الكتاب: مصباح الفقاهة
المؤلف: السيد الخوئي
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى المحققة
سنة الطبع:
المطبعة: العلمية - قم
الناشر: مكتبة الداوري - قم
ردمك: ٩٦٤-٩٠٩٠-٠١
ملاحظات: تقرير أبحاث سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (وفاة ١٤١١)

مصباح الفقاهة
1

خوئي، أبو القاسم 1278 - 1371
مصباح الفقاهة: تقرير أبحاث سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي
(قدس سره)
بقلم محمد علي التوحيدي التبريزي - قم داوري، 1377.
5 ج
15000 ريال (هر جلد) (دوره) isbn 964 - 9090 - 0 1
فهرست نويسى بر أساس اطلاعات فيپا (فهرست نويسي پيش از انتشار).
أين كتاب در سالهاى مختلف توسط ناشرين مختلف منتشر گرديده است.
كتابنامه
1 - معاملات (فقه) ألف - توحيدي، محمد على، 1303 - 1353، محرر بعنوان
6 م 9 خ / Br 190 373 / 297
1377 11456 - 77 م
هوية الكتاب:
اسم الكتاب: مصباح الفقاهة ج 1
المؤلف: الشيخ محمد على التوحيدي
الناشر: مكتبة الداوري - قم - تليفون 732178
شابك: 5 - 2 - 90950 - 964 - (vol SET. 5)
المطبعة: العلمية - قم
الطبعة: الأولى المحققة
العدد: 1000 نسخة
2

مصباح الفقاهة
تقرير أبحاث
سماحة آية الله العظمى
السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره
بقلم
الشيخ محمد علي التوحيدي
الجزء الأول
منشورات مكتبة الداوري
قم / إيران
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمد وآله واللعن علي أعدائهم.
يسرنا أن نقدم لرواد الفقه الجعفري كتاب " مصباح الفقاهة " وهو يحكي عن آراء سماحة
آية الله العظمى السيد الخوئي " قدس سره " حول كتاب " المكاسب " شيخ الأعظم الأنصاري " قده " وقد حررها فضيلة العلامة الحجة المرحوم المغفور له الشيخ محمد علي التوحيدي التبريزي
" ره " بقلم رشيق وأسلوب شيق.
وبما أن الكتاب طبع قسم منه (المكاسب المحرمة وشطر من البيع) في حياة المؤلف " ره " و
القسم الآخرة (بقية البيع وقسم الخيارات) لم يطبع إلا بعد وفاته، ولم يقم أحد بتنسيق الكتاب
بالأسلوب الفني من تخريجات وتدقيق المتن، فلذا أصبح الكتاب كثير الأغلاط بحيث يتعب
القارئ بمطالعته ولا يرتاح في الاستفادة منها. إلى أن قام بهذا العمل القيم الأخ الفاضل الشيخ محمد
جواد القيومي فأخرجه بهذا الأسلوب البديع، حيث قام بتخريج مصادر الأقوال ومآخذ
الأحاديث والآيات، فخرج الكتاب (كما تراه) بكيفية راقية وأسلوب بديع وطبع أنيق من صف
الحروف الظريفة وورق ممتاز وتجليد فني.
عسانا أن نكون قدمنا خدمة يسيرة لفقه أهل البيت عليهم السلام ونسأل الله التوفيق
الأكثر لاحياء تراث فقه آل محمد عليهم السلام وأن يتقبل منا هذه الخدمة الضئيلة، إنه ولي التوفيق؟
الناشر
5

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين
وعلى عترته الطاهرين.
أما بعد، فمن أشرف العلوم قدرا، وأرفعها شأنا بعد العلم بالمعارف
الإلهية، هو العلم بالأحكام الشرعية، لأن بالعلم بها ينال سعادة الدنيا
والآخرة، ولمكان تلك الأهمية أتعب رجال العلم وحملة الدين
نفوسهم في تنقيح قواعده وتهذيب مداركه، وصنفوا فيه كتبا قيمة،
حتى أصبح في عصرنا الحاضر كتاب المكاسب للشيخ الأعظم
مرتضى الأنصاري قدس الله أسراره الزكية محطا للأنظار ومحورا
لأبحاث العلماء.
وممن عنى بهذا الكتاب وجعله محورا لمحاضراته الفقهية هو أستاذ
الفقهاء والمجتهدين، العلامة الورع والمحقق البارع، آية الله العظمى
سيد مشائخنا السيد أبو القاسم الخوئي قدس الله سره، وهذا الكتاب
تقرير أبحاثه الفقهية على هذا الكتاب.
قد وفقه الله لتربية جم غفير من أفاضل الطلاب في النجف الأشرف،
وألقى محاضرات كثيرة في الفقه والأصول والتفسير، قال نفسه في
معجمه الكبير:
7

فألقيت محاضراتي في الفقيه (بحث الخارج) دورتين كاملتين
لمكاسب الشيخ الأعظم الأنصاري قدست نفسه، كما درست جملة من
كتب أخرى، ودورتين كاملتين لكتاب الصلاة، وشرعت في 27 ربيع
الأول سنة 1377 ه‍ في تدريس فروع العروة الوثقى لفقيه الطائفة السيد
محمد الكاظم الطباطبائي، مبتدءا بكتاب الطهارة، حيث كنت قد
درست الاجتهاد والتقليد سابقا، وقطعت شوطا بعيدا فيها، والحمد
لله حيث وصلت إلى كتاب الإجارة فشرعت فيه في يوم 26 ربيع الأول
سنة 1400 ه‍، وقد أشرفت على انجازه الآن في شهر صفر سنة 1401 ه‍،
وألقيت محاضراتي في الأصول (بحث الخارج) ست دورات كاملات،
أما السابعة فقد تراكم أشغال المرجعية دون اتمامها، فتخليت عنها في
مبحث الضد... وقد قرر مجموعة كبيرة من أفاضل تلامذتي ما ألقيته
عليهم من دروس في الفقه والأصول والتفسير، وقد طبع جملة منه -
الخ.
في طليعة هؤلاء الأفاضل - كما قال قدس الله سره في تقريظه على هذا
الكتاب - العلامة المحقق الشيخ محمد علي التوحيدي التبريزي قدس
سره، وكفى في فضله ما قال أستاذه في حقه، ذكر بعض خواص تلاميذه
في بيان حالاته:
كان رحمه الله في التوكل والاعتماد على الله في جميع شؤون حياته
ممتاز في أقرانه، ومحبته بأهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) أيضا وافر،
وفي مدة إقامته في مدينة قم لا يترك زيارة كريمة أهل البيت (عليها السلام)
وقراءة زيارة الجامعة بعد صلاة العشاء، وفي التصرف في سهم الإمام
(عليه السلام) يحتاط غاية الاحتياط، وكان رحمه الله منيع الطبع ويحافظ شؤون
الروحانية بغاية الامكان.
8

وفي النجف الأشرف استفاد من محضر آية الله العظمى الميلاني
وآية الله العظمى الخوئي قدس الله أسرارهم، وأن السيد الخوئي أكثر
من تتلمذ عليه فقها وأصولا، وحضر محاضرات السيد الخوئي في
بحوث خارج الأصول ثلاثة دورات كاملات، كل دورة ست سنين،
ويكتب محاضرات أستاذه وأضاف في كل دورة ما ألقاها زيادة على ما
في الدورة السابقة.
وفي النجف الأشرف تتلمذ عليه عدة من الفضلاء الرسائل
والمكاسب والكفاية، وبعد تشرفه بمدينة قم له بحوث في خارج
الأصول والفقه والتفسير والفلسفة، واشتغل بكتابة حواشيه على العروة
الوثقى وبحوثه في خارج المكاسب، لكن عاجله المنون وهو في نضارة
أيامه.
بذل رحمه الله في تنظيم مصادر روايات مصباح الفقاهة وأقوال
العلماء غاية جهده، حتى أنه كتب في بعض المسودات على مصباح
الفقاهة بأنه فحص عشرة أيام للظفر ببعض الروايات، وفي بيان المطالب
يلاحظ الايجاز واحترز من التكرار، رحمة الله عليه رحمة واسعة
وجزاه عن العلم وأهله خير جزاء المحسنين.
أما هذا الكتاب، فهو كما قلنا تقرير أبحاث السيد الخوئي على
المكاسب، فقد ألف تقرير أبحاثه على هذا الكتاب في الدورة الأولى
العلامة الحجة السيد علي الحسيني الشاهرودي قدس سره، المسمى
بمحاضرات في الفقه الجعفري، لكنه لا يشمل كل المباحث ونهايته
البيع الفضولي، وتقرير الدورة الثانية فهو ما ألفه الشيخ العلامة محمد
علي التوحيدي المسمى بالمصباح الفقاهة وهو شامل لجميع
المباحث، ولأجل تتميم الفائدة جمعنا بين الكتابين، وذكرنا ما قاله
9

السيد الخوئي في الدورة الأولى ولم يذكره في الدورة الثانية في هامش
الكتاب، مقتصرا في ذلك على أهم الموارد.
وذكر السيد الخوئي (قدس سره) في كلامه أقوالا في تضعيف الرواة
وتوثيقهم وغيرها من المباحث الرجالية، وحيث إن بعضها مبتن على
أقواله (قدس سره) في الزمن السابق، وبعد تأليف معجمه الكبير عدل عن بعض
مبانيه، فقد أشرنا في الهامش إلى أقواله الجديدة، كعدوله عن توثيق
رجال كامل الزيارات، وعدوله عن تضعيف الحسين بن يزيد النوفلي
وموسى بن بكر الواسطي و...
ذكرنا في الهامش مصادر الروايات ومآخذ الأقوال المنقولة وسائر ما
يحتاج إليه من راجع الكتاب الحاضر، وأضفنا إلى ما ألفه المؤلف (رحمه الله)
بعض العناوين تسهيلا للمراجعة.
نسأل الله أن يتقبل منا بمنه وكرمه، إنه خير مجيب، والحمد لله رب
العالمين.
جواد القيومي الأصفهاني
9 / 9 / 1376
10

المكاسب المحرمة
11

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا إلى حقائق الايمان، وأنار قلوبنا بأنوار العلم
والعرفان، والصلوات الزاكيات على سيدنا ونبينا محمد، الصادع بالدين
الحنيف والشرع المنيف، وعلى آله الأطهار، الدعاة إلى الله والناشرين
لأحكام الله.
وبعد، فلما كان كتاب المكاسب الذي هو من مصنفات الشيخ الأعظم
الصناع الفذ والعلم الفرد، المحقق المؤسس، شيخ مشائخنا الأنصاري
قدس الله روحه، من أعظم الكتب الفقهية شأنا، وأكثرها مادة، وأمتنها
استدلالا، وأجزلها عبارة، كان هو المعول عليه في الدراسة الخارجية
عند البحث عن المعاملات، وقد جمع قدس الله روحه وأكرم مثواه بين
دفتي كتابه زبدة أفكار العلماء المتقدمين، وخلاصة أنظارهم الدقيقة،
وأضاف إليها من فكرته الوقادة وقريحته النقادة تحقيقات أنيقة وتأملات
رشيقة.
وبذلك كان الكتاب صحيفة ناصعة تمثل سداد الرأي ونتاج المجهود
الفكري في مراتبه الراقية، وعلماؤنا الأعلام قدس الله أسرارهم قد
أبدوا اهتماما خاصا بهذا الكتاب، وعنوا به عناية فائقة، وتعرضوا إليه،
13

وأوسعوه دراسة وشرحا وتعليقا حسب اختلاف أذواقهم في الشرح
والتعليق، وبذلك تكونت مجموعة نفيسة من الشروح لا يستغني عنها
الباحث ولا يتجاوزها المراجع المتأمل.
إلى أن ألقت العلوم الدينية زعامتها، وأسندت رئاستها إلى سيدنا
وأستاذنا، علم الأعلام آية الله الملك العلام، فقيه العصر وفريد الدهر،
البحر اللجي، واسطة قلادة الفضل والتحقيق، محور دائرة الفهم
والتدقيق، إمام أئمة الأصول، وزعيم أساتذة المعقول والمنقول،
المبين لأحكام الدين والمناضل عن شريعة جده سيد المرسلين، قدوة
العلماء الراسخين، أسوة الفقهاء العاملين، المولى الأعظم والحبر
المعظم مولانا وملاذنا الحاج السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي النجفي
أدام الله أيام إفاضاته ومتع الله المسلمين بطول بقائه.
وهو أدامه الله قد تعرض إلى الكتاب أثناء الدراسة الخارجية في
الحوزة المقدسة العلوية، وأوسعه تهذيبا وتنقيحا، وكشف النقاب عن
غوامضه، وأبان الموارد المعضلة منه، وأخذ بتلك المسائل والآراء
التي قيلت أو يمكن أن يقال، فصهرها في بوتقة خياله الواسع وفكره
الجامع، وأفرغها في قوالب رصينة، وشيدها على أسس متينة، وكان
النتاج درة لماعة على مفرق التشريع الاسلامي والفقه الجعفري.
وكنت ممن وفقه الله للاستفادة من محضره الشريف، والارتواء من
منهله العذب، فجمعت في هذا المختصر ما استفدته من تلك الأبحاث،
ثم عرضت ذلك على السيد الأستاذ دام ظله، فراجعه مراجعة كاملة،
وكرر النظر في أبحاثه وفصوله.
وها أنا ذا أقدم كتابي هذا: مصباح الفقاهة إلى أرباب العلم والفضيلة،
آملا أن يقع ذلك منهم موقع القبول، وجعلت عملي هذا خالصا لوجهه
الكريم، سائلا منه أن يجعل ذلك ذخرا ليوم لا ينفع مال ولا بنون.
14

وقد كان المؤلفون القدماء كثيرا يقولون: إن أسواق العلوم كاسدة
وتجارتها غير مربحة، وأن الناس قد رغبت عنها إلى ملاذ الدنيا
وشهواتها، وقصرت بأنظارها إلى الحطام العاجل والعرض الزائل،
وأنهم قد استأثروا الكسل على الجد والنوم على السهر والراحة على
العمل، وأن الدنيا قد أدبرت عن ورثة الرسالة وأصحاب الأمانة، وأمثال
هذه الكلمات صارت عنوانا لفواتح الكتب ومستهلات الخطب
والرسائل.
وأما نحن، فلنا أن نفتخر بحمد الله وأفضاله على هذا العهد الزاهي،
الذي ازدهرت فيه أنوار العلوم، وأشرقت فيه شموس المعارف،
وأصبحت الأمم من كل حدب وصوب يتجهون إلى هذه المدينة
المقدسة، مدينة سيد العلماء على الاطلاق بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وازدحمت
المدارس بطلابها، وضاقت بهم أرجاؤها، نحمده تعالى على هذه
الموهبة الجليلة والنعمة الجسيمة، ونسأله أن يوفقنا لخدمات الدين
واحياء شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، وأن يجعلنا من المشمولين لقوله عز
من قائل: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات،
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.
محمد علي التوحيدي
15

بسم الله الرحمن الرحيم
فيما يرجع إلى الروايات
1 - رواية تحف العقول:
قوله (رحمه الله): وروي في الوسائل (1).
أقول: المذكور في تحف العقول والبحار (2) يشتمل على زيادات،
وقد أسقطها المصنف، وربما يخل بالمقصود، وما في حاشية العلامة
الطباطبائي (3)، من أنه لا يتغير بها المعنى المراد، فيظهر لك ما فيه مما
سيأتي.
بحث وتحقيق:
اعلم أن هذه الرواية وإن كانت حاوية للضوابط الكلية والقواعد
الكبروية، الراجعة إلى إعاشة عالم البشرية، من حيث تدينهم بالأحكام الشرعية، إلا أنه لا يمكن تصدير الكتاب بها لأجل أخذها مدركا
للأبحاث الآتية، ودليلا لأحكام التجارة، جزئيها وكليها، بل لا بد في
كل مسألة من ملاحظة مداركها بالخصوص، فإن كان فيها ما يدل على
المنع أخذ به، وإلا فالعمومات الدالة على صحة المعاملات محكمة.

1 - الوسائل 17: 83.
2 - تحف العقول: 331، عنه البحار 103: 45.
3 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 2.
17

الوجوه الدالة على عدم جواز التمسك بها:
وإنما لم يجز التمسك بهذه الرواية لوجوه:
1 - قصورها من ناحية السند وعدم استيفائها لشروط حجية أخبار
الآحاد، فإن راويها أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني
أو الحلبي، وإن كان رجلا وجيها فاضلا جليل القدر رفيع الشأن، وكان
كتابه مشتملا على الدرر اليواقيت من مواعظ أهل البيت (عليهم السلام)، وقد
اعتمد عليه جملة من الأصحاب (1)، إلا أنه لم يذكرها مسندة بل أرسلها

1 - قال المجلسي في البحار: كتاب تحف العقول، عثرنا منه على كتاب عتيق، أن نظمه
يدل على رفعة شأن مؤلفه، وأكثره في المواعظ، ومن الأصول المعلومة التي لا نحتاج فيها إلى
سند (البحار 1: 29).
قال المحدث الحر العاملي في أمل الآمل في حقه: فاضل محدث جليل، له كتاب تحف
العقول عن آل الرسول (عليهم السلام)، حسن، كثير الفوائد، مشهور - الخ (أمل الآمل 2: 74، الرقم: 198.
قال المحدث القمي في الفوائد الرضوية (109): أبو محمد شيخ فاضل محدث عالم عامل
فقيه جليل، ثم نقل عن صاحب التكملة عن الحسين بن علي بن الصادق البحراني أنه من قدماء
الأصحاب حتى أن شيخنا المفيد ينقل عنه، وهو كتاب لم يسمح الدهر بمثله (الفوائد الرضوية
: 109)، وهكذا المحدث الطهراني في الذريعة 3: 400.
وقال السيد حسن الصدر في تأسيس الشيعة: شيخنا الأقدم وإمامنا الأعظم، له كتاب تحف
العقول في الحكم والمواعظ عن آل الرسول (عليهم السلام)، كتاب جليل لم يصنف مثله، وكان هذا
الشيخ جليل القدر عظيم المنزلة، وفي حقه يقول الشيخ العالم الرباني الشيخ حسين بن علي
ابن الصادق البحراني في رسالته في الأخلاق: 6 كتاب تحف العقول للفاضل النبيل - الخ
(تأسيس الشيعة: 413).
في رجال المامقاني: الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني أو الحلبي، قال في
روضات الجنات: أنه فاضل فقيه ومتبحر نبيه ومترفع وجيه، له كتاب تحف العقول عن آل
الرسول معتمد عليه عند الأصحاب (رجال المامقاني 1: 293).
إلى غير ذلك من كلمات الأعلام في اعتبار تحف العقول ووثاقة مؤلفه.
18

عن الصادق (عليه السلام)، فلا تكون مشمولة لأدلة حجية خبر الواحد،
لاختصاصها بالخبر الموثوق بصدوره.
ودعوى قيام القرينة على اعتبار رواتها المحذوفين جزافية، لأن
القرينة على اعتبارهم إن كانت هي نقله عنهم، فذلك ممنوع، لكون النقل
أعم من الاعتبار، فالالتزام بالأعم لا يدل على الالتزام بالأخص، وإن
كانت شيئا آخر غير النقل فلم يصل إلينا ما يدل على اعتبارهم.
ولو سلمنا ذلك فإنه لا يفيدنا بوجه، بل حتى مع تصريحه باعتبارهم
عنده، لأن ثبوت الاعتبار له لا يدل على ثبوته لنا ما لم يذكر سببه من
التوثيق لنلاحظه حتى يوجب ثبوته عندنا، فلعله يعتمد على غير خبر
الثقة أيضا.
وهم ودفع:
وربما يتوهم انجبار ضعفها بعمل المشهور، إلا أنه مدفوع لكونه
فاسدا كبرى وصغرى:
أما الوجه في منع الكبرى، فلعدم كون الشهرة في نفسها حجة، فكيف
تكون موجبة لحجية الخبر وجابرة لضعف سنده، وإنما الشهرة بالنسبة
إلى الخبر كوضع الحجر في جنب الانسان، فلا بد من ملاحظة نفس
الخبر، فإن كان جامعا لشرائط الحجية عمل به، وإلا فإن ضم غير حجة
إلى مثله لا ينتج الحجية.
لا يقال: إذا عمل المشهور بخبر كشف ذلك عن احتفافه بقرائن توجب
الوثوق قد اطلعوا عليها ولم تصل إلينا، فيكون الخبر موثوقا به، كما أن
اعراضهم عن الخبر الصحيح يوجب وهنه وسقوطه عن الاعتبار، ومن
هنا اشتهر في الألسن: أن الخبر كلما ازداد صحة ازداد باعراض المشهور
عنه وهنا.
19

فإنه يقال: مضافا إلى كون ذلك دعوى بلا برهان، ورجما بالغيب،
وعملا بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا، إن المناط في حجية خبر
الواحد هي وثاقة الراوي، ويدل على ذلك الموثقة التي أرجع الإمام
(عليه السلام) السائل فيها إلى العمري وابنه، حيث علل هذا الحكم فيها: بأنهما
ثقتان (1).
ويدل عليه أيضا الروايات المتواترة التي أرجع فيها إلى أشخاص
موثقين (2)، فإن من المعلوم أنه لا خصوصية لهؤلاء الرواة إلا من حيث

1 - عن الحميري عن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته وقلت: من
أعامل وعمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي، فما أدي إليك عني فعني يؤدي، وما
قال لك عني فعني يقول، فاسمع له فإنه الثقة المأمون، وقال: سألت أبا محمد (عليه السلام) عن مثل
ذلك فقال: العمري وابنه ثقتان المأمونان موثقتان (الغيبة للشيخ الطوسي: 215).
2 - عن شعيب العقرقوفي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ربما احتجنا أن نسأل عن الشئ
فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي يعني أبا بصير (رجال الكشي: 171، الرقم: 291).
عن يونس بن يعقوب قال: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع، أما لكم من
مستراح تستريحون إليه، ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري (رجال الكشي: 337،
الرقم: 620).
عن علي بن المسيب الهمداني قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقتي بعيدة ولست أصل إليك في
كل وقت فممن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريا بن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا (
رجال الكشي: 594، الرقم: 1112).
عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا (عليه السلام) قال: قلت:
لا أكاد أصل إليك أسألك عن كل ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمان ثقة
آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم (رجال الكشي: 490، الرقم: 935).
عن عبد العزيز بن المهتدي قال: قلت للرضا (عليه السلام): إن شقتي بعيد فلست أصل إليك في كل
وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولي آل يقطين؟ قال: نعم (رجال الكشي: 491، الرقم
: 938).
20

كونهم موثقين، إذن فالمناط هي الوثاقة في الراوي.
وعلى هذا، فإن كان عمل المشهور راجعا إلى توثيق رواة الخبر
وشهادتهم بذلك فبها، وإلا فلا يوجب انجبار ضعفه، ومن هنا يعلم أنه
بعد ثبوت صحة الخبر لا يضره اعراض المشهور عنه، إلا أن يرجع إلى
تضعيف رواته.
وبالجملة أن الملاك في حجية أخبار الآحاد هو وثاقة رواتها،
والمناط في عدم حجيتها عدم وثاقتهم، ولأجل ذلك نهي عن الرجوع
إلى من لا وثاقة له (1)، وتفصيل الكلام في الأصول.
وأما الوجه في منع الصغرى، فهو عدم ثبوت عمل المتقدمين بها،
وأما عمل المتأخرين فهو على تقدير ثبوته غير جابر لضعفها.
مضافا إلى أن استنادهم إليها في فتياهم ممنوع جدا، كما سيأتي، فإن
المظنون بل الموثوق به هو اعتمادهم في الفتيا علي غيرها، وإنما ذكروها
في بعض الموارد تأييدا للمرام لا ناسبا للكلام.
لا يقال: أن شرائط الحجية وإن كانت غير موجودة فيها إلا أن موافقتها
في المضمون مع الروايات الأخرى الصحيحة أو الموثقة توجب حجيتها
، على أن آثار الصدق منها ظاهرة.
فإنه يقال: إذا لم تستوف الرواية شرائط الحجية فمجرد موافقتها مع
الحجة في المضمون لا تجعلها حجة.

1 - عن علي بن سويد السائي قال: كتب إلى أبو الحسن (عليه السلام) وهو في السجن: وأما ما
ذكرت يا علي ممن تأخذ معالم دينك، لا تأخذن معالم دينك من غير شيعتنا، فإنك إن تعديتهم
أخذت دينك عن الخائنين الذين خانوا الله ورسوله وخانوا أماناتهم، أنهم ائتمنوا على كتاب
الله فحرفوه وبدلوه فعليهم لعنة الله ولعنة رسوله ولعنة ملائكته ولعنة آبائي الكرام، ولعنتي
ولعنة شيعتي إلى يوم القيامة (رجال الكشي: 3، الرقم: 4).
21

وأما قوله: إن آثار الصدق منها ظاهرة، فلا ندري ماذا يريد هذا القائل
من هذه الآثار: أهي غموض الرواية واضطرابها، أم تكرار جملها
وألفاظها، أم كثرة ضمائرها وتعقيدها، أم اشتمالها على أحكام لم يفت
بها أحد من الأصحاب ومن أهل السنة، كحرمة بيع جلود السباع
والانتفاع بها وامساكها وجميع التقلب والتصرف فيها، مع أن الروايات
المعتبرة إنما تمنع عن الصلاة فيها فقط لا عن مطلق الانتفاع بها، كموثقة
سماعة (1) وغيرها، وكحرمة الانتفاع بالميتة ولو كانت طاهرة، وسيأتي
خلاف ذلك في بيع الميتة، وكحرمة التصرف والامساك فيما يكون فيه
وجه من وجوه الفساد، وسيظهر لك خلاف ذلك من المباحث الآتية.
ومما ذكرنا ظهر عدم انجبارها بالاجماع المنقول على تقدير حجيته.
2 - إن فتاوى أكثر الفقهاء إن لم يكن كلهم لا تطابق بعض جمل الرواية
فكيف ينجبر ضعفها بالشهرة الفتوائية بينهم.
فإن مقتضى بعض فقراتها حرمة بيع النجس مطلقا، مع أنه لم يلتزم به
إلا النادر من الفقهاء، بل في بعض فقراتها حرمة إمساكه والتقلب فيه،
ولم يفت بهذا أحد فيما نعلم.
مضافا إلى أن ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما
تكليفيا، ويدل على ذلك من الرواية قوله (عليه السلام): فهو حرام بيعه وشراؤه
، وامساكه وملكه، وهبته وعاريته، والتقلب فيه.
فإن الامساك والتقلب يشمل جميع أنواع التصرف حتى الخارجي
منه، ولا معنى لحرمته وضعا، والفقهاء (قدس سرهم) لم يلتزموا في أكثر

1 - عن سماعة، قال: سألته عن لحوم السباع وجلودها، فقال (عليه السلام): وأما الجلود فاركبوا
عليها ولا تلبسوا منها شيئا تصلون فيه (الكافي 6: 541، الفقيه 1: 169، التهذيب 2: 205،
المحاسن: 629، عنهم الوسائل 4: 353)، موثقة.
22

المذكورات بذلك، وإنما ذهبوا إلى الحرمة الوضعية، واستفادوا ذلك من
النهي في أبواب المعاملات، نظير النهي عن البيع الغرري، فإن معناه
الارشاد إلى بطلان ذلك البيع، كما يأتي في محله إن شاء الله.
نعم لو توجه النهي بذات المعاملة مع إرادة ما يظهر منه من المولوية
لتوجه الالتزام بالحرمة التكليفية، كالنهي عن بيع الخمر، وسيأتي.
3 - إن التقسيم المذكور فيها لا يرجع إلى أمر محصل، وذلك يكشف
عن اضطرابها، فإن تربيع أقسام المعاملة المعاشية بجعل كل واحد من
الولايات والصناعات قسما مستقلا من تلك الأقسام في قبال التجارات
والإجارات لا يسلم عن التكرار.
أما الولاية فهي على قسمين، لأنها إما عامة ثبتت من الله كالنبوة
والإمامة، أو خاصة ثبتت من قبل الولاة العامة.
أما الولاية العامة فهي خارجة عن حدود الرواية، فإن التقسيم فيها
باعتبار المعاملة المعاشية، فالولاية العامة خارجة عنها تخصصا، وإنما
هي من المناصب الإلهية التي جعلت للعصمة الطاهرة.
وأما الولاية الخاصة فمن حيث جواز ارتزاق الولاة من بيت المال
تدخل تحت الإجارة المذكورة في الرواية، فلا تكون الولاية في مقابل
الإجارة قسما آخر، فإن المراد من الإجارة فيها ليس هي الإجارة
المصطلحة بين الفقهاء، ويدل على ذلك ادخال الجعالة تحتها وعدم
ذكرها في الرواية استقلالا.
وأما الصناعات، فإن كان المقصود منها الصناعات المصطلحة من
البناية والخياطة والنجارة ونحوها، فمن الواضح أنها ليست قسما من
المعاملات المشرعة للإعاشة، وإنما هي موضوع من الموضوعات، وإن
كان النظر فيها إلى الطواري والعوارض، من حيث إن من يتصف بها أما أن
23

يؤجر نفسه للغير لأجل ما عنده من الصناعة، وأما أن يجعل ما يحصله
منها ثمنا أو مثمنا في البيع، فعلى الأول تدخل تحت الإجارة وعلى
الثاني تحت التجارة، فلا تكون وجها آخر في قبالهما.
إلا أن يراد منها نفس الحرفة والصنعة مع تعميم المقسم إلى كل ما
يكون وسيلة إلى المعاش، فحينئذ يشملها المقسم لكونها من أعظم
الوسائل إلى التعيش.
وفيه: أنه بناء عليه لا يكون التقسيم المذكور في الرواية حاصرا،
لخروج كثير من وسائل الإعاشة عن المقسم، كالحيازات والنتاجات
والاصطياد، واحياء الموات واجراء القنوات والضيافات، وأخذ
الخمس والزكاة والصدقات.
وقد رد هذا الاشكال (1) بأن الحصر في الرواية إضافي، ولكن هذا الرد
فاسد فإنه ناشئ من الاغترار بما اشتهر في السنة الأدباء من حسبان
الحصر الإضافي قسما آخر يقابل الحصر الحقيقي، مع أن الحصر
لا يكون إلا حقيقيا، بل الالتزام بالحصر في مورد مع الالتزام بكونه إضافيا
لا حقيقيا التزام بالمتناقضين، كما هو واضح للناقد البصير.
نعم قد يكون الحصر في حصة خاصة، كما يقال: زيد أعلم من في
النجف، وقد يكون غير مقيد بحصة خاصة، فيسمي الأول إضافيا
والثاني حقيقيا، وهذا غير ما توهم.
وتوهم بعضهم (2) أن التقسيم فيها باعتبار المعاملات، وحينئذ
فلا يوجب حصرها في الأربع حصر كل طرق المعاش إليه.

1 - راجع حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 2.
2 - راجع حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 2.
24

ولكن هذا التوهم مما لا يصغي إليه بعد القطع بأن المعاملات
المنقسمة إلى الأقسام المذكورة ليست هي المعاملات المصطلحة كما
عرفت.
نعم لا يبعد أن يقال: إن التقسيم في الرواية بحسب المعاملات
المعاشية المعروفة، كما يدل على ذلك صدرها (1)، وقد أسقطه المصنف
تبعا لصاحب الوسائل.
وقد تحصل من مطاوي بعض ما ذكرنا عدم جواز الاستناد إلى شئ
من روايات تحف العقول في شئ من الأحكام الشرعية.
ومع ذلك لا ينقضي تعجبي من الشيخ حسين البحراني (رحمه الله) كيف
رضي القول بأنه كتاب لم يسمح الدهر بمثله (2)، مع أن الكتب المعتمدة
للشيعة نصب عينيه.
تذييل:
لا يخفى عليك أن المناسب تقسيم معائش العباد إلى قسمين: التجارة
بالمعنى الأعم والعمل، فإن الإعاشة العقلائية لا تخلو منهما، وأما مثل
التساؤل ونحوه فليس من الطرق العقلائية للإعاشة.
الإضافات الحاصلة بين المال والمالك:
لا يخفى عليك أن الإضافات الموجودة بين المال ومالكه المسماة
بالإضافات المالكية تكون على أنحاء، لأنها في دار تقررها أما إضافة ذاتية
تكوينية، وأما إضافة عرضية، أي متكونة بواسطة الأمور الخارجية.

1 - فقال (عليه السلام): قد يكون في هؤلاء الأجناس الأربعة حلال من جهة، حرام من جهة،
وهذه الأجناس مسميات معروفات الجهات، فأول هذه الجهات الأربعة - الخبر.
2 - الشيخ حسين بن علي بن الصادق البحراني في رسالته في الأخلاق: 6.
25

أما الأولى، فكالإضافات الموجودة بين الأشخاص وأعمالهم
وأنفسهم وذممهم، فإن أعمال كل شخص ونفسه وذمته مملوكة له
ملكية ذاتية، وله واجدية لها فوق مرتبة الواجدية الاعتبارية ودون مرتبة
الواجدية الحقيقية، التي لمكون الموجودات.
ثم إنه ليس المراد من الذاتي هنا الذاتي في باب البرهان، وهو المنتزع
من مقام الذات المسمى بخارج المحمول، ولا الذاتي في باب الكليات
الخمس، بل المقصود منه هنا ما لا يحتاج في تقرره وظهوره في صفحة
الوجود إلى شئ آخر وراء نفسه من الاعتبارات الملكية، ولا إلى اعدام
موجود، ولا إلى ايجاد معدوم، ولا إلى ضم ضميمة، وإنما شأنها شأن
الذاتيات التي لا تحتاج إلا إلى علة في الوجود.
ثم إن معنى الملكية هنا ليس إلا القدرة والسلطنة، بمعنى أن كل أحد
مسلط على عمله ونفسه وما في ذمته، بأن يؤجر نفسه للغير أو يبيع ما في
ذمته، ويأتي لذلك زيادة توضيح في أول البيع إن شاء الله.
ومن هنا يندفع ما ربما يتوهم من أن عمل الانسان لا يعد من الأموال،
ووجه الاندفاع أنه ليس من الأموال بالإضافة الاعتبارية لا بالإضافة
التكوينية.
وأما الإضافة العرضية، فهي إما أن تكون إضافة أولية، وإما أن تكون
إضافة ثانوية، والأولية إما أصلية استقلالية، أو تبعية غيرية.
فالأولية الأصلية كالإضافة المالية الحاصلة بالعمل أو بالحيازة أو بهما
معا، فالأول كالأعمال التي يعملها الانسان فيحصل منها المال، والثاني
كحيازة المباحات، والثالث كمن يجوز أشجارا فيجعلها سريرا، فإن
الصورة السريرية توجب تحقق إضافة مالية أخرى في المادة الخشبية
26

وراء المالية المتقومة بالخشبة، فتلك المالية القائمة في السرير حاصلة
من العمل والحيازة معا.
فاطلاق الأولية عليها باعتبار عدم سبق إضافة ذلك المال إلى الغير،
والأصلية باعتبار عدم تبعها للغير.
وأما الإضافة الأولية التبعية، فهي ما تكون بين المالك وبين نتاج
أمواله، كالنتاج التي تنتج الحيوانات المملوكة، والبيوض التي تبيضها
الطيور المملوكة، والثمار التي تثمرها الأشجار المملوكة، إلى غير ذلك،
فإنها تضاف إلى مالك الأصول إضافة أولية تبعية.
أما اطلاق التبعية فلكونها تابعة لما تحصل منه، وأما اطلاق الأولية
فلعدم سبق إضافة إليها.
وأما الإضافة الثانوية، فالمراد بها ما قابل الإضافة الأولية، وإن كانت
طارئة على الأموال مرارا عديدة، فهي نظير المعقولات الثانوية في
مقابلتها للمعقولات الأولية، وهي على قسمين: لأنها تارة تكون قهرية
وأخرى اختيارية.
أما الأولى فكالإضافة التي تحصل بسبب الإرث أو الوقف، بناء على
كونه من الايقاعات كما اخترناه في محله، ووجه كونها قهرية هو حصول
المالكية في هذه الموارد للوارث والموقوف عليه والموصي له بالقهر
لا بالفعل الاختياري.
وأما الثانية فكالإضافة الحاصلة من المعاملات، ومنها ما يحصل من
المكاسب التي نحن بصدد بحثها وتأسيس أصولها ومبانيها، بعون الله
وحسن توفيقه.
وغير خفي على الناقد أن ما ذكرناه من تلك الإضافات على أقسامها
من البديهيات التي لا تحتاج إلى المقدمات النظرية الخفية.
27

قوله (عليه السلام): كذلك المشتري.
أقول: هو اسم فاعل مقابل البايع، وليس باسم مفعول ليكون المراد
منه المبيع كما توهم (1).
قوله (عليه السلام): فيجعل ذلك الشئ.
أقول: يمكن أن يراد منه الحمل أي يحمل، أو الأخذ أي يأخذ، أو
الوصف أي يوصف في مقام الايجار، وليس بمعناه المعروف ليكون
الشئ مفعولا أولا.
قوله (عليه السلام): حلالا.
أقول: ليس منصوبا على الحالية، ولا مجرورا لكونه وصفا لقوله
(عليه السلام): في عمل كما تخيل (2)، بل إنما هو مرفوع للخبرية، فإن أصل
النسخة هكذا: فهذه وجوه من وجوه الإجارات حلال.
قوله (عليه السلام): أو سوقة.
أقول: في المجمع السوقة - بالضم - الرعية ومن دون الملك، ومنه
الحديث: ما من ملك ولا سوقة يصل إلى الحج إلا بمشقة (3).
قوله (عليه السلام): أو عمل التصاوير.
أقول: في تحف العقول: أو حمل التصاوير.
وعلى هذا فعطف الخنازير والميتة والدم في الرواية على التصاوير
لا يحتاج إلى عناية.

1 - قائله العلامة الطباطبائي في حاشيته على المكاسب: 2، والفاضل المامقاني في
حاشيته حيث قال: إن الفرق بين العنوانين بالاعتبار.
2 - قائله العلامة الطباطبائي في حاشيته على المكاسب: 2.
3 - مجمع البحرين 5: 188.
28

قوله (عليه السلام): إجارة نفسه فيه أو له.
أقول: المراد من الأول هو الايجار لنفس الشئ، بأن يؤجر نفسه
لصنع الخمر، كإيجار نفسه في هدم المساجد، ومن الثاني الايجار
للمقدمات.
وليس المراد من الأول ايجار نفسه في المصنوع كحمل الخمر ومن
الثاني ايجار نفسه لصنعه، ولا أن المراد من الأول المباشرية ومن الثاني
التسبيبية، ولا أن المراد من الأول الايجار للمقدمات ومن الثاني الايجار
لنفس المحرم (1).
فإن كل ذلك خلاف الظاهر من الرواية.
ومن هنا ظهر المقصود من قوله (عليه السلام): أو شئ منه أو له، غاية الأمر
أن المراد منهما جزء العمل وجزء المقدمات، والضمائر الأربعة كلها
ترجع إلى الأمر المنهي عنه.
قوله (عليه السلام): وينحيها.
أقول: في المجمع: نحى الشئ أزاله، ونح هذا عني أي أزله وأبعده
عني (2).
قوله (رحمه الله): وحكاه غير واحد (3).
أقول: ليس في كتاب السيد من رواية تحف العقول عين ولا أثر،
ولم تذكر حتى بمضمونها فيه.

1 - قائله العلامة الطباطبائي في حاشيته على المكاسب: 4.
2 - مجمع البحرين 1: 410.
3 - كصاحب الحدائق فيه 18: 70.
29

نعم ذكرت فيه (1) معائش الخلق على خمسة أوجه: وجه الأمارة،
ووجه العمارة، ووجه الإجارة، ووجه التجارة، ووجه الصدقات، إلا أن ذلك غير مربوط بما في تحف العقول سنخا وحكما.

1 - عن علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني
عن علي (عليه السلام) أنه قال:
فأما ما جاء في القرآن من ذكر معائش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة
أوجه وجه الإشارة (الأمارة)، ووجه العمارة، ووجه الإجارة، ووجه التجارة، ووجه
الصدقات.
وأما وجه الإشارة، فقوله تعالى: واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسة وللرسول
ولذي القربى واليتامى والمساكين (الأنفال: 41)، إلى أن قال (عليه السلام):
وأما وجه العمارة فقوله: هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها (هود: 61)،
فأعلمنا سبحانه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك سببا لمعايشهم بما يخرج من الأرض، من الحب
والثمرات وما شاكل ذلك مما جعله الله تعالى معايش للخلق.
وأما وجه التجارة فقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل - الآية (البقرة: 282)، فعرفهم سبحانه كيف يشترون
المتاع في السفر والحضر وكيف يتجرون إذ كان ذلك من أسباب المعايش.
وأما وجه الإجارة فقوله عز وجل: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا
بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون
(الزخرف: 32)، فأخبر سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، وجعل ذلك قواما لعايش
الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في صنعته وأعماله وأحكامه وتصرفاته وأملاكه - إلى أن
قال (عليه السلام):
وأما وجه الصدقات إنما هي لأقوام ليس لهم في الأمارة نصيب، ولا في العمارة حظ،
ولا في التجارة أمان، ولا في الإجارة معرفة وقدرة، ففرض الله تعالى في أموال الأغنياء -
الخبر (رسالة المحكم والمتشابه: 46 - 48).
والظاهر من قوله (عليه السلام): إنما هي لأقوام ليس لهم في الأمارة نصيب، أن لفظ الإشارة في
مطلع التقسيم غلط من النساخ، وأن الأمارة هي النسخة الصحيحة، كما في الوسائل.
30

ولعل هذه الجملة صدرت من المصنف إما من سهو القلم أو من جهة
الاعتماد على ما في الوسائل، فإنه قال بعد نقل رواية تحف العقول:
ورواه المرتضى في كتاب المحكم والمتشابه (1).
ولا يخفى أن كتاب المحكم والمتشابه هذا هو بعينه تفسير النعماني
المعروف (2).
2 - رواية فقه الرضوي:
قوله (رحمه الله): وفي الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا (عليه السلام) (3).
أقول: تحقيق الكلام هنا يقع في جهتين: الأولى في صحة نسبة هذا
الكتاب إلى الرضا (عليه السلام) وعدم صحتها، والثانية في دلالة هذه الرواية
على مقصد المصنف وعدم دلالتها.
أما الجهة الأولى، فقد تمسك القائلون باعتباره بوجوه كثيرة، ولكنها
تؤول إلى وجهين:
1 - وهو عمدة ما تمسك به المثبتون:
أن ظهوره وإن كان في زمن المجلسي الأول ولكن الذي أخبر بالكتاب

1 - الوسائل 17: 86.
2 - محمد بن إبراهيم بن جعفر أبو عبد الله الكاتب النعماني صاحب كتاب الغيبة المعروف
بابن زينب شيخ من أصحابنا عظيم القدر شريف المنزلة صحيح العقيدة كثير الحديث - كما في
كتب التراجم - ومع ذلك كله لا يمكن الاعتماد على ما اشتمل عليه تفسير النعماني، لأن أحمد
ابن يوسف والحسن بن علي بن أبي حمزة وأباه، الذين من جملة رواته من الضعفاء.
3 - فقه الرضا (عليه السلام): 250.
31

ورواه المجلسي (1) هو الثقة الفاضل والمحدث الكامل القاضي السيد
أمير حسين طاب ثراه (2)، فإنه أول من اطلع عليه واستنسخه، وقد
استنسخه المجلسي من نسخته، وهو ثقة، فيصدق في قوله، لشمول أدلة
الخبر الواحد لخبره هذا.
وفيه: أن اخباره هذا إما أن يكون مستندا إلى القرائن التي أوجبت
حصول العلم العادي له، من الخطوط الموجودة فيه للإمام (عليه السلام)،
والإجازات المدونة فيه للاعلام، على ما نقله المحدث المتبحر النوري
في المستدرك عن المجلسي الأول (3).
وأما أن يكون مستندا إلى اخبار ثقتين عدلين من أهل قم للسيد
المذكور بكون الكتاب للرضا (عليه السلام)، كما في المستدرك (4) أيضا حيث قال:
إن السيد الثقة الفاضل القاضي أمير حسين أخبر بأن هذا الكتاب له (عليه السلام)،
وأخبره بذلك أيضا ثقتان عدلان من أهل قم، وهذا خبر صحيح داخل
في عموم ما دل على حجية خبر العدل.
أما الطريق الأول فضعفه بين، لأن حصول العلم للسيد الأمجد والسند
الأوحد من تلك القرائن على صحة النسبة لديه لا يوجب حصول العلم لنا
باعتباره، وعلمه بذلك لا يفيد غيره بوجه.
ومن الغرائب أن يتمسك لحجية خبره هذا بعموم أدلة أخبار الآحاد،

1 - البحار 1: 11.
2 - وهو غير السيد حسين ابن بنت المحقق الكركي، كما أشار إليه في المستدرك
19: 298 ناقلا عن الرياض 2: 30 الذي أستاذ هذه الصناعة، وما ذهب إليه صاحب الفصول
والعلامة الطباطبائي في فوائده من اتحادهما خطأ فاحش.
3 - المستدرك 19: 231.
4 - المستدرك 19: 239.
32

فإن هذه العمومات لا تشمل الأخبار الحدسية ولو كان المخبر بها من
الثقات.
وأغرب منه أن يقال: إن المتيقن من الأخبار الحدسية الخارجة عن
هذه العمومات هي ما لا تعتمد على مبادي محسوسة يلزم من العلم بها
العلم بمضمون الخبر، وأما لو اعتمد على مبادي محسوسة يلزم من
العلم بها العلم بصدق الخبر، كما في الشجاعة والسخاوة والعدالة، بناء
على تفسيرها بمعنى الملكة، فلا يظن بأحد أن يتوقف في عموم أدلة خبر
العدل لها، وأخبار السيد باعتبار الفقه الرضوي من قبيل الثاني لا الأول.
ووجه الغرابة في هذا القول إن الأخبار بالأمور الحدسية بواسطة
أسبابها الحسية إنما يكون مشمولا لأدلة الحجية إذا كان بين الأسباب
ومسبباتها ملازمة عادية، بحيث يلزم من العلم بها العلم بالمسببات كما
في الأمثلة المذكورة، وأما إذا انتفت الملازمة العادية فأدلة حجية الخبر
لا تشمله كما حقق ذلك في علم الأصول.
وهذا الشرط مفقود في موضوع البحث فإن الأمور التي استند إليها
السيد في اخباره قابلة للمنع، فإنه كيف يعلم أحد أن الخطوط في النسخة
للإمام (عليه السلام) وأن الإجازات للأعلام إلا من طريق الحدس الشخصي، إذن
فإن الأمور المذكورة حدسية لا حسية، وأيضا فلا ملازمة بينها وبين
العلم بالنتيجة.
فإن قلت: كيف يصح انكار ما يدل على صدق نسبة الكتاب للإمام
(عليه السلام)، مع أن فيه عبارات تنطق بكونه له (عليه السلام)، مثلما قال في أول الكتاب:
يقول عبد الله علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) (1)، وفي بعض كلماته: نحن

1 - فقه الرضا (عليه السلام): 402.
33

معاشر أهل البيت (1)، وأمرني أبي (عليهما السلام) (2)، وجدنا أمير المؤمنين
(عليه السلام) (3)، وأروي عن أبي العالم (عليه السلام) (4).
إلى غير ذلك من العبائر التي لا ينبغي صدورها إلا عن الحجج (عليهم السلام)،
وقد ذكر المحدث النوري جملة منها في المستدرك (5)، هذا مضافا إلى
القرائن التي اعتمد عليها السيد المذكور.
قلت: أولا: إن احتمال الكذب لا دافع له مع الجهل بمؤلفه، وانفتاح
باب الجعل والفرية من المشمرين عن ساق الجد للكذب على العترة
الطاهرة، أفنسيت الأخبار المجعولة في أمر الولاية كيف قامت، وأن
لكل واحد من الأئمة (عليهم السلام) من يدس عليه من الكذابين.
ومن هذا ظهر فساد توهم الصدق في نسبة الكتاب من جهة موافقة
تاريخه لزمان الرضا (عليه السلام).
وثانيا: لنفرض أن الكتاب ليس من مجعولات الوضاعين، فهل يصح
أن نتمسك بقوله: نحن معاشر أهل البيت، أو جدنا أمير المؤمنين
لتصحيح كون الكتاب للإمام (عليه السلام)، أليس احتمال كون مؤلفه رجلا علويا
بمكان من الامكان.
وأما الطريق الثاني: أعني استناد أخبار السيد بصدق الكتاب إلى
اخبار ثقتين بذلك من أهل قم، ففيه:
أولا: أنه محض اشتباه من المحدث المتبحر النوري، فإنه مع نقله

1 - فقه الرضا (عليه السلام): 402.
2 - فقه الرضا (عليه السلام): 258.
3 - فقه الرضا (عليه السلام): 83.
4 - فقه الرضا (عليه السلام): 197.
5 - مستدرك الوسائل 19: 255 - 257.
34

كلام المجلسي الأول بطوله، الذي هو الأصل في السماع عن السيد،
غفل عنه وسلك مسلكا آخر، فقد قال المجلسي الأول - كما في
المستدرك -:
ثم حكى - أي السيد - عن شيخين فاضلين صالحين ثقتين أنهما قالا: إن
هذه النسخة قد أتي بها من قم إلى مكة المشرفة، وعليها خطوط العلماء
وإجازاتهم وخط الإمام (عليه السلام) في عدة مواضع، قال: والقاضي أمير
حسين قد أخذ من تلك النسخة وأتى بها إلى بلدنا، وأني استنسخت
نسخة من كتابه (1).
وهذا الكلام كما تري يعلن بمخالفته لما أفاده النوري.
وثانيا: فننقل الكلام إلى أخبار هذين العدلين، فإن غاية ما يحصل لنا
من أخبارهما كون الفقه الرضوي من جملة الأخبار المرسلة، فيتوجه
عليه ما قدمناه في رواية تحف العقول.
ومما يوهن حجية خبر أمير حسين بصدق الكتاب مع كونه ثقة، قول
المجلسي الأول بعد كلامه المتقدم: والعمدة في الاعتماد على هذا
الكتاب مطابقة فتاوى علي بن بابويه في رسالته وفتاوى ولده الصدوق لما
فيه من دون تغيير أو تغيير يسير في بعض المواضع، ومن هذا الكتاب
تبين عذر قدماء الأصحاب فيما أفتوا به (2).
ووجه الوهن أنه لو كان اخبار السيد بذلك جامعا لشرائط الحجية في
الخبر الواحد فلا وجه لقول المجلسي الأول: إن العمدة في اثباته هي
مطابقته لفتوى الصدوقين.
وبالجملة لم يتحصل لنا من الوجه المذكور ما يوجب اعتبار الكتاب.

