هذه الأزمنة ليس غير الشائع بينهم
في عصر الشيخ الطوسي " قده "، وعلى هذا فما يقصدونه هو الاستباحة
والتراض، وأما إن قصدا الملك كان بيعا عرفا تشمله العمومات كقوله
تعالى " أحل الله البيع " وقوله " إلا أن تكون تجارة عن تراض ". بل
مقتضاها إفادة اللزوم أيضا، فلا بد للقائل بعدمه من إقامة الدليل. اللهم
إلا إذا قام الدليل على عدم انعقاد البيع بالمعاطاة.
قال الشيخ " قده ": قد عرفت ظهور أكثر العبارات المتقدمة
64

في عدم حصول الملك، بل صراحة بعضها، ومع ذلك كله فقد قال المحقق
الثاني في جامع المقاصد وحاشية الارشاد أنهم أرادوا بالإباحة الملك
المتزلزل وزاد في الثاني " إن مقصود المتعاطيين إباحة مترتبة على ملك
الرقبة كسائر البيوع، فإن حصل مقصودهما ثبت ما قلناه، وإلا وجب أن
لا تحصل إباحة بالكلية، بل يتعين الحكم بالفساد، إذ المقصود غير
واقع، فلو وقع غيره لوقع بغير قصد وهو باطل ".
وأجاب الشيخ " قد " عنه: بأن الفقهاء يحكمون بالإباحة
المجردة عن الملك في المعاطاة مع فرض قصدهما التمليك، وإن
الإباحة حصلت من استلزام اعطاء كل منهما سلعته مسلطا عليها الآخر
الإذن في التصرف فيه بوجوه التصرف.
وأجاب المحقق الأصفهاني " قده " عنه أيضا: بأن ما وقع هنا
ليس غير مقصود، لأن وقوع بعض المقصود كاف، إذ الملكية ذات
مراتب، فعند ما يملكه الشئ يقول " ملكتك ذاته وتملكه والانتفاع
به "، فإذا اشترط الشارع الصيغة في تمليك الذات والتملك بقي الانتفاع
وهو حاصل بالمعاطاة مع قصد التمليك.
أقول: إن الملكية أمر بسيط وليس إلا ملك الذات، وأما ملك
المنفعة وحق الانتفاع فإنما يترتبان على تملك الذات وبتبعه فلا مراتب
للملكية. وعليه فإذا زالت ملكية الذات زالت الأمور المترتبة عليها،
ولذا لو باع المستعير (وهو مالك المنفعة بالاستعارة) الشئ فضولة لم
يملك المشتري المنافع، ومن هنا يظهر وجود التضاد بين العين والمنفعة
مستقلا.
65

وقال المحقق الخراساني " قده ": إن المعاطاة بيع يفيد الملك،
إلا أنه يؤثر التمليك شرعا بشرط التصرف الملزم.
وقد استلطف المحقق الأصفهاني " قده " هذا الوجه لكنه أجاب
عنه بعدم وقوفه على من وافقه عليه.
أقول: إنه يقول بتأثير المعاطاة الملك بشرط تلف أحد العوضين
بالتصرفات الموقوفة على الملك كالعتق والوطي والوقف. لكن الحق
أنه لا تعقل الملكية المقيدة بتلف العين، لأنه إن أريد أن التلف كاشف
عن الملكية من أول الأمر - نظير الإجازة في عقد الفضولي على قول -
فالملكية تتحقق حينئذ لمن علم بتعقبها لذلك دون من لم يعلم به، وهذا
لا يلتزم به أحد. وإن أريد أن التلف ناقل لا كاشف، ففيه ما تقدم من
أن اعتبار الملكية بعد تلف العين غير معقول، ولو سلم اعتبار العقلاء
للملكية بعد التلف - لأجل آثار ترتب عليها - فإن اعتبارها مشروطة
بالتلف غير معقول، وليس من شأن العقلاء جعل هكذا معاملة. فما ذكره
" قده " مخالف لكلمات العلماء وبناء العقلاء.
هذا، والصحيح - كما قال المحقق الخراساني " قده " - أنه لا
موجب ولا داعي للجمع بين هذه الكلمات.
الأقوال في المسألة
قال الشيخ " قده ": فالأقوال في المسألة ستة:
1 - إنها تفيد الملك اللازم. وقد نسب هذا القول إلى الشيخ
66

المفيد " قده "، وعن العلامة " قده ": الأشهر عندنا أنه لا بد من الصيغة.
ومفهوم هذا الكلام إن إفادتها للملك خلاف المشهور.
2 - اللزوم بشرط كون الدال على التراضي أو المعاملة لفظا،
حكي عن بعض معاصري الشهيد الثاني " قده " وبعض متأخري المحدثين.
قال الشيخ " قده ": لكن في عد هذا من الأقوال في المعاطاة
تأمل.
أقول: لا يريد القائل اشتراط الصيغة (الايجاب والقبول) فإنه
ليس بمعاطاة، بل المراد أن يتقاولا فيما بينهما ثم يتعاطيا عوضا عن
الصيغة، فلا مجال لتأمل الشيخ " قده ".
3 - الملك غير اللازم، وقد ذهب إليه المحقق الثاني " قده ".
4 - عدم الملك، لكن التصرفات كلها - حتى المتوقفة على
الملك - مباحة، قال الشيخ " قده ": وهو ظاهر عبائر كثيرة.
5 - عدم الملك مع إباحة التصرفات غير الموقوفة على الملك،
نسبه الشيخ إلى الشهيد.
6 - عدم جواز التصرف مطلقا، أي أنه بيع فاسد، نسب إلى
العلامة " قده "، قال الشيخ: لكن ثبت رجوعه عنه.
ونقل السيد " قده " عن كاشف الغطاء قوله: إن المعاطاة معاملة
مستقلة تفيد الملك كالبيع بالصيغة. وهذا قول سابع.
أقول: يتحصل من ذلك كله عدم الاتفاق على حكم في هذه
المسألة. نعم الظاهر اتفاقهم على جواز التصرف فيما أخذ بالمعاطاة
67

قبل تلف أحد العوضين - لأن المخالف ليس إلا العلامة " قده " وقد
عدل عنه - لكن الكلمات في بيان وجه هذا الجواز مختلفة.
أدلة القول الثاني
وكيف كان فلا بد من النظر في الأدلة:
لقد قوى الشيخ " قده " القول الثاني، وهو أنها تفيد الملك
- فيما إذا قصدا التمليك والتملك - واستدل على ذلك بوجوه:
(الأول: السيرة)
فالسيرة قائمة على معاملة ما أخذ بالمعاطاة معاملة الملك وترتيب
جميع الآثار عليه.
أقول: إن أراد الشيخ " قده " من السيرة سيرة المتشرعة،
فلا بد من احراز استمرارها حتى زمن الإمام عليه السلام، فإنها حينئذ
معتبرة ولا حاجة معها إلى دليل آخر، وإن أراد سيرة العقلاء - بما هم
عقلاء - فلا بد من احراز امضاء الشارع لها، ولا أقل من عدم ردعه
عنها.
أقول: إن العقلاء يعاملون ما أخذوه بالمعاطاة معاملة الملك،
ولكن هل الملك المتزلزل؟ الظاهر أنه العكس، فليس عملهم إلا على
الملك المستقر، ولذا لا يرتضون بالفسخ والرد، وليست الملكية عندهم
متوقفة على التصرف أو التلف. وهذه السيرة العقلائية بمجرد اتصالها
واستمرارها - لتشابه الأزمنة - إلى زمن المعصوم عليه السلام تكون
68

سيرة متشرعية لعدم الردع.
اللهم إلا أن يثيب جواز التراد شرعا بالدليل.
وعلى هذا الذي ذكرنا يصدق على هذه المعاملة عنوان " البيع "
عند العرف، فيصح التمسك بالدليل:
(الثاني: عموم آية الحل)
وهي قوله تعالى: " أحل الله البيع "، قال الشيخ إنها تدل
على جواز التصرفات المترتبة على البيع حتى المتوقفة على الملك،
وعلى هذا تدل على أن المعاطاة تفيد الملك.
أقول: وهل " أحل " يدل على حل التصرفات بالمطابقة، أو
هو كناية عن حلية هذه التصرفات، أو أنه لما " أحل الله البيع " حلت
التصرفات بالملازمة. وإلا فلا معنى لحلية البيع، إذ تحليله إنما هو
باعتبار الآثار المترتبة عليه؟.
إذن لا يريد الشيخ " قده " من كلامه المتقدم دلالة الآية بالمطابقة
على جواز التصرفات.
وقال المحقق الخراساني " قده ": أن قوله بدلالتها على جواز
التصرفات إنما هو لأن المسبب ليس أمرا اختيارا حتى يحوز ويحلل.
ثم أورد عليه بأن اختيارية السبب كافية لاختيارية المسبب،
فالاحراق - مثلا - اختياري بايجاد سببه الاختياري.
وقال المحقق الأصفهاني " قده ": إن البيع لما كان حلالا مطلقا
- أي سببا كان أو مسببا - فلا يحرم " قول بعت "، فإن المحلل هو
69

التصرفات، وهي مورد الحاجة ومحل الابتلاء. ثم أشكل عليه: بأن
الحلية متعلقة بالبيع لأنه فعل من أفعال المكلف، وهذه الحلية التكليفية
تدل على حلية التصرفات بالملازمة، فلا وجه للقول بتوجه الحلية إلى
التصرفات أولا وبالذات.
أقول: إنما يتوجه ما ذكراه قدس سرهما فيما إذا كانت عبارة
الشيخ " قده " ظاهرة في شئ من ذلك، وقد تقدم أنها تحتمل الاحتمالات
الثلاثة المذكورة كلها.
ثم إنه قد يقال: إن المراد من " أحل " هو الحكم الوضعي وهو
" النفوذ "، أي إن الله أنفذ البيع وأقره وأمضاه. وإن جعلناه بمعنى
الحكم التكليفي كان المعنى: إن هذا السبب لمبادلة المال بمال - أي
التبديل - حلال، فهو إذن صحيح. وكذا إن أريد المسبب، أي إن الله
جوز مبادلة المال بالمال، فسواء كان بمعنى الحكم الوضعي أو التكليفي
سببا أو مسببا دل على الصحة.
إنما الكلام في أنه إن كان بمعنى السبب كان معناه: كل ما جعلتموه
سببا للمبادلة وكان بيعا عندكم فهو حلال، وحينئذ يتمسك بعمومه
وتصح المعاطاة. وإن كان بمعنى المسبب كان المعنى: أحل الله انتقال:
المال ومبادلته بالمال، فلا عموم له ليشمل المعاطاة.
أقول: لكن مبادلة المال بالمال عند العرف لها أسباب عديدة،
والله تعالى أمضى وأنفذ المبادلة المسببة بها عدا المبادلة الحاصلة بالبيع
الربوي مثلا. وحينئذ يتمسك بالعموم لأجل المعاطاة التي لا جهة
70

ربوية فيها فالعموم يتمسك به في المقام سواء كان المراد امضاء السبب
أو امضاء المسبب.
هذا، ولا يقدح بعموم " أحل الله البيع " كونه في قبال " حرم
الربا " كما لا يخفى. لأن العرف يفهم من ذلك تخصيص البيع الربوي
دون التخصص.
(الثالث: آية التجارة)
قال الله تعالى " لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض " إذ لا ريب في أن المعاطاة تجارة عن تراض وأنها تفيد
الملك. نعم لا تدل الآية على إفادتها اللزوم.
(الرابع: دليل السلطنة)
وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الناس مسلطون على
أموالهم ". فقد استدل به بأن المراد من التسلط هو التسلط الوضعي
والتكليفي معا، أي أنها سلطنة مجعولة من الله تعالى للناس على أموالهم
والتصرف فيها مطلقا، ومن التصرفات: المعاملات التي يتحقق بها
النقل والانتقال عند العرف والتي أمضاها الشارع ورتب عليها الأثر،
ومن ذلك " المعاطاة " فإنها بيع عرفا يفيد الملك كالبيع بالصيغة.
قال الشيخ " قده ": لا دلالة له على المدعى، لأن عمومه باعتبار
أنواع السلطنة، فهو إنما يجدي فيما إذا شك في أن هذا النوع من
السلطنة ثابتة للمالك وماضية في حقه شرعا أم لا، وأما إذا قطعنا بأن
سلطنة خاصة كالتمليك نافذة لكن شك في أن هذا التمليك الخاص
71

يحصل بمجرد التعاطي مع القصد أم لا بد من القول الدال عليه فلا
يجوز الاستدلال به.
وقال جماعة - منهم المحقق الخراساني " قده " - إن هذا الحديث
لا يدل حتى على النوع المشكوك فيه، فلو شك في امضاء الشارع
لنوع من أنواع السلطنة لم يجز التمسك به، وكذا إذا شك في صنف
من نوع.
وبالجملة، أنه يدل على سلطنة المالك على ملكه ونفوذ معاملاته
المعلوم صحتها والماضية شرعا في حقه. وبعبارة أخرى: أنه يدل على
عدم حجر الشارع للناس، فلهم التصرف في أموالهم.
وقال آخرون - منهم السيد والمحقق الأصفهاني " قد هما "
بأن الحديث يدل على التصرفات النوعية والصنفية معا، قال السيد:
ليس مراد الشيخ " قده " من النوع هنا النوع المنطقي بل الأعم منه
ومن الصنف، فإذا كان الشارع قد أمضي التصرف بالنوع فإنه قد أمضاه
بالنسبة إلى الصنف كذلك.
وقال المحقق الأصفهاني: التسليط عبارة عن اعطاء القدرة على
التصرف، وهذا يعني امضاء الشارع لجميع التصرفات المتعارفة بين
الناس وترتيبه الآثار التي يرتبونها، فالمراد من " التسليط " هو " الامضاء "
والممضى هو التصرفات الوضعية والتكليفية بجميع أنواعها وأقسامها
وأصنافها المتداولة بين الناس.
أقول: وبما ذكره يندفع ما ذكره المحقق الخراساني " قده ".
72

نعم هنا احتمال آخر، وهو أن يكون هذا الحديث بمعنى الحديث
الآخر " لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه " أي الناس
مسلطون على أموالهم فحسب دون أموال غيرهم، فلا يجوز لأحد أن
يتصرف في مال غيره إلا بإذنه. وعلى هذا ينتفي " الامضاء " ودلالة
الحديث في المقام، لأنه على هذا لا اطلاق له بل أنه حكم حيثي وليس
في مقام بيان أقسام التسلط وأنواعه.
(الخامس: الاجماع المركب)
قال الشيخ " قده ": هذا مع امكان اثبات صحة المعاطاة في
الهبة والإجارة ببعض اطلاقاتهما وتتميمه في البيع بالاجماع المركب.
وأورد عليه السيد " قده ": بأن الاطلاق الموجود هناك موجود
مثله في باب البيع، فلا حاجة إلى الاجماع المركب.
أقول: لعل نظر الشيخ " قده " إلى وجود احتمالات أخر إلى
جنب احتمال الامضاء والصحة الوضعية، وأما في الإجارة والهبة فليس
الاطلاق ظاهرا إلا في النفوذ والصحة.
كلام كاشف الغطاء " قده " حول المعاطاة
قال الشيخ " قده ": هذا مع أن القول بإباحة جميع التصرفات
مع التزام حدوث الملك عند التصرف المتوقف عليه لا يليق بالمتفقه
فضلا عن الفقيه، ولذا ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد في
مقام الاستبعاد أن القول بالإباحة المجردة مع قصد المتعاطيين التمليك
73

والبيع مستلزم لتأسيس قواعد جديدة:
منها: أن العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود.
ومنها: أن تكون إرادة التصرف من المملكات. قال: وأما
" أعتق عبدي عنك، أو عبدك عني " فمعناه أنت وكيلي في تمليك
العبد إياي وقبول التمليك ثم عتقه عني. وكذا الآخر، وهذا من باب
أن الإذن في الشئ إذن في مقدمته أو شرطه.
ومنها: تعلق الخمس بما أخذ معاطاة، وكذا الزكاة، وهذا معناه
- بناءا على هذا القول - وجوب أداء الزكاة والخمس على غير صاحب
المال، وكذا الأمر في الاستطاعة والديون والنفقات، وكذا في حق
الشفعة والمقاسمة، والحال أنه - بناءا على ما ذكر - ليس ملكا لمن
اشترى بالمعاطاة. وكذا توريث ما أخذ بالمعاطاة، فإنه يعني كون موت
أحد المتعاطيين مملكا فينتقل الشئ إلى وارثه. وكذا الأمر في الربا،
ومسألة الفقر والغنى فتترتب عليها الآثار.
وترتيب هذه الأحكام وغيرها مع القول بالإباحة يستلزم تأسيس
قواعد جديدة.
ومنها: جعل التلف السماوي من جانب مملكا للجانب الآخر،
والتلف من الجانبين معينا للمسمى من الطرفين، ولا رجوع إلى قيمة
المثل حتى يكون له الرجوع بالتفاوت مع حصوله في يد الغاصب أو
تلفه فيها. فالقول بأنه المطالب لأنه يملك بالغصب أو التلف في يد
الغاصب غريب، والقول بعدم الملك بعيد جدا، مع أن في التلف
74

القهري إن ملك التالف قبل التلف فعجيب ومعه بعيد لعدم قابليته حينئذ
وبعده ملك معدوم، ومع عدم الدخول في الملك يكون ملك الآخر بغير
عوض، ونفي الملك مخالف للسيرة وبناء المتعاطيين.
ومنها: أن التصرف إن جعلناه من النواقل القهرية فلا يتوقف
على النية فهو بعيد، وإن أوقفناه عليها كان الواطي للجارية من دونها
واطئا بالشبهة، والجاني عليه والمتلف جانيا على مال الغير ومتلفا له.
ومنها: مسألة النماء الحادث قبل التصرف.
ومنها: قصر التمليك على التصرف مع الاستناد فيه إلى أن إذن
المالك فيه إذن في التمليك، فيرجع إلى كون المتصرف في تمليك
نفسه موجبا قابلا، وذلك جار في القبض، بل هو أولى منه لاقترانه
بقصد التمليك دونه.
التحقيق فيما ذكره كاشف الغطاء
هذه خلاصة ما ذكره كاشف الغطاء " قده "، قال الشيخ " قده ":
هذه كلها استبعادات، لا أن الوجوه المذكورة تنهض في مقابل الأصول
والعمومات، إذ ليس فيها تأسيس قواعد جديدة. ثم أجاب عن الوجه
الأول:
أولا: بأن المعاطاة ليست من العقود وما يقوم مقامها عند القائل
بالإباحة.
وثانيا: بأن تخلف العقد عن مقصود المتبايعين كثير.
75

أقول: إن أراد الشيخ " قده " إن العقد في هذه الموارد إما باطل
فلم يترتب عليه شئ، وإما صحيح فالشارع رتب عليه الإباحة والتصرفات
المترتبة على الملك بالاجماع وإن لم يكن ملكا له فالجواب تام. وإن
أراد ترتب خلاف المقصود على هذا العقد - مع فرض صحته - فهذا
لا يكون جوابا..
وأما الحكم بالضمان في المأخوذ بالعقد الفاسد فأما من جهة
" قاعدة اليد " وأما من جهة " قاعدة الاقدام "، لا أنه أثر للعقد نفسه مع
قولهم بفساده.
وكذا الأمر في مسألة الشرط الفاسد، فالعقد صحيح غير أن الشرط
فاسد لا أثر له - بناءا على أنه لا يفسد العقد - لأنه التزام في ضمن التزام،
فإذا لم يمض الشرع أحدهما بقي الآخر على نفوذه وترتب عليه الأثر،
فليس هناك تختلف عن القاعدة المذكورة، وقد ذكرنا أن العقود
الصحيحة التي أمضاها الشارع إنما يترتب عليها الأثر المقصود، وهذا
معنى القاعدة المذكورة.
وكذا الأمر في بيع ما يملك مع ما لا يملك، كبيع الشاة مع الخنزير،
فإن الشارع يمضي بيع الشاة دون الخنزير. ولا تخلف عن تلك القاعدة،
لأن قوله " بعتك هذين " ينحل إلى: بعتك هذا وهذا، والشارع أمضى
أحدهما مطابقا للقصد دون الآخر، لا أن هنا بيعا واحدا أمضى نصف
المقصود به وأبطل النصف الآخر ليلزم التخلف.
ومثله الأمر في بيع الفضولي لنفسه، فإن انشاءه المبادلة بين
الثمن والمثمن يتوقف على إجازة المالك، فإن أجاز ترتب الأثر عليه
76

وإلا فلا. وأما اعتبار نفسه مالكا فهو اعتبار لغو لا أثر له شرعا ولا يضر
بالعقد.
وأما النقض بانقلاب العقد المنقطع دائما في حال ترك ذكر
الأجل - والذي وافقه السيد " قده " عليه وإن خالفه في سائر النقوض -
فالظاهر عدم صحته كذلك، لأن التزويج يقتضي الدوام بذاته - كالتمليك -
ما لم يقيد. وهذا مطابق للقاعدة، لأن العاقد قاصد للنكاح، فلو ترك تقييده
وتحديده إلى أجل وقع المقصود الدال على الدوام وترتب عليه الأثر.
وقد أجاب الشيخ " قده " عما ذكره كاشف الغطاء ملزوم كون
إرادة التصرف مملكا بأنه لا بأس بالتزامه إذا كان مقتضى الجمع بين
الأصل ودليل جواز التصرف المطلق وأدلة توقف بعض التصرفات على
الملك.
وقال السيد " قده " في الجواب عما ذكره كاشف الغطاء " قده ":
بأنه ليس كل من قال بالإباحة يقول بمملكية إرادة التصرف، بل يمكن
القول بجواز التصرفات الموقوفة على الملك مع الإباحة، بأن يكون " لا
بيع إلا في ملك " مثلا مخصصا بما نحن فيه، فالإباحة مترتبة على البيع
الذي جاز بالاجماع، وهي كافية لجواز التصرفات.
أقول: وفيه أن كلام كاشف الغطاء " قده " متوجه إلى القائلين
بالإباحة مع قولهم بمملكية التصرف.
وقد أشكل السيد " قده " على الشيخ بمنع كون ذلك مقتضى
77

الجمع، بل الأولى هو الحكم بالملكية من أول الأمر، فإنه مقتضى
الجمع لأنه على هذا لا يلزم طرح شئ. نعم لازمه طرح الأصل المقتضي
لعدم الملكية، ولا بأس به لتقدم العمومات عليه، ولو فرضنا تحقق الاجماع
على عدم الملكية من أول الأمر فالأولى طرح عموم ما دل على جواز
التصرف والحكم بعدم شموله لما يكون موقوفا على الملك، ولو فرضنا
تحقق الاجماع على جواز مثل هذا التصرف فالأولى طرح عموم ما دل
على توقفه على الملك والحكم بتخصيصه بغير المقام عملا بقاعدة السلطنة.
أقول: هذا يتوقف على عدم تقيد قاعدة السلطنة وبقائها على
اطلاقها، أي شمولها لما منع عنه الشارع.
وقال المحقق الأصفهاني " قده ": إن كان غرض كاشف الغطاء
عدم مساعدة قاعدة لسببية إرادة التصرف أو نفس التصرف للملكية،
فما ذكره " قده " في الجواب من أنه مقتضى الجمع بين القواعد
وجيه، إذ لا فرق في كفاية الدليل على السببية بين اقتضاء دليل بالخصوص
واقتضاء الجمع بين الأدلة، فالقاعدة المتصيدة من الجمع بين القواعد
كافية.
وإن كان غرضه أن اثبات السببية - ولو بالجمع بين القواعد -
اثبات أمر غريب لا نظير له في الشريعة، في قاعدة جديدة.. فما أجاب
به أجنبي عن الاشكال، بل لا بد من اثبات نظيره في الشريعة حتى يخرج
عن الغرابة.
ثم أجاب " قده " عما ذكره الشيخ نظيرا بالفرق بين البابين،
78

ثم قال: " نعم الرجوع في الطلاق بناءا على حصوله بمجرد الاستمتاع
ولو لم يقصد به الرجوع يكون نظيرا لما نحن فيه ".
أقول: بل يمكن القول بأن الطلاق الرجعي أيضا ليس نظيرا
لما نحن فيه، فإن الأدلة قائمة على أن المطلقة رجعيا زوجة الرجل
ما لم تخرج عن العدة، فلو مات أحدهما توارثا، فلا تتحقق الزوجية
بالاستمتاع هنا.
هذا مع أن الملك يتوقف على الوطئ والوطئ متوقف على
الملك وهذا دور.
وعن بعضهم انكار توقف الوطي على الملك بل يكفي ملك الوطئ.
وقد أجاب المحقق القمي " قده " بأن هذا يستلزم جواز إجارة
الأمة للوطي.
وأجيب عنه بالنسبة إلى المعاطاة بأنه دفع للثمن في مقابل الإباحة.
وفيه: أن الواقع هنا الإباحة في مقابل الإباحة.
وأجاب الشيخ " قده " عما ذكره كاشف الغطاء " قده " من تعلق
الأخماس والزكوات بما أخذ بالمعاطاة بأنه استبعاد محض، فلا مانع من
الالتزام بذلك، لأن السيرة المستمرة قائمة على معاملة ما أخذ بالمعاطاة
معاملة الملك.
أقول: قد يقال إن قيام الدليل على التعلق لا يخرج الحكم عن
الغرابة، بل يقتضي وضع قاعدة جديدة، لكن لا يخفى أن القول بأن
79

السيرة كاشفة عن الملكية عندهم أولى من القول بأنه حكم تعبدي.
وقال السيد " قده ": معنى كلام الشيخ عدم تعلق الخمس والزكاة
بهذا المال، فلا يجب على الآخذ لأنه ليس مالا له، ولا على مالكه لأنه
ليس بيده.
ودعوى: أنه مخالف للسيرة حيث إنها جارية على التعلق.
مدفوعة بأنه على هذا تكون السيرة دليلا على التعلق.
أقول: إن ما ذكره " قده " يخالف ظاهر عبارة الشيخ " قده ".
ثم إن الاستطاعة الموجبة للحج لا تتوقف على الملك، بل يجب
عليه الحج كما إذا أبيح له التصرف بمال من غير معاطاة.
كما أن أداء الدين مما أبيح له التصرف فيه جائز ولا حاجة إلى
كون المال ملكا، كما إذا تبرع متبرع بأداء الدين من غير معاطاة.
وكذا الانفاق على من يجب عليه، فإنه غير متوقف على الملك
بل يكفي فيه الإباحة. نعم لا يكون من تجب النفقة عليه ذا حق في
هذا المال. وكذا مسألة الغنى والفقر، فلا يجب أن يكون مالكا حتى يكون
غنيا لا يجوز له الأخذ من الزكاة، بل الغني من كان عنده مؤونة السنة
ملكا أو إباحة.
نعم الخمس والزكاة يتوقفان على الملك.
قال المحقق الأصفهاني " قده " بالنسبة إلى خمس ربح التجارة
بالمأخوذ بالمعاطاة: أنه يكون حصول الربح مسبوقا بالتكسب والتصرف
80

في المال، فيكون مملكا له ولا صله، وليس هذا غريبا آخر مع غرابة
مملكية التصرف.
أقول: لكن هناك فرض آخر، وهو أنه لو حسب ماله في آخر
السنة فوجد الزائد نفس المأخوذ بالمعاطاة لم يجب عليه الخمس لأنه
لا يملكه. اللهم إلا أن يقال: إنه لما كان المال مباحا له بالإباحة المطلقة
وجب عليه دفع خمس هذا المال من قبل مالكه لو كان ربحا له لكنه
خلاف السيرة والفتوى. وكذا الزكاة، فلو ملك النصاب وحال عليه الحول
عند الأخذ بالمعاطاة وجب على الآخذ دفع زكاته من قبل مالكه، لأنه
أجاز له التصرفات فليكن منها دفع الزكاة عن صاحبه.
هذا، وفي مسألة أداء الدين مما أخذ بالمعاطاة حيث قلنا بعدم
توقفه على الملك - كما تقدم - اشكال من جهة أخرى، وذلك أنهم حكموا
بتعلق حق الغرماء بهذا المال الذي أبيح للمدين التصرف فيه، وهذا
لا وجه له - بناءا على الإباحة - فهو حكم غريب.
بل إن الاشكالات التي ذكرها كاشف الغطاء " قده " في هذه الموارد
واردة من جهة أخرى، وذلك لأن مقتضى القواعد وجوب أداء الخمس
والزكاة على المالك لا على الآخذ بالمعاطاة، وكذا تعلق الاستطاعة الموجبة
للحج بالنسبة إلى صاحب المال، ومثله مسألة الفقر والغنى. فهذه الأحكام
كلها تتوجه إلى صاحب المال لا المباح له التصرف فيه، مع أن الفقهاء
لم يتعرضوا إليها بالنسبة إليه. وهذا غريب.
وأما حق المقاسمة فإن المباح له يطالب الشريك بالافراز من
81