1 - مستدرك الوسائل 19: 231.
2 - مستدرك الوسائل 19: 231.
35

2 - موافقته لرسالة علي بن بابويه إلى ولده الصدوق، وهي الكتاب
المعروف بشرايع الصدوق، وقد استند إلى هذا الوجه بعض الأصحاب،
وعرفت أن المجلسي الأول من هؤلاء، فقد جعل العمدة في تصحيح
الكتاب موافقته لفتوى الصدوقين، فلا بد من أن يكون الكتاب موجودا
في زمان الصدوق ومعتمدا عليه عنده ولذا نقل عنه وإن لم يسم به.
وفيه: أن هذا لا يوجب اعتبار الكتاب، لاحتمال أخذ مؤلفه ذلك من
الرسالة المذكورة، بل هذا هو الظاهر، إذ من المستبعد جدا بل من
المستحيل عادة أن يسند علي بن بابويه كتاب الرضا (عليه السلام) إلى نفسه من
دون أن يشير هو أو ابنه الصدوق، الذي كتب لأجله هذه الرسالة، إلى أن
هذا الكتاب من تأليف الرضا (عليه السلام).
وهل يرضى أحد أن ينسب مثل هذه السرقة إلى الصدوقين، فلا بد
وأن يكون الأمر بالعكس، بأن يكون هذا الكتاب مأخوذا من رسالة علي
ابن بابويه.
وربما قيل: إن فقه الرضا (عليه السلام) هذا هو الذي كتبه الرضا (عليه السلام) لأحمد
ابن السكين الذي كان مقربا عنده، وهو بخطه (عليه السلام) موجود في الطائف
بمكة المعظمة في جملة كتب السيد علي خان، وعليه إجازات العلماء
وخطوطهم، وهذه النسخة بالخط الكوفي وتاريخها عام مائتين من
الهجرة.
وبعد أن نقل المحدث النوري هذا الوجه عن الرياض قال ما حاصله:
ومن هنا يتضح أن من عدم الاطلاع ومن قلة الخبرة أن يقال: ظهور
الكتاب إنما كان في زمن أمير حسين أما قبل ذلك الزمان فلم يكن منه عين
ولا أثر (1).

1 - رياض العلماء 3: 363، عنه المستدرك 19: 241.
36

أقول: نحن لا ندعي أنه لم يكن للرضا (عليه السلام) كتاب وآثار حتى ينقض
علينا بما كتبه لأحمد بن سكين، بل نقول: إنه لا مدرك لنا لاثبات أن هذا
الكتاب الذي عندنا كان له (عليه السلام)، وأنه هو الذي كان موجودا في مكتبة
السيد علي خان، خصوصا مع ملاحظة أن ظهوره كان من قم كما عرفت،
ومن هنا يعلم أن نقد النوري للقول بظهوره في زمن أمير حسين ناشئ من
عدم التأمل.
ثم إنه مع الغض عن جميع ما ذكرناه، فإن في الكتاب قرائن قطعية تدل
على عدم كونه لمثل مولانا الرضا (عليه السلام)، بل هو رسالة عملية ذكرت فيها
الفتاوي والروايات بعنوان الافتاء، كما يظهر لمن يلاحظه، كيف وأكثر
رواياته أما بعنوان روي وراوي ونحوهما، وأما نقل عن الرواة،
خصوصا في آخر الكتاب، فإنه ينقل فيه كثيرا عن ابن أبي عمير وزرارة
والحلبي وصفوان ومحمد بن مسلم ومنصور وغيرهم (1).
على أن فيه عبارات يقبح صدورها عن الإمام (عليه السلام)، نظير قوله: جعلني
الله من السوء فداك، وقوله في باب القدر: صف لي منزلتين، فإن هذا
القول ظاهر في جهل القائل، وهو مستحيل في حق الإمام (عليه السلام)، إلى غير
ذلك، وقد نقل جملة منها في المستدرك (2).
مع أنه ذكر فيه من الأحكام المتناقضة وما يخالف مذهب الشيعة
بكثير (3)، وحملها على التقية بديهي الفساد، لما ورد في هذا الكتاب أيضا

1 - راجع المستدرك 19: 294.
2 - راجع المستدرك 19: 293.
3 - قال في باب اللباس وما لا يجوز فيه الصلاة: يجوز الصلاة في سنجاب وسنور وفنك (
فقه الرضا (عليه السلام): 17).
وفي باب اللباس وما يكره فيه الصلاة قال: جلد الميتة دباغته طهارته وقد يجوز الصلاة
فيما لم تنبته الأرض ولم يحل أكله مثل السنجاب والفنك والسنور (فقه الرضا (عليه السلام): 42).
وفي باب المواقيت قال: وإن غسلت قدميك ونسيت المسح عليهما فإن ذلك يجزيك لأنك
قد آتيت بأكثر ما عليك وقد ذكر الله الجميع في القرآن (فقه الرضا (عليه السلام): 4).
37

مما يخالفها بل تكذيبهم والازراء عليهم، كما في المتعة (1).
والالتزام بالتفصيل بأن بعض الكتاب إملاء منه (عليه السلام) وبعضه الآخر
لأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وأن موارد التقية في الكتاب إنما
هي فيما سمع منه (عليه السلام)، تكلف في تكلف وقول بلا علم.
هذا كله ما يرجع إلى نفس الكتاب وقد أجاد صاحب الفصول في
بعض ما أفاده هنا، فليراجع (2).
إذن فحق القول إنه لو أنيطت الأحكام الشرعية بمثل هذه المدارك،
فبين أيدينا البخاري ومسند أحمد وصحيح مسلم، وعلى هذا فعلي
الفقه السلام.
وأما توهم انجبار رواياته بالشهرة إذا قامت على وفقها، فقد عرفت ما
فيه في رواية تحف العقول.

(1) - قال في باب المتعة: محمد بن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة قال: جاء عبد الله
ابن عمير إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال: ما تقول في متعة النساء، فقال: أحلها الله في كتابه وعلى
لسان نبيه، فهي حلال إلى يوم القيامة فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا وقد حرمها أمير
المؤمنين عمر، فقال: وإن كان فعل، فقال: إني أعيذك أن تحل شيئا قد حرمه عمر، فقال: فأنت
على قول صاحبك وأنا على قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله، فإن
الباطل ما قال صاحبك، قال: فأقبل عليه عبد الله بن عمير فقال: يسرك أن نساءك وبناتك
وإخوانك وبنات عمك يفعلن، فأعرض عنه أبو جعفر (عليه السلام) وعن مقالته حين ذكر نسائه وبنات
عمه (فقه الرضا (عليه السلام)).
2 - الفصول الغروية: 312.
38

وربما يتخيل اعتبار الكتاب لأجل عمل جملة من الأكابر عليه
كالمجلسيين وغيرهما، ولكنه فاسد، لأنهم قد استندوا في عملهم هذا
بما ذكر من الوجوه التي عرفت جوابها بما لا مزيد عليه.
وأما الجهة الثانية: فمع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه والالتزام باعتبار
الكتاب لا يمكن الاستناد بهذه الرواية التي نقلها العلامة الأنصاري (رحمه الله)
في شئ من المباحث (1)، وذلك لوجوه:
1 - عدم وجدان فتوى من فتاوى أعاظم الأصحاب على طبقها، فإن
الرواية صريحة بحرمة استعمال ما نهي عنه مما فيه الفساد بجميع
الاستعمالات حتى الامساك، مع أنه لم يفت به أحد فيما نعلم، وكيف
يتفوه فقيه أو متفقه بحرمة إمساك الدم والميتة ولحوم السباع، كما أن
ذلك مقتضى الرواية، إذن فلا يمكن الفتوى على طبقها.
2 - إن مقتضى قوله: فحرام ضار للجسم وفساد للنفس، أن الضابطة
في تحريم هذه الأمور المذكورة في الرواية هو اضرارها للجسم، كما أن
المناط في جوازها عدم اضرارها له، مع أن جلها ليس بضار للجسم
كالملابس والمناكح وأكثر المشارب والمآكل إن لم يكن كلها كذلك،
وعلى فرض تسليم ذلك فلا نسلم انضباط القاعدة.

1 - إعلم يرحمك الله أن كل مأمور به مما هو من على العباد وقوام لهم في أمورهم، من
وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، مما يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون
ويستعملون، فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته، وكل أمر يكون فيه الفساد مما قد
نهي عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وامساكه لوجه الفساد، مثل الميتة والدم ولحم
الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك، فحرام ضار للجسم
وفساد للنفس (فقه الرضا (عليه السلام)، باب التجارة: 34 و 41، عنه البحار 103: 52، المستدرك
13: 65).
39

فإنه لا شبهة أن كثيرا من هذه الاستعمالات للأشياء المحرمة لا تكون
مضرة قطعا، كوضع اليد عليها مثلا، أو الأكل منها قليلا، أو شد اليد بجلد
الميتة وشعر الخنزير، وإنما المضر هي مرتبة خاصة من الاستعمال
بحسب الأشخاص والأزمان والأمكنة والكمية، فلو كان ذلك موجبا
لحرمة جميع الاستعمالات بجميع مراتبها، فتكون نظير قول النبي
(صلى الله عليه وآله): فما أسكر كثيره فقليله حرام (1)، للزم من ذلك القول بحرمة جميع
ما خلق الله في الأرض من المباحات، فإن كل واحد من هذه المباحات
لا بد وأن يكون مضرا في الجملة، ولو باستعمال الشئ الكثير منه.
على أن الأحكام الشرعية بناء على مسلك العدلية تدور مدار ملاكاتها
الواقعية من المصالح والمفاسد، وأما المنافع والمضار فهي خارجة عن
حدودها، نعم ربما يكون الضرر أو النفع موضوعا للأحكام إلا أن ذلك
غير مربوط بباب ملاكات الأحكام.
3 - إن ظاهر الرواية هو حرمة بيع الأمور المذكورة تحريما تكليفيا،
كما تقدم نظير ذلك في رواية تحف العقول، وكلامنا في الحرمة
الوضعية.
3 - رواية دعائم الاسلام:
قوله: وعن دعائم الاسلام.
أقول: أقصى ما قيل أو يمكن أن يقال في وجه اعتبار هذا الكتاب، إن
صاحبه أبا حنيفة النعمان حيث كان رجلا إماميا اثني عشريا جليلا
فاضلا فقيها، ومن جملة النوابغ في عصره، بل كان فريدا في دهره، كما

1 - الكافي 6: 408، تهذيب الأحكام 9: 111، عنهما الوسائل 25:. 337.
40

يظهر من كتابه، كانت رواياته مشمولة لأدلة حجية خبر العدل الإمامي.
والذي ينبغي أن يقال: إنه لا شبهة في علو مكانة أبي حنيفة النعمان،
صاحب كتاب دعائم الاسلام وغيره من الكتب الكثيرة، ونبوغه في العلم
والفضل والفقه والحديث، على ما نطقت به التواريخ وكتب الرجال
وكتابه هذا، كما لا شبهة في كونه إماميا في الجملة، فإنه كان مالكي
الأصل فتبصر وصار شيعيا إماميا.
كما اتفقت عليه كلمات أكثر المترجمين الذين تعرضوا لترجمته
وتاريخه، كالبحار (1) وتنقيح المقال للمامقاني (2) وسفينة البحار (3)
والمستدرك (4)، وتأسيس الشيعة للسيد حسن الصدر (5) وغيرها (6)، وقد

1 - قد كان أكثر أهل عصرنا يتوهمون أنه تأليف الصدوق، وقد ظهر لنا أنه تأليف أبي حنيفة
النعمان بن محمد بن منصور قاضي مصر في أيام الدولة الإسماعيلية (البحار 1: 38).
2 - تنقيح المقال 3: 273.
3 - مادة حنف: أبو حنيفة الشيعة هو القاضي نعمان بن محمد بن منصور، قاضي مصر، كان
مالكيا أولا ثم اهتدى وصار إماميا وصنف على طريق الشيعة كتبا، منها كتاب دعائم الاسلام.
وفي كتاب دائرة المعارف: أبو حنيفة المغربي هو النعمان بن أبي عبد الله محمد بن منصور
ابن أحمد بن حيوان أحد الأئمة الفضلاء المشار إليهم، ذكره الإمام المسيحي في تاريخه فقال:
كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل على ما لا مزيد عليه، وله عدة مصنفات، منها كتاب
اختلاف أصول المذهب وغيره، وكان مالكي المذهب ثم انتقل إلى مذهب الإمامية.
4 - المستدرك 19: 129.
5 - تأسيس الشيعة: 303.
6 - في وفيات الأعيان: وقال ابن زولاق: كان النعمان في غاية الفضل من أهل القرآن
والعلم بمعانيه، عالما بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء، واللغة والشعر والمعرفة بأيام الناس
مع عقل وانصاف، وألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأفصح سجع
وعمل في المناقب والمثالب كتابا حسنا، وله رد على المخالفين له رد على أبي حنيفة ومالك
والشافعي وعلي بن سريج، وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت (عليهم السلام).
له القصيدة الفقهية لقبها بالمنتخبة، وكان ملازما صحبة المعز العلوي، توفي سنة 363،
وكان أولاده من الأفاضل منهم: أبو الحسن علي بن النعمان وأبو عبد الله محمد بن النعمان.
راجع رجال السيد بحر العلوم 4: 5 - 14، مقابس الأنوار: 65، أمل الآمل 2: 335، مجالس
المؤمنين 1: 538، وأيضا وفيات الأعيان 5: 415، كشف الظنون للحاج الخليفة 2: 755، لسان
الميزان 6: 167، مرآة الجنان لليافعي 2: 379.
41

نقلوا عن أئمة التاريخ والرجال كونه إماميا.
وعلى هذا فلا يصغى إلى قول ابن شهرآشوب في المعالم أنه لم يكن
إماميا - على ما في تنقيح المقال (1).
إلا أن الذي يقتضيه الانصاف أنا لم نجد بعد الفحص والبحث من
يصرح بكونه ثقة ولا اثني عشريا، وإن كان المحدث النوري قد أتعب
نفسه في اثباتهما وبالغ في اعتبار الكتاب، ومع هذا الجهد والمبالغة
لم يأتي بشئ تركن إليه النفس ويطمئن به القلب.
ولعل كلام السيد في الروضات ينظر إلى ما ذكرناه، حيث قال:
ولكن الظاهر عندي أنه لم يكن من الإمامية الحقة (2)، وحينئذ فكيف
يمكن اثبات حجية رواياته بأدلة حجية خبر العدل.
وعلى تقدير تسليم وثاقته وكونه إماميا اثني عشريا، فلا يخرج بذلك
ما احتواه كتابه عن سلك الأخبار المرسلة، فتسقط حجيته للارسال.
وأما توهم انجباره بالشهرة أو بموافقة أكثر رواياته لروايات الكتب
المعتبرة، فقد تقدم جوابهما في ذيل رواية تحف العقول.
فإن قلت: إذا سلمنا وثاقة أبي حنيفة النعمان، فلا مناص عن الالتزام

1 - قال في معالم العلماء: ابن فياض القاضي النعمان بن محمد، ليس بإمامي وكتبه حسان
- معالم العلماء: 137.
2 - روضات الجنات 8: 71.
42

بحجية كتابه، لأنه قال في أوله: نقتصر فيه على الثابت الصحيح مما
رويناه عن الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيكون كلامه هذا توثيقا
اجماليا لما أسقطه من الرواة.
قلت: نعم، ولكن ثبوت الصحة عنده لا يوجب ثبوتها عندنا،
لاحتمال اكتفائه في تصحيح الرواية بما لا نكتفي به نحن.
والحق فيه ما ذكره المجلسي في البحار: أن رواياته إنما تصلح للتأكيد
والتأييد فقط (1).
إزاحة شبهة:
وقد التجأ المحدث النوري (2) في تنزيه أبي حنيفة النعمان عن اتهامه
بمذهب الإسماعيلية واثبات كونه ثقة اثني عشريا إلى بيان نبذة من عقائد
الإسماعيلية الفاسدة، كقولهم بأن محمد بن إسماعيل حي لم يمت
ويبعث برسالة وشرع جديد ينسخ به شريعة محمد، وأنه من أولي العزم،
وأولو العزم عندهم سبع، لأن السماوات سبع والأرضين سبع وبدن
الانسان سبع والأئمة سبع، وقلبهم محمد بن إسماعيل، إلى غير ذلك من
الخرافات التي تنزه عنها النعمان وكتابه.
ثم إنه صرح في كتابه بكفر الباطنية وأثبت إمامة الأئمة الطاهرة
وكونهم مفترضي الطاعة، ولم يصرح بإسماعيل ولا بابنه محمد، ومع
ذلك كله فكيف يرضى المنصف بعده من الإسماعيلية - انتهى ملخص
كلامه.
وفيه: أن تنزه النعمان من تلك الأقاويل الكاذبة والعقائد الفاسدة

1 - البحار 1: 38.
2 - راجع المستدرك 19: 133 - 135.
43

وتصريحه بكفر الباطنية لا يستلزم عدم كونه من الإسماعيلية، لأن
الباطنية قسم منهم، وليس كل إسماعيلي من الباطنية، وأن عدم ذكره
إسماعيل وابنه في عداد الأئمة لا يكشف عن عدم عقيدته بإمامتهما، مع أن عقائد الإسماعيليين لم تصل إلينا بحقيقتها حتى نلاحظها مع ما ذكره
النعمان ليتضح لنا أنه منهم أوليس منهم.
ولقد صادفت زعيما من زعمائهم في الحضرة الشريفة فسألته عن ولي
الأمر والحجة المنتظر (عليه السلام)، هل هو حي أو ميت، فقال: هو لا حي
ولا ميت بل يولد من امرأة قرشية لا تحيض، فيعلم من ذلك أنهم لا يرون
ما تذهب إليه الباطنية في محمد بن إسماعيل.
كشف حقيقة:
لا ينقضي تعجبي من المحدث المتبحر النوري حيث قال في
المستدرك ما ملخصه:
أن الكتاب المذكور لم يخالف في فرع غالبا إلا ومعه موافق معروف
من الشيعة إلا في انكار المتعة فليس له موافق عليه، ثم حمل انكاره هذا
على التقية.
وجعل القرينة على ذلك ما ذكره في باب الطلاق من عدم وقوع
التحليل بالمتعة للمطلقة ثلاثا، وما ذكره في باب الحد في الزنا من أن
الاحصان لا يتحقق بالمتعة، فإن المتعة لو لم تكن جائزة عنده لكان ذكره
في البابين بلا وجه وتكون من قبيل ذكر الزنا فيهما، ولا معنى لأن يقول
أحد أن الزنا لا يتحقق به التحليل والاحصان (1).
ووجه العجب أولا: أن الكتاب يشتمل على فروع كثيرة تخالف

1 - المستدرك 19: 145.
44

مذهب الشيعة الاثني عشرية ولم يوافقه عليها أحد من علماء الشيعة،
وقد ذكرنا في الحاشية أنموذجا من هذه المخالفات لتكون حجة على
منكرها (1).

1 - منها ما ذكره في المتعة وأنها ليست بمشروعة.
منها ما ذكره في ضمن ما يسجد عليه المصلي قال: وعن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه رخص
في الصلاة على ثياب الصوف، وكلما يجوز لباسه والصلاة فيه يجوز السجود عليه، فإذا جاز
لباس الثوب الصوف والصلاة فيه فلذلك مما يسجد عليه.
ومنها: ما قال في الوضوء، إنه من بدأ بالمياسير من أعضاء الوضوء جهلا أو نسيانا وصلى لم
تفسد صلاته.
ومنها: ما في نواقض الوضوء، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أن الذي ينقض الوضوء - إلى أن
قال: - المذي، وقال بعد أسطر: ورأوا أن كلما خرج من مخرج الغائط ومن مخرج البول عما
قدمنا ذكره، أو من دود أو حبات أو حب القرع، ذلك كله حدث يجب منه الوضوء وينقض
الوضوء.
ومنها: ما قال في المسح، من بدأ بما أخره الله من الأعضاء نسيانا أو جهلا وصلى لم تفسد
صلاته.
ومنها: ما قال في صفات الوضوء، ثم أمروا بمسح الرأس مقبلا ومدبرا، يبدأ من وسط رأسه
فيمر يديه جميعا على ما أقبل من الشعر إلى منطقة من الجبهة، ثم يمار يديه من وسط الرأس إلى
آخر الشعر من القفا ويمسح مع ذلك الأذنين ظاهرهما وباطنهما.
ومنها: ما قال في هذا الباب، ومن غسل رجليه تنظفا ومبالغة في الوضوء ولابتغاء الفضل
وخلل أصابعه فقد أحسن.
ومنها: ما قال في الوضوء التجديدي، ما غسل من أعضاء الوضوء أو ترك لا شئ عليه، و
قد روينا عن علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه سئل عن المسح على الخفين فسكت حتى مر بموضع
فيه ماء والسائل معه، فنزل وتوضأ ومسح على الخفين وعلى عمامته، وقال: هذا وضوء من
لم يحدث.
إلى غير ذلك مما يخالف مذهب الشيعة، وليس المقام مناسبا لذكره أجمع، ومن أراد
الاطلاع عليه فليراجع إلى دعائم الاسلام، المستدرك 19: 139 - 155.
45

وثانيا: أن نقل روايتين في الكتاب يظهر منها جواز المتعة لا يدل على
التزامه بالجواز، ونسبة ذلك إليه محتاجة إلى علم الغيب بأنه كان حين ما
نقلهما ملتفتا إلى ما يستفاد منهما من مشروعية المتعة، فإن من المحتمل
القريب أن يكون نظره في الروايتين مقصورا على نفي التحليل والاحصان
بالمتعة كنفيهما بالشبهة، مع عدم التفاته إلى جهة أخرى، لأنه ليس
بمعصوم لا يمكن في حقه مثل هذا الاحتمال.
أما أن المتعة بناء على عدم جوازها كالزنا فيكون ذكرها في البابين من
قبيل ذكر الزنا ولا معنى له، فيدفعه أن ذكر المتعة يكون من قبيل ذكر
الشبهة في البابين ولا خفاء فيه ولا معنى للتهويل به.
تذييل:
لا يخفى عليك أنا لو قطعنا النظر عن جميع ما ذكرناه في عدم اعتبار
الكتاب، فالرواية التي ذكرها المصنف هنا (1) لا يمكن الاستناد إليها
بالخصوص، لأن قوله فيها: وما كان محرما أصله منهي عنه لم يجز
بيعه، يقتضي حرمة بيع الأشياء التي تعلق بها التحريم من جهة ما، مع أنه
ليس بحرام قطعا.
على أن الظاهر منه هي الحرمة التكليفية مع أنها منتفية جزما في كثير
من الموارد التي نهي عن بيعها وشرائها، وإنما المراد من الحرمة في تلك
الموارد هي الحرمة الوضعية ليس إلا، فلا تكون الرواية معمولة بها.

1 - عن دعائم الاسلام عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الحلال من البيوع كلما هو حلال من
المأكول والمشروب وغير ذلك مما هو قوام للناس وصلاح، ومباح لهم الانتفاع به، وما كان
محرما أصله منهي عنه لم يجز بيعه ولا شراؤه (دعائم الاسلام 2: 18، الرقم: 23، عنه المستدرك
13: 65).
46

4 - رواية النبوي:
قوله: وفي النبوي المشهور.
أقول: توضيح الكلام في صحة الحديث وسقمه يقع في مقامين:
الأول في سنده، والثاني في دلالته.
أما الأول، فالكلام فيه من جهتين: الأولى في حجيته عند العامة،
والثانية في حجيته عند الخاصة.
أما الكلام في الجهة الأولى: فإن هذا النبوي لم يذكر في أصول
حديثهم إلا في قضية الشحوم المحرمة على اليهود التي نقلت بطرق
متعددة كلها عن ابن عباس، إلا في روايتين: إحداهما عن جابر، والثانية
عن عمر، وقد ذكر في ذيل بعض الروايات (1) التي عن ابن عباس قوله
(صلى الله عليه وآله): إن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه، مع إضافة
لفظ: أكل، وعلى هذا فيكون غير النبوي المشهور.
نعم ورد في مسند أحمد بإسناده عن ابن عباس في بعض روايات تلك
القضية: إن الله إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه، باسقاط لفظ:

1 - عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالسا عند الركن، فرفع بصره إلى السماء
فضحك وقال: لعن الله اليهود - ثلاثا - إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، إن
الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه.
راجع عوالي اللئالي 1: 181، الرقم: 240، دعائم الاسلام 1: 122، عنهما مستدرك الوسائل
13: 73، وأيضا السنن الكبرى لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي الشافعي البيهقي 6: 13،
ومسند أحمد 1: 247 و 293، وسنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، باب في ثمن
الخمر والميتة 2: 103، السنن للدارقطني 3: 7، الرقم: 20.
47

أكل (1)، إلا أن أصول حديثهم كلها مطبقة على ذكره حتى ابن حنبل
نفسه نقل ذلك في موضع آخر من كتابه عن ابن عباس كما أشرنا إلى
مصدره في الحاشية.
نعم قد أورده الفقهاء من العامة (2) والخاصة (3) في كتبهم الاستدلالية
كثيرا مع اسقاط كلمة: أكل، تأييدا لمرامهم.
وحاصل ما ذكرناه أن اتحاد القضية في جميع رواياتها واطباق أصول
حديثهم على ذكر لفظ الأكل، واتصال السند فيما يشتمل عليه وفيما
لا يشتمل عليه إلى ابن عباس، وموافقة أحمد على ذكر لفظ: أكل في
مورد آخر، كلها شواهد صدق على اشتباه أحمد، وأن النبوي مشتمل
على كلمة أكل.

1 - عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لعن الله اليهود، حرم عليهم الشحوم فباعوها
فأكلوا أثمانها، وأن الله إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه، (مسند أحمد 1: 322).
2 - راجع حياة الحيوان للدميري 1: 321 مادة الحمام ذيل الحكم قال: وأما بيع ذرق
الحمام وسرجين البهائم المأكولة وغيرها فباطل وثمنه حرام هذا مذهبنا - إلى أن قال: -
واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس: إن الله إذا حرم على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه، وهو
حديث صحيح رواه أبو داود باسناد صحيح، وهو عام إلا ما خرج بدليل كالحمار.
أقول: المذكور سنن أبي داود السجستاني 2: 103 مشتمل على كلمة: أكل، فلاحظ.
وفي شرح فتح القدير 5: 187 استدل به على حرمة بيع الخمر، وغيرهما من كتبهم
الاستدلالية.
3 - ذكره في البحار 55: 103، ونسبه إلى خط الشيخ محمد بن علي الجبعي، وفي
الخلاف للشيخ الطوسي استدل به على حرمة بيع السرجين النجس، وفي باب الأطعمة استدل
به على حرمة بيع الدهن المتنجس، وفي المستند للنراقي (1: 331) استدل به على حرمة بيع
الخمر، وفي الغنية أول البيع، وغيرها من الكتب من غير أصول الحديث، ثم إن هذه الروايات
كلها ضعيفة السند أما ما في كتب العامة فواضح، وأما ما في كتب الخاصة فللارسال.
48

وأما الجهة الثانية: فالنبوي وإن اشتهرت روايته في السنة أصحابنا في
كتبهم قديما وحديثا، متضمنة لكلمة: أكل تارة وبدونها أخرى، إلا أن
كلهم مشتركون في نقله مرسلا، والعذر فيه أنهم أخذوه من كتب العامة
لعدم وجوده في أصولهم، وحيث أثبتنا في الجهة الأولى أن الصحيح
عندهم هو ما اشتمل على كلمة: أكل، كان اللازم علينا ملاحظة ما ثبت
عندهم.
وإذن فلم يبق لنا وثوق بكون النبوي المشهور رواية فكيف بانجبار
ضعفه بعمل المشهور.
وأما المقام الثاني، فبعد ما عرفت أن الثابت عند العامة والخاصة
اشتمال الرواية على كلمة: أكل، كان عمومه متروكا عند الفريقين، فإن
كثيرا من الأمور يحرم أكله ولا يحرم بيعه.
ومن هنا قال في جوهر النقي حاشية البيهقي في ذيل الحديث
المشتمل على كلمة أكل: قلت: عموم هذا الحديث متروك اتفاقا بجواز
بيع الآدمي والحمار والسنور ونحوها.
تبيين:
لو فرضنا ثبوت النبوي على النحو المعروف لم يجز العمل به أيضا
للارسال وعدم انجباره بالشهرة وغيرها، وذلك لأن تحريم الشئ الذي
يستلزم تحريم ثمنه، أما أن يراد به تحريم جميع منافع ذلك الشئ، وأما
تحريم منافعه الظاهرة، وأما تحريم منافعه النادرة ولو من بعض
الجهات.
فعلي الاحتمالين الأولين فالمعنى وإن كان وجيها وموافقا لمذهب
الشيعة، لقولهم بأن ما يحرم جميع منافعه أو منافعه الظاهرة يحرم بيعه،
إلا أن اثبات اعتمادهم في فتياهم بذلك على النبوي مشكل.
49

وذلك للوثوق بأن مستندهم في تلك الفتيا ليس هو النبوي، بل هو ما
سيأتي في البيع من اعتبار المالية في العوضين، لأن مالية الأشياء إنما هي
باعتبار المنافع الموجودة فيها الموجبة لرغبة العقلاء وتنافسهم فيها،
فما يكون عديما لجميع المنافع أو للمنافع الظاهرة لا تكون له مالية.
وإذن فليس هنا شهرة فتوائية مستندة إلى النبوي لتوجب انجباره،
لأنه بناء على انجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب إنما يكون فيما انحصر
الدليل لفتياهم بذلك الخبر الضعيف، ولم يكن في البين ما يصلح
لاستنادهم إليه.
وأما على الثالث، فالحرمة لا توجب فساد البيع عند المشهور
ليحتمل انجبار النبوي بفتياهم.
فتحصل أنه لا يكون شئ من الروايات العامة التي ذكرها المصنف
دليلا في المسائل الآتية، بل لا بد في كل مسألة من ملاحظة مداركها،
فإن كان فيها ما يدل على المنع أخذ به وإلا فالعمومات الدالة على صحة
العقود، كقوله تعالى: أحل الله البيع (1) وأوفوا بالعقود (2) وتجارة
عن تراض (3)، محكمة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أول الكتاب.
بطلان المعاملة على الأعمال المحرمة
تمهيد: لا يخفى عليك أن محل كلامنا في المسائل الآتية إنما هو في
الأعيان المحرمة من الخمر والخنزير والميتة ونحوها.
وأما الأعمال المحرمة كالزنا والنميمة والكذب والغيبة فيكفي في

1 - البقرة: 275.
2 - المائدة: 1.
3 - النساء: 29.
50

فساد المعاملة عليها الأدلة الدالة على تحريمها، لأن مقتضى وجوب
الوفاء بالعقود هو وجوب الوفاء بالعقد الواقع على الأعمال المحرمة،
ومقتضى أدلة تحريم تلك الأعمال هو وجوب صرف النفس عنها
وايقاف الحركة نحوها، فاجتماعهما في مرحلة الامتثال من
المستحيلات العقلية.
وعلى أقل التقادير فإن أدلة صحة العقود ووجوب الوفاء بها مختصة
بحكم العرف بما إذا كان العمل سائغا في نفسه، فلا وجه لرفع اليد بها عن
دليل حرمة العمل في نفسه.
وبما ذكرنا يظهر أن الوجه في فساد المعاملة على الأعمال المحرمة
هو استحالة الجمع بين وجوب الوفاء بهذه المعاملة وبين حرمة هذه
الأعمال أو الحكومة العرفية المذكورة.
وربما يظهر من كلام شيخنا الأستاذ في حكم الأجرة على الواجبات
أن الوجه في ذلك هو عدم كون الأعمال المحرمة من الأموال أو عدم
امكان تسليمها شرعا، حيث قال: الأول أن يكون العمل الذي يأخذ
الأجير أو العامل بإزائه الأجرة والجعل ملكا له، بأن لا يكون مسلوب
الاختيار بايجاب أو تحريم شرعي عليه (1).
وبملاحظة ما تقدم يظهر لك ما فيه، فإنك قد عرفت أن صحة
المعاملة عليها ووجوب الوفاء بها لا يجتمعان مع الحرمة النفسية، سواء
اعتبرنا المالية أو القدرة على التسليم في صحة العقد أم لم نعتبر شيئا من
ذلك.

1 - منية الطالب 1: 15.
51

تقسيم المكاسب إلى الثلاثة أو الخمسة
قوله: قد جرت عادة غير واحد على تقسيم المكاسب.
أقول: المكاسب جمع مكسب، وهو مفعل من الكسب، إما مصدر
ميمي بمعنى الكسب أو التكسب، أو اسم مكان من الكسب.
قوله: مما ندب إليه الشرع.
أقول: أي أمر به بالأمر الاستحبابي، وقد أشار بذلك إلى الأخبار
الواردة في استحباب الرعي (1) والزرع (2).

1 - عن محمد بن عطية قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل أحب لأنبيائه
من الأعمال الحرث والرعي لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء (علل الشرايع: 32، عنه البحار
103: 65).
عن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما بعث الله نبيا قط حتى يسترعيه الغنم ويعلمه بذلك
رعية الناس.
وفي الحديث أنه (صلى الله عليه وآله) قال: ما من نبي إلا وقد رعي الغنم، قيل: وأنت يا رسول الله، قال:
وأنا.
2 - عن محمد بن عطية قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز وجل اختار لأنبيائه
الحرث والزرع كيلا يكرهوا شيئا من قطر السماء (الكافي 5: 260، عنه الوسائل 19: 33)،
مرسلة.
عن سهل بن زياد رفعه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله جعل أرزاق أنبيائه في الزرع
والضرع، لئلا يكرهوا شيئا من قطر السماء (الكافي 5: 260، عنه الوسائل 19: 33)، ضعيفة
لسهل ومرفوعة.
عن سيابة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل فقال له: جعلت فداك أسمع قوما يقولون:
إن الزراعة مكروهة، فقال له: ازرعوا واغرسوا فلا والله ما عمل الناس عملا أحب ولا أطيب
منه، والله ليزرعن الزرع وليغرسن النخل بعد خروج الدجال (الكافي 5: 260، الفقيه 3: 158،
التهذيب 6: 384، عنهم الوسائل 19: 32، الغايات: 88، عنه المستدرك 13: 26، وفيه: ليغرسن
الغرس)، مجهولة لسيابة.
عن يزيد بن هارون الواسطي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الزارعون كنوز الأنام،
يزرعون طيبا أخرجه الله عز وجل، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما، وأقربهم منزلة،
يدعون المباركين (الكافي 5: 261، عنه الوسائل 18: 34)، مجهولة ليزيد بن هارون.
عن يزيد بن هارون الواسطي، قال: سألت جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن الفلاحين، فقال: هم
الزارعون، كنوز الله في أرضه، وما في الأعمال شئ أحب إلى الله من الزراعة، وما بعث الله
نبيا إلا زارعا إلا إدريس (عليه السلام) فإنه كان خياطا (التهذيب 6: 384، عنه الوسائل 17: 41،
الغايات: 70، عنه المستدرك 13: 26)، مجهولة ليزيد بن هارون.
ثم إن الأخبار في فضل الزرع والغرس كثيرة من الخاصة كالروايات المذكورة وغيرها في
الأبواب المزبورة وغيرها، ومن العامة وقد أخرجها البيهقي في السنن الكبرى 6: 137، و
البخاري في صحيحه باب فضل الزرع 3: 135.
52

قوله: فتأمل.
أقول: لعله إشارة إلى أن وجوب الصناعات ليس بعنوان التكسب، بل
لكون تركها يؤدي إلى اختلال النظام كما سنبينه.
أقول: ملخص كلامه أن الفقهاء (رحمهم الله) كالمحقق في الشرايع (1) وغيره
في كتبهم قسموا المكاسب إلى محرم كبيع الخمر، ومكروه كبيع
الأكفان، ومباح كبيع الأشياء المباحة، وأهملوا ذكر الواجب والمستحب
، بناء على عدم وجودهما في المعاملات، مع أنه يمكن التمثيل
للمستحب بمثل الزرع والرعي، وللواجب بالصناعات الواجبة كفاية إذا
وجد أكثر من واحد ممن يقوم بها، أو عينا إذا لم يوجد غير واحد.
وفيه: أن الأمثلة المذكورة لا تدل على شئ من مراده:
أما الزراعة فاستحبابها إنما هو من جهة ايكال الأمر إلى الله وانتظار

1 - شرايع الاسلام 2: 9.
53

الفرج منه، كما في رواية العياشي (1).
وأما الرعاية فاستحبابها لما فيها من استكمال النفس وتحصيل
الأخلاق الحسنة وتمرين الطبع على إدارة شؤون الرعية وإزالة الأوصاف
الرذيلة من السبعية والبهيمية، فإن من صرف برهة من الزمان في تربية
الحيوان صار قابلا لإدارة الانسان.
ومن هنا كان الأنبياء قبل بعثتهم رعاة للأغنام، كما في رواية عقبة
المتقدمة: ما بعث الله نبيا قط حتى يسترعيه الغنم ويعلمه بذلك رعية
الناس، وفي النبوي المتقدم: ما من نبي إلا وقد رعي الغنم، قيل:
وأنت يا رسول الله، قال: وأنا.
وعلى كل حال فالزراعة والرعي مستحبان في أنفسهما بما أنها فعلان
صادران من المكلف لا بعنوان التكسب بهما كما هو محل الكلام،
فلا يصلحان مثلا لما نحن فيه.
وأما الصناعات بجميع أقسامها فهي من الأمور المباحة ولا تتصف
بحسب أنفسها بالاستحباب فضلا عن الوجوب، فلا يكون التكسب بها
إلا مباحا، نعم إنما يطرء عليها الوجوب إذا كان تركها يوجب اخلالا
بالنظام، وحينئذ يكون التصدي لها واجبا كفائيا أو عينيا، وهذا غير
كونها واجبة بعنوان التكسب.
إزالة شبهة:
قد يقال: إن وجوب الصناعات من جهة أداء تركها إن اختلال النظام
يقتضي أن يكون التكسب بها مجانيا، ولكن هذا يفضي إلى الاخلال

1 - عن الحسين بن ظريف، عن محمد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: وعلى الله
فليتوكل المتوكلون، قال: الزارعون (تفسير العياشي 2: 222، عنه الوسائل 17: 42،
المستدرك 13: 461، والآية في إبراهيم: 12)، مهملة لحسين بن ظريف
54

بالنظام أيضا، ومقتضى الجمع بين الأمرين أن يلتزم بوجوبها مع الأجرة،
وعلى ذلك فتكون مثالا لما نحن فيه.
ولكن يرد عليه: أولا: أن هذا ليس إلا التزاما بوجوبها لأجل حفظ
النظام، وعليه فلا يكون التكسب بعنوانه واجبا.
وثانيا: أن الواجب من الصناعات إنما هو الطبيعة المطلقة العارية عن
لحاظ المجانية وغيرها، وما يخل بالنظام إنما هو ايجاب العمل مجانا
لا ما هو الجامع بينه وبين غيره، ولا ملازمة بين عدم وجوب الصناعات
مجانا وبين وجوب الجامع غير المقيد بحصة خاصة من الطبيعة، ومن
هنا نقول يجب الاقدام عليها عينا أو كفاية من حيث هي صناعة يختل
بتركها النظام، سواء كانت عليها أجرة أم لا.
والتحقيق: أن التقسيم إن كان باعتبار نفس التكسب فلا محيص عن
تثليث الأقسام كما تقدم، وإن كان بلحاظ فعل المكلف والعناوين
الثانوية الطارئة عليه فلا مانع من التخميس.
ولا يخفى عليك أنه إذا كان التقسيم بحسب فعل المكلف لا يختص
المثال بالصناعات بل يصح التمثيل بما وجب بالنذر أو اليمين أو العهد
وبالكسب لقضاء الدين أو الانفاق على العيال ونحو ذلك.
لا يقال: إذا ملك الكافر عبدا مسلما وجب بيعه عليه، ويكون بيعه هذا
من قبيل الاكتساب بالواجب.
فإنه يقال: الواجب هنا في الحقيقة هو إزالة ملكية الكافر للمسلم، وبيع
العبد المسلم إنما وجب لذلك، ويدلنا على ذلك أنه لو زال ملكه بغير
البيع كالعتق والهبة أو بالقهر كموت الكافر لا يجب البيع.
55

معنى حرمة الاكتساب تكليفا:
قوله: ومعنى حرمة الاكتساب.
أقول: الحرمة المتعلقة بالمعاملة أما أن تكون وضعية وإما أن تكون
تكليفية وبينهما عموم من وجه، فالبيع وقت الندي لصلاة الجمعة حرام
تكليفا، والبيع الغرري حرام وضعا، وبيع الخمر حرام وضعا وتكليفا،
وكلام المصنف هنا مسوق لبيان خصوص الحرمة التكليفية في البيع.
إذا عرفت هذا فاعلم أن حرمة البيع تكليفا تتصور على وجوه:
الأول: ما أفاده المحقق الإيرواني في حاشيته، وهو: أن معنى حرمة
الاكتساب هو انشاء النقل والانتقال بقصد ترتب أثر المعاملة، أعني
التسليم والتسلم للمبيع والثمن، فلو خلا عن هذا القصد لم يتصف
الانشاء الساذج بالحرمة (1).
وفيه: أن تقييد موضوع الحرمة بالتسليم والتسلم إنما يتم في الجملة
لا في جميع البيوع المحرمة، وتحقيقه أن النواهي المتعلقة بالمعاملات
على ثلاثة أقسام:
1 - أن يكون النهي عنها بلحاظ انطباق عنوان محرم عليها، كالنهي عن
بيع السلاح لأعداء الدين عند حربهم مع المسلمين، فإن النهي عنه إنما
هو لانطباق عنوان تقوية الكفر عليه، ويدل على ذلك جواز بيع السلاح
عليهم إذا لم يفض ذلك إلى تقويتهم على المسلمين، ولهذا حرم نقل
السلاح إليهم بغير البيع أيضا، كإجارته عليهم وهبته لهم وإعارته إياهم
إذا لزم منه المحذور المذكور.
ومن هنا يتضح أن بين عنوان بيع السلاح منهم وبين عنوان تقوية الكفر

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 3.
56

وإعانته عموما من وجه، إذ قد يباع السلاح عليهم ولا يلزم منه تقويتهم
كبيعه منهم حال الصلح مثلا أو حال حربهم مع الكفار الآخرين، أو مع
المسلمين ولكن بشرط تأخير التسليم إلى ما بعد الحرب، أو بدون
الشرط المذكور ولكن يؤخر التسليم قهرا عليهم، فإن هذه الموارد
لا يلزم من البيع فيها إعانة كفر على اسلام.
وقد تحصل تقوية الكفر على الاسلام بغير البيع كإجارة السلاح عليهم
أو هبته منهم وقد يجتمعان، وإذن فتعلق للنهي بتقوية الكفر على
الاسلام لا يستلزم حرمة بيع السلاح لأعداء الدين إلا في مادة الاجتماع.
نعم لو كان بين العنوانين تلازم خارجا لتوجه الالتزام بحرمة بيع السلاح
منهم مطلقا، ولكنك عرفت أن الأمر على خلافه.
2 - أن يتوجه النهي إلى المعاملة من جهة تعلقها بشئ مبغوض،
كالنهي عن بيع الخمر والخنزير والصليب والصنم وآلات القمار
وغيرها من الآلات المحرمة، فإن النهي عن بيع تلك الأمور إنما هو
لمبغوضيتها لا بلحاظ عنوان طارئ على المعاملة كما في القسم الأول.
3 - أن يكون النهي عن المعاملة باعتبار ذاتها، كالنهي عن البيع وقت
النداء لصلاة الجمعة، والنهي عن بيع المصحف والمسلم من الكافر،
بناء على حرمة بيعهما منه، فإن النهي عن البيع في هذا القسم ليس بلحاظ
العناوين الطارية عليه ولا بلحاظ مبغوضية متعلقة، بل لأجل مبغوضية
نفسه.
إذا عرفت ما تلونا عليك ظهر لك أن تقييد موضوع حرمة البيع بالتسليم
والتسلم المستلزم لتقيد أدلة تحريمه إنما يتم في القسم الأول فقط دون
الثاني والثالث، فلا بد فيهما من الأخذ باطلاق أدلة التحريم لعدم ثبوت
57

ما يصلح لتقييدها.
نعم لو كان دليلنا على التحريم هو عموم ما دل على حرمة الإعانة على
الإثم أو الملازمة بين حرمة الشئ وحرمة مقدمته، لجاز تقييد موضوع
حرمة البيع بالتسليم والتسلم، فإن الإعانة على الإثم والمقدمية إلى
الحرام لا يتحققان إلا بالتسليم والتسلم.
الوجه الثاني: أن يراد من حرمة البيع حرمة ايجاده بقصد ترتب امضاء
العرف والشرع عليه، بحيث لا يكفي مجرد صدوره من البايع خاليا عن
ذلك القصد.
وفيه: أنه لا وجه لتقييد موضوع حرمة البيع بذلك أيضا، لما مر من
اطلاق أدلة تحريم البيع مع عدم وجود ما يصلح لتقييدها، ومن هنا لو باع
أحد شيئا من الأعيان المحرمة كالخمر مثلا مع علمه بكونه منهيا عنه فقد
ارتكب فعلا محرما وإن كان غافلا عن قصد ترتب امضاء الشرع والعرف
عليه، فإنه لا دليل على دخالة قصد امضائهما في حرمة بيع الخمر.
الوجه الثالث: ما أفاده العلامة الأنصاري، وحاصل كلامه أن المراد
من حرمة البيع حرمة النقل والانتقال مقيدة بقصد ترتب الأثر المحرم
عليه، كبيع الخمر للشرب، وآلات القمار للعب، والصليب والصنم
للتعبد بهما.
وفيه: أن تقييد ما دل على تحريم البيع بالقصد المذكور تقييد
بلا موجب له، إذ البيع كغيره من الأفعال إذا حكم الشارع بحرمته وجب
التمسك باطلاق دليله حتى يثبت له المقيد.
نعم لو كان الدليل على حرمة البيع هو ما تقدمت الإشارة إليه، من
الملازمة بين حرمة الشئ وحرمة مقدمته أو عموم ما دل على تحريم
58

الإعانة على الإثم، لتم ما ذكره في الجملة لكن الكلام أعم من ذلك.
وأما ما في المتن، من دعوى انصراف الأدلة إلى صورة قصد ترتب
الآثار المحرمة، فهي دعوى جزافية، ونظيرها أن يدعي انصراف أدلة
تحريم الزنا مثلا إلى ذات البعل، والالتزام بمثل هذه الانصرافات
يستدعي تأسيس فقه جديد.
نعم دخالة قصد ترتب الأثر المحرم أو المحلل في حرمة البيع وحليته
في مثل بيع الصليب والصنم وجه كما سيأتي في النوع الثاني مما يحرم
التكسب به.
لا يقال: إنه لا مناص عن تقييد حرمة البيع بقصد ترتب الأثر المحرم
عليه، فإن من الجائز قطعا اعطاء الدرهم للخمار وأخذ خمره للاهراق
مثلا.
فإنه يقال: إن ذلك وإن كان جائزا إلا أنه لا يرتبط بأصل المعاملة بل هو
من أنحاء النهي عن المنكر وقطع مادة الفساد، والذي يقتضيه النظر
الدقيق أن ما يكون موضوعا لحلية البيع بعينه يكون موضوعا لحرمته،
بيان ذلك:
إن البيع ليس عبارة عن الانشاء الساذج، سواء كان الانشاء بمعنى ايجاد
المعنى باللفظ كما هو المعروف بين الأصوليين، أم كان بمعنى إظهار ما
في النفس من الاعتبار كما هو المختار عندنا، وإلا لزم تحقق البيع بلفظ
بعت خاليا عن القصد، ولا أن البيع عبارة عن مجرد الاعتبار النفساني من
دون أن يكون له مظهر، وإلا لزم صدق البايع على من اعتبر ملكية ماله
لشخص آخر في مقابل الثمن وإن لم يظهرها بمظهر، كما يلزم حصول
ملكية ذلك المال للمشتري بذاك الاعتبار الساذج الخالي من المبرز.
59

بل حقيقة البيع عبارة عن المجموع المركب من ذلك الاعتبار النفساني
مع إظهاره بمبرز خارجي، سواء تعلق به الامضاء من الشرع والعرف أم
لم يتعلق، بل سواء كان في العالم شرع وعرف أم لم يكن.
وإذن فذلك المعنى هو الذي يكون موضوعا لحرمة البيع، وهو الذي
يكون موضوعا لحليته، وهكذا الكلام في سائر المعاملات كما حققناه
في الأصول، وسيأتي التعرض له في أول البيع إن شاء الله.
قوله: فهو متفرع على فساد البيع.
أقول: بعد أن أثبتنا أن موضوع الحلية والحرمة في المعاملات شئ
واحد، وإن ترتب الأثر على المعاملة من النقل والانتقال أو غير ذلك
خارج عن حقيقتها، وبعد أن أوضحنا عند التكلم في الروايات العامة
المتقدمة أن الحرمة التكليفية لا تستلزم الحرمة الوضعية، ظهر لك بطلان
ما ذهب إليه المشهور، من أن حرمة المعاملة تستلزم فسادها.
كما ظهر بطلان ما نسب إلى أبي حنيفة، من أن حرمة المعاملة تستلزم
صحتها، وأنه لا بد في اثبات صحتها وفسادها من التماس دليل آخر غير
ما دل على الحرمة التكليفية، وقد أوضحناه في الأصول، وتترتب على
ذلك ثمرات مهمة في المباحث الآتية.
قوله: أما لو قصد الأثر المحلل.
أقول: قد بينا أن البيع المحرم لا يخرج بقصد الأثر المحلل عن الحرمة
المتعلقة به بعنوان البيع، وأن قصد الأثر المحرم لا يكون مأخوذا في
موضوع تحريم البيع، فلا مجال لدعوى أنه لو قصد الأثر المحلل
فلا دليل على تحريم العاملة.
نعم لو قصد حليته شرعا مع كونه محرما لتوجه عليه التحريم من جهة
60

التشريع أيضا، كما أن الأمر كذلك في سائر المحرمات المعلومة إذا أتى
بها بعنوان الإباحة.
معنى حرمة الاكتساب وضعا:
لا يخفى عليك أن معنى الحرمة الوضعية في العقود عبارة عن فساد
المعاملة وبطلانها بحيث لا يترتب عليها أثر من الآثار، وأن الفاسد
والباطل عندنا وعند غير الحنفية بمعنى واحد، وهو ما اختل في تلك
المعاملة شئ من الشروط التي اعتبرها الشارع ركنا لها، بحيث يلزم من
انتفائها انتفاء المشروط في نظر الشارع.
وأما عند الحنفية فإن الباطل والفاسد في البيع مختلفان فلكل واحد
منهما معنى يغاير معنى الآخر، فالباطل هو ما اختل ركنه أو محله،
وركن العقد هو الايجاب والقبول كما تقدم، فإذا اختل ذلك الركن كأن
صدر من مجنون أو صبي لا يعقل كان البيع باطلا غير منعقد، وكذلك إذا
اختل المحل وهو المبيع كأن كان ميتة أو دما أو خنزيرا فإن البيع يكون
باطلا.
وأما الفاسد فهو ما اختل فيه غير الركن والمحل، كما إذا وقع خلل في
الثمن بأن كان خمرا، فإذا اشترى سلعة يصح بيعها وجعل ثمنها خمرا
انعقد البيع فاسدا ينفذ بقبض المبيع، ولكن على المشتري أن يدفع قيمته
غير الخمر، وكذلك إذا وقع الخلل فيه من جهة كونه غير مقدور التسليم،
كما إذا باع شيئا مغصوبا منه لا يقدر على تسليمه أو وقع الخلل فيه من
جهة اشتراط شرط لا يقتضيه العقد كما سيأتي.
فإن البيع في كل هذه الأحوال يكون فاسدا لا باطلا، ويعبرون عن
61

الباطل بما لم يكن مشروعا بأصله ووصفه، ويريدون بأصله ركنه ومحله
كما عرفت، ويريدون بوصفه ما كان خارجا عن الركن والمحل، وحكم
البيع الفاسد أنه يفيد الملك بالقبض بخلاف البيع الباطل فإنه لا يفيد
الملك أصلا (1).
وقال ابن الهمام الحنفي في شرح فتح القدير: وأيضا فإنه مأخوذ في
مفهومه - الفاسد - أو لازم له أنه مشروع بأصله لا وصفه، وفي الباطل غير
مشروع بأصله، فبينهما تباين، فإن المشروع بأصله وغير المشروع
بأصله متباينان فكيف يتصادقان (2).
إلا أن أمثال تلك الأقاويل لا تبتني على أساس صحيح من العقل
والشرع والعرف واللغة.