جهة أن المالك أباح له التصرفات المطلقة، ومن جملتها ذلك، فكأنه
مجاز أو وكيل من قبله فيه، وهذا ليس مخالفا للقاعدة. هذا، لكن
الواقع في الخارج هو المطالبة بالاستقلال لا بعنوان الوكالة مثلا.
وقد يقال: إن إباحة جميع التصرفات ليست حكما صرفا، بل
يترتب عليها تعلق حق للمباح له بالمال، فهو حينئذ يراجع الشريك
لأجل الافراز احقاقا لحقه. لكن الالتزام به مشكل.
ومسألة حق الشفعة كذلك، وقد نقل في منية الطالب عن المحقق
الخراساني " قده ": إن حق الشفعة لا يتوقف على الملك بل الإباحة
كافية فيه، ثم قال: ولا يخفى صحته.
أقول: ظاهر أدلة الشفعة هو جواز الأخذ بها في حال كون الآخذ
شريكا في الملك لا مباحا له، سواء كان شريكه المبيح له أو غيره. اللهم
إلا بتنقيح المناط، بأن يجعل المباح له كالمالك. وهو مشكل، مع أنه
يستلزم كون حق الشفعة لاثنين أو أكثر بيع واحد، وهو أيضا غريب.
ومن الاشكالات: توريث ما أخذ بالمعاطاة وتصرف الوارث فيه
كسائر ما تركه مورثه، فإذا كان مباحا له كان مقتضى القاعدة عدم جواز
ذلك وارجاعه إلى المبيح.
وقد أجابوا عن الاشكال بأن موت المباح له موجب للزوم الإباحة،
نظير الهبة حيث تلزم بموت أحد الطرفين، وتلف العين المباحة حيث
يستلزم الملكية آنا ما قبله. وفي المعاطاة تصبح الإباحة لازمة بموت
82

أحدهما أو تلف أحد العوضين، وحينئذ تكون الإباحة اللازمة ملازمة
للملكية، لأن الإباحة اللازمة تناقض عدم الملكية فلا يجتمعان.
ولم يستبعد المحقق الخراساني " قده " القول بالإرث وصيرورة
الوارث كالمورث فيما له من حق التصرف في المال، فله أن يتصرف
فيه التصرفات المطلقة التي كانت لمورثه على أثر الإباحة.
ولكن هذا مشكل، فإن الإباحة هذه إن كانت مالكية فهي لا تفيد
إلا التصرف، وإن كانت شرعية تعبدية فإنها ليست ملازمة للملكية ولا
للحق حتى يورث.
والانصاف: الاعتراف بأن الوارث يتصرف في هذا المال باعتبار
كونه مالكا لا ذا حق، فما ذكره " قده " غير صحيح إلا من باب الجمع
بين الأدلة، فإن مقتضاه ثبوت الملكية آنا ما.
ومن الاشكالات: مسألة الوصية.
فكيف يوصي المباح له بصرف
مال غيره في شؤونه؟ وأيضا: كيف يجعل ما أخذه بالمعاطاة ضمن ثلثه
فيما إذا أوصى بصرف الثلث في كذا؟ فالحكمان غريبان.
قال المحقق الخراساني " قده ": إنه لما أذن له في جميع التصرفات،
شمل جعل المال من الثلث وصرفه في كذا، فليست الوصية موقوفة
على الملك بل تجوز في مال الغير بإذنه، نظير سائر التصرفات. نعم
لو رجع المبيح عن الإباحة (ولم نقل بالملكية بالموت) فهو وإلا فالوصية
نافذة.
83

أقول: وفيه أنه يوصي بعنوان كونه مالا له لا لغيره، وأيضا لما
يقول " أعطوا كذا لزيد بعد وفاتي " لا يصير المال لزيد، بل يتوقف
على موته، - بل كونه ملكا للموصي موقوف عليه كذلك - وهذا معناه:
صيرورة الوصية بمال الغير سببا لمملكية موته المال لزيد وهو غريب.
إلا أن نقول بالملكية آنا ما، فيكون المال ملكا له فيجوز الوصية به وتنفذ
بالموت، فليست في مال الغير. وعلى هذا تكون " الوصية " من صغريات
الاشكال في التصرفات الموقوفة على الملك كالبيع والعتق، وقد تقدم
الجواب عنه.
وأما جريان الربا: فقد قال المحقق الأصفهاني " قده ": يمكن
أن يقال إن المعاملة التي يملك المال بتصرفه فيه كالمعاملة التي يملك
المال بقبضه موضوع لهذا الحكم.
أقول: إنه " قده " لم يوافق المحقق الخراساني " قده " على
هذا فيما تقدم - وإن استلطفه - فلا وجه لهذا الجواب.
وقال في منية الطالب: إن الربا لا يجوز في تضمين المثل والقيمة
فضلا عن التضمين بالمسمى.
أقول: مراده من " تضمين المثل والقيمة " غير واضح، فمن
أتلف " منا " من الحنطة فلا يضمن الأكثر منه، ولا يجوز أن يأخذ نصف
" من " من الحنطة الجيدة بدلا عن " المن " من الردية التي كانت له
وإن كان في قيمته. هذا تصوير ما ذكره، فالربا في هذا المورد - حيث
84

لا مسمى - لا تجوز فضلا عن التضمين بالمسمى، ولكن هل هذا من
الربا والقمية واحدة؟ على أن الربا إنما تحرم في المعاملة، وهذا تضمين
وابراء للذمة لا معاملة.. إلا إذا قام اجماع.
ولنصور ذلك في القرض، فإنه تمليك مال مع الضمان، أي له
القيمة أو المثل، فإن طلب شيئا زائدا لزم الربا، وهذا لا يجوز على
القول به، ففي التضمين بالمسمى بالأولوية.
أقول: إن كانت هذه معاملة وأثرها كون المعوض المسمى ضمان
العوض فيما إذا تلف. فإنها معاملة واتلاف في مقابل اتلاف، وإن قلنا
بعدم شمول الأدلة لها كانت إباحة في الاتلاف في مقابل إباحة، فالقول
بلزوم الربا هنا يحتاج إلى الدليل.
وأيضا: يمكن أن يقال بالإباحة هنا للاجماع والسيرة القائمين
على جواز التصرفات الموقوفة على الملك. نعم أنهما لا يشملان المعاطاة
التي لو كانت معاملة بالصيغة لكانت باطلة من أجل الربا أو الغرر أو غير
ذلك، فمورد الكلام هي المعاطاة الجامعة لشرائط البيع - عدا الصيغة -
فالقول بالإباحة لا يستلزم ما ذكر، والقائل بها لا يلتزم هنا بالصحة،
فالاشكال مندفع من هذه الناحية، وهذا الجواب أولى مما ذكروا.
ومن الاشكالات: كون التصرف من جانب مملكا للجانب الآخر
وإن لم يتصرف.
وأجاب الشيخ " قده ": بأنه مقتضى الجمع بين الأدلة. لكن
85

قال السيد " قده ": أنه لا اجماع هنا على أن التصرف مملك للجانب
الآخر، فليكن مباحا له، إلا أن يقوم اجماع على الملازمة بين الملكيتين
حينئذ.
أقول: وعلى الإباحة فإنها إباحة لازمة، لعدم امكان التراد لتصرف
أحدهما في ما بيده. وحاصل كلامه: عدم الدليل على هذه الملكية،
فلا مورد لاشكال كاشف الغطاء " قده ".
وأجاب المحقق الأصفهاني " قده ": بأنه كما أن إباحة التصرف
ملازمة للإباحة والإذن في التصرف، فإن اعتبار ملكيته لما بيده مقيد
برضاه لأن يتملك الآخر ما بيده.
أقول: إن هذا الرضا موجود إذا كان قصدهما حين المعاطاة
الإباحة والتصرفات مطلقا، فهناك إباحة في مقابل إباحة، ولكنه غير
موجود بالنسبة إلى قصد الملكية، لما تقدم من أن الملكية أمر بسيط إذا
انتفى انتفت الإباحة، فما ذكره في الجواب عن كلام السيد " قده " غير تام.
وبالجملة: إن قام الاجماع على الملازمة فهو وإلا فليس ذلك
مقتضى الجمع بين الأدلة.
ومن الاشكالات: كون التلف السماوي مملكا.
قال الشيخ " قده ": إن ثبت اجماع أو سيرة - كما هو الظاهر -
كان كل من المالين مضمونا بعوضه، فيكون تلفه في يد كل منهما من
ماله مضمونا بعوضه - نظير تلف المبيع قبل قبضه في يد البائع - لأن
86

هذا هو مقتضى الجمع بين هذا الاجماع مع عموم على اليد ما أخذت،
وبين أصالة عدم الملك إلا في الزمان المتيقن وقوعه فيه..
أقول: وتقريبه إنه قد تحقق الاجماع على عدم ضمان المثل
والقيمة في باب المعاطاة لو تلف أحد العوضين، لكن مقتضى قاعدة اليد
هو ضمان أحدهما دون المسمى، فهنا يدور الأمر - بالنسبة إلى القاعدة -
بين التخصيص والتخصص، لأنه إن كان ما نحن فيه من أفراد القاعدة
لزم ضمان المثل والقيمة لكن خصصت بالاجماع القائم على ضمان
المسمى هنا، وإن كان التالف من ملك من تلف بيده لم تجر القاعدة
تخصصا.
وكونه من مال هذا يكون بأحد طريقين بحسب مقام الثبوت:
أحدهما حصوله من أول الأمر أي من حين المعاطاة، والآخر حصوله
قبل التلف آنا ما. وحيث أن الاستصحاب يمنع من الأول فلا مناص من
الالتزام بالثاني. هذا مع ما تقرر في محله من أنه لو دار الأمر بين التخصيص
والتخصص فالثاني هو الأولى.
وقد يورد على الالتزام بكون التالف من ملك من تلف بيده،
بأنه متى تتحقق هذه الملكية، فهل هو قبل التلف أو بعده أو مقارن له؟
إن كان قبله فالمعنى كون التلف علة والملكية معلولا لكن المعلول لا يتقدم
على العلة، وإن كان مقارنا فالمعنى تقارن العلة والمعلول وهو غير معقول،
وإن كان بعد فالملكية بعد التلف لا معنى لها. ولا بد - لدفع هذا الاشكال -
من أن نقول بمملكية الأخذ بالمعاطاة بوصف تعقبه بالتلف، فالموجب
87

للملكية هو وصف " التعقب بالتلف "، وحينئذ يدور الأمر بين الملكية من
أول الأمر والملكية آنا ما، والاستصحاب مانع من الأول فالثاني.
ولكن الملك آنا ما يخالف قاعدة السلطنة، فيقتضي الجمع تقدمها
على الاستصحاب - قاله السيد.
وفيه أنها مخصصة بمقتضى الجمع بين الأدلة.
وبعد، فما الدليل على ملك الآخر للباقي في يده؟
قال المحقق الأصفهاني " قده ": إن رضا ذاك من الأول بملك
هذا للشئ مقيد بكون ما بيده عوضا عما أعطاه.
أقول: إن هذا الرضا غير نافذ شرعا، ولذا كانت قاعدة اليد تقتضي
الضمان.
والواقع: إنهم " قده " بحثوا عن ملك الذي تلف ما بيده وأثبتوه
عن طريق الجمع بين الأدلة، ولم يذكروا وجها تاما لملك الآخر،
وليس إلا الاجماع على الملازمة - إن كان.
ومن الاشكالات: مسألة الغصب، فإن العين المأخوذة بالمعاطاة
إن غصبت فإن قلنا بأن الغصب يوجب الملك للمباح له فإنه غريب،
وإن قلنا بأن التلف عند الغاصب يوجبه له فهو غريب، وإن قلنا بأن التلف
من مالكه الأول فهو غريب. ثم من الذي يطالب الغاصب؟
قال الشيخ " قده ": يجوز لكل منهما المطالبة، أما المالك
فواضح، وأما المباح له فإن ذلك من التصرفات المجاز فيها، وأما التلف
88

فهو من المباح له. قال: نعم لو قام اجماع كان تلفه من مال المالك لو
لم يتلف عوضه قبله له. لكن الذي يهون الخطب هو أن الذي ذكره الشيخ
" قده " في الجواب بيان للحكم وليس رافعا للغرابة.
ومن الاشكالات: النماء، فإن كان للمالك فهو خلاف السيرة،
وإن كان للمباح له فكيف ذا والأصل ليس له، وإن كان النماء مملكا للعين
فهو غريب.
قال الشيخ " قده ": حكم النماء حكم الأصل، فكما يجوز له
التصرف فيه يجوز في النماء كذلك.
قال كاشف الغطاء: ما الدليل على جواز التصرف في النماء؟ إن
شمول الإذن له خفي..
أقول: لم يجب الشيخ " قده " عن هذه الناحية، وإنما اكتفي
بالقول بأن حكمه حكم الأصل، ولعله يريد أن الإذن في الأصل إذن فيه
وفيما يتعلق به، وإن هذا ليس خفيا عرفا.
وبعد:
إن قام دليل على القول بالإباحة فلا بد من الالتزام بكل هذه الأمور
وترتيب آثار وأحكام الملك على ما ليس ملكا، وإلا فإن هذه لوازم فاسدة.
فلنرجع إلى الأدلة:
قال الشيخ " قده ": إن رفع اليد عن الاجماع واستصحاب عدم
89

حصول الملك بالمعاطاة مشكل. ومن جهة أخرى: رفع اليد عن السيرة
واجماع المحقق الثاني أشكل. فالقول الثاني لا يخلو عن قوة.
أقول: أما دعوى الاجماع من المحقق الثاني فغير تامة، ولو سلم فهو
غير كاشف عن رأي المعصوم، وكذا الاجماع الذي يدعيه القائل بالعدم.
بقي الاستصحاب من ذاك الجانب، و " أحل الله البيع " من هذا
الجانب - فإنهما عمدة أدلة الطرفين - ومن المعلوم أن الدليل مقدم
على الأصل.
فالحق: هو القول بالملك.
وهل هو لازم أو جائز أو فيه تفصيل؟ وجوه، والأقوى الأول.
90

لزوم المعاطاة
91

استدل للزوم بوجوه:
الأول: الأصل
فإن الأصل في المعاملات هو اللزوم، ومرجعه استصحاب بقاء
ملك المبيع للمشتري والثمن للبائع، فيمتنع التراد ويكون البيع لازما.
وقد أورد عليه: بأنه من قبيل القسم الثاني من أقسام استصحاب
الكلي، لأن المستصحب إما اللازم وإما الجائز، فأما الثاني فمقطوع
العدم بعد الفسخ، وأما الأول فمشكوك فيه من الأول والأصل عدمه.
والجواب هو ما ذكره الشيخ " قده " من استصحاب القدر المشترك
بينهما.
وقد أشكل السيد " قده " عليه: بأن الشك في بقاء الكلي وارتفاعه
مسبب عن الشك في بقاء اللازم وارتفاعه، فإذا استصحب العدم انتفى
الكلي.
والجواب عنه: ما ذكره الشيخ " قده " في الأصول بأن ارتفاع
93

الكلي وبقاءه ليس مسببا عن ذلك، لأن لازم ارتفاع اللازم عقلا وجود
الجائز، وهذا أصل مثبت، بل ارتفاع الكلي من آثار كون الحادث ذلك
المقطوع بارتفاعه. قال: نعم لازم عدم حدوث الفرد الطويل مثلا عدم
وجود ما في ضمنه من المشترك لا ارتفاع القدر المشترك بين الأمرين.
وقد أورد المحقق الخراساني " قده " على هذا الاستصحاب:
بأنه يتم بناءا على جريانه مع الشك في المقتضي، لكن الشيخ لا يرى
حجيته حينئذ.
وفيه: أن الفسخ أو التراد في المعاطاة رافع للملكية، فلو شك
فيه كان الشك في الرافع لا المقتضي، فالاشكال غير وارد.
وقد يشكل عليه أيضا: بأنه معارض باستصحاب بقاء علاقة
المالك الأول.
وفيه: أن هذه العلاقة إنما تتحقق بعد البيع كخيار الفسخ الحادث
بعد البيع، فلا حالة سابقة لها حتى تستصحب، وأما إن أريد أنها مرتبة
ضعيفة من الملك، فيجاب عنه بنفس الجواب المذكور، على أن الملكية
لا تقبل ذلك، فالاستصحاب ساقط.
وقال السيد " قده " في جواب الشيخ " قده ": إن موضوع الحكم
الشرعي - في الاستصحاب - إن كان ارتفاع الحادث وبقاؤه فما ذكره
تام، وأما إن كان الوجود والعدم، بمعنى أن موضوع الحكم وجود
الشئ وعدم وجوده لا البقاء والارتفاع - كما أن في استصحاب الطهارة
94

وجودها يصحح الصلاة وعدمها يبطلها، لا أن البطلان مشروط بعدم
ارتفاع الطهارة - فما ذكره غير تام.
وفيه: أنه لا ينعدم الكلي بانعدام الفرد. نعم بوجوده يوجد،
فالشك في الكلي موجود والاستصحاب جار.
ثم إن السيد " قده " بعد أن أورد هذا الاشكال جوز استصحاب
الفرد المردد، فإنه قبل الفسخ أو الرجوع كان فرد من الملك موجودا
وبعده يستصحب ذاك الفرد لو شك في بقائه.
أقول: ويبطله إنه ليس للفرد المردد حقيقة.
استصحاب الفرد
وقد جوز الشيخ " قده " استصحاب الفرد الشخصي، بتقريب
أنه ليس المتزلزل والمستقر حقيقتين متمايزتين. نعم بينهما فرق من
حيث الحكم وأن المجعول الشرعي في أحدهما غير المجعول في الآخر
فالاختلاف في الأسباب لا المسببات، كما أن الملك الحاصل من الهبة
هو الحاصل من البيع، غير أن السبب مختلف.
وأورد السيد " قده " عليه: بأن هذا الملك غير ذاك عند العرف.
أقول: لا يبعد تمامية كلام الشيخ " قده "، لكن الحاكم في
المقام هو الوجدان. ويترتب على ذلك أنه بناءا على إنكار الاتحاد لا بد
من استصحاب القدر المشترك الذي ذكره الشيخ " قده " أو الفرد المردد
الذي ذكره السيد " قده " - لو تم - وأما بناءا على تماميته فيتوقف
95

أيضا - كما ذكر المحقق الأصفهاني - على عدم وجود مرتبتين في الملك
من الشدة والضعف، فلو كان فلا مناص من استصحاب الجامع كذلك،
لزوال الضعيف يقينا والقوي مشكوك فيه، وعلى أن لا يكون لكل من
المتزلزل والمستقر خصوصية توجب تعدد الفرد، فإنه أيضا مانع عن
استصحاب الشخص وهو واضح.
قال " قده ": إن ما ذكره الشيخ من الاتحاد يمكن المساعدة
عليه وكذا لا شدة وضعف في الملك - بل هو أمر اعتباري واحد - وأما
الخصوصيات فيحتمل وجودها، وحينئذ يفترقان من هذه الجهة.
قال الشيخ " قده ": إن جواز الرجوع في أحدهما دون الآخر
لا ينافي الاتحاد، لأن هذا حكم شرعي للسبب، واختلاف السبب من
حيث الحكم لا يوجب اختلاف المسبب وتعدده.
أقول: هذا نظير ما إذا سافر زيد ثم شك في حياته فتستصحب
والجهل بأبيه - هل هو عمرو أو بكر - لا يوجب تعدده، أما إذا جهل
خصوصية زوج امرأة فلم يعلم هل هو زيد بن بكر أو زيد بن عمرو
- وقد علمنا بموت أحدهما - فإن استصحاب بقاء الزوج لا يفيد التعيين
فإذا لا يمكن استصحاب الفرد في هذه الصورة، لأنه إن كان زوجها
ابن عمرو فقد فرض القطع بموته، وإن كان ابن بكر فهو مشكوك البقاء.
هذا، فإن كان ما نحن فيه من قبيل الأول جاز استصحاب بقاء
الشخص لأن تعدد السبب لا يوجب تعدد المسبب، وإن كان من قبيل
الثاني فلا يصح لتعدد المسبب أيضا. والشيخ " قده " يجعله من قبيل الأول
96

فالموجود سابقا شخص الملك - بغض النظر عن السبب - ومع الشك
في بقائه وارتفاعه يستصحب بلا اشكال.
وقال المحقق الخراساني " قده ": هذا يتم فيما إذا كان الحكم
للسبب، إلا أن الشيخ " قده " ذكر - في الخيارات - إن جواز الرجوع
وعدمه من أحكام الملك، وحينئذ يتعدد الملك - المسبب - باختلاف
الأحكام.
ويمكن الجواب عنه بأنه: صحيح إن اختلاف الحكم يكشف
عن اختلاف الموضوع - لا بمعنى الموضوع المقيد بالحكم كما ذكر
تلميذه المحقق " قده " - فلكل منهما خصوصية، لكن الخصوصية تارة
ترفع برفعها موضوع الاستصحاب وأخرى لا ترفع، ولما كان موضوع
الاستصحاب هو الفرد العرفي - لا العقلي - فإن هذا الاختلاف هنا ليس
مؤديا إلى تعدد الموضوع عرفا حتى لا يجري الاستصحاب.
ثم قال الشيخ " قده ": مع أن الشك في كونه من خصوصيات
السبب أو المسبب كاف لاستصحاب اللزوم.
أقول: قد ذكرنا أنه إن كان المتيقن السابق واحدا وشك في بقائه
وارتفاعه فهو مورد للاستصحاب بلا اشكال، وإن كان مرددا بين شيئين
لكن شك في الباقي والمرتفع - مع العلم بارتفاع أحدهما - فلا يجري
لأن الاستصحاب لا يصلح للتعيين. وعلى هذا فإن علمنا بأن طبيعة المستقر
والمتزلزل مختلفة وشككنا في الباقي والمرتفع منهما فالاستصحاب لا
يمكنه تعيين ذلك، وإن كان المسبب واحدا والتزلزل والاستقرار من
97

خصوصيات السبب جاز.
هذا، وكل شك مركب من يقينين، فالشاك في النوم وعدمه
متيقن من انتقاض طهارته على تقدير النوم ومن عدمه على تقدير عدمه،
فله يقينان تقديريان وشك فعلي واحد. ومن هنا يتولد الشك في بقاء
وارتفاع الطهارة فيستصحب.
وكذا فيما إذا تردد الخارج منه بين المني والبول، فإنه إن توضأ
يتيقن بارتفاع الحدث إن كان بولا وبعدمه إن كان منيا، فهو شاك في
ارتفاع الحدث حينئذ لكن غير شاك بالنسبة إلى شخص الأصغر لأنه
متيقن من ارتفاعه به ولا الأكبر لأنه متيقن من بقائه. فلا شك في البقاء
والارتفاع بخلاف الفرض الأول.
وبما ذكرنا ظهر الفرق بين الصورتين، ولذا لا يجري استصحاب
الشخص في الثانية بخلاف الأولى.
وعلى هذا إن كان التزلزل والاستقرار من خصوصيات السبب
جرى الاستصحاب، وإن كان من خصوصيات المسبب لم يجر. ولو
شك في ذلك فالأقوى أيضا جواز استصحاب الشخص لأنه مع احتمال
وحدة المسبب فالشخص محتمل البقاء.
والظاهر: أن الشك هنا في البقاء والارتفاع وأنهما من خصوصيات
السبب، فلا مانع من استصحاب الفرد.
وقد أورد السيد " قده " عليه بعدم احراز الموضوع.
قلت: كأنه يريد أن المورد شبهة مصداقية لدليل الاستصحاب،
98

لتردد الموضوع بين الشك في الارتفاع والشك في التعيين. لكن
يمكن الإجابة عنه بأنه يوجد هنا الشك الفعلي مع وجود اليقينين على
تقديرين، ووجودهما لا يضر بالشك الفعلي في البقاء والارتفاع، فلا
مانع من الاستصحاب.
والحاصل: أن الفرد المردد: تارة يكون مرددا بين اثنين،
بأن يعلم بدخول أحدهما - لا على التعيين - الدار مثلا، فمع الشك
يستصحب بقاء الداخل ويرتب عليه أثر البقاء. وهذا استصحاب شخصي
لكنه مردد بين اثنين، فلا يرتب عليه أثر أحد الرجلين بخصوصه.
وأخرى: يعلم بدخول أحدهما الدار مع العلم بأنه إن كان زيدا
فهو باق فيها، وإن كان عمرا فهو الآن خارج عنها. وفي هذه الصورة
يستصحب الكلي الجامع بين الرجلين ويترتب عليه آثاره، وأما الفرد
فمردد بين المقطوعين ولا شك فيه حتى يستصحب.
وثالثة: يعلم بدخول زيد بخصوصه، لكن لا يدري هل هو ابن
عمرو أو ابن بكر، لأنه إن كان الأول فقد خرج يقينا وإن كان الثاني فهو
باق يقينا، فهل هذه الصورة تلحق بالأولى فيستصحب الشخص، أو
بالثانية فيستصحب الكلي؟ قيل بالأول وهو ظاهر كلام الشيخ " قده "،
لأن التقدير مشكوك فيه، وقيل بالثاني لعدم احراز موضوع الاستصحاب
الشخصي. وبعبارة أخرى الشك في التعيين دون البقاء.
وأجاب عنه في منية الطالب بأنه لا شك في الموضوع في هذا
99

المقام، لأن الموضوع - وهو القدر المشترك - محرز قطعا وهو أصل
تحقق الملك، لكن تردده بين الأمرين منشأ للشك في بقائه فيستصحب.
ولأن المورد شبهة مصداقية لدليل الاستصحاب، فيما إذا كان زيد
في المثال مقطوع الخروج إن كان عمرو، ومشكوك الخروج إن كان ابن
بكر، ولا فرق بين المخصص اللبي واللفظي، أورده السيد المحقق
الفشاركي وشيخنا الأستاذ (1) قدس سرهما.
وتوضيحه: أن الواجب في الاستصحاب هو ترتيب أثر في المتيقن
على المشكوك تعبدا، كتنزيل الشك في تحقق النوم منزلة اليقين بعدمه،
فيحكم ببقاء الطهارة، فلو انكشف الخلاف وجب إعادة الصلاة التي
صلاها بتلك الطهارة، لكن جعل الحكم الظاهري - هذا - مشروط
بقابلية المورد وإلا فلا يجعل.
ومحل الكلام من هذا القبيل، فهو نظير ما إذا كان أمر الغائب
عن أهله مرددا بين القطع ببقائه والقطع بموته، فإن هذا المورد لا يقبل
جعل الحكم الظاهري لأن أمره يدور بين القطع بحياته فلا تقسم
أمواله ولا تعتد زوجته، وبين القطع بموته فلا تترتب عليه آثار الحياة
لأن كلا طرفيه مقطوعين ولا شك في البين، وأما إذا كان أحد طرفيه
مقطوع البقاء أو الارتفاع والآخر مشكوك البقاء والارتفاع فهي شبهة
مصداقية لدليل الاستصحاب المجعول لتنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقن
به، والتمسك به فيها غير جائز.

(1) الفقيه الكبير آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي " قده ".
100

وكذا إذا كان للشبهة طرفان ودار أمر أحدهما بين الأمرين فإنها
شبهة مصداقية لدليل الاستصحاب فلا يجري كذلك.
كلام الشيخ في اثبات وحدة الحقيقة
ثم إن الشيخ " قده " تمسك لاثبات وحدة الحقيقة (بالوجدان)
فقال: إن المحسوس بالوجدان إن انشاء الملك في الهبة اللازمة وغيرها
على نهج واحد.
قال السيد " قده ": إن أراد من " غيرها " البيع فلا نسلم الوحدة
لأن انشاء البيع المبني على اللزوم عند العرف غير انشائه في الهبة المبنية
على الجواز عندهم، وإن أراد الهبة غير اللازمة فالأمر كذلك، والاختلاف
بينهما شرعي.
أقول: والأولى أن يقال - وإن لم أره في كلام أحد -: إن كانت
الملكية المتزلزلة تغاير المستقرة كان معنى قولهم عليهم السلام " البيعان
بالخيار ما لم يفترقا " حدوث ملكية أخرى عند الافتراق غير الملكية الحاصلة
في المجلس، والحال أن الأمر ليس كذلك قطعا، بل المتزلزل نفسه
يلزم بالافتراق، فالملك حقيقة واحدة غير أنه متزلزل تارة ولازم أخرى.
و (بالبرهان) بأنه إن كانت خصوصية التزلزل أو الاستقرار من
المالك - بمعنى أنه ينشئ بحيث يكون مستقرا أو متزلزلا - فلا بد أن
يختلف الملك باختلاف حالات المالك من حيث قصده الرجوع وقصد
العدم وعدم القصد.
101

هذا كلامه " قده ". والأحسن أن يقال: إنه إن قصد اللزوم فهو
وإن قصد العدم فالتزلزل وإلا فهو ملك لا لازم ولا متزلزل - حتى لا يرد
عليه أن الشارع يحكم في العقد اللازم كالبيع باللزوم وإن قصد الرجوع
وبعدمه في الجائز كالهبة وإن قصد اللزوم، فالقول بتبعية الملك للقصد
باطل.
وإن كانت الخصوصية من قبل الشارع لزم امضاؤه العقد على
غير ما يقصده المنشئ، وهو باطل لما تقدم من أن العقود تابعة للقصود.
أقول: وأما لو أنشأ المالك أصل الملك وعين الشارع الخصوصية
لم يلزم التخلف، لأن المفروض إضافته القيد إليه لا وضع فرد غير ما
قصده المنشئ. لكن ليس حينئذ فردان بل الحقيقة واحدة والاختلاف
حصل باختلاف الحكم.
فتلخص أن الحق صحة استصحاب بقاء الملك. هذا كله في
الشبهة الحكمية للمعاطاة.
الاستصحاب في الشبهة الموضوعية
وأما إذا كانت الشبهة موضوعية - كأن يتعاطيا ثم يشك الطرفان
أو أحدهما في أنه هل كان بعنوان المصالحة حتى تكون لازمة أو الهبة
حتى تكون جائزة - فالحق جريان الاستصحاب كذلك، لأن الشك إنما
هو في بقاء نفس الملكية الحاصلة بالمعاطاة فتستصحب، وأما كون
الفرد الحاصل من الملكية في الهبة غير الفرد الحاصل في المصالحة
102

- لو سلم التغاير بينهما - فغير مانع من استصحاب شخص الملكية
الحاصلة من هذه المعاطاة، وكذا لو تردد العقد الواقع بينهما بين البيع
والهبة. إذن أصالة اللزوم جارية في الشبهتين.
قال الشيخ " قده ": نعم لو تداعيا احتمل التحالف في الجملة.
أقول: لو تداعيا كان قول المنكر للرجوع موافقا لأصالة اللزوم
وعليه اليمين، وعلى الآخر البينة، وقد يكون الأصل موافقا لكليهما
معا، كما لو ادعى أحدهما الصلح وأنكره الآخر وادعى البيع فالموضوع
واحد وعليهما معا اليمين، لأن كلا منهما منكر ومدع.
ووجه قوله " يحتمل " وقوع الكلام بينهم في أنه هل تلحظ
النتيجة في مقام التداعي أو يلحظ اللفظ؟ فعلى الثاني يتحالفان في
مفروض المسألة، وعلى الأول لما كان المدعي للصلح يدعي اللزوم
في المجلس والمنكر له ينكر اللزوم وجب اليمين على أحدهما دون
الآخر.
ووجه قوله " في الجملة " قيام الأصل الحاكم في بعض الموارد
كأن يقول أحدهما هذه هبة، والآخر يقول صدقة. فإن كانت الثانية
فلا ترجع لأنها في سبيل الله، وإن كانت الأولى فله الرجوع فيها، فلا
تحالف حينئذ، إذ يعتبر في الصدقة قصد القربة دون الهبة. فهذه جهة
زائدة في تلك على هذه، فالمعطى المدعي للهبة ينكر قصده القربة، لأنه
ينكر الصدقة والآخر يدعي قصده لها، فالقول قول المعطى لأصالة
عدم قصد القربة، وله الرجوع حينئذ بحكومة هذا الأصل على أصالة
اللزوم.
103

هذا تمام الكلام في الوجه الأول، وقد ظهر أن مقتضى الأصل
- مع قطع النظر عن الأدلة - هو اللزوم.
الثاني: عموم " الناس مسلطون. "
قال الشيخ " قده ": ويدل على اللزوم مضافا إلى ما ذكر عموم
قولهم " الناس مسلطون على أموالهم. ".
أقول: استدل به بناءا على اعتباره بعمل الأصحاب به. ووجه
الاستدلال: إن مقتضى السلطنة أن لا يخرج المال عن ملكية المعطى له
بغير اختياره، فجواز تملك المعطي بالرجوع فيه من دون رضاه مناف
لسلطنته المطلقة، فالمعاطاة لازمة.
لكن يضعف الاستدلال به وجوه:
1 - أنه لما كانت المعاطاة جائزة لم يكن رجوع المالك الأصلي
منافيا لسلطنة الآخر، لأنه قد أقدم من أول الأمر على عقد جائز. نظير
جعل الخيار للبائع حين العقد، فإنه لو فسخ لم يكن منافيا لسلطنة
المشتري.
2 - ما ذكره المحقق الخراساني " قده " من أنه يمكن أن يقال
إنه ليس إلا لبيان سلطنة المالك على ماله وتسلطه عليه وإنه ليس
بمحجور، لا لبيان انحصار أنحاء السلطنة له عليه دون غيره ليكون دليلا
على اللزوم.
3 - ما ذكره المحقق الأصفهاني " قده " من أن الحديث يفيد
سلطنة المالك على جميع التصرفات الواردة على المال دون غيرها من
104

أنحاء السلطنة، فلا يفيد السلطنة على ابقاء أو إزالة الملكية.
ثم قال الشيخ - بعد التمسك بالحديث: فاندفع ما ربما يتوهم
من أن غاية مدلول الرواية سلطنة الشخص على ملكه، ولا نسلم ملكيته له
بعد رجوع المالك الأصلي.
أقول: غرضه " قده " دفع توهم أنه يريد من الحديث اطلاقه
ليشمل ما بعد الرجوع، حتى يكون تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية
بل يريد أن تملك مال الغير عنه بالرجوع فيه بغير رضاه ينافي السلطنة
التامة الثابتة له عليه بمقتضى الحديث. وهل بين التقريبين فرق بأن
يكون التمسك به قبل الرجوع لا من قبيل التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية؟
أقول: معنى الحديث إن الناس مسلطون على أموالهم لا على أموال
غيرهم، وكون سلطنة من لا يخرج المال عن ملكه إلا برضاه أتم من
سلطنة من ليس له إلا التصرف فيه معلوم، ولكن الحكم لا يثبت موضوعه
بل يترتب على الموضوع الثابت من قبل، فلا بد من دليلين أحدهما
يثبت الموضوع والآخر يرتب الحكم عليه، وهذا الحديث يفيد السلطنة
للمالك على ماله ويتكفل إفادة بقاء الملكية، وظاهر عبارة الشيخ " قده "
استفادة هذه الجهة - أيضا من هذا الحديث. فظهر بطلان التمسك
بالحديث لاثبات الملك مطلقا.
ويشهد بما ذكرنا أنا لم نجد أحدا من الأصحاب يقول بأن الأدلة
النافية للملك - كأدلة الخيار والشفعة - معارضة لقاعدة السلطنة، وذلك
105

لأن هذه تقتضي سلطنة الشخص على المال ما دام في ملكه، وأما دليل
الشفعة - مثلا - فيفيد أنه ليس ملكا له. فهو كالوارد على دليل السلطنة..
كما أن أدلة الحجر - مثلا - لا تعارض هذه القاعدة بل تخصصها كما
هو ظاهر.
وهذا الاشكال نفسه وارد على المحقق " قده " في مسألة القرض
إن كان وجه تمسكه به على النحو الذي تمسك به الشيخ " قده ".
الثالث: قوله عليه السلام " لا يحل مال امرئ ".
قال الشيخ " قده ": ومنه يظهر جواز التمسك بقوله عليه السلام
" لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفسه ".
أقول: إن كان هذا الحكم تكليفيا فالمراد لا يجوز التصرف في
مال امرئ إلا عن طيب نفسه، وإن كان وضعيا فالمعنى لا ينفذ ولا يصح.
والاستدلال به في المقام يتوقف على ظهوره في الحكم الوضعي، حتى
لا يجوز الرجوع، بمعنى عدم تأثيره إلا عن طيب نفس المشتري.
قيل: إن نسبت الحلية أو الحرمة إلى المعاملات كانت ظاهرة في
الحكم الوضعي - أي النفوذ - وإن كان الموضوع عينا خارجية كان
ظاهرا في الحكم التكليفي، مثلا الخمر حرام أي شربه ولحم الخنزير
حرام أي أكله. وعلى هذا يكون الحديث ظاهرا في الحكم التكليفي،
أي لا يجوز التصرف في مال الغير.
وقيل: إن نسبت إلى عين لا بما هي مال فهو تكليفي مثل الخمر
حرام، وإن نسبت إليها بما هي مال كان ظاهرا في الحكم الوضعي مثل
" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض ".
106

أقول: والصحيح أن ظاهره حرمة التصرف في مال الغير مطلقا
إلا برضاه.
قال الشيخ " قده ": وتوهم تعلق الحل بمال الغير، وكونه مال
الغير بعد الرجوع أول الكلام مدفوع بما تقدم.
أقول: توضيح التوهم: إن هذا الحديث يجوز التمسك به فيما
إذا كان الموضوع معلوما، وكون المال ملكا له بعد الرجوع مشكوك
فيه، فيكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وتوضيح الدفع: إن تملكه عن الغير بالرجوع فيه تصرف في
ماله، وهو غير جائز بمقتضى الحديث الشريف.
قال الشيخ " قده ": مع أن تعلق الحل بالمال يفيد العموم بحيث
يشمل التملك أيضا..
أقول: غرضه " قده " إن هذا الحديث يدل على الحكم الوضعي
- وهو - الفساد بالالتزام كذلك. والصحيح - كما قال السيد " قده " -
إن كلمة " مع " زائدة هنا، أي إن عموم " لا يحل.. " يشمل جميع
التصرفات ومنها التملك، فهو يقتضي عدم جواز التصرف الخارجي
وكذا التملك من أول الأمر، فلا شبهة مصداقية حينئذ.
ولكن يتوجه ما أوردناه على الاستدلال بحديث السلطنة،
فإن الحديث لا يتكفل الموضوع بل يقول: إن المال المفروض كونه
للغير لا يجوز التصرف فيه إلا برضاه - فتأمل.
107

الرابع: آية التجارة
قال الشيخ " قده ": ويمكن الاستدلال بقوله تعالى " لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض.. ".
أقول: ومما استدل به للزوم المعاطاة هذه الآية الشريفة باعتبار
أن الرجوع فيما ملكه بالمعاطاة ليس تجارة عن تراض، فيدخل في
عموم المنع، والمعنى بقرينة " تجارة عن تراض " لا تأكلوا مالا بعنوان
التملك إلا بالتجارة عن تراض. وبعبارة أخرى: المعنى إن سبب التملك
منحصر بالتجارة عن تراض.
هذا إذا كان الاستدلال بجملة المستثنى بناءا على دلالتها على الحصر.
قال الشيخ " قده ": والتوهم المتقدم في السابق جار هنا..
أقول: وفي نسخة " غير جار هنا "، والظاهر أنها الأصح، وغرضه
" قده " إن الشبهة المذكورة حول دلالة " الناس مسلطون على أموالهم "
غير جارية هنا، لأن الحكم هنا ليس إلا النهي عن تملك مال الغير إلا
بالتجارة عن تراض، والرجوع ليس من مصاديق التجارة عن تراض.
ويمكن التمسك أيضا بالجملة المستثنى منها، فيكون المعنى:
لا تتصرفوا بنحو من الأنحاء في أموالكم إلا عن طريق التجارة عن تراض.
أقول: هل الآية الكريمة تفيد لا تأكلوا أموالكم بوصف " أموالكم "
أي بقيد الإضافة إلى أصحابها، أو لا تأكلوا أموال غيركم بعنوان أنها
أموالكم، أو الأعم من كلا الأمرين؟
الظاهر أن المراد هو الثاني، أي لا تأكلوا ما تجعلونه ملكا لكم
108

بزعمكم مما هو بأيديكم بسبب من الأسباب إلا التجارة عن تراض.
وبعبارة أخرى: لا تتملكوا شيئا من الأموال إلا بالتجارة عن تراض..
فيكون أكل الوارث ما ترك مورثه خارجا عن مدلول الآية تخصصا.
ثم ما المراد من الباطل؟
إن كان المراد الباطل الشرعي دلت الآية على جواز الأكل المباح
وإن لم تكن تجارة عن تراض، كأكل المارة مما يمرون به - مثلا -
وعلى هذا لا يلزم التخصيص في الآية بذلك ويكون الرجوع جائزا
فيما إذا أذن الشارع وإن لم يكن تجارة عن تراض، ويكون الاستثناء
حينئذ منقطعا. والمختار عند جماعة عدم دلالة الاستثناء المنقطع على
الحصر، فالآية تفيد النهي عن كل باطل ولا تفيد حصر غير الباطل في
التجارة عن تراض. وعليه فلو شك في جواز الرجوع وعدمه يكون
التمسك بالآية لعدم الجواز تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية لاحتمال
إذن الشارع، إذا المفروض أن المراد من " الباطل " هو الباطل الشرعي،
بمعنى ما لم يأذن به الشارع.
وإن كان المراد الباطل العرفي - أي ما كان باطلا عندكم لا يكون
مملكا لكم، فلا تأكلوا ما أخذتموه بشئ من تلك الأسباب إلا التجارة
عن تراض - فعلى هذا يكون إذن الشارع في بعض الموارد كحق المارة
والشفعة ونحوهما مخصصا لهذا " الباطل "، وكذا يكون نهيه عن بيع
المنابذة ونحوه مخصصا لما هو " الصحيح " عندهم.. والاستثناء
على هذا التقدير منقطع كذلك ولا دلالة له على الحصر أيضا.
109

وأما إذا جعل الاستثناء متصلا كان تقدير المستثنى منه " بسبب
من الأسباب "، أي لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب المملكة
عندكم إلا بسبب التجارة عن تراض.. دل على الحصر، وكان
" الباطل " قيدا توضيحيا وكأنه تعليل للنهي عن ما عدا التجارة عن
تراض. ويلزم عليه تخصيص المستثنى منه، لانفاذ الشارع جملة من
الأسباب غيرها.
هذا، والظاهر أن المراد من " الباطل " هو الباطل الشرعي،
وجملة الاستثناء لا تفيد الحصر حتى يلزم التخصيص، فلو احتمل إذن
الشارع في الرجوع في المعاطاة جاز له التصرف في المال بعده بما
جاز له التصرف فيه قبلها، لأن معنى الإذن في الرجوع هو جعل المعاطاة
كالعدم.
وبالجملة يتوقف الاستدلال بالآية على دلالتها على الحصر، أو
دلالتها على حرمة أكل المال بالأسباب الباطلة عند أهل العرف:
فأما الوجه الأول فإن الشيخ " قده " - وإن تمسك به هنا - قد
نفاه في مبحث بيع الفضولي، وذكر أن الاستثناء منقطع ولا يفيد الحصر،
وجعله مثل " لا شئ من الغنم بحرام إلا الأرنب "، فإنه استثناء منقطع
ولا يفيد عدم حرمة ما عدا الأرنب من الحيوانات. نعم الحكم في المستثنى
منه عام، فليس شئ من الغنم بحرام، وليس شئ من الأكل بالباطل
بحلال.
ولا فرق في عدم الدلالة على الحصر بين أن يكون " الباطل "
110

شرعيا أو عرفيا: أما الأول فلأن المفروض عدم معلومية بطلانه شرعا،
وأما الثاني فإن هذا باطل عرفا - كما ذكرنا - لكن الشيخ " قده "
نفسه قال: إذا أجاز المالك الحقيقي كان المورد نظير أكل المار من
الثمر الممرور به، فإنه حينئذ يخرج عن كونه باطلا، وعلى هذا لا يصح
التمسك بالجملة المستثنى منها هنا.
وأما الوجه الثاني ففيه أن ذلك أول الكلام، على أنه يستلزم
التخصيص والتخصص، بل الآية سياقها لا يناسب " الباطل " العرفي.
وبما ذكرنا ظهر عدم جواز التمسك بالآية للزوم المعاطاة.
الخامس: أدلة خيار المجلس
قال الشيخ " قد ": هذا كله مضافا إلى ما دل على لزوم خصوص
البيع، مثل قوله عليه السلام " البيعان بالخيار ما لم يفترقا ".
أقول: تقريب الاستدلال بهذه الأخبار هو: أن المعاطاة بيع
بالحمل الشائع، فتشملها أدلته وتترتب عليها أحكامه، ومنها خيار المجلس،
فالمتعاطيان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا لزمت المعاطاة.
والتمسك بهذه الأخبار لأجل عدم جواز الفسخ بعد تفرقهما عن
مجلس العقد تام كما هو واضح، وأما بناءا على كون المعاطاة كالهبة
- في جواز التراد - لم يقتض ذلك المنع عن التراد.
السادس: قوله تعالى " أوفوا بالعقود "
قال الشيخ " قده ": وقد يستدل أيضا بعموم قوله تعالى " أوفوا
بالعقود.. ".
111

أقول قال في مجمع البيان: وفى وأوفى بمعنى، والثاني لغة
أهل الحجاز. وتقريب الاستدلال - كما ذكر الشيخ - إن " العقد " هو
" العهد " كما في الرواية (1)، ومبرز العهد أعم من اللفظ والفعل فيشمل
المعاطاة، وتكون صغرى لدليل وجوب الوفاء بالعقد فيجب الوفاء
بالمعاطاة. ومقتضى اطلاق الآية وجوب الوفاء بها في جميع الأزمنة،
فلا يجوز التراد والرجوع.
وليست الآية ظاهرة في حرمة التصرف بمال الغير، بل هي ظاهرة
في عدم جواز الرجوع عن اعتبار الشئ ملكا للغير، ومنه ينتزع لزوم
العقد - بناءا على أن الأحكام الوضعية منتزعة من الأحكام التكليفية، أو
أنه امضاء لعمل أهل العرف وبنائهم على اللزوم. هذا تقريب الاستدلال
بالآية.
قال في منية الطالب ما ملخصه: إن الآية تدل على اللزوم في العقود
اللفظية، وأما المعاطاة فلا يمكن إفادتها للزومها ثبوتا - مضافا إلى قيام
الاجماع على الجواز - لأن اللزوم في العقود تارة شرعي تعبدي -
كما في باب النكاح حيث حكم الشارع فيه حكما تعبديا بعدم جواز
الرجوع فيه بوجه من الوجوه - وأخرى حقي - كما في باب المعاملات
اللفظية كالبيع حيث جعل الشارع فيه الحق للمتبايعين في جعله لازما

(1) قال الشيخ علي بن إبراهيم: حدثني أبي عن النضر بن سويد عن
عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: قوله " أوفوا بالعقود " قال: بالعهود.
تفسير القمي 1 / 160 وهي إما صحيحة وإما حسنة بإبراهيم بن هاشم.
112

وجعله غير لازم باشتراط الخيار فيه.
وأما إذا كانت المعاملة بالمعاطاة فإن الفعل يفيد المبادلة ولكن
لا يفيد الالتزام بها، بل هو خارج بالتخصص عن عموم الآية الكريمة،
لأن العقد هو العهد والفعل قاصر عن إفادة هذا المعنى.
أقول: لا فرق لدى أهل العرف بين البيع بالصيغة والبيع بالفعل،
ففي كليهما تمليك من البائع وتملك من المشتري، ولازم هذا التمليك
والتملك عدم الرجوع، ومن هنا يمكن دعوى أن الالتزام موجود في
القسمين.
وفي التبيان لشيخ الطائفة " قده ": أجمع المفسرون على أن
المراد بالعقود العهود، فيجب الوفاء بكل عهد حتى إذا كان قلبيا،
وحينئذ فدعوى الفرق بين دلالة الفعل ودلالة اللفظ ممنوعة. نعم اللفظ
يكشف عما في الضمير وليس الفعل كذلك ولذا يمكنه انكار قصد التمليك.
لكن هذا أمر آخر، فإنا نقول: إذا علم تحقق أصل المعاملة من الطرفين
علم اللزوم بالالتزام، سواءا كانت باللفظ أو بالفعل.
وقيل: إن المعاطاة عقد، والعقد هو العهد، وقوله تعالى " أوفوا
بالعقود " ظاهر في الحكم التكليفي، والاستدلال به يختص بما إذا كان
متعلق العقد (فعلا)، وأما إذا كان المتعلق (النتيجة) فلا وجه للاستدلال
به، لأن هذه المعاهدة إن كانت جامعة للشرائط كانت النتيجة - وهي
الملكية حاصلة ومقتضى طبعها البقاء إلى أن يرفعها إلى أن يرفعها رافع - وإلا فلا،
113

سواء كانت بالصيغة أو بالمعاطاة، وأما عدم جواز التصرف فلأن المفروض
بيعه له، ومن باع شيئا وملكه لغيره فلا يجوز له التصرف فيه.
وهذا من أحكام البيع ولا علاقة له بمسألة الوفاء مطلقا، وعلى
هذا لا يجوز أن يتمسك بالآية للزوم المعاطاة وحرمة التصرف فيما أعطاه
بالرجوع فيه.
وقد أجاب الشيخ " قده " في أول الخيارات عن ذلك بما حاصله:
أن المراد بوجوب الوفاء هو العمل بما اقتضاه العقد في نفسه، فإذا
دل على التمليك وجب العمل بما يقتضيه من الأحكام والآثار من حرمة
التصرف فيه ونحو ذلك.
أقول: وفيه أن عدم العمل بالحكم المترتب على النتيجة ليس
مخالفة لدليل الوفاء، فمن نذر أن يكون الشئ ملكا لزيد فوفى بنذره
وسلمه إياه ثم غصبه منه لم يحنث وإن ارتكب محرما.
فالأولى أن يقال في الجواب: إن مفاد دليل الوفاء لا تنقضوا
عهود كم والتزموا بالآثار المترتبة عليها، وعليه فإن بقي على عهده فهو،
وإن فسخ ورجع فإن أنفذ الشارع ذلك فهو، وإلا فإنه يأمر بالوفاء بالعقد
والالتزام بالأحكام المترتبة عليه. وبهذا يندفع ما قيل من أن الآية الشريفة
لا تشمل عقد النتيجة.
ثم إنه إذا احتمل في مورد أن الشارع جعل العقد بقول الشخص
" فسخت " كلا عقد، فلا عقد عندئذ حتى يتوجه إليه الأمر بالوفاء.
وبعبارة أخرى: تارة نشك في تخصيص العام فحينئذ نتمسك به، وأخرى
114

يقوم دليل يرفع موضوع العام فلا يجوز التمسك به. وعليه فإن كان
العقد موجودا توجه إليه الحكم المذكور، وإن فرض معدوما شرعا لم
يجز التمسك بعموم دليل الوفاء، فظهر أن دليل الوفاء بالعقد تابع للعقد
حدوثا وبقاءا، ومع الشك في البقاء لم يجز التمسك به.
السابع: المؤمنون عند شروطهم
قال الشيخ " قده ": وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام " المؤمنون
عند شروطهم "، فإن الشرط لغة مطلق الالتزام، فيشمل ما كان بغير اللفظ.
أقول: فيه أنه يتوقف على القول بوجوب الوفاء بالشروط الابتدائية،
وقد قام الاجماع على خلافه على ما نقل عن غير واحد.
وأيضا: إن كان المراد وجوب العمل بالشرط - فيكون حكما
تكليفيا - كان الأولى أن يقال: على المؤمنين الوفاء بشروطهم، وإن
كان المراد هو الحكم الوضعي جاء فيه جميع ما تقدم في الدليل السابق.
والظاهر أنه حديث أخلاقي كقولهم " المؤمن إذا وعد وفى ".
نتيجة البحث
قال الشيخ " قده ": والحاصل أن الحكم باللزوم في مطلق الملك
وفي خصوص البيع مما لا ينكر.
أقول: ويدل على اللزوم - بالإضافة إلى ما تقدم - أدلة الخيارات
على أنواعها، فإنه بعموماتها تشمل ما كان بغير اللفظ.
ثم قال: إلا أن الظاهر - فيما نحن فيه - قيام الاجماع على عدم
اللزوم في المعاطاة.
115

أقول: ولا يصلح الاجماع المدعى على عدم اللزوم لرفع اليد
عن اطلاق الأدلة المذكورة، لعدم تنصيص الأصحاب على عدم اللزوم،
بل قال أكثرهم بعدم إفادة المعاطاة للملك، فاللزوم سالبة بانتفاء الموضوع
إذن لا اجماع على عدم اللزوم بناءا على القول بالملك.
قال الشيخ " قده ": نعم يمكن أن يقال - بعد ثبوت الاتفاق
المذكور - إن أصحابنا بين قائل بالملك الجائز وبين قائل بعدم الملك
رأسا، فالقول بالملك اللازم قول ثالث - فتأمل.
أقول: ولكن هذا إنما يتم فيما إذا كان القول بعدم اللزوم مما
أفتوا به صريحا، فلو اختلفوا على قولين في موضوع بالاستحباب
والوجوب وأفتوا بعد الحرمة كان القول بالحرمة احداث قول ثالث، وإن
كانت الفتوى بعدم الحرمة مقيدة بالفتوى بالاستحباب أو بالوجوب جاز
القول بالحرمة. وبالجملة: إن نفي القولان الثالث كان القول به احداثا
وإلا فلا. وليس الاجماع المدعى - فيما نحن فيه - من الاجماع
على النفي.
ثم قال " قده ": وكيف كان فتحصيل الاجماع.. الخ.
أقول: ملخص كلامه قدس سره الظن بتحقق الاجماع على
عدم اللزوم. وفيه أنه لا دليل على اعتبار هذا الظن، اللهم إلا أن يكون
الظن بالاجماع الكاشف ظنا بقول المعصوم عليه السلام، إلا أنه يتوقف
على القول بحجية مطلق الظن برأي المعصوم عليه السلام، وهو غير ثابت.
ثم قال: بل يمكن دعوى السيرة على عدم الاكتفاء في البيوع
116

الخطيرة التي يراد بها عدم الرجوع بمجرد التراضي. نعم ربما يكتفون
بالمصافقة، فيقول البائع " بارك الله لك " أو ما أدى هذا المعنى بالفارسية.
نعم، يكتفون بالتعاطي في المحقرات ولا يلتزمون بعدم جواز
الرجوع فيها، بل ينكرون على الممتنع عن الرجوع مع بقاء العينين.
نعم، الاكتفاء في اللزوم بمطلق الانشاء القولي غير بعيد للسيرة
ولغير واحد من الأخبار كما سيجئ إن شاء الله تعالى في شروط الصيغة.
وقد أشكل عليه السيد " قده " بالنسبة إلى المحقرات بأن ترادهم
فيها ليس من جهة بنائهم على عدم اللزوم فيها، بل لعله من جهة عدم
قابليتها للاستنكاف عن التراد.
أقول: بل السيرة العقلائية قائمة على الاكتفاء بالتعاطي وعدم
اشتراط الانشاء القولي مطلقا.
117

الكلام
في قوله (ع) " إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام "
لقد استدل بهذا الخبر تارة على عدم إفادة المعاطاة إباحة التصرف
وأخرى على عدم إفادتها اللزوم، جمعا بينه وبين ما دل على صحة مطلق
البيع كما صنعه في الرياض، وهو ما روي عن خالد بن الحجاج أو
ابن نجيح (1) قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يجيئني فيقول:
اشتر لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا. فقال: أليس إن شاء أخذ
وإن شاء ترك؟ قلت: بلى. قال: لا بأس، إنما يحلل الكلام ويحرم
الكلام.

(1) رواه الشيخ الكليني " قده " في باب بيع ما ليس عنده والشيخ الطوسي
في باب النقد والنسيئة عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن
الحجاج أو ابن نجيح وهو في الوسائل 6 / 376.
118

الوجوه المحتملة في الخبر
وقد احتمل الشيخ قدس سره في قوله عليه السلام " إنما يحلل
الكلام ويحرم الكلام " وجوها أربعة:
الأول: أن يراد من " الكلام " في المقامين اللفظ الدال على
التحريم والتحليل، بمعنى أن تحريم شئ وتحليله لا يكون إلا بالنطق
فلا يتحقق بالقصد المجرد عن الكلام، ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال.
الثاني: أن يراد من " الكلام " اللفظ مع مضمونه، كقولهم
" هذا الكلام صحيح، وهذا الكلام باطل "، ويكون المراد: إن
المطلب الواحد يختلف حكمه الشرعي من حيث الحلية والحرمة
باختلاف المضامين المؤداة بالكلام.
قال: وعلى هذا المعنى ورد قوله عليه السلام " إنما يحرم الكلام "
في عدة من روايات المزارعة.
وعلى هذا فالمراد - بالنسبة إلى مورد السؤال - أن الكلام إن
كان بمضمون البيع والشراء كان أثره الحلية، بخلاف ما إذا كان بمضمون
المواعدة والمقاولة، وإن كان المطلب واحدا.
الثالث: أن يراد من " الكلام " في الفقرتين الكلام الواحد،
ويكون الاختلاف في الحكم الشرعي باعتبار الوجود والعدم. قال:
ويحتمل هذا الوجه في الروايات الواردة في المزارعة.
أي: الايجاب والقبول إن وجدا حل التصرف في مال الغير وإلا
119

فلا. إذن الأفعال غير مؤثرة.
الرابع: أن يراد من " الكلام " المحلل خصوص المقاولة،
ومن المحرم ايجاب البيع، لأنه وقع قبل الشراء وهو غير جائز.
أقول: لا اشكال في أن الراوي لا يريد السؤال عن حكم بيع
قد وقع بلا لفظ، لأنه يعلم بعدم تحقق البيع، بل يقصد السؤال عن
أثر هذا اللفظ الدال على المواعدة والمقاولة، إما من جهة احتماله
كون ذلك من مصاديق قوله عليه السلام " لا تبع ما ليس عندك " فقال
الإمام عليه السلام: أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك؟ قال: بلى، فقال
عليه السلام: لا بأس.. أي: لا بأس بهذا لمواعدة ما دام أمر القبول
والرد بيده بعد، فإنها ليست من مصاديق " لا تبع ما ليس عندك ".
وإما من جهة احتماله أن هذه المقاولة توجب بطلان المعاملة التي ستقع
بينهما على الثوب، فالإمام عليه السلام يجيب بعدم البأس، لأن الرجل
إن شاء أخذ وإن شاء ترك. هذا حكم المسألة.
وإنما الكلام في تطبيق الكبرى على الصغرى، وظاهر " إنما يحلل
الكلام ويحرم الكلام " كون الكلام نفسه محللا ومحرما، وأما الاحتمال
الثالث فخلاف الظاهر، كما أن جعل " يحرم الكلام " بمعنى أن عدم
الكلام محرم خلاف الظاهر، بل المحرم والمحلل إما بمعنى أن الايجاب
والقبول الصحيحين يسببان حلية المثمن للمشتري والثمن للبائع، وإما
بمعنى أن المؤثر في الحلية والحرمة هو وجود الكلام، فالمؤثر في
حلية الوطي هو وجود صيغة النكاح، والمؤثر في حرمته هو وجود صيغة
120

الطلاق. فالكلام نفسه محلل ونفسه محرم، وأما إرادة غير ما ذكر
فمجاز ولا موجب لحمل الرواية عليه.
وعلى هذا فلا بيع في المقام حتى يبحث عن شرطية اللفظ وعدمها.
نعم يحتمل أن يراد من " الكلام " البيع بالايجاب والقبول،
وبما أنه غير متحقق هنا فليس بمصداق لقوله عليه السلام " لا تبع ما ليس
عندك " ولذا قال عليه السلام " لا بأس ".
ولكنه خلاف الظاهر.
ويحتمل أن يراد إن البيع يتحقق بالايجاب والقبول وهو غير
متحقق قبل الشراء، ولذا قال " لا بأس "، إذ لو كان قبل الشراء بيع
لكان باطلا.
ولكنه خلاف الظاهر كذلك.
وبالجملة: إن الرواية مجملة، وغاية ما يستفاد منها تأثير " الكلام "
في المعاملات. فالاستدلال بها في المقام غير تام.
ثم إن الشيخ " قده " - بعد أن ذكر أن الرواية لا تدل على انحصار
المعاملة في اللفظية - قال: نعم يمكن استظهار اعتبار الكلام في ايجاب
البيع بوجه آخر - بعد ما عرفت من أن المراد بالكلام هو ايجاب البيع -
بأن يقال: إن حصر المحلل والمحرم في الكلام لا يتأتى إلا مع انحصار
ايجاب البيع في الكلام، إذ لو وقع بغير الكلام لم ينحصر المحلل
والمحرم في الكلام. إلا أن يقال: إن وجه انحصار البيع في الكلام
في مورد الرواية هو عدم امكان المعاطاة في خصوص المورد، إذ
121

المفروض أن المبيع عند مالكه الأول، فتأمل.
أقول: ولكن من الممكن أن يقال: إن للمورد هنا خصوصية،
إذ المعاطاة لم تتحقق. والإمام عليه السلام حصر البيع بالايجاب
والقبول معبرا ب‍ " الكلام " في مقابل المقاولة لا في مقابل المعاطاة، إذ
الواقع هنا هو الكلام لا الفعل.
ويحتمل التعبير ب‍ " الكلام " من جهة الغلبة، إذ الأغلب تحقق
البيع بالكلام.
وكيف كان فلا ظهور للرواية في مقابل ظواهر عمومات البيع،
لتكون دالة على عدم إفادة المعاطاة الملك أو اللزوم.
روايات أخرى في الباب
ثم إنه " قده " قال: كما يشعر به قوله عليه السلام في رواية أخرى
واردة في هذا الحكم أيضا، وهي رواية يحيى بن الحجاج عن أبي عبد الله
عليه السلام عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب أو هذه الدابة وبعنيها
أربحك فيها كذا وكذا. قال: لا بأس بذلك ليشترها ولا يواجبه البيع
قبل أن يستوجبها أو يشتريها (1).
أقول: يعني أنه بقرينة هذه الرواية يفهم أن المراد من " الكلام "
في تلك هو البيع، أي إن تحقق البيع قبل الشراء فحرام وإلا فحلال،
لأنها تشعر باشتراط الكلام، لقوله عليه السلام " لا يواجبه البيع. ".