1 - راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2: 224.
2 - شرح فتح القدير 5: 185.
62

النوع الأول
الاكتساب بالأعيان النجسة
المسألة (1)
جواز المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه
قوله: ويحرم المعاوضة على أبوال ما لا يؤكل لحمه.
أقول: في كلام العلامة الأنصاري هنا وفي المسائل الآتية خلط بين
الحرمة التكليفية والحرمة الوضعية، فقد جعل هنا كلا من النجاسة
والحرمة وعدم جواز الانتفاع بها دليلا عليهما، مع أن الأولين دليلان على
الحرمة التكليفية، والثالث دليل على الحرمة الوضعية.
قوله: فيما عدا بعض أفراده كبول الإبل الجلالة.
أقول: قال المحقق الإيرواني: لعل هذا استثناء من صدر الكلام أعني
قوله: يحرم المعاوضة على بول غير مأكول اللحم، بتوهم شمول
الاجماع المنقول على جواز بيع بول الإبل له (1).
وفيه: أولا: أن المصنف لم يستثن بول الإبل الجلالة فيما يأتي من
أبوال ما لا يؤكل لحمه، لا في حرمة شربه ولا في نجاسته.
وثانيا: أن الفارق بين بول الإبل الجلالة وبين أبوال ما لا يؤكل لحمه
ليس إلا كون الأول نجسا بالعرض وكون الثانية نجسة بالذات، ومجرد

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 3.
63

هذا لا يكون فارقا بينهما حتى يصح الاستثناء.
والظاهر أنه استثناء من قوله: وعدم الانتفاع به، أي ليس لأبوال ما
لا يؤكل لحمه نفع ظاهر إلا بول الإبل الجلالة، فإنه كبول الإبل غير الجلالة
لها منفعة ظاهرة.
تنقيح وتهذيب:
قد اتفقت كلمات الأصحاب على حرمة بيع أبوال ما لا يؤكل لحمه،
بل في بعضها دعوى الاجماع بقسميه على ذلك.
وفي المراسم حكم بحرمة بيع الأبوال مطلقا إلا بول الإبل (1)، وفي
الغنية منع عن بيع كل نجس لا يمكن تطهيره (2)، وفي نهاية الشيخ: وجميع
النجاسات محرم التصرف فيها والتكسب بها على اختلاف أجناسها من
سائر أنواع العذرة والأبوال وغيرهما (3)، وفي المبسوط: فأما نجس العين
فلا يجوز بيعه كالبول (4)، وفي التذكرة الاجماع على عدم صحة بيع نجس
العين مطلقا (5)، وفي المستند: تحريم بيع الأبوال مما لا يؤكل لحمه شرعا
موضع وفاق (6).
وفي الجواهر ادعي قيام الاجماع المحصل على الحرمة، وإن نقل
الاجماع بين الأصحاب مستفيض عليها (7).

1 - المراسم: 170.
2 - الغنية (الجوامع الفقهية): 524..
3 - نهاية الإحكام 2: 463.
4 - المبسوط 2: 166.
5 - التذكرة 1: 464.
6 - المستند 2: 334.
7 - جواهر الكلام 22: 21.
64

وعلى هذا الضوء المذاهب الأربعة، وفي الفقه على المذاهب الأربعة:
ومن البيوع الباطلة بيع النجس (1)، وفي شرح فتح القدير: إذا كان أحد
العوضين أو كلاهما محرما فالبيع فاسد (2).
ثم إنه قد استدل المصنف على حرمة بيع أبوال ما لا يؤكل لحمه
وضعا وتكليفا بالاجماع والحرمة والنجاسة، وعدم جواز الانتفاع بها،
وجميعها لا يصلح لاثبات الحرمة التكليفية ولا الوضعية.
أما الاجماع، وأن نقله غير واحد من أعاظم الأصحاب إلا أن اثبات
الاجماع التعبدي هنا مشكل جدا، للاطمئنان بل العلم بأن مستند
المجمعين إنما هو الروايات العامة المتقدمة والروايات الخاصة
المذكورة في بيع الأعيان النجسة والحكم بحرمة الانتفاع بها، مضافا إلى أن المحصل منه غير حاصل والمنقول منه غير حجة.
أما الحرمة، فإن أراد منها حرمة الأكل والشرب، فالكبرى ممنوعة،
لعدم الدليل على أن كلما يحرم أكله أو شربه يحرم بيعه، ولو فرضنا
وجود دليل على ذلك فلا بد من تخصيص أكثر أفراده، فإن كثيرا من
الأشياء يحرم أكلها ويجوز بيعها، وذلك مستهجن يوجب سقوط الدليل
على الحجية.
وإن أراد منها حرمة الانتفاع بها بجميع منافعها أو بالمنافع الظاهرة،
فهو وإن استلزم حرمة البيع كما تقدم في النبوي المشهور، ولكن
الصغرى ممنوعة لعدم الدليل على تحريم جميع المنافع أو المنافع
الظاهرة لتلك الأبوال، وسيأتي تفصيلها.

1 - الفقه على المذاهب الأربعة 2: 231.
2 - شرح فتح القدير 5: 186.
65

وأما النجاسة، فإن رواية تحف العقول وإن دلت على حرمة بيع
النجس، لقوله (عليه السلام) فيها: أو شئ من وجوه النجس، فهذا كله حرام
محرم، لأن ذلك كله منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وامساكه
والتقلب فيه، فجميع تقلبه في ذلك حرام، إلا أن ذلك فيما تكون منافعه
كلها محرمة، كما هو مقتضى التعليل المذكور فيها، وأما إذا كان للنجس
منفعة محللة فلا دليل على حرمة بيعه، وأبوال ما لا يؤكل لحمه مما له
منفعة محللة، ومتقضى ذلك جواز بيعها.
اللهم إلا أن يقال: إن كل نجس يحرم الانتفاع به بجميع منافعه، فإذا
كان كذلك حرم بيعه وشراؤه، ولكنه دعوى بلا دليل، هذا، مضافا إلى
ضعف سندها وعدم انجبارها بعمل الأصحاب كما عرفت.
على أنه لو سلمنا دلالة الحرمة والنجاسة على حرمة البيع لدلتا على
الحرمة التكليفية دون الوضعية كما تقدم في أول المسألة.
ومما ذكرنا ظهر أن المشهور لم يستندوا في فتياهم بحرمة بيع النجس
إلى رواية تحف العقول، ولا إلى غيرها من الروايات العامة المتقدمة
كرواية فقه الرضا (عليه السلام) الدالة على أن كلما يكون محرما من جهة يحرم
بيعه، ولو كان مستندهم ذلك لم يكن الحكم بحرمة البيع مختصا بالنجس
بل كان يعم سائر المحرمات، ولو كانت من الأعيان الطاهرة، كأبوال ما
لا يؤكل لحمه بناء على حرمة شربها.
وأما عدم جواز الانتفاع بها، فربما قيل بأنه يستلزم فساد البيع وإن لم يقم دليل على حرمة ذلك البيع تكليفا، لأن حرمة الانتفاع بها يستلزم
نفي ماليتها التي لا بد منها في تحقق البيع، وفيه:
أولا: أنه لا دليل على اعتبار المالية في البيع، وإنما المناط صدق
66

عنوان المعاوضة عليه، وأما ما عن المصباح من أنه مبادلة مال بمال (1)
فلا يكون دليلا على ذلك لعدم حجية قوله.
وثانيا: إذا سلمنا اعتبار المالية في البيع فلا نسلم أن أبوال ما لا يؤكل
لحمه ليست بمال في جميع الأزمنة والأمكنة، كيف وأن الانتفاع بها
باستخراج الأدوية أو الغازات أو استعمالها في العمارة عند قلة الماء
ممكن جدا، فتكون مالا باعتبار تلك المنافع الظاهرة، ومثلها أكثر
المباحات التي تختلف ماليتها بحسب الأزمنة والأمكنة، كالماء
والحطب ونحوهما.
ومن هنا يعلم أن الشرب ليس من منافعها حتى يلزم من حرمته سقوط
ماليتها، اللهم إلا أن يقال إن الشارع قد الغي ماليتها بتحريم جميع
منافعها، ولكنه أول الكلام.
وثالثا: إذا سلمنا اعتبار المالية في البيع فيكفي أن يكون المبيع مالا
بنظر المبايعين إذا كان عقلائيا، ولا يجب كونه مالا في نظر العقلاء
أجمع.
ورابعا: لو سلمنا عدم كون الأبوال المذكورة مالا حتى في نظر
المتبايعين، فإن غاية ما يلزم كون المعاملة عليها سفهية، ولا دليل على
بطلانها بعد شمول أدلة صحة البيع لها، والفاسد شرعا إنما هو معاملة
السفيه لا المعاملة السفهائية، والدليل على الفساد فيها أن السفيه محجور
شرعا عن المعاملات.
هذا كله مضافا إلى صحة المعاملة عليها بمقتضى آية التجارة، وإن لم يصدق عليها البيع.

1 - المصباح المنير: 69.
67

وقد اتضح مما قدمناه جواز بيع أبوال ما لا يؤكل لحمه وضعا وتكليفا
كما اتضح جواز بيع أبوال ما يؤكل لحمه مطلقا، بل الجواز هنا بالأولوية،
إبلا كان أو غيرها، جلالا كان أو غيره، قلنا بجواز شربه اختيارا أو لم نقل،
لأن جواز الشرب لا يعد من منافع البول ليكون مالا باعتباره ويدور
الحكم بجواز البيع مداره.
وهم ودفع:
قد استدل المحقق الإيرواني (رحمه الله) على فساد المعاملة عليها بقوله
تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم (1)، على أن يراد من الباطل ما يعم الباطل العرفي
والشرعي، ومراد المستدل أن أخذ المال عوضا عن أبوال ما لا يؤكل
لحمه أكل للمال بالباطل (2).
وفيه: أن دخول باء السببية على الباطل ومقابلته في الآية للتجارة عن
تراض - ولا ريب أن المراد بالتجارة هي الأسباب - قرينتان على كون الآية
ناظرة إلى فصل الأسباب الصحيحة للمعاملة عن الأسباب الباطلة، كما
نبه عليه المستدل في أول البيع وغيره (3).
وعلى ذلك فيكون الغرض من الباطل الأسباب الباطلة، فلا يكون لها
تعلق بما لا مالية له من العوضين كما يرومه المستدل.
كما أن المراد من الأكل فيها ليس هو الازدراد على ما هو معناه
الحقيقي بل هو كناية عن تملك مال الغير من غير استحقاق، وإن كان ذلك

1 - النساء: 33.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 3.
3 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 3.
68

المال من غير المأكولات كالدار ونحوها، وقد تعارف استعماله بذلك
في القرآن وفي كلمات الفصحاء بل وفي غير العربية أيضا.
وعلى هذا، فإن كان الاستثناء متصلا كما هو الظاهر والموافق للقواعد
العربية فيكون مفاد الآية نفي تملك أموال الغير بالأسباب الباطلة من
القمار والغصب والغزو، وبيع المنابذة والحصاة، والتقسيم بالأزلام
والأقداح، إلا بسبب يكون تجارة عن تراض، فتفيد حصر الأسباب
الصحيحة للمعاملات بالتجارة عن تراض.
وإن كان الاستثناء منقطعا، فظهور الآية البدوي وإن كان هو بيان
القاعدة الكلية لكل واحد من أكل المال بالباطل والتجارة عن تراض
ولا تعرض لها للحصر.
وتظهر ثمرة ذلك فيما لا يعد في العرف من الأسباب الباطلة، ولا من
التجارة عن تراض، فيكون مهملا، إلا أنه تعالى حيث كان بصدد بيان
الأسباب المشروعة للمعاملات وتميز صحيحها عن فاسدها وكان
الاهمال مما يخل بالمقصود فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة
المقامية.
وتكون النتيجة أن الآية مسوقة لبيان حصر الأسباب الصحيحة
بالتجارة تراض، سواء كان الاستثناء متصلا أم منقطعا.
ومما يدل على كون الآية راجعة إلى أسباب المعاملات تطبيقها في
بعض الروايات على القمار (1).

1 - أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن أبيه، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قول الله
عز وجل: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، قال: ذلك القمار (نوادر أحمد بن محمد بن
عيسى: 167، عنه الوسائل 17: 167)، موثقة.
العياشي في تفسيره عن أسباط بن سالم، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاء رجل فقال:
أخبرني عن قول الله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، قال:
يعني بذلك القمار - الحديث (تفسير العياشي 1: 235، عنه الوسائل 17: 166).
وعن محمد بن علي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) سأل عن الآية، قال: نهي عن القمار، وكانت
قريش يقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عن ذلك (تفسير العياشي 1: 236، عنه الوسائل
17: 166).
فائدة: إعلم أن صاحب التفسير أبو النضر محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلمي
السمرقندي المعروف بالعياشي، وإن كان ثقة صدوقا عينا من عيون هذه الطائفة وكبيرها،
ولكن لم يثبت لنا اعتبار التفسير للارسال.
قال المحدث الحر في خاتمة الوسائل في الفائدة الرابعة: كتاب تفسير القرآن لمحمد بن
مسعود العياشي، وقد وصل إلينا النصف الأول منه، غير أن بعض النساخ حذف الأسانيد
واقتصر على راو واحد.
وفي البحار 1: 28: كتاب تفسير العياشي، روي عنه الطبرسي وغيره، ورأينا منه نسختين
قديمتين، وعد في كتب الرجال من كتبه لكن بعض الناسخين حذف أسانيده للاختصار، وذكر
في أوله عذرا هو أشنع من جرمه.
وقال الشيخ (رحمه الله) في رجاله ممن لم يرو عنهم (عليهم السلام) (الرجال: 440، الرقم: 6282): محمد
بن مسعود بن محمد بن عياش السمرقندي يكني أبا النضر، أكثر أهل المشرق علما وأدبا وفضلا
وفهما ونبلا في زمانه، صنف أكثر من مائتي مصنف ذكرناها في الفهرست، وكان له مجلس
للخاص ومجلس للعام (عليهم السلام).
وقال النجاشي (الرجال: 350، الرقم: 944) أبو النضر المعروف بالعياشي، ثقة صدوق عين
من عيون هذه الطائفة، وكان يروى عن الضعفاء كثيرا، وكان في أول أمره عامي المذهب،
وسمع حديث العامة فأكثر، ثم تبصر وعاد إلينا، وأنفق على العلم والحديث تركة أبيه سائرها و
كانت ثلاثمائة ألف دينار، وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قار أو معلق، مملوءة من
الناس.
69

قوله: كبول الإبل الجلالة.
70

أقول: بعد ما عرفت جواز الانتفاع بالأبوال مطلقا وجواز بيعها كذلك
فلا وجه لهذا الاستثناء.
قوله: إن قلنا بجواز شربها اختيارا كما عليه جماعة.
أقول: قد ظهر مما تقدم أن جواز الشرب أو حرمته ليسا مناطين في
جواز بيعها وحرمته، لعدم كون الشرب من المنافع الظاهرة ليدور الحكم
عليه وجودا وعدما، إذن فلا فرق بين أبوال ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل
لحمه.
حكم شرب أبوال ما يؤكل لحمه حال الاختيار:
قد وقع الخلاف بين أعاظم الأصحاب في جواز شرب أبوال ما يؤكل
لحمه حال الاختيار وعدم جوازه، وذهب جمع كثير إلى الجواز (1)
وجماعة أخرى إلى الحرمة (2)، وهو الحق، لمفهوم موثقة عمار (3)، فإنه
يدل على حرمة شربها لغير التداوي.

1 - من القدماء: ابن الجنيد - على ما في الدروس 3: 17 -، والسيد المرتضى في الإنتصار
: 201، ومن المتأخرين: ابن إدريس في السرائر 3: 125، والمحقق في النافع: 254 حيث قال:
والتحليل أشبه، والفاضل الآبي في كشف الرموز 1: 436، والمحقق السبزواري في كفاية
الأحكام: 252.
2 - كالمحقق في الشرايع 3: 227، والعلامة في المختلف: 686، والشهيد في الدروس
3: 17.
3 - عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن بول البقر يشربه الرجل، قال: إن
كان محتاجا إليه يتداوي به يشربه، وكذلك أبوال الإبل والغنم (التهذيب 1: 284، عنه الوسائل
25: 113)، موثقة.
71

كما تدل على ذلك أيضا عدة روايات أخرى من الخاصة (1) والعامة (2).

1 - عن بعض أصحابنا عن موسى بن عبد الله قال: سمعت أشياخنا يقولون: ألبان اللقاح
شفاء من كل داء وعاهة، ولصاحب الربو أبوالها (الكافي 6: 338، المحاسن: 493، عنهما
الوسائل 25: 114)، مرسلة.
وفي القاموس مادة لقح: اللقاح ككتاب الإبل، واللقوح كصبور واحدته.
الربو: التهيج وتوارد النفس الذي يعرض للمسرع في مشيه.
المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه شكى إليه الربو الشديد، فقال: اشرب له أبوال
اللقاح، فشربت ذلك، فمسح الله دائي (طب الأئمة (عليهم السلام): 62، عنه الوسائل 25: 115)، موثقة.
سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شرب الرجل أبوال الإبل والبقر والغنم ينعت له من
الوجع، هل يجوز له أن يشرب، قال: نعم لا بأس به (طب الأئمة (عليهم السلام): 62، عنه الوسائل
25: 115)، ضعيفة لأحمد بن فضل.
دعائم الاسلام: روينا عن أبي عبد الله، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، قال:
قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوم من بني ضبة مرضى - إلى أن قال: - فأخرجهم إلى إبل الصدقة
وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها يتداوون بذلك - الخبر (دعائم الاسلام 2: 476، عنه
المستدرك 17: 27)، ضعيفة للارسال.
2 - عن أنس: إن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر العرنيين أن يشربوا ألبان الإبل وأبوالها (السنن الكبرى
للبيهقي 10: 4).
وعن أنس: إن رهطا من عرينة أتوا النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إنا اجتوينا المدينة وعظمت بطوننا
وارتهست أعضادنا، فأمرهم النبي (صلى الله عليه وآله) أن يلحقوا براع الإبل، فيشربوا من ألبانها وأبوالها،
فلحقوا براعي الإبل، فشربوا من أبوالها وألبانها حتى صلحت بطونهم وأبدانهم ثم قتلوا الراعي
وساقوا الإبل - الحديث (السنن الكبرى للبيهقي 10: 4، ورواه البخاري في الصحيح 1، باب
الأبوال: 67 بأدنى تفاوت).
وفي القاموس مادة جوي اجتواه: كرهه، وأرض جوية غير موافقة، وفيه: ارتهس الوادي
امتلأ.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء لذربة بطونهم
(مسند أحمد 1: 293).
وفي القاموس: الذربة - محركة - فساد المعدة.
72

نعم هناك روايتان: إحداهما رواية قرب الإسناد (1) تدل على جواز
شرب أبوال مأكول اللحم على وجه الاطلاق، والثانية رواية الجعفري (2)
تدل على جواز شرب بول الإبل مطلقا وأنه خير من لبنه.
وفيه: مضافا إلى ضعف سنديهما أنه لا بد من تقييدهما بمفهوم موثقة
عمار المتقدمة، وحينئذ فيختص جواز شربها بالتداوي فقط، على أن
رواية الجعفري ليست بصدد بيان الجواز التكليفي بل هي مسوقة إلى بيان
الوجهة الطبية وأن أبوال الإبل مما يتداوي بها الناس.
ويدل على ذلك قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: ويجعل الله الشفاء في
ألبانها.
دفع توهم:
قد استدل بعض الأعاظم (3) على حرمة شربها بقوله تعالى: ويحرم
عليهم الخبائث (4)، حيث قال: وعندي أن هذا القول هو الأقوى وفي
آية تحريم الخبائث غنى وكفاية بعد القطع بكون البول مطلقا من
الخبائث.
وفيه: أن المقصود من الخبائث كل ما فيه مفسدة وردائة، ولو كان من
الأفعال المذمومة المعبر عنه في الفارسية بلفظ: پليد.

1 - إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا بأس ببول ما أكل لحمه (قرب الإسناد: 72، عنه الوسائل
25: 114)، ضعيفة لأبي البختري وهب بن وهب.
2 - عن الجعفري قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: أبوال الإبل خير من ألبانها،
ويجعل الله الشفاء في ألبانها (الكافي 6: 338، التهذيب 9: 100، عنهما الوسائل 25: 114)،
مجهولة لبكر بن صالح.
3 - ذكره المامقاني في حاشيته.
4 - الأعراف: 156.
73

ويدل على ذلك اطلاق الخبيث على العمل القبيح في قوله تعالى:
ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث (1)، ويساعده العرف
واللغة (2).

1 - الأنبياء: 72.
2 - في المجمع: الخبيث ضد الطيب، وقيل: الخبيث خلاف طيب الفعل من فجور ونحوه،
والخبائث الأفعال المذمومة والخصال الردية، وفي الحديث: لا تعودوا الخبيث من أنفسكم
فإنه معتاد لما عود، وفي حديث أهل البيت (عليهم السلام): لا يبغضنا إلا من خبثت ولادته أي لم تطب،
وخبث الرجل بالمرأة من باب قتل، زني بها (مجمع البحرين 2: 251).
وفي تفسير التبيان: الخبائث يعني القبائح، وفي موضع آخر: ونجيناه من القرية التي
كانت تعمل الخبائث، يعني أنهم كانوا يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم -
مجالسهم - وهي قرية سدوم على ما روي (تفسير التبيان 1: 758، 2: 291).
وفي مفردات الراغب مادة خبث: المخبث والخبيث ما يكره رداءة وخساسة، محسوسا
كان أو معقولا، وأصله الردي، وذلك يتناول في الاعتقاد والكذب في المقال، والقبيح في
الفعال، ويطلق على ما لا يوافق النفس من المحظورات، واتيان الرجال، والأعمال الفاسدة
والنفوس الخبيثة والحرام، والأفعال الردية، والكفر والكذب والنميمة (المفردات: 141).
وفي تاج العروس مادة خبث: الخبيث ضد الطيب، الخابث وهو الردي من كل شئ، ومن
المجاز الخبث - بالضم - الزنا، وقد خبث بها - ككرم - أي فجر، وفي الحديث: إذا كثر الخبث
كان كذا وكذا، أراد الفسق والفجور، ومنه حديث سعد بن عبادة: أنه أتى النبي (صلى الله عليه وآله) برجل
مخدج سقيم وجد مع امرأة يخبث بها، أي يزني، وفي حديث أنس: أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا أراد
الخلا قال: أعوذ بالله من الخبث والخابث، أراد بالخبث الشر والخبائث الشياطين (تاج
العروس 1: 617).
وقال ابن الأثير في تفسير الحديث: الخبث - بضم الباء - جمع الخبيث، والخبائث جمع
الخبيثة، أي ذكور الشياطين وإناثها، وقيل هو الخبث بسكون الباء، وهو خلاف طيب الفعل
من فجور وغيره، والخبائث يريد بها الأفعال المذمومة والخصال الردية، والخبيث نعت كل
شئ فاسد، يقال: هو خبيث الطعم، خبيث اللون، خبيث الفعل، والحرام السحت يسمي خبيثا
مثل الزنا، والمال الحرام والدم وما أشبهها مما حرم الله تعالى (النهاية 2: 5).
74

وإذن فالآية ناظرة إلى تحريم كل ما فيه مفسدة ولو من الأعمال
القبيحة، فلا تعم شرب الأبوال الطاهرة ونحوها مما تتنفر عنها الطبايع.
قوله: لا يوجب قياسه على الأدوية.
أقول: هذا الكلام بظاهره مما لا يترقب صدوره من المصنف، وذلك
لأن التداوي بها لبعض الأوجاع يجعلها مصداقا لعنوان الأدوية، فكما
يجوز بيعها حتى إذا كانت نجسة فكذلك يجوز بيع الأبوال مطلقا لكونها
مصداقا للأدوية، وانطباق الكلي على أفراده غير مربوط بالقياس.
وتوضيح ذلك: أن مالية الأشياء تدور على رغبات الناس بلحاظ
حاجاتهم إليها على حسب الحالات والأزمنة والأمكنة، ولا شبهة أن
المرض من الحالات التي لأجلها يحتاج الانسان إلى الأدوية والعقاقير
طاهرة كانت أم نجسة، ولأجل ذلك يجلبها الناس من أقاصي البلاد، فإذا
كانت الأبوال عند العرف من الأدوية ويعد من الأموال في غير حال
المرض كانت كسائر الأدوية التي يحتاج إليها الناس في حال المرض
ولا مجال لتفريقها عنها.
اللهم إلا أن يكون مراد المصنف سقوط مالية الأبوال لكثرتها.
وفيه مضافا إلى كونه خلاف الظاهر من كلامه وإلى منع كثرتها في
جميع البلاد، أن الكثرة لا توجب سقوط ماليتها بعد امكان الانتفاع بها في
بعض الأمكنة وإلا لزم سلب المالية عن أكثر المباحات، نعم لا يبعد
الالتزام بسقوط ماليتها إذا لم ينتفع بها في محلها ولم يمكن نقلها إلى
محل ينتفع بها فيه.
ومما ذكرنا علم أن التداوي بالأبوال من المنافع الظاهرة لها، فلا وجه
لعدها فيما لا نفع فيه، كما لا وجه للنقض على ذلك بأنه لو كان التداوي
75

بها موجبا لصحة بيعها لجاز بيع كل شئ من المحرمات، لقوله (عليه السلام):
ليس شئ مما حرمه الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه (1)، وذلك لما بينا
من أن المرض من الأحوال المتعارفة للانسان، فلا يقاس بالاضطرار الذي
لا يتفق في العمر إلا نادرا.
ومن هنا يتضح الفرق بين الأبوال وبين الميتة ولحوم السباع وغيرهما
من المحرمات التي يحتاج إليها الانسان عند الاضطرار، ولذلك فلا يتجر
أحد بلحوم السباع ونحوها لاحتمال الحاجة إليها، وهذا بخلاف الأدوية
فإن بيعها وشراءها من التجارات المهمة.
قوله: ولو عند الضرورة المسوغة للشرب.
أقول: لا تعرض في شئ من الروايات العامة وغيرها لتعليق جواز بيع
الأبوال الطاهرة غير بول الإبل على جواز شربها.
قوله: ولا ينتقض أيضا بالأدوية المحرمة.
أقول: قوله: لأجل الاضرار، تعليل للحرمة، وحاصل النقض أن
الأبوال الطاهرة تكون بحكم الأدوية، فكما أن الأدوية محرمة الاستعمال
في غير حال المرض لاضرارها بالنفس، ومع ذلك يجوز بيعها
واستعمالها عند المرض في حال المرض لأجل تبدل عنوان الاضرار
بعنوان النفع، وهذا بخلاف الأبوال فإن حليتها ليست إلا لأجل الضرورة
فالنقض في غير محله.
ولكن الانصاف أن ما أفاده المصنف نقضا وجوابا غير تام:
أما الجواب فلأنا لا نجد فرقا بين الأبوال وسائر الأدوية، وإذا كان

1 - عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس - الخ (نوادر أحمد بن محمد بن عيسى
: 75، عنه الوسائل 23: 228)، مرسلة.
76

الاحتياج إلى الأدوية موجبا لتبدل عنوان الضرر إلى النفع فليكن الاحتياج
إلى الأبوال في حال المرض كذلك، مع أن الأمر ليس كذلك، فإن من
الواضح جدا أن الاحتياج إلى الأدوية والعقاقير حال المرض ليس من
قبيل تبدل موضوع الضرر بموضوع النفع، كانتقال موضوع التمام إلى
موضوع القصر، وإنما هو كالاحتياج إلى سائر الأشياء بحسب الطبع.
وأما النقض ففيه أولا: أنه لا يجوز أن تعلل حرمة الأدوية في غير حال
المرض بالاضرار، لأنه من العناوين الثانوية، فلا يمكن أن يكون علة
لثبوت الحرمة للشئ بعنوانه الأولي، ولو صح ذلك لم يوجد شئ
يكون حلالا بعنوانه الأولي إلا نادرا، وذلك لأنه لا بد من عروض عنوان
الضرر عليه في مرتبة من مراتب استعماله فيكون حراما.
وثانيا: أن عنوان الاضرار ليس مما تكون الحرمة ثابتة عليه بالذات أو
بعنوان غير منفك، لأنه ليس أمرا مضبوطا بل يختلف بالإضافة إلى
الأشخاص والأزمنة والأمكنة والمقدار، وربما يكون الشئ مضرا
بالإضافة إلى شخص حار المزاج دون غيره، وبالنسبة إلى منطقة دون
منطقة، أو بمقدار خاص دون الأقل منه.
بل لو كان عنوان الاضرار موجبا لحرمة البيع لما جاز بيع شئ من
المشروبات والمأكولات، إذ ما من شئ إلا وهو مضر للمزاج أزيد من
حده.
نعم لو دل دليل على أن ما أضر كثيره فقليله حرام، كما ورد في الخمر:
فما أسكر كثيره فقليله حرام (1)، لتوجه ما ذكره من النقض.

1 - مر ذكر مصادره قبيل هذا، فراجع.
77

وقد تمسك بعض العامة بذلك عند بحثنا معه في حرمة شرب التتن
وأجبنا عنه بأنه لو صح ما أضر كثيره فقليله حرام للزم الالتزام بحرمة
جميع المباحات، فإن من الواضح أنه ما من شئ في العالم إلا وتكون
مرتبة خاصة منه مضرة للمزاج.
حرمة بيع شحوم ما لا يؤكل لحمه:
قوله: ولا ينافيه النبوي: لعن الله اليهود (1).
أقول: وجه التنافي هو توهم الملازمة بين حرمة الأكل وحرمة البيع،
وأجاب عنه المصنف بأن الظاهر أن الشحوم كانت محرمة الانتفاع على
اليهود بجميع الانتفاعات لا كتحريم شحوم غير مأكول اللحم علينا.
وفيه: أنه لا منشأ لهذا الظهور لا من الرواية ولا من غيرها، بل الظاهر
منها حرمة أكلها فقط، كما هو المستفاد من الآية (2) أيضا، فإن الظاهر من
تحريم الشحوم فيها تحريم أكلها لكونه منفعة ظاهرة لها، إلا أنك عرفت
في البحث عن النبوي المشهور أن حرمة الأكل لا يستلزم حرمة البيع
وضعا وتكليفا باتفاق من الشيعة ومن العامة.

1 - عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله
ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة
فإنها تطلي بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، ثم قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه - أي أذابوه - ثم باعوه
وأكلوا ثمنه (راجع سنن البيهقي 6: 12، وسبل السلام 2: 316، وصحيح البخاري باب
لا يذاب شحم الميتة 2: 107، وباب بيع الميتة 2: 110)، وتقدم أيضا بعض روايات الشحوم.
2 - قوله تعالى: وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم
شحومهما (الأنعام: 147).
78

قوله: والجواب عنه مع ضعفه.
أقول: قال المحقق الإيرواني: ظاهر النبوي ما حرم أكله من
المأكولات أعني ما يقصد للأكل دون ما حرم أكله مطلقا ليخالف غرض
المصنف ويلزم تخصيص الأكثر حتى يضطر إلى تضعيفه سندا ودلالة (1).
وفيه: مضافا إلى كونه حملا تبرعيا أنه يلزم تخصيص الأكثر أيضا،
لجواز بيع المأكولات والمشروبات المحرمة إذا كانت لها منافع محللة.
ثم إن الظاهر من ذيل كلامه استظهار ضعف الرواية من عبارة المصنف
من غير جهة تخصيص الأكثر، إلا أنه ناشئ من غلط النسخة ومن زيادة
كلمة: مع قبل كلمة: ضعفه.
لا يقال: إن الملاك في حرمة بيع الشحوم هو حرمة أكلها فيحرم بيعها
لكونه إعانة على الإثم.
فإنه يقال: لو سلمنا حرمة الإعانة على الإثم لكان الظاهر من الرواية هو
بيع اليهود شحومهم من غيرهم، ولم يعلم حرمته على غير اليهود، بل
الظاهر من الآية المباركة اختصاص التحريم بهم، مع أنه لو قطع النظر عن
هذا الظهور لكان تقييد الرواية بما إذا كان البيع للأكل بلا موجب.
المسألة (2)
جواز بيع العذرة
قوله: يحرم بيع العذرة النجسة من كل حيوان على المشهور.
أقول: المعروف بين الفقهاء (رحمهم الله) حرمة بيع العذرة النجسة من كل
حيوان.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 4.
79

بل في التذكرة: لا يجوز بيع سرجين النجس اجماعا منا (1)، وفي
الجواهر ادعي الاجماع بقسميه على حرمة بيع أرواث ما لا يؤكل
لحمه (2)، وفي النهاية جعل بيع العذرة من المكاسب المحظورة (3)، وفي
الغنية منع عن بيع سرقين ما لا يؤكل لحمه (4)، وفي المراسم حكم بحرمة
بيع العذرة (5)، وفي المستند أنه موضع وفاق (6)، وعلى هذا اتفاق المذاهب
الأربعة (7).
ثم إن تحقيق هذه المسألة في ضمن مقامين: الأول من حيث القواعد
والاجماعات والروايات العامة، والثاني من حيث الروايات الخاصة
الواردة في خصوص هذه المسألة.
أما المقام الأول، فقد ظهر من المسألة السابقة وما قبلها أنه لا يجوز
الاستدلال بشئ من تلك الأمور على حرمة البيع وفساده.

1 - التذكرة 1: 464.
2 - جواهر الكلام 22: 17.
3 - نهاية الإحكام 2: 463.
4 - الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
5 - المراسم: 170.
6 - المستند 2: 334.
7 - في فقه المذاهب الأربعة عن المالكية: لا يصح بيع زبل ما لا يؤكل لحمه، سواء كان
أكله محرما كالخيل والبغال والحمير، أو مكروها كالسبع والضبع والثعلب والذئب والهر، فإن
فضلات هذه الحيوانات ونحوها لا يصح بيعها.
وعن الحنابلة: لا يصح بيع النجس، كالزبل النجس، وكذلك عند الشافعية.
وعن الحنفية: لا ينعقد بيع العذرة، فإذا باعها كان البيع باطلا، إلا إذا خلطها بالتراب، فإنه
يجوز بيعها إذا كانت لها مالية، ويصح بيع الزبل يسمي سرجين، وكذا بيع البعر (فقه المذاهب
الأربعة 2: 231 - 232).
80

وأما المقام الثاني، فالروايات الواردة هنا على ثلاث طوائف: الأولى
ما يدل على حرمة بيع العذرة وكون ثمنها سحتا (1)، الثانية ما يدل على
جواز بيعها، وهي رواية ابن مضارب (2)، الثالثة ما يدل على جواز بيعها
وحرمته معا، وهي رواية سماعة (3).
وللجمع بينها وجوه للأعلام:
1 - ما ذكره شيخ الطائفة (رحمه الله) من حمل رواية المنع على عذرة الانسان
ورواية الجواز على عذرة البهائم مما يؤكل لحمه، واستشهد على ذلك
رواية سماعة.
قال في التهذيب بعد ما نقل رواية الجواز: أنه ولا ينافي ذلك ما رواه
يعقوب بن شعيب، لأن هذا الخبر محمول على عذرة الانسان والأول
محمول على عذرة البهائم، من الإبل والبقر والغنم، ولا تنافي بين
الخبرين، والذي يكشف عما ذكرناه رواية سماعة (4).

1 - يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثمن العذرة من السحت (التهذيب
6: 372، الإستبصار 3: 56، عنهما الوسائل 17: 175)، مجهولة لعلي بن مسكين أو سكن.
دعائم الاسلام: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن بيع العذرة، وقال: هي ميتة (دعائم الاسلام
2: 18، عنه المستدرك 13: 71)، مرسلة.
2 - محمد بن مضارب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا بأس ببيع العذرة (الكافي 5: 226،
التهذيب 6: 372، الإستبصار 3: 56، عنهم الوسائل 17: 175)، حسنة لابن مضارب إن قلنا
بتوثيق رواة كامل الزيارة وإلا فهو ضعيف.
3 - عن سماعة قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر، قال: إني رجل أبيع العذرة
فما تقول، قال: حرام بيعها وثمنها، وقال: لا بأس ببيع العذرة (التهذيب 6: 372، الإستبصار
3: 56، عنهما الوسائل 17: 175)، موثقة.
4 - التهذيب 6: 372.
81

وفي المبسوط: فلا يجوز بيع العذرة والسرجين مما لا يؤكل
لحمه (1)، وفي الخلاف: فالسرجين النجس محرم بالاجماع، فوجب أن
يكون بيعه محرما (2).
إذا عرفت مسلكه من كتبه الثلاثة فلا تغتر باطلاق كلامه في
الإستبصار، (3) حيث حمل رواية الجواز على عذرة غير الآدميين ورواية
المنع على عذرة الناس، ثم استشهد عليه برواية سماعة، فإن مراده من
غير الآدميين إنما هو ما يؤكل لحمه فقط فلا يعم غير المأكول.
وفيه أولا: أنه ثبت في محله أن كون الدليل نصا في مدلوله غير كون
بعض أفراده متيقنا في الإرادة من الخارج على تقدير صدور الحكم، فما
هو الموجب لرفع اليد عن الحكم هو الأول دون الثاني.
ففي مثل الأمر (4) بغسل الثوب من بول الخفاش الصريح في المحبوبية

1 - المبسوط 2: 167.
2 - الخلاف 2: 185، المسألة: 310.
3 - الإستبصار 3: 56.
4 - عن داود الرقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه
فلا أجده، فقال: اغسل ثوبك (التهذيب 1: 265، الإستبصار 1: 188، مستطرفات السرائر
: 107، عنهم الوسائل 3: 412)، مجهولة ليحيى بن عمر.
تاج العروس: الخفاش - كرمان - الوطواط الذي يطير بالليل، سمى به لصغر عينيه خلقة
وضعف بصره بالنهار، ومن الخواص أن دماغه إن مسح بالاخمصين هيج الباه أي شبق النكاح،
وان احرق واكتحل به قلع البياض من العين وأحد البصر، ودمه ان طلى به على عانات
المراهقين منع نبات الشعر، ومرارته ان مسح بها فرج المنهكة، وهي التي عسر ولادها ولدت
في ساعتها، ج خفافيش، والأخفش الذي يغمض إذا نظر (تاج العروس 4: 308).
وفي حياة الحيوان للدميري: الخفاش له أربعة أسماء: خفاش وخشاف وخطاف ووطواط،
وليس من الطير في شئ، فإنه ذو أذنين وأسنان وخصيتين ومنقار، ويحيض ويطهر ويضحك
كما يضحك الانسان، ويبول كما تبول ذوات الأربع، ويرضع ولده، ومن الخواص ان طبخ
رأسه في إناء نحاس أو حديد بدهن زنبق ويغمر فيه مرارا حتى يتهرى ويصفى ذلك الدهن عنه
ويدهن به صاحب النقرس والفالج القديم والارتعاش والتورم في الجسد والربو فإنه ينفعه
ذلك ويبرؤه، وهو عجيب مجرب، وان ذبح في بيت واخذ قلبه واحرق فيه لم يدخله حياة و
لا عقارب، ومن نتف إبطه وطلاه بدمه مع لبن أجزاء متساوية لم ينبت فيه شعر وإن صب من
مرق الخفاش وقعد فيه صاحب الفالج انحل ما به.
82

والظاهر في الوجوب، وما ورد من أن بول الخفاش لا بأس به (1)، الصريح
في جواز الترك والظاهر الإباحة الخاصة، برفع اليد عن ظهور كل منهما
بصريح الآخر فيثبت الاستحباب.
وأما في أمثال المقام حيث لا صراحة للدليل في شئ فلا موجب
للجمع المذكور، فإنه تبرعي محض وخارج عن صناعة الجمع الدلالي
العرفي فلا يوجب رفع التعارض بوجه، إذن فلا بد أما من طرحهما وأما
الرجوع إلى المرجحات السندية أو الخارجية من موافقة الكتاب أو
مخالفة العامة.
وبعبارة أخرى أن الجمع العرفي بين الدليلين بطرح ظهور كل منهما
بنص الآخر إنما يجري فيما كانت لكل منهما قرينة لرفع اليد عن ظهور
الآخر، كالجمع بين الأمر والترخيص بحمل الأول على الاستحباب
والثاني على الكراهة.
وهذا بخلاف ما إذا ورد النفي والاثبات على مورد واحد كما فيما
نحن فيه، فإنه من أوضح موارد المتعارضين.

1 - عن غياث عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: لا بأس بدم البراغيث والبق وبول
الخشاشيف (التهذيب 1: 266، الإستبصار 1: 188، عنهما الوسائل 3: 413)، موثقة.
83

وثانيا: سلمنا ذلك إلا أن اطلاق العذرة على مدفوعات ما يؤكل لحمه
ممنوع جدا، وإنما يطلق عليها لفظ الأرواث أو السرقين، وهذا واضح
لمن كان له أنس بالعرف واللغة (1).
وثالثا: سلمنا جواز الاطلاق وصحته، إلا أن أخذ المتيقن من الدليلين
المتنافيين لا يعد من الجموع العرفية، لعدم ابتنائه على أساس صحيح،
بل لو جاز أخذ المتيقن من الدليل لا نسد باب حجية الظواهر ولم يجز
التمسك بها، إذ ما من دليل إلا وله متيقن في إرادة المتكلم، إلا أن يقال
بتخصيص ذلك بصورة التعارض وهو كما ترى.
ورابعا: سلمنا ذلك أيضا إلا أن أخذ المتيقن من دليلي الجواز والمنع
لا ينحصر بما ذكر بل يجوز أخذه منهما بوجه آخر أوجه منه، بأن تحمل
رواية الجواز على فرض كون العذرة المبيعة يسيرة ورواية المنع على
فرض كونها كثيرة، أو تحمل رواية الجواز على بلاد تعارف فيها بيع
العذرة لأجل التسميد ونحوه ورواية المنع على بلاد لم يتعارف فيها
بيعها أو غير ذلك.
2 - أن تحمل رواية الجواز على بلاد ينتفع بها ورواية المنع على بلاد
لا ينتفع بها، وقد حكى المصنف هذا الوجه من المجلسي، ثم استبعده.

1 - في المنجد (493): العذرة الغائط، وفي المجمع (3: 398): العذرة وزان كلمة الخرو
ولم يسمع التخفيف، وقد تكرر ذكرها في الحديث، وسمي فناء الدار عذرة لمكان القاء العذرة
هناك. وكذلك في نهاية ابن الأثير (3: 199).
وفي تاج العروس (3: 388): والعاذر هو الغائط الذي هو السلح والرجيع، والعذرة بكسر
الذال المعجمة، ومنه حديث ابن عمر أنه كره السلت الذي يزرع بالعذرة يريد غائط الانسان
الذي يلقيه وفناء الدار.
84

وفيه: مضافا إلى كونه جمعا تبرعيا أن امكان الانتفاع بها في مكان
يكفي في صحة بيعها على وجه الاطلاق.
على أنك عرفت في بيع الأبوال أن غاية ما يلزم هو كون المعاملة على
أمثال تلك الخبائث سفهية، ولم يقم دليل على بطلانها وصرف
العمومات عنها.
مع أن الظاهر من قول السائل في رواية سماعة: أني رجل أبيع
العذرة، هو كونه بياع العذرة وأخذه ذلك شغلا لنفسه، وإنما سئل عن
حكمه الشرعي، وهذا كالصريح في كون بيع العذرة متعارفا في ذلك
الزمان.
ثم إن هذا الوجه وإن نسبه المصنف إلى المجلسي ولكن لم نجده في
كتبه (1)، بل الموجود في مرآة العقول نفي البعد عن حمل رواية الجواز
على الكراهة.
3 - ما احتمله السبزواري من حمل رواية المنع على الكراهة ورواية
الجواز على الترخيص المطلق (2)، وقد استبعده المصنف أيضا، ولعل
الوجه فيه هو أن استعمال لفظ السحت في الكراهة غير جار على المنهج
الصحيح، فإن السحت في اللغة عبارة عن الحرام (3)، إذن فرواية المنع آبية

1 - حكاه العلامة المجلسي في ملاذ الأخيار 10: 379 ذيل الحديث: 202 عن والده
العلامة المجلسي الأول.
2 - كفاية الأحكام: 84.
3 - في المجمع (2: 204): السحت كل مال لا يحل كسبه، وفي القاموس: السحت
الحرام وما خبث من المكاسب، وفي المصباح (: 267): السحت مال حرام لا يحل أكله
ولا كسبه.
وفي لسان العرب (2: 41): السحت كل حرام قبيح الذكر، وقيل: هو ما خبث من المكاسب
وحرم فلزم عنه العار، وقبيح الذكر كثمن الكلب والخمر والخنزير، والجمع أسحات، و
السحت الحرام الذي لا يحل كسبه، لأنه يسحت البركة أي يذهبها، وأسحتت تجارته خبثت و
حرمت،، وأسحت: اكتسب السحت.
85

عن الحمل عليها.
وفيه أولا: أن لفظ السحت قد استعمل في الكراهة في عدة من
الروايات، فإنه أطلق فيها على ثمن جلود السباع (1)، وكسب الحجام (2)،
وأجرة المعلمين الذين يشارطون في تعليم القرآن (3)، وقبول الهدية مع
قضاء الحاجة (4).