(1) الوسائل 6 / 378 باختلاف يسير في اللفظ.
122

إلا أن هذا لا يفيد الحصر حتى يقال بعدم تأثير المعاطاة بل الإمام
عليه السلام تعرض في الجواب إلى أحد فردي المعاملة لأنه مورد السؤال
ولا مفهوم لكلامه ليكون الفرد الآخر باطلا، بل هو مسكوت عنه.
قال: ويشعر به أيضا رواية العلاء الواردة في نسبة الربح إلى
أصل المال. قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يريد أن يبيع
بيعا فيقول: أبيعك بده دوازده. فقال: لا بأس، إنما هي هذه المراوضة
فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة (1). فإن ظاهره - على ما فهمه بعض
الشراح أنه لا يكره ذلك في المقاولة التي قبل العقد وإنما يكره حين العقد.
أقول: ولكن من أين نثبت له المفهوم ليدل على الحصر، بل لعل
الإمام عليه السلام أجاب بهذا الجواب لكون المورد مورد القول، لأن
الراوي قال: فيقول..
قال " قده ": وفي صحيحة ابن سنان: لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع
ليس عندك، تساومه ثم تشتري له نحو الذي طلب، ثم توجبه على
نفسك، ثم تبيعه منه بعد (2).
أقول: وهذه كسابقتها في عدم الدلالة على الحصر، على أن قوله
عليه السلام " ثم تبيعه " أعم من البيع اللفظي والمعاطاة.

(1) الوسائل 6 / 386 مع اختلاف في اللفظ.
(2) الوسائل، كتاب التجارة، أبواب أحكام العقود، الباب 8 ج 6 ص
375.
123

تنبيهات المعاطاة
وينبغي التنبيه على أمور:
125

الأمر الأول
(هل يعتبر في المعاطاة ما يعتبر في البيع؟)
هل يعتبر في المعاطاة ما يعتبر في البيع من الشروط مطلقا - أي
سواء قلنا بإفادتها الملك أو قلنا بإفادتها الإباحة - أولا يعتبر فيها من ذلك شئ
كذلك، أو لا بد من التفصيل بين القول بإفادتها الملك والقول بإفادتها
الإباحة، أو التفصيل بين ما إذا قصد المتعاطيان الملك وما إذا قصدا الإباحة؟
إن قلنا: بأن المعاطاة تفيد الملك - أعم من الجائز واللازم -
فهي بيع، ولازم ذلك شمول أحكام البيع لها - حتى بناءا على القول
بأنه بيع فاسد شرعا -.
وإن قلنا بإفادتها الإباحة فهي بيع عرفا ولا يؤثر شرعا إلا الإباحة،
وهل معنى هذا: أنه ليس بيعا شرعيا أو أنه بيع يفيد الإباحة؟ الظاهر
هو الأول، لأن البيع ما يفيد الملك، وما لا يفيده فليس بيعا شرعيا لأنه
لا يفيد الملك، ولا يخفى عدم الفرق بين هذا القول والقول بأنه بيع فاسد
127

لأنه أيضا لا يفيد الملك، فجعل الأول بيعا دون الثاني لا وجه له.
قال السيد " قده ": قوله " بيع عرفا لا شرعا " إن أراد أن هذا
بيع مع قطع النظر عن حكم الشرع فهو صحيح، وإن أراد أنه بعد
لحاظ حكم الشرع من العرف هو بيع عندهم فليس كذلك.
أقول: إن كان المبنى هو وحدة الموضوع له، غير أن الشارع
يخطئ أهل العرف في بعض الموارد من حيث التطبيق فالتخطئة تكشف
عن أن موردها ليس بيعا عند المتشرعة أيضا فلا يشمله أدلة الشرائط.
وإن كان المبنى هو أن أهل العرف قد وضعوا اللفظ لما يفيد
الملك عندهم - سواء أفاد عند الشارع أم لا - فإنه يكون بيعا عندهم،
لكنهم - بما هم متشرعة - لا يرونه بيعا لعدم امضاء الشارع له فيشمله
أدلة الشروط حيث إن الأحكام تنزل على المفاهيم العرفية.
نعم لقائل أن يقول: بأنا نعلم - حتى بناءا على تغاير الموضوع
له - بأن الشارع لما جعل شرائط البيع، جعلها لكل بيع مملك في
اعتباره، وأما ما لم يكن كذلك فالبيع منصرف عنه في نظره وإن كان
بيعا في نظر أهل العرف.
ولكن هذا إنما يصح فيما إذا أراد الشارع أن يجعل البيع العرفي
كلا بيع، كما هو الشأن في البيع الربوي مثلا. وأما إذا أراد ترتيب
أثر آخر عليه كالإباحة بعد التصريح بعدم إفادته الملك، فإن أدله الاشتراط
تشمله وإن كان الموضوع له عنده غير الموضوع له عند أهل العرف
لما مر.
128

وقال المحقق الخراساني " قده " ما توضيحه: أنه بيع عرفي لم يؤثر
شرعا قبل وجود أحد الملزمات كتلف أحد العوضين، فهو ليس بيعا ابتداءا
حتى يتحقق أحدها، فهو شرط إفادته التمليك والتملك. وحينئذ يكون
بيعا شرعا وعرفا، ونفي البيع عنها في كلام المشهور القائلين بالإباحة
هو البيع الشرعي بمجرده لا بعد وجود أحد الملزمات، فإنه حينئذ يفيد
الملك عندهم لا الإباحة الملزمة، ولذا يقولون بأن العوض الآخر الموجود
ملك لمن هو بيده - في الفرض المذكور - فعليه هو بيع شرعي لكن
بعد وجود أحد الملزمات، فيشمله أدلة الشرائط.
قال الشيخ: فنفي البيع عنها في كلامهم ومعاقد اجماعهم..
أقول: الظاهر أن هذه العبارة متفرعة على القول بالإباحة، فإنه
بناءا عليه ليس بيعا شرعيا بل هو عرفي، ويكون المعنى حينئذ إن الإباحة
تفيد الملك بالتالي، ويحتمل كونها متفرعة على أول كلامه " قده "،
أي: نفي البيع في كلامهم حتى على القول بالملك لأن مقصودهم هو
المؤثر في إفادة اللزوم زائدا على الملك.
هذا كله بناءا على أن مقصود المتعاطيين التمليك والتملك، وأما
مع قصدهما الإباحة فليست بيعا شرعا ولا عرفا، لأن الإذن في التصرف
ليس بيعا، إذا البيع - كما قيل - مبادلة مال بمال.. وعلى هذا فما هو
دليل ترتيب أحكام البيع على المأخوذ بالمعاطاة مع عدم إفادتها الملك
وعدم قصدهما التمليك والتملك؟
أما السيرة فإنها دليل لبي، فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن، وهو
129

المورد الجامع لشرائط البيع. وهل هناك اطلاق يشمل محل الكلام؟
استدل بقوله عليه السلام " الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم "،
فإنه يدل - باطلاقه - على إفادة المعاطاة الإباحة مطلقا.
أقول: لكن الاستدلال به يتوقف على كونه مشرعا - كما هو مختار
السيد " قده " - فلو شك في اشتراط شئ في معاملة ما يتمسك به، والظاهر
- وفاقا للشيخ قده - خلافه، بل الحديث يدل على سلطنة الناس على
أموالهم بالأنحاء المشروعة فقط من البيع والصلح والإجارة والهبة ونحو
ذلك، فهو يفيد جواز بيعه وإجارته وهبته.. وغير ذلك من المعاملات
المشروعة من ذي قبل، فلا اطلاق له حتى يتمسك به في موارد منع
الشارع أو الشك في تجويزه.
قال الشيخ " قده ": وأما على المختار من أن الكلام فيما قصد
به البيع فهل يشترط فيه شروط البيع مطلقا، أم لا كذلك، أم يبتنى على
القول بإفادتها للملك والقول بعدم إفادتها إلا الإباحة؟ وجوه..
ثم استشهد قده للأول بأمور، وخلاصة ذلك: إن المعاطاة بيع،
فالأدلة شاملة لها، لأنها منزلة على البيع العرفي، فيشترط في صحة ما يراه
أهل العرف بيعا كونه جامعا للشرائط الشرعية التي اعتبرها، سواء كان
الأثر الملك أو الإباحة.
وأورد عليه السيد " قده ": بأن البيع العرفي أنما يصدق في ما
إذا لم يأت ردع عن الشارع، وإلا خرج عن كونه بيعا عرفيا، فلا موضوع
تشمله أدلة الشرائط.
130

أقول: فيه أنه لا حقيقة شرعية للفظ البيع، وليس هو من الأمور
التي اخترعها الشارع، بل أمر متداول عند أهل العرف، فكما أن المفهوم
من لفظ " الماء " في لسان الشارع هو نفس المفهوم منه عند أهل العرف
فكذلك " البيع "، فإذا قال: يشترط فيه كذا. كان معناه: يشترط في
هذا البيع المتعارف أن يكون كذا.
وأشكل المحقق الأصفهاني " قده " بأن دليل امضاء البيع لا يعقل
أن يكون موضوعه إلا البيع العرفي. فإنه القابل للامضاء، بخلاف دليل اعتبار
شئ في البيع، فإنه لا يعقل أن يكون موضوعه البيع العرفي بما هو
لأن اعتبار أحد لا ينوط بنظر شخص آخر، فلا يعقل أن يكون الموضوع
حينئذ غير البيع الشرعي، فإنه المنوط في نظره بشئ، فالبيع المساوق
وجوده لنفوذه هو المنوط بكذا وكذا، لا كل ما قصد به الملك.
فأدلة الشرائط - إذا - لا تتوجه إلى البيع العرفي.
أقول: إن أراد الشيخ أن أدلة الشرائط تخرج البيع العرفي عن
كونه بيعا عرفيا فيما إذا فقد أحدها، كان الاشكال واردا، لأن الشرط
الشرعي لا يضيق المفهوم العرفي ولا يحدد اعتبار أهل العرف، لأن المفروض
اختلاف النظرين، ولا يؤثر نظر أحد الشخصين في نظر الآخر.
وإن أراد أن أدلة الشرائط تتوجه إلى البيع العرفي لا بمعنى نفي
البيعية، بل بمعنى أن هذا البيع لا يمضيه الشارع بدون هذا الشرط،
فمتى كان واجدا له كان مؤثرا شرعا وإلا فلا. فالاشكال غير وارد، إذ
131

لا تضييق للبيع العرفي حينئذ، بل الأدلة تتوجه إليه نفسه وتضيق دائرة
تأثيره فحسب، فالتأثير هو للجامع للشرائط الشرعية، لا أن موضوع
الأدلة هو البيع الشرعي.
ثم إن الشيخ " قده " بعد أن ذكر وجه التفصيل المذكور ذكر
تفصيلا آخر، وهو: إن كانت أدلة الشروط ثابتة بالنصوص فتشمل المعاطاة،
وإن كانت بالاجماع فلا. مثلا: كون الوزن معلوما في الموزون قيل:
إنه ثابت بالاجماع، وقيل: لا يشترط فيما إذا انتفى الغرر.. فإن كان
اجماع فهو منصرف إلى البيع الشرعي، وإن كان نص فهو منزل على
البيع العرفي.
ووجه الفرق: إن المجمعين إنما يشترطون شيئا في البيع من جهة
أنهم متشرعة، وأما النصوص فلعدم الحقيقة الشرعية تتوجه إلى المفاهيم
العرفية.
ثم قال الشيخ: والاحتمال الأول لا يخلو عن قوة. قال ما توضيحه:
إما بناءا على الملك فإن هذا بيع تشمله الأدلة، وإما بناءا على أنه بيع
عرفي يفيد الإباحة - فإن الحكم الشرعي الثابت بقوله تعالى " أحل
الله البيع " مقتضاه إفادته الملك إن كان صحيحا، فإن لم يفده فمن أين
الإباحة؟ أنه عن طريق اشتراط الأصحاب الصيغة، وكذا قوله عليه
السلام " الكلام يحلل والكلام يحرم "، ومن هنا يقولون بإفادتها الإباحة.
وعلى هذا لا يكون لكلماتهم من أن المعاطاة تفيد الإباحة اطلاق كالنصوص
ليشمل الفاقد للشرائط - لا سيما مع اختلاف تعابيرهم - فيؤخذ بالقدر
132

المتيقن، وهو الجامع للشرائط - عدا الصيغة - فإذا كان كذلك أفاد
الإباحة.
فسواء كانت المعاطاة تفيد الملك المتزلزل أو المستقر أو الإباحة
- على اختلاف الأقوال - فإنه لا بد أن يكون جامعا للشرائط، لأنه هو
القدر المتيقن من كلماتهم.
وهذا الذي ذكره قدس سره دليل آخر على الوجه الأول الذي
اختاره وقواه.
كلام الشهيد " قده "
قال الشيخ قدس سره: ثم إنه حكي عن الشهيد في حواشيه على
القواعد أنه بعد ما منع من اخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة
وثمن الهدي إلا بعد تلف العين - يعني العين الأخرى - ذكر: أنه يجوز
أن يكون الثمن والمثمن في المعاطاة مجهولين، لأنها ليست عقدا،
وكذا جهالة الأجل، وأنه لو اشترى أمة بالمعاطاة لم يجز له نكاحها قبل
تلف الثمن.
قال الشيخ: وحكى عنه في باب الصرف أيضا أنه لا يعتبر التقابض
في المجلس في معاطاة النقدين.
وحيث إن الشيخ قدس سره يقول بكون المعاطاة بيعا، صار
بصدد اثبات وجوب اجتماع شرائط البيع هنا وإن لم يكن عقدا على
ما ذهب إليه الشهيد قدس سره، فقال في الجواب: حكمه بعدم جواز
133

اخراج المأخوذ بالمعاطاة في الصدقات الواجبة وعدم جواز نكاح المأخوذ
بها صريح في عدم إفادتها للملك، إلا أن حكمه رحمه الله بعدم اعتبار
الشروط المذكورة للبيع والصرف معللا بأن المعاطاة ليست عقدا يحتمل أن
يكون باعتبار عدم الملك، حيث أن المفيد للملك منحصر في العقد، وأن يكون
باعتبار عدم اللزوم، حيث إن الشروط المذكورة شرائط للبيع العقدي اللازم.
ثم قال قدس سره ما ملخصه: والأقوى اعتبارها وإن قلنا بالإباحة،
لأنها بيع عرفي وإن لم يفد شرعا إلا الإباحة، ومورد الأدلة الدالة على
اعتبار تلك الشروط هو البيع العرفي لا خصوص العقدي، ولأن إفادتها
الإباحة تخالف القاعدة - لأن المفروض أن مقصود المتعاطيين هو الملك -
وحينئذ يجب الاقتصار على القدر المتيقن، وهو المورد الجامع للشرائط
عدا الصيغة.
لكن المحقق الأصفهاني " قده " قال: لا يعتبر شرائط البيع العقدي
في المعاطاة على القول بإفادتها الملك شرعا، إما لعدم المقتضي وهو
قصور الدليل اللبي، أو لوجود المانع وهو السيرة العملية على أوسع
مما تقتضيه النصوص.
قال: ومنه يتبين حال المسألة على القول بإفادتها الإباحة، لفرض
دلالة دليل الشرط على اعتباره في البيع، وما لا يفيد الملك فليس بيعا
شرعا، وقد مر أن موضوع دليل الشرط هو البيع الشرعي دون العرفي.
وأما قصور دليل تأثير المعاطاة في الإباحة عن شموله لفاقد غير الصيغة
أيضا فهو خلاف المشاهد من سيرة المسلمين من عدم رعايتهم لما يعتبر
134

في العقد القولي كما عن كاشف الغطاء قدس سره.
أقول: وفيه أنا قد ذكرنا سابقا إن أدلة الشرائط متعلقة بالبيع
العرفي، وليس للشارع وضع في قبال وضع أهل العرف، فالمعاطاة
بيع وإن قلنا بالإباحة، فيجب رعاية الشروط المذكورة فيها شرعا حتى
يترتب الأثر المذكور.
نعم، ما أفاده من شمول اطلاقات الأدلة للمعاطاة لكنها مقيدة بالسيرة
القائمة على عدم رعايتها فيها محتمل، وقد ذكره المحقق الخراساني
قدس سره أيضا، فإنه بعد ما صرح قاطعا باعتبار الشرائط على القول
بالملك لكونها بيعا بلا اشكال قال: إلا أن يقال إن السيرة قد ألقت بعض
ما يعتبر بالاطلاق أو العموم، لكنه رده بقوله وأنى لها بذلك.
والانصاف أن رده في محله، لعدم امكان اثبات سيرة من المتشرعة
على القاء بعض الشرائط المعتبرة شرعا (نعم قد يكون ذلك من غير
المبالين بالأحكام الشرعية)، ولا أقل من الشك في تحقق هكذا سيرة،
فيكون الشك في التخصيص، فيجب رعاية جميع الشرائط كما ذكر
الشيخ قدس سره.
اللهم إلا أن يقال بأن الشرائط هذه شرائط للبيع في حصول
الملك، فإذا قلنا بالإباحة كانت أجنبية عنها، فلا يلزم رعايتها فيها بناءا
على ذلك.
لكن الانصاف لزوم الشرائط بناءا على هذا أيضا، لأن المتيقن
من حصول الإباحة هو صورة اجتماعها فيها، ومع عدمه لا يقطع
بحصولها بها.
135

الكلام في جريان الربا فيها
قال الشيخ " قده ": وبما ذكرنا يظهر وجه تحريم الربا فيه أيضا
وإن خصصنا الحكم بالبيع، بل الظاهر التحريم حتى عند من لا يراها
مفيدة للملك، لأنها معاوضة عرفية وإن لم تفد الملك، بل معاوضة شرعية
كما اعترف بها الشهيد رحمه الله.
أقول: وتوضيح المرام: إن المعاطاة إما هي بيع وإما هي معاوضة
مستقلة، فإن كانت بيعا جرت فيها أدلة الربا مطلقا - أي سواء أفادت
الملك أو الإباحة - فالمعاطاة الربوية محرمة وباطلة أيضا.
وإن كانت معاملة مستقلة، فإن تمسكنا بما ذكرنا آنفا من أن
المتيقن من حصول الإباحة هو ما إذا كانت جامعة للشرائط، فلا بد من
أن يقال إنه مع كونها ربوية لا تحصل الإباحة بل هي معاملة محرمة،
وإن تمسكنا بالاطلاقات فحيث إنها متوجهة إلى البيع - والمفروض أن
المعاطاة معاوضة مستقلة - فلا تجري فيها أدلة الربا إلا على القول
بجريانها في غير البيع من المعاملات كما هو الحق.
الكلام في جريان الخيار في المعاطاة
عبارة الشيخ هنا لا تخلو من اجمال واشكال، لأنه قدس سره قال
وأما حكم جريان الخيار فيها قبل اللزوم فيمكن نفيه على المشهور،
لأنها جائزة عندهم فلا معنى للخيار.
136

أقول: قوله " قبل اللزوم " غير ظاهر المعنى، لأنه لا يعلم أن
المراد منه جعل الخيار للفسخ قبل اللزوم أو جعله قبل اللزوم للأخذ
به بعده. وبعبارة أخرى: هل المقصود جعله للأخذ به قبل اللزوم أو
جعله قبله للأخذ به بعده؟
ولم يتعرض الشيخ ولا أحد من المحشين لهذا الاشكال، فإن كان
المراد: جعله للأخذ به قبل اللزوم كما هو الظاهر من قوله بعد ذلك:
لا معنى للخيار، لزم لغوية الجعل، لأن المعاطاة ليست لازمة بعد، بل
يجوز فيها الرجوع، فما أثر جعل الخيار؟
وأما ما يستفاد من بعض من الفرق بين جواز التصرف والتملك
وبين جعل الخيار: بأن الأخذ بالخيار يصير العقد كالعدم بخلاف التصرف
بدون الخيار فإن البيع باق بعد ولم يقع فيه خلل.
ففيه: أنه لا يرفع الاشكال، لأن المقصود هو جواز التصرف
في هذه العين، فإذا كان له التصرف فيها بدون جعل الخيار فجعله لغو.
وإن كان المراد جعله فعلا للأخذ به بعد لزومه فلا لغوية، لعدم جواز
الرجوع حينئذ إلا به، كما هو الأمر في البيع بالصيغة.
وبالجملة فلا يصح الحكم بعدم المعنى لجعل الخيار بقول مطلق،
لأنه يفيد لما بعد اللزوم، وأما بالنسبة إلى ما قبله فلا يصح سواءا قلنا
بالإباحة أو بالملك الجائز. وعلى هذا يناسب أن يكون " إن " في قوله
" وإن قلنا بإفادة الملك " وصيلة، أي: لا معنى لجعل الخيار بدون
اللزوم وإن لم نقل بالإباحة بل قلنا بالملك الجائز، لعدم الفرق بينهما
137

في جواز الرجوع.
لكن ينافي ذلك قوله بعدئذ " فيمكن القول بثبوت الخيار فيه
مطلقا. " فإن ظاهره كونها للتشقيق، فكأنه يقول: يمكن نفي الخيار
على المشهور من القول بالإباحة فلا معنى للخيار والحال هذه، وأما
على القول بالملك فيمكن القول بجواز جعل الخيار. وعلى هذا فيرد
عليه أن الملاك في لغوية جعل الخيار وعدمها هو اللزوم وعدمه، لا
حصول الملك أو الإباحة، ولذا لو قيل بحصول اللزوم بالتصرف على
القول بالإباحة أيضا لما كان جعل الخيار لغوا.
وبالجملة فجعل الخيار في محله لما بعد اللزوم سواء قلنا بالإباحة
أو بالملك الجائز، ولا يصح لما قبله كذلك.
ثم لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كون (الواو) استينافية و (إن)
تشقيقية فإنه يبقى الكلام في قوله بعد ذلك: " بناءا على صيرورتها بيعا
بعد اللزوم " مع أنه قدس سره كرر القول سابقا ولاحقا بأن المعاطاة بيع
قبل اللزوم وبعده حتى على القول بالإباحة فإنها بيع لا يؤثر شرعا إلا
الإباحة.
فإن قيل: إنه يتكلم على مبنى الآخرين.
قلنا: ليس الأمر بأزيد من أن يقال بأن المعاطاة ليست بيعا، بل
هي معاملة مستقلة، فإنها أيضا لا تخلو عن أن تكون لازمة أو جائزة،
فعلى الأول يصح جعل الخيار، وعلى الثاني لا يصح. وعلى هذا فلا
معنى لهذه الجملة التي ذكرها في هذا المقام، وكان الصحيح أن يقول
138

بناءا على صيرورتها لازمة بعد الملزم، أي يصح جعل الخيار الآن للأخذ
به بعد ما صارت لازمة بوجود الملزم.
ثم إن في بعض النسخ لفظ " الإباحة " بدل لفظ " جائزة "
وعبارته: وأما حكم جريان الخيار فيها قبل اللزوم فيمكن نفيه على
المشهور، لأنها إباحة عندهم فلا معنى للخيار.
ويرد عليه أيضا: أن ملاك صحة جعل الخيار ولغويته ليس
الإباحة وعدمها، بل الملاك العام هو الجواز وعدمه، فإذا كانت المعاطاة
جائزة فلا معنى لجعل الخيار، سواء قيل بالملك الجائز أو بالإباحة بلا
فرق بينهما. فلو صارت المعاطاة لازمة بالتلف مثلا فهناك ينفع الخيار
المجعول قبل ذلك، فيلزم دفع مثل التالف أو قيمته.
ومراده من الاطلاق في قوله " فيمكن القول بثبوت الخيار فيه
مطلقا بناءا على صيرورتها بيعا بعد اللزوم " هو أنه إذا بنينا على صيرورتها
بيعا صح جعل الخيار، سواء كان الخيار مخصوصا بالبيع أولا، بل
كان جاريا في كل المعاملات. هذا في مقابل التفصيل بين الخيارات
المختصة به فلا تجري، لاختصاص أدلتها بما وضع على اللزوم من غير
جهة الخيار، وبين غيره كخيار الغبن والعيب بالنسبة إلى الرد دون
أخذ الأرش فتجري لعموم أدلتها.
ويمكن أن يكون الاطلاق إشارة إلى رد تفصيل آخر، وهو
التفصيل بين القول بكون المعاطاة بيعا من أول الأمر فيجري فيها أدلة
الخيار، وكونها بيعا استدامة وبالمال فلا تجري، لانصراف الأدلة
139

عنه. فهو رحمه الله يقول بثبوت الخيار بناءا على صيرورتها بيعا مطلقا،
أي سواء كان بيعا من أول الأمر أو بقاءا - في مقابل عدم جريانه لو لم
تكن المعاطاة بيعا حتى بقاءا.
ثم إنه قال قدس سره في ذيل كلامه: وأما حكم الخيار بعد
اللزوم فيأتي بعد ذكر الملزمات.
أقول: هل كانت الأحكام المذكورة إلى الآن لما قبل اللزوم؟
وعلى ذلك يتوجه الاشكال بعدم المعنى لثبوت الخيار مع عدم اللزوم
إلا إذا كان جعله هناك للأخذ به بعد اللزوم كما ذكرنا. وبالجملة فالملاك
ما ذكرناه، وهو أنه لو جعل لزمان اللزوم صح وإلا فهو لغو لا معنى له.
140

الأمر الثاني
(في بيان مورد المعاطاة)
قال الشيخ " قده ": المتيقن من مورد المعاطاة هو حصول التعاطي
فعلا من الطرفين، فالملك أو الإباحة في كل منهما يتحقق بالاعطاء منهما،
فلو أعطى أحدهما ولم يعط الثاني فلا معاطاة، ومقتضى القاعدة عدم
تحقق الملك أو الإباحة. لكن عن جماعة من المتأخرين تبعا للشهيد جعله
من المعاطاة..
أقول: إن البائع لما يعطي المثمن يقصد تمليكه للمشتري بإزاء
الثمن، فهو قاصد للتمليك والتملك معا، فيكون مثل انشاء المبايعة
بالقول، وقوله " بعت هذا بهذا " فإنه بالأول يقصد التمليك، وبقوله
" بهذا " تملك العوض، ثم المشتري لما يقول " قبلت " يقبل ما قصده
البائع، وبذلك يتم البيع ويحصل الملك. فما ذكره الشيخ " قده "
في المقام غير واضح، بل الإباحة أو التمليك حاصل بفعل البائع
وقصده فقط، واعطاء المشتري ليس إلا وفاءا بما التزم به بأخذ المثمن
من البائع.
141

اللهم إلا أن يقال بأن المعاطاة فعل، فلا بد من ايجابين وقبولين،
كما في منية الطالب - لكنه عدل عنه في الحاشية، لأن الفعل أضعف
في الدلالة من القول، فيلزم التكرار حتى تتم الدلالة.
لكن الأمر ليس كذلك في الواقع، ولذا من يشترى بالمعاطاة
نسيئة ويأخذ الشئ الآن يبنى على تمامية المعاملة وصحتها، مع أنه لم
يعط الثمن حين الأخذ.
ثم قال الشيخ " قده ": ولا ريب أنه لا يصدق معنى المعاطاة..
أقول: هذا صحيح، ولكن نفس ما يتحقق بالمعاطاة النقدية يتحقق
بالمعاطاة نسيئة، فكلاهما بيع.
قال: ثم صحة هذا على القول بكون المعاطاة بيعا مملكا واضحة..
وأما على القول بالإباحة فيشكل.. اللهم إلا أن يدعى قيام السيرة..
أقول: الانصاف عدم الفرق، على أن السيرة قائمة بلا ريب.
قال: وربما يدعى انعقاد المعاطاة بمجرد ايصال الثمن وأخذ
المثمن من غير صدق اعطاء أصلا فضلا عن التعاطي، كما تعارف أخذ
الماء مع غيبة السقاء ووضع الفلس في المكان المعد له..
أقول: الظاهر كون هذه الموارد من باب الإذن والرضا، والسيرة
غير قائمة على عنوان التمليك والتملك فيها، فهو يشرب الماء مع علمه
بأنه ملك للسقاء، غير أنه يضمن عوضه فيجعله في محله. وأشكل من
ذلك مسألة الحمام، فهل هو شراء للماء الذي اغتسل به أو أنه إجارة
(مع انعدام الموضوع بالاستعمال)؟ بل الظاهر أنه من باب الرضا والإذن
مع ضمنا العوض.
142

نعم يمكن أن يكون فتح باب الحمام - مثلا - بمنزلة الاعطاء،
ووضع الفلوس في المكان المعين بمنزلة القبول، فيكون معاطاة. ولكنه
بعيد أيضا، لأنه يستلزم الاعطاء لغير المعين - فتأمل.
ولو أردنا صدق عنوان المعاملة عليه فلا سبيل إلا القول بالوكالة،
نظير قول ولي الصغير للبقال - مثلا - متى جاء هذا الصغير بالفلوس
فأنت وكيل في إنشاء المعاملة، بأن تأخذ الفلوس منه وتعطيه الشئ المطلوب.
قال: ثم لو قلنا بأن اللفظ غير المعتبر في العقد كالفعل في امكان
المعاطاة، أمكن خلوا المعاطاة من الاعطاء والايصال رأسا، فيتقاولان
على مبادلة شئ بشئ من غير ايصال، ولا يبعد صحته..
أقول: يمكن أن يكون مراده أنه كما أن الفعل يقصد به التمليك
كذلك اللفظ غير الصحيح، فهو يقصد انشاء التمليك بلفظ غير مؤثر
شرعا. وعلى هذا يمكن أن يكون معاملة صحيحة، حتى ولو قال المشتري
في القبول لفظا غير مؤثر كذلك مع قصده القبول، وذلك لتحقق البيع
بذلك عند العرف، والسيرة قائمة على كونه كالفعل.
ويمكن أن يكون مراده من المقاولة أو يتقاولا فيما بينهما حول
المعاملة، ثم يتعاملا بناءا عليه، فإن كون هذا لهذا وذاك للآخر ليس
فعلا حتى يكون معاملة، إلا إذا أراد تحققها بأخذ كل منهما ما كان له بقصد
التملك، ولكن كلامه " قده " قاصر عن إفادة هذا المعنى.
ثم أقول: إن كان هذا بيعا عرفا فلا فرق بين القول بالملك والإباحة
والقدر المتيقن عند وجود اللفظ غير المعتبر في العقد كونه معاملة تقوم
مقام المعاطاة، وهي بيع عند أهل العرف.
143

الأمر الثالث
(في بيان تميز البائع من المشتري)
قال الشيخ " قده ": تميز البائع من المشتري في المعاطاة الفعلية
مع كون أحد العوضين مما تعارف جعله ثمنا - كالدراهم والدنانير
والفلوس المسكوكة - واضح، فإن صاحب الثمن هو المشتري (وصاحب
المثمن هو البائع) ما لم يصرح بالخلاف.
أقول: هذا صحيح بالنسبة إلى مقام الاثبات، فلو ادعى صاحب
الدراهم بأنه لم يقصد الشراء بل باع درهمه بالمتاع، وادعى صاحب
المتاع بيعه إياه بالدرهم لا شراءه له بالمتاع، أمكن القول بمخالفة دعوى
الأول للأصل، لأن المتعارف جعل الدرهم ثمنا لا مثمنا.
وأما في مقام الثبوت فلا، لأن كون صاحب المتاع بائعا وصاحب
الثمن مشتريا - وإن كان متعارفا إلا أنه - يتبع قصدهما، فإنهما ربما
يقصدان ما ليس متعارفا بين الناس.
قال: وأما مع كون أحد العوضين من غيرها فالثمن ما قصدا قيامه
مقام المثمن في العوضية.
144

أقول: هذا في مقام الثبوت، وأما في مقام الاثبات لو تداعيا وادعى
كل منهما أنه البائع والآخر المشتري، فلا ظهور يرجع إليه، بل يرجع
الأمر حينئذ إلى الحاكم فيحكم فيه بحسب قواعد التداعي.
وقيل: المشتري من يلحظ في عوض ما له معطى خصوصية
زائدة على ماليته، والبائع من لا يلحظ فيه إلا المالية، فالمشتري من
يعطي ماله ويأخذ اللحم مثلا - لحاجته إليه لا لماليته فقط - بخلاف
القصاب فإنه يعطي اللحم ويأخذ عوضه لا لخصوصية فيه بل بالنظر إلى
مالية العوض، فلو أعطى حنطة بدل اللحم أخذه لا بعنوان كونه حنطة بل
لكونه مالا.
قال: ولو لم يلاحظ إلا كون أحدهما بدلا عن الآخر من دون
نية قيام أحدهما مقام الثمن..
أقول: وأما إذا لم يقصدا شيئا، بل كل منهما يريد تمليك الآخر
من دون قصد لأحد العوض، فوجوه:
1 - كون كل واحد منهما بائعا ومشتريا، ويترتب على ذلك عدم
انطباق الأحكام الخاصة بالبائع على أحدهما، لأنها منصرفة إلى البائع
الذي ليس مشتريا.
2 - كون المعطي أولا هو البائع، فيكون الآخر المشتري.
3 - كونها مصالحة ومسالمة، كما جاء في الرواية الواردة في
قول أحد الشريكين لصاحبه " لك ما عندك ولي ما عندي " حيث حملوها
على التصالح.
145

4 - كونها معاوضة مستقلة، وهي التي يعبر عنها بالفارسية " سودا
كردن ".
أقول: وهل يتعقل الوجه الأول؟ أنه لما يملك أحدهما فهل
الآخر يقبل ثم يملك أو أنه يقبل التمليك والتملك ثم يعطي ماله وفاءا
بما التزم؟ الظاهر هو الثاني، لأن الأول تحصيل للحاصل، لأن القبول
يفيد تمليكه ماله إياه.
ثم إن الشيخ اختار الوجه الثاني، ووجهه: كونه المتعارف في
مقام الاثبات، وأما في مقام الثبوت فالأمر يتبع قصدهما.
وأما الوجهان الثالث والرابع فغير صحيحين، لعدم عرفية انعقاد
المعاملة بقول كل منهما " صالحت " أو ايجاب كل واحد. فالعقلاء لم
يبنوا على كون الايجاب قبولا، فالايجابان - وكذا القبولان - لا يترتب
عليهما أثر عند العقلاء سواء في البيع أو غيره من المعاملات المتعارفة.
146

الأمر الرابع
(في الوجوه المتصورة بحسب قصد المتعاطيين)
قال الشيخ: إن أصل المعاطاة - وهي اعطاء كل منهما الآخر
ماله - يتصور بحسب قصد المتعاطيين على وجوه:
(أحدها) أن يقصد كل منهما تمليك ماله بمال الآخر، فيكون
الآخر في أخذه قابلا ومتملكا بإزاء ما يدفعه.
أقول: ولا يخفى أن كلا منهما غير قاصد للتمليك بالاستقلال، بل
المراد من قصد التمليك هو التمليك الاستقلالي والضمني، فحق العبارة
أن يقال: فيكون أحدهما مملكا باعطاء ماله والآخر بأخذه قابلا ومتملكا
بإزاء ما يدفعه.
قال: فلو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمام المعاطاة.
أقول: وإذا كان كذلك توجه عليه الاشكال بما ذكره في الأمر
الثاني من أن القدر المتيقن من المعاطاة تحققها من الطرفين. إلا أن
147

يقال: بأن مراده " قده " من " القدر المتيقن " هو أن التعاطي تارة يكون
في مجلس واحد، وأخرى يكون العوض نسيئة، فالقدر المتيقن من
المعاطاة هو المعاطاة النقدية، لوقوع الخلاف في غيرها.
وفيه: أنه لا يريد هذا المعنى البتة، لتصريحه هناك بأنه إذا لم
يعط الآخر لم تتحقق المعاطاة، وتصريحه هنا - في الأمر الرابع - بأنه
لو مات الآخذ قبل دفع ماله مات بعد تمامها.
وقد أشكل بعضهم بأنه لا يتعين هذا على هذا الوجه، لامكان أن
لا يقصد بأخذه التمليك بل بدفعه، وإنما أخذ مقدمة لقبوله بدفع العوض،
فلو مات قبل الدفع مات قبل تمام المعاطاة.
أقول: إن معنى الاعطاء بقصد التمليك ليس اخطار التمليك
بالبال، بل مجرد اعطائه بقصد أن يكون له كاف. نعم يمكن أن لا يقصد
التملك بالأخذ بل يقصده بالاعطاء، لكن الواقع في الخارج خلافه.
(الوجه الثاني) أن يكون تمليك بإزاء تمليك.
أقول: هذا يتصور على وجوه: 1 - أن يكون مقابلة بالاحسان.
2 - أن يكون شرطا، فيكون كالهبة المشروطة بالعوض. 3 - أن يكون
مقابلة بالتمليك كتمليك الدرهم في مقابل تمليك الخياطة.
وهل التمليك يقبل التمليك، بأن يكون الانسان مالكا لتمليك
غيره ماله إياه؟
إن " التمليك " لا مالية له حتى يتملك أو يملك، ولا يدفع العقلاء
148

شيئا بإزائه. على أن البائع للفعل " كالخياطة " يراه قبل الايجاب موجودا
تحت سلطنته ثم يرفع سلطنته ليسلط غيره عليه، وليس " التمليك " كذلك.
ومن هنا قال " قده ": وهذا بعيد عن معنى البيع.
أي: لأن تمليك خياطة الثوب بكتابة الكتاب ليس بيعا، إذ البيع
مبادلة مال بمال، ولما لم يكن بيعا فما هو؟ صلح أو هبة أو معاملة مستقلة؟
قال: وقريب إلى الهبة المعوضة.
وذلك لأنه ليس في الهبة مال في مقابل مال، بل هبة في مقابل هبة.
قال: لكن اجراء حكم الهبة المعوضة عليه مشكل.
لأنا قلنا في مسألة الهبة المعوضة بلزوم أن يكون الداعي هو
الهبة. أو يشترط الهبة في مقابل الهبة بأن يقول " وهبتك هذا بشرط أن
تهب لي ذاك "، فيشترط فيها ايجابان وقبولان، وتكون الهبة الثانية وفاءا
بالشرط الموجود في ضمن الأولى. ولذا لو وهب الأول كان الشئ
ملكا للثاني، فإن وفى الثاني كان ماله ملكا للأول وإلا فلا. بخلاف
المقام، إذ المفروض هو التمليك بإزاء التمليك، فالمعاوضة بين تمليكين،
وعلى هذا لا يحتاج التمليك الثاني إلى ايجاب وقبول، ولذا لو لم
يملك الثاني لم يترتب الأثر على التمليك الأول. إذن، لا تشبه مسألتنا
هذه مسألة الهبة المعوضة.
هذا، وقيل إذا جاز جعل العوض عي الهبة صح أن يجعل مالا،
بمعنى جعل المال في مقابل الهبة، فيقول: وهبتك هذا بشرط أن يكون
هذا المال لي، فإن قبل الهبة الأولى كان المال ملكا للواهب، فلا حاجة
149

إلى أن يقول صاحب المال بعد ذلك " وهبتك ".
أقول: وفيه أن مفهوم " الهبة " هو التمليك لا بعوض، فاشتراطه
فيها ينافي مفهومها.
نعم يمكن أن يقال بأن المال أعطي مجانا، لكن نفس الهبة " أي
الاعطاء " ليس مجانا، لأنه فعل من الأفعال فلا يكون بلا داع، فليكن
الداعي هنا تملك ذاك المال.
هذا والشيخ " قده " يقول بالتمليك في مقابل التمليك، وقال
السيد " قده ": يمكن أن يكون اعطاء الثاني وفاءا بالعقد، وأما قبوله
فهو يتحقق بأخذ الملك الأول. وحينئذ يصح للأول أن يطالب الثاني
بتسليم ماله.
قال الشيخ " قده ": فالأولى أن يقال إنها مصالحة وتسالم على
أمر معين أو معاوضة مستقلة.
أقول: قد ذكرنا أنه لا يعقل المعاوضة بين التمليكين. نعم يمكن
اشتراط تمليك جزاءا لتمليكه في ضمن عقد صلح، فيجب على الثاني
التمليك وفاءا بالشرط.
(الوجه الثالث) أن يقصد الأول الإباحة بعوض، فيقبل الآخر
بأخذه إياه، فالذي يعطي أولا يقول " أبحت لك هذا بدرهم " مثلا،
وبذلك يبيح له جميع التصرفات في الشئ، لكنه يتملك الدرهم بإزاء
هذه الإباحة.
ويأتي فيه الاشكال السابق، فإن انشاء المعاوضة بين الإباحة والمال
غير معقول.
150

(الوجه الرابع) أن يقصد كل منهما الإباحة بإزاء إباحة الآخر،
فكل منهما يقصد إباحة جميع التصرفات، أعم من أن يبيح بداعي الإباحة
أو أن تكون إباحة معوضة.
هذا، وقد استشكل الشيخ " قده " في هذين الوجهين الأخيرين
من الوجوه الأربعة فقط، من جهة عدم جواز إباحة جميع التصرفات
حتى الموقوفة على الملك، كما أن السيد " قده " صور في المقام وجوها
أخرى وصححها جميعا، وإنما أشكل فيها من الجهة المذكورة، لأن
هذا النوع من التصرف لا يسوغ لغير المالك، وإذنه ليس مشرعا.
أقول: إنهم تعرضوا لهذا الاشكال، ولم يتعرضوا لاشكال التمليك
بإزاء التمليك. ويمكن أن يقال في دفعه: بأنه ليس المراد من ذلك إلا
لحاظ أن المملك يملك مع لحاظ تحقق تمليك الآخر، أي أن المراد
من التمليك هنا هو التمليك المقيد بتعقب تمليك المالك الآخر، فلو
لم يتحقق تمليك الثاني لم يترتب عليه أثره لعدم لحاظه حينئذ، نظير
المقدمة الموصلة التي ذكرها صاحب الفصول.
وقد أشكل المحقق الأصفهاني " قده " على قول الشيخ في الوجه
الثاني " فيكون تمليك بإزاء تمليك، فالمقابلة بين التملكين لا الملكين،
والمعاملة متقومة بالعطاء من الطرفين.. " بما حاصله: إن أراد أنه
لما أعطى الأول ولم يعط الثاني فملك الثاني لم يكن ملكا للأول فهو
صحيح، لأن المفروض أن هذا ملكه بإزاء تمليك ذاك، فما لم يملك لم
يكن ملكه، وإن كان غرضه أن مال الأول ليس ملكا للثاني فهو مخدوش،
151

لأنه قد ملكه تمليكا صحيحا..
أقول: المفروض كون المعطي منشأ باعطائه الايجاب، والأخذ
بأخذه ينشئ القبول والتمليك، فالثاني يعطى بعنوان الوفاء وتسليم ماله
إليه. هذا في الوجه الأول، وفي الثاني يقول الشيخ " قده " أنه بالاعطائين
يتم التعاطي، فالاعطاء الثاني قبول لا وفاء بالالتزام..
فالاشكال أجنبي عن المقام، لأن المعاملة ما لم يعط الثاني غير
متحققة، فلا نقل ولا انتقال من الطرفين. نعم في نظر المعطي قد حصل التمليك
بانشائه وبه ملك تمليك الآخر، ولكنها في الواقع غير تامة، لأنه في
هذه الصورة يكون ايجاب بلا قبول.
ثم قال " قده " ما حاصله: ويمكن دفع الاشكال وتقوية كلام الشيخ
" قده ": بأن هذا لما كان تمليكا بإزاء تمليك، فإنه ما لم يتحقق ذاك لم
يتحقق هذا، لأن التمليك تارة يكون تسبيبيا (أي ايجاد العمل الموجب
لحصول الملكية، كأن يعطي بقصد التمليك) وأخرى تسببيا (أي ايجاد
حصول الملك). وبعبارة أخرى: ايجاد نفس الإضافة الملكية، وحينئذ
تارة يوجد إضافة الملكية لماله إلى غيره فإن هذا يتحقق بالانشاء الصحيح،
وأخرى يوجد إضافة الملكية بإزاء إضافة الملكية، فهو ينشئ لايجاد
الإضافتين، وحينئذ يتوقف على تحقق كليهما، ولا أثر لأحدهما من دون
الآخر.
فالتمليك إن كان تسبيبيا - بأن يوجد هذا السبب في مقابل ايجاد
السبب - فإن هذا السبب وحده إن وجد أثر أثره، وإن كان تسبيبا فليس
152

كذلك. فإن أراد الثاني فالاشكال غير وارد، وإن أراد الأول ورد الاشكال.
أقول: وكيف كان فما لم يأت القبول لم تتحقق الإضافة أصلا.
وقال السيد " قده " معلقا على قوله " والمعاملة متقومة بالعطاء
من الطرفين ": ويمكن أن يكون القبول بالأخذ، فيكون التمليك واجبا
على الثاني من باب الوفاء، بل يمكن أن يقال: إن هذا هو المتعين..
وأورد عليه: بأن الشيخ قد فرض كون اعطاء الثاني قبولا، فكيف
يكون الأخذ قبولا؟
أقول: والحق مع السيد " قده "، فإن الانشاء مركب من أمرين،
فهو تمليك ومعاوضة معا، ويكون قبول ذلك بالأخذ، ويجب عليه تمليك
ماله إياه من باب الوفاء.
ثم هل يمكن جعل الاعطائين بمعنى كون اعطاء الأول ايجابا
واعطاء الثاني قبولا؟ إن معنى جعل اعطاء الثاني قبولا هو أن يعطي بقصد
التمليك في مقابل اعطاء الأول به، فكل منهما يقصد تمليك ماله بإزاء
تمليك الآخر، فإذا كان عطاء الثاني ايجابا للتمليك وقبولا للتملك معا
لزم محذور الجمع بين لحاظين متضادين، لوضوح أن أحدهما فعل
والآخر انفعال.
هذا، ويتوجه المحذور المذكور إلى الوجهين - الثالث والرابع -
فيما إذا أريد انشاء الإباحة والمعاوضة بين الإباحتين، بأن يلتزم كل منهما
بإباحة ماله للآخر، نظير الإباحة والصلح على التزام الطرفين بالإباحة
لأنه يستلزم الجمع بين اللحاظين، إذ أحدهما آلي والآخر استقلالي.
وأما إذا أريد الإباحة بداعي الإباحة، أو أن يكون الغرض من
153

العوضية كون الإباحة من الأول مقيدة بإباحة الثاني، بأن يبيح له التصرف
في ماله فيما إذا أباح الآخر كذلك وإلا فلا، لم يتوجه المخدور.
هل يجوز إباحة جميع التصرفات
لكن الشيخ " قده " يستشكل في أصل إباحة جميع التصرفات،
سواء كانت بإزاء مال أو إباحة، فهل للمالك أن يبيح جميع التصرفات
حتى الموقوفة على الملك مع عدم تمليكه المال إياه؟
وهل له أن يبيح ماله بإزاء مال، بأن يكون مالكا للعوضين وللآخر
التصرف في مال هذا فحسب؟
لقد قال رحمه الله بعدم الجواز، لأن إذن المالك في التصرف ليس
مشرعا، وإنما يؤثر إذنه في كل مورد لم يرد فيه من قبل الشارع.
وعليه فقوله: أبحت لك عتق عبدي عنك، أو نكاح أمتي، أو وقف
مالي.. ونحو ذلك. لا أثر له، لقول الشارع: لا عتق إلا في ملك،
ولا وقف إلا في ملك، ولا وطي إلا في ملك، ولا بيع إلا في ملك..
مع أن البيع مبادلة مال بمال عرفا، أي كون البائع مالكا للثمن في
مقابل ملكه، والمشتري مالكا للمثمن عوض ملكه وهو الثمن، فكل
منهما يتبدل ملكه بملك الآخر، وهذا المفهوم غير متحقق في هذه الصورة،
إذ المفروض كون المال الذي في يد الآخر ملكا للمبيح.
قال: نعم يمكن رفع الاشكال بأحد وجهين مفقودين هنا:
الأول: أن يقصد بقوله " أعتق عبدي عنك " مثلا أمرين: أحدهما
154

تملك المخاطب العبد أولا، والثاني بيعه بعد ذلك. فيكون معنى هذا
الكلام: أعتقه العتق الصحيح شرعا، أي أنت وكيلي في تملكه، فإذا
تملكته فلك عتقه عنك، أو أقصد تملكه أولا ثم أعتقه عنك.
وبالجملة: إذا كان يقصد الإذن في العتق الصحيح فإنه قاصد للإذن
في مقدمة هذا العتق، لأن الإذن في ذي المقدمة إذن في المقدمة كذلك.
الثاني: أن يدل دليل شرعي على كون الشئ ملكا له قبل التصرف
الموقوف على الملك - وأما إذا كان الدليل القائم عقليا فاللازم الالتزام
بالملكية آنا ما - وليس الدليل الشرعي المقتضي لذلك إلا قاعدة السلطنة.
قال الشيخ " قده ": وكلا الوجهين مفقود هنا: أما الأول: فلأن
المفروض عدم قصد شئ إلا إباحة التصرفات، وأما الثاني: فلأن القاعدة
المذكورة لا تفيد جواز الإذن في بيع مع عدم الملك، لأنها لا تجوز
ما لا يجوز شرعا، وأن قوله عليه السلام " لا بيع إلا في ملك " حاكم عليه.
أقول: فالحاصل أن الشيخ " قده " لا يجوز الإباحة في التصرفات
على اطلاقها بدون التمليك، إلا أن يوكله في النقل والانتقال كما قال
العلامة " قده " في مسألة " أعتق عبدك عني "، حيث صحح هذا العتق
بأنه استدعاء للتمليك ثم عتق العبد، فالاستدعاء هذا متضمن للتوكيل
في التمليك والقبول من طرفه ثم عتق عبده من قبله، فالعتق عنه قبول
للاستدعاء وتمليك له.. ففي الحقيقة هذا بيع ضمني غير مشروط
بشرائط البيع، وكذا الأمر لو قال " أعتق عبدي عنك "..
وأما إذا لم يكن في البين توكيل فالإباحة غير صحيحة. فلو
155

إذن له في أن يتصرف في ملكه مطلق التصرفات لم يصح، سواء كان
التصرف بعنوان شخصي كأن يقول " اشتر بمالي لك كذا "، أو بنحو
العموم كأن يقول " أبحت لك جميع التصرفات ". فإن تصرفاته غير
صحيحة، فلو باع الشئ كان لنفس المالك لا للبائع المباح له ويكون
عقده موقوفا على إجازة المالك كالفضولي.
لا يقال: إذا جاز أن يكون " أعتق عبدك عني " متضمنا للتوكيل،
فليكن " اشتر بمالي لك كذا " كذلك.
لأنه يقال: إن استدعاء العتق لازمه التوكيل - في المثال المذكور -
لعلمه بعدم وقوعه بدونه وهو يريد العتق لا محالة، فيدل بالدلالة الاقتضائية
على ايجاد المقدمة ثم العتق. وأما إذا كان بصدد الإباحة مستقلة فهو
ينشئ الإباحة لا أنه يستدعي العتق، فإنه لا يترتب على هذه الإباحة شئ.
إلا أن يقال: إن الإباحة مستلزمة للإذن في التملك، فيكون البحث
صغرويا، وصورته: لو قصد الإباحة فقط فهل له دلالة اقتضائية؟ يقول
الشيخ: لا، ويقول بعضهم: نعم.
أقول القول بظهور دلالة الاقتضاء في المقام يتوقف على القصد،
والمفروض أنه لا قصد هنا، فكأنه يقول بأني لا أريد التمليك بل أبيح
لك بيع هذا المال، فلا دلالة اقتضائية حينئذ، فالحق مع الشيخ " قده ".
موارد النقض على ما ذكر
هذا، وربما يتوهم خلاف ما ذكر في موارد، ولكن ليس الأمر
كذلك في الواقع:
156

منها: مسألة دية الميت، فإن الميت لم يكن مالكا لها، لكنها
تكون لوارثه بموته (مع أن: كلما ترك الميت من مال أو حق فهو
لوارثه) فمقتضى الجمع بين الأدلة ثبوت الملك التقديري، والقول
بتملك الميت لها آنا ما قبل الموت.
ومنها: مسألة بيع من ينعتق عليه، فمقتضى الجمع بين (لا عتق
إلا في ملك) وبين ما يدل على أنه (لا يملك الانسان أحد عموديه) هو
الملكية آنا ما قبل العتق.
ومنها: مسألة الهبة، فلو وهب ماله إلى غيره ثم باعه - والعين
باقية - قبل الرجوع في الهبة صح بيعه، لأن هذا البيع رجوع في الحقيقة
عن الهبة لو كانت لغير ذي رحم، فكأنه قد رجع في الهبة ثم باع،
فالبيع واقع في ملكه ولا حاجة إلى الالتزام بالملكية آنا ما قبله كما هو واضح.
ومنها: مسألة بيع ذي الخيار، فلو باع المتاع قبل فسخ عقد
البيع صح بيعه، لأن هذا البيع يكشف عن تحقق الفسخ قبله، ولذا
لو بنى على عدم الفسخ وباع المتاع باعتبار كونه لطرفه لم يقل أحد
بصحة بيعه.
هل يجب دخول كل من العوضين في ملك مالك الآخر؟
هذا، وقد ذهب بعضهم بكفاية صدق " البيع " على المعاوضة
والمبادلة الشرعية، وأنه لا يلزم دخول الثمن في ملك البائع والمثمن
في ملك المشتري بالبيع. خلافا للشيخ " قده "، وادعى وقوع ذلك
157

في موارد، منها مسألة المهر، فإنه عوض عن البضع ويصح أن يبذل
الرجل المهر وتكون المرأة زوجة غيره، ويصدق على ذلك عنوان
المعاوضة.
(أقول) وفيه:
أولا: جعل المورد من قبيل المعاوضة مشكل، لأن البضع ليس
مالا حتى تكون مبادلة بين المالين.
وثانيا: المهر ليس عوضا عن البضع (1)، إذ لو كان عوضا كان
مقتضى القاعدة عدم تحقق النكاح عند انتفاء المهر، والحال أنه يجوز
العقد على المرأة قبل تعيين المهر لو كانت مفوضة المهر، ثم إنه يعين
مهرها وإلا فيجب دفع مهر المثل شرعا.
نعم يجوز أن يعقد ولي الصغير له على امرأة ويضمن هو مهرها
لو لم يكن للطفل مال، ولكن هل يضمن الولي المهر للمرأة ابتداءا أو
أنه يثبت في عهدة الصغير ويضمنه الولي؟ وعلى الثاني: لا اختصاص
للحكم بهذا المورد، فلو عقد على امرأة بمهر في الذمة ثم طولب به
جاز أن يضمنه غيره عنه ولو قلنا بأن الضمان نقل الذمة من الذمة.
اللهم إلا أن يريد القائل صدق العوضية في بعض الموارد عرفا،
ولكن هذا العوض ليس عوضا معامليا.
ومنها: ما لو قال " خط لزيد ثوبا وعلي العوض "، فإنه تصدق

(1) ومما يدل على ذلك قوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة.. "
سورة النساء: 4.
158