1 - عن علي (عليه السلام): من السحت ثمن جلود السباع (الجعفريات: 180، عنه المستدرك
13: 69)، ضعيفة لجهالة الكتاب.
عنه (عليه السلام): من السحت ثمن جلود السباع (دعائم الاسلام 1: 126، عنه المستدرك
13: 120)، مرسلة.
2 - عن سماعة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): السحت أنواع كثيرة، منها كسب الحجام إذا
شارط (الكافي 5: 127، عنه الوسائل 17: 92)، ضعيفة لمحمد بن أحمد الجاموراني.
ومثلها رواية أخرى لسماعة إلا أنه ليست فيها جملة شرطية ولكنها موثقة (التهذيب
6: 352، عنه الوسائل 17: 92).
عن علي (عليه السلام): من السحت كسب الحجام (الجعفريات: 108، عنه المستدرك 13: 74)،
ضعيفة لجهالة الكتاب.
3 - عن ابن عباس في قوله تعالى: أكالون للسحت، قال: أجرة المعلمين الذين
يشارطون في تعليم القرآن (فقه الرضا (عليه السلام): 34، عنه المستدرك 13: 116)، والآية في المائدة
: 42.
4 - عن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: أكالون للسحت، قال: هو الرجل يقضي لأخيه
الحاجة ثم يقبل هديته (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 28، عنه الوسائل 17: 95)، قد تعرض
صاحب الوسائل لأسانيد الرواية في باب إسباغ الوضوء، ولكن أكثرها من المجاهيل.
86

ومن الواضح جدا أنه ليس شئ منها بحرام قطعا، وإنما هي مكروهة
فقط، وقد نص بصحة ذلك الاستعمال غير واحد من أهل اللغة (1).
بل الروايات الكثيرة تصرح بجواز بيع جلود السباع (2)، وأخذ الأجرة
للحجام (3)، وتعليم القرآن حتى مع الاشتراط (4).

1 - في نهاية ابن الأثير (2: 345): السحت كما يطلق على الحرام يطلق على المكروه،
وفي لسان العرب (2: 42): السحت يرد في الكلام على المكروه مرة وعلى الحرام أخرى،
ويستدل عليه بالقرائن.
2 - منها الروايات المجوزة لبيع جلود النمر والسباع، كما سيأتي التعرض لها في بيع
المسوخ.
3 - منها موثقة زرارة، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن كسب الحجام، فقال: مكروه له
أن يشارط، ولا بأس عليك أن تشارطه وتماسكه، وإنما يكره له، ولا بأس عليك (الكافي
5: 116، التهذيب 6: 355، الإستبصار 3: 59، عنهم الوسائل 17: 106).
لا يخفى أن ظهور الرواية في الكراهة الاصطلاحية مما لا ينكر، وإن كانت هي في الأخبار
أعم منها ومن الحرمة.
ومنها رواية حنان بن سدير، وفيها: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد احتجم وأعطي الأجر، ولو كان
حراما ما أعطاه (الكافي 5: 115، التهذيب 6: 354، الإستبصار 3: 58، عنهم الوسائل 17: 105)،
ضعيفة لسهل.
وقريب منها رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) (الكافي 5: 116، الفقيه 3: 97، التهذيب
6: 355، الإستبصار 3: 59، عنهم الوسائل 17: 106)، وهي أيضا ضعيفة لعمرو بن شمر.
ومنها رواية قرب الإسناد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) احتجم وسط رأسه، حجمه أبو طيبة،
وأعطاه رسول الله (صلى الله عليه وآله) صاعا من تمر (قرب الإسناد: 53، عنه الوسائل 17: 106)، ضعيفة
لحسين بن علوان.
وفي صحيح البخاري باب خراج الحجام من الإجارات 2: 122، وفي سنن البيهقي 9: 338
عن ابن عباس قال: احتجم النبي (صلى الله عليه وآله) وأعطي الحجام أجره ولو علم كراهية لم يعطه.
4 - منها رواية الفضل بن أبي قرة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن هؤلاء يقولون: إن
كسب المعلم سحت، فقال: كذبوا أعداء الله، إنما أرادوا أن لا يعلموا القرآن، ولو أن المعلم
أعطاه رجل دية ولده كان للمعلم مباحا (الكافي 5: 121، الفقيه 3: 99، التهذيب 6: 364،
الإستبصار 3: 65، عنهم الوسائل 17: 154)، ضعيفة للفضل.
ثم إنه أخرج البيهقي في السنن الكبرى 6: 124 أحاديث تدل على جواز أخذ المعلم الأجرة
للتعليم، وأحاديث أخرى تدل على كراهة أخذها لتعليم القرآن.
87

والجمع العرفي يقتضي حمل المانعة على الكراهة، وعليها فتاوى
الأصحاب واجماعهم بل فتاوى أكثر العامة (1)، إذن فلا وجه للتهويل على
السبزواري بأن كلمة السحت غير مستعملة في الكراهة الاصطلاحية.
وثانيا: لو سلمنا حجية قول اللغوي فغاية ما يترتب عليه أن حمل لفظ
السحت على المكروه خلاف الظاهر ولا بأس به إذا اقتضاه الجمع بين
الدليلين.
لا يقال: وإن صح اطلاق كلمة السحت على الكراهة كصحة اطلاقها
على الحرام إلا أن نسبته إلى الثمن صريحة في الحرمة، فإنه لا معنى
لكراهة الثمن.

1 - عند الحنابلة: يصح بيع سباع البهائم، وعند الحنفية يصح بيع الأسد والفيل وسائر
الحيوانات سوي الخنزير (فقه المذاهب 2: 232).
كره أجر الحجام إذا اشترط (فقه المذاهب 3: 173)، وعن الحنابلة كراهة أجرة الحجام
(فقه المذاهب 3: 195)، والمتأخرين من الحنفية أجازوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن (فقه
المذاهب 3: 171)، عن المالكية يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن إذا عرف المعلم المتعلم
(فقه المذاهب 3: 182)، وعن الشافعية تصح الإجارة على تعليم القرآن (فقه المذاهب 3:
188).
ذكر النووي في شرح صحيح مسلم بهامش ارشاد الساري 6: 446: اختلف العلماء في أجرة
الحجام، فقيل بتحريمه مطلقا، وقيل يحرم على الحر دون العبد، والأكثر على عدم الحرمة
وحملوا النهي على التنزيه والارتفاع عن دنئ الكسب.
88

فإنه يقال: إن عناية تعلق الكراهة بالثمن لا تزيد على عناية تعلق
الحرمة به، فإرادة الثاني من كلمة السحت دون الأول مع صحة استعمالها
فيهما تحتاج إلى قرينة معينة.
ومن هنا ذكر في لسان العرب: السحت يرد في الكلام على المكروه
مرة وعلى الحرام أخرى، ويستدل عليه بالقرائن (1).
غاية الأمر أنه إذا تعلقت الحرمة بالثمن فيستفاد من ذلك الحرمة
الوضعية أعني بها فساد البيع زائدا على حرمة التصرف في الثمن بخلاف
تعلق الكراهة به فإنه متمحض في الدلالة على الحكم التكليفي كما في
ثمن جلود السباع ونحوه.
4 - أن تحمل رواية الجواز على الجواز التكليفي، لظهور كلمة: لا بأس
في ذلك، ورواية المنع على الحرمة الوضعية، فتصير النتيجة أن بيع
العذرة فاسد وغير حرام.
وفيه مضافا إلى كونه جمعا تبرعيا أن استعمال لا بأس في الجواز
التكليفي ومقابله في البأس الوضعي من الغرابة بمكان كاد أن يلحق
بالأغلاط، ولم نسمع إلى الآن نظير ذلك الاستعمال، بل هما متمحضان
لبيان الحكم الوضعي، وإن كان يستفاد منهما الحكم التكليفي أحيانا
بالالتزام.
ومن هنا ترون أن الفقهاء (رحمهم الله) يتمسكون بالأمر بشئ وبالنهي عن
شئ في الصلاة لاثبات الجزئية والمانعية فيها، على أن قوله (عليه السلام) في
رواية سماعة: حرام بيعها وثمنها (2)، ظاهر في الحرمة التكليفية

1 - لسان العرب 2: 42.
2 - التهذيب 6: 372، الإستبصار 3: 56، عنهما الوسائل 17: 175.
89

لو لم يكن نصا فيها، فلا وجه لرفع اليد عنها وحملها على الحرمة
الوضعية.
5 - ما اختاره العلامة المامقاني (رحمه الله) وقال: الأقرب عندي حمل قوله
(عليه السلام): لا بأس ببيع العذرة، على الاستفهام الانكاري، ولعل هذا مراد
المحدث الكاشاني حيث قال: ولا يبعد أن يكون اللفظتان مختلفتين في
هيئة التلفظ والمعنى وإن كانتا واحدة في الصورة (1).
وفيه: مضافا إلى كونه محتاجا إلى علم الغيب أنه خلاف الظاهر من
الرواية، فلا يجوز المصير إليه بمجرد الاحتمال.
والتحقيق أنه لا يجوز العمل بروايات المنع لوجهين:
1 - عدم استيفائها شرائط الحجية بنفسها:
أما رواية ابن شعيب فلضعف سندها، لا للارسال كما زعمه صاحب
الجواهر (2) اغترارا بارسال العلامة في المنتهى (3)، بل لجهالة علي بن
مسكين أو سكن، وكذا رواية دعائم الاسلام، وتوهم انجبارهما بعمل
المشهور توهم فاسد، فإنه مضافا إلى فساد الكبرى أن الحكم غير مختص
بالعذرة بل شامل لغيرها من النجاسات.
وأما رواية سماعة فهي وإن كانت موثقة إلا أنه لا يجوز الاعتماد
عليها، أما لاجمالها لمعارضة صدرها مع ذيلها إن كانت رواية واحدة،
وأما للتعارض والتساقط لو كانت روايتين.
ولكن يدل على التعدد من الرواية أمور:
الأول: اقتران كلمة قال فيها بالواو.

1 - الوافي: 10، الباب 43 من المكاسب،: 42.
2 - جواهر الكلام 22: 17.
3 - المنتهي 2: 1008.
90

الثاني: وضع المظهر فيها موضع المضمر، فإنها لو كانت رواية واحدة
لكان للإمام (عليه السلام) أن يقول: ولا بأس ببيعها، بدل قوله (عليه السلام): لا بأس ببيع
العذرة.
الثالث: أنها لو كانت رواية واحدة لكانت مجملة كما عرفت، إذن فلزم
للسائل أن يسأل عن بيع العذرة ثانيا.
فينكشف من تلك القرائن تعددها، وأن سماعة لما نقل رواية المنع
ألحقها برواية الجواز تفهيما للمعارضة، وعلى هذا فيحكم بالتساقط.
إن قلت: إن السائل لما فهم مقصوده من القرائن الحالية أو المقالية وإن لم تصل إلينا ترك التعرض للسؤال، فلا يلزم من ذلك تعدد الرواية.
قلت: احتمال أنه فهم المراد من القرائن وإن كان موجودا إلا أن أصالة
عدم القرينة التي من الأصول المسلمة عند العقلاء تدفع ذلك الاحتمال.
ثم لو صحت رواية ابن مضارب (1)، كما هي كذلك وإن رماها المجلسي
بضعف السند (2)، لوجب الأخذ بها، وإلا فالمرجع في الجواز التكليفي
هي أصالة الإباحة، وفي الجواز الوضعي هي العمومات من: أوفوا
بالعقود (3)، وأحل الله البيع (4)، وتجارة عن تراض (5).
2 - أنك بعد ما عرفت تعدد رواية سماعة وكونها روايتين فتنحصر
الروايات هنا في طائفتين: المانعة عن بيع العذرة والمجوزة لبيعها.

1 - صحتها مبني على توثيق ابن مضارب، وهو ثقة إن قلنا بتوثيق مشايخ كامل الزيارة، و
إن قلنا بعدمه - كما هو الحق وبنى عليه العلامة الخوئي (قدس سره) أخيرا - والرواية ضعيفة.
2 - مرآة العقول 3، الباب 103 جامع فيما يحل الشراء من المكاسب: 411.
3 - المائدة: 1.
4 - البقرة: 275.
5 - النساء: 29.
91

وعلى هذا فإن أمكن الجمع بينهما بإحدى الوجوه المتقدمة فنأخذ
بهما، وإلا فلا بد من الرجوع إلى المرجحات الخارجية، لتساوي روايتي
سماعة من حيث المرجحات السندية، ولما كان القول بحرمة بيع العذرة
مذهب العامة بأجمعهم فنأخذ بالطائفة المجوزة لبيعها.
ومن هنا ظهر ما في كلام المصنف، حيث استبعد حمل الطائفة
المانعة عن بيعها على التقية.
والعجب من الفاضل المامقاني (رحمه الله) فإنه وجه كلام المصنف وقال: إن
مجرد كونه مذهب أكثر العامة لا يفيد مع كون فتوى معاصر الإمام الذي
صدر منه الحكم هو الجواز كما فيما نحن فيه، حيث إن الجواز فتوى
أبي حنيفة المعاصر لمن صدر منه أخبار المنع، وهو الصادق (عليه السلام)، فخبر
الجواز أولى بالحمل على التقية، ووجه العجب أن أبا حنيفة قد أفتى
بحرمة بيع العذرة كما عرفت.
وأعجب من ذلك ما نسبه إليه العلامة في التذكرة من تجويز بيع
السرجين النجس، لأن أهل الأمصار يتبايعونه لزروعهم من غير نكير (1)،
فإنه (رحمه الله) مع اطلاعه على مذهب العامة وآرائهم كيف خفي عليه مذهب
أبي حنيفة في هذه المسألة.
نعم لا ينكر تجويز أبي حنيفة بيع العذرة إذا اختلطت بالتراب، وبيع
الزبل الذي يسمى بالسرجين، وبيع البعر للانتفاع به وجعله وقودا (2).
قوله: فرواية الجواز لا يجوز الأخذ بها من وجوه لا تخفى.
أقول: الوجوه المشار إليها في كلامه هي الاجماعات المنقولة

1 - التذكرة 1: 464.
2 - فقه المذاهب الأربعة 3: 232.
92

والشهرة الفتوائية والروايات العامة المتقدمة، وضعف سند ما يدل على
الجواز، إلا أنها مخدوشة بأجمعها ولا يصلح شئ منها لترجيح ما يدل
على المنع:
أما الاجماعات المنقولة، فليست بتعبدية، بل مدركها هي الوجوه
المتقدمة، ولو كانت تعبدية لكانت حجة مستقلة، وضمها إلى رواية
المنع لا يزيد اعتبارها بل هي بنفسها لو كانت حجة لوجب الأخذ بها وإلا
فضم الاجماعات إليها لا يوجب حجيتها.
وأما الشهرة الفتوائية، فهي وإن كانت مسلمة إلا أن ابتنائها على رواية
المنع ممنوع جدا، فإن تلك الشهرة غير مختصة ببيع العذرة بل هي
جارية في مطلق النجاسات، ولو سلمنا ابتنائها عليها لا توجب انجبار
ضعف سند الرواية، على أن ما يوجب ترجيح أحدي الروايتين على
الأخرى عند المعارضة هي الشهرة في الرواية دون الشهرة الفتوائية.
وأما الروايات العامة، فقد تقدم الكلام فيها، على أن النجاسة لم تذكر
في شئ منها إلا في رواية تحف العقول، والذي يستفاد منها ليس إلا
حرمة الانتفاع بالنجس مطلقا، وهي وإن كانت مانعة عن البيع إلا أنه
لم يقل بها أحد.
وأما مانعية النجاسة من حيث هي نجاسة، فلا يستفاد من تلك
الروايات ولا من غيرها، نعم لا شبهة في حرمة الانتفاعات المتوقفة على
الطهارة.
ومن هنا يظهر الجواب عمن ذهب إلى حرمة الانتفاع بالعذرة في
التسميد ونحوه، وتمسك في ذلك بقوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول:
أو شئ يكون فيه وجه من وجوه الفساد، بدعوى أن التسميد ونحوه
93

من التصرفات فيها من وجوه الفساد، بل قد ورد في بعض الروايات جواز
طرح العذرة في المزارع (1).
وأما تخيل ضعف رواية الجواز من ناحية السند، ففيه أولا: أنه محض
اشتباه قد نشأ من خلط ابن مضارب بابن مصادف، وتوهم أن الأول غير
موجود في كتب الرجال فاسد، فإنه مضافا إلى كونه مذكورا فيها
ومنصوصا بحسنه أنه قد اتفقت أصول الحديث على نقل رواية الجواز
عنه ولم يحتمل فيها نقلها عن ابن مصادف.
وثانيا: أن اختصار الكليني بنقل رواية الجواز فقط دون غيرها يشير
إلى اعتبارها كما هي كذلك، لكون رواتها بين ثقات وحسان.
جواز بيع الأرواث الطاهرة:
قوله: الأقوى جواز بيع الأرواث الطاهرة.
أقول: المشهور بين أصحابنا جواز بيع الأرواث الطاهرة، وفي
المستند يجوز الاكتساب بها مطلقا وفاقا للأكثر (2)، بل عن السيد الاجماع
عليه لطهارتها وعظم الانتفاع بها فيشملها الأصل والعمومات (3).
وفي الخلاف سرجين ما يؤكل لحمه يجوز بيعه دليلنا على جواز ذلك أنه طاهر عندنا ومن منع منه فإنما منع لنجاسته، ويدل على ذلك بيع أهل
الأمصار في جميع الأعصار لزروعهم وثمارهم، ولم نجد أحدا أكره

1 - عن علي (عليه السلام) أنه كان لا يري بأسا أن يطرح في المزارع العذرة (قرب الإسناد: 68،
عنه الوسائل 24: 169)، ضعيفة لأبي البختري وهب بن وهب.
2 - المستند 2: 334.
3 - لم نقف عليه في كتب السيد، لكن حكاه عنه العلامة في المنتهي 2: 1008.
94

ذلك ولا خلاف فيه، فوجب أن يكون جائزا (1).
نعم حكم في النهاية بحرمة بيع العذرة والأبوال إلا بول الإبل خاصة
فإنه لا بأس بشربه والاستشفاء به عند الضرورة (2)، وفي المراسم حكم
بحرمة التكسب بالعذرة والبول إلا بول الإبل خاصة (3).
وكذلك ذهبت الشافعية إلى نجاسة فضلة مأكول اللحم بلا تفصيل بين
الطيور وغيرها، مع ذهابهم إلى عدم صحة بيع كل نجس إلا إذا كان
مخلوطا بشئ طاهر لا يمكن فصله منه (4).
والظاهر أنه لا فرق بين العذرة والأرواث في جواز البيع وعدمه من
جهة مدرك الحكم إلا نجاسة الأولى وطهارة الثانية، فإن الأخبار الخاصة
الواردة في حرمة بيع العذرة لم تتم كما عرفت والأخبار العامة المتقدمة
إنما تدل على حرمة بيع ما يكون منهيا عن أكله، فتكون شاملة للأرواث
والعذرة كلتيهما، وحيث عرفت أنه لا يصلح شئ من ذلك لاثبات حرمة
بيع العذرة فتعرف عدم جريانه في الأرواث أيضا.
وأما ما في رواية تحف العقول من قوله (عليه السلام): أو شئ من وجوه
النجس، فلا تدل على مانعية النجاسة عن البيع، لما عرفت في بيع
الأبوال أن مقتضي التعليل المذكور فيها هو كون منافع النجس بأجمعها
محرمة، وأما إذا كانت له منفعة محللة فلا تدل الرواية على حرمة بيعه،
إذن فلا وجه لما التزم به شيخنا الأنصاري (رحمه الله) من التفريق بين العذرة
والأرواث.

1 - الخلاف 3: 185، المسألة: 310.
2 - نهاية الإحكام 2: 463.
3 - المراسم: 170.
4 - فقه المذاهب الأربعة 2: 232.
95

وأما دعوى الاجماع على التفريق بينهما، فهي دعوى جزافية
للاطمئنان بأن مدرك المجمعين تلك الوجوه المذكورة لمنع بيع العذرة
دون الأرواث، وإلا فالاجماع التعبدي الكاشف عن رأي الحجة معلوم
العدم، وقيام السيرة على جواز الانتفاع والمعاوضة لا يختص بالأرواث
بل يعم العذرة أيضا كشمول العمومات لهما.
وما في الجواهر (1) من الاستدلال على جواز بيع الأرواث فقط بخبر ابن
مضارب وبذيل رواية سماعة بعد ما حملهما عليها فاسد، لما عرفت من
أنه لا يصح اطلاق العذرة على الأرواث بوجه، وأن الأرواث في اللغة (2)
لا تطلق إلا على رجيع ذي الحافر.
وقد يتوهم تحريم بيعها لآية تحريم الخبائث، بدعوى أن عموم
التحريم المستفاد من الجمع المحلى باللام يشمل البيع أيضا.
وفيه أولا: ما أجاب به المصنف، من أن المراد من تحريم الخبائث هو
تحريم أكلها لا مطلق الانتفاعات بها.
وثانيا: أنه قد تقدم في بيع الأبوال أن الخبيث عبارة عن مطلق ما فيه
نقص ودناءة، ولو كان من قبيل الأفعال ويرادف في الفارسية بلفظ:
پليد، فمثل الزنا والافتراء والغيبة والنميمة وغيرها من الأفعال
المحرمة التي عبر عنها في قوله تعالى بالفواحش من الخبائث أيضا (3).

1 - جواهر الكلام 22: 17.
2 - في تاج العروس (1: 626) مادة راث: الروثة واحدة الروث والأرواث، وقد راث
الفرس وغيره، وفي المثل أحشك وتروثنى، قال ابن سيده: الروث رجيع ذي الحافر، وفي
التهذيب يقال لكل ذي حافر قد راث يروث روثا، وفي المجمع (2: 255): راث الفرس يروث
روثا من باب قال، والخارج روث، ومنه الحديث: نهى عن الروث، يعني رجيع ذات الحافر.
3 - قوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش (الأعراف: 31).
96

إذن فليس المراد من تحريم الخبائث في الآية إلا بيان الكبرى الكلية
من تحريم ما فيه مفسدة، وأما تشخيص الصغرى وبيان أن في هذا
مفسدة أو في ذاك فخارج عن حدود الآية، وإلا فيلزم التمسك بالعام في
الشبهات المصداقية، وهو لا يجوز كما نقح في الأصول.
وإن أبيت إلا عن اختصاصها بما يكون الطبع متنفرا عنه، فندفعه بعدم
الملازمة بين تحريم الأكل وحرمة البيع، كما سبق في بيع الأبوال وغيره،
إلا إذا كان الأكل من المنافع الظاهرة.
المسألة (3)
جواز بيع الدم نجسا كان أم طاهرا
قوله: يحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف.
أقول: المشهور بين أصحابنا شهرة عظيمة حرمة بيع الدم النجس،
كما في النهاية (1) والمراسم (2) والمبسوط (3)، وفي التذكرة يشترط في
المعقود عليه الطهارة الأصلية ولو باع نجس العين لم يصح اجماعا (4).
وعلى هذا المنهج ابن الهمام الحنفي في شرح فتح القدير (5)، وعن
المالكية لا يصح بيع النجس، وعن الحنابلة لا يصح بيع النجس كالدم،
وعن الشافعية لا يصح بيع كل نجس، وعن الحنفية لا يصح بيع الدم (6)،

1 - نهاية الإحكام 2: 463.
2 - المراسم: 170.
3 - المبسوط 2: 167.
4 - التذكرة 1: 464.
5 - شرح فتح القدير 5: 186.
6 - فقه المذاهب الأربعة 2: 231 - 232.
97

وفي أخبارهم أيضا شهادة على ذلك (1).
إذا عرفت ذلك فاعلم أن المصنف قد فصل بين الدم النجس فحكم
بحرمة المعاوضة عليه للاجماع والأخبار السابقة - أي الروايات العامة -
وبين الدم الطاهر، فقد قوي جواز المعاوضة عليه إذا فرضت له منفعة
محللة كالصبغ ونحوه، لكونه من الأعيان التي يجوز الانتفاع بها منفعة
محللة.
وفيه: أنه بعد اشتراكهما في حرمة الأكل وجواز الانتفاع بهما منفعة
محللة كالصبغ والتسميد ونحوهما، فلا وجه للتفكيك بينهما.
وأما النجاسة فقد عرفت مرارا أنه لا موضوعية لها، فلا تكون فارقة بين
الدم الطاهر والنجس.
وأما الأخبار السابقة فمضافا إلى ضعف سندها أنها شاملة لهما،
فلو تمت لدلت على حرمة بيعهما معا وإلا فلا، على أن المستفاد من
رواية تحف العقول هو تحريم مطلق منافع النجس، وحينئذ فإن وقفنا
على ظاهرها فلازمه الافتاء بما لم يفت به أحد، وإن اقتصرنا على
خصوص تحريم البيع فلا دليل عليه.
وأما الاجماع فهو لا يختص بالمقام، وإنما هو الذي ادعى قيامه على
حرمة مطلق بيع النجس، ومدركه هي الوجوه المذكورة لحرمة بيعه من
الروايات العامة وغيرها، وإلا فليس هنا اجماع تعبدي ليكشف عن رأي
المعصوم.
إذن فلا دليل على حرمة بيع الدم، سواء كان نجسا أم طاهرا، لا وضعا
ولا تكليفا.

1 - عن عون بن أبي جحيفة قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ثمن الدم (سنن البيهقي
6: 6، صحيح البخاري باب موكل الربا 3: 78).
98

وهم وإزالة:
وقد استدل على حرمة بيع الدم مطلقا بمرفوعة أبي يحيى الواسطي،
فإن فيها: نهى علي (عليه السلام) عن بيع سبعة منها الدم (1)، فتدل على ذلك
وضعا وتكليفا، بعد ملاحظة انجبارها بالشهرة، بل بعدم الخلاف بين
الأصحاب.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند وغير منجبرة بعمل المشهور صغرى
وكبرى، والوجه في ذلك هو ما تقدم (2)، ولا أنها منجبرة بعدم الخلاف،
وإن ذكره المامقاني (رحمه الله)، فإنه على تقدير عدم كونه حجة فضمها لغير
الحجة لا يفيد اعتبارها، فلا يجوز الاستدلال بها على حرمة بيع الأمور
المذكورة فيها، نعم إذا قلنا بشمول أدلة التسامح في السنن للمكروهات
لا بأس من الالتزام بكراهة بيعها.

1 - الواسطي رفعه قال: مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقصابين، فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من
الشاة، نهاهم عن بيع الدم والغدد، وآذان الفواد والطحال، والنخاع والخصي والقضيب، فقال
له بعض القصابين: يا أمير المؤمنين ما الكبد والطحال إلا سواء، فقال له: كذبت يا لكع، ايتوني
بتورين من ماء أنبئك بخلاف ما بينهما، فأتي بكبد وطحال وتورين من ماء، شقوا الطحال من
وسطه، وشقوا الكبد من وسطه، ثم أمر (عليه السلام) فمر سافي الماء جميعا، فابيضت الكبد ولم ينقص
شئ منه، ولم يبيض الطحال وخرج ما فيه كله وصار دما كله، حتى بقي جلد الطحال وعرقه،
فقال له: هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم وهذا دم (الكافي 6: 253، التهذيب 9: 74، الخصال
: 341، عنهم الوسائل 24: 172)، مرفوعة.
أقول: النخاع - مثلثة - الخيط الأبيض في جوف الفقار ينحدر من الدماغ، ويتشعب منه
شعب في الجسم كما في القاموس، والخصي كمدي جمع خصية، كمدية الغدد، كغرف جمع
غدة، كغرفة لحم أسود يستصحب الشحم، اللكع - بضم اللام وفتح الكاف - اللئيم والأحمق،
والتور إناء يشرب فيه، ومرس الشئ في الماء انقاعه وتليينه باليد.
2 - مر في البحث عن كتاب تحف العقول.
99

وثانيا: أن الظاهر من الدم المذكور في المرفوعة هو الدم النجس الذي
تقذفه الذبيحة المسمى بالمسفوح لكثرته ومرسومية أكله في زمن
الجاهلية، دون الطاهر المتخلف فيها الذي يباع بتبع اللحوم كثيرا، فإنه
من القلة بمكان لم يكن مورد الرغبة لأهل الجاهلية، لينجر ذلك إلى أن
يمر علي (عليه السلام) بالقصابين وينهاهم عن بيعه، ولعله لذلك لم يذكر الله
تعالى في القرآن إلا الدم المسفوح (1).
إذن فالرواية لا تشمل الدم الطاهر، فلا تدل على حرمة بيعه مطلقا
لكونها أخص من المدعي.
ولكن يمكن أن يقال: إن تعارف أكل الدم النجس وغلبته في الخارج
لا يوجب اختصاص المنع المذكور في الرواية بل يعم الدم الطاهر أيضا،
ويدل على ذلك من الرواية ذكر الطحال فيها، فإن الإمام (عليه السلام) بين كونه من
الدم، وفي رواية أخرى: لأنه دم (2).
إلا أنه مع ذلك لا نسلم دلالة المرفوعة على أزيد من حرمة بيعه للأكل
فقط تكليفا أو وضعا أيضا، كما نبه على ذلك العلامة الأنصاري (رحمه الله)
وقال: فالظاهر إرادة حرمة البيع للأكل، ولا شك في تحريمه لما سيجئ
من أن قصد المنفعة المحرمة في المبيع موجب لحرمة البيع بل بطلانه
وأما حرمة بيعه لغير الأكل فلا دلالة عليه من الرواية لا وضعا ولا تكليفا،
والشاهد لذلك أنه لا ريب في جواز بيع الأمور المذكورة فيها لغير الأكل
كاطعام الحيوان ونحوه.

1 - قوله تعالى: أو دما مسفوحا، الأنعام 146.
2 - إسماعيل بن مرار عنهم (عليهم السلام) قال: لا يؤكل مما يكون في الإبل - إلى أن قال: -
الطحال، لأنه دم (الكافي 6: 254، التهذيب 9: 74، عنهما الوسائل 24: 172)، مجهولة
لإسماعيل بن مرار.
100

تذكرة:
ربما يتوهم أن بيع الدم لما كان إعانة على الإثم فيكون محرما لذلك (1).
وفيه مضافا إلى ما سيأتي من عدم الدليل على حرمتها، أن النسبة بينها
وبين بيع الدم هو العموم من وجه، فإنه قد يشتريه الانسان لغير الأكل
كالصبغ والتسميد ونحوهما، فلا يلزم منه إعانة على الإثم بوجه، وعلى
تقدير كونه إعانة على الإثم فالنهي إنما تعلق بعنوان خارج عن البيع
فلا يدل على الفساد.
تذكرة أخرى:
قد استدل العلامة المامقاني (رحمه الله) على حرمة بيعه بما دل من الكتاب (2)
والسنة على تحريم الدم (3)، بضميمة قوله (عليه السلام): إن الله إذا حرم شيئا
حرم ثمنه.
وفيه مضافا إلى ما تقدم في النبوي، أن المراد من تحريم الدم في
الكتاب والسنة إنما هو تحريم أكله، وقد عرفت مرارا أنه لا ملازمة بينه
وبين حرمة الثمن.
المسألة (4)
حرمة بيع المني
قوله: الرابعة: لا اشكال في حرمة بيع المني.
أقول: قبل التعرض لبيان جهات المسألة وأحكامها لا بد وأن يعلم أن

1 - قائله المحقق الإيرواني في حاشيته على المكاسب: 5.
2 - قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة والدم (البقرة: 169)، وقوله تعالى: حرمت
عليكم الميتة والدم (المائدة: 5).
3 - الكافي 6: 253، التهذيب 9: 74، المحاسن: 471، عنهم الوسائل 24: 171.
101

المني إنما يطلق على ما خرج من المخرج وأريق، كما ذكره بعض أهل
اللغة في وجه تسميته (1)، وهذا بخلاف عسيب الفحل، فإن له معان
عديدة.
والذي يناسب منها المقام أربعة: الطروقة وماء الفحل في الأصلاب
وأجرة الضراب وأعطاه الكراء على الضراب.
فإن أريد منه المعنيين الأخيرين فيكون ذلك بنفسه موردا للنهي في
الروايات الناهية عنه.
وإن أريد المعنيين الأولين فيكون الذي في الحديث بتقدير المضاف،
فالتقدير في نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن عسيب الفحل أنه نهى عن بيعه أو
عن كرائه، وقد نص على ذلك كثير من اللغويين (2).

1 - في المصباح (: 582): المني معروف، وأمني الرجل امناء أراق منيه، وفي المجمع
(1: 399): قوله تعالى: من نطفة إذا تمني، قيل: أي تدفق في الرحم، يقال: أمني الرجل
يمني إذا أنزل المني، ومنى - كإلى - موضع بمكة، فقيل: سمي به لما يمني من الدماء، أي يراق
، وفي تاج العروس (10: 348): استمني طلب خروجه واستدعاه.
2 - في تاج العروس (1: 380): العسب ضراب الفحل وطرقه، أو العسب ماؤه، أي
الفحل فرسا كان أو بعيرا أو نسله، يقال: قطع الله عسبه، أي ماءه ونسله، والعسب: الولد،
والعسب: اعطاء الكراء على الضراب، وهو أيضا اسم للكراء الذي يؤخذ على ضرب الفحل،
والفعل - كضرب - يقال: عسب الفحل الناقة يعسبها عسبا إذا طرقها، وعسب الفحل يعسبه إذا
اكراه، وهو منهي عنه في الحديث، أو أن الذي في الحديث بحذف المضاف، تقديره نهى عن
كراء عسب الفحل، وإنما نهى عنه للجهالة.
وفي المجمع (2: 121): عسيب الفحل أجرة ضرابه، ومنه: نهى عن عسيب الفحل،
وعسيب الفحل ماؤه فرسا كان أو بعيرا أو غيرهما، ولم ينه عنه، وإنما أراد النهي عن الكراء
الذي يؤخذ عليه للجهالة، وعن الجمهرة نهى عن عسب الفحل، أي لا يؤخذ لضرابه كراء.
وعن نهاية ابن الأثير (3: 234): نهى عن عسب الفحل، عسب الفحل ماؤه، وعسبه أيضا
ضرابه، وإنما أراد النهي عن الكراء، وعن فائق الزمخشري: النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن عسب
الفحل، أي عن كراء قرعه، والعسب القرع، والفرق بينه وبين الملاقيح أن المراد بها النطفة بعد
استقرارها في الرحم، والعسب الماء قبل استقرارها.
وعن المصباح (: 408): عسب الفحل الناقة عسبا من باب ضرب طرقها، وعسبت الرجل
عسبا أعطيته الكراء على الضراب، ونهى عن عسب الفحل، وهو على حذف مضاف، والأصل
عن كراء عسب الفحل.
102

ولكن الغرض فيما نحن فيه هو الكسب، كما أشير إليه في النبوي
الآتي، ولعل الوجه في أفراد المصنف وبعض آخر عسيب الفحل عن
المني هو الفرق المذكور بينهما.
ثم إن تحقيق الكلام في هذه المسألة يقع في ثلاث جهات: الأولى في
بيع المني إذا وقع في خارج الرحم، والثانية في بيعه بعد وقوعه فيه
ويسمى بالملاقيح، والثالثة في بيع ماء الفحول في أصلابها، ويسمى
بعسيب الفحل.
أما الجهة الأولى، فحكم المصنف بحرمة بيعه لنجاسته وعدم
الانتفاع به إذا وقع في خارج الرحم، وكذلك يحرم بيعه عند كل من يرى
النجاسة مانعة عن البيع، ومنهم المالكية والحنابلة غير الشافعية (1)، فإنهم
وإن ذهبوا إلى مانعية النجاسة عن البيع إلا أنهم يرون طهارة المني في
بعض الصور (2).
أما النجاسة فظهر ما في مانعيتها عن البيع من المسائل المتقدمة.

1 - فقه المذاهب الأربعة 3: 232 - 331.
2 - الشافعية قالوا بطهارة مني الآدمي حيا وميتا إن خرج بعد استكمال السن تسع سنين،
ولو خرج على صورة الدم إذا كان خروجه على هذه الحالة من طريقه المعتاد، وإلا فنجس، و
قيس عليه مني خرج من حي غير آدمي، لأنه أصل للحيوان الطاهر إلا مني الكلب (راجع فقه
المذاهب 1: 13).
103

وأما عدم الانتفاع به فمانعيته عنه تتوقف على أمرين: الأول اثبات
حرمة الانتفاع به إذا وقع في خارج الرحم، والثاني اعتبار المالية في البيع،
فبانتفاء أحدهما يثبت جواز بيعه، وحيث عرفت وستعرف عدم اعتبار
المالية فيه، فيحكم بجواز بيعه في هذه الصورة، على أنه لو تم ذلك لمنع
عن بيعه وضعا فقط كما هو واضح.
وأما الجهة الثانية، ففي التذكرة لا نعرف خلافا بين العلماء في فساد
بيع الملاقيح للجهالة وعدم القدرة على التسليم (1).
ولكن التحقيق أن يقال: أنه إن قلنا بتبعية النماء للحيوان، كما هو
الحق، فبمجرد وقوع المني في الرحم يصير ملكا لمالك الحيوان
بالتبعية، لكونه جزءا منه، كما كان قبل ذلك جزءا من الفحل وملكا
لمالكه بالتبع، وعلى هذا فلا يجوز بيعه لا من صاحب الأنثى ولا من غيره.
وإن قلنا بعدم الجزئية والتبعية بل بكونه كالبذر المغروس في أرض
الغير، فالظاهر جواز بيعه مطلقا، سواء كان من صاحب الأنثى أو من غيره،
حتى بناء على اعتبار المالية في العوضين، لكونه مالا في هذه الصورة،
فتجوز المعاوضة عليه.
وأما منع جواز بيعه حينئذ لنجاسته كما في المتن، فمن العجائب،
كيف فإنها منتفية قطعا إذا خرج من الباطن إلى الباطن، على أنها لو كانت
مانعة لمنعت عن بيعه لأجل المنافع التي تتوقف على عدمها لا مطلقا،
على أنك عرفت عدم مانعيتها عن البيع، وستعرف اعتراف المصنف
بذلك في بيع الميتة، فإنه قال: فمجرد النجاسة لا تصلح علة لمنع البيع
لولا الاجماع على حرمة بيع الميتة.

1 - التذكرة 1: 480.
104

وأما الجهالة وعدم القدرة على التسليم فلا تكونان مانعتين عن بيع
الملاقيح، لأنها لا تختلف قيمتها باختلاف الكم والكيف، وأن تسليم
كل شئ بحسب حاله، وهو في المني وقوعه في الرحم، فهو حاصل
على الفرض.
وبعبارة أخرى: أن الجهالة وعدم القدرة على التسليم إنما تمنعان عن
البيع لأجل الغرر المنهي عنه في البيع، كما يأتي في البيع الغرري، ففي
بيع الملاقيح ليس غرر، لا من ناحية الجهالة ولا من ناحية عدم القدرة
على التسليم.
ولكن الذي يسهل الخطب أن السيرة القطعية من العقلاء والمتشرعة
قائمة على تبعية النتاج للأمهات في الحيوانات، وقد أمضاها الشارع،
فلا يمكن التخطي عنها، كما أن الولد للفراش في الانسان بالنص
والاجماع القطعيين.
ومن هنا يعاملون مع نتاج الحيوانات معاملة الملك حتى مع العلم بأن
اللقاح حصل من فحل شخص آخر، وإلا فكان اللازم عليهم إما رد النتاج
إلى صاحب الفحل إن كان معلوما أو المعاملة معه معاملة مجهول المالك
إن كان المالك مجهولا، وهذا شئ لا يتفوه به ذو مسكة.
وأما دعوى الاجماع التعبدي على البطلان، فدعوى جزافية بعد
العلم ولا أقل من الاحتمال بكونه مستندا إلى الوجوه المذكورة، لبطلان
بيع الملاقيح، وقياس ذلك بالبذر المغروس في أرض الغير باطل بعد
قيام الدليل على الفرق.
وأما الجهة الثالثة، فقد وقع الخلاف بين الفقهاء في حرمة بيع عسيب
الفحل.
قال في التذكرة بعد كلامه المتقدم في الجهة الثانية: يحرم بيع عسيب
105

الفحل، وهو نطفته، لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور عليه، ولا نعلم
فيه خلافا (1).
وقال في الخلاف: إجارة الفحل للضراب مكروه وليس بمحظور
وعقد الإجارة عليه غير فاسد، ثم ادعي الاجماع على الكراهة (2).
وفي المستند حكم بكراهة أجرة الضراب وحمل عليها الأخبار
الناهية عنها للاجماع (3)، وهكذا وقع الخلاف في ذلك بين العامة (4).

1 - التذكرة 1: 480.
2 - الخلاف 3: 180.
3 - المستند 2: 330.
4 - في الخلاف (3: 180): قال مالك: يجوز ولم يكرهه، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن
الإجارة فاسدة والأجرة محظورة.
وفي فقه المذاهب (3: 169) عن الحنفية: وأما الأعيان التي لا يصح استئجارها باتفاق،
فمنها نزو الذكور من الحيوانات على إناثها، فلا يحل لأحد أن يؤجر ثوره ليحبل بقرة غيره،
ولا يؤجر حماره ليحبل حمارة الغير، وهكذا، لأن احبال الحيوان غير مقدور عليه فلا يصح
تأجيره.
وفي فقه المذاهب (3: 194) عن الحنابلة: ومن الأشياء التي لا تصح إجارتها ذكور
الحيوانات التي تستأجر لاحبال أنثاها، فلا يحل استئجار ثور ليحبل بقرة، ولا جملا ليحبل
ناقة، وهكذا، لأن المقصود من ذلك أنما هو منيه، وهو محرم لا قيمة له، فلا يصح الاستئجار
عليه.
وفي سبل السلام للصنعاني (2: 329) عن ابن عمر قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن عسب
الفحل، وفيه وفيما قبله دليل على تحريم استئجار الفحل للضراب، والأجرة حرام، وذهبت
جماعة من السلف إلى أنه يجوز ذلك إلا أنه يستأجره للضراب مدة معلومة أو تكون الضرابات
معلومة، وحملوا النهي على التنزيه، وهو خلاف أصله.
وفي المبسوط لمحمد الشيباني (15: 83): المراد بعسب التيس أخذ المال على الضراب،
وهو انزاء الفحول على الإناث، وذلك حرام.
وفي المبسوط لمحمد الشيباني (16: 41): إذا استأجر فحلا لينزيه لم يجز.
106

ثم إن تحقيق هذه الجهة يقع في مقامين: الأول من حيث القواعد،
والثاني بحسب الروايات:
أما الأول، فقد استدل على بطلان المعاملة على عسيب الفحل بالبيع
أو بالإجارة بوجوه:
1 - بجهالته، وفيه: أنه لم يرد نص ولا انعقد اجماع على اعتبار العلم
بعوضي المعاملة ليلزم من جهالتهما بطلانها، بل إنما نعتبر ذلك فيها من
جهة الغرر المرتفع بالعلم بالطروقة والاجتماع، فإن الغرض من المعاملة
على عسيب الفحل هو ذلك.
2 - بعدم القدرة على التسليم بدعوى أن احبال الحيوان غير مقدور
عليه، فلا تصح الإجارة عليه، لأن ذلك ليس في وسعه والموجود في
أصلاب الفحول أيضا غير مقدور على تسليمه فلا يصح بيعه.
وفيه: أن اعتبار ذلك في المعاملة أيضا من جهة الغرر، فحيث كان
النظر في ذلك إلى الطروقة والاجتماع فيرتفع الغرر عنها، فإن تسليم كل
شئ بحسبه كما عرفت في الجهة الثانية.
3 - بعدم كون ما في أصلاب الفحول مالا لكونه ماء مهينا لا قيمة له
فيكون العقد عليه باطلا.
وفيه مضافا إلى عدم اعتبار المالية في عوضي المعاملة، أن قوامها إنما
هو باعتبار العقلاء ورغبتهم، فلا شبهة في ترتب الغرض المهم على ما
في أصلاب الفحول، على أنه لو تم شئ من تلك الوجوه لدل على
الحرمة الوضعية دون التكليفية.
وأما توهم مانعية النجاسة عنها هنا لتكون دليلا على الحرمة التكليفية
فمما لا يصغي إليه، فإنه مع تسليم مانعيتها عن المعاملة فلا دليل على
نجاسة ما في الأصلاب.
107

وأما المقام الثاني:
فالروايات الواردة هنا على طائفتين: الأولى (1): تدل على حرمة بيع
عسيب الدابة واكرائها على الضراب، وأن ثمن ذلك سحت، ويدل عليه
بعض الروايات من طرق العامة أيضا (2)، الثانية (3): تدل على جواز اكراء
التيوس ونفي البأس عن أخذ أجورها.

1 - في حديث: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن خصال تسعة: عن عسيب الدابة، يعني كسب
الفحل، وعن خاتم الذهب، وعن لبوس ثياب القسي، وهي ثياب ينسج بالشام (الخصال
: 417، عنه الوسائل 17: 96)، ضعيفة لأبي الخطاب راشد المنقري وأبي عروبة.
روي أنه: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن عسيب الفحل، وهو أجر الضراب (الفقيه 3: 105، عنه
الوسائل 7: 11)، مرسلة.
عن علي 7 أنه قال: من السحت ثمن اللقاح، وعسب الفحل، وجلود السباع
(الجعفريات: 180، عنه المستدرك 13: 69)، ضعيفة لجهالة الكتاب.
روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن عسب الفحل (دعائم الاسلام 2: 18، عنه المستدرك
13: 76)، مرسلة.
2 - عن ابن عمر أنه قال: نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن عسب الفحل (صحيح البخاري، باب
عسب الفحل من الإجارات 3: 123).
عن جابر قال: نهانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع ضراب الجمل (سبل السلام 2: 328).
عن أبي نعيم، عن بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله): أن رسول الله نهى عن عسب التيس
(المبسوط للشيباني 15: 83).
عن أبي هريرة: نهى عن عسب الفحل (السنن الكبرى للبيهقي 6: 6).
3 - حنان بن سدير قال: دخلنا على أبي عبد الله 7 ومعنا فرقد الحجام، فقال له: إن
لي تيسا أكريه فما تقول في كسبه، قال: كل من كسبه فإنه لك حلال (الكافي 5: 115، التهذيب
6: 354، الإستبصار 3: 58، عنهم الوسائل 17: 111)، ضعيفة لسهل بن زياد.
معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت له: أجر التيوس، قال: إن كانت
العرب لتعاير به ولا بأس (الكافي 5: 115، التهذيب 6: 354، الإستبصار 3: 58، عنهم الوسائل
17: 111)، موثقة.
108

فمقتضى الجمع بينهما هو حمل الطائفة الأولى المانعة على الكراهة،
ولا يمنع عن ذلك اطلاق السحت على ثمن عسيب الفحل في رواية
الجعفريات، فإنك قد عرفت في بيع العذرة اطلاقه على الكراهة
الاصطلاحية في مواضع شتى.
لا يقال: إن النبوي ورواية الجعفريات بنفسهما ظاهرتان في الكراهة
المصطلحة، لاشتمالهما على ما ليس بمحرم قطعا، فإنه ذكر المنع في
الجعفريات عن بيع جلود السباع وأجر القاري، مع أنهما ليسا بمحرمين
جزما، وفي النبوي نهى عن لبس ثياب ينسج بالشام مع عدم ثبوت
حرمته، على أن النبوي كمرسلة الصدوق ودعائم الاسلام والمنقول من
طرق العامة ضعيفة السند.
فإنه يقال: إن ثبوت الترخيص في بعض الأمور المذكورة فيهما بدليل
خارجي لا يوجب ثبوته في غيره، كيف وقد ثبت في الشريعة المقدسة
استحباب بعض الأغسال كغسل الجمعة والعيدين وغيرهما، مع أنها
ذكرت في جملة من الروايات في عداد الأغسال الواجبة، كغسل الجنابة
والميت ومس الميت (1).
نعم لم تثبت من تلك الروايات المانعة إلا وثاقة رواية الجعفريات (2)،
على أن النهي عن بيع عسيب الفحل في النبوي لا يوجب حرمة المعاملة
وضعا بل التكسب به حرام تكليفا، والشاهد على ذلك أن في الرواية نهى
عما هو حرام بذاته مثل ثمن الكلب، وما هو حرام بالعرض مثل خاتم
الذهب، فإنه ليس بذاته من المحرمات بل لبسه والتختم به حرام.

1 - عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله 7 قال: إن الغسل في أربعة عشر موطنا: غسل
الميت، وغسل الجنب، وغسل مس الميت، وغسل الجمعة والعيدين - الخبر (الخصال
2: 498، عنه الوسائل 3: 306).
2 - يأتي في البحث عن جواز المعاوضة على الدهن المتنجس جهالة الكتاب.
109

ثم لا وجه لحمل الطائفة المانعة على التقية، لما عرفت من كون
المسألة محل الخلاف بين العامة أيضا.
المسألة (5)
جواز الانتفاع بالميتة وحرمة بيعها
قوله: يحرم المعاوضة على الميتة.
أقول: تحرير هذه المسألة في مقامين، وقد خلط المصنف بينهما،
الأول في جواز الانتفاع بالميتة، والثاني في حرمة بيعها، وتقديم الأول
للبحث عنه أولى من تقديم الثاني، وإن عكسه المصنف.
أما المقام الأول:
فإن مقتضى الأصل الأولي هو جواز الانتفاع بالميتة، إلا أن المشهور
إنما هي حرمة الانتفاع بها.
ففي النهاية: بيع الميتة والتصرف فيها والتكسب بها حرام (1)، وفي
المراسم: التصرف في الميتة ببيع وغيره حرام (2)، وفي الجواهر: لا يجوز
الانتفاع بشئ من الميتة مما تحله الحياة فضلا عن التكسب (3)، وعليه
فتاوى أكثر العامة (4).