العوضية مع أن المعوض - وهو خياطة الثوب - لزيد لا لباذل العوض.
(أقول) وفيه:
أولا: إن هذا ليس معاوضة، بل هو من قبيل الضمان.
وثانيا: سلمنا صدق المعاوضة عرفا، لكن الخياطة هنا ليست
ملكا لزيد، بل باذل العوض مالك للعمل، غير أن زيدا ينتفع من هذا
العمل، ويشهد بذلك صحة مطالبة الباذل العمل من الخياط دون زيد.
ومنها: مسألة أداء الدين، بأن يؤدي زيد دين عمرو لدائنه.
وفيه: أنه ابراء واسقاط وليس فيه معاوضة.
أقول: فالظاهر أن الحق مع الشيخ " قده " خلافا للقوم، ولا أقل
من الشك في صدق عنوان " البيع " على هذه الموارد، فلا تشملها أدلة
البيع.
على أن الأصحاب ذهبوا إلى أنه لو باع مال الغير فضولة لنفسه
فأجاز المالك الأصلي كان العوض للمالك دون البائع، ولو كان مجرد
المعاوضة كافيا لصدق البيع كان الثمن للفضولي، والحال أنه لم يقل
به أحد هناك حتى هؤلاء المخالفون للشيخ " قده " هنا.
ولكن عن جماعة من الأصحاب في باب بيع الغاضب: أنه لو
اشترى المال المغصوب - مع علمه بالحال - وسلط الغاصب على الثمن
كان للغاصب أن يشتري به شيئا لنفسه وليس لصاحب المال أن يطالب
البائع الغاصب به. ومقتضى هذا تجويزهم شراء الشئ بمال الغير،
لأن بيع الغاصب باطل وهو لا يملك ثمن المبيع المغصوب، فقولهم
159

بملكيته لما يشتريه بهذا الثمن يقتضي أنهم يقولون بتملكه لعوض هذا
الثمن الذي أباحه له المشتري وسلطه عليه.
وكذا الأمر في الفرع الآخر الذي نقله الشيخ " قده " عن المختلف،
ومن هنا قال الشيخ بعد أن ذكرهما: ومقتضى ذلك أن يكون تسليط
الشخص لغيره..
أقول: ويمكن أن يكون ذلك من جهة أن تسليط المشتري البائع
على ماله مع علمه بالحال تمليك له في الحقيقة، ولما كان ملكه كان
عوضه الذي اشترى به ملكا له، فلا يكون من قبيل المقام حينئذ.
وكيف كان، فإن الحكم بذلك من الجماعة مشكل، لأنه يستلزم
حلية المال لا كله بالباطل في كل مورد علم مالكه المعطي بالحال،
كموارد القمار والزنا والربا وبيع الخمر ولحم الخنزير.. ونحوها،
بأن يقال بأن تسليط الشخص غيره فيها على ماله مع علمه ببطلان المعاملة
وعدم استحقاق الغير له يفيد حلية المال له أو تملكه إياه، هذا كله نقضا.
وأما حلا فإن هذا التسليط ليس مجانا بل هو مبني على تلك المعاملة
الفاسدة وعوض عن الشئ المأخوذ، ومقتضى ذلك عدم التملك في
الفرع الأول وعدم جواز وطي الجارية في الفرع الثاني.
فظهر أن ما ذهب إليه الشيخ " قده " لا ينتقض بما ذكروه قدست
أسرارهم.
نعم لو علم ببطلان المعاملة وأباح - أو ملك - المال بغض النظر
عنها وبلا استناد إليها فلا مانع من ذلك.
160

هل تصح الإباحة بالعوض؟
قال الشيخ " قده ": وأما الكلام في صحة الإباحة بالعوض..
فيشكل الأمر فيه..
أقول: هذا إن ثبت انصراف أدلة المعاملات عن مثل هذه المعاملة
ولكن لو قلنا بأن خروج هذه المعاوضة عن المعاوضات المعهودة ليس
بحيث يوجب انصراف جميع الأدلة عنها كانت نوعا من أنواع التجارة،
كأن يعطي الشخص مالا في مقابل حق العبور من ملك الغير مثلا،
وقد يدفع الانسان مالا للحصول على إباحة التصرف في شئ لترتب
نفع له على ذلك.
ويمكن أن يقال بشمول قوله تعالى " أوفوا بالعقود " له أيضا.
نعم في صدق عنوان " البيع " عليه تأمل من جهة اشتراط كون
المثمن عينا. وقد تقدم البحث عن ذلك سابقا، أما لو كان بالعكس
كأن يقول " ملكتك هذه الدراهم بإباحتك هذه الدار " صح لعدم اشتراط
العينية في الثمن.
قال: ولو كانت معاملة مستقلة..
أقول: استدل " قده " ب‍ " الناس مسلطون على أموالهم " على
صحة هذه المعاملة، لأنها تصرف في المال غير ممنوع عنه شرعا،
وب‍ " المؤمنون عند شروطهم " أي بناءا على عمومه للشروط الابتدائية.
وقد يستدل في المقام ب‍ " أوفوا بالعقود " بناءا على أن المعاطاة
161

عقد - لأن العقد هو العهد - وإن الانشاء الفعلي كالانشاء القولي، غير
أن الشيخ لم يستدل به أما للتأمل في كون المعاطاة عقدا، وأما لأن
" أوفوا بالعقود " لا يعم العقود غير المتعارفة، وفي هذا بحث وله آثار.
قال: وعلى تقدير الصحة..
أقول: الأقوى هو الوجه الأول وهو اللزوم ولكن فيما إذا كان
أخذ العوض في مقابل الإباحة الأبدية، فيجب عليه البقاء على إباحته
والالتزام بها ولكن تكليفا لا وضعا، وأما لو أخذ العوض بإزاء الإباحة
الفعلية كان له الرجوع عنها لعموم " الناس مسلطون على أموالهم ".
وأما الآخر الذي ملك العوض فليس له الرجوع، لأنه قد ملكه
إياه، وعليه الوفاء بما التزم به.
نعم، لو كان تمليكه في مقابل الإباحة الأبدية وبناءا عليها كان له
الرجوع في ماله لو رجع الآخر عن تلك الإباحة.
حكم الإباحة في مقابل الإباحة
قال الشيخ: وأما حكم الإباحة بالإباحة..
أقول: الفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة واضح، فإن
" الناس مسلطون على أموالهم " جار بالنسبة إلى الطرفين، اللهم إلا
أن يلتزما بالإباحة الأبدية فيجب الوفاء بذلك عليهما لعموم " المؤمنون
عند شروطهم " على ما تقدم.
وقد وقع الكلام بين الأصحاب في الوكالة في ضمن عقد لازم
162

أنه هل ينعزل الوكيل برجوع الموكل أو أنها تقتضي الدوام فلا ينعزل
بذلك؟
ومثلها مسألة توكيل الزوجة في الطلاق فيما لو سجن الزوج مؤبدا
فعلى القول بلزوم هذه الوكالة يصح طلاقها حينذاك، وأما على القول
بأن الوكالة من الأمور الإذنية فلا.
وعندنا أن الوكيل ينعزل بعزل الموكل.
163

الأمر الخامس
(هل المعاطاة جارية في غير البيع؟)
هل المعاطاة جارية في غير البيع من العقود؟ أما بالنسبة إلى العقود
التي لا بد فيها من الصيغة بالألفاظ المخصوصة كالنكاح فلا بحث.
قال جامع المقاصد: إن في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة
في الإجارة وكذا في الهبة، وذلك أنه إذا أمره بعمل على عوض معين
وعمله استحق الأجرة، ولو كانت هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل
ولم يستحق أجرة مع علمه بالفساد، وظاهرهم الجواز بذلك. كذا
لو وهب بغير عقد، فإن ظاهرهم جواز الاتلاف، ولو كانت هبة فاسدة
لم يجز، بل يمنع من مطلق التصرف وهو ملحظ وجيه.
قال الشيخ: وفيه: أن معنى جريان المعاطاة في الإجارة على
مذهب المحقق الثاني الحكم بملك المأمور الأجر المعين على الأمر،
وملك الأمر العمل المعين على المأمور به، ولم نجد من صرح به في
164

المعاطاة. وأما قوله " فلو كانت إجارة فاسدة لم يجز له العمل " موضع
نظر، لأن فساد المعاملة لا يوجب منعه عن العمل، سيما إذا لم يكن
العمل تصرفا في عين أموال المستأجر. وقوله " لم يستحق أجرة مع
علمه بالفساد " ممنوع، لأن الظاهر ثبوت أجرة المثل، لأنه لم يقصد
التبرع، وإنما قصد عوضا لم يسلم له.
أقول: إنما لا يحرم العمل فيما إذا لم يكن العمل تصرفا، كأن
يكون أجيرا للصلاة، وأما إذا قال " خط لي هذا الثوب ولك كذا "،
فإنه إن كان العقد باطلا لم يجز له الخياطة، إلا أن يأذن له بالخياطة
بالخصوص حتى على فرض بطلان الإجارة، فالحق التفصيل.
ثم إنه إن أوجد العمل، فإن كان نظير الصلاة فإن صرف ايجادها
اعطاء، وفراغ ذمة الآخر بمنزلة الأخذ، فيستحق الأجير الأجرة وعلى
المؤجر دفعها، وإن كان نظير الخياطة فهو يأذن بايجاد العمل فبتحقق
الخياطة يتحقق الاعطاء، وباعطاء الأجرة من صاحب الثوب تتم المعاطاة.
وقد جعل الشيخ " قده " الأجرة هنا نظير المأخوذ بالعقد الفاسد.
والحق الفرق بين المقامين، فإنه في العين المأخوذة بالعقد الفاسد حيث
لا قصد لايجاد العمل تبرعا - يقتضي قاعدة اليد الضمان، وأما في العمل
فلا وجه للضمان، لأن العامل هو الموجب لهتك حرمة عمله، فلا يستحق الأجرة.
هل تجري في الهبة والرهن؟
وأما الهبة ففي جامع المقاصد: إن وهب من غير عقد فقد قالوا بجواز
165

اتلاف المال الموهوب، ولو كان باطلا لما جاز، ومن هنا يعلم جواز
الهبة المعاطاتية عند الأصحاب. قال الشيخ: هذا يدل على صحة المعاطاة
فيها بناءا على الإباحة، وأما على القول بإفادتها الملك - كما عليه جامع
المقاصد نفسه - فلا يتم، لأن الأصحاب يقولون بأن ما لم يكن فيه ايجاب
وقبول لفظا فلا يفيد الملك، فالقول بأن الهبة المعاطاتية تفيد الملك
يخالف الاجماع.
وعن التذكرة: إذا كانت المعاطاة صحيحة فلا فرق بين البيع
وسائر المعاملات. وأشكل عليه في رهن جامع المقاصد بأنها غير
صحيحة فيه عندهم، قال: ويمكن أن يكون حكمهم بعدم الصحة في
الرهن من جهة أن مقتضى ذات الرهن هو اللزوم، والمعاطاة سواء
قلنا بالإباحة أو الملك الجائز - لا تتم فيه، لأن الرهن لا يفيد الملك والإباحة
لا تناسبه.
قال الشيخ: الأظهر بناءا على جريان المعاطاة في البيع جريانها
في غيره من الإجارة والهبة..
أقول: أي تجري المعاطاة في كل مورد جرت فيه أدلة الصحة،
فتارة يتمسك لجريانها في البيع بصدق " البيع " وأخرى ب‍ " السيرة "
وثالثة ب‍ " الاجماع ". فإن كان الاستدلال لجريانها فيه بالأول، فإنه يجري
في القرض مثلا لصدق " القرض " على القرض المعاطاتي، وفي الهبة
لصدق " الهبة " على الهبة المعاطاتية. فيحكم بالصحة، لأنه كما يتحقق
ذلك بالقول عند أهل العرف يتحقق بالفعل، فكل دليل قام على صحة
ما كان بالقول فهو يدل فيما إذا كان بالفعل.
166

وإن كان الاستدلال لذلك بالاجماع والسيرة فلا بد من احرازهما
في غير البيع، ولذا قال جامع المقاصد بالنسبة إلى الرهن: أنه
لا اجماع فيه.
ويكفي للصحة الصدق العرفي. نعم لو قام اجماع على أن
المعاطاة تفيد الجواز في كل مورد لا اللزوم أشكل الأمر في الرهن،
لعدم صحته بلا لزوم، ولأن المفروض إفادة المعاطاة الجواز لا اللزوم.
إلا أن يقال: إن القول بإفادة المعاطاة الجواز كان مع قطع النظر عن
المورد الذي لا تتم فيه المعاملة لولا اللزوم كالرهن، أي أن اللزوم ملازم
لحقيقة المعاملة، ولولاه لم تتحقق حقيقة الرهن. فالاجماع بمعزل عن
هكذا مورد، وحينئذ نقول: صدق " الرهن " على الرهن المعاطاتي
مع قيام السيرة عليه دليل الصحة.
هل تجري المعاطاة في الوقف؟
قال الشيخ " قده ": ولأجل ما ذكرنا في الرهن يمنع من جريان
المعاطاة في الوقف، بأن يكتفى فيه بالاقباض، لأن القول فيه باللزوم
مناف لما اشتهر بينهم من توقف اللزوم على اللفظ، والجواز غير
معروف في الوقف من الشارع. فتأمل (لعل وجهه: إن " عدم المعروفية "
لا يكفي لمنع الرجوع).
أقول: في الوقف المعاطاتي بحثان:
(الأول في صحته) يمكن أن يقال بالصحة للسيرة التي صح بها
167

البيع المعاطاتي والهبة. وقد أفتى في العروة وجماعة بترتب أحكام
المسجد على ما وقف مسجدا بدون صيغة، بل إن المسجد الحرام ومسجد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر المساجد التي بنيت في زمن الأئمة
عليهم السلام كذلك، إذ لو وقفت بالصيغة لنقل إلينا ذلك، ولو فرض
قيام الاجماع على عدم لزوم العقد بلا صيغة لما منع عن الصحة.
(الثاني في لزومه) وحيث إن وقف الشئ بمعنى الحبس والسكون،
فهل السكون يستلزم اللزوم - وبعبارة أخرى: هل الرجوع ينافي الحبس
في حقيقته؟ - إن قلنا بذلك كان " الحبس " مثل " الرهن "، وجاء فيه
الاشكال المذكور في الرهن، وإن قلنا بأن " الحبس " نظير " التمليك "
كان له الرجوع فيه - لكن أحكام الحبس من عدم جواز البيع ونحوه
جارية فيه - إلا أن يقوم اجماع على عدم جوازه، أو يقوم دليل تعبدي
مثل " الراجع في صدقته كالراجع في قيئه " وما كان لله فلا رجعة فيه "،
مع أن رجوع الواقف غير معروف - كما أشار إليه الشيخ " قده " -
فيمكن دعوى قيام السيرة عليه. هذا كله بناءا على أن الوقف عبارة عن
حبس العين.
وأما إذا كان الوقف عبارة عن ايقاف التصرفات فيه إلا الموقوف
لأجله كان الرجوع منافيا لأصل الوقف وحقيقته كما هو واضح.
168

الأمر السادس
(في ملزمات المعاطاة)
هناك موارد تلزم فيها المعاطاة اجماعا، وموارد قد وقع فيها
الكلام بين الأصحاب قدست أسرارهم.
وقد أسس الشيخ " قده " الأصل في المسألة - قبل كل شئ -
ليتمسك به في موارد الشك، فقال: اعلم أن الأصل على القول بالملك
(اللزوم)، لما عرفت من الوجوه الثمانية المتقدمة.
التحقيق في الأصل في المسألة
أقول: لكنه " قده " خدش في الوجوه الثمانية، إلا " الاستصحاب "،
وأما العمومات فلو فرض صحة التمسك بها هناك، فإن التمسك بها هنا
مشكل، لأن البحث هنا في الملزمات، أي إن المعاملة غير لازمة من أول
الأمر، وإنما يبحث عما يوجب اللزوم، فيقال مثلا: هل تلف بعض المبيع
يوجب اللزوم أم لا؟ وهل تغير أوصاف المبيع يوجب اللزوم أم لا؟
169

ونحو ذلك.
وأيضا فإن التمسك بها في المقام يبتنى على كون الزمان مفرد للعام
لا ظرفا، وقد عنوان الشيخ " قده " هذه المسألة في خيار الغبن - وفي أصوله -
وملخص ذلك: أنه لو ورد عام ثم خصص بالنسبة إلى زمان، فشك في
تخصيصه بالنسبة إلى زمان آخر فهل يجوز التمسك بالعام بالنسبة إليه أو
لا يجوز؟ مثاله: إذا قال المولى " اكرام العلماء " ثم قال " لا تكرم زيدا
يوم الجمعة " - من دون أن يصرح بأن " يوم الجمعة " قيد للاطلاق
الأزماني في العام، الدال باطلاقه على عدم تقييد وجوب الاكرام بزمان
خاص، بخلاف ما إذا صرح به، مثل " البيعان بالخيار ما لم يفترقا "
ومثل " صاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام "، فإنه يتمسك بعمومات
وجوب الوفاء بالعقد بمجرد الافتراق في الأول وانقضاء الثلاثة أيام في
الثاني، لأن الدليل يصرح بالتقييد بالزمان، فلا وجه لاحتمال دلالته على
خروج الفرد من أفراد العام - فهل يتمسك بالعام بعد ذاك الزمان؟ وجهان:
إن كان " أكرم العلماء " مكثرا للزمان - بأن يكون بمعنى وجوب
الاكرام في كل آن آن - جاز التمسك به بالنسبة إلى يوم السبت، لأن الأمر
يتعدد بعدد أفراد الزمان، فيجب اكرام زيد حينئذ، وإن كان الملحوظ
في العام هو الأفراد الشامل لها والزمان لوحظ واحدا ظرفا له لم يجز
التمسك به بالنسبة إلى يوم السبت مثلا، لأن المخرج من تحت العام
هو الفرد " زيد ".
وقد اختار الشيخ " قده " الوجه الثاني، وقد ذهب - بناءا عليه -
إلى عدم اختصاص خيار الفسخ بأول أزمنة ظهور الغبن، فإذا ظهر الغبن
170

بعد البيع انقلب جائزا لخيار الغبن، لعدم جواز التمسك بدليل الوفاء
بعد الآن الأول لاثبات لزومه فيما إذا لم يأخذ بالخيار.
وأما إذا كان دليل الخيار قاعدة الضرر، فلا ريب في سقوطه بعدم
الأخذ به في حينه، لأنه يكون كالمقدم على شراء الشئ بأعلى من ثمنه.
وعلى هذا الأساس، لما كانت المعاطاة تفيد الملك الجائز،
فلو شككنا فيها بالنسبة إلى زمان أو بسبب تغير حال المبيع أو نحو
ذلك لم يجز التمسك بعموم " أوفوا. " و " المؤمنون.. " وغيرهما
ليتم اللزوم. إذن لا يتمسك بالعمومات.
ولا يتمسك بالاجماع كذلك، لأن مفروض الكلام هو مورد الشك.
وكذا لا يتمسك بالسيرة، لأن المتيقن قيامها في غير هذا المورد.
إذن لا طريق إلى اللزوم إلا التمسك بالاستصحاب، فهو المرجع
في مورد الشك، فيستصحب الملك، لكن استصحاب الجواز المتيقن
سابقا مقدم على استصحاب الملك، لأن الشك في بقاء الملك بعد الفسخ
مسبب عن الشك في بقاء الجواز.
نعم، قد يمكن أن يقال - على مبنى الشيخ " قده " - بأن الملك
يقتضي البقاء حتى يزيله شئ، ولكن جواز المعاطاة من قبيل الشك
في المقتضي - مع عدم شمول الاجماع لمحل الكلام - فيجري الاستصحاب
الأول دون الثاني.
فاستصحاب بقاء الملك للمشتري محكم، وليس للبائع الرجوع
بعد التغير. فهذا هو الأصل بناءا على القول بالملك.
171

وقد وافق المحقق الخراساني " قده " هنا وفي الخيارات والأصول
على مبنى الشيخ " قده "، لكنه قال ما حاصله: إن هذا في صورة كون
الدليل المخرج مخرجا في البين، نظير خيار الغبن بناءا على خروج
العقد من تحت العام عند ظهور الغبن، فإنه لما ظهر خرج الفرد من
تحت أدلة الوفاء بعنوان اللزوم، لأن شمولها له ضرري. فلو لم يأخذ
بالخيار لم يتمسك بالعام في الزمان اللاحق، وأما إذا خرج فرد من
تحت العام من أول الأمر نظير خيار المجلس حيث قال " البيعان بالخيار
ما لم يفترقا " فيتمسك. ومثله المعاطاة، فإنه إذا وقع ما يشك معه في
بقاء اللزوم وعدمه يتمسك بأصالة اللزوم.
أقول: لم يذكر " قده " وجه هذا التفصيل، ولعله لأن في الصورة
الأولى تقييد لا تخصيص ليتمسك بالعام عند الشك في التخصيص، وأما
في الثانية فهو شك في التخصيص فيتمسك فيها بالعام. والذي يخالجني
أن التخصيص في البين لا معنى له، لأن التخصيص خروج الفرد من البدء
إلى الختم، وأما الخروج بعد الدخول في زمان فهو تقييد لا تخصيص.
ثم إنه " قده " يقول بالتمسك فيما إذا خرج الفرد من أول الأمر
مع تصديقه باستمرار الزمان، قال: وكذا لو خرج في آخر الزمان ثم
تردد بين الأقل والأكثر، بأن شك في خروج الساعة التي قبل الأخيرة
مع اليقين بخروجها، قال: يتمسك بالعموم أيضا.
أقول: هذا لا وجه له كذلك، وما احتملناه بالنسبة إلى أول
الوقت غير آت هنا.
172

هذا، وقد أشكل السيد وبعضهم على هذا الأصل من أصله بما
حاصله: إن هذا الأصل إنما يفيد لأجل الرجوع إليه في موارد الشك،
ولكن الأدلة الثمانية لا تصلح لذلك - اللهم إلا الاستصحاب على ما سيأتي -
لأنها مخصصة بالاجماع على جواز المعاطاة حين الانعقاد - كما هو
المفروض - ومع الشك يستصحب حكم المخصص.
وأما استصحاب الملكية فلا مانع من التمسك به، إلا أنه محكوم
باستصحاب بقاء الجواز الثابت من أول الأمر حين الانعقاد، ويترتب
عليه جواز الرجوع، إلا أنه من الشك في المقتضي، وفي حجيته خلاف.
أقول: هذا يتم فيما إذا كان الجواز المستصحب جواز الرجوع،
وأما إذا قيل بأن القدر المتيقن منه هو جواز تراد العينين، وهو يتوقف
على بقائهما معا، ومع تلفهما أو تلف أحدهما فلا تراد، فلا جواز كي
يستصحب.
وتقريب ذلك: إن الجواز هنا حكم تعبدي برجوع العين،
فالمعاطاة لازمة، ولا منافاة بين لزومها والحكم برجوع العينين - كما
لا منافاة بين عقد النكاح اللازم وجعل حكم الطلاق فالعقد لازم والطلاق
يرفع الزوجية - وذلك لا يضر بلزوم العقد وبقائه، فلو تلف العينان أو
أحدهما ارتفع الحكم، ومع الشك يستصحب بقاء الملك ولزوم المعاطاة.
إلا أن يقال: بأن لازم الحكم بجواز الرجوع هو فسخ المعاطاة،
بل هو المتبادر منه عرفا، وعليه فلما كان العقد من قبل جائزا ثم شك
فإنه يستصحب هذا الجواز.
173

إلا أن يجاب: بأن الحكم بالجواز قد يقيد بأمر لو زال زال،
فلو صالح بماله وشرط الخيار لنفسه - بأن يفسخ العقد بلسانه في حضور
زيد - سقط الخيار بانتفاء أحد القيدين، وهنا يتحقق الفسخ بالرجوع
وأخذ العين نفسها، فإن كان ذلك لم يبق مجال لاستصحاب الجواز بعد
التلف.
هذا، ولعلنا نجيب عن أصل الاشكال في الأصل فيما سيأتي انشاء
الله تعالى.
هذا كله بناءا على القول بالملك.
الأصل بناءا على الإباحة
وأما على القول بالإباحة فالأصل هو الجواز، قال الشيخ " قده ":
لقاعدة تسلط الناس على أموالهم، وأصالة سلطنة المالك الثابتة قبل
المعاطاة..
أي: فإنها تستصحب الآن بعد وقوع المعاطاة وإباحة المال للمعطى
له، فهي تقتضي أنه متى أراد الرجوع عن الإباحة وأخذ العين كان له
ذلك، سواء كانت العين باقية أو لا. اللهم إلا أن يقوم دليل تعبدي على
اللزوم في مورد، كما إذا قام على أن تلف العينين موجب للزوم، وإلا
كان استصحاب السلطنة وقاعدتها دليلا على جواز الرجوع وعدم خروج
المال عن ملكه بالمعاطاة، إذ المفرض أنها تفيد الإباحة لا الملك.
أقول: لكنه " قده " فصل في التنبيه الرابع وقال بأنه لو قصد أحد
174

المتعاطيين الإباحة بعوض التمليك ففي المسألة ثلاثة وجوه، ثم قوى
الأول - وهو اللزوم - وكذا قال فيما إذا أباح في مقابل الإباحة. ولعل
وجه اختياره اللزوم في الثاني دليل " المؤمنون عند شروطهم "، فإنه
يقتضي عدم جواز رجوعه عما اشترط على نفسه.
لكن الحق أن يقال: لو كانت الإباحة مالكية وأمضاها الشارع
فقال " لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه " لم يخل التمسك ب‍ " المؤمنون
عند شروطهم " لأجل اللزوم من اشكال، لأن العقود الإذنية لا تلزم أبدا،
فلو رجع المالك عن إباحته لم يجز التصرف للمباح له في المال.
نظير الوكالة، فإنها عقد جائز، وقد وقع البحث بينهم في لزومها لو
وقعت شرطا في ضمن عقد لازم، فذهب بعضهم إلى لزومها حينئذ،
وقال آخرون: يصح عزل الوكيل عنها مطلقا، لأنها عقد إذني (وإن كان
يحرم على الموكل ذلك تكليفا)، فالإباحة إن كانت مالكية وقد رتب
عليها الشارع الأثر وأنفذها كان الرجوع عنها مؤثرا البتة.
فالشيخ " قده " قد حكم هناك باللزوم لأن " المؤمنون.. "
يقتضي وجوب الوفاء تكليفا، وهنا يحكم بالجواز الوضعي.
فهذا توجيه ما صدر منه " قده "، وإلا فالقول بغفلته عما ذكر هناك
مشكل، والله سبحانه العالم.
وبالجملة: إن كانت الإباحة مالكية فالأصل هو الجواز، فمتى
أراد الرجوع عن إباحته كان له ذلك، سواء بقيت العينان أو لا. اللهم
إلا على القول بأن العقود الإذنية إن أنشأت في ضمن عقد لازم لزمت،
175

وهو قول ليس بالقوي، لقاعدة السلطنة واستصحابها. وأما استصحاب
الإباحة الثابتة قبل رجوع المالك عن إباحته - فمحكوم بالقاعدة
واستصحاب السلطنة، وأما اعتبار السلطنة بعد التلف فمعناه ضمان المباح
له بدل العين التالفة.
هذا، لكن الرجوع عن الإباحة بعد التلف لا محصل له، لأنه لو كان
المقصود الرجوع عن الإباحة لما قبل التلف فهو غير ممكن، لأن ما
وقع وقع ولا ينقلب عما وقع عليه، فكيف يترتب عليه الأثر وهو ضمان
البدل، وإن كان المقصود الرجوع عن الإباحة بعد التلف فبقاء إباحة
التصرف في العين بعد التلف لغو لا معنى له حتى يصح الرجوع عنه.
وأما إذا كانت الإباحة شرعية مستندة إلى رضا المالك بالتصرف
بانشائه الإباحة، أو انشائه الملكية بالاعطاء، فأباح الشارع التصرف
تعبدا مع عدم امضاء التمليك:
فأما في الصورة الأولى فإن قاعدة السلطنة محكمة، لأن المفروض
أن حكم الشارع مستند إلى رضاه، فمتى رجع عن ذلك رجع الشارع
عن إباحته. إذن فالأصل في هذه الصورة الجواز كذلك.
وأما في الصورة الثانية - حيث الإباحة شرعية تعبدية - فلا مجال
للقاعدة المذكورة، لأن الحكم فيها وارد من قبل الشارع بالاستقلال
وليس للقاعدة رفع حكم الشارع، إذ المفروض أنه قد رفع السلطنة
بحكمه بإباحة التصرف للمباح له، ففي هذه الصورة ليس الأصل هو
الجواز، لكن المسلم أنه بعد التعاطي وتحقق الإباحة يجوز الرجوع
176

ما دامت العين باقية بالاجماع. وهذا الجواز يستصحب إلى بعد تلف
العين لو شك في جواز الرجوع وعدمه بذلك.
هل تلف العوضين من الملزمات؟
قال الشيخ " قده ": إن تلف العوضين ملزم اجماعا. أما على
القول بالإباحة فواضح..
أقول: وجه الوضوح إن تلفه من مال مالكه ولا دليل على الضمان،
وأما " على اليد. " فلا يجري هنا، لأن المفروض أن الشئ كان مباحا
للآخر إما من مالكه وإما من جهة الشارع، فاليد ليست عدوانية حتى
يشملها دليل " على اليد.. ".
وأما على القول بالملك - وإن أمكن الفسخ بعد التلف كفسخ
العقد الخياري - لكن اللزوم ثابت من جهة اقتضاء " أوفوا بالعقود ".
وأشكل عليه: بأن هذا الدليل إنما يفيد فيما إذا كان شاملا للموضوع
من أول الأمر، والمفروض أنه لا يشمل المعاطاة، وهي جائزة ما دامت
العينان باقيتين بالاجماع فالدليل غير شامل والجواز سابق باق.
قال الشيخ " قده ": إن كان هذا الجواز جواز فسخ العقد فإن
الاستصحاب يقتضي بقاءه بعد التلف، وإن كان الاجماع منعقدا على
جواز تراد العينين - لا جواز فسخ العقد - فإنه ما دامتا موجودتين كان
الجواز بحاله وبعد التلف فلا موضوع للتراد فلا جواز للرجوع، ويبقي
" أوفوا بالعقود " مقتضيا للزوم.
177

والظاهر أن متعلق " الجواز " هو " تراد العينين " لا تراد الملك
حتى ينفسخ به التمليك، وبناءا على ما ذكره الشيخ " قده " يندفع
الاشكال الذي أورده بعضهم على الأصل فيما تقدم بأنه ينافي مبناه في
التمسك بالعام وكون الزمان غير مفرد، فراجع.
وظهر أن جواز الرجوع هنا ليس كجواز الرجوع في العقد
الخياري، فلا يمكنه الفسخ، بل له استرجاع العين من دون فسخ العقد.
وكأن الشيخ " قده " استفاد ذلك من الاجماع.
أقول: لكن الفقهاء لا يوافقون على هذا، فإن رجوع العين عندهم
ليس كالطلاق الرافع للزوجية مع بقاء عقد النكاح، فمن المستبعد أن
يكون هذا حكما تعبديا، بأن يقول الشارع بجواز تراد العينين مع بقاء
العقد، وذلك لأن المستفاد عرفا من جواز التراد فسخ العقد، ولكن
التراد وإن كان مستلزما لانفساخ العقد إلا أن الشارع جعل امكان الفسخ
ما دام التراد ممكنا. وعلى هذا فإن تلفت العينان لم يكن له الفسخ،
وتكون المعاملة لازمة، فالأصل هنا هو اللزوم بناءا على الملك، ولكن
يجوز الفسخ بتراد العينين، أي ما دامتا موجودتين. فالاشكال المذكور
سابقا مندفع.
هل تلف إحداهما ملزم؟
ومن هنا يعلم أن الحكم هو اللزوم أيضا لو تلف أحد العينين،
لعدم امكان التراد الذي هو المستلزم للانفساخ. كما أن القدر المتيقن من
178

الاجماع هو وجودهما، وترادهما بل لو بقي بعض كل واحد من العينين
لم ينفسخ العقد بترادهما، لعدم امكان ترادهما بتمامهما.
وأما لو تلفت أحداهما دون الأخرى وبنينا على إفادة المعاطاة
الإباحة لا الملك فهل الحكم هو اللزوم؟
قيل بالجواز لاستصحاب بقاء السلطنة.
وأورد عليه الشيخ " قده ": بأنه معارض بأصالة براءة ذمته عن
البدل مثلا أو قيمة، وذلك لأنه إذا استرجع ماله وجب عليه دفع مثل
أو قيمة العين التي تلفت بيده، ولما كان الأصل براءة ذمته عن ذلك وقع
التعارض بين هذا الأصل واستصحاب بقاء السلطنة على المال، وعلى
هذا يعلم اجمالا ببطلان أحد الأصلين.
قال الشيخ " قده ": ويمكن أن يقال: إن أصالة بقاء السلطنة حاكمة
على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة.. لأن معنى السلطنة هو جواز
الرجوع في الإباحة في مقابل الإباحة، فلو رجع عن إباحته تحقق رجوع
الآخر عن إباحته كذلك، ولازم ذلك ارجاع عين الآخر، وإذا تلفت
فمثلها أو قيمتها..
أقول: ويمكن أن يقال: بأنا نعلم باشتغال ذمته إما بالعين وإما
بالبدل، فإذا تلفت العين فالبدل، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.
إذن أصالة البراءة غير جارية من أصلها حتى تكون معارضة أو محكومة
وتبقى السلطنة ويترتب عليها لازمها، إما المثل وإما القيمة لثبوت ذلك
بالاجماع، أو لأن الرجوع في العين معناه ارجاع عين الآخر، فإن تلفت
فعليه المثل أو القيمة.
179

قال: ويمكن دعوى أن معنى " الناس مسلطون.. " هو السلطنة
على استرجاع العين إن بقيت وإلا فعوضها، فتكون قاعدة السلطنة مثل
" على اليد.. " في الدلالة على الضمان.
أقول: هذا مشكل جدا، ولذا لم يستدل أحد من الفقهاء بها لاثبات
ضمان الغاصب، بل ظاهرها أن العين ما دامت موجودة يجوز له جميع
التصرفات المشروعة فيها، وليس معنى ذلك أنها إن تلفت عند المباح
له فله أن يطالب بعوضها.
على أن التسلط على المال إن كان حين التلف - بأن يأخذ البدل
ممن تلف بيده - فلا اشكال في عدم اقتضاء القاعدة لذلك، لأن المفروض
أنه قد أعطاه المال بنفسه وأذن له في التصرف فيه. نعم له استرجاعها
ما دامت باقية، وإن كان بعد التلف فلا مال ليتسلط عليه.
إذا كان أحد العوضين في ذمة أحدهما
وأما كان أحد العوضين في ذمة أحد المتعاطيين، بأن يعطيه
المال عوض ما في ذمته، فعلى القول بالملك يملكه من في ذمته ويكون
الآخذ مالكا للمال، فيكون المورد من قبيل تلف أحد العوضين، وهل
يجوز التراد حينئذ؟
لا تراد في هذه الصورة، لأن سقوط ما في الذمة بحكم التلف،
والساقط لا يعود، فالمعاملة لازمة.
قال الشيخ " قده ": ويحتمل العود وهو ضعيف.
180

قال السيد " قده ": بل لا وجه له.
أقول: وجه الاحتمال الفرق بين التلف الحقيقي وسقوط ما في
الذمة، فإنه في هذه الصورة يكون التراد بمالكيته لما في ذمة الآخر
مرة أخرى وارجاع ماله إليه.
ووجه الضعف: إن مالكيته هذه غير ما كان أولا، فلم يتحقق التراد.
مع أن القدر المتيقن من دليل جواز التراد هو صورة وجود العوضين
في الخارج.
قال الشيخ: والظاهر أن الحكم كذلك على القول بالإباحة..
أقول: وذلك لأن الإباحة في مقابل الإباحة لا يتحقق في المورد،
لعدم امكان التصرف بما في الذمة، لكن التصرف بالاسقاط ممكن،
وحينئذ فما لم يسقط لم تلزم المعاملة - لأنه كبقاء العينين فلا وجه لقوله
" وكذا. ".
نعم يصح ذلك أن كانت إباحة في مقابل العين.
إنما الكلام في جواز رجوع صاحب العين الموجودة، فهل الأمر
على القول بالإباحة كما هو على القول بالملك؟ أقول: لا فرق بين
المسألتين من هذه الجهة.
هل نقل أحد العوضين أو كليهما ملزم؟
ولو نقل العينان أو أحداهما بعقد لازم فحكمه حكم التلف بناءا
181

على القول بالملك، لامتناع التراد حينئذ، ولو فرض أنه فسخ المعاملة
(وإن كانت لازمة، لتجدد خيار الفسخ بظهور العيب - مثلا - حيث قال
جماعة بأنه موجب للفسخ من حينه) ففيه وجهان: الرجوع، لامكان
التراد، لا سيما على القول بأن الفسخ يجعل العقد كلا عقد. والعدم، لأن
الملك الحاصل بعد الفسخ غير الملك الحاصل له بالمعاطاة، فأدلة
اللزوم جارية في هذه الصورة بعد الشك في شمول أدلة التراد. بل
الاستصحاب يقتضي عدم جواز الرجوع، لأنه بالعقد اللازم يسقط موضوع
الجواز، فلو شك بعد الفسخ يستصحب عدم الجواز.
وأما بناءا على القول بالإباحة، فإن لازم نقله للغير كون العين
ملكا له ثم النقل، إذ لا بيع إلا في ملك، وكذا غير البيع من التصرفات
المتوقفة على الملك. فعلى هذا تكون المعاملة لازمة، ولا يجوز الرجوع
لامتناع التراد، كالقول بالملك. فإن فسخ فهل تعود العين ملكا للبائع
أو مباحة له كما كان مقتضى المعاطاة؟ الظاهر الأول، لأن المفروض أنها
صارت ملكا له وباعها - مثلا - فلو فسخ البيع بقيت على ملكه ولا
دليل على رجوعها مباحة.
نعم يجوز الرجوع للمعطى في صورتين:
إحداهما: أن يكون عقد المعاطاة هو الذي كشف عن كون العين
ملكا للمعطى له قبل النقل، وبعد الفسخ ورجوع المعطي لا يبقى سبب
لملكية المعطى له. وكأن المراد من الكشف هنا كشف العلة عن المعلول،
بأن يكون عقد المعاطاة علة للتملك والانتقال معا، فإن فسخ المعطي
182

الانتقال زال التملك، وحينئذ جاز رجوع المعطي عن معاطاته لقاعدة
السلطنة، وكذا إذا كان جزءا للعلة، وأما إذا كان سبب الملكية إرادة
المعطى له التملك أو كون التملك بحكم شرعي خارجي لم يجز التراد
بالفسخ.
الثانية: أن يبيع المعطى له مال المبيح ويكون الثمن للمعطى له،
بناءا على ما ذهب إليه جماعة من جواز كون المثمن لزيد فيبيعه عمرو
ويكون الثمن لعمرو البائع، وحينئذ لو فسخ عاد المال ملكا للمعطي،
فيجوز له الرجوع لدليل " الناس مسلطون.. ".
قال الشيخ " قده ": لكن الوجهين ضعيفان، بل الأقوى رجوعه
بالفسخ إلى البائع.
أقول: وحاصل ذلك عدم جواز الرجوع، وإنه بالفسخ يكون
المال ملكا للمباح له، وهي ملكية متجددة، فعقد المعاطاة لازم.
لو كان الناقل عقدا جائزا
قال: ولو كان الناقل عقدا جائزا لم يكن لمالك العين الباقية الزام
الناقل بالرجوع فيه ولا رجوعه بنفسه إلى عينه، فالتراد غير متحقق
وتحصيله غير واجب.
أقول: ووجه ذلك أن العين لو عادت بالفسخ كانت ملكا للمباح
له، وذلك في حكم التلف، فلا يتحقق معه التراد.
183

لو وهب المباح له العين
ولو وهب المباح له العين إلى غيره فصارت ملكا له بلا عوض،
فعلى القول بالإباحة: إن قلنا بجواز هبة ملك الغير من غير أن يكون
المال ملكا للواهب آنا ما قبل الهبة جاز التراد برجوعه في هبته، لرجوع
العين مباحة للواهب حينئذ، وهي ما دامت موجودة يجوز التراد فيها.
لكن لا يخفى أن الرجوع في تلك الهبة حق للمالك دون الواهب،
فرجوع الواهب يحتاج إلى إذن ليكون وكيلا عنه في الرجوع.
أقول: ولكن الحق هو التفصيل بين ما إذا كانت الهبة من قبل
المالك المعطي - وما إذا كانت من قبل نفسه، فإن كان المالك قد أذن له
في الهبة من قبل نفسه كان لازمه التملك ثم الهبة، وإن كانت الإباحة
شرعية - لا مالكية - كان نظير إباحة تصرف الأب والجد في مال الصغير.
ويترتب على ذلك أنه لو رجع عن هبته كان المال ملكا للواهب، فلا
رجوع للمعطي.
وإن كانت الهبة من قبل المعطي - وكان الواهب كالوكيل فيها -
عادت الإباحة المعاطاتية برجوع المعطي عن الهبة - واتجه حينئذ التراد
وهو الاشكال في رجوع المعطي في الفرض.
وقال المحقق الخراساني " قده " في التعليق على كلام الشيخ
" نعم.. اتجه الحكم بجواز التراد.. " قال: لا يخفى أن المتجه
عدم جوازه، فإن تملك المالك للعين الموهوبة تملك بوجه آخر غير
184

التملك بالرد في المعاطاة ليجب رد الأخرى إلى مالكها حتى يحصل
التراد ويلزم الجمع بين العوضين..
أي: إن أدلة جواز التراد لا تشمل هذه الصورة، والقدر المتيقن
منها هو حال كون هذا المال ملكا قبل الهبة.
أقول: لكن هذا يتجه بناءا على القول بالملك، وأما بناءا على
القول بالإباحة - كما هو المفروض - فلا، وقد صرح الشيخ " قده "
بعدم ملكية الواهب للمال قبل الهبة.
اللهم إلا أن يقال يكفي في مغايرة الملك بعد التراد مع ملك
الأول صيرورة الموهوب ملكا للمتهب.
نعم كلامه " قده " يتم بناءا على ما ذهب إليه من أن المعاطاة تفيد
الملك بشرط التلف، والهبة بحكم التلف، فبعد الرجوع عنها تكون
هذه الملكية غير الملكية الأولى.
ووجه ما ذكره من لزوم الجمع بين العوضين هو: أن الواهب
بمجرد هبته للمال الذي بيده يكون ماله الذي بيد المعطي ملكا للمعطي،
لأن الهبة بحكم التلف وبه يستقر ضمان المثل، فإن رجع عن الهبة
ورجعت العين إلى ملك مالكها الأول لزم الجمع بين العوضين.
وحاصل اشكاله " قده " هو: أن الرجوع يكون للواهب لا للمالك،
لأن المفروض أنه لم يكن الواهب لا مباشرة ولا تسبيبا. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى لا مانع من أن يكون الواهب غير المالك، ولا يشترط
التملك للمال قبلها، نظير تمليك الحر عمله بالإجارة لغيره، والحال
185

أنه لا يملكه قبلها.. هذا رأيه " قده " خلافا للقوم، فإنهم يقولون لا هبة
إلا في ملك.
أقول: أما إن المالك لم يكن الواهب لا مباشرة ولا تسبيبا. ففيه:
أنه إن كانت الإباحة للواهب مالكية فإن من جملة التصرفات المباحة له
هي " الهبة "، فهي واقعة بإذنه وهو الواهب في الحقيقة لكن تسبيبا،
وإن كانت الإباحة شرعية - أي إن الشارع رتب إباحة جميع التصرفات
على هذه الإباحة وإن كان المالك قد أنشأ التمليك - كانت الهبة مباحة له
من قبل الشارع، ويكون الواهب هو المباح له لا المالك في هذه
الصورة، وليس للمالك حينئذ الرجوع - بناءا على أن حق الرجوع
للواهب لا للمالك - لكن الواهب لما يرجع عن الهبة يرجع المال
إلى ملك المالك لا إلى نفسه، هذا لو لم نقل إن المتيقن جواز الرجوع
للواهب المالك دون المباح له، وإلا فليس لكل منهما الرجوع لأن
المالك ليس بواهب والواهب ليس بمالك.
وأما أنه لا يلزم أن يكون الواهب مالكا للمال، والتنظير بتمليك
ما في الذمة وتمليك العمل. فهذا غير واضح، لأن الذمة والعمل
حيث يكون باختيار البائع والحر مع التعهد يعامل معه معاملة الملك عند
العقلاء.
ولو سلم عدم لزوم كون المال ملكا له، فإن هذا المال ليس له
بل هو للغير، وفرق بين عدم لزوم الملكية وكون المال ملكا للغير.
على أن مقتضى قاعدة السلطنة وغيرها كون اختيار نقل المال بيد مالكه
186

فالشارع لا يبيح التصرف في مال الغير. ومن هنا لا يجوز للمالك
الحقيقي أن يبيح ما لم يبحه الشارع، وعليه فالإباحة الشرعية لا تشمل
المورد، فليس للمباح له الهبة، لأن المفروض عدم شمول الإباحة
الشرعية لما لم يكن شرعيا، فالتصرف في مال الغير بدون إذنه غير جائز
والإباحة الشرعية لا تشمله، والهبة من هذا القبيل.
هذا، وبناءا على ما ذكره الشيخ " قده " من أن الراجع هو
الواهب لا المالك،، لا بد من ملكية الواهب للمال آنا ما. لما ذكرنا
من عدم تشريع الشارع نقل مال الغير بدون رضاه وإذنه.
على أن المعاطاة لزومها بالهبة وكون العوض ملكا للمالك الأول
يستلزم دخول العوض في ملك من لم يخرج المعوض عن ملكه. وهذا
الاشكال وارد على الشيخ، ودفعه (وتمامية لزوم المعاطاة بالهبة بمجرد
هبة المباح له كما ذكر قده) يتوقف على الالتزام بكون المال ملكا
للواهب آنا ما قبل الهبة.
قال الشيخ " قده ": اتجه الحكم بجواز التراد..
أقول: هل التراد بنفس الرجوع أو أنه يرجع إلى ملكه ثم
يكون التراد؟ إن أراد الأول فهو ليس ترادا، لأن التراد لا يتحقق
بمجرد الرجوع عن الهبة، بل التراد يتحقق بالإضافة إلى المعاطاة،
مع أن الرجوع لا بد أن يكون من الواهب. وثالثا إن هذه الملكية
متجددة وهي غير الأولى. ورابعا إن دليل تصرفه حينئذ - على مبنى
الشيخ - هو قاعدة السلطنة لا أدلة التراد.
187

وإن أراد الفسخ، فإن الفاسخ يجب أن يكون الواهب لا المالك
على أن المحكم هنا عنده قاعدة السلطنة لا أدلة التراد كما تقدم. وبعد
الهبة لا مال له حتى يكون مسلطا عليه.
وقال المحقق الأصفهاني " قده " ما ملخصه: أنه إن وهب أحد
المتعاطيين ما بيده إلى الآخر، وقلنا بعدم امكان الرجوع في الهبة للمالك
بل الواهب يمكنه الرجوع فهل للواهب الرجوع في عينه الموجودة
بيد المعطي أو لا؟ يمكن أن يقال يمكنه الرجوع، لأن الموهوب لا
يصدق عليه التلف، إذا المفروض جواز رجوعه، وما دامت العينان موجودتين
يجوز الرجوع عن الإباحة إذ لم يتحقق الملزم. ويمكن أن يقال بالعدم،
لأنه قد وهب المال لثالث، وبمجرد ذلك يتعين كون ما بيد الأول
ملكا له عوضا عن ماله الذي وهبه الواهب، فلا يجوز له الرجوع، لأن
موضوع قاعدة السلطنة حينئذ غير محرز.
أقول: إنا إذا قلنا بأن الموهوب بحكم التلف خرج ما كان له
بيد الأول عن ملكه، لأنه وجه الضمان، فلا رجوع. لكن المحقق
المذكور " قده " قوى الأول " لأنه مع تمكن الواهب من الرجوع في
الهبة لا يكون الموهوب بحكم التلف ليتدارك ببدلية العين الباقية،
وعلى فرض احتماله يمكن التمسك بأصالة السلطنة، لما مر مرارا من
أن الملكية جهة تعليلية في نظر العرف لا جهة تقييدية ".
وفيه: أنه ليس الأمر كذلك، فإن الملكية جهة تقييدية، وكذلك
سائر الأمور الاعتبارية التي تترتب عليها الأحكام الشرعية من الزوجية
188

والطهارة والنجاسة ونحوها. نعم هو كذلك في الأمور الخارجية، مثل
" الماء " في " الماء المتغير ينجس " فإن التغير علة، أي أنه ينجس
للتغير. فقاعدة السلطنة معناها عرفا: الناس مسلطون على أموالهم
المملوكة لهم.
ثم الضمان الذي ذكره في ذيل كلامه إن كان لأجل التلف، فقد
صرح من قبل بأن الموهوب لا يكون بحكم التلف، اللهم إلا أن يقال:
الواهب يمكنه الرجوع دون المالك - لكن ليس واجبا عليه - فيكون
الموهوب بحكم التلف بالنسبة إلى المالك. لكن لو كان كذلك لضمن
الواهب المسمى لا المثل والقيمة كما صرح به.
بقي اشكال الجمع بين العوضين - الذي ذكره المحقق الخراساني
قدس سره - والجواب: إن الملكية للعين الموجودة إن كانت عوض
انشاء الهبة فالمعاطاة لازمة، ثم الواهب يرجع في الهبة فلا يجتمعان.
وإن كانت عوض نقل الواهب ماله إلى الموهوب له، فإنه متى رجع
الواهب في هبته رجعت عينه التي بيد الأول ملكا له، لأنها عوض فلا
يجتمع العوضان.
أقول: وهذا الجواب يتوقف على كون الرجوع في الهبة جاعلا
إياها كالعدم، وأما إذا قلنا بأنه تملك جديد اجتمع العوضان في ملك
المالك الأول.
ثم قال الشيخ " قده ": أو عوده إلى مالكه بهذا النحو من العود.
أقول: الصحيح في معنى العبارة: أنه لو وهب كلا المتعاطيين
ورجعا في هبتهما اتجه التراد كذلك.
189

لو باع العين ثالث فضولا
قال الشيخ " قده ": ولو باع العين ثالث فضولا فأجاز المالك
الأول على القول بالملك لم يبعد كون إجازته رجوعا كبيعه وسائر
تصرفاته الناقلة ولو أجاز المالك الثاني نفذ بغير اشكال، وينعكس الحكم
اشكالا ووضوحا على القول بالإباحة.
أقول: أما على القول بالملك فلا اشكال في إجازة الثاني،
لأنه المالك للعين، وأما إجازة الأول فإنها إجازة في تصرف الثالث
في مال الثاني وهي غير نافذة، و " لم يبعد " كون إجازته رجوعا،
حتى تعود العين إلى ملكه، فتكون بالنسبة إلى ملكه فتنفذ حينئذ. ولماذا
قال " لم يبعد "؟ لأن فيه اشكالين:
أحدهما: وهو مشترك بين ما نحن فيه وبين ما بيع بالعقد
الخياري، فلو باع ذو الخيار الشئ فقد صدر منه أمران: أحدهما فسخ
العقد، والآخر بيع الشئ. وترتيب الأثرين المختلفين في المرتبة
على الفعل الواحد غير ممكن، ولذا قال بعضهم بتحقق الفسخ بالإرادة
والبيع بالفعل والانشاء. وقيل: إنه ببعض الانشاء يتحقق الفسخ،
وبتماميته يتحقق البيع. وهذا الاشكال بعينه جار في المقام، ولذا قال
" لم يبعد ".
فهذا ما ذكره السيد قدس سره.
والثاني: إنه " ره " يستشكل في كون الإجازة كالتصرفات الناقلة.
190

وهذا ما استظهره المحقق الأصفهاني " قده "، وهو الأظهر، فكيف
تكون الإجازة كالتصرفات الناقلة مع أن متعلق الإجازة تصرف الغير؟ قال
" لم يبعد " أن تكون كذلك، لأن الإجازة لمن كان له اختيار العقد والبيع
موجودة، وحينئذ ينزل الشارع تلك الإجازة منزلة التصرف الناقل،
فالناقل في الحقيقة هو المجيز.
فظهر لزوم التمحل لتصحيح إجازة الأول وترتيب الأثر عليها،
بخلاف إجازة الثاني، فلذا قال بالنسبة إلى الأول " لم يبعد " وفي الثانية
حكم بالصحة وترتيب الأثر بلا اشكال.
وأما على القول بالإباحة فإن الثاني قد أبيح له التصرف بالمال
فإجازته فيها اشكال، وأما الأول فهو المالك المبيح وإجازته نافذة
بلا اشكال.
ويمكن تصحيح إجازة الثاني بأن يقال: حيث إن الإجازة بمنزلة
البيع فإنه لو كان قد باع المال بنفسه لنفذ بيعه بمقتضى إباحة التصرفات
له في المال، فليكن إجازته لمعاملة الفضولي بمنزلة معاملة نفسه، فتأمل.
هذا، ولم يتعرض الشيخ " قده " إلى صورة إجازتهما معا في
آن واحد، لأنه إن كانت إجازة المالك نافذة، يكون بيع الفضولي
بيع المالك وتبطل المعاطاة ويكون الثمن للمالك الأول، وإن نفذت
إجازة الثاني لزمت المعاطاة ثم كون المال ملكا له حتى يكون الثمن
له بإجازته. فلو أجازا بيع الفضولي معا، فهل تتعارض الإجازتان
وتتساقطان أو تتقدم إحداهما؟
191

قال المحقق الأصفهاني " قده ": تتقدم إجازة المالك الأول حينئذ
لأن تصرف ذي الخيار فيما باعه بالبيع الخياري يتوقف على تملكه
للمتاع قبل التصرف (ويكون التملك إما بالإرادة، وإما بالجزء الأول
من الانشاء - كما تقدم) وفيما نحن فيه على القول بالملك لا بد أن يرجع
عن تمليك العين ثم يجيز، والثاني يريد الإجازة للفضولي، فلو تقارنتا
فإنه في الآن الأول وبمجرد إرادة المالك الأول أو بأول جزء من إنشائه
تنتقل العين إلى ملكه فيجيز بيع الفضولي، وتلغو إجازة الثاني. فإجازة
الأول أثرها متقدم زمانا على إجازة الثاني.
وبالجملة، إن الشيخ " قده " لم يستبعد - على القول بالملك -
كون إجازة الأول نافذة كسائر تصرفاته، وأما إجازة الثاني فنافذة بلا
اشكال. ووجه الاشكال في إجازة الأول كونها متعلقة بعقد واقع على ملك
الغير، وهي لا تؤثر كما هو واضح. وقد يرتفع بأن يرجع عن تمليكه
أولا ثم يجيز بيع الفضولي. وهل المراد من الإجازة هذه أنها من حين
العقد أو من حينها؟ فلو مات المالك الأول وقصد الوارث الإجازة فمن
أي زمان تؤثر إجازته؟ إذا قلنا بكفاية الإجازة من حينها - بأن يرجع عن
التمليك ثم يجيز - لم يبعد النفوذ.
وقد ذكرنا أن إجازة الأول أثرها بطلان المعاطاة، بخلاف
إجازة الثاني فإن أثرها لزومها وعدم امكان رجوعه في عينه التي بيد الأول
وعلى اللزوم لا فرق بين أن نقول بأنه كان يجوز له بيع مال الغير فالإباحة
لازمة، أو نقول بأنه قد باع ما كان له بمقتضى المعاطاة.
192

وعلى القول بالإباحة لا اشكال في إجازة المالك الأول، لأن العين
ملكه والعقد واقع عليه، ولم يبعد إجازة الثاني، لأن المباح له حين
يجيز العقد الواقع على ملك الغير يملك العين ثم يجيز - بناءا على
كفاية الإجازة من حينها - أو يملكها آنا ما. وأما بناءا على عدم التملك
آنا ما وعدم المالكية حين الإجازة فيشكل فيه من جهة أخرى، وهي
لزوم خروج المثمن عن ملك المالك الأول ودخول ثمنه في ملك الثاني
المجيز، وهذا لا يوافق عليه الشيخ، فنفوذ إجازته حينئذ " بعيد ".
هذا، ولو رجع المالك الأول عن المعاطاة وأجاز بيع الفضولي
وقد أجاز الثاني حينئذ أيضا، فيمكن ادخال هذا الفرع في الفرع الآتي
من أن الإجازة كاشفة أو ناقلة.
ثم قال الشيخ " قده ": ولكل منهما رده قبل إجازة الآخر.
أقول: معنى الرد عدم ترتيب الآثار مبنيا على الملك، أما الأول
فلا بد من الرجوع عن المعاطاة ثم الرد، وأما الثاني فإن رده مؤثر
بلا اشكال لأنه ملكه.
وهل يكفي لرد الأول كونه من حينه أو لا بد منه في حين العقد؟
إن قلنا بالأول فهو، وإلا فلا أثر لرده.
ثم إن أثر رد الأول بالنسبة إلى المعاطاة بطلانها، وأما رد الثاني
فلا أثر له بالنسبة إليها لا بطلانا ولا لزوما.
ولو تقارن الردان فأيهما المؤثر؟ لا تعارض هنا بين الردين،
بالنسبة إلى بطلان بيع الثاني، ولكن رد الأول يوجب بطلان المعاطاة،
193

لأن رد الثاني لا أثر له بالنسبة إليها مع رد الأول، ولا ينازع ما ليس له
أثر مع المؤثر.
قال " قده ": ولو رجع الأول فأجاز الثاني فإن جعلنا الإجازة
كاشفة لغا الرجوع، ويحتمل عدمه، لأنه رجوع قبل تصرف الآخر
ويفسد ويلغو الإجازة، وإن جعلناها ناقلة لغت الإجازة قطعا.
أقول: على القول بالملك لو رجع الأول عن معاطاته فأجاز الثاني
بيع الفضولي، فإن قلنا بأن الإجازة كاشفة لغا رجوع الأول، والكشف
عند بعضهم نظير العلم، فكما أنه لو علم الآن بالعقد لم يؤثر فيه، بل
المؤثر وتمام العلة هو العقد من حينه، فعلى هذا لا أثر للإجازة، لأنها
لا جزء للعلة ولا شرط، بل بالإجازة يكشف ويعلم بالانتقال بالبيع الصادر من
الفضولي من حين العقد، فالمالك الأول لم يؤثر رجوعه شيئا، إذ
المعاطاة لزمت بواسطة النقل اللازم الذي كشفت عنه الإجازة.
ويحتمل تأثير الرجوع، لأنه رجوع قبل تصرف الآخر، ومعنى
هذا أن الإجازة هي الكاشفة، أي ما لم يكشف بالإجازة لم يتحقق العقد.
أقول: والحق مع الشيخ في هذا التردد، لأن الجزم في المقام
متعسر. ولكن الانصاف إن الإجازة ليست كاشفة مطلقا، بل يشترط كون
العقد قابلا للرد وكون الموضوع محفوظا، وليس الواقع في المورد
كذلك.
وإن قلنا بأن الإجازة ناقلة، أو كاشفة بمعنى الكشف الحكمي
- أي ترتيب آثار النقل من حين العقد تعبدا فكل أثر أمكن التعبد به
فهو وإلا - فلا أثر للإجازة قطعا، لعدم وجود الملك حتى يجيز.
194