1 - نهاية الإحكام 2: 464.
2 - المراسم: 171.
3 - جواهر الكلام 22: 16.
4 - في شرح فتح القدير (5: 203) منع عن بيع جلود الميتة قبل أن تدبغ، لأنها غير منتفع
بها، وتمسك في ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله): لا تنتفعوا من الميتة بإهاب.
وفي سبل السلام (2: 317) نسب إلى الأكثر أنه لا ينتفع من الميتة بشئ إلا بجلدها إذا دبغ،
ثم حكم بحرمة بيعها لتحريمها.
110

ثم إن المهم هنا صرف عنان الكلام إلى الروايات الخاصة الواردة في
ذلك، وهي على طائفتين: الأولى تدل على حرمة الانتفاع بالميتة،
والثانية على جواز الانتفاع بها.
أما الطائفة الأولى، فهي متظافرة:
منها: مكاتبة قاسم الصيقل، فإنه سأل الإمام (عليه السلام) عن جواز جعل
أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة، فكتب (عليه السلام): فإن كان ما تعمل
وحشيا ذكيا فلا بأس (1)، فإن مفهومها يدل على حرمة الانتفاع بجلود غير
الذكي.
وفيه مضافا إلى ضعف سندها، أن مناط المنع فيها عن عمل أغماد
السيوف من جلود الحمر الميتة ليس إلا من جهة إصابتها الثوب الذي
يصلي فيه السائل، ومن هنا أمره الرضا (عليه السلام) بأن يتخذ ثوبا لصلاته، وأما
أصل الانتفاع بها بعمل الأغماد منها فهو مسكوت عنه، فيبقى تحت
أصالة الإباحة.
بل يمكن أن يقال: إن الرواية تدل على جواز الانتفاع بالميتة، وذلك
لأن السؤال فيها إنما وقع عن أمرين: أحدهما عمل الأغماد من جلود
الحمر الميتة، والثاني إصابتها الثوب، فجوابه (عليه السلام) عن الثاني دون الأول
ليس إلا تقريرا لجواز الانتفاع بالميتة، وإلا فكان سكوته عنه مع كونه في
مقام البيان مخلا بالمقصود.
ومن هنا يعلم الوجه في قول أبي جعفر الثاني (عليه السلام): فإن كان ما تعمل

1 - قال: كتبت إلى الرضا (عليه السلام) إني أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فيصيب
ثيابي، فأصلي فيها، فكتب 7 إلي: اتخذ ثوبا لصلاتك، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) -
الخ، فكتب (عليه السلام): فإن كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس (الكافي 3: 407، التهذيب 2: 358،
عنهما الوسائل 3: 462)، ضعيفة لقاسم ومعلي البصري.
111

وحشيا ذكيا فلا بأس، إذن فلا بد من جعلها من جملة ما يدل على جواز
الانتفاع بها دون العكس.
ومنها: رواية الوشاء، فإنه (عليه السلام) قد منع فيها عن استصباح الأليات
المبانة من الغنم الحي (1)، فإنه يستلزم إصابتها اليد والثوب، وهو حرام.
وفيه: أنه لما لم يكن إصابة اليد والثوب للميتة وسائر النجاسات بل
تلويث تمام البدن بهما حراما قطعا، فلا بد إما من أخذ التحريم في قوله
(عليه السلام): وهو حرام، ارشادا إلى النجاسة، كما في الحدائق (2)، أو إلى
المانعية عن الصلاة، أو إلى صورة المعاملة معها معاملة المذكى، بل عدم
تعرضه (عليه السلام) لحكم الانتفاع بها بالاستصباح المسؤول عنه وتصديه لبيان
نجاستها أو مانعيتها عن الصلاة أدل دليل على جواز الانتفاع بها دون
العكس.
سلمنا ذلك، ولكن لا بد من الاقتصار فيها على موردها، أعني صورة
إصابتها اليد والثوب، إلا أن يتمسك في غير موردها بعدم القول بالفصل.
نعم وفي دلالة الروايات المروية عن الكاهلي (3) وعلي بن المغيرة (4)

1 - الحسن الوشاء قال: سألت أبا الحسن 7 فقلت: جعلت فداك أن أهل الجبل تثقل
عندهم أليات الغنم فيقطعونها، فقال: حرام هي - في الوافي: هي ميت - فقلت: جعلت فداك
فيستصبح بها، فقال: أما علمت أنه يصيب اليد والثوب، وهو حرام (الكافي 6: 255، التهذيب
9: 77، عنهما الوسائل 24: 72 - 178)، ضعيفة لمعلي البصري.
المراد بالحرام الأول هو الحرام الاصطلاحي.
2 - الحدائق 18: 73.
3 - سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وكنت عنده يوما عن قطع أليات الغنم - إلى أن قال (عليه السلام):
- إن في كتاب علي (عليه السلام): أن ما قطع منها ميت لا ينتفع به (الكافي 6: 254، الفقيه 3: 209،
التهذيب 9: 78، عنهم الوسائل 24: 71)، ضعيفة لسهل بن زياد.
4 - قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشئ، فقال: لا - الخبر
(الكافي 6: 259، التهذيب 25: 204، 3: 39، عنهم الوسائل 3: 502)، موثقة.
112

والجرجاني (1) وسماعة (2) وغيرها (3) على حرمة الانتفاع بالميتة غنى
وكفاية، وقد ذكر ذلك في أحاديث أهل السنة أيضا (4).
وأما الطائفة الثانية، فهي أيضا كثيرة مستفيضة:
منها: روايتي الصيقل والوشاء المتقدمتين.
ومنها: رواية أبي القاسم الصيقل وولده (5).

1 - عن أبي الحسن 7 قال: كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها ذكيا،
فكتب (عليه السلام): لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عصب - الخبر (الكافي 6: 258، التهذيب 9: 76،
الإستبصار 4: 89، عنهم الوسائل 24: 181)، ضعيفة لمختار بن محمد بن المختار.
وفي القاموس: الإهاب - ككتاب - الجلد أو ما لم يدبغ، ج آهبة، وفيه أيضا: العصب -
محركة - أطناب المفاصل، وعصب اللحم - كفرح - كثر عصبه.
2 - قال: سألته عن جلود السباع أينتفع بها، فقال: إذا رميت وسميت فانتفع بجلده، وأما
الميتة فلا (التهذيب 9: 79، عنه الوسائل 3: 489)، موثقة.
3 - في عوالي اللئالي: صح عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب
(عوالي اللئالي 1: 42، عنه المستدرك 16: 191)، مرسلة.
عن علي 7 قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عظم
ولا عصب (دعائم الاسلام 1: 126، عنه المستدرك 16: 192)، مرسلة.
4 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب، وفي رواية أخرى أن
لا تستمتعوا (السنن الكبرى للبيهقي 1: 14 - 15.
وأخرج أيضا أحاديث أخر تدل على جواز الانتفاع بجلود الميتة بعد الدبغ، وذلك لذهابهم
إلى طهارتها به.
5 - قال: كتبوا إلى الرجل (عليه السلام): جعلنا الله فداك، إنا قوم نعمل السيوف، وليست لنا
معيشة ولا تجارة غيرها، ونحن مضطرون إليها، وإنما علاجنا من جلود الميتة من البغال
والحمير الأهلية، لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها، ومسها بأيدينا
وثيابنا، ونحن نصلي في ثيابنا، ونحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيدنا
لضرورتنا إليها، فكتب (عليه السلام): اجعلوا ثوبا للصلاة (التهذيب 6: 376، عنه الوسائل 17: 173)،
مجهولة لأبي القاسم الصيقل.
113

وقد ظهر وجه الاستدلال بها من رواية الصيقل المتقدمة، على أن
اصرار السائل في هذه الرواية على الجواب بقوله: ونحن محتاجون إلى
جوابك في هذه المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها، أدل دليل على جواز
الانتفاع بالميتة، فإن سكوته (عليه السلام) عن حكم المسألة مع اصرار السائل
على الجواب تقرير على ذلك بلا ارتياب.
ومنها: رواية البزنطي (1) التي تدل على جواز الاستصباح بما قطع من
أليات الغنم.
ومنها: ما عن علي بن الحسين (عليهما السلام) (2)، فإنه كان يلبس الفرو المجلوب
من العراق وينزعه وقت الصلاة، ففعله هذا يدل على جواز الانتفاع
بالميتة إلا فيما يكون مشروطا بالطهارة، والوجه في كون ذلك الفرو
العراقي من جلود الميتة هو نزعه في الصلاة.

1 - عن البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من
ألياتها، وهي أحياء أيصلح له أن ينتفع بما قطع، قال: نعم يذيبها ويسرج بها، ولا يأكلها
ولا يبيعها (مستطرفات آخر السرائر: 55 نقلا عن جامع البزنطي، قرب الإسناد: 115، عنهما
الوسائل 17: 98)، موثقة.
2 - عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الفراء، فقال: كان علي بن
الحسين (عليهما السلام) رجلا صردا لا تدفئه فراء الحجاز، لأن دباغتها بالقرظ، فكان يبعث إلى العراق
فيؤتي مما قبلهم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقي القميص الذي تحته الذي يليه،
فكان يسأل عن ذلك فقال: إن أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون أن دباغه
ذكاته (الكافي 3: 397، التهذيب 2: 203، عنهما الوسائل 3: 502)، ضعيفة لمحمد بن سليمان
الديلمي.
في القاموس: صرد - كفرح - وجد البرد سريعا، وفيه أيضا: الدفو - بالكسر ويحرك - نقيض
حدة البرد، وأدفاه ألبسه الدفاء، وفيه أيضا: القرظ - محركة - ورق السلم، وأديم مقروظ دبغ
به.
114

إلا أن يقال: إن لبسه سلام الله عليه إنما كان في مورد الأخذ من يد
المسلم، ومعه يحكم بالتذكية وعدم كون الجلد من الميتة، إذن فلا مانع
من الصلاة فيه فضلا عن لبسه في غيرها، فلا مناص من حمل فعله (عليه السلام)
على الاحتياط من جهة عدم اقتران صلاته التي هي معراج المؤمن بلبس
الميتة الواقعية، وعليه فلا تبقى للرواية دلالة على جواز الانتفاع بالميتة
في نفسها.
إلا أن يقال: إن الاحتياط إنما يجري في حق من كان جاهلا بالأحكام
الواقعية والموضوعات الخارجية، وأما العالمين بالواقعيات بل بحقايق
الأشياء والأمور الكائنة والعوالم الكونية فلا يجري الاحتياط في حقهم
كالأئمة المعصومين (عليهم السلام).
على أن العمل بالاحتياط يقتضي أن لا يلبسه في غير حال الصلاة
أيضا، فإن الانتفاع بالميتة لو كان حراما فإنما هو حرام واقعي تكليفي
فلا يختص بحال الصلاة فقط، نعم أن ما يختص بالصلاة هي الحرمة
الوضعية وأنها تبطل إذا وقعت في الميتة.
إلا أن يتوهم أن عمدة غرضه (عليه السلام) من ذلك الاحتياط هو انحفاظ
صلاته عن احتمال البطلان، وأما الاحتياط في غير حال الصلاة فليس
بمحط لنظره (عليه السلام).
ولكنه مما لا يمكن التفوه به في حق الملتزم بالشرع من غير
المعصومين (عليهم السلام)، فكيف ممن كان معدن العصمة.
إلا أن الذي يسهل الخطب أن الرواية ضعيفة السند، فلا تكون قابلة
للبحث عن دلالتها على المطلوب وعدمها.
115

ومنها: رواية سماعة (1)، فإنها تدل على جواز الانتفاع بالكيمخت،
وهو جلد الميتة إذا كان مملوحا.
إذا عرفت هاتين الطائفتين، المانعة عن جواز الانتفاع بالميتة والمجوزة
له، فتعرف وقوع المعارضة بينهما، وبما أن هذه الروايات المجوزة
لذلك صريحة في جواز الانتفاع بها في غير ما اشترطت فيه التذكية،
فنرفع اليد بها عن ظهور تلك الروايات المانعة، فتقيد بغير ذلك وبصورة
الانتفاع بها مثل المذكي، أو تحمل الطائفة المانعة على الكراهة كما هو
مقتضى الجمع العرفي بين الدليلين المتنافيين.
ويدل على الوجه الأول من الطائفة المرخصة خبر أبي القاسم
الصيقل، فإن فيه قرر الإمام (عليه السلام) جواز الانتفاع بجلود الميتة في غير
الصلاة، حيث أمر السائل باتخاذ الثوب لصلاته.
وأما دعوى اختصاص موارد الطائفة المجوزة بالجلود والأليات،
فهي دعوى جزافية، لعدم القول بالفصل في أجزاء الميتة قطعا.
تلويح:
قد توهم بعضهم حملها على التقية، لتخيل ذهاب العامة إلى جواز
الانتفاع بها.
وفيه: أنك عرفت في أول المسألة تصريح بعضهم بذهاب أكثرهم إلى
حرمة الانتفاع بالميتة حتى بجلودها قبل الدبغ، وقد ورد ذلك في
أخبارهم أيضا، كما عرفت عند التعرض للطائفة المانعة، ومن هنا منعوا
عن بيع الميتة وجلودها قبل الدبغ.

1 - عن سماعة قال: سألته عن جلد الميتة المملوح، وهو الكيمخت، فرخص فيه - الخبر
(التهذيب 9: 78، الإستبصار 4: 190، عنهما الوسائل 24: 186)، موثقة.
116

وأيضا عللوا (1) حرمة بيع الميتة بانعدام ركن البيع فيه الذي هو مبادلة
مال بمال، بدعوى أنها لا تعد مالا عند من له دين سماوي، فلو كان
الانتفاع بها جائزا عندهم لما تفوهوا بذلك التعليل العليل، لدوران مالية
الأشياء وجودا وعدما مدار جواز الانتفاع بها وحرمته.
تلويح آخر:
قال المحقق الإيرواني (رحمه الله): وأحسن جمع بينها وبين الطائفة المانعة
عن الانتفاع حمل المانعة على صورة التلويث (2).
وفيه: أنك قد عرفت عند التكلم في رواية الوشاء أن تلويث اليد بل
تلويث جميع البدن بالنجاسات ليس من المحرمات، إذن فلا وجه لحمل
الطائفة المانعة على صورة التلويث.
وأما ما تخيله بعضهم من تخصيص المجوزة بالأجزاء التي لا تحلها
الحياة كالصوف والقرن والإنفحة والناب والحافر وغيرها من كل شئ
يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي، وحمل المانعة على غيرها، فهو تخيل
فاسد، وذلك لأن صدق الميتة ممنوع جدا، على أن هذا الجمع مناف
لصراحة ما يدل على جواز الانتفاع بها كما عرفت.
المقام الثاني:
المشهور بل المجمع عليه بين الخاصة والعامة هي حرمة بيع الميتة
وضعا وتكليفا.
قال في المستند: حرمة بيعها وشرائها والتكسب بها اجماعي (3)،

1 - راجع شرح فتح القدير 5: 186.
2 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 5.
3 - المستند 2: 333.
117

وكذلك في التذكرة (1)، بل في رهن الخلاف أنها لا تملك (2)، وقد تقدم في
المقام الأول تحريم بيعها من النهاية والمراسم والجواهر، وشرح فتح
القدير وسبل السلام.
وفي الفقه على المذاهب المالكية قالوا: لا يصح بيع النجس كعظم
الميتة وجلدها ولو دبغ لأنه لا يطهر بالدبغ، والحنابلة قالوا: لا يصح بيع
الميتة ولا بيع شئ منها، وكذلك عند الشافعية والحنفية (3).
والذي استدل أو يمكن الاستدلال به على هذا الرأي وجوه:
1 - قيام الاجماع على ذلك كما سمعته عن بعضهم.
وفيه: لو سلمنا قيام الاجماع المحصل في المقام أو حجية المنقول
منه فلا نسلم كونه تعبديا محضا وكاشفا عن رأي الحجة (عليه السلام)، أو عن
دليل معتبر، للاحتمال بل الاطمينان بأن مدرك المجمعين هو الوجوه
المذكورة لعدم جواز بيعها وبيع كل نجس، كما عرفت في المسائل
المتقدمة.
2 - دعوى حرمة الانتفاع بها، فإنها تستلزم سلب المالية عنها المعتبرة
في العوضين بالاجماع، إذن فتدخل المعاملة عليها تحت عموم النهي
عن أكل المال بالباطل.
وفيه: أنه بعد ما أثبتنا في المقام الأول جواز الانتفاع بها، وعرفت في
بيع الأبوال، وستعرف في أول البيع عدم اعتبار المالية في العوضين
وكفاية الأغراض الشخصية العقلائية في صدق المالية على تقدير
اعتبارها، لكون تلك الأغراض موجبة لخروج المعاملة من السفهائية، مع

1 - التذكرة 1: 464.
2 - الخلاف 3: 240، المسألة: 34.
3 - الفقه على المذاهب الأربعة 2: 231.
118

عدم الدليل على بطلانها، فلا وجه لهذا التوهم، وأما عموم آية النهي عن
أكل المال بالباطل، فغير شامل لشرائط العوضين، لكونها ناظرة إلى بيان
أسباب التجارة، كما تقدم في بيع الأبوال.
3 - أنه قامت الضرورة من المسلمين على نجاسة ميتة ما له نفس سائلة
وبيع النجس محظور.
وفيه: أنها وإن ذكرت في رواية تحف العقول، ولكن مضافا إلى ما
تقدم فيها من الوهن، أنها لا تدل إلا على حرمة بيع الميتة النجسة،
والمدعي أعم من ذلك، وقد اعترف المصنف هنا بعدم مانعية النجاسة
عن البيع على خلاف ما تكرر منه سابقا من جعلها مانعة عنه، وقال:
فمجرد النجاسة لا تصلح علة لمنع البيع لولا الاجماع على حرمة بيع
الميتة.
4 - الروايات العامة المتقدمة.
وفيه: أنها وإن كانت تدل على حرمة بيعها، ولكنها لمكان ضعف
أسانيدها لا تفي بالمقصود كما عرفت.
5 - الروايات الخاصة الواردة في المسألة:
منها: رواية البزنطي المذكورة في المقام الأول، فإن الإمام (عليه السلام) وإن
رخص فيها الانتفاع بالميتة ولكنه (عليه السلام) منع فيها أيضا عن بيعها بقوله:
ولا يبيعها (1).

1 - عن البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم يقطع من
ألياتها، وهي أحياء أيصلح له أن ينتفع بما قطع، قال: نعم يذيبها ويسرج بها، ولا يأكلها
ولا يبيعها (مستطرفات آخر السرائر: 55 نقلا عن جامع البزنطي، قرب الإسناد: 115، عنهما
الوسائل 17: 98)، موثقة.
119

ومنها: روايات السكوني (1) والصدوق (2) والجعفريات (3)، فإن جميعها
تدل على أن ثمن الميتة من السحت فيكون بيعها فاسدا.
ومنها: رواية علي بن جعفر، حيث سأل أخاه (عليه السلام) عن بيع جلود ميتة
الماشية ولبسها، وقال (عليه السلام): لا ولو لبسها فلا يصل فيها (4)، فإن الظاهر أن المنع فيها راجع إلى البيع واللبس، ولكنه (عليه السلام) بين المانعية عن الصلاة
زائدا على المنع في نفسه.
وقد ورد النهي عن بيع الميتة في بعض روايات العامة أيضا (5).
وفيه: أن هذه الروايات وإن كانت ظاهرة في المنع عن بيعها، ولكنها
معارضة مع ما هو صريح في الجواز، كمكاتبة الصيقل المتقدمة، فإن فيها

1 - علي بن إبراهيم عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
السحت ثمن الميتة - الخبر (الكافي 5: 126، التهذيب 6: 368، الخصال: 329، تفسير القمي
1: 170، عنهما الوسائل 17: 93)، موثقة للسكوني.
2 - عنه (عليه السلام) أنه قال: ثمن الميتة سحت (الفقيه 3: 105)، مرسلة.
وبإسناده عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: يا
علي من السحت ثمن الميتة (الفقيه 4: 262، تفسير العياشي 1: 322، عنهما الوسائل 17: 94).
قال المحدث النوري في خاتمة المستدرك: رجال سند هذه الوصية مجاهيل لا طريق إلى
الحكم بصحتها واعتبارها من جهته.
3 - عن علي (عليه السلام) قال: من السحت ثمن الميتة - الحديث (الجعفريات: 180، عنه
المستدرك 13: 69)، ضعيفة لجهالة الكتاب.
ثم الظاهر أن هذه الروايات الأربع كلها روايات واحدة مروية عن علي (عليه السلام) بطرق متعددة.
4 - قال: سألته عن الماشية تكون للرجل فيموت بعضها، يصلح له بيع جلودها ودباغها
ولبسها، قال: لا، ولو لبسها فلا يصل فيها (قرب الإسناد: 115، مسائل علي بن جعفر (عليه السلام)
: 139، عنهما الوسائل 17: 96)، مجهولة لعبد الله بن الحسن.
5 - عن جابر: سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع
الخمر والميتة - الحديث (سنن البيهقي 6: 12، صحيح البخاري باب بيع الميتة).
120

قرر الإمام (عليه السلام) أسئلتهم عن جواز بيع الميتة من جلود الحمير والبغال
وشرائها ومسها، فلولا جوازها لكان تقريره (عليه السلام) لتلك الأسئلة وسكوته
عن بيان حكمها اغراء بالجهل وتأخيرا للبيان عن وقت الحاجة،
وبضميمة عدم القول بالفصل بين مورد المكاتبة وغيره يتم المطلوب.
ويؤيد ذلك فعل علي بن الحسين (عليهما السلام)، حيث كان يبعث إلى العراق
ويجلب الفرو منهم، فإن الظاهر أنه (عليه السلام) كان يأخذ ذلك منهم بالشراء، إلا أن يقال: إن مقتضى السوق ويد المسلم هي التذكية.
وكيف كان فلا بد في رفع المعارضة بينهما، أما من طرح المانعة
لموافقتها مع العامة، لاتفاقهم على بطلان بيع الميتة، كما عرفت في أول
المسألة، وأما من حملها على الكراهة برفع اليد عن ظهورها بما هو
صريح في الجواز، أو على صورة البيع ليعامل معها المذكي إذا بيعت بغير
اعلام.
وإن أبيت عن هذه المحامل كلها، فلا بد من الحكم إما بالتخيير فنختار
ما يدل على الجواز، وإما بالتساقط فيرجع إلى العمومات والاطلاقات
ويحكم بصحة بيعها.
لا يقال: إن تقرير الإمام (عليه السلام) أسئلتهم عن الأمور المذكورة وإن كان
لا ينكر إلا أنه لأجل اضطرارهم إلى جعل أغماد السيوف من جلود الميتة
من الحمير والبغال مع عدم وجود معيشة لهم من غير ذلك العمل كما
يصرح بذلك ما في سؤالهم: لا يجوز في أعمالنا غيرها، ولا ريب أن
الضرورات تبيح المحظورات، إذن فلا دلالة في المكاتبة على جواز بيعها
في غير حال الاضطرار.
فإنه يقال: لا منشأ لهذا الكلام إلا توهم ارجاع ضمير غيرها في قول
السائل: لا يجوز في أعمالنا غيرها، إلى جلود الميتة، ولكنه فاسد،
121

إذ لا خصوصية لها حتى لا يمكن جعل الأغماد من غيرها، بل مرجع
الضمير إنما هي جلود الحمير والبغال، سواء كانت من الميتة أم من
الذكي.
ويدل على ذلك قوله (عليه السلام) في رواية القاسم الصيقل: فإن كان ما
تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس، إذ لو كانت لجلود الحمر الميتة خصوصية
في جعل الأغماد منها لكان هذا الجواب لغوا.
نقد ودفع:
قد أشكل المصنف على الرواية بوجهين:
1 - إن الجواب لا ظهور فيه في الجواز إلا من حيث التقرير الغير الظاهر
في الرضا خصوصا في المكاتبات المحتملة للتقية.
وفيه أولا: أن التقية في المكاتبات وإن كانت كثيرة، لكونها معرضا لها
من جهة البقاء، ولكنها في خصوص هذه الرواية غير محتملة لورودها
على غير جهة التقية، لذهاب أهل السنة بأجمعهم إلى بطلان بيع الميتة
كما عرفت.
وأعجب من ذلك تشكيكه في كاشفية التقرير عن الرضا، وفي كونه من
الحجج الشرعية، مع أنه كسائر الأمارات مشمول لأدلة الحجية.
وثانيا: أن فعلية التقية إنما هي بفعلية موضوعها، وأما مجرد
الاحتمال فغير قابل لأن يكون موضوعا لها وسببا لرفع اليد عن الأدلة
الشرعية، نعم إذا صارت فعلية وجب رفع اليد عما يخالفها مكاتبة كان أم
غيرها.
2 - إن مورد السؤال فيها عمل السيوف وبيعها وشراؤها لا خصوص
الغلاف مستقلا ولا في ضمن السيف، على أن يكون جزءا من الثمن في
مقابل عين الجلد، فغاية ما يدل عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله
غمدا للسيف، وهو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال، وقد تبعه
122

بعض وقال لكن مع احتمال كون المبيع هو السيف والغلاف تابع له بنحو
الشرط.
وفيه: أن هذا من الغرائب، فإن منشأ ذلك حسبان أن الضمائر في قول
السائل: فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها بأيدينا، إلى
السيوف، ولكنه فاسد، فإنه لا وجه لأن يشتري السياف سيوفا من غيره،
كما لا وجه لسؤاله عن مسها، واصراره بالجواب عن كلما سأله، بل هذه
الضمائر إنما ترجع إلى جلود الحمر والبغال ميتة كانت أم غيرها، كما
يظهر ذلك لمن يلاحظ الرواية.
مع أن من المستبعد جدا، بل من المستحيل عادة أن يجدوا جلود
الميتة من الحمير والبغال بمقدار يكون وافيا بشغلهم بلا شرائها من الغير،
على أن مقتضى ذلك هي حرمة بيع الغلاف مستقلا، مع أنه فاسد، إذ ربما
تكون قيمة الغلاف أكثر من السيف، فكيف يحكم بالتبعية دائما، نعم
تبعية مثل الجل والمسامير للفرس، والجدران في بيع الفرس والدار من
الوضوح بمكان.
وربما ترمي الرواية بالتقية لذهاب العامة إلى جواز بيع جلود الميتة
بعد الدبغ لطهارتها به (1)، وأما قبل الدبغ فلا تصلح للأغماد.
وفيه أولا: أن أمره (عليه السلام) بأن يجعلوا ثوبا لصلاتهم على خلاف التقية.
وثانيا: لو كانت الرواية موردا للتقية لكان الأليق أن يجاب بحرمة البيع
والشراء، ويدفع محذور التقية عند الابتلاء بها بإرادة حرمة بيعها قبل
الدبغ، فإن فيه بيان الحكم الواقعي مع ملاحظة التقية.

1 - ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) في جلد الميتة، قال: إن دباغه قد ذهب بخبثه أو رجسه أو
نجسه (سنن البيهقي 1: 17)، وفي رواية أخرى: دباغها طهورها (سنن البيهقي 1: 16).
في أحاديث كثيرة: فدبغوه فانتفعوا به، أي بجلد الميتة.
123

وثالثا: إن الرواية خالية عن كون البيع أو الشراء بعد الدبغ لتحمل عليها
ومجرد عدم صلاحية الجلود للغلاف قبل الدبغ لا يوجب تقييدها
لامكان دبغها عند جعلها غمدا، إذن فالرواية أيضا على خلاف التقية.
وأما توهم أن الأخبار المانعة تشتمل على كلمة السحت التي تأبى عن
حملها على الكراهة، فهو توهم فاسد، لما مر في بيع العذرة، من أن
اطلاق السحت على المكروه في الروايات واللغة كثير جدا.
هذا كله مع قصر النظر على المكاتبة، ولكنها ضعيفة السند، فلا تقاوم
الروايات المانعة، لأن فيها رواية الجعفريات، وهي موثقة (1).
إذن فلا مناص من الحكم بحرمة بيع الميتة وأجزائها التي تحلها
الحياة، إلا أن يتمسك في تجويز بيعها بحسنة الحلبي وصحيحته
الواردتين في بيع الميتة المختلطة بالمذكي ممن يستحلها، فإنهما بعد
إلغاء خصوصيتي الاختلاط والمستحل تدلان على جواز بيعها مطلقا،
إلا أن الجزم بذلك مشكل جدا، فلا مناص من اختصاص جواز البيع
بالمستحل كما سيأتي.
حكم بيع المذكى المختلط بالميتة:
قوله: إنه كما لا يجوز بيع الميتة منفردة كذلك لا يجوز بيعها منضمة إلى المذكى.
أقول: تارة تمتاز الميتة من المذكى وأخرى لا تمتاز:
أما الصورة الأولى فلا اشكال في جواز البيع وصحته بالنسبة إلى غير
الميتة، سواء كانت ممتازة عند المتبايعين أم عند المشتري فقط، لعدم
ترتب الأثر على علم البايع وجهله، وأما بالنسبة إلى الميتة، فيجري فيها
جميع ما تقدم في بيعها منفردة، لأن انضمام الميتة إلى المذكي لا يغير
حكمها.

1 - يأتي في البحث عن جواز بيع الدهن المتنجس جهالة الكتاب وضعفه.
124

نعم بناء على حرمة بيعها يكون المقام من مصاديق بيع ما يجوز وما
لا يجوز، فيقسط الثمن بالنسبة إليهما، ويحكم بالصحة فيما يجوز
وبالفساد فيما لا يجوز، ولا خيار للمشتري بالنسبة إلى ما يجوز لأجل
تبعض الصفقة لعلمه بالحال كما هو المفروض.
وأما الصورة الثانية، فهي محل الكلام ومورد النقض والابرام،
وتحقيقها في مقامين: الأول من حيث القواعد العامة، والثاني من حيث
الروايات الخاصة الواردة في خصوص ذلك.
المقام الأول:
إن كان المدرك في حرمة بيع الميتة منفردة هي النصوص
والاجماعات، فلا شبهة في أنهما لا تشملان صورة الاختلاط، لأنه
لا يصدق بيع الميتة على ذلك مع قصد المذكي حتى مع تسليمها إلى
المشتري لكونه مقدمة لاقباض المبيع، وعلى هذا فلا وجه لما ذهب إليه
المصنف من المنع على الاطلاق، بناء على وجوب الاجتناب عن كلا
المشتبهين، نعم لا يجوز أن ينتفع بهما فيما كان مشروطا بالطهارة
والتذكية.
وإن كان المدرك في المنع هي حرمة الانتفاع بالميتة، لكونها في نظر
الشارع مسلوب المالية نظير الخمر والخنزير، وقلنا بتنجيز العلم
الاجمالي، فغاية ما يترتب عليه هو عدم جواز بيعهما من شخص واحد
للعلم الاجمالي بوجود ما لا يجوز الانتفاع به فيهما، فإن العلم الاجمالي
يوجب وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين، إذن فيجري هنا ما جرى
في الميتة المعلومة تفصيلا من الأحكام التكليفية والوضعية.
وأما بيعهما من شخصين فلا بأس فيه، لأن حرمة الانتفاع لم تثبت إلا
على الميتة المعلومة إما اجمالا أو تفصيلا على سبيل منع الخلو، وإذا
125

انتفى أحد العلمين انتفت حرمة الانتفاع أيضا، فلم يبق في البين إلا
الاحتمال فيندفع بالأصل، فإن هذا نظير انعدام أحد المشتبهين أو
خروجه عن محل الابتلاء الموجب لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير.
قوله: فأكل المال بإزائه أكل المال بالباطل.
أقول: قد عرفت ما فيه في بيع الأبوال.
قوله: وجوز بعضهم البيع بقصد بيع المذكي.
أقول: قد عرفت أن هذا هو الصحيح، بناء على أن المانع عن بيع الميتة
هو الاجماع أو النص، فيبيعهما بقصد المذكي ثم يسلمهما إلى المشتري
فينتفع بهما في غير ما يشترط فيه التذكية، نعم لو كان المانع هي حرمة
الانتفاع فيجري فيه ما ذكرناه.
قوله: وجواز ارتكاب أحدهما.
أقول: لا دخل للقول بجواز ارتكاب أحدهما في جواز البيع بقصد
المذكي، فإنه بناء على هذا المنهج يجوز بيع أحدهما معينا أيضا، لو كان
المانع عن البيع عدم جواز انتفاع المشتري، إذ المفروض حينئذ جواز
انتفاع كل شخص بما يشتريه، نعم بناء على كون المانع من بيع الميتة هو
النص أو الاجماع لا يصح البيع إلا بقصد المذكي كما عرفت.
قوله: لكن لا ينبغي القول به في المقام.
أقول: قد منع المصنف عن جواز بيع أحد المختلطين حتى مع القول
بأنه يجوز ارتكاب أحد المشتبهين وعدم تنجيز العلم الاجمالي، وذلك
لأصالة عدم التذكية الجارية في اللحوم، فإنها أصل موضوعي حاكم في
سائر الأصول من أصالتي الحل والطهارة.
وفيه: أن أصالة عدم التذكية لا تثبت الميتة التي هي أمر وجودي
الأعلى القول بالأصول المثبتة.
126

لا يقال: إن الميتة عبارة عما لم تلحقه الذكاة، كما في القاموس، إذن
فلا شبهة في ثبوتها بالأصل بلا أن يلزم منه المحذور المذكور.
فإنه يقال: إن الأصل المذكور وإن كان متكفلا لاثبات ذلك العنوان إلا أنه أمر يغاير الميتة ويلازمها وليس متحدا معها، لأنها في عرف الشرع
واللغة (1) أما عبارة عما مات حتف أنفه.
وأما عبارة عما فارقته الروح بغير ذكاء شرعية وعلى هيئة غير
مشروعة، إما في الفاعل أو في المفعول، فلا يثبت شئ منهما بأصالة
عدم التذكية إلا على القول بحجية الأصل المثبت، فالمحذور في محله،
وأما ما في القاموس فأمر لم تثبت صحته، وكذلك ما عن أبي عمرو، من أنها ما لم تدرك تذكيته.
المقام الثاني:
الروايات الواردة هنا على طائفتين: أما الطائفة الأولى فتدل على حرمة
بيع المذكى المختلط بالميتة وحرمة الانتفاع بهما، بل يرمى بهما إلى
الكلاب (2).
وفيه أولا: أن الرمي بهما إلى الكلاب كناية عن حرمة الانتفاع بهما

1 - في تاج العروس (1: 587): عن أبي عمرو: الميتة ما لم تدرك تذكيته، وقال النووي
في تهذيب الأسماء واللغات: قال أهل اللغة والفقهاء: الميتة ما فارقته الروح بغير ذكاة، وفي
المصباح (584): المراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف أنفه أو قتل على هيئة غير
مشروعة، إما في الفاعل أو في المفعول، وفي مفردات الراغب (476): والميتة من الحيوان ما
زال روحه بغير تذكية.
2 - عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن شاة مسلوخة وأخرى مذبوحة عن عمي على الراعي أو
على صاحبها فلا يدري الذكية من الميتة، قال: يرمى بهما جميعا إلى الكلاب (الجعفريات: 27،
عنه المستدرك 13: 73)، ضعيفة لجهالة الكتاب.
127

على نحو الانتفاع بالمذكي، كما حملنا على ذلك قوله (عليه السلام) في رواية
الوشاء المتقدمة: أما علمت أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام، وإلا
فلا مناص من الالتزام بالوجوب النفسي للرمي، وهو بديهي البطلان، إذ
عمدة ما يكون النظر ومورد الرغبة من الميتة هو جلدها، وليس هذا مما
تأكله الكلاب.
وهذا نظير في بيع الدراهم المغشوشة، من أمره (عليه السلام) بكسر درهم من
طبقتين طبقة من نحاس ومن فضة، فإن المراد بذلك ليس إلا اعدام الهيئة
الدرهمية لئلا يعامل عليها معاملة الدراهم، وإلا فكسر الدرهم
المغشوش ليس من الواجبات النفسية كالصوم والصلاة.
ومن هذا القبيل أيضا أمره (عليه السلام) بإراقة الإنائين المشتبهين، وبإراقة
المرق المتنجس، كما سيأتي في الانتفاع بالمتنجس.
وثانيا: إن حرمة الانتفاع بهما بحسب أنفسهما لا ينافي جواز بيعهما
ممن هو في حكم الكلب أو أضل سبيلا.
ويؤيده ما ورد في بعض الروايات من اطعام المرق المتنجس أهل
الذمة أو الكلاب (1)، فإنه (عليه السلام) قد جعل سبيلهما واحدا، وأما غير الذمي
فهو مثله بل أولى.
وثالثا: لو أغمضنا عن جميع ما ذكرناه فغاية ما يستفاد من الرواية ليس
إلا حرمة الانتفاع بكلا المختلطين لوجود الميتة فيهما، فتكون مما تدل
على حرمة الانتفاع بهما، وقد تقدم الكلام في ذلك.

1 - زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر
فيه لحم كثير ومرق كثير، قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلاب - الحديث
(التهذيب 1: 279، عنه الوسائل 3: 470)، مهملة للحسن المبارك.
128

وأما الطائفة الثانية، فهي تدل على جواز بيع المذكي المختلط بالميتة
ممن يستحلها (1)، وبهما نرفع اليد عن ظاهر رواية الجعفريات، لو سلم لها
ظهور في حرمة البيع على الاطلاق.
بل يمكن أن يقال: إن تخصيص الحكم بالمستحل ليس إلا لعدم رغبة
غيره إليهما فيكونان مسلوبي المالية، خصوصا إذا لم يكن المراد
بالمستحل إلا مستحل الأكل فقط كما هو الظاهر دون مستحل البيع وإن
كان يحرم أكله.
وأما إذا وجد من يرغب إليهما وينتفع بهما في غير ما اعتبرت فيه
التذكية والطهارة كمن يشتريهما لينتفع بهما في مثل التسميد أو سد
الساقية أو يصرفهما في أكل السباع والطيور، أو كان المشتري ممن
لا يبالي بأكل الميتة كفساق المسلمين، فيجوز بيعهما من غير المستحل
أيضا، إلا أن الجزم بذلك مشكل جدا، فلا مناص من تخصيص جواز
البيع بالمستحل.
نعم لا يبعد القول بجواز بيع الميتة منفردة ومع التميز من المستحل
أيضا، ضرورة أن الاختلاط والاشتباه لا دخل له في الجواز، وعليه
فيخصص بهاتين الروايتين ما دل على حرمة بيع الميتة على الاطلاق.

1 - الحلبي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا اختلط الذكي والميتة باعه ممن
يستحل الميتة ويأكل ثمنه (الكافي 6: 260، عنه الوسائل 17: 99)، موثقة.
عنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها
فيعزله ويعزل الميتة، ثم إن الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع، قال: يبيعه ممن يستحل الميتة
ويأكل ثمنه، فإنه لا بأس به (الكافي 6: 260، مسائل علي بن جعفر: 109، عنهما الوسائل
17: 100)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
129

قوله: وعن العلامة (1) حمل الخبرين على جواز استنقاذ مال المستحل للميتة بذلك
برضاه.
أقول: يرد عليه أولا: أن النسبة بين الكافر المستحل وبين ما يجوز
استنقاذ ماله عموم من وجه، فإنه قد يكون المستحل ممن لا يجوز
استنقاذ ماله إلا بالأسباب الشرعية كالذمي، وقد يكون غير المستحل
ممن يجوز استنقاذ ماله.
وثانيا: أنه لم يكن في مكان صدور تلك الأخبار وزمانه كافر حربي
يجوز استنقاذ ماله، فإنها إنما صدرت من الصادق (عليه السلام) في الكوفة،
فكانت هي ونواحيها في ذلك الوقت خالية عن الحربيين، لدخول غير
المسلمين فيها بأجمعهم تحت الذمة والأمان.
قوله: ويمكن حملهما على صورة قصد البايع المسلم أجزائها التي لا تحلها الحياة.
أقول: الظاهر أن هذا الرأي إنما نشأ من عدم ملاحظة الروايتين، فإنه
مضافا إلى اطلاقهما وعدم وجود ما يصلح لتقييدهما أن الحسنة إنما
اشتملت على اختلاط المذكي بالميتة من الغنم والبقر، فبديهي أنه ليس
في البقر من الأجزاء التي لا تحلها الحياة شئ ليمكن الانتفاع به حتى
يتوهم حمل الروايتين على ذلك.
قوله: والرواية شاذة.
أقول: لا يضر شذوذها بحجيتها بعد فرض صحتها، والاجماع
المحصل على حرمة التصرف في الميتة غير ثابت، والمنقول منه مع
تصريح جماعة من الفقهاء بالجواز غير حجة، وأما دعوى معارضتها بما
دل على المنع، فقد عرفت الحال فيها.

1 - المختلف: 683.
130

قوله: يرجع إلى عموم ما دل على المنع عن الانتفاع بالميتة.
أقول: قد تقدم حمل الروايات المانعة على صورة الانتفاع بها
كالمذكى بقرينة الروايات المجوزة أو على الكراهة.
إزاحة وهم:
ربما يتخيل الغافل أنه بناء على تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم
بالأصول، كما هو الحق والمشهور، يكون بيع المذكي المختلط بالميتة
إعانة على الإثم، فهي محرمة (1).
وفيه مضافا إلى منع كون المقام من صغريات الإعانة على الإثم ومنع
قيام الدليل على حرمتها لو كان منها، وإنما هو كبيع العنب والتمر
وعصيرهما ممن يعلم أنه يجعلها خمرا الذي لا شبهة في جوازه كما
سيأتي، أنه لا ريب في جواز مثل هذا النحو من الإعانة على الإثم، وإلا
فلم يجز سقي الكافر أيضا لتنجس الماء بمجرد مباشرته إياه ببشرته
فيحرم عليه شربه فيكون سقيه إعانة عليه، مع أنه لم يقل أحد بحرمته من
جهة الإعانة على الإثم.
كيف وقد ورد جواز ابراد الكبد الحري (2) وجواز تصدق غير النسك

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 5.
2 - ضريس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله يحب ابراد الكبد الحري، ومن سقي كبدا
حرى من بهيمة أو غيرها أظله الله يوم لا ظل إلا ظله (الكافي 4: 58، الفقيه 2: 36، عنهما
الوسائل 9: 473)، موثقة،
مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام): أفضل الصدقة ابراد كبد حرى (الكافي 4: 57، التهذيب
4: 110، عنهما الوسائل 9: 472)، ضعيفة لعبد الله.
في القاموس مادة حر: الحران العطشان، والأنثى الحرى مثل عطشى.
131

والزكاة على أهل الذمة (1)، وجواز سقي النصراني (2).
وأيضا مقتضى ذلك التوهم تحريم بيع المأكولات والمشروبات من
الكفار، ولا يلزم من تكليف الكفار بالاجتناب عن المأكولات
والمشروبات لتنجسها بالمباشرة تكليف بما لا يطاق، فإن الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار.
خلاف بداهة:
عن أول الشهيدين في الدروس احتمال الرجوع في المقام إلى ما ورد
في اللحم الغير المعلوم كونه ذكيا أو ميتا، من أنه يطرح على النار، فكلما
انقبض فهو ذكي وكلما انبسط فهو ميت (3).
وفيه مضافا إلى ضعف السند فيه، أن ذلك على خلاف البداهة من
الوجدان، فإن من المقطوع أنه لا تأثير لانقباض اللحم ولا لانبساطه إذا
طرح على النار في وقوع الذكاة عليه وعدم وقوعها،، إذن فرد علمه إلى
أهله طريق الاحتياط وسبيل النجاة، وإن ادعى الشهيد (رحمه الله) قيام الشهرة
القريبة من الاجماع على العمل به في مورده.

1 - إسحاق بن عمار عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام): أن عليا (عليه السلام) كان يقول: ولا تصدقوا
بشئ من نسككم إلا على المسلمين، وتصدقوا بما سواه غير الزكاة على أهل الذمة (التهذيب
9: 67، عنه الوسائل 9: 410)، موثقة.
2 - وفي رواية أخرى أمر (عليه السلام) بسقي نصراني من قبيلة الفراسين عند ضعفه من العطش
(الكافي 4: 57، عنه الوسائل 9: 409).
3 - إسماعيل بن عمر عن شعيب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل دخل قرية فأصاب بها
لحما لم يدر أذكي هو أم ميت، قال: يطرحه على النار، فكلما انقبض فهو ذكي، وكلما انبسط
فهو ميت، (الكافي 6: 261، التهذيب 9: 48، عنهما الوسائل 24: 188)، ضعيفة لإسماعيل.
محمد بن علي بن الحسين قال: قال الصادق (عليه السلام): وإذا وجدت لحما ولم تعلم أذكي هو أم
ميتة فألق قطعة منه على النار، فإن انقبض فهو ذكي، وإن استرخى على النار فهو ميتة (الفقيه
3: 207، عنه الوسائل 24: 189)، مرسلة.
132

جواز بيع ميتة ما ليس له دم سائل:
قوله: الثاني: إن الميتة من غير ذي النفس السائلة يجوز المعاوضة عليها.
أقول: المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة (1) بل الاجماع على جواز
المعاوضة على ميتة غير ذي النفس السائلة وقد ذهب إلى ذلك أكثر
العامة، وإن كان قد يظهر من بعضهم الآخر خلافه (2).
وما ذهب إليه المشهور هو الوجيه، فإن المقتضي لجواز بيعها أعني
الانتفاع بها بالمنافع المحللة موجود، خصوصا في بعضه أقسامها
كالسمك، فإن دهنه من المنافع المهمة المقصودة للعقلاء والمانع عنه
مفقود، لعدم ما يصلح للمانعية عن المعاوضة على الميتة الظاهرة وضعا
وتكليفا.
إذن فلا مانع من التمسك بالعمومات لاثبات صحتها، بل يمكن
التمسك بها حتى مع الشك في وجود المنافع فيها، لما عرفته مرارا
وستعرفه من عدم اعتبار المالية في المعاوضات.
وتوهم أن بيعها ممن يعلم البايع أنه يأكلها إعانة على الإثم فيكون
حراما توهم فاسد، فإنها كبيع التمر والعنب والعصير ممن يجعلها خمرا
وسيأتي جوازه وورود الأخبار عليه، وإن صدق عليه عنوان الإعانة على
الإثم.

1 - مفتاح الكرامة 4: 19، الحدائق الناضرة 18: 77، جواهر الكلام 22: 17.
2 - الشافعية قالوا بنجاسة ميتة ما لا نفس له سائلة إلا ميتة الجراد (فقه المذاهب 1: 10)،
أن كل نجس لا يصح بيعه فلا يصح بيعها عندهم (2: 232)، وأما غير الشافعية ذهبوا إلى طهارة
ميتة الحيوان الذي ليس له دم سائل يسيل عند جرحه (1: 10)، وقيدوا الميتة التي لا يصح
بيعها بالنجاسة فيصح بيعها عندهم (2: 231).
133

وأما الروايات الخاصة التي تدل على حرمة بيع الميتة، فلا ريب في
ظهورها بل صراحة بعضها في الميتة النجسة، وأما الروايات العامة
المتقدمة فمضافا إلى ما تقدم فيها أن الشهرة بل الاجماع على خلافها
هنا، فلا يكون ضعفها منجبرا بعمل الأصحاب.
المسألة (6)
حرمة التكسب بالكلب الهراش والخنزير
قوله: يحرم التكسب بالكلب الهراش والخنزير البريين اجماعا.
أقول: وجه التقييد بالبريين هو أن المشهور والمختار عنده طهارة
البحريين منهما، واستدل على ذلك في كتاب الطهارة في مسألة نجاسة
الكلب بصحيحة ابن الحجاج (1)، بل الظاهر أنهما من أقسام السمك الغير
المأكول، فيكونان خارجين عما نحن فيه تخصصا.
ثم إن تحرير البحث هنا يقع في جهتين:
الجهة الأولى: في بيع الكلب الهراش (2):
الظاهر بل المجمع عليه بين أصحابنا حرمة بيعه وكون ثمنه سحتا.
قال في التذكرة (3): الكلب إن كان عقورا حرم بيعه عند علمائنا بل عند

1 - قال: سأل أبا عبد الله (عليه السلام) رجل وأنا عنده عن جلود الخز، فقال: ليس لها بأس، فقال
الرجل: جعلت فداك أنها في بلادي وإنما هي كلاب تخرج من الماء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا
خرجت من الماء تعيش خارجة من الماء، فقال الرجل: لا، قال: لا بأس (الكافي 6: 451، علل
الشرايع: 357، عنهما الوسائل 4: 362)، موثقة.
2 - في القاموس: هرش - كفرح - ساء خلقه، والتهريش التحريش بين الكلاب والافساد
بين الناس.
3 - تذكرة الفقهاء 1: 464.
134

أكثر العامة (1) لا يصح بيع الكلب مطلقا ولو كان كلب صيد.
وتدل على حرمة بيعه الروايات المتظافرة (2)، إلا أن أكثرها ضعيفة
السند، وجملة منها وإن كانت مطلقة تشمل جميع أقسام الكلاب،
ولكنها مقيدة بالأخبار الآتية في جواز بيع كلب الصيد التي هي صريحة
في جواز بيع الصيود منها، وعلى هذا المنوال روايات العامة على
كثرتها (3).

1 - عن المالكية: لا يصح بيع الكلب مع كونه طاهرا، سواء كان كلب صيد أو حراسة أو
غيرهما، وعن الحنابلة: لا يصح بيعه مطلقا، وكذلك عن الشافعية، وأما عن الحنفية: ويصح
بيع كلب الصيد والحراسة (الفقه على المذاهب الأربعة 2: 231)، وعن بعض المالكية يكره
أكل الكلب (المصدر 2: 4).
2 - السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: السحت ثمن الميتة وثمن الكلب (الكافي
5: 126، التهذيب 6: 368، الخصال: 329، تفسير القمي 1: 170، عنهم الوسائل 17: 93)، موثقة
للسكوني.
الحسن الوشاء عن الرضا (عليه السلام) في حديث قال: وثمن الكلب سحت (الكافي 5: 127، عنه
الوسائل 17: 92)، ضعيفة لسهل بن زياد.
جراح المدايني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ونهى عن ثمن الكلب (التهذيب 7: 136، عنه
الوسائل 17: 119)، ضعيفة لقاسم بن سليمان.
في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): من السحت ثمن الكلب (الفقيه 4: 262، تفسير العياشي
1: 322، عنهما الوسائل 17: 94)، مجهولة.
عن علي (عليه السلام): من السحت ثمن الكلب (الجعفريات: 180، عنه المستدرك 13: 69)،
ضعيفة لجهالة الكتاب.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه نهى عن ثمن الكلب العقور (دعائم الاسلام 2: 19، عنه المستدرك
13: 89)، مرسلة.
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في الأبواب المتفرقة من الكتب العديدة.
3 - روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن ثمن الكلب (صحيح البخاري آخر البيوع 3: 110.
عن أبي هريرة: نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد (سنن البيهقي 6: 6).
135

وعليه فدعوى الاجماع التعبدي على حرمة بيعه في غير محله، لأنه
إن كان المراد بالحرمة هي الحرمة الوضعية فهي وإن كانت مسلمة ولكن
المدرك لها ليس إلا تلك الأخبار المتكثرة، فيحكم بفساد بيعها لأجلها
لا للاجماع التعبدي.
وإن كان المراد بها هي الحرمة التكليفية، ففيه أن الظاهر هو انحصار
معقد الاجماع بالحرمة الوضعية، بل يكفينا الشك في ذلك لكونه دليلا
لبيا لا يؤخذ منه إلا المقدار المتيقن.
الجهة الثانية: في بيع الخنزير:
المشهور بل المجمع عليه بين الخاصة والعامة (1) هو عدم جواز بيعه،
قال في التذكرة: ولو باع نجس العين كالخنزير لم يصح اجماعا (2).
ثم إن الروايات الواردة في هذه المسألة على طائفتين:
الأولى: ما دل على حرمة بيعه وضعا وتكليفا:
منها: قوله (عليه السلام) في رواية قرب الإسناد في نصرانيين باع أحدهما
الخنزير إلى أجل ثم أسلما: إنما له الثمن فلا بأس أن يأخذه (3)، فإن
مفهومه أن غير أخذ الثمن لا يجوز له بعد الاسلام.

1 - في فقه المذاهب الأربعة (2: 231) حكي عن المذاهب الأربعة اجماعهم على بطلان
بيع الخنزير، وفي شرح فتح القدير (5: 186): بيع الخنزير فاسد.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 466.
3 - علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن رجلين نصرانيين، باع أحدهما خمرا أو
خنزيرا إلى أجل، فأسلما قبل أن يقبضا الثمن، هل يحل له ثمنه بعد الاسلام، قال: إنما له الثمن
فلا بأس أن يأخذه (قرب الإسناد: 115، عنه الوسائل 17: 234)، مجهولة لعبد الله بن الحسن.
ورواه علي بن جعفر في كتابه (مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 134، عنه الوسائل 17: 234)،
إذن فهي موثقة.
136

وعليه فيستفاد من الرواية أمران: الأول حرمة بيع الخنزير بعد الاسلام
وإلا لكان الحصر فيها لغوا، والثاني صحة المعاملة عليه قبل الاسلام
وإلا لكان أخذ ثمنه بعد الاسلام حراما وأكلا للمال بالباطل.
ومنها: روايتي الجعفريات ودعائم الاسلام (1)، حيث جعل الإمام
(عليه السلام) ثمن الخنزير فيهما من السحت.
ومنها: جملة من الروايات الدالة على حرمة بيعه (2)، بل في بعضها نهى
عن إمساكه (3)، وقد ذكر ذلك في أحاديث أهل السنة أيضا (4).
والثانية: ما دل على صحة بيع الخنزير وضعا (5)، بدعوى أنها صريحة

1 - الجعفريات: 180، دعائم الاسلام 2: 18، عنهما المستدرك 13: 71.
2 - معاوية بن سعيد عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن نصراني أسلم وعنده خمر وخنازير
وعليه دين، هل يبيع خمره وخنازيره فيقضي دينه، فقال: لا (الكافي 5: 231، عنه الوسائل
17: 227)، ضعيفة لمعاوية.
ومثلها رواية ابن أبي عمير عن الرضا (عليه السلام) (الكافي 5: 232، عنه الوسائل 17: 227)، إلا أنها مرسلة.
3 - إسماعيل بن مرار عن يونس في مجوسي باع خمرا أو خنازير إلى أجل مسمى ثم أسلم
قبل أن يحل المال، قال: له دراهمه، وقال: إن أسلم رجل وله خمر وخنازير ثم مات وهي في
ملكه وعليه دين، قال: يبيع ديانه أو ولي له غير مسلم خمره وخنازيره، ويقضي دينه، وليس
له أن يبيعه وهو حي ولا يمسكه (الكافي 5: 232، التهذيب 7: 138، عنهما الوسائل 17: 227)،
مجهولة لإسماعيل.
4 - جابر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله حرم بيع الخنزير.
أبو هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله حرم الخنزير وثمنه (سنن البيهقي 6: 12، وصحيح
البخاري باب بيع الميتة 3: 110.)
5 - عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في رجل كانت له على رجل دراهم فباع خمرا
أو خنازير وهو ينظر فقضاه، فقال: لا بأس به، أما للمقتضي فحلال، وأما للبائع فحرام (الكافي
5: 231، عنه الوسائل 17: 232)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله بطرق صحيحة (التهذيب 7: 137، عنه
الوسائل 17: 232).
زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا وخنزيرا ثم
يقضي عنها، قال: لا بأس - أو قال خذها (الكافي 5: 232، عنه الوسائل 17: 232)، حسنة
لإبراهيم.
عن الخثعمي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) في الرجل يكون لنا عليه الدين فيبيع الخمر
والخنازير فيقضينا، فقال: لا بأس به ليس عليك من ذلك شئ (التهذيب 7: 137، عنه الوسائل
17: 233)، مجهولة لقاسم بن محمد.
عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين
يديه خمرا وخنازير يأخذ ثمنه؟ قال: لا بأس به (التهذيب 7: 137، عنه الوسائل 17: 233)،
ضعيفة لعبد الله بن بحر.
137

في جواز استيفاء الدين من ثمن الخنزير، فلازم ذلك هو نفوذ بيعه وضعا
وإن كان للبايع حراما تكليفا، وإلا فيلزم استيفاء الدين من مال الغير، فهو
حرام لكونه أكلا للمال بالباطل.
ومن هنا يظهر الوجه في دلالة قوله (عليه السلام) في رواية محمد بن مسلم:
أما للمقتضي فحلال وأما للبايع فحرام، على صحة بيع الخنزير وضعا
وحرمته تكليفا.
وجمع بينهما في الوسائل (1) بحمل المجوزة على فرض كون البايع
ذميا، واستشهد عليه بموثقة منصور (2)، لدلالتها على جواز خصوص بيع
الذمي الخنزير، فتكون مقيدة لما يدل على جواز بيعه مطلقا.

1 - الوسائل 17: 233.
2 - عن منصور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لي على رجل ذمي دراهم فيبيع الخمر
والخنزير وأنا حاضر فيحل لي أخذها، فقال: إنما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك (الكافي
5: 232، عنه الوسائل 17: 232)، موثقة.
138

وفيه: أن حمل المطلق على المقيد وإن كان من المسلمات إلا أنه فيما
كان بينهما تناف وتعاند، نظير أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة، ولو
لم يكن بينهما تناف كما في المقام فلا وجه لذلك الحمل.
والصحيح أن يقال: إن الظاهر من خبر منصور، ومن قوله (عليه السلام) في
رواية قرب الإسناد: إنما له الثمن فلا بأس أن ليأخذه (1)، ومن رواية
عمار بن موسى (2) هو جواز بيع الذمي الخنزير قبل الاسلام، فيقيد بها ما
يدل على حرمة بيعه مطلقا، إذن فتنقلب النسبة وتصير المانعة أخص من
المجوزة ومقيدة لها، وعليه فلا يجوز لغير الذمي بيع الخنزير.
وقد اتضح مما ذكرناه حكم بيع الخمر أيضا، لأنها مذكورة في الأخبار
المتقدمة مع الخنزير.
ثم إنه استدل غير واحد من الأعاظم على حرمة بيعه بالأخبار العامة
المذكورة في أول الكتاب، وقد عرفت ما فيها من ضعف السند والدلالة.
ثم لا ينقضي العجب من المصنف حيث اقتصر في الاستدلال على
حرمة بيع الخنزير بالاجماع فقط، ولم يتعرض للروايات، وهو أعرف
بالحال.

1 - علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن رجلين نصرانيين، باع أحدهما خمرا أو
خنزيرا إلى أجل، فأسلما قبل أن يقبضا الثمن، هل يحل له ثمنه بعد الاسلام، قال: إنما له الثمن
فلا بأس أن يأخذه (قرب الإسناد: 115، عنه الوسائل 17: 234)، مجهولة لعبد الله بن الحسن.
ورواه علي بن جعفر في كتابه (مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 134، عنه الوسائل 17: 234)،
إذن فهي موثقة.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن رجلين نصرانيين باع أحدهما من صاحبه خمرا أو
خنازير ثم أسلما قبل أن يقبض الدراهم هل تحل له الدراهم، قال: لا بأس (التهذيب 9: 116)،
موثقة.
139

قوله: وكذلك أجزائهما.
أقول: ظاهر النصوص والاجماعات إنما تمنعان عن بيع الكلب
والخنزير بوصفهما العنواني وبصورتهما النوعية التي بها شيئية الأشياء
في دار تحققها وصقع تكونها، وبما أن الأحكام الشرعية إنما تترتب على
الموضوعات العرفية فلا مانع من شمول المنع للميتة منهما، لصدق
عنوان الكلب والخنزير عليها ولو بالمسامحة العرفية، إذن فتكون
المعاملة عليها أيضا حراما.
وأما أجزائهما فلا شبهة في أنه لا يصدق عليها عنوان الكلب
والخنزير، لا بالدقة العقلية ولا بالمسامحة العرفية، وعليه فإن كانت مما
تحله الحياة شملتها أدلة حرمة بيع الميتة لصدقها عليها وإن جاز الانتفاع
بها في غير ما هو مشروط بالطهارة والتذكية.
وإن كانت مما لا تحله الحياة كالشعر ونحوه فحرمة البيع والانتفاع هنا
متوقفة على مانعية النجاسة عنهما، إذ من الواضح جدا أن نجاسة الكلب
والخنزير لا تختص بما تحله الحياة فقط، وحيث علمت أنها لا تصلح
للمانعية عن البيع ولا عن الانتفاع فلا مانع عن بيعها للعمومات، ولا عن
الانتفاع بها بالمنافع المحللة لأصالة الإباحة.
ومن هنا أفتى بعضهم بجواز بيع شعر الخنزير والانتفاع به في غير ما
هو مشروط بالطهارة، وإن منع عن بيعه بعض فقهاء العامة (1) لأنه نجس
العين، فلا يجوز بيعه إهانة له، نعم بناء على طهارة الخنزير كما ذهب إليه
المالك (2) يجوز بيع شعره لعدم نجاسته المانعة عنه.

1 - شرح فتح القدير 5: 202.
2 - فقه المذاهب الأربعة (1: 11): المالكية قالوا: كل حي طاهر العين ولو كلبا أو خنزيرا،
ومعه نقل في فقه المذاهب (2: 231) عن المالكية حرمة بيع النجس ومثله بالخمر والخنزير.
140

على أنه ورد في جملة من الأحاديث (1) جواز الانتفاع بشعر الخنزير في
غير ما هو مشروط بالطهارة، وعلى هذا فهو من الأموال عند الشارع أيضا.
المسألة (7)
حرمة التكسب بالخمر وكل مسكر مايع
قوله: يحرم التكسب بالخمر وكل مسكر مايع والفقاع اجماعا نصا وفتوى.
أقول: قد قامت الضرورة من المسلمين (2)، وأطبقت الروايات من

1 - زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إن رجلا من مواليك يعمل الحمائل بشعر
الخنزير، قال: إذا فرغ فليغسل يده (التهذيب 6: 382)، موثقة.
برد الإسكاف قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شعر الخنزير يعمل به، فقال: خذ منه
فاغسله بالماء حتى يذهب ثلث الماء ويبقي ثلثاه، ثم اجعله في فخارة جديدة ليلة باردة، فإن
جمد فلا تعمل به وإن لم يجمد فليس له دسم فاعمل به، واغسل يدك إذا مسسته عند كل صلاة
(التهذيب 6: 386)، ضعيفة لبرد.
في القاموس: الفخارة - كجبانة - الجرة ج الفخار.
برد الإسكاف قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني رجل خزاز ولا يستقيم عملنا إلا بشعر
الخنزير نخزز به، قال: خذ منه وبره فاجعلها في فخارة ثم أوقد تحتها حتى يذهب دسمها ثم
اعمل به (الفقيه 3: 220)، ضعيفة لبرد.
2 - أما عند الخاصة فواضح، وأما عند العامة ففي فقه المذاهب الأربعة (2: 6 - 7): الخمر
ما خامر العقل أي خالطه فأسكره وغيبه، فكل ما غيب العقل من الخمر والنبيذ وغيرهما من
أقسام المسكرات فهو حرام، سواء كان مأخوذا من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير،
بل ولو من اللبن والطعام أو غير ذلك.
وفيه (1: 15): ومن الأعيان النجسة المسكر المايع، سواء كان مأخوذا من عصير العنب أو
كان نقيع زبيب أو نقيع تمر أو غير ذلك، لأن الله تعالى قد سمى الخمر رجسا والرجس في
العرف النجس، أما كون كل مسكر مايع خمرا، فلما رواه مسلم من قوله (صلى الله عليه وآله): كل مسكر خمر
وكل مسكر حرام.
وفي (2: 231) نقل اتفاق المذاهب الأربعة على حرمة بيع الخمر، وأن كل نجس لا يصح
بيعه.
إذن فكل مسكر مايع وإن أخذ من اللبن لا يصح بيعه عند العامة، كما لا يجوز شربه.
نعم في تاج العروس (3: 187): والخمر ما أسكر من عصير العنب خاصة، وهو مذهب أبي
حنيفة.
وفي التذكرة (1: 466): الفقاع عندنا نجس اجماعا، فلا يجوز بيعه ولا شراؤه، لأنه كالخمر
على ما تقدم خلافا للجمهور كافة.
وقد علمت أن ظاهر كلماتهم على خلاف ما نسبه العلامة (رحمه الله) إليهم.
141

الفريقين على حرمة بيع الخمر وكل مسكر مايع مما يصدق عليه عنوان
الخمر من النبيذ والفقاع وغيرهما (1).

1 - أما روايات الخاصة: محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل ترك غلاما له في
كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا، فانطلق الغلام فعصر خمرا ثم باعه، قال: لا يصلح ثمنه، ثم قال: إن
رجلا من ثقيف أهدي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) راويتين من خمر، فأمر بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فأهريقتا، وقال: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها (الكافي 5: 230، التهذيب 7: 136، عنهما
الوسائل 17: 223)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
زيد بن علي عن آبائه (عليهم السلام) قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخمر وعاصرها - الحديث
(الكافي 6: 398)، ضعيفة لحسين بن علوان.
الجراح المدائني قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): من أكل السحت ثمن الخمر (التهذيب 7: 136،
عنه الوسائل 17: 225)، ضعيفة لقاسم بن سليمان.
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة.
أما روايات العامة: عن عائشة قال النبي (صلى الله عليه وآله): حرمت التجارة في الخمر (صحيح
البخاري باب تحريم التجارة في الخمر آخر البيوع 3: 108).
عن أبي هريرة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن الله حرم الخمر وثمنها، وفي رواية أخرى:
السحت ثمن الخمر (سنن البيهقي 6: 12).
عن ابن عباس قال: بلغ عمر أن رجلا باع خمرا، قال: قاتل الله فلانا باع الخمر - الحديث
(سنن البيهقي 8: 286).
عن ثابت بن يزيد قال: لقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر، فقال: إن رسول الله
(صلى الله عليه وآله) قال: إن الله لعن الخمر وعاصرها - الحديث (سنن البيهقي 8: 287).
إلى غير ذلك من رواياتهم المتظافرة.
142

أما الخمر، فشربها من أعظم الكبائر وأشد الجرائم في نظر الشارع
المقدس، لما فيه من المضار الدينية والخلقية والبدنية والاجتماعية،
ويدل على حرمة جميع شؤونها الخبر المشهور بين الخاصة والعامة من:
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وبايعها
ومشتريها، وساقيها، وآكل ثمنها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة
إليه (1).
وأما النبيذ المسكر، فيدل على حرمة بيعه كلما دل على حرمة بيع
الخمر وضعا وتكليفا، لكونه خمرا واقعا، لقوله (عليه السلام): فما فعل فعل
الخمر فهو خمر (2)، ولقوله (عليه السلام): فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو
خمر (3)، فمن البديهي أن النبيذ يفعل ما تفعله الخمر ويسكر كاسكار
الخمر، إذن فيكون ذلك مثلها في جميع الأحكام.

1 - الكافي 6: 398، عنه الوسائل 17: 224.
2 - علي بن يقطين عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها، ولكن
حرمها لعاقبتها، فما فعل فعل الخمر فهو خمر (الكافي 6: 412، عنه الوسائل 25: 343)، ضعيفة
لسهل بن زياد.
3 - عنه عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: إن الله لم يحرم الخمر لاسمها ولكنه حرمها
لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر (الكافي 6: 412، التهذيب 9: 112، عنهما
الوسائل 25: 342)، موثقة.
143

ومن هنا ورد في بعض الروايات: شه شه تلك الخمرة المنتنة (1)،
أي النبيذ المسكر، على أنه جعل الإمام (عليه السلام) من أقسام السحت ثمن
النبيذ المسكر في رواية عمار الآتية.
وهذه الرواية وإن لم يكن فيها دلالة على حرمة البيع تكليفا لظهورها
في الحكم الوضعي فقط، إلا أن في غيرها كفاية، فإنه بعد ما صدقت
الخمر عليه حقيقة فيترتب عليه جميع أحكامها التي منها حرمة البيع.
وهكذا الفقاع لكونه خمرا مجهولا استصغرها الناس، وقد نزل ذلك
منزلة الخمر في عدة من الروايات (2)، بل في بعضها ما يدل على مبغوضية
بيعه، كقوله (عليه السلام): لو أن الدار داري لقتلت بايعه (3).
تذكرة:
هل تختص حرمة البيع بالمايعات المسكرة، كما يظهر من المصنف أم

1 - الكلبي النسابة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النبيذ، فقال: حلال، قلت: إنا ننبذه
فنطرح فيه العكر وما سوي ذلك، فقال (عليه السلام): شه شه - كلمة تقبيح - تلك الخمرة المنتنة -
الحديث (الكافي 6: 416، التهذيب 1: 220، الإستبصار 1: 16، عنهم الوسائل 1: 203)، ضعيفة
لمعلي بن محمد البصري وسهل بن زياد
2 - الحسين القلانسي قال: كتبت إلى أبي الحسن الماضي (عليه السلام) أسأله عن الفقاع، فقال:
لا تقربه، فإنه من الخمر (الكافي 6: 423، التهذيب 9: 125، عنهما الوسائل 25: 361)، ضعيفة
لمحمد بن سنان والقلانسي.
3 - الجعفري قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الفقاع، فقال: هو خمر مجهول،
فلا تشربه يا سليمان، لو كان الدار لي أو الحكم لقتلت بايعه، ولجلدت شاربه (الكافي 6: 423،
التهذيب 9: 125، الإستبصار 4: 95)، ضعيفة لسهل ومحمد بن إسماعيل الرازي.
الوشاء قال: كتبت إليه - يعني الرضا (عليه السلام) - أسأله عن الفقاع، قال: فكتب حرام، وهو
خمر، ومن شربه كان بمنزلة شارب الخمر، قال: وقال أبو الحسن الأخير (عليه السلام): لو أن الدار
داري لقتلت بايعه ولجلدت شاربه، وحده حد شارب الخمر، وهي خمرة استصغرها الناس
(الكافي 6: 424، التهذيب 9: 124، عنهما الوسائل 25: 360)، موثقة.
144

تعم جميع المسكرات ولو كانت من الجوامد، خلاف، ربما يقال بالثاني
لوجوه:
1 - أن المستفاد من كلام بعض اللغويين (1) هو أن الخمر ما يخامر العقل
ويخالطه، فتشمل المسكرات الجامدة أيضا.
وفيه: أنه لا نسلم اعتبار قول اللغوي خصوصا في مثل المقام، من
جهة العلم بعدم صحة صدق الخمر على الجامد، على أن الظاهر من
كلام تاج العروس (2) هو ذلك أيضا، فإنه ذكر الخلاف في اختصاص
الخمر بما أسكر من عصير العنب خاصة وفي عمومه: المسكر من عصير
كل شئ وأما المسكر الجامد فخارج عن محل الخلاف.
2 - أن الظاهر من التنزيل في قوله (صلى الله عليه وآله): كل مسكر خمر (3)، ترتب
جميع آثار الخمر أو آثارها الظاهرة عليه التي منها حرمة البيع.
وفيه: أن الرواية ضعيفة السند وغير منجبرة بعمل المشهور، وإن قلنا
بالانجبار في موارد عمل المشهور، فإن مقتضى العمل بعموم التنزيل
الحكم بنجاسة المسكر الجامد، مع أنه لم يقل به أحد، وأما التزام الفقهاء
(رحمهم الله) باجراء جميع أحكام الخمر على كل مسكر مايع، فهو ليس لأجل
الأخذ بعموم التنزيل، بل للروايات الخاصة كما عرفت.

1 - تاج العروس (3: 187): واختلف في وجه تسمية الخمر، فقيل لأنها تخمر العقل
وتستره، أو لأنها تخامر العقل، أي تخالطه، كما في الحديث، وفي المصباح (182): الخمر اسم
لكل مسكر خامر العقل، وفي مفردات الراغب (159): والخمر سميت لكونها خامرة لمقر
العقل، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم اسم للمتخذ من العنب والتمر.
2 - تاج العروس (3: 187): والخمر ما أسكر من عصير العنب خاصة أو عام، أي ما أسكر
من عصير كل شئ، والعموم أصح.
3 - ضعيفة لعبد الرحمان بن زيد وأبيه وأحمد بن الحسن الميثمي وعطاء بن يسار، راجع
الكافي 6: 408، التهذيب 9: 111.
145

3 - رواية عمار بن مروان (1)، فإنها تدل على أن ثمن المسكر من
السحت، إلا أنها ظاهرة في الحكم الوضعي.
وفيه: أن الاستدلال بها متوقف على أن تكون الرواية كما نقله
التهذيب المطبوع وبعض نسخ الوسائل، بأن يكون لفظ المسكر معطوفا
على النبيذ، وأما إذا كان وصفا له باسقاط الواو بينهما كما في غير نسخة
التهذيب وبعض نسخ الوسائل، فهي لا محالة تسقط عن الدلالة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه وإن كان لفظ المسكر معطوفا على النبيذ في
رواية التهذيب إلا أنها مذكورة في الوافي والكافي بدون العطف بل
بالتوصيف، فترجيحهما على نسخة التهذيب من الوضوح بمكان، ولو
مع دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة.
ويؤيد ذلك ما في رواية الخصال (2)، على ما في الوسائل، من جعل لفظ
المسكر وصفا للنبيذ.
تبصرة:
لا يخفى عليك أنه لا يبعد اختصاص الروايات بما كان المطلوب منه
الشرب والاسكار، وأما لو كان الغرض منه شئ آخر ولم يكن معدا
للاسكار عند العرف، ولو كان من أعلى مراتب المسكرات، كالمايع
المتخذ من الخشب أو غيره، المسمى بلفظ: الكل، لأجل المصالح
النوعية والأغراض العقلائية، فلا يحرم بيعه، لانصراف أدلة حرمة بيع

1 - عن عمار بن مروان قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الغلول، قال: كل شئ غل من
الإمام فهو سحت، والسحت أنواع كثيرة، منها ثمن النبيذ المسكر (الكافي 5: 126، التهذيب
6: 368، عنهما الوسائل 17: 92)، ضعيفة لسهل بن زياد.
2 - عنه (عليه السلام): والسحت أنواع كثيرة، منها ثمن الخمر والنبيذ المسكر (معاني الأخبار
: 211، الخصال: 329، تفسير العياشي 1: 321، عنهم الوسائل 17: 95)، حسنة لإبراهيم بن
هاشم.
146

الخمر عنه وضعا وتكليفا، كانصراف أدلة عدم جواز الصلاة فيما
لا يؤكل لحمه عن الانسان.
قوله: وفي بعض الأخبار يكون لي على الرجل دراهم.
أقول: قد ورد في جملة من الروايات جواز تخليل الخمر بمعالجتها
بالملح ونحوه، وعليه تحمل رواية ابن أبي عمير الظاهرة في جواز أخذ
الخمر من الغريم لاستيفاء الدين منه وافسادها بعد الأخذ، ويؤيد ذلك
الحمل تفسير علي بن حديد الافساد فيها بالتخليل (1).
قوله: والمراد به أما أخذ الخمر مجانا.
أقول: حمل الرواية بنحو المانعة الخلو، إما على أخذ مجانا ثم
تخليلها، أو أخذها وتخليلها لصاحبها ثم أخذ الخل وفاء عن الدراهم
لا يستقيم.
أما الوجه الأول، فلأن أخذها مجانا ثم تخليلها لا يوجب سقوط الدين
عن الغريم، وهي صريحة في حصول الوفاء بمجرد الأخذ.
وأما الوجه الثاني، فهو خلاف ظاهر الرواية، فإن الموجود فيها ليس
إلا كون استيفاء الدين بالخمر نفسها، على أن المالك لم يعط الخل وفاء
عن الدراهم وإنما أعطي الخمر لذلك فقط، إذن فيحتاج أخذ الخل كذلك
إلى إذن جديد من المالك، والرواية صريحة في خلافه.

1 - ابن أبي عمير وعلي بن حديد، عن جميل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يكون لي
على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمرا، فقال: خذها ثم أفسدها، قال علي (ابن حديد):
واجعلها خلا (التهذيب 9: 118، الإستبصار 4: 93، عنهما الوسائل 25: 371)، موثقة.
في الوافي بعد ما نقل الرواية قال: زاد علي بن حديد في حديثه قوله: واجعلها خلا، وربما
يوجد في بعض النسخ من التهذيب لفظة (عليه السلام)، وكأنه من غلط الناسخ وذهاب وهمه إلى أمير
المؤمنين (عليه السلام).
ثم لا يخفى أن نسبة التفسير إلى ابن أبي عمير كما في المتن ناشي من سهو القلم.
147

لا يتوهم أن الرواية ظاهرة في جواز اشتراء الخمر بقصد التخليل
فنرفع اليد بها عن ظهور ما يدل على حرمة بيعها مطلقا وضعا وتكليفا،
وعليه فتختص حرمة بيع الخمر بغير هذه الصورة.
فإن هذا التوهم فاسد، لكونها أجنبية عن قضية البيع والشراء، وإنما
هي راجعة إلى جواز أخذ الخمر من المديون، مسلما كان أو كافرا، وفاء
عن الدين إذا كان الأخذ بقصد التخليل والافساد.
نعم لو التزمنا بما التزم به المصنف فيما تقدم من أن معنى حرمة
الاكتساب حرمة النقل والانتقال بقصد ترتب الأثر، وأن ظاهر أدلة تحريم
بيع مثل الخمر منصرف إلى ما لو أراد ترتيب الآثار المحرمة، أما لو قصد
الأثر المحلل فلا دليل على تحريم المعاملة، لتوجه القول بجواز بيع
الخمر وشرائها بقصد التخليل، ولكنك عرفت ما فيه من الوهن.
تنبيه:
قد تقدم في بيع الخنزير ظهور رواية منصور وغيرها في صحة بيع
الذمي خمره وخنازيره من ذمي آخر، فيقيد بها ما يدل على حرمة بيع
الخمر وكون ثمنها سحتا، وعليه فتنقلب النسبة ويكون ما يدل على
المنع أخص مما يدل على الجواز مطلقا، كروايتي محمد بن مسلم
وزرارة المتقدمتين في ذلك البحث، إذن فنحمل المطلق على المقيد
فتصير النتيجة أنه يجوز للذمي أن يبيع خمره من ذمي آخر.
المسألة (8)
جواز بيع المتنجس
قوله: يحرم المعاوضة على الأعيان المتنجسة الغير القابلة للطهارة
148

أقول: المشهور بين الخاصة والعامة (1) حرمة المعاوضة على الأعيان
المتنجسة الغير القابلة للتطهير.
قال في التذكرة: ما عرضت له النجاسة إن قبل التطهير صح بيعه
ويجب اعلام المشتري بحاله وإن لم يقبله كان كنجس العين (2).
وقال في المبسوط ما حاصله: إن كان المتنجس جامدا وكانت
النجاسة العارضة رقيقة وغير مانعة عن النظر إليه جاز بيعه وإلا فلا يجوز
وإن كان مايعا فإن قبل التطهير صح بيعه وإلا فلا يصح (3).
بل في بعض الحواشي: أن هذا الحكم مما لا خلاف فيه بل هو مما قام
عليه الاجماع ولا اشكال في كونه مجمعا عليه.
ثم إن محصل كلام المصنف: أن المتنجس إذا توقف الانتفاع به
بالمنافع المحللة على الطهارة نظير المايعات المتنجسة المعدة للشرب
والمأكولات المتنجسة المعدة للأكل، فإن بيعه لا يجوز للأخبار العامة
المتقدمة، لظهورها في أن حرمة الشئ تستلزم حرمة بيعه وثمنه، ومن
هذا القبيل المتنجس وإن لم يتوقف الانتفاع به على الطهارة أو كان قابلا
للتطهير مع توقف الانتفاع به عليها، فإن بيعه يجوز.
نعم لا يجوز الاستدلال بقوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول: أو شئ
يكون فيه وجه من وجوه النجس، على حرمة بيعه، لأن الظاهر من وجوه

1 - فقه المذاهب الأربعة (2: 231) عن المالكية: لا يصح بيع المتنجس الذي لا يمكن
تطهيره على المشهور، أما الذي يمكن تطهيره فإنه يجوز بيعه مع الاعلام بالنجاسة، وإلا
فللمشتري حق الخيار، وعن الحنابلة: لا يصح بيع الدهن المتنجس، أما النجس الذي يمكن
تطهيره فإن بيعه يصح، وعن الحنفية: يصح بيع المتنجس والانتفاع به في غير الأكل.
2 - تذكرة الفقهاء 1: 466.
3 - المبسوط 2: 167.
149

النجس العنوانات النجسة، فإن وجه الشئ إنما هو عنوانه فلا يشمل
الأعيان المتنجسة، فإن النجاسة فيها ليست إلا أمرا عرضيا فلا تكون
وجها وعنوانا لها.
وفيه مضافا إلى ما تقدم في تلك الروايات من ضعف السند والدلالة
وعدم انجبارهما بشئ، أنه إن كان المراد بالحرمة فيها هي الحرمة الذاتية
فلا تشمل المتنجس، بداهة أنها مختصة بالأعيان النجسة، إذن فيكون
المتنجس خارجا عنها بالتخصص.
وإن كان بالمراد بها ما يعم الحرمة الذاتية والحرمة العرضية فيلزم
على المصنف أن لا يفرق حينئذ بينما يقبل التطهير وما لا يقبله، فإن
موضوع حرمة البيع على هذا التقدير ما يتصف بالنجاسة، سواء كانت
ذاتية أم عرضية، فامكان التطهير لا يؤثر في زوال الحرمة الفعلية عن
موضوعها الفعلي.
ومع الاغضاء عما ذكرناه لا دلالة فيها على حرمة بيع المتنجس، لأنه
إن كان المراد بالحرمة فيها حرمة جميع منافع الشئ أو منافعه الظاهرة
فلا تشمل المتنجس، ضرورة جواز الانتفاع به في غير ما يتوقف على
الطهارة، كاطعامه الصبي لو قلنا بجوازه أو البهائم أو ينتفع به في غير ذلك
من الانتفاعات المحللة.
وإن كان المراد بها حرمة الأكل والشرب فقط فإنها لا تستلزم حرمة
البيع، لما عرفت مرارا من أنه لا ملازمة بين حرمة الأكل والشرب وبين
حرمة البيع، فإن كثيرا من الأشياء يحرم أكلها وشربها ومع ذلك يجوز
بيعها.
وأما دعوى الاجماع التعبدي على ذلك فجزافية، فإن مدرك
المجمعين هي الوجوه المذكورة على حرمة بيع المتنجس.
150

جواز بيع السباع والمسوخ إلا القرد:
قوله: قيل بعدم جواز بيع المسوخ من أجل نجاستها
أقول: أما المسوخ فالمشهور بين أصحابنا وبين العامة (1) حرمة بيعها،
بل في المبسوط (2) ادعي الاجماع عليها وعلى حرمة الانتفاع بها، وفي
الخلاف: دليلنا على حرمة بيعها اجماع الفرقة، وقوله (صلى الله عليه وآله): إن الله إذا
حرم شيئا حرم ثمنه (3)، وهي محرمة الأكل فيحرم ثمنها، وعن بعض
فقهائنا أنه لا يجوز بيعها لنجاستها.
فالمتحصل من كلماتهم أنه لا يجوز بيع المسوخ لحرمة لحمها وعدم
وجود النفع فيها ونجاستها، وقيام الاجماع على حرمة التكسب بها،
والكل ضعيف:
أما الحرمة، فلا ملازمة بينها وبين حرمة البيع كما تقدم.
وأما النجاسة فأيضا كذلك، لو سلمنا نجاسة جميع أفراد المسوخ.
وأما عدم النفع فيها، ففيه مضافا إلى عدم اعتبار المالية في العوضين
وكفاية الأغراض الشخصية في خروجها عن السفهية، أنه لا شبهة في
جواز الانتفاع بها منفعة محللة.
أما الاجماع، فنمنع كونه تعبديا وكاشفا عن رأي الحجة (عليه السلام)، بل هو
كسائر الاجماعات المنقولة في المسائل المتقدمة في استناده إلى
المدارك المعلومة.

1 - فقه المذاهب الأربعة (2: 232) عن الحنابلة: يجوز بيع سباع البهائم كالفيل والسبع
ونحوهما، وكذلك عن الحنفية، وفي الخلاف للشيخ (1: 225) عن الشافعية: كلما ينتفع به
يجوز بيعه مثل القرد والفيل وغير ذلك.
2 - المبسوط 2: 167.
3 - عوالي اللئالي 2: 110، السنن لدار القطني 3: 7، الرقم: 20.
151

ويؤيد ذلك ما ورد في بعض الروايات من جواز بيع عظام الفيل (1).
نعم ورد النهي عن بيع القرد وكون ثمنه سحتا (2)، فإن ثبت عدم الفصل
فهو وإلا فلا بد من الحكم بعدم الجواز في خصوص القرد.
وأما السباع، فلا شبهة في جواز بيعها لجواز الانتفاع بها بالاصطياد
ونحوه، وكذلك الانتفاع بجلودها، على ما ورد في جملة من الروايات (3)،
بل في حديث جواز بيع الفهود (4)، وفي آخر جواز بيع الهر (5)، وفي ثالث
جواز بيع جلود النمر (6)، وفي رواية علي بن جعفر (عليه السلام) جواز بيع جلود
السباع والانتفاع بها مطلقا (7).

1 - عبد الحميد بن سعيد قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن عظام الفيل يحل بيعه أو شراؤه
الذي يجعل منه الأمشاط، فقال: لا بأس، قد كان لأبي منه مشط أو أمشاط (الكافي 5: 226،
التهذيب 6: 373، 7: 133)، مجهولة لعبد الحميد.
2 - مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن القرد أن تشتري أو
تباع (الكافي 6: 489، عنه الوسائل 17: 171)، ضعيفة لسهل ومحمد بن الحسن بن شمون.
عن علي (عليه السلام): من السحت ثمن القرد (الجعفريات: 180، عنه المستدرك 13: 69)، ضعيفة
لجهالة الكتاب.
3 - كما في رواية سماعة، قال: سألته عن لحوم السباع وجلودها، فقال: وأما الجلود
فاركبوا عليها ولا تلبسوا منا شيئا تصلون فيه (الكافي 6: 541، الفقيه 1: 169، التهذيب 2: 205،
المحاسن: 629، عنهم الوسائل 4: 353)، موثقة.
4 - عيص بن القاسم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفهود وسباع الطير، هل يلتمس
التجارة فيها، قال: نعم (الكافي 5: 226، التهذيب 6: 373، 7: 133)، موثقة.
5 - في موثقة عبد الرحمان: لا بأس بثمن الهر، وسنذكرها في بيع كلاب الصيد (التهذيب
6: 356، عنه الوسائل 17: 119).
6 - أبو مخلد السراج قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) (فدخله رجلان) فقال أحدهما:
إني رجل سراج أبيع جلود النمر، فقال: مدبوغة هي، قال: نعم، قال: ليس به بأس (الكافي
5: 227، التهذيب 7: 135، عنهما الوسائل 17: 172)، ضعيفة لأبي مخلد.
7 - علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن جلود السباع وبيعها وركوبها
أيصلح ذلك، قال: لا بأس ما لم يسجد عليها (مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 189، عنه الوسائل
17: 172)، موثقة.
152

وبهذا نحمل ما يدل على حرمة بيع جلود السباع على الكراهة (1)، نعم
ذكر في بعض روايات العامة أنه لا يجوز بيع السنور (2)، ومن هنا وقع
الخلاف بينهم في ذلك.
المسألة (9)
جواز بيع العبد الكافر
قوله: يجوز بيع المملوك الكافر، أصليا كان أم مرتدا مليا.
أقول: إن المماليك من الكفار على أقسام ثلاث: فإن كفرهم إما أصلي
أو عرضي، وعلى الثاني فأما أن يعرضهم الكفر بارتدادهم عن الملة، وأما
أن يعرضهم ذلك بارتدادهم عن الفطرة.
أما الكافر الأصلي والمرتد الملي، فيجوز بيعهما بلا اشكال، بل في
المتن: بلا خلاف ظاهر بل ادعي عليه الاجماع وليس ببعيد.
ولا يتوجه الاشكال على هذا الرأي من ناحية الأخبار العامة المتقدمة،
لما عرفت من وهنها، ولا من ناحية النجاسة، فإن الكافر وإن كان من
الأعيان النجسة، ويشمله قوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول: أو شئ

1 - عن علي (عليه السلام): من السحت ثمن جلود السباع (الجعفريات: 180، عنه المستدرك
13: 120)، ضعيفة لجهالة الكتاب.
عنه (عليه السلام): من السحت ثمن جلود السباع (دعائم الاسلام 1: 126، عنه المستدرك
13: 120)، مرسلة.
2 - راجع سنن البيهقي 6: 10، وفي فقه المذاهب الأربعة (2: 232) عن الحنابلة: وهل
يصح بيع الهر خلاف، والمختار أنه لا يجوز.
153

من وجوه النجس، إلا أن جميع منافعه غير متوقفة على الطهارة، بل
يجوز الانتفاع به في غير ما اعتبرت فيه الطهارة، والرواية لضعف سندها
لا تصلح للمانعية.
وتوهم قيام الاجماع على عدم الجواز إنما هو توهم فاسد، إذ مع كثرة
المخالف ودعوى انعقاد الاجماع على الجواز لا يبقي مجال لهذا
التخيل، بل من القريب جدا أن يكون مدرك توهم الاجماع تلك الأخبار
العامة.
إذن فتكون المعاوضة على المملوك الكافر الأصلي والمرتد الملي
مشمولة للعمومات، وهذا مضافا إلى ما يظهر من جملة من الروايات
جواز بيع المملوك الكافر (1).

1 - إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) في شراء الروميات، قال: اشترهن وبعن
(الكافي 5: 210، عنه الوسائل 18: 245)، موثقة.
إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شراء مملوكي أهل الذمة إذا أقروا لهم
بذلك، فقال: إذا أقروا لهم بذلك فاشتر وانكح (الكافي 5: 210، الفقيه 3: 139، التهذيب 7: 70)،
مرسلة.
رفاعة النحاس قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): إن الروم يغيرون على الصقالبة
فيسرقون أولادهم من الجواري والغلمان، فيعمدون إلى الغلمان فيخصونهم، ثم يبعثون بهم إلى
بغداد إلى التجار، فما تري في شرائهم ونحن نعلم أنهم قد سرقوا، وإنما أغاروا عليهم من غير
حرب كانت بينهم، فقال: لا بأس إنما أخرجوهم من الشرك إلى الاسلام (الكافي 5: 210،
التهذيب 6: 162، عنهما الوسائل 18: 245)، ضعيفة لسهل بن زياد.
الصقالبة - بالسين والصاد - جيل من الناس حمر الألوان، كانوا بين بلغر وقسطنطينية.
زكريا بن آدم قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قوم من العدو - إلى أن قال: - وسألته عن سبي
الديلم يسرق بعضهم من بعض ويغيرون المسلمون عليهم بلا أمام أيحل شراؤهم؟ قال: إذا أقروا
بالعبودية فلا بأس بشرائهم (الكافي 5: 210، التهذيب 7: 76، عنهما الوسائل 18: 245)، مجهولة
لمحمد بن سهل.
154

وأما المرتد الفطري، ففي التذكرة: المرتد إن كان عن فطرة ففي صحة
بيعه نظر، ينشأ من تضاد الحكمين ومن بقاء الملك فإن كسبه لمولاه،
ومراده أن الحكم بالقتل والحكم بوجوب الوفاء بالعقد متضادان (1).
والتحقيق أن ما يظهر من مطاوي كلمات الأصحاب تصريحا أو تلويحا
في منشأ الاشكال هنا وجهان: الأول من جهة نجاسته، والثاني من جهة
عدم صدق المال عليه.
أما الوجه الأول، فهو يظهر من بعض الأساطين في شرحه على
القواعد (2)، حيث بني جواز بيع المرتد على قبول توبته، بل بني جواز بيع
مطلق الكافر على قبوله للطهر بالاسلام.
وفيه مضافا إلى منع مانعية النجاسة عن البيع، أنه لو كان جواز بيعه
مبنيا علي زوال نجاسته بالتوبة لما كان فرق بين أقسام الكفار في ذلك،
سواء كان كفرهم أصليا أم عرضيا، وسواء كان عروضه بالارتداد عن
الملة أم عن الفطرة، وسواء تقبل توبتهم أم لم تقبل.
وذلك لما عرفت في بيع المتنجس أن فعلية الحكم إنما هي بفعلية
موضوعه، فإذا قلنا بمانعية النجاسة عن البيع كانت مانعة عنه بوجودها
الفعلي، سواء كانت قابلة للزوال أم لا، كيف فإنه بعد صيرورة الموضوع
فعليا من جميع الجهات فتلك القابلية لا تؤثر في انفكاك الحكم عنه.
على أن امكان طهره بالتوبة لا يستلزم تحقق الطهارة، لاحتمال أن
لا يتوب ولا يخرج الامكان الاستقبالي من القابلية إلى الفعلية، إذن
فلا تمنع النجاسة عن بيع العبد إذا ارتد عن الفطرة.

1 - تذكرة الفقهاء 1: 466.
2 - شرح القواعد للكاشف الغطاء (مخطوط): 4.
155

وأما الوجه الثاني، فربما يقال بأن النجاسة وإن لم تكن مانعة عن البيع
إلا أن العبد بارتداده عن الفطرة يخرج عن المالية لوجوب قتله وإن تاب،
إذن فيكون في معرض التلف، وكذلك المرتد الملي إذا لم يتب، ومن هنا
استشكل غير واحد من أعاظم الأصحاب في رهن الفطري (1)، بدعوى أن
الغرض من الرهانة هي الوثاقة فهي منتفية فيه.
وفيه: أن عدم سقوط القتل عنه لا يخرجه عن حدود المالية، فإن
الانتفاع به بالعتق بمكان من الامكان، ولذا لو قتله غير الحاكم بدون إذنه
لضمنه، كيف فإنه من هذه الجهة ليس ألا كالمملوك المريض المشرف
على الموت، فهل يتوهم أحد سقوطه بذلك عن المالية بحيث لا يوجب
اتلافه الضمان.
ومع الغمض عن جميع المذكورات أن هذا الوجه إنما يصلح للمانعية
إذا حصل الجزم بالقتل، لبسط يد الحاكم الشرعي عليه وعلى اجراء
الحدود لا مطلقا، إذن فيكون الدليل أخص من المدعى.
المسألة (10)
جواز بيع كلب الصيد
قوله: يجوز المعاوضة على غير كلب الهراش في الجملة بلا خلاف ظاهر.
أقول: حيث لم يكن غير كلب الهراش من أقسام الكلاب على اطلاقه
مما قام الاجماع على جواز بيعه، فجعل المصنف الجواز المقيد
بالاجمال موردا لعدم الخلاف، فإنك ستعرف وقوع الخلاف في بيع كلب
الماشية والحائط والزرع.

1 - كالعلامة في قواعده 1: 159، والشهيد الثاني في مسالكه 4: 25.
156

ثم إن تحقيق هذه المسألة في ضمن جهات:
الجهة الأولى:
الظاهر أنه لا خلاف بين الإمامية في جواز بيع كلب الصيد الذي اتصف
بملكة الاصطياد، ويطلق عليه الصيود بالحمل الشايع، ففي الخلاف (1):
دليلنا اجماع الفرقة، بل دعوى الاجماع المحصل عليه فضلا عن
الاجماع المنقول غير جزافية، إلا ما نسب إلى ابن أبي عقيل من المنع عن
بيع الكلب على اطلاقه استنادا إلى العمومات (2)، وما يظهر من النهاية (3) من
قصر جواز التكسب به على السلوقي والماشية والزرع.
إلا أنك قد عرفت في بيع الكلب الهراش أن المطلقات وإن كانت
متظافرة ولكنها قيدت بالروايات الخاصة التي تدل على جواز بيع
الصيود من الكلاب سلوقيا كان أم غير سلوقي، وسنذكرها في الجهة
الثانية.
نعم عن أكثر العامة أنه لا يجوز بيع الكلب ولو كان كلب صيد، كما
تقدم، وقد ورد النص من طرقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) على خلافه (4).
وربما يتوهم تخصيص روايات الجواز بالسلوقي، بدعوى أنه هو
المنساق منها، لانصراف كلب الصيد إليه لكثرة وقوع الاصطياد به في
الخارج، أو أنه لا يتبادر ولا ينساق غيره من تلك الروايات، فيبقي غير
السلوقي تحت مطلقات المنع عن التكسب بالكلاب.
وفيه مضافا إلى كون الروايات خالية عن ذكر السلوقي وكثرة

1 - الخلاف 3: 182.
2 - قاله السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 28، ولا مخالف سواه على ما حكي.
3 - نهاية الإحكام 1: 364.
4 - عن جابر: نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد (سنن البيهقي 6: 6).
157

الاصطياد بغيره وإن كان أقل بالنسبة إليه، وأن المراد بالسلوقي هو مطلق
كلب الصيد وإن كان من غير جنسه كما صرح به غير واحد من الأعاظم،
أنه يرد عليه ما في المتن من عدم الغلبة المعتد بها على فرض تسليم كون
مجرد غلبة الوجود من دون غلبة الاستعمال منشأ للانصراف، وعليه
فلا مجال لتخصيص جواز البيع بالسلوقي فقط.
ثم أجاب عنه المصنف ثانيا وقال: مع أنه لا يصح في مثل قوله: ثمن
الكلب الذي لا يصيد، أوليس بكلب الصيد، لأن مرجع التقييد إلى إرادة
ما يصح عنه سلب صفة الاصطياد.
وحاصل كلامه: أن الكلب وإن كان طبيعة واحدة تعم جميع أفراد
الكلاب وتصدق عليها صدق الكلي على جزئياته والطبيعي على أفراده،
إلا أن لحاظ تلك الطبيعة عند جعلها موردا للحكم مع وصف الاصطياد
تارة وبدونه أخرى يستلزم انقسامها إلى قسمين متضادين.
وعلى هذا فيتقابل كلب الصيد وكلب الهراش تقابل التضاد، كما هو
الشأن في كل ماهية ملحوظة مع الأوصاف الخارجية المشخصة تارة
وبدونها أخرى.
إذن فلا يصغى إلى دعوى الانصراف بوجه، لاستلزامه اتحاد
المتضادين ووحدة المتقابلين فهو محال.
وفيه: أن كلامه هذا إنما يصح في أمثال قوله (عليه السلام) في رواية محمد بن
مسلم: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، فإن ظاهر التوصيف أن
وصف الاصطياد قد أخذ قيدا للموضوع، إلا أنه لا يتم في قوله (عليه السلام) في
مرسلة الفقيه: ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، فإن من
القريب جدا أن لا يصدق كلب الصيد ولو بحسب نوعه على غير
السلوقي، ولكن المرسلة ضعيفة السند.
158

ثم إن السلوق قرية في ناحية اليمن نسبت إليها كلاب الصيد، إما لأجل
أخذ أصلها منها أو لكون كلابها صيودا.
الجهة الثانية:
أنك قد عرفت أن مورد الروايات ومعقد الاجماعات إنما هو الكلب
المتصف بملكة الاصطياد وصار صيودا بالفعل، وحيث إن تلك الملكة
التي هي مناط صحة بيع الكلاب وملاكها لم تصر فعلية في الجرو القابل
للتعليم من السلوقي والكبير الغير المعلم منه، فيشكل الحكم بجواز
بيعها.
وربما يقال في وجه الصحة فيهما بأن الأخبار الواردة في بيع على
ثلاث طوائف:
أما الطائفة الأولى فتدل على حرمة بيع الكلاب على وجه الاطلاق
كالمطلقات، وقد تقدمت جملة منها في بيع الكلب الهراش وسمعت أن
أكثرها ضعيفة السند.
وأما الطائفة الثانية (1) فتدل على جواز بيع ما كان صيودا بالفعل ومتصفا
بملكة الاصطياد، سواء كان سلوقيا أم غير سلوقي.

1 - أبو عبد الله العامري قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ثمن الكلب الذي لا يصيد، فقال:
سحت، فأما الصيود فلا بأس (الكافي 5: 127، عنه الوسائل 17: 118)، مجهولة لقاسم بن وليد.
محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثمن الكلب الذي لا يصيد سحت، ثم قال:
ولا بأس بثمن الهر (التهذيب 6: 356، عنه الوسائل 17: 119)، موثقة.
ليث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الكلب الصيود يباع، فقال: نعم ويؤكل ثمنه (التهذيب
9: 80)، موثقة.
عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وثمن الكلب الذي
لا يصطاد من السحت (التهذيب 7: 135، عنه الوسائل 17: 119)، ضعيفة لقاسم بن محمد.
159

وأما الطائفة الثالثة (1) فتدل على جواز بيع كلب الصيد، كمرسلة
الصدوق وغيرها، والمحتمل في الطائفة الأخيرة منها ثلاثة:
1 - أن يكون المراد بكلب الصيد ما كان صيودا بالفعل، وكلب صيد
بشخصه وواجدا لملكة الاصطياد بنفسه، فيكون الغرض من المركب هي
إضافة الشخص إلى وصفه.
وحينئذ فترجع هذه الطائفة إلى الطائفة الثانية ويجري فيها الاشكال
المتقدم أيضا، من دعوى انصرافها إلى السلوقي مع جوابها، وعليه فنقيد
بها وبالطائفة الثانية الطائفة الأولى، فتصير النتيجة أن غير الصيود من
الكلاب لا يجوز بيعه.
2 - أن يراد به نوع كلب الصيد وإن لم يتصف بعض أفراده بملكة
الاصطياد، وعليه فتختص هذه الطائفة الأخيرة بالسلوقي فقط، فتكون
النسبة بينها وبين الطائفة الثانية هو العموم من وجه.
إذ قد يكون الكلب صيودا ولا يكون من أفراد الكلاب السلوقية، وقد
يكون من أفرادها ولا يكون صيودا بالفعل كالغير المعلم من السلوقي،
وقد يجتمعان، وحينئذ فيجوز تخصيص العمومات بكل من الطائفة

1 - أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ثمن كلب الصيد، قال: لا بأس بثمنه،
والآخر لا يحل ثمنه (التهذيب 6: 356، الفقيه 3: 105، عنهما الوسائل 17: 119)، ضعيفة لقاسم
ابن محمد.
الصدوق قال: قال (عليه السلام): وثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت (الفقيه 3: 105)،
مرسلة.
عن علي (عليه السلام) أنه قال: لا بأس بثمن كلب الصيد (دعائم الاسلام 2: 20، عنه المستدرك
13: 90)، مرسلة.
عنه (عليه السلام): ثمن الكلب سحت إلا كلب الصيد (فقه الرضا (عليه السلام): 34، عنه المستدرك
13: 90)، مرسلة.
160

الثانية والثالثة، بناء على ما نقحناه في الأصول من جواز تخصيص العام
بالخاصين بينهما عموم من وجه.
كما إذا ورد: أكرم العلماء، ثم ورد: لا تكرم الفساق منهم ولا تكرم
النحويين منهم، فإنه جاز تخصيص أكرم العلماء بكلا الخاصين، وإن
كانت النسبة بينهما هو العموم من وجه، وعليه فيجوز بيع الصيود من غير
السلوقي وبيع غير الصيود من السلوقي.
3 - أن يراد به ما يكون بينه وبين الصيد نسبة وعلاقة، بدعوى كفاية
أدني الملابسة في صحة الإضافة، كما هو الظاهر والموافق
للاستعمالات الدائرة بين المحاورين، ضرورة أن جملة كلب الصيد في
اللغة العربية لم توضع لمعنى خاص، بل أطلقت على حصة من الكلاب
بوجه من المناسبة وبعلاقة الملابسة، كيف فإنها ترادف في اللغة
الفارسية بلفط: سك شكاري، ولا يعتبرون في صحة ذلك الاطلاق
أزيد من تلك المناسبة الاجمالية.
وعليه فالنسبة بينها وبين الطائفة الثانية هو العموم المطلق، فإنه على
هذا يصح اطلاق كلب الصيد على الصيود مطلقا، سلوقيا كان أم غيره،
وعلى السلوقي كذلك صيودا كان أم غيره، وعلى ذلك أيضا فيجوز
تخصيص العمومات بهما بناء على جواز تخصيص العام بالخاصين
بينهما عموم مطلق كما هو الظاهر على ما حققناه في محله.
وأظهر المحتملات الثلاث هو الاحتمال الأخير، لما عرفت من كفاية
أدني الملابسة في صحة الإضافة، ثم الثاني لكثرة إضافة الموصوف إلى
وصف نوعه، وبهذا صح جعله موضوعا للأحكام الشرعية، وأما
الاحتمال الأول فغير سديد جزما، فإن من المستبعد جدا اعتبار الاتصاف
الفعلي في صحة إضافة الموصوف إلى الصفة، وأن لا يكتفي فيها بأدنى
المناسبة.
161

هذا غاية ما يمكن أن يقال في جواز بيع السلوقي على الاطلاق، ولكنه
فاسد، إذ العمل بما ذكرناه على كلا الاحتمالين إنما يجوز فيما إذا لم يكن
كل من الخاصين مقيدا بقيد به يوافق العام ويسانخه، وإلا فينفي ذلك
القيد بمفهومه أو منطوقه ما اختص به الخاص الآخر من مادة الافتراق،
فيكونان من أفراد الدليلين المتعارضين فيسقطان للتعارض.
وفي المقام أن الظاهر من قوله (عليه السلام) في الطائفة الثانية: ثمن الكلب
الذي لا يصيد سحت، وأما الصيود فلا بأس، هو أن غير الصيود من
الكلاب يحرم بيعه وإن كان سلوقيا، فيشارك العام بمقتضى اشتماله القيد
العدمي.
كما أن الظاهر من قولهم (عليه السلام) في الطائفة الثالثة: ولا بأس بثمن كلب
الصيد والآخر لا يحل ثمنه، هو أنه كلما كان كلب صيد بنوعه جاز بيعه
صيودا كان أم لم يكن، وأما غير كلب الصيد فلا يجوز بيعه وإن كان
صيودا، فيتعارضان في الصغير والكبير غير المعلمين من السلوقي على
الاحتمال الثالث من دعوى العموم المطلق بين الخاصين، وفي الصيود
من غير السلوقي أيضا على الاحتمال الثاني من دعوى العموم من وجه
بينهما.
فصارت النتيجة على الاحتمال الثالث أن غير الصيود من الكلاب
لا يجوز بيعه وإن كان سلوقيا، وعلى الثاني فالصيود من غير السلوقي
أيضا لا يجوز بيعه.
هذا كله مع الاغضاء عن سند الطائفة الثالثة، وإلا فهي لا تقاوم الطائفة
الثانية لضعف سندها وعدم انجبارها بعمل المشهور، وحينئذ فينحصر
المخصص تلك العمومات في الطائفة الثانية، فترتفع الغائلة من أصلها.
162

حرمة بيع كلب الحراسة:
قوله: الثالث: كلب الماشية.
أقول: هذه هي الجهة الثالثة من الكلام، الظاهر أنه لا شبهة في حرمة
بيع الكلاب الثلاثة، أي كلب الماشية وكلب الحائط وكلب الزرع،
ويسمى كل واحد منها بالكلب الحارس، وهذا هو المشهور بين القدماء (1)
وقد دلت عليه العمومات المتقدمة، كما أن المشهور بين الشيخ (رحمه الله) ومن
تأخر عنه الجواز.
وقد استدل عليه بوجوه:
1 - دعوى الاجماع عليه، كما يظهر من العلامة في التذكرة على ما
حكاه المصنف (رحمه الله) قال: يجوز بيع هذه الكلاب عندنا، ولكنا لم نجد
ذلك في التذكرة (2)، نعم ذكر الشيخ (رحمه الله) في الخلاف: أن بيع هذه الكلاب
يجوز عندنا وما يصح بيعه يصح إجارته بلا خلاف (3)، والمحكي عن
حواشي الشهيد: أن أحدا لم يفرق بين الكلاب الأربعة (4)، وظاهر هذه
العبارة عدم وجود القول بالفرق بين الكلاب الأربعة في جواز البيع
وعدمه.
وفيه: أن ذلك معارض بدعوى الاجماع على حرمة بيعها، على أن
دعواه في مثل هذه المسألة المختلف فيها من الصعب المستصعب،
خصوصا مع عدم كونه اجماعا تعبديا كاشفا عن رأي الحجة (عليه السلام)،

1 - أنظر المستند 2: 334، المناهل: 276.
2 - تذكرة الفقهاء 2: 295 (كتاب الإجارة).
3 - الخلاف 3: 181.
4 - حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 29.
163

لاحتمال أن المجمعين قد استندوا إلى المدارك المعلومة المذكورة في
المقام.
ولا ينقضي العجب من الشهيد (رحمه الله) كيف يدعي أن أحدا لم يفرق بين
الكلاب الأربعة في حرمة البيع وجوازه، مع كثرة الاختلاف في المسألة،
إلا أن يكون نظره الشريف في ذلك إلى العامة، فقد عرفت في بيع كلب
الهراش أن طائفة منهم كالحنابلة و الشافعية وبعض فرق المالكية ذهبوا
إلى أن بيع الكلاب مطلقا لا يصح حتى كلب الصيد، وطائفة أخرى منهم
كالحنفية وبعض آخر من المالكية ذهبوا إلى صحة بيعها مطلقا حتى كلب
الحراسة.
أو يكون نظره إلى جواز الانتفاع بها مطلقا وعدم جوازه كذلك، فإن
الفقهاء (رحمهم الله) لم يفرقوا في ذلك بين الكلاب الأربعة.
2 - أن ثبوت الدية على قاتلها في الشريعة المقدسة يدل على جواز
المعاوضة عليها، وإلى هذا أشار العلامة في المختلف (1) وقال: ولأن لها
ديات منصوصة فتجوز المعاوضة عليها، وقدرت هذه الدية في كلب
الماشية بكبش أو بعشرين درهما، وفي كلب الحائط بعشرين درهما،
وفي كلب الزرع بقفيز من طعام.
وفيه: أن ثبوت الدية لها في الشريعة لا يدل على ملكيتها فضلا عن
جواز المعاوضة عليها، فقد ثبتت الدية في الحر مع أنه غير مملوك قطعا،
بل لا يبعد أن يكون ثبوت الدية كاشفا عن عدم الملك مع فرض كون
الشئ محترما، وإلا لكان الثابت نقص القيمة أو تخيير المالك بينه وبين
الدية، كما في العبد والأمة.

1 - المختلف: 340.
164

3 - أنه لا شبهة في جواز إجارتها لحفظ الماشية والحائط والزرع اتفاقا
كما في المتن فيجوز بيعها لوجود الملازمة بينهما، وإلى هذا الدليل
أشار العلامة أيضا في المختلف وقال: ولأنه يجوز إجارتها فيجوز
بيعها.
وفيه: أنه لا ملازمة شرعية بين صحة الإجارة وصحة البيع، فإن إجارة
الحر وأم الولد جائزة بالاتفاق ولا يجوز بيعهما، كما لا ملازمة بين صحة
البيع وصحة الإجارة، فإن بيع الشعير والحنطة وعصير الفواكه وسائر
المأكولات والمشروبات جائز اتفاقا ولا تصح إجارتها، فإن من شرائط
الإجارة أن العين المستأجرة مما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها والأمور
المذكورة ليست كذلك.
وبعبارة أخرى أن جواز بيع الكلاب وعدمه من الأحكام الشرعية
وهي أمور توقيفية، فلا محيص عن اتباع أدلتها، فإن كان فيها ما يدل على
جواز بيعها أخذ به وإلا فالعمومات الدالة على المنع متبعة.
4 - ما ذكره العلامة أيضا في المختلف (1)، من أنه إذا جاز بيع كلب الصيد
جاز بيع باقي الكلاب الأربعة، والأول ثابت اجماعا فكذا الثاني، بيان
الشرطية أن المقتضي للجواز هناك كون المبيع مما ينتفع به وثبوت
الحاجة إلى المعاوضة، وهذان المعنيان ثابتان في صورة النزاع، فيثبت
الحكم عملا بالمقتضي السالم عن المعارض، إذ الأصل انتفاؤه.
وزاد عليه بعض أصحابنا: أن ما يترتب على الكلاب الثلاثة من المنافع
أكثر مما يترتب على كلب الصيد، فإذا جاز بيعه كان بيع تلك الكلاب
الثلاثة أولى بالجواز.

1 - الموضع المتقدم.
165

وفيه: أنه قياس واضح فقد نهينا عن العمل به في الشريعة المقدسة
بالأدلة القاطعة، وعليه فلا وجه لرفع اليد عن العمومات إلا في الكلب
الصيود.
5 - أن الحكم بجواز بيعها هو مقتضى الجمع بين الروايات، لأنا إذا
لاحظنا للعمومات الدالة على المنع مع قوله (عليه السلام) في رواية تحف
العقول: وكل شئ يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا
كله حلال بيعه وشراؤه وامساكه واستعماله وهبته وعاريته، وجدنا أن
النسبة بينهما هي العموم من وجه، فإن العمومات تقتضي حرمه بيع
الكلاب كلها وإنما خرج منها بيع كلب الصيود فقط للروايات الخاصة،
وهذه الفقرة من رواية تحف العقول تقتضي صحة بيع كلما كان فيه جهة
صلاح، فتشمل بيع كلب الماشية وكلب الحائط وكلب الزرع أيضا لجواز
الانتفاع بها في الحراسة، وبعد سقوطهما للمعارضة يرجع في اثبات
الجواز التكليفي إلى أصالة الإباحة، وفي اثبات الجواز الوضعي إلى
عمومات صحة البيع والتجارة عن تراض.
وفيه أولا: أنا لو أغمضنا عما تقدم في رواية تحف العقول، فإنها
لا تقاوم العمومات المذكورة في خصوص المقام، لأن كثرة الخلاف هنا
مانعة عن انجبار ضعفها بعمل المشهور.
وثانيا: أنه لا مناص من ترجيح العمومات عليها، إذ قد بينا في علم
الأصول أن من جملة المرجحات عند معارضة الدليلين بالعموم من وجه
أن يلزم من العمل بأحدهما إلغاء الآخر من أصله واسقاط ما ذكر فيه من
العنوان عن الموضوعية، وحينئذ فلا بد من العمل بالآخر الذي لا يلزم
منه المحذور المذكور.
وفي المقام لو عملنا برواية تحف العقول للزم من ذلك إلغاء
166

العمومات على كثرتها، ولسقط عنوان الكلب المذكور فيها عن
الموضوعية، لخروج الكلب الصيود منها بالروايات الخاصة كما عرفت،
ولو خرجت الكلاب الثلاثة منها بالرواية المذكورة لما بقي تحتها إلا
الكلب الهراش فقط، ويكفي في المنع عن بيعه عدم وجود النفع فيه،
فلا يحتاج إلى تلك العمومات المتظافرة ويلزم المحذور المذكور.
وأما إذا عملنا بالعمومات ورفعنا اليد عن الرواية فإن المحذور
لا يتوجه أصلا، لأن ما فيه جهة صلاح من الأشياء لا ينحصر في الكلاب
الثلاثة.
ونظير ذلك المعارضة بين ما ورد من الأمر بغسل الثوب من أبوال ما
لا يؤكل لحمه (1)، وما ورد من نفي البأس عن بول الطير وخرئه (2)، فإنا
لو قدمنا الخبر الأول وحكمنا بسببه بنجاسة خرء الطيور التي لا يؤكل
لحمها لكان ذكر الطير في الخبر الثاني لغوا محضا، إذ لا يبقي تحته إلا ما
يؤكل لحمه من الطيور، ويكفي في طهارة ذرقها ما يدل على طهارة بول
مأكول اللحم (3).
وهذا بخلاف العكس، فإنا إذا عملنا بالخبر الثاني لم يلزم المحذور
لكثرة أفراد غير المأكول من غير جنس الطيور.
ومن هذا القبيل أيضا معارضة ما يدل على انفعال الماء القليل بملاقاته

1 - عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه
(الكافي 3: 57، التهذيب 1: 264، عنهما الوسائل 3: 405)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
2 - أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كل شئ يطير فلا بأس ببوله وخرئه (الكافي
3: 58، التهذيب 1: 266، عنهما الوسائل 3: 412)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
3 - حريز وزرارة أنهما قالا: لا تغسل ثوبك من بول شئ يؤكل لحمه (الكافي 3: 57،
التهذيب 1: 264، عنهما الوسائل 3: 407)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
167

النجاسة (1)، لما يدل على عدم انفعال الجاري بذلك (2)، فإن العمل بالطائفة
الأولى والحكم بانفعال الجاري بملاقاته النجاسة إذا كان قليلا يوجب
كون ذكر الجاري في الطائفة الثانية لغوا، إذ لا يبقي فيها إلا الكر، ويكفي
في عدم انفعاله بملاقاته النجاسة ما يدل على عدم انفعال الكر بذلك على
الاطلاق (3)، ولو انعكس الأمر لم يلزم المحذور لكثرة أفراد القليل من غير
الجاري.
6 - ما في المتن من حكاية رواية ذلك عن الشيخ في المبسوط (4)، قال:
أنه روي ذلك - يعني جواز البيع في كلب الماشية والحائط - المنجبر
قصور سنده ودلالته، لكون المنقول مضمون الرواية لا معناها
ولا ترجمتها باشتهاره بين المتأخرين.
وفيه: أن الشهرة بين المتأخرين لا تجبر ضعف الرواية، بل ولم يعلم
استنادهم إليها في فتياهم بالجواز، فلعلهم استندوا في ذلك إلى الوجوه
المذكورة، كما يظهر ذلك ممن يلاحظ كلماتهم، على أنه لم يثبت لنا
كون المحكي عن الشيخ رواية فضلا عن انجباره هنا بالاشتهار.
وتوضيح ذلك: أن ناقل الرواية تارة ينقلها بألفاظها الصادرة عن

1 - راجع الوسائل 1: 50، الباب الثامن: نجاسة ما نقص عن الكر، من أبواب ماء المطلق.
2 - راجع الوسائل 1: 143، الباب الخامس: عدم نجاسة الماء الجاري، من أبواب ماء
المطلق.
3 - محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه
الكلاب ويغتسل فيه الجنب، قال: إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ (الكافي 3: 2، التهذيب
1: 39 و 226، الإستبصار 1: 6 و 20، الفقيه 1: 8، عنهم الوسائل 1: 158)، مجهولة لمحمد بن
إسماعيل النيسابوري.
4 - المبسوط 2: 166.
168

المنقول عنه، وأخرى بترجمتها بلغة أخرى غير لغة المروي عنه،
وثالثة بمعناها كما هو المتعارف بين الرواة، خصوصا في الأحاديث
الطوال التي يعسر حفظ ألفاظها عادة، ورابعة بمضمونها كما هو
المرسوم بين الفقهاء في مرحلة الافتاء.
أما غير القسم الأخير فلا شبهة في شمول أدلة اعتبار الخبر له كما هو
واضح، وأما القسم الأخير فلا تشمله تلك الأدلة قطعا لانحصارها في
الأخبار الحسية، ورأي الفقيه من الأمور الحدسية، فلا يكون حجة لغيره
ولغير مقلديه كما حقق في علم الأصول.
وإذا عرفت ذلك اتضح لك أن المحكي عن الشيخ (رحمه الله) لا يكون
مشمولا لأدلة اعتبار الخبر، لأن ظاهره أنه (رحمه الله) فهم باجتهاده جواز البيع
من الروايات وأشار إليه بلفظ الإشارة، بداهة أن الإمام (عليه السلام) لم يبين
الحكم على النحو المذكور في العبارة وبلفظ الإشارة، ابتداء من دون أن
يكون مسبوقا أو ملحوقا بكلام آخر يدل عليه.
وعليه فلم يثبت كون المحكي رواية حتى ينجبر ضعفها بعمل
المشهور وتكون حجة لنا في مقام الفتوي، نعم لو كانت الرواية بأصلها
واصلة إلينا وقلنا بانجبار ضعف الخبر بشئ لكان لهذه الدعوى مجال
واسع.
هذا كله على تقدير أن يكون المنقول في المتن هو عين عبارة الشيخ
(رحمه الله)، ولكنها ليست كذلك، فإنه قال في تجارة المبسوط: وروي أن كلب
الماشية والحائط كذلك (1)، وعلى هذا فهي رواية مرسلة وقابلة للانجبار.
ومع ذلك لا يجوز الاستناد إليها أيضا، لما عرفت في البحث عن رواية

1 - المبسوط 2: 166، عنه الوسائل 17: 120.
169

تحف العقول من منع انجبار ضعف الرواية بشئ صغرى وكبرى.
على أن من البعيد جدا بل من المستحيل عادة أن تكون هناك رواية
ولم يظفر عليها غير الشيخ من علماء الحديث، أو وصلوا إليها ولكنهم
لم يوردوها في أصولهم المعدة للرواية، حتى هو (رحمه الله) في تهذيبيه،
والمظنون أن الشيخ (رحمه الله) اطلع عليها في كتب العامة وأوردها في كتابه
للمناسبة، إلا أن أحاديثهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) في النهي عن بيع الكلاب
خالية أيضا عن استثناء كلب الماشية وكلب الحائط.
لا يقال: إن عدم اشتهار المرسلة بين القدماء لا يمنع انجبار ضعفها
بعمل المشهور من المتأخرين، فإن ظهورها إنما كان من زمان الشيخ (رحمه الله)
فيكون هذا عذرا لعدم عمل القدماء بها، وإنما يضر ذلك فيما إذا كانت
الرواية بمرأى منهم ومسمع ثم لم يعملوا بها لاعراضهم عنها.
فإنه يقال: إن ضعف الرواية إنما ينجبر بالشهرة إذا عمل بها المشهور
مع نقلهم إياها في كتبهم من دون أن يستندوا في ذلك إلى نقل شخص
واحد، وأما إذا انتهى سند الناقلين إلى شخص واحد فنسبتها إلى النقلة
وغيرهم سيان، فمثل هذه الشهرة لا توجب الانجبار، ضرورة عدم
اختصاص النقلة بقرينة زائدة ليمتازوا بها على غيرهم، وإذن فنسبة
المرسلة إلى العاملين والناقلين كنسبتها إلينا، لأن مستندهم أجمع هو
نقل الشيخ (رحمه الله) فقط، فلا يكون عملهم هذا جابرا لوهنها.
ويضاف إلى ذلك ما قد عرفته مرارا من فساد البناء والمبني، وأن
الشهرة لا تجبر ضعف الرواية صغرى وكبرى.
تذييل:
المستفاد من أخبار الباب إنما هو حرمة بيع كلب الماشية وكلب
الحائط وكلب الزرع، وأما المعاملات الأخرى غير البيع فلا بأس في
170

ايقاعها عليها، كإجارتها وهبتها والصلح عليها، بناء على عدم جريان
أحكام البيع عليه إذا كانت نتيجته المبادلة بين المالين، فإن المذكور في
تلك الأخبار هي حرمة ثمن غير الصيود من الكلاب، ولا يطلق الثمن
على ما يؤخذ بدلا بغير عنوان البيع من المعاملات.
ثم لا يخفى أن اقتناء تلك الكلاب ولو في غير أوان الاصطياد
والحراسة مما لا اشكال فيه، لأنها من الأموال ولو باعتبار الانتفاع بها في
وقت الاصطياد والحراسة، وحرمة بيع هذه الكلاب لا يضر بجواز
اقتنائها، إذ لا ملازمة بين حرمة بيع شئ وحرمة اقتنائه والانتفاع به،
كيف وأن الانتفاع بها أكثر من الانتفاع بالكلب الصيود، خصوصا لأهل
البادية وأصحاب الماشية والبساطين والزروع ونحوها، ولم يستشكل
أحد في جواز ذلك فيما نعلم بل ورد في أخبار الفريقين جواز اقتناء
الكلاب الأربعة إلا أن تلحق بالكلب الهراش (1).

1 - عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع، فقد انتقص من
أجره كل يوم قيراط (عوالي اللئالي 1: 143، عنه المستدرك 8: 293)، مرسلة.
أبو الفتوح في تفسير قوله تعالى: وما علمتم من الجوارح - الآية رخص النبي (صلى الله عليه وآله) في
اقتناء كلب الصيد، وكل كلب فيه منفعة مثل كلب الماشية وكلب الحائط والزرع، رخصهم في
اقتنائه ونهى عن اقتناء ما ليس فيه نفع - الخبر (تفسير أبي الفتوح الرازي 2: 103، عنه
المستدرك 8: 293)، مرسلة.
عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من اقتنى كلبا إلا كلب ضاري لصيد
أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان.
وفي رواية أخرى: قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع، فقال: إن لأبي هريرة
زرعا (سنن البيهقي 6: 9).
أقول: في هذا الحديث إشارة اجمالية إلى مكانة أبي هريرة في وضع الأحاديث الكاذبة
حسب اقتضاء أغراضه الفاسدة وآرائه الكاسدة.
171

وقد يقال بجواز بيع كلب الماشية، لقول علي (عليه السلام) في رواية قيس:
لا خير في الكلاب إلا كلب صيد أو كلب ماشية (1)، فإن جواز البيع من
الخير الثابت فيه.
وفيه: أن غاية ما يستفاد من الرواية هو جواز اقتنائه للانتفاع به في
حراسة الماشية واتصافه بالمالية بهذا الاعتبار، وأما جواز بيعه
فلا يستفاد منها، لأنك قد عرفت عدم الملازمة بين كون الشئ مالا وبين
جواز بيعه، وإذن فالرواية من جملة ما يدل على جواز اقتناء كلب
الماشية.
ومن هنا اتضح: أنه لا وجه لقياس ما يحرم بيعه من الكلاب الثلاثة
بالخمر لاثبات عدم المالية فيها، لا وجه لذلك، لأن الشارع قد الغي
مالية الخمر بخلاف الكلاب الثلاثة، فإن ماليتها محفوظة في نظر الشارع
وإن حرم بيعها.
المسألة (11)
جواز بيع العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه
قوله: الأقوى جواز المعاوضة على العصير العنبي إذا غلى ولم يذهب ثلثاه.
أقول: الغليان عبارة عن القلب كما في رواية الحماد، قال: قلت: أي
شئ الغليان، قال: القلب (2)، والمراد به حصول النشيش فيه بحيث
يصير أعلاه أسفله.

1 - محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا خير في الكلاب
إلا كلب صيد أو كلب ماشية (الكافي 2: 552، عنه الوسائل 11: 530)، صحيحة.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن شرب العصير، قال: تشرب ما لم خل فإذا غلى
فلا تشربه، قلت: أي شئ الغليان، قال: القلب. (الكافي 6: 419، التهذيب 9: 120، عنهما
الوسائل 25: 287).
172

ثم إن العصير إذا غلى بنفسه حكم بنجاسته بمجرد ظهور النشيش فيه
عند بعض القدماء، وقد شيد أركان هذا القول البطل البحاثة شيخ
الشريعة (رحمه الله) في رسالته العصيرية، وتبعه جملة ممن تأخر عنه، وعلى
هذا فلا تحصل الطهارة والحلية فيه إلا بصيرورته خلا.
ويمكن تأييد هذا القول برواية الكلبي النسابة المتقدمة في بيع النبيذ،
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن النبيذ، فقال: حلال، قلت: أنا ننبذه
فنطرح فيه العكر وما سوي ذلك، فقال (عليه السلام): شه شه تلك الخمرة
المنتنة (1).
وقد كنا نجزم بذلك القول في سالف الأيام ثم عدلنا عنه، وتحقيق
الحق في محله.
وإن كان غليانه بالنار فهو محل الكلام في المقام ومورد النقض
والابرام، من جهة طهارته وعدمها، وجواز شربه وبيعه وعدمهما،
وفصل بعضهم بين العصير العنبي والتمري وحكم بنجاسة الأول
وطهارة الثاني، وتحقيق ذلك وتفصيله في كتاب الطهارة.
ووجهة الكلام هنا في خصوص البيع فقط، والظاهر جوازه، ولنمهد
لبيان ذلك مقدمة، وهي أنه:
لا اشكال في أن العصير العنبي سواء غلى أم لم يغل من الأموال المهمة
في نظر الشارع والعرف.
وعليه فلو أتلفه أحد ضمن قيمته لمالكه، كما لو أغلاه الغاصب فإنه
يضمنه بنقصان قيمته، إذا كان الغليان موجبا للنقص، كأن أخذ للتداوي

1 - الكافي 6: 416، التهذيب 1: 220، الإستبصار 1: 16، عنهم الوسائل 1: 203، ضعيفة
لمعلي بن محمد البصري وسهل بن زياد
173

في غير أوان العنب، فإنه لا قصور في شمول دليل اليد لذلك مع قيام
السيرة القطعية عليه.
وإن كان غليانه لا يوجب نقصان قيمته أو كان سببا لزيادتها فلا وجه
للضمان، كأن أخذ للدبس ونحوه فغصبه الغاصب فأغلاه، والوجه في
ذلك هو أن الغاصب وإن أحدث في العصير المغصوب وصفا جديدا إلا أن تصرفه هذا لم يحدث عيبا في العصير ليكون موجبا للضمان بل صار
وسيلة لازدياد القيمة.
ومن هنا ظهر لك ضعف قول الماتن: لو غصب عصيرا فأغلاه حتى
حرم ونجس لم يكن في حكم التالف بل وجب عليه رده ووجب عليه
غرامة الثلثين وأجرة العمل فيه حتى يذهب الثلثان، فقد عرفت عدم
صحة ذلك على اطلاقه.
إذا علمت ذلك وقع الكلام في ناحيتين: الناحية الأولى في جواز بيع
العصير العنبي وعدمه بحسب القواعد، والناحية الثانية في جواز بيعه
وعدم جوازه بحسب الروايات.
أما الناحية الأولى، فقد يقال بحرمة بيعه إذا غلى من جهة النجاسة
والحرمة وانتفاء المالية، ولا يرجع شئ من هذه التعليلات إلى معنى
محصل.
أما النجاسة، فإنها لم تذكر إلا في رواية تحف العقول، والمراد بها
النجاسات الذاتية فلا تشمل المتنجسات، لأن نجاستها عرضية، ولو
سلمنا شمولها للمتنجسات فالنهي عن بيعها ليس إلا من جهة عرائها عن
المنفعة المحللة، ولا شبهة في أن العصير العنبي المغلي ليس كذلك
لوجود المنافع المحللة فيه بعد ذهاب ثلثيه، على أن مانعية النجاسة عن
البيع ممنوعة كما تقدم.
174

وأما الحرمة، فقد يقال: إن الروايات العامة المتقدمة دلت على وجود
الملازمة بين حرمة الشئ وحرمة بيعه إلا أنه فاسد، فقد تقدم أنها
ضعيفة السند، وأشرنا أيضا إلى عدم الملازمة بين حرمة الشئ وحرمة
بيعه.
على أن المراد بالحرمة فيها ما يعرض على الشئ بعنوانه الذاتي
الأولى فلا تشمل الأشياء المحرمة بواسطة عروض أمر خارجي، وإلا
للزم القول بحرمة بيع الأشياء المباحة إذا عرضتها النجاسة أو غيرها مما
يوجب حرمتها العرضية.
وأما انتفاء المالية، ففيه أن العصير العنبي المغلي من الأموال الخطيرة
في نظر الشارع والعرف، ولذا لو أتلفه أحد لضمنه كما عرفته، على أن
الظاهر أن المالية لا تعتبر في صحة المعاوضة على الشئ.
وأما الناحية الثانية، فقد استدل على حرمة بيعه بروايات:
منها: قوله (عليه السلام) في رواية محمد بن الهيثم إنه: إذا تغير عن حاله
وغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه (1)، فإن البيع من جملة الخير المنفي
فلا يجوز.
وفيه أولا: أنها رواية مرسلة فلا تصلح للاستناد إليها في الأحكام الشرعية، وثانيا: أنها بعيدة عن حرمة البيع لظهور السؤال في حرمة
الشرب فقط فلا تشمل البيع.
ومنها: قوله (عليه السلام) في رواية أبي كهمس: وإن غلى فلا يحل بيعه (2)،

1 - عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتى يغلي من
ساعته فيشربه صاحبه، فقال: إذا تغير عن حاله وغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقي
ثلثه (الكافي 6: 419، التهذيب 9: 120، عنهما الوسائل 25: 285)، مرسلة.
2 - عن أبي كهمس قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) عن العصير فقال: لي كرم أنا أعصره
كل سنة واجعله في الدنان وأبيعه قبل أن يغلي، قال: لا بأس به، وإن غلى فلا يحل بيعه، ثم
قال: هو ذا نحن نبيع ثمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا (التهذيب 7: 138، الإستبصار 3: 106،
عنهما الوسائل 17: 231)، مجهولة لأبي كهمس.
في رجال المامقاني في فصل الكنى (3: 32): كهمس - بالكاف المفتوحة والهاء الساكنة
والميم المفتوحة والسين المهملة - من أسماء الأسد، قاله الليث، والرجل القبيح الوجه، عن
ابن خاويه، والناقة الكوماء، وهي العظيمة السنام، عن ابن عباد، نص على ذلك كله في التاج،
وفي الصحاح: أن الكهمس القصير، وأبو حي من العرب، وأبو كهمس كنية الهيثم بن عبد الله،
وظاهر النقد كونهما رجلين، والظاهر الاتحاد، وهو كنية قاسم بن عبيد أيضا - انتهى.
أقول: في التهذيب في كتاب الطلاق: أبو كهمس اسمه هيثم بن عبيد.
175

فإن ظاهرها نفي الحلية المطلقة، تكليفية كانت أم وضعية، فتدل على
حرمة بيع العصير إذا غلى ولم يذهب ثلثاه.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند، وثانيا: أن ظهورها في غليان العصير
بنفسه لا بالنار فتكون غريبة عما نحن فيه وراجعة إلى القسم الأول من
العصير، وقد عرفت من بعض القدماء ومن شيخ الشريعة أن الطهارة
والحلية فيه لا تحصلان إلا بصيرورته خلا، على أن الظاهر من الحلية فيها
بقرينة الصدر والذيل هي التكليفية فقط دون الوضعية وحدها أو ما هو
أعم منها ومن التكليفية.
إذن فالرواية ناظرة إلى حرمة بيع العصير للشرب، فإن اشراب النجس
أو المتنجس للمسلم حرام، وأما حرمة بيعه للدبس ونحوه فلا يستفاد
منها.
ثم لا يخفى أن قوله (عليه السلام) في ذيل الرواية: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممن
نعلم أنه يصنعه خمرا، إنما هو لدفع وسوسة السائل من تجويز الإمام
(عليه السلام) بيع العصير قبل الغليان وإن كان المشتري ممن يصنعه خمرا،
وسيأتي في مبحث بيع العنب ممن يجعله خمرا تعليل الإمام (عليه السلام) جواز
176

البيع بقوله: بعته حلالا فجعله حراما فأبعده الله، وقد تكرر ذلك في
جملة من الروايات.
ومنها: ما في رواية أبي بصير، من قوله (عليه السلام): إذا بعته قبل أن يكون
خمرا، وهو حلال فلا بأس (1)، فإن منطوقها يدل على جواز بيع العصير
قبل صيرورته خمرا، ومفهومها يدل على عدم جواز البيع بعد حرمة
العصير بالغليان.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند.
وثانيا: أن راويها أبا بصير مشترك بين اثنين وكلاهما كوفي ومن أهل
الثقة، ومن المقطوع به أن بيع العصير العنبي لم يتعارف في الكوفة في
زماننا هذا مع نقل العنب إليها من الخارج فضلا عن زمان الراوي الذي كان
العنب فيه قليلا جدا.
وعليه فالمسؤول عنه هو حكم العصير التمري الذي ذهب المشهور
إلى حليته حتى بعد الغليان ما لم يصر خمرا، فلا يستفاد من الرواية إلا
حرمة بيع الخمر وجواز بيع العصير التمري قبل كونه خمرا، فتكون
غريبة عن محل الكلام.
وإن أبيت عن ذلك فلا اشكال في أنها غير مختصة بالعصير العنبي،
فغاية الأمر أن تكون الرواية شاملة لكلا العصيرين، إلا أنه لا بد من
التخصيص بالتمري، لأن ظاهر قوله (عليه السلام): وهو حلال، هو أن العصير
قبل كونه خمرا حلال ولو كان مغليا، ومن الواضح أن هذا يختص
بالتمري دون العنبي.

1 - قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله
خمرا، قال: إذا بعته قبل أن يكون خمرا وهو حلال فلا بأس (الكافي 5: 231، التهذيب 7: 136،
الإستبصار 3: 105، عنهم الوسائل 17: 230)، ضعيفة لقاسم بن محمد.
177

قوله: والظاهر أنه أراد بيع العصير للشرب من غير التثليث.
أقول: قد حكي المصنف عن المحقق الثاني في حاشية الإرشاد (1) أنه:
لو تنجس العصير ونحوه فهل يجوز بيعه على من يستحله فيه اشكال، ثم
ذكر المحقق الثاني: أن الأقوى العدم لعموم: ولا تعاونوا على الإثم و
العدوان (2).
وقد استظهر المصنف من كلامه هذا أنه أراد بيع العصير للشرب من
غير التثليث، إلا أن الذي يظهر لنا منه أنه أراد من العصير مطلق
المعتصرات كعصير الفواكه وغيره، ويدل على أن هذا هو المراد من
كلامه وجهان:
1 - عطف كلمة: نحوه على العصير، فإن الظاهر أن المراد منها
مطلق المايعات المضافة، فلا بد وأن يكون المراد من العصير مطلق
المعتصرات، إذ لا خصوصية للعصير العنبي في المقام.
2 - تقييده جواز البيع بمن يستحل، إذ لو كان مراده خصوص العصير
العنبي فقط لكان ذلك التقييد لغوا لجواز بيعه من غير المستحل أيضا،
فقد عرفت حليته وطهارته وجواز الانتفاع به على وجه الاطلاق بعد
ذهاب ثلثيه.
ويؤيد ذلك ما استدل به المحقق الثاني على حرمة البيع من حرمة
الإعانة على الإثم، فإن العصير العنبي وإن كان يتنجس ويحرم بمجرد
الغليان إلا أنه يطهر ويحل بذهاب ثلثيه، فلا يكون بيعه من غير المستحل
إعانة على الإثم، ويستكشف من ذلك أن غرضه من العصير هو ما ذكرناه.

1 - حاشية الإرشاد: 204 (مخطوط).
2 - المائدة: 2.
178

المسألة (12)
جواز المعاوضة على الدهن المتنجس
قوله: يجوز المعاوضة على الدهن المتنجس.
أقول: المعروف بين الأصحاب هو جواز المعاوضة على الدهن
المتنجس لفائدة الاستصباح به تحت السماء خاصة.
بل في الخلاف دعوى الاجماع على ذلك، قال: يجوز بيع الزيت
النجس لمن يستصبح به تحت السماء، وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه
مطلقا (1)، وقال مالك والشافعي: لا يجوز بيعه بحال، دليلنا اجماع الفرقة
وأخبارهم (2).
وعن الحنابلة أيضا لا يجوز، إلا أن الظاهر من أخبار العامة جواز ذلك (3)
لاطباقها على جواز الانتفاع به، بل في بعضها ذكر جواز البيع صريحا (4).

1 - فقه المذاهب (2: 232) عن الحنفية: يجوز أن يبيع دهنا متنجسا ليستعمله في الدبغ
والاستضاءة به في غير المسجد، وفي (2: 231) عن المالكية: لا يصح بيع المتنجس الذي
لا يمكن تطهيره، كسمن وقعت فيه نجاسة على المشهور وذهب بعضهم إلى الجواز، وعن
الحنابلة: الدهن الذي سقطت فيه نجاسة فإنه لا يحل بيعه.
وفي هامش سنن البيهقي (6: 13) في قواعد ابن الرشد اختلفوا في الزيت النجس ونحوه
بعد اتفاقهم على تحريم أكله، فمنعه مالك والشافعي، وجوزه أبو حنيفة وابن وهب إذا بين،
وفي نوادر الفقهاء: أجمع الصحابة على جواز بيع زيت ونحوه تنجس بموت شئ فيه إذا بين
ذلك.
2 - الخلاف 3: 187.
3 - راجع سنن البيهقي 9: 354.
4 - في هامش سنن البيهقي (6: 13) عن ابن عمران قال: سألت القاسم وسالما عن الزيت
تموت فيه الفأرة أفنبيعه، قال نعم.
179

قوله: وجعل هذا من المستثنى عن بيع الأعيان النجسة.
أقول: حاصل كلامه أن مسألة المعاوضة على الدهن للاستصباح إنما
يمكن جعلها من المستثنى من حرمة بيع الأعيان النجسة، إذا قلنا بحرمة
الانتفاع بالمتنجس إلا ما خرج بالدليل، أو قلنا بحرمة بيع المتنجس وإن
جاز الانتفاع به منفعة محللة مقصودة، وإلا فيكون الاستثناء منقطعا لعدم
دخول بيع الدهن المتنجس ولا غيره من المتنجسات القابلة للانتفاع بها
في المستثنى منه، وقد تقدم أن المنع عن بيع النجس فضلا عن المتنجس
ليس إلا من حيث حرمة المنفعة المقصودة، فإذا فرض حلها فلا مانع من
البيع.
وفيه أولا: أنه قد تقدم مرارا عديدة أن النجاسة بما هي نجاسة لا تمنع
عن البيع إلا إذا استلزمت حرمة الانتفاع بالنجس من جميع الجهات، وقد
اعترف المصنف هنا وفي مسألة بيع الميتة الحكم الأول، وقد تقدم أيضا
أن النجاسة لا تمنع عن الانتفاع بالنجس لو كان له نفع محلل.
بل وستعرف أن مقتضى الأصل إنما هو جواز الانتفاع بالأعيان النجسة
فضلا عن المتنجسات، وإذن فلا مناص عن كون الاستثناء منقطعا
لا متصلا.
وثانيا: أنا لا نعرف وجها لابتناء كون الاستثناء متصلا على حرمة
الانتفاع بالمتنجس، إذ العنوان في المستثنى والمستثنى منه إنما هو
حرمة بيع النجس أو المتنجس من حيث هما كذلك، ولم يقيد بحرمة
الانتفاع بهما.
نعم يجوز تعليل جواز البيع أو حرمته بجواز الانتفاع بهما أو حرمته،
وعليه فتكون حرمة الانتفاع بهما من علل التشريع لحرمة بيعهما ومن
قبيل الواسطة في الثبوت لذلك.
180

وقد ظهر مما ذكرناه أن القاعدة الأولية تقتضي جواز بيع الدهن
المتنجس بلا احتياج إلى الروايات، كما أنها تقتضي حرمة بيعه وعدم
جواز الانتفاع به لو قلنا بمانعية النجاسة عن البيع وعدم جواز الانتفاع
بالمتنجس.
وثالثا: أن جعل المصنف المعاوضة على الأعيان المتنجسة من جملة
المسائل الثمانية، وإن كان يقتضي اتصال الاستثناء وشمول المستثنى
منه للنجس والمتنجس كليهما، إلا أن تخصيصه الكلام في عنوان هذه
المسائل الثمانية بالاكتساب بالأعيان النجسة عدا ما استثنى يقتضي
انقطاع الاستثناء، سواء قلنا بجواز الانتفاع بالمتنجس أم لم نقل، وعليه
فذكر مسألة المعاوضة على الأعيان المتنجسة في عداد المعاوضة على
الأعيان النجسة من باب الاستطراد.
تأسيس:
لا يخفى أن الروايات الواردة في بيع الدهن المتنجس على طوائف:
الأولى ما دل على جواز بيعه مقيدا باعلام المشتري (1)، الثانية ما دل على

1 - ابن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال:
بعه وبينه لمن اشتراه ليستصبح به (الكافي 6: 261، التهذيب 9: 85، عنهما الوسائل 17: 97)،
موثقة للحسن بن محمد بن سماعة.
أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه،
فقال: إن كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي، وإن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا
بعته (التهذيب 7: 129، عنه الوسائل 17: 95)، مجهولة للحسن بن رباط.
عن إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سأله سعيد الأعرج السمان وأنا
حاضر عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به، قال: أما الزيت
فلا تبعه إلا لمن تبين له فيبتاع للسراج - الخبر (قرب الإسناد: 60، عنه الوسائل 17: 98)،
ضعيفة لمحمد بن خالد.
181

جواز البيع من غير تقييد بالاعلام، كرواية الجعفريات الدالة على جواز
بيع الدهن المتنجس لجعله صابونا (1)، الثالثة ما دل على عدم جواز بيعه
مطلقا (2).
ومقتضى القاعدة تخصيص الطائفة الثالثة الدالة على عدم الجواز بما
دل على جواز البيع مع الاعلام، وبعد التخصيص تنقلب نسبتها إلى
الطائفة الثانية الدالة على جواز البيع مطلقا، فتكون مقيدة لها لا محالة،
فيحكم بجواز بيعه مع الاعلام دون عدمه، وعلى هذا فيجب الاعلام
بالنجاسة مقدمة لذلك.
ولا يخفى أن وجوب الاعلام على ما يظهر من ذيله إنما هو لأجل أن
لا يقع المشتري في محذور النجاسة، إذ قد يستعمل الدهن المتنجس

1 - عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن الزيت يقع فيه شئ له دم فيموت، قال: الزيت خاصة
يبيعه لمن يعمله صابونا (الجعفريات: 26، عنه المستدرك 13: 72)، وعن الراوندي مثله.
أقول: قد أشرنا مرارا عديدة إلى وثاقة كتاب الأشعثيات المسمى بالجعفريات، ولكن تبين
أخيرا لسيدنا الأستاذ أدام الله أيام إفاضاته أن الوجوه التي استند إليها القائلون باعتبار الكتاب
لا تخرجه عن الجهالة، فإن من جملة رواته موسى بن إسماعيل، وهو مجهول الحال في كتب
الرجال، ومهما بالغ المحدث النوري في اعتباره وتوثيق رواته إلا أن ما أفاده لا يرجع إلى
معنى محصل تركن إليه النفس ويطمئن به القلب.
2 - عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن حب دهن ماتت فيه فأرة، قال:
لا تدهن به ولا تبعه من مسلم. (قرب الإسناد: 112، عنه الوسائل 17: 100)، مجهولة لعبد الله
ابن الحسن.
عن علي (عليه السلام) قال: وإن كان شيئا مات في الإدام وفيه الدم في العسل أو في زيت أو في
السمن أن كان ذائبا فلا يؤكل يسرج به ولا يباع (الجعفريات: 26، عنه المستدرك 13: 71)،
مجهولة لموسى بن إسماعيل.
عنهم (عليهم السلام): إذا وقعت (الدابة) فيه (الإدام) فماتت لم يؤكل ولم يبع ولم يشتر (دعائم
الاسلام 1: 122، عنه المستدرك 13: 72)،
182

فيما هو مشروط بالطهارة لجهله بالحال، وعليه فلو باع المتنجس الذي
ليس من شأنه أن يستعمل فيما يشترط بالطهارة كاللحاف والفرش،
فلا يجب الاعلام فيه.
قوله: منها الصحيح عن معاوية بن وهب.
أقول: لا دلالة في الرواية على جواز البيع ولا على عدمه، بل هي دالة
على جواز إسراج الزيت المتنجس.
قوله: ومنها الصحيح عن سعيد الأعرج.
أقول: الرواية للحلبي، وهي أيضا دالة على الاسراج، فلا اشعار فيها
بحكم البيع بوجه.
قوله: وزاد في المحكي عن التهذيب.
أقول: بعد ما نقل الشيخ (رحمه الله) رواية ابن وهب المشار إليها الدالة على
جواز إسراج الزيت المتنجس قال: وقال في بيع ذلك الزيت (1): تبيعه
وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به، فأشار به إلى رواية أخرى لابن وهب،
وهي الرواية المتقدمة الدالة على جواز بيع ذلك الزيت مع الاعلام، إذن
فلا وجه لجعل هذه العبارة رواية كما صنعه المصنف، وإنما هي من كلام
الشيخ (رحمه الله).
عدم اشتراط الاستصباح في صحة بيع الدهن المتنجس:
قوله: إذا عرفت هذا فالاشكال يقع في مواضع:
الأول: أقول: ما قيل أو يمكن أن يقال في حكم بيع الدهن المتنجس
وجوه بل أقوال:

1 - التهذيب 9: 85.
183

1 - جواز بيعه على أن يشترط على المشتري الاستصباح، كما
استظهره المصنف من عبارة السرائر (1).
2 - جوازه مع قصد المتبايعين الاستصباح وإن لم يستصبح به بالفعل،
كما استظهره المصفف من الخلاف (2).
3 - جواز بيعه بشرط أن لا يقصد المتبايعان في جواز بيعه المنافع
المحرمة وإن كانت نادرة، سواء قصدا مع ذلك المنافع المحللة أم لا.
4 - صحة بيعه مع قصد المنفعة المحللة إلا إذا كانت شايعة، فلا يعتبر
في صحة البيع ذلك القصد.
5 - جواز بيعه على وجه الاطلاق من غير اعتبار شئ من القيود
المذكورة.
6 - اشتراط تحقق الاستصباح به خارجا في جواز بيعه، كما استظهره
المحقق الإيرواني من عبارتي الخلاف والسرائر، وجعلهما أجنبيتان
عما ذكره المصنف (رحمه الله) (3).
وقد اختار في المتن الوجه الرابع في مطلع كلامه، وقال: يمكن أن
يقال باعتبار قصد الاستصباح، واختار الوجه الثالث في آخر كلامه
وقال: نعم يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة.
والذي تقتضيه القواعد مع الاغماض عن الروايات هو الوجه
الخامس، ولنبدأ بذكر ما اختاره المصنف، وذكر ما يرد عليه من
الاشكال، وسيظهر من ذلك وجه القول المختار، فنقول:
ملخص كلامه أن مالية الأشياء عند العرف والشرع إنما هي باعتبار

1 - السرائر 2: 222.
2 - الخلاف 3: 187، المسألة: 312.
3 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 7.
184

منافعها المحللة الظاهرة المقصودة منها، لا باعتبار مطلق الفوائد
ولو كانت غير ملحوظة في ماليتها أو كانت نادرة الحصول، ولا باعتبار
المنافع الملحوظة إذا كانت محرمة.
وعليه فإذا فرض أن الشئ لم تكن له فائدة محللة ملحوظة في ماليته
فلا يجوز بيعه، لا مطلقا لانصراف الاطلاق إلى كون الثمن بإزاء المنافع
المقصودة منه والمفروض حرمتها فيكون أكلا للمال بالباطل، ولا مع
قصد الفائدة المحللة النادرة، فإن قصدها لا يوجب المالية مع حرمة
منفعته الظاهرة.
نعم لو دل نص خارجي على جواز بيعه كما فيما نحن فيه لوجب حمله
على ما إذا قصد المتبايعان المنفعة النادرة، فإنها وإن لم توجب المالية
بحسب نفسها ولكن توجبها بحكم الشارع فلا يكون أكلا للمال بالباطل
كما أن حكمه قد يوجب سلب المالية في بعض الأحيان، كما في الخمر
والخنزير فيكون أكل المال في مقابلهما أكلا له بالباطل، وهكذا
لو لم تقصد المنفعة النادرة في الصورة المتقدمة، فإن المال في هذه
الصورة يقع في مقابل المنفعة الظاهرة المحرمة.
وفيه: أن جميع الأدهان ولو كانت من العطور مشتركة في أن الاطلاء
والاستصباح بها أو جعلها صابونا من منافعها المحللة الظاهرة، وأنها
دخيلة في مالية الدهن، غاية الأمر أن تفوق بعض منافعها كالأكل فيما
قصد منه أكله والشم فيما قصد منه شمه أوجب لها زيادة في المالية،
وأوجب الحاق المنافع الأخر المغفول عنها بالمنافع النادرة، وإن كانت
في نفسها من المنافع الظاهرة، لأن اختلاف المرتبة في المنفعة بمجرده
لا يجعل المرتبة النازلة من المنافع نادرة في حد ذاتها، وإن خفيت في نظر
أهل العرف.
185

وعليه فالمرتفع من منافع الدهن إذا تنجس إنما هو خصوص إباحة
أكله وأما ما سواها من المنافع فهو باق على حاله.
وعلى الجملة انتفاء بعض المنافع الظاهرة المعروفة عن الأشياء
كذهاب رائحة الأدهان العطرية وعروض حرمة الأكل لما قصد منه أكله
من الأدهان لا يوجب انتفاء ماليتها بالكلية، بل هي موجودة فيها باعتبار
منافعها الأخر الظاهرة وإن كانت غير معروفة، ومن هنا يتوجه الحكم
بالضمان إذا غصبها غاصب أو أتلفها متلف للسيرة القطعية العقلائية
ولدليل اليد.
وإذن فلا وجه لجعل الاستصباح من المنافع النادرة للدهن بل هو
كغيره من المنافع الظاهرة، فإن اعتبر قصدها في صحة البيع اعتبر مطلقا
وإن لم يعتبر ذلك لم يعتبر مطلقا.
وأما المنافع النادرة للشئ فإنها لا توجب ماليته، فكيف يقال باعتبار
قصدها في صحة بيعه ولا نظن أن أحدا يلتزم بمالية الكوز المصنوع من
الطين المتنجس بلحاظ الانتفاع بخزفه في البناء، على أنه لا دليل على
اعتبار أصل القصد وجودا وعدما في صحة البيع.
قوله: نعم يشترط عدم اشتراط المنفعة المحرمة.
أقول: أشار به إلى الوجه الثالث، ويرد عليه: أن مالية الأشياء قائمة
بها بما لها من المنافع حسب رغبات العقلاء، إذ الرغبة فيها لا تكون إلا
لأجل منافعها، فالمنافع المترتبة عليها من قبيل الجهات التعليلية،
بمعنى أن رغبة العقلاء فيها ليس إلا لأجل منافعها الموجودة فيها،
وحينئذ فبذل المال إنما هو بإزاء نفس العين فقط، وعلة ذلك البذل هي
المنافع.
وعليه فلو قصد البايع المنفعة المحرمة لم يلزم منه بطلان البيع فقد
186

عرفت أن مالية الأشياء قائمة بذواتها وأن المنافع المترتبة عليها من قبيل
العلل والدواعي، فحرمة بعض المنافع لا توجب حرمة المعاملة على
الأشياء إذا كانت حلالا بلحاظ المنافع الأخر، ومثال ذلك صحة بيع
العنب ممن يجعله خمرا، وسيأتي البحث فيه.
وبعبارة واضحة الثمن أنما يقع بإزاء العين دون المنافع، غاية الأمر أن
ترتب المنفعة عليها غاية للشراء وداع إليه، فحرمة المنفعة المشروطة
عليه لا توجب بطلان البيع ما لم يكن الثمن بإزائها.
ومما يدلنا على ذلك أنه إذا استوفى المشتري منافع المال الأخرى
غير هذه التي اشترطت عليه في البيع أو التي انصرف إليها الاطلاق
لم يبطل البيع، ولا يكون هذا التصرف منه بغير استحقاق.
ومما ذكرناه تجلى أن أكل الثمن في مقابله ليس أكلا للمال بالباطل كما
في المتن، فإنه مضافا إلى ما تقدم من كون الآية أجنبية عن شرائط
العوضين، وإنما هي ناظرة إلى حصر المعاملات الصحيحة بالتجارة عن
تراض وناهية عن الأسباب الباطلة لها، أن اشتراط المنفعة المحرمة
لا يوجب كون الثمن بإزائها لكي يكون أكل المال في مقابلها أكلا له
بالباطل، إذ الشروط لا تقابل بالثمن، وسيأتي ذلك في مبحث الشروط إن
شاء الله.
قوله: وإلا فسد العقد بفساد الشرط.
أقول: يرد عليه أن العقد لا يفسد باشتراط الشرط الفاسد فيه، وقد
اختاره المصنف في باب الشروط، والوجه فيه أن الالتزام الشرطي أمر
آخر وراء الالتزام العقدي فلا يستلزم فساده فساد العقد، وعليه فلا وجه
للالتزام ببطلان العقد في المقام باشتراط المنفعة المحرمة فيه، لأنه من
صغريات الكبرى المذكورة.
187

قوله: بل يمكن القول بالبطلان بمجرد القصد وإن لم يشترط في متن العقد.
أقول: يرد عليه ما ذكرناه سابقا، من أن بذل المال إنما هو بإزاء نفس
العين، والمنافع المترتبة عليها من قبيل الجهات التعليلية، ثم لنسلم أنا
قد التزمنا ببطلان العقد باشتراط المنفعة المحرمة فلا مجال للالتزام
بالبطلان بمجرد القصد بعد ما لم يكن مذكورا في العقد، إذ لا عبرة
بالقصد الساذج إذا لم يكن شرطا في ضمن العقد.
وقد انجلى مما حققناه بطلان سائر الوجوه والأقوال بأجمعها، هذا
كله بحسب ما تقتضيه القواعد.
وأما بحسب الروايات، فقد يقال بلزوم قصد الاستصباح في بيع ذلك
الدهن، لقول الصادق (عليه السلام) في رواية ابن وهب: بعه وبينه لمن اشتراه
ليستصبح به، ولقوله (عليه السلام) في رواية إسماعيل بن عبد الخالق: أما
الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له فيبتاع للسراج، فإنهما ظاهرتان في تقييد
جواز البيع بقصد الاستصباح، بل بالغ بعضهم وقال: إن الرواية الثانية
صريحة في ذلك، بدعوى حصر جواز البيع فيها بصورة الشراء للاسراج
فقط.
وفيه أولا: أن الرواية الثانية ضعيفة السند كما تقدم.
وثانيا: أن الظهور البدوي في الروايتين وإن كان ذلك، ولكن الذي
يظهر بعد التأمل في مدلولهما هو أن الاستصباح والاسراج من فوائد
التبيين ومتفرعاته، وقد أخذ غاية لذلك لكي لا يقع المشتري في محذور
النجاسة باستعماله الدهن المتنجس فيما هو مشروط بالطهارة كالأكل
ونحوه، إذن فلا دلالة في الروايتين على أن اعتبار قصد الاستصباح من
شرائط البيع.
وثالثا: أن التوهم المذكور مبني على جعل الأمر بالبيان في الروايتين
188

للارشاد إلى الاستصباح بالدهن وليس كذلك، لأن الأوامر والنواهي إنما
تحمل على الإرشاد إذا اكتنفت بالقرائن الصارفة عن ظهور الأمر في
الوجوب وعن ظهور النهي في التحريم، سواء أكانت القرائن حالية أم
مقالية، وسواء أكانت عامة أم خاصة كالأوامر والنواهي المتعلقة بأجزاء
الصلاة وشرائطها، وكالأوامر والنواهي الواردة في أبواب المعاملات
كقوله تعالى: أوفوا بالعقود (1)، وكالنهي عن بيع ما ليس عندك، والنهي
عن بيع الغرر، وسيأتي البحث عنها في مواضعها.
وأما فيما نحن فيه، فلا قرينة توجب رفع اليد عن ظهور الأمر بالبيان
في الوجوب النفسي وحمله على الإرشاد.
قوله: كما يؤمي إلى ذلك ما ورد في تحريم شراء الجارية المغنية وبيعها.
أقول: وجه الايماء دلالتها على بطلان بيع الجارية المغنية إذا كان
لأجل الغناء، فتكون مؤيدة لما ذكره، من كون قصد المنفعة المحرمة
موجبا لبطلان البيع وإن لم يشترط في ضمن العقد، وسيأتي الكلام في
تلك الروايات (2).
وقوله: في رواية الأعرج المتقدمة.
أقول: ليست الرواية للأعرج وليس متنها هو الذي ذكره المصنف
(رحمه الله)، وقد عرفت ذلك في أول المسألة (3).

1 - المائدة: 1.
2 - عن الصدوق قال: سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت،
فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل، التي ليست
بغناء، فأما الغناء فمحظور (الفقيه 4: 42، عنه الوسائل 17: 122)، مرسلة.
3 - الرواية لإسماعيل بن عبد الخالق، ومتنها هكذا:
عن إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سأله سعيد الأعرج السمان وأنا
حاضر عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به، قال: أما الزيت
فلا تبعه إلا لمن تبين له فيبتاع للسراج - الخبر (قرب الإسناد: 60، عنه الوسائل 17: 98)،
ضعيفة لمحمد بن خالد.
189

وجوب الاعلام بنجاسة الدهن عند البيع:
قوله: الثاني: أن ظاهر بعض الأخبار وجوب الاعلام.
أقول: قد وقع الخلاف بين الفقهاء في وجوب اعلام المشتري بنجاسة
الدهن وعدم وجوبه، وعلى الأول فهل يجب مطلقا أو فيما إذا كان
المشتري بصدد الاستعمال للدهن فيما هو مشروط بالطهارة، وعلى
التقديرين فهل الوجوب المذكور نفسي أم شرطي، بمعنى اعتبار
اشتراطه في صحة البيع وجوه.
المصرح به في كلامهم هو الوجوب مطلقا، وقد تقدم في عنوان
المسألة نقل صاحب الحاشية على سنن البيهقي عن بعض العامة دعوى
الاجماع على ذلك، واستشهد على ذلك أيضا بما نقله من الرواية (1).
ثم لا يخفى أن موضوع البحث في الاشكال السابق يرجع إلى اشتراط
البيع بالاستصباح أو بقصده، وأما هنا فموضوع البحث متمحض في بيان
وجوب الاعلام وعدم وجوبه مطلقا أو في الجملة نفسيا أو شرطيا.
إذن فالنسبة بينهما هي العموم من وجه، لأنه قد يكون البيع
للاستصباح مع جهل المشتري بالنجاسة وقد يبيعه لغرض آخر غير
الاستصباح مع الاعلام بها، وقد يجتمعان بأن يبيعه للاستصباح مع
الاعلام بها، وعليه فدعوى اتحاد الشرطين مجازفة.

1 - عن أبي عمران قال: سألت القاسم وسالما عن الزيت تموت فيه الفأرة أفنبيعه؟ قالا:
نعم، ثم كلوا ثمنه وبينوا لمن يشتريه (هامش سنن البيهقي).
190

قوله: والذي ينبغي أن يقال إنه لا اشكال في وجوب الاعلام.
أقول: ظاهر كلامه أنا إذا اعتبرنا الشرط السابق في بيع الدهن المتنجس
فلا مناص لنا عن القول بوجوب الاعلام بنجاسته لتوقف قصد
الاستصباح أو اشتراطه على العلم بها وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر.
وفيه: أن كلا من الأمرين مستقل بنفسه لا يرتبط بالآخر، نعم قد
يجتمعان لما عرفته من النسبة المذكورة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه ربما يقال بأن الاعلام بنجاسة الدهن واجب
شرطي للبيع، لقوله (عليه السلام) في رواية أبي بصير: وأعلمهم إذا بعته،
وفيه: أن ظهور الرواية في ذلك وإن كان لا ينكر ولكن يجب رفع اليد عنه
لقوله (عليه السلام) في رواية إسماعيل: أما الزيت فلا تبعه إلا لمن تبين له،
وقوله (عليه السلام) في رواية ابن وهب: بعه وبينه لمن اشتراه ليستصبح به،
إذ الأمر بالبيان فيهما ظاهر في الوجوب النفسي، ولا يجوز المصير إلى
إرادة الوجوب الشرطي منه إلا بالقرينة، وهي هنا منتفية، وهكذا الحال
في مطلق الأوامر.
على أنا وإن قلنا بظهور الأمر بالبيان في الوجوب الشرطي ابتداء، فإن
رواية ابن وهب ظاهرة في الوجوب النفسي لوجهين:
1 - أن الظاهر من قوله (عليه السلام) فيها: بعه وبينه لمن اشتراه، أن الاعلام
بالنجاسة إنما هو بعد وقوع البيع وتحققه، كما يقتضيه التعبير بالماضي
بقوله (عليه السلام): لمن اشتراه، ومن الواضح جدا أن البيان بعد البيع لا يكون
من شرائطه إلا بنحو الشرط المتأخر، وهو في نفسه وإن كان جائزا كما
حقق في علم الأصول ولكن لم يقل به أحد في المقام، وعليه فلا محيص
عن إرادة الوجوب النفسي من الأمر بالبيان في الرواية، إذ ليس فيها
احتمال ثالث.
191

2 - أن الاستصباح قد جعل فيها غاية للبيان وفائدة له، وليس هذا إلا
لبيان منفعة ذلك الدهن ومورد صرفه لئلا يستعمل فيما هو مشروط
بالطهارة، وإلا فلا ملازمة بينهما بوجه من الوجوه الشرعية والعقلية
والعادية، وهذا المعنى كما ترى لا يناسب إلا الوجوب النفسي،
ويختص وجوب الاعلام بصورة التسليم فلا يجب مع عدمه أو مع العلم
بأن المشتري لا ينتفع به في غير الاستصباح ونحوه مما هو غير مشروط
بالطهارة.
فتحصل أن بيع الدهن المتنجس مشروط بالاعلام فيكون من صغريات
ما ورد في الحديث: أن شرط الله قبل شرطكم (1)، فلا يجوز البيع بدون
الاعلام.
حرمة تغرير الجاهل والقائه في الحرام الواقعي:
قوله: ويشير إلى هذه القاعدة كثير من الأخبار.
أقول: لما كان بيع الدهن المتنجس من المسلم قد يوجب القاءا له في
الحرام الواقعي حكم بحرمته في الشريعة المقدسة، فإنه يستفاد من مذاق
الشارع حرمة القاء الغير في الحرام الواقعي.
ويدل على صدق هذه الكبرى الكلية، مضافا إلى ما ذكرناه من وجوب
الاعلام ما ورد في الأخبار الكثيرة في مواضع شتى الدالة على حرمة
تغرير الجاهل بالحكم أو الموضوع في المحرمات:

1 - محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى علي (عليه السلام) في رجل تزوج امرأة
وشرط لها إن هو تزوج عليها امرأة أو هجرها أو اتخذ عليها سرية فهي طالق، فقضى في ذلك أن
شرط الله قبل شرطكم، فإن شاء وفى لها بالشرط وإن شاء أمسكها، واتخذ عليها ونكح عليها
(التهذيب 8: 51)، موثقة لعلي بن الحسن الفضال.
192

منها: ما دل (1) على حرمة الافتاء بغير علم ولحوق وزر العامل به
للمفتي، فإن ثبوت ذلك عليه واستحقاق العقوبة الإلهية والمهلكة الأبدية
إنما هو لوجهين:
أحدهما: افتراؤه على الله، فهو بالضرورة من المحرمات الذاتية
والمبغوضات الإلهية، وقد توافق العقل والنقل على حرمته.
وثانيهما: التغرير والتسبيب والقاء المسلم في الحرام الواقعي، وهو
أيضا حرام في الشريعة المقدسة.
ومنها: ما دل (2) على ثبوت أوزار المأمومين وإثمهم على الإمام في

1 - أبو عبيدة الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه (الكافي 1: 42، التهذيب 6: 223)،
صحيحة.
عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من قال علي ما لم أقل فليتبوأ بيتا في جهنم، ومن
أفتى بغير علم كان إثمه على من أفتاه (سنن البيهقي 10: 116).
أقول: قد تواترت الروايات من الفريقين على ذلك، ولكن خالفها أهل السنة في أصولهم
وفروعهم.
2 - كتاب الغارات بإسناده عن كتاب علي (عليه السلام): كتب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى محمد بن
أبي بكر: أنظر يا محمد صلاتك تصليها لوقتها، فإنه ليس من أمام يصلي بقوم فيكون في صلاته
نقص إلا كانت عليه ولا ينقص ذلك من صلاتهم.
قال المجلسي (رحمه الله): في رواية ابن أبي الحديد: وانظر يا محمد صلاتك كيف تصليها فإنما
أنت أمام ينبغي لك أن تتمها، وأن تخففها، وأن تصليها لوقتها، فإنه ليس من أمام يصلي بقوم
فيكون في صلاته وصلاتهم نقص إلا كان إثم ذلك عليه ولا ينقص ذلك من صلاتهم شيئا.
وزاد في تحف العقول هكذا: ثم انظر صلاتك كيف هي، فإنك إمام وليس من إمام يصلي
بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلا كان عليه أوزارهم، ولا ينقص من صلاتهم شئ، ولا يتمها
إلا كان له مثل أجورهم، ولا ينقص من أجورهم شئ (الغارات 1: 233، تحف العقول: 179،
الأمالي للشيخ المفيد: 260، الأمالي للشيخ الطوسي 1: 24، شرح النهج لابن أبي الحديد
15: 165)، مجهولة لإبراهيم بن حسن وعباية وغيرهما.
ويظهر ذلك من جملة من روايات العامة:
منها ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أم الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم، ومن
نقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم (سنن البيهقي 3: 127).
193

تقصير نشأ من تقصير الإمام، فيدل على حرمة تغرير الجاهل بالحكم
والقائه في الحرام الواقعي.
ومنها: الروايات (1) المتضمنة لكراهة اطعام الأطعمة والأشربة المحرمة
للبهيمة، فقد استشعر منها المصنف حرمة ذلك بالنسبة إلى المكلف
فتكون مؤيدة للمدعي.
وفيه: أنا إذا قلنا بالتعدي عن مورد الروايات لثبتت الكراهة أو الكراهة
المغلظة في ذلك بالنسبة إلى المكلف بالأولوية القطعية، وأما الحرمة
فلا.
ومنها: ما دل (2) على ضمان الإمام صلاة المأمومين إذا صلى بهم جنبا
أو على غير طهر، ومعنى الضمان هنا هو الحكم بوجوب الإعادة على

1 - عن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كره أن تسقي الدواب
الخمر (الكافي 6: 430، التهذيب 9: 114، عنهما الوسائل 25: 308)، موثقة لغياث بن إبراهيم.
أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن البهيمة البقرة وغيرها تسقي أو تطعم ما
لا يحل للمسلم أكله أو شربه أيكره ذلك، قال: نعم يكره ذلك (التهذيب 9: 114، عنه الوسائل
25: 308)، ضعيفة للحسن بن علي بن أبي حمزة.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه نهى أن تسقي الأطفال والبهائم، وقال (صلى الله عليه وآله): الإثم على من سقاها
(دعائم الاسلام 2: 133، عنه المستدرك 17: 51)، ضعيفة.
2 - معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيضمن الإمام صلاة الفريضة فإن
هؤلاء يزعمون أنه يضمن، فقال: لا يضمن أي شئ ضمن إلا أن يصلي بهم جنبا أو على غير
طهر (التهذيب 3: 277، عنه الوسائل 8: 373)، صحيحة.
194

الإمام دون المأمومين وتحمله كل وزر يحدث على المأمومين من جهة
النقص إذا كان عالما.
ومنها: ما دل (1) على حرمة سقي الخمر للصبي والكفار، وأن على
الساقي كوزر من شربها، وإذا كان التسبيب والتغرير بالإضافة إلى الصبي
والكفار حراما فهو أولى بالحرمة في غير الصبي والكفار.
ومنها: الأخبار الآمرة بإهراق المايعات المتنجسة، وسيأتي التعرض
لها في حكم الانتفاع بالمتنجس.
ومنها: الأخبار الدالة على حرمة ارتكاب المحرمات، فإنه لا فرق في
ايجاد المحرم بين الايجاد بالمباشرة أو بالتسبيب.
ويؤيد ما ذكرناه ما ورد في جواز بيع العجين المتنجس (2) من مستحل

1 - في عقاب الأعمال بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديث: ومن سقاها - أي الخمر -
يهوديا أو نصرانيا أو صابيا، أو من كان من الناس، فعليه كوزر من شربها (عقاب الأعمال: 336،
عنه الوسائل 25: 309)، مجهولة لجهالة كثير من رواتها كموسى بن عمران ويزيد بن عمر و
غيرهما.
وفي الخصال بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: من سقى صبيا مسكرا وهو
لا يعقل حبسه الله عز وجل في طينة خبال (الخصال 2: 635، عنه الوسائل 25: 309)، ضعيفة
لقاسم بن يحيى.
ومثله في سنن البيهقي، وفيه: قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله، قال: صديد أهل النار
(سنن البيهقي 8: 288).
جامع الأخبار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في حديث في الخمر: ألا ومن سقاها غيره
يهوديا أو نصرانيا أو امرأة أو صبيا أو من كان من الناس، فعليه كوزر من شربها (جامع الأخبار
: 177، عنه المستدرك 17: 51).
2 - ابن محبوب عن محمد بن الحسين، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا قال: وما
أحسبه إلا حفص بن البختري، قال: قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) في العجين يعجن من الماء النجس
كيف يصنع به؟ قال: يباع ممن يستحل الميتة (التهذيب 1: 414، الإستبصار 1: 29، عنهما
الوسائل 17: 100)، صحيحة لو كان المراد ببعض أصحابنا هو حفص بن البختري كما هو
الظاهر، وإلا فهي مرسلة.
195

الميتة دون غيره، وما ورد من الأخبار الدالة على حرمة بيع المذكى
المختلط بالميتة وأنه يرمى بهما إلى الكلاب، وقد تقدم ذكرها في
مبحث بيع الميتة، وما يدل على جواز اطعام المرق المتنجس لأهل
الذمة أو الكلاب، وقد تقدم ذلك أيضا في المبحث المذكور.
قوله: ويؤيده أن أكل الحرام وشربه من القبيح ولو في حق الجاهل.
أقول: توضيح كلامه:
إن الأحكام الواقعية كما حقق في محله ليست مقيدة بعلم المكلفين
وإلا لزم التصويب المستحيل أو الباطل، فالأحكام الواقعية وملاكاتها
شاملة لحالتي العلم والجهل، ثم إن غرض الشارع من بعث المكلفين
نحوها وتكليفهم بها ليس إلا امتثالها بالاتيان بالواجبات وترك
المحرمات، حتى لا يوجد ما هو مبغوض للشارع ولا يترك ما هو
مطلوب.
ونتيجة المقدمتين أن المكلف الملتفت كما يحرم عليه مخالفة
التكاليف الالزامية من ارتكاب المحرمات وترك الواجبات فكذلك يحرم
عليه التسبيب إلى مخالفتها بالقاء الجاهل في الحرام الواقعي، لأن مناط
الحرمة في ذلك أنما هو تفويت غرض المولى بايجاد المفسدة وترك
المصلحة الملزمتين، وهذا المناط موجود في كلتا الصورتين فالأدلة
الأولية كما تقتضي حرمة مخالفة التكاليف الالزامية بالمباشرة فكذلك
تقتضي حرمة مخالفتها بالتسبيب.
وبعبارة أخرى قد ذكرنا في علم الأصول في الكلام على حديث الرفع
196

أن المرفوع عن المكلفين عند جهلهم بالتكاليف الواقعية ليس إلا
خصوص الالزام الظاهري والعقاب الذي تستلزمه مخالفة الواقع، وأما
الأحكام الواقعية وملاكاتها فهي باقية على حالها، وعليه فتغرير الجاهل
بالأحكام الواقعية وإن لم يوجب مخالفة المغرور التكاليف الالزامية إلا أنه
يوجب تفويت غرض الشارع فهو حرام.
ومثال ذلك في العرف أن المولى إذا نهى عبيده عن الدخول عليه في
وقت خاص عينه لفراغه، فإن نهيه هذا يشمل المباشرة والتسبيب،
ولذلك لو سبب أحد العبيد لدخول أحد على مولاه في ذلك الوقت لصح
عقابه كما يصح عقابه لو دخل هو بنفسه، لاتحاد الملاك في كلتا
الصورتين بحكم الضرورة والبديهة.
ومما ذكرناه ظهر لك أن في تعبير المصنف تسامحا واضحا، فإنه أتى
بلفظ القبيح بدل لفظ الحرمة، ومن الضروري أن القبح يرتفع عند الجهل
بالتكليف ولا يلزمه ارتفاع الحرمة، اللهم إلا إذا أراد بالقبيح الحرمة
ولكنه لا يرفع التسامح.
ثم إن الوجوه المتقدمة إنما تقتضي حرمة تغرير الجاهل بالأحكام
الواقعية فيما إذا كان المغرور في معرض الارتكاب للحرام، وإلا
فلا موضوع للاغراء، ويترتب على ذلك تقييد وجوب الاعلام في بيع
الدهن المتنجس بذلك أيضا، فإنه إنما يجب فيما إذا كان المشتري في
معرض الانتفاع به فيما هو مشروط بالطهارة وإلا فلا دليل على وجوبه.
قوله: بل قد يقال بوجوب الاعلام وإن لم يكن منه تسبيب.
أقول: قد عرفت بما لا مزيد عليه حرمة القاء الجاهل في الحرام
الواقعي، وأما لو ارتكبه الجاهل بنفسه من دون تغرير ولا تسبيب من
الغير فهل يجب على العالم بالواقع اعلامه بالحال فيه وجهان، فعن
197

العلامة (رحمه الله) في أجوبة المسائل المهنائية التصريح بوجوب الاعلام،
حيث سأله السيد المهنا عمن رأى في ثوب المصلي نجاسة، فأجاب بأنه
يجب الاعلام لوجوب النهي عن المنكر (1).
ولكن يرد عليه: أن أدلة وجوب النهي عن المنكر مختصة بما إذا كان
صدور الفعل من الفاعل منكرا، وفي المقام ليس كذلك، لأنا قد فرضنا
جهل الفاعل بالواقع.
وقد يقال بعدم الوجوب في غير موارد التسبيب لرواية ابن بكير (2)،
فإنها صريحة في عدم وجوب الاعلام بنجاسة ثوب المصلي.
وفيه: أن الرواية أجنبية عما نحن فيه، لأن عدم وجوب الاعلام
بالنجاسة إنما هو لأن الطهارة الخبيثة ليست من الشرائط الواقعية للصلاة
وإنما هي من الشرائط العلمية، لأن تنبيه الجاهل واعلامه ليس بواجب
على العالم، ويرشدك إلى ذلك أن الرواية مختصة بصورة الجهل
ولا تشمل صورة النسيان.
نعم يمكن الاستدلال عليه على وجه الاطلاق بخبرين آخرين:
1 - خبر محمد بن مسلم، فإن الإمام (عليه السلام) نهى فيه عن الاعلام بالدم في
ثوب المصلي وقال (عليه السلام): لا يؤذنه حتى ينصرف من صلاته (3).

1 - أجوبة المسائل المهنائية: 48، المسألة: 53.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه، فقال:
لا يعلمه، قلت: فإن أعلمه، قال: يعيد (قرب الإسناد: 79، عنه الوسائل 3: 488)، موثقة لعبد
الله بن بكير الفطحي.
ولا يخفى أن ذيل الرواية محمول على الاعلام قبل الصلاة، جمعا بينها وبين ما دل على
عدم وجوب الإعادة فيما إذا كان بعد الصلاة.
3 - عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألت عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي، قال:
لا يؤذنه حتى ينصرف (الكافي 3: 406، التهذيب 2: 361، عنهما الوسائل 3: 474 - 487)،
صحيحة.
198

ولا يرد عليه الاشكال المتقدم في رواية ابن بكير، فقد عرفت أن مورد
السؤال فيها مختص بصورة الجهل بالواقع فقط، وهذا بخلاف مورد
السؤال في هذه الرواية، فإنه مطلق يشمل صورتي الجهل والنسيان،
ومن الواضح أن الطهارة الخبثية في صورة النسيان من الشرائط الواقعية
للصلاة.
2 - خبر عبد الله بن سنان (1)، فإنه صريح في عدم وجوب الاعلام في
صورة الجهل في غير الصلاة أيضا، وفي هذا الخبر كفاية، وإن لم يسلم
الخبر السابق من الاشكال المذكور.
ومع الاغضاء عما ذكرناه فالمرجع في المقام هو أصالة البراءة، إذ ليس
هنا ما يدل على وجوب الاعلام لنخرج به عن حكم الأصل.
ثم إن هذا كله إذا لم يكن ما يرتكبه الجاهل من الأمور التي اهتم الشارع
بحفظها من كل أحد، كالدماء والفروج والأحكام الكلية الإلهية، كما إذا
اعتقد الجاهل أن زيدا مهدور الدم شرعا فتصدى لقتله وهو محترم الدم
في الواقع، أو اعتقد أن امرأة يجوز له نكاحها فأراد التزويج بها وكانت في
الواقع محرمة عليه، أو غير ذلك من الموارد، فإنه يجب على الملتفت
اعلام الجاهل في أمثال ذلك لكي لا يقع في المحذور، بل تجب مدافعته
لو شرع في العمل وإن كان فعله من غير شعور والتفات، وأما في غير
تلك الموارد فلا دليل عليه بل ربما لا يحسن لكونه إيذاء للمؤمن.

1 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اغتسل أبي من الجنابة، فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك
لم يصبها الماء، فقال له: ما كان عليك لو سكت، ثم مسح اللمعة بيده (الكافي 3: 45، عنه
الوسائل 3: 487)، صحيحة.
199

قوله: والحاصل أن هنا أمورا أربعة.
أقول: ملخص كلامه: أن القاء الغير في الحرام الواقعي على أربعة
أقسام:
1 - أن يكون فعل أحد الشخصين علة تامة لصدور الحرام من الآخر،
كاكراه الغير على الحرام، وهذا مما لا اشكال في حرمته على المكره -
بالكسر - وثبوت وزر الحرام عليه.
2 - أن يكون فعل أحدهما سببا لصدور الحرام من الآخر، كاطعام
الشئ المحرم للجاهل بحرمته، وهذا أيضا مما لا اشكال في حرمته،
فإن استناد الفعل إلى السبب أولى من استناده إلى المباشر، فتكون نسبة
الحرام إلى السبب أولى، كما يستقر الضمان أيضا على السبب دون
المباشر في موارد الاتلاف.
ومن هذا القبيل ما نحن فيه أعني بيع الدهن المتنجس ممن لا يعلم
بنجاسته من دون بيان.
3 - أن يكون فعل أحدهما شرطا لصدور الحرام من الآخر، وهذا على
وجهين: لأن عمل الشخص الأول تارة يكون من قبيل ايجاد الداعي
للثاني على المعصية، سواء كان بإثارة الرغبة إلى الحرام في نفس الفاعل
بالتحريض والتوصيف ونحوهما، أو بايجاد العناد في قلبه كسب آلهة
الكفار الموجب لالقائهم في سب الحق عنادا، وأخرى يكون من قبيل
ايجاد مقدمة من مقدمات الحرام غير ايجاد الداعي، كبيع العنب ممن
يعلم أنه يجعله خمرا.
4 - أن يكون من قبيل رفع المانع، وهو أيضا على وجهين: لأن حرمة
العمل الصادر من الفاعل أما أن تكون فعلية على أي تقدير، كسكوت
الشخص عن المنع من المنكر، ولا اشكال في حرمة السكوت إذا
200

اجتمعت شرائط النهي عن المنكر، وأما أن تكون غير فعلية على تقدير
وجود المانع، كسكوت الملتفت إلى الحرام عن منع الجاهل الذي يريد
أن يرتكبه، فإن الجاهل ما لم يلتفت إلى الحرام لا يكون ارتكابه محرما
ليجتمع سكوت الملتفت عن المنع مع الحرمة الفعلية، كما فيما نحن فيه،
وهذا الأخير إن كان من الأمور المهمة في نظر الشارع حرم السكوت
ووجب رفع الحرام وإلا ففيه اشكال.
أقول: هذا التقسيم الذي أفاده المصنف (رحمه الله) لا يرجع إلى محصل،
مضافا إلى جريه في اطلاق العلة والمعلول على غير ما هو المصطلح
فيهما.
والمناسب في المقام تقسيم القاء الغير في الحرام الواقعي على نحو
يمكن تطبيقه على القواعد واستفادة حكمه من الروايات، فنقول:
إن الكلام قد يقع في بيان الأحكام الواقعية، وقد يقع في إضافة فعل
أحد الشخصين إلى الشخص الآخر من حيث العلية أو السببية أو
الداعوية.
أما الأول، فقد يكون الكلام في الأحكام الكلية الإلهية، وقد يكون في
الأحكام الجزئية المترتبة على الموضوعات الشخصية.
أما الأحكام الكلية الإلهية فلا ريب في وجوب اعلام الجاهل بها
لوجوب تبليغ الأحكام الشرعية على الناس جيلا بعد جيل إلى يوم
القيامة، وقد دلت عليه آية النفر (1) والروايات الواردة في بذل العلم
وتعليمه وتعلمه (2).

1 - قوله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا
في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون - التوبة: 123.
2 - راجع الكافي 1: 32 - 37.
201

وأما الأحكام الجزئية المترتبة على الموضوعات الشخصية فإن
لم نقل بوجود الدليل على نفي وجوب الاعلام، كالرواية المتقدمة الدالة
على صحة الصلاة في الثوب النجس جهلا، وأنه لا يجب على المعير
اعلام المستعير بالنجاسة، فلا ريب في عدم الدليل على وجوبه، وعلى
هذا فلو رأى أحد نجاسة في طعام الغير فإنه لا يجب عليه اعلامه، كما أنه
لا يجب تنبيه المصلي إذا صلى بالطهارة الترابية مع الغفلة عن وجود الماء
عنده، إلا إذا كان ما ارتكبه الجاهل من الأمور المهمة فإنه يجب اعلام
الجاهل بها كما عرفت.
وأما الثاني - أعني إضافة فعل أحد الشخصين إلى الشخص الآخر -
فقد يكون فعل أحد الشخصين سببا لوقوع الآخر في الحرام، وأخرى
لا يكون كذلك.
أما الأول، فلا شبهة في حرمته، كاكراه الغير على الحرام، وقد جعله
المصنف من قبيل العلة والمعلول، والدليل على حرمته هي الأدلة
الأولية الدالة على حرمة المحرمات، فإن العرف لا يفرق في ايجاد
مبغوض المولى بين المباشرة والتسبيب.
وأما الثاني، فإن كان الفعل داعيا إلى ايجاد الحرام كان حراما، فإنه
نحو من ايقاع الغير في الحرام، ومثاله تقديم الطعام المتنجس أو النجس
أو المحرم من غير جهة النجاسة إلى الجاهل ليأكله، أو توصيف الخمر
بأوصاف مشوقة ليشربها، ومن هذا القبيل بيع الدهن المتنجس من دون
اعلام بالنجاسة وسب آلهة المشركين الموجب للجرأة على سب الإله
الحق، وسب آباء الناس الموجب لسب أبيه.
وقد جعل المصنف بعض هذه الأمثلة من قبيل السبب، وبعضها من
قبيل الشرط، وبعضها من قبيل الداعي، ولكنه لم يجر في جعله هذا
202

على المنهج الصحيح، وقد أشير إلى حرمة التسبيب إلى الحرام في بعض
الآيات (1) والروايات (2).
وإن لم يكن الفعل داعيا إلى الحرام، فأما أن يكون مقدمة له وأما أن
لا يكون كذلك.
أما الأول فكاعطاء العصا لمن أراد ضرب اليتيم، فإن اعطاءه وإن كان
مقدمة للحرام إلا أنه ليس بداع إليه، والحكم بحرمته يتوقف على أمرين:
الأول كونه إعانة على الإثم، والثاني ثبوت حرمة الإعانة على الإثم في
الشريعة المقدسة، وسيأتي الكلام على ذلك في مبحث بيع العنب ممن
يجعله خمرا.
وأما الثاني، فكمن ارتكب المحرمات وهو بمرأى من الناس، فإن
رؤيتهم له عند الارتكاب ليست مقدمة لفعل الحرام، نعم لا بأس بادخاله
تحت عنوان النهي عن المنكر فيجب النهي عنه إذا اجتمعت شرائطه.

1 - قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم -
الأنعام: 108.
وفي مجمع البيان طبع صيدا (2: 347): قال قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار
فنهاهم الله عن ذلك لئلا يسبوا الله، فإنهم قوم جهلة.
2 - ابن الحجاج البجلي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في رجلين يتسابان، فقال: البادي
منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم (الكافي 2: 368، عنه الوسائل
12: 297)، صحيحة.
وفي حسنة أخرى باختلاف في صدر السند، قال (عليه السلام): ما لم يتعد المظلوم (الكافي
2: 243، عنه الوسائل 16: 29).
أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رجلا من بني تميم أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: أوصني،
فكان مما أوصاه أن قال: لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة لهم (الكافي 2: 268، عنه الوسائل
12: 297)، صحيحة.
203

لا يخفى أن في كلام المصنف تهافتا واضحا، حيث جعل ما نحن فيه
تارة من القسم الثاني وأخرى من القسم الرابع، ويمكن توجيهه بوجهين:
1 - أن يراد بالفرض الذي أدخله في القسم الثاني هو فرض الدهن
المتنجس، فإن اعطائه للغير لا يخلو عن التسبيب إلى الحرام الذي سيق
هذا القسم لبيان حكمه.
وأن يراد بالفرض الذي جعله من القسم الرابع هو فرض الثوب
المتنجس كما تقدم في مسألة السيد المهنأ عن العلامة عمن رأى في
ثوب المصلي نجاسة، فإن القسم الرابع لم يفرض فيه كون فعل شخص
سببا لصدور الحرام من الشخص الآخر، بل المفروض فيه كونه من قبيل
عدم المانع كسكوت العالم عن اعلام الجاهل، ولا شبهة في مناسبة
الثوب المتنجس لذلك.
2 - أن يراد من كلامه الدهن المتنجس في كلا الموردين، مع الالتزام
فيهما باختلاف الجهتين، بأن يكون الملحوظ في القسم الثاني كونه
تسبيبا لايقاع الجاهل في الحرام والملحوظ في الحاقه بالقسم الرابع هو
الحرمة النفسية مع قطع النظر عن التسبيب.
قوله: ثم إن بعضهم (1) استدل على وجوب الاعلام بأن النجاسة عيب خفي فيجب
إظهارها.
أقول: أشكل عليه المصنف (رحمه الله) بوجهين:
1 - أن وجوب الاعلام على القول به ليس مختصا بالمعاوضات بل
يشمل مثل الإباحة والهبة من المجانيات.
2 - أن كون النجاسة عيبا ليس إلا لكونه منكرا واقعيا وقبيحا، فإن

1 - هو المحقق الأردبيلي (رحمه الله) في مجمع الفائدة 8: 36.
204

ثبت ذلك حرم الالقاء فيه مع قطع النظر عن مسألة وجوب إظهار العيب
وإلا لم يكن عيبا، فتأمل.
أقول: إن ما أفاده أولا وإن كان وجيها إلا أن الثاني غير وجيه، فإن
النجاسة لا ينكر كونها عيبا في الأعيان النجسة والمتنجسة، سواء كانت
من القبائح الواقعية أم لم تكن، بل ربما يوجب جهل المشتري بها تضرره،
كما إذا اشترى الدهن المتنجس مع جهله بنجاسته ومزجه بدهنه الطاهر
ثم اطلع عليها، ولعله لذلك أمر بالتأمل.
والذي يسهل الخطب أنه لا دليل على وجوب إظهار العيب الخفي في
المعاملات، وإنما الحرام هو غش المؤمن فيها، كما سيأتي في البحث
عن حرمة الغش، وعليه فالعيب الخفي إن استلزم الغش في المعاملات
وجب رفع الغش وإلا فلا دليل على وجوبه، ومن المعلوم أن رفع الغش
هنا لا ينحصر باظهار العيب الخفي بل يحصل بالتبري عن العيوب أو
باشتراط صرفه فيما هو مشروط بالطهارة.
ومن هنا يعلم أنه لا وجه لتوهم أن النجاسة عيب خفي وجب إظهارها
حتى لا يكون غشا للمسلم.
ثم إن وجوب الاعلام بالنجاسة فيما إذا كان المشتري مسلما مباليا في
أمر الطهارة والنجاسة، وأما إذا كان كافرا أو مسلما غير مبال في الدين
فلا يجب الاعلام لكونه لغوا، وإن كان الجميع مكلفين بالفروع كتكليفهم
بالأصول.
جواز استصباح الدهن المتنجس تحت الظلال:
قوله: الثالث: المشهور بين الأصحاب وجوب كون الاستصباح تحت السماء.
أقول: المشهور بين الأصحاب هو جواز الاستضاءة بالدهن المتنجس
205

على وجه الاطلاق، وذهب بعضهم إلى جواز الاسراج به تحت السماء،
وذهب المشهور من العامة (1) إلى جواز الاستصباح به في غير المسجد.
ففي أطعمة السرائر:
وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطه (2) في كتاب الأطعمة: روى
أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء دون السقف، وهذا يدل على أن
دخانه نجس، غير أن عندي أن هذا مكروه - إلى أن قال: - وأما ما يقطع
بنجاسته فقال قوم: دخانه نجس، وهو الذي دل عليه الخبر الذي قدمناه
من رواية أصحابنا، وقال آخرون - وهو الأقوى -: أنه ليس بنجس.
وقال ابن إدريس بعده: ولا يجوز الاستصباح به تحت الظلال لأجل
التعبد، ثم قال: ولا يجوز الادهان به ولا استعماله في شئ من الأشياء
سوى الاستصباح به تحت السماء، ثم قال: ما ذهب أحد من أصحابنا إلى
أن الاستصباح به تحت الظلال مكروه بل محظور بغير خلاف بينهم،
وقول شيخنا أبي جعفر محجوج بقوله في جميع كتبه إلا ما ذكره هنا،
فالأخذ بقوله وقول أصحابنا أولى من الأخذ بقوله المتفرد من أقوال
أصحابنا (3).
أقول: إن الروايات وإن استفاضت من الفريقين على جواز إسراج
الدهن المتنجس إلا أنها خالية عن ذكر الاستصباح به تحت السماء فقط،
وستأتي الإشارة إلى هذه الروايات المستفيضة في البحث عن جواز
الانتفاع بالمتنجس.
نعم استدل على ذلك بوجوه:

1 - فقه المذاهب الأربعة 2: 231 - 232.
2 - المبسوط 6: 283.
3 - السرائر 3: 122.
206

1 - دعوى غير واحد من أعاظم الأصحاب الاجماع عليه، وفيه: أن
دعواه في المقام مجازفة، لمخالفة جملة من الأعاظم كالشيخ والعلامة
وغيرهما، على أن الاجماع التعبدي هنا ممنوع، لاحتمال استناد
المجمعين إلى الوجوه المذكورة في المسألة.
2 - الشهرة الفتوائية، وفيه: أنها وإن كانت مسلمة إلا أنها ليست
بحجة.
3 - مرسلة الشيخ المتقدمة المنجبر ضعفها بعمل المشهور، وهي
صريحة في كون الاسراج به تحت السماء.
وفيه: أن من المظنون أنها صدرت من سهو القلم، فإن أصحاب
الحديث لم ينقلوها في أصولهم حتى الشيخ بنفسه في تهذيبيه، وظاهر
قوله (رحمه الله): روى أصحابنا أنه يستصبح به تحت السماء، يقتضي كون
الرواية مشهورة في المقام، فلا وثوق بوجود الرواية المذكورة، نعم
لو كانت العبارة أنه: روي أنه يستصبح به تحت السماء، كانت حينئذ رواية
مرسلة.
وإذا سلمنا كون العبارة المذكورة رواية مرسلة فإن العمل بها لا يجوز
للارسال، وتوهم انجبارها بعمل المشهور بها ممنوع صغرى وكبرى
كما هو واضح، خصوصا مع مخالفة الشيخ (رحمه الله) فإنه حملها على الكراهة،
ومخالفة العلامة (رحمه الله) فإنه أعرض عنها وجعل العلة في تحريم الاسراج
به تحت الظلال هي حرمة تنجيس السقف.
قال في المختلف: نعم لو كان صعود بعض الأجزاء الدهنية بواسطة
الحرارة موجبا لتنجس السقف فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال وإلا
فيجوز مطلقا (1).

1 - المختلف: 686.
207

4 - ما نقلناه عن العلامة، من أن الاستصباح به تحت الظلال يوجب
تنجيس السقف لتصاعد بعض الأجزاء الدهنية قبل إحالة النار إياه إلى أن
تلاقى السقف فهو حرام، ولكن ليرد عليه:
أولا: أن دخان النجس كرماده ليس بنجس للاستحالة، ومجرد
احتمال صعود الأجزاء الدهنية إلى السقف قبل الاستحالة لا يمنع عن
الاسراج به تحت الظلال لكونه مشكوكا.
و ثانيا: أن الدليل أخص من المدعى، لأن الدخان قد لا يؤثر في
السقف إما لعلوه أو لقلة الزمان، أو لخروجه من الأطراف، أو لعدم وجود
دخان فيه.
وثالثا: إذا سلمنا جميع ذلك فلا دليل على حرمة تنجيس السقف،
نعم لا يجوز تنجيسه في المساجد والمشاهد.
وعليه فلا وجه للمنع عن الاستصباح به تحت السقف من جهة حرمة
تنجيسه.
قوله: لكن الأخبار المتقدمة على كثرتها.
أقول: محصل كلامه أن المطلقات حيث كانت متظافرة وواردة في
مقام البيان فهي آبية عن التقييد، ولو سلمنا جواز تقييدها إلا أنه ليس في
المقام ما يوجب التقييد عدا مرسلة الشيخ وهي غير صالحة لذلك، لأن
تقييد المطلقات بها يتوقف على ورودها للتعبد أو لحرمة تنجيس السقف
كما فهمها الشيخ، وكلا الوجهين بعيد، فلا بد من حمل المرسلة على
الارشاد إلى عدم تنجس السقف بالدخان.
وفيه: أن غاية ما يترتب على كون المطلقات متظافرة أن تكون مقطوعة
الصدور لا مقطوعة الدلالة، وإذن فلا مانع عن التقييد، إذ هي لا تزيد على
مطلقات الكتاب القابلة للتقييد حتى بالأخبار الآحاد.
208

وأوهن من ذلك دعوى إبائها عن التقييد من جهة ورودها في مقام
البيان، فإن ورودها في مقام البيان مقوم لحجيتها، ومن الواضح أن مرتبة
التقييد متأخرة عن مرتبة الحجية في المطلق، ونسبة حجيته إلى التقييد
كنسبة الموضوع إلى الحكم ولا يكون الموضوع مانعا عن ترتب الحكم
عليه.
وأما ما ذكره من أن المرسلة غير صالحة لتقييد المطلقات، ففيه أنه بناء
على جواز العمل بها وانجبار ضعفها بعمل المشهور لا مانع من حملها
على التعبد المحض فتصلح حينئذ لتقييد المطلقات، ومجرد الاستبعاد
لا يكون مانعا عن ذلك، وإنما الاشكال في أصل وجود المرسلة كما
تقدم.
وأما تقييد المطلقات بها من جهة أن المرسلة تدل على حرمة تنجيس
السقف فبعيد غايته.
قوله: لكن لو سلم الانجبار.
أقول: قد أشار به إلى أنها غير منجبرة بشئ كما أشرنا إليه، لأن
الشهرة إنما تجبر الخبر الضعيف إذا علم استنادها إليه.
ومن المحتمل أن تكون فتوى المشهور بعدم جواز الاسراج به تحت
السقف مستندة إلى ما ذهب إليه العلامة من حرمة تنجيس السقف لا إلى
المرسلة المذكورة.
قوله: ولو رجع إلى أصالة البراءة حينئذ لم يكن إلا بعيدا عن الاحتياط وجرأة على
مخالفة المشهور.
أقول: لا يكون البعد عن الاحتياط مانعا عن الرجوع إلى البراءة في
شئ من الموارد، وأما الجرأة على خلاف المشهور فلا محذور فيها لأن
الشهرة ليست بحجة.
209

جواز الانتفاع بالدهن المتنجس في غير الاستصباح:
قوله: هل يجوز الانتفاع بهذا الدهن في غير الاستصباح؟
أقول: حاصل كلامه أنه حيث إن جواز الانتفاع بالدهن المتنجس في
غير الاستصباح لم ترد فيه إلا رواية ضعيفة في جعله صابونا (1)، فلا بد من
الرجوع فيه إلى القواعد