ولو تقارن الرجوع والإجازة فعلى الكشف لا أثر للرجوع،
ويحتمل عدم الأثر للإجازة، لأنه مع الرجوع لا ملك للثاني حتى يجيز،
وعلى النقل يتعارض الإجازة والرجوع، ولو أراد المالك الأول الرجوع
والإجازة تقدم.
لو امتزجت العينان
قال الشيخ " قده ": ولو امتزجت العينان أو أحدهما سقط الرجوع
على القول بالملك، لامتناع التراد.
أقول: تارة يكون المزج بحيث ينحفظ معه ملك كل واحد منهما،
وإنما يقع الاشتباه بين الملكين، وأخرى لا يمكن معه تمييز أحد الملكين
عن الآخر، وفي الصورة الثانية يمتنع التراد الخارجي، وربما يقال
بالتراد الملكي، ولكن اعتبار الملكية هنا بعيد عرفا.
ثم المزج تارة يكون مع مال ثالث، وأخرى مع مال المشتري،
وثالثة مع مال البائع. فإن امتزج المأخوذ بالمعاطاة بمال ثالث تحققت
الشركة بين صاحب المال والثالث، فيتبدل ملكه المفروز بملك مشاع
بين المالين، فلو رجع المالك الأول عن معاطاته فإن أراد التراد الخارجي
فهو غير ممكن، وإن أراد التراد الملكي فالمفروض عدم صلاحية المال
حينئذ للتميز والتملك ثانيا، وإن أراد التراد في الشركة فإن الشركة لم
تكن حاصلة بالمعاطاة حتى يرجع فيها، فظهر سقوط الرجوع.
وإن امتزج المأخوذ بالمعاطاة عند المشتري بماله الشخصي،
195

فهو يملك بوحده مجموع المالين، فلا شركة. فلو أراد المعطي الرجوع
في معاطاته لم يمكن التراد الخارجي ولا الملكي لعدم التمييز، ولا
الملك بالإشاعة لتغير سبب الملكية، وكذا الملكية نفسها.
وإن امتزج بمال البائع كان المتعاطيان شريكين، لكن هذه الملكية
جاءت بسبب الامتزاج بين المالين، فهي ملكية مشاعة لكل واحد منهما،
وليس للبائع الرجوع لتغير سبب الملكية، فإنه حينئذ هو الشركة بعد
أن كان التعاطي.
ثم قال الشيخ " قده ": ويحتمل الشركة، وهو ضعيف.
أقول: إن كان وجه الاحتمال التراد أولا - بالتراد الملكي - ثم
الشركة، فقد ذكرنا عدم امكان التراد لعدم التمييز، وإن كان التراد
بمعنى ارجاع النصف المشاع - بأن يقال عرفا بأنه رجع ما كان له إليه -
فهذا لا يمكن التصديق به. فاحتمال الشركة ضعيف.
قال الشيخ " قده ": أما على القول بالإباحة فالأصل بقاء التسلط
على ماله الممتزج بمال الغير، فيصير المالك شريكا مع مالك الممتزج
به. نعم لو كان المزج ملحقا له بالاتلاف جرى عليه حكم التلف.
أقول: الامتزاج يوجب الشركة قهرا، لأنه كان يملك - من قبل -
ماله المفروز، والآن - بعد المزج - يشترك مع مالك المال الآخر في
المجموع، فكل واحد منهما يشارك الآخر في ملكية كل جزء جزء من
مجموع المالين، نظير ما لو باع الانسان النصف المشاع من ماله،
فإنه والمشتري يشتركان في تملكه مشاعا، وعليه فالامتزاج ليس بحكم
التلف.
196

نعم، لو كان المزج ملحقا للمال بالاتلاف جرى عليه حكم التلف،
كأن يمزج نصف كيلو من الجلاب بعشرة أمنان من اللبن، فإنه يجري
عليه حكم التلف لصدقه عليه.
فعلى الإباحة تتحقق الشركة كما ذكر، ولكل واحد التصرف
في المال، لقاعدة السلطنة المحكمة في المقام بلا اشكال، من دون حاجة
إلى استصحاب السلطنة، بل لا يجري استصحابها، لأن ما كان يملكه سابقا
كان مفروزا والآن مشاع فالموضوع متبدل. فظهر ما في قوله قده " فالأصل. "
هذا بناءا على التسلط الحكمي.
وأما بناءا على التسلط الخارجي فلا تجري القاعدة، لأن التصرف
في المال الخارجي يستلزم التصرف في مال الغير، لفرض الإشاعة في
كل جزء جزء، ولذا نحكم بلزوم الإذن له به من شريكه. كما أن
استصحابها لا يجري في هذه الصورة أيضا كذلك.
هذا بناءا على أن الإباحة للمباح له بمعنى إباحة جميع التصرفات،
بحيث يسقط المبيح سلطنة نفسه على ماله إلا من جهة الفسخ نظير الوكالة،
حيث يجعل الوكيل قائما مقامه في جميع الشؤون، لكن له عزله عن
الوكالة، لكن الوكالة لا تنافي اختيار الموكل في الموكل عليه كما هو
واضح.
وأما بناءا على كون الإباحة هذه كإباحة الطعام للأكل، فلا مانع
من التصرف من غير توقف على الإذن، ومجرد هذا التصرف منه مبطل
للإباحة كما لا يخفى.
197

لو تصرف في العين تصرفا مغيرا
قال: ولو تصرف في العين تصرفا مغيرا للصورة.. فلا لزوم
على القول بالإباحة.
أقول: وجه عدم اللزوم بناءا على القول بالإباحة، هو بقاء الإباحة
المعاطاتية وجواز الرجوع فيها. ويحتمل أن يكون الوجه في ذلك عدم
تغير المأخوذ بالمعاطاة بتغير الوصف، بل أهل العرف يحكمون بوحدته،
فالإباحة باقية وله الرجوع عنها. نعم لو رأى المغايرة وقال بأن الذي
أعطيت وأبحت التصرف فيه كان حنطة وهذا طحين وليس بحنطة، لم
تبق الإباحة البتة.
وكيف كان فإن التصرف المبيح في هذا المال جائز، لأن له
الرجوع عن الإباحة لو كانت باقية، ومع عدمها فإنه ماله، فيكون نظير
الإذن بالتصرف في ماله خالصا ثم امتزاجه بغيره حيث لم يأذن بالتصرف
فيه حينئذ.
قال: وعلى القول بالملك ففي اللزوم وجهان مبنيان على جريان
استصحاب جواز التراد.
أقول: لقد كان جواز التراد متعلقا بالحنطة، لأنها التي وقعت
عليها المعاملة، وبعد الطحن يمكن الحكم ثبوتا بجواز التراد لبقاء العينين
ولو مع تغير حالهما، ويمكن الحكم بجوازه في حال بقائهما على
حالهما.
198

ومع الشك في كيفية الحكم اثباتا يتوقف جواز التراد على جريان
استصحابه حال كون المأخوذ متغيرا في صورته.
قال: ومنشأ الإشكال أن الموضوع في الاستصحاب عرفي أو
حقيقي.
وأورد عليه في منية الطالب: بأن استصحاب جواز التراد معارض
باستصحاب بقاء سلطنة المباح له واستصحاب بقاء المسمى على العوضية،
وليس بينهما سببية ومسببية، لكون كل منهما مسببا عن نحو الجعل الشرعي
ثبوتا.
أقول: على القول بعرفية الموضوع وتم الاستصحاب أمكن القول
- ظاهرا - بسببية بقاء الجواز الفعلي لخروج الملك، فلو رجع عاد
الملك وإلا فلا. نعم يبقى عليه أنه إذا كان هذا الاستصحاب نظير
استصحاب الكلي، بأن يقال: إن كان المراد هو الجواز المقيد فقد
زال قطعا، وإن كان المراد الجواز غير المقيد بتغير الصورة فهو باق
قطعا. فالحكم نفسه يدور أمره بين الأمرين، فلو أردنا اجراء الاستصحاب
لزم استصحاب الجامع وترتيب آثاره، لكن استصحاب جامع الحكم
وكليه فيه اشكال وخلاف.
والانصاف عدم ورود هذا الاشكال لعدم المعارضة، لأن جواز
التراد أثره الشرعي - في الحقيقة - كون المال ملكا له بالرد، لأن هذا
معنى الجواز.
هذا، ولا يرد على الشيخ " قده " الاعتراض بعدم الفرق بين الطحن
199

والمزج، حيث قال باللزوم في الثاني بناءا على الملك بخلاف الأول
فاحتمل فيه الوجهين، وذلك لامتناع التراد هناك بخلاف المقام،
فالفرق معلوم.
ثم إنه بناءا على التراد لا وجه للضمان بالمسمى - لو فرض تنزل
قيمة الشئ بتغير صورته - خلافا لبعضهم حيث حكم بذلك.
قال الشيخ " قده ": ثم إنك قد عرفت مما ذكرنا أنه ليس جواز
الرجوع في مسألة المعاطاة نظير الفسخ في العقود اللازمة حتى يورث
بالموت ويسقط بالاسقاط.
أقول: إن جواز الرجوع في المعاطاة ليس كالفسخ في العقود،
لأن الفسخ حق لذي الخيار، وأما في المعاطاة فإن الرجوع والتراد
حكم، فلا يورث بالموت. فلو مات أحد المتعاطيين لم يكن لوارثه
الرجوع فيها، كما أنه لا يسقط بالاسقاط كسائر الأحكام، فهو نظير الرجوع
في الهبة، فإنه لا يسقط بالاسقاط، وللواهب الرجوع فيها ما دامت العين
موجودة.
هذا على القول بالملك، وأما على القول بالإباحة فهو نظير
الرجوع في إباحة الطعام للأكل، بحيث يناط الحكم فيه بالرضا الباطني
من المالك.
وفيما إذا مات أحد المتعاطيين وانتقل المأخوذ بالمعاطاة إلى
وارثه، لم يكن للمالك الأول الرجوع - بناءا على القول بالملك -
لأنه وإن كان له الرجوع سابقا، لكن جواز التراد له كان بالنسبة إلى
200

طرفه الذي ملكه بالمعاطاة، والوارث قد ملك العين بالإرث، نطير
ما إذا باع أحدهما ما بيده لثالث، فإنه ليس للأول مراجعة الثالث، لأنه
قد ملكها بالبيع والشراء، وقد كان جواز التراد الثابت له بالنسبة إلى
طرفه الذي ملكه إياها بالمعاطاة.
وأيضا فإن " التراد " يتقوم برد الملك من الطرفين، والمفروض
موت أحدهما، وانتقال ملكه إلى الوارث، فالموضوع منتف.
لو جن أحد المتعاطيين
قال الشيخ " قده ": ولو جن أحدهما فالظاهر قيام وليه مقامه
في الرجوع على القولين.
أقول: لو جن أحد المتعاطيين، فعلى القول بالملك قيل يشترط
في بقاء جواز الرجوع عدم تغير وصف المتعاطيين أو أحدهما - كالمالين -
فلو جن لم يجز. وفيه نظر، واستصحاب جواز الرجوع موجود،
غير أن المباشر به هو وليه.
وأما على القول بالإباحة ففيه اشكال بناءا على مختار الشيخ " قده "
من أنه كالإذن في أكل الطعام، إذ لا اشكال في بطلان الإذن في الأكل
بالجنون، وحينئذ ليس لوليه الإذن من جهة المعاطاة، وكذا جميع العقود
الإذنية. وهل لوليه التصرف في مال الآخر حينئذ؟
فيه اشكال، لأن الإباحة إذا بطلت من طرف بطلت من الطرف
الآخر، لأنها إباحة في مقابل إباحة.
201

هذا بناءا على الإباحة المالكية، وأما بناءا على الإباحة الشرعية
فيمكن أن يقال: إن الشارع جعل حكم الإباحة للمتعاطيين بأن يكون
مال كل منهما مباحا للآخر، فإن كان تغير وصفهما أو أحدهما مانعا من
الرجوع فهو وإلا فلا مانع، ولو شك استصحب جواز الرجوع، وليست
المباشرة فيها شرطا، فلوليه ذلك.
202

الأمر السابع
(هل المعاطاة اللازمة بيع أو معاملة مستقلة؟)
وهل تكون المعاطاة اللازمة بأحد الأمور المذكورة بيعا أو
تكون معاوضة مستقلة؟
قال الشهيد الثاني " قده ": يحتمل الأول، لأن المعاوضات
محصورة وليست هذه إحداها، وكونها معاوضة برأسها يحتاج إلى
دليل. ويحتمل الثاني، لاطباقهم على أن المعاطاة ليست حال وقوعها
بيعا، فيكف تصير بيعا بعد التلف.
قال الشيخ " قده ": وهذا يتم بناءا على القول بالإباحة، وأما
على القول بالملك فإنه من أول الأمر بيع يفيد الملك المتزلزل، فإذا
لزم بتحقق أحد الملزمات ترتبت عليه آثار البيع من الخيارات وغيرها.
اللهم إلا ما كان مختصا منها بالبيع اللازم من أول الأمر.
أقول: وعلى الإباحة فإن كانت من طرف واحد فلا معاوضة، وإن
203

كانت من الطرفين فهي معاوضة، وهل هي بيع؟ لقد تقدم أن البيع مبادلة
مال بمال، وهذه ليست كذلك، فتكون معاوضة مستقلة، لكن المعاوضات
محصورة وليست هذه إحداها، فتكون ملحقة بالبيع.
ويجري النزاع - على القول بالإباحة - بناءا على حصول الملكية
آنا ما قبل التلف ونحوه - لأن التضمين بالمسمى تتحقق به المعاوضة،
ولكن هل هو بيع؟ يمكن أن يقال بأنه بيع، وذلك لتحقق ملاكه هنا،
ويمكن أن يقال بأن التمليك يجب أن يكون بالانشاء ولا يكون التلف
مملكا.
هذا، فإن كانت الإباحة مالكية من الطرفين فليست بيعا، بل
هي معاوضة مستقلة، ويمكن دعوى لزومها بعد التلف للسيرة القائمة
على التضمين بالمسمى بالتلف. نعم يجري البحث المذكور فيما إذا
قلنا بالملكية آنا ما قبله.
وإن كانت الإباحة شرعية، فإن قلنا بأن الشارع يصحح ويمضي
ما قصداه - وهو التمليك عند التلف - فإنه بيع وتترتب عليه الآثار
(فكأن الشارع يشترط في نفوذ مقصودهما تحقق أحد الملزمات، نظير
شرطية القبض في المجلس في الصرف والسلم).
اللهم إلا أن يقوم دليل
على ثبوت خيار في البيع اللازم من حين الانعقاد.
قال الشيخ " قده ":.. عدا ما استفيد من دليله ثبوته للبيع
العقدي الذي مبناه على اللزوم لولا الخيار.
أقول: أي لأنه ليس هنا بيع عقدي بل معاطاة، وهي جائزة
لا لازمة شرعا.
204

قال: وقد تقدم أن الجواز هنا لا يراد به ثبوت الخيار.
قال المحقق الأصفهاني " قده ": وفيه أن الجواز المقابل للزوم
حيث أنه فيها بمعنى جواز التراد فقط، فهي لازمة في قبال جواز فسخ
السبب، فتندرج تحت عنوان البيع اللازم لولا الخيار.
أقول: إن كان التراد نظير الأخذ بالشفعة - حيث يتملك الشفيع
ولا يفسخ معاملة شفيعه البائع - فيكون لازما ويأتي فيه الخيار. صح
كلامه " قده "، للفرق بين جواز الفسخ وجواز التراد. إلا أنه قد تقدم
أن الدليل إن استفيد منه كونه في البيع الذي مبناه على اللزوم لولا
الخيار لم يثبت الخيار، إذ لا أثر لجعله في مورد يجوز فيه التراد.
قال الشيخ " قده ": وكيف كان فالأقوى أنها على القول بالإباحة
بيع عرفي لم يصححه الشارع ولم يمضه إلا بعد تلف..
أقول: يعني أنها على القول بالملك بيع تترتب عليه الآثار،
عدا ما اختص منها بالبيع العقدي الذي بنى على اللزوم، وأما على القول
بالإباحة فالأقوى أنها بيع، لكن لم يصححه الشارع ولم يمضه قبل
تحقق أحد الملزمات، مع قصدهما البيع والتمليك - وبعد الملزم تترتب
عليه الآثار عدا ما كان منها مختصا بالبيع الواقع صحيحا من أول الأمر.
وبالجملة لا اشكال في جواز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة للسيرة
والاجماع، ويتوقف ترتب الآثار - على الإباحة مطلقا - على تلف أحد
العينين أو نحو ذلك، عدا ما كان مختصا بما ذكر.
هذا، ولا معنى لثبوت الخيار في المورد الذي لا يجب الوفاء فيه؟
205

ولذا نقول إن عبارة الشيخ " قده " توضيحية. نعم يمكن أن يقال بصحة
جعله في مورد يكون فيه اللزوم، سواء بالذات كالبيع العقدي، أو
بالعرض كالمعاطاة التي تلزم بالتلف.
والمحكي عن حواشي الشهيد إن المعاطاة معاوضة مستقلة جائزة
أو لازمة. وفيه: أن القائل باللزوم يقول بأنها بيع، فلا تكون معاوضة
مستقلة. نعم لعله يريد الجواز قبل التلف واللزوم بعده.
وذكر الشيخ " قده " تنزيل كلامه على القول بالإباحة، ثم حمل
" اللزوم " على " الإباحة اللازمة "، ولا تلازم بين القول باللزوم وإفادة
الملك.. فهو عقد مستقل لا يفيد الملك، فإن لزم كانت إباحة لازمة.
وقد أورد عليه بأنه بناءا على هذا كيف يتصرف فيه التصرفات
الموقوفة على الملك؟ فلا بد من القول بأنه بيع يفيد الملك.
وقد يجاب بالالتزام بالملكية آنا ما قبل التصرف، ولكن هذه
الملكية حاصلة لا بالمعاملة، بل بسبب نفس التصرف والإذن فيه بمعنى
إن الإذن في التصرف الموقوف على الملك إذن في التملك قبل التصرف.
206

الأمر الثامن
(في أثر الانشاء القولي غير الصحيح)
لا اشكال في تحقق المعاطاة بما إذا تحقق انشاء التمليك أو الإباحة
بالفعل، وهو قبض العينين واقباضهما من الطرفين، كما لا اشكال في
تحقق البيع بالانشاء القولي الجامع للشرائط المعتبرة.
أما لو أنشأ بالقول غير الصحيح فهل يترتب عليه الأثر كالانشاء
بالصحيح؟ وإن لم يكن كالصحيح فهل يكون كالفعل بأن تكون المعاطاة
أعم حكما من الفعل والقول غير الصحيح؟ وإن كان كالمعاطاة فهل
يشترط القبض والاقباض بعد القول - كما هو في المعاطاة - أولا يشترط؟
أو أنه لا يترتب على القول غير الصحيح شئ أصلا؟
قال الشيخ بأنه بيع عرفي، والقدر المتيقن من الاجماع على
اشتراط اللزوم بالقول وجود اللفظ، فهو بيع عرفي لفظي، ويترتب
عليه الأثر كالعقد الصحيح.
207

وذهب المشهور إلى اشتراط وجود اللفظ الصحيح الجامع
للشرائط المعتبرة، فلا يفيد الملك اللازم، فهل يفيد الملك المتزلزل
- كالمعاطاة - أو أنه باطل؟ قال جماعة بالأول، منهم المحقق الثاني
في صيغ العقود، قال: لو وقع العقد بغير ما ذكر كان معاطاة، أي سواء
حصل القبض والاقباض أولا، وفي الروضة الأخرس يترتب على إشارته
حكم المعاطاة.
وقيل: إنه عقد فاسد، والمأخوذ به فيه الضمان كسائر العقود
الفاسدة.
وقد أورد المحقق الخراساني " قده " على قول الشيخ: " فإن قلنا
بعدم اشتراط اللزوم بشئ زائد على الانشاء اللفظي كما قويناه سابقا،
فلا اشكال في صيرورة المعاملة بذلك عقدا لازما " فقال: بأنه خلف
للفرض، لأنه إن كان فاقدا لشرائط اللزوم لم يبق مورد لقولكم " فإن
قلنا. " وإلا فهو لازم.
قال: ثم إن الفاقد لشرائط اللزوم إن كان واجدا لجميع ما يعتبر
في الصحة عند الجميع فلا يعقل أن يحتمل أن يكون من باب المعاطاة
التي هي محل الخلاف، وإن كان فاقدا لبعض ما يعتبر فيها كذلك
فكذلك، وإن كان فاقدا لبعض ما يعتبر عند البعض دون الآخر فيكون
فاسدا عند من اعتبره وصحيحا عند غيره فكذلك أيضا. فلا وجه للترديد
المذكور.
أقول: ظاهر عبارة الشيخ بقرينة قوله " وإن قلنا بمقالة المشهور "
208

أنه أراد من قوله أما إذا حصل بالقول الغير الجامع لشرائط اللزوم هو
غير الجامع على المشهور. وعليه فاندفاع هذا الايراد ظاهر، لأن
الشيخ " قده " يريد أنه - على تقدير عدم اشتراط غير اللفظ للزوم -
كما هو المختار لو فقد اللفظ الصحيح كان العقد لازما، أي أن العقد
الفاقد للفظ الصحيح يترتب عليه الأثر كالواجد، فلا خلف. وأما بناءا
على اعتبار أمور غير اللفظ في اللزوم - كما عليه المشهور - فما هو مقتضى
القاعدة لو فقد اللفظ الصحيح؟.
ثم قال المحقق المذكور: وإنما يصح الترديد في تمشية النزاع
والخلاف في الانشاء القولي فيما إذا جعل المحل الانشاء بصيغة كذا
أو بغير صيغة كذا، فيصح حينئذ أن يردد في أنه كالانشاء بالمعاطاة.
أقول: إن الشيخ " قده " لما يقول: هل هو كالمعاطاة أو لا؟
لا يقصد فرض الصحة أو فرض عدمها، فليس لكلامه مفهوم، بل يريد
أنه مع فقده لشرائط اللزوم هل يكون كالمعاطاة - أي هو صحيح -
أو هو فاسد؟ وبعبارة أخرى: أنه مع عدم اللزوم هل الصحة موجودة
- فيكون كالمعاطاة - أو الصحة منتفية أيضا؟ فليس البحث مع العلم
بوجدانه شرائط الصحة أو فقده لها حتى يرد اشكاله ثم يقول: وإنما
يصح الترديد.
وقد أجاب المحقق الأصفهاني " قده " عن الاشكال بأن الشيخ
لا يجعل في هذا الكلام شرائط اللزوم عنوانا، بل هو معرف. فمراده
من فقدان شرائط اللزوم أنه إن وقعت الصيغة لا بلفظ الماضي - مثلا -
209

فهل يكون العقد هذا كالمعاطاة أو لا؟
أقول: لقد وجه هذا المحقق عبارة الشيخ بحيث يرتفع الاشكال
عنها، ويكون مراده كمراد المحقق الخراساني في قوله " وإنما يصح. "
لكن جعل " شرائط اللزوم " معرفا لا عنوانا خلاف الظاهر.
ثم إنه لا يصح الجمع بين كلام المحقق الثاني والروضة وبين
القول بفساد هذا العقد وكونه المأخوذ به مضمونا عليه، بأن يقال بأن
الأول ناظر إلى المورد الواجد لسائر الشرائط إلا الانشاء الصحيح،
والثاني إلى ما ليس كذلك، ووجه العدم أن الحكم بالفساد - في القول
الثاني - جاء بعد ذكر شرائط العقد.
وربما يجمع بينهما بأن القائل بأنه معاطاة يقول به في صورة
تحقق الاعطاء من الطرفين ولو مبنيا على العقد، أي - بقصد الوفاء به -
مع الرضا بالتصرف لو علما أو علم أحدهما بالفساد، والقائل بالبطلان
يقول به في صورة كون الرضا بالتصرف مقيدا بصحة العقد ونفوذه.
وقد أشكل عليه الشيخ " قده " بأن الرضا بعد العقد إن كان بعنوان
التعاطي فهو معاطاة جديدة وأثرها الإباحة، فيكون الانشاء حينئذ بلا أثر
وإن كان بعنوان الوفاء بالعقد فلا أثر للرضا.
أقول: على أنه لا يخلو من تناقض، لأنه مع العلم بالفساد كيف
تكون المعاملة صحيحة؟ هذا إن أراد المعاملة السابقة، وإن أراد من
المعاملة الصحيحة معاملة جديدة فهو خروج عن البحث.
210

قال المحقق الخراساني: يمكن أن يكون المراد من الصحة
أولا هو صحة العقد، وإذا انتفت هذه الصحة تمت صحة البيع المعاطاتي.
أقول: وهذا الحمل خلاف صريح العبارة، فإن مراده من
انتفاء الصحة هو انتفاء الملكية لا انتفاء صحة العقد. ولكن كلامه " قده "
صحيح في حد نفسه، وهو نفس كلام السيد " قده " في وجه الجمع
الآتي ذكره.
قال السيد ما ملخصه: أنه إن باع بالصيغة الفاقدة للشرائط وكان
مقصوده ايجاد البيع اللازم - ولذا اختار البيع بالصيغة دون البيع
بالفعل - كان عقدا غير لازم عند المشهور، وكان المأخوذ به كالمأخوذ
بالعقد الفاسد، وإن باع وأنشأ العقد كذلك لكنه غير قاصد للزوم بل إنشاء
التمليك فقط لم يكن مانع من الصحة، لأن القدر المتيقن من مذهب
المشهور عدم اللزوم، فهو بيع صحيح متزلزل.
قال الشيخ " قده ": وتفصيل الكلام..
أقول: مورد البحث ما إذا أنشأ المتعاملان بالعقد الفاقد لبعض
شرائط الصيغة وحصل تقابضهما. فإن كان التقابض منهما أمرا مستقلا
عن الانشاء الناقص الصادر منهما أفاد المعاطاة وترتب عليه الأثر، لأن
سبق عقد باطل غير ضار به وإن كان بعنوان الوفاء بالعقد - مع جهلهما
ببطلانه، أو علمهما به ولكن فعلاه تشريعا - كان مورد الكلام في ترتب
أثر المعاطاة وعدمه مطلقا أو على تقدير.
211

تارة يكون التقابض مع الرضا بالتصرف من الطرفين مبنيا على
حصول التمليك والتملك بسبب العقد ووفاءا به جهلا أو تشريعا، وهذا
لا يترتب عليه أثر المعاطاة، بل حكمه حكم المأخوذ بالعقد الفاسد.
وأخرى يكون التقابض والرضا، لكن الرضا منهما مطلق - أي سواء
أفاد العقد السابق شيئا أولا - وبدون قصد للتمليك والتملك، فهل يترتب
عليه أثر المعاطاة؟
قيل: بكفاية هذا الرضا، لعموم " لا يحل مال امرئ إلا بطيب
نفسه " وإنما لم يتمسك بأدلة البيع لأنه ليس ببيع - ولكن هل مجرد
طيب النفس كاف لحصول الملكية حتى يتمكن من التصرفات الموقوفة
عليها؟ التحقيق عدم إفادة الاستثناء لهذا العموم، بخلاف الجملة
المستثنى منها. وعليه فطيب النفس يؤثر في التصرفات غير الموقوفة
على الملك.
إذن لا مانع من القول بأن الاقباض مع الرضا كالمعاطاة وترتيب
أثرها عليه إن أريد منه الإباحة المالكية، وأما لو أريد الإباحة الشرعية
فلا، فلا يترتب جميع أحكام المعاطاة من كون ملزماتها ملزمة هنا،
ونحو ذلك.
لكن الشيخ " قده " لم يستبعد ذلك، وقد جعل المورد نظير
التصرف في الماء وأخذ البقل من الدكان ووضع الثمن في الكوز.
والانصاف أنه مشكل، والفرق بين الموردين واضح، لوجود
الانشاء هناك من طرف، ولاحتمال التوكيل بالتصرف. بخلاف الأمر
في المقام كما لا يخفى.
212

تذنيبان
(الأول) لم يتعرض الشيخ " قده " لحكم نماء المأخوذ بالمعاطاة
وقد تعرض له السيد " قده "، فنقول: أما على القول بالملك فلا اشكال
في أنه للآخذ، فلو فسخ لم يكن له استرجاع النماء المنفصل، وأما
المتصل فإن كان من قبيل السمن فيعود تبعا للعين بالفسخ إلى المالك الأول
- كما هو الحكم في البيع الخياري - وإن كان من قبيل الشعر واللبن
ففيه قولان، ولو شك فالأصل عدم العود إلى المالك الأول.
وأما على القول بالإباحة فلا اشكال في أن النماء للمالك الأول
مطلقا.
(الثاني) قيل بالفرق بين المعاطاة في البيع والمعاطاة في القرض
بعدم الاشكال في الأول بخلاف الثاني فلا بد من أن يكون بالصيغة وإلا
لم يتملك المأخوذ.
أقول: إن أريد أن أدلة المعاطاة تجري في كل مورد كان فيه
العطاء من الطرفين، فلا تشمل المورد الذي يكون فيه أحدهما معطيا
والآخر آخذا، فيمكن قبول الفرق بين البابين. وعليه لا تجري في
بيع النسيئة أيضا لعدم التعاطي من الطرفين.
وإن أريد غير ذلك فلا فرق بين البابين من جهة أخرى أصلا،
والآثار كلها مترتبة على القرض المعاطاتي.
213

قال الميلاني: هذا آخر الجزء الأول من الكتاب، ونسأل الله
عز وجل أن يطيل بقاء سيدنا الأستاذ وأن يوفقنا لمزيد الاستفادة من
محضره الشريف. وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
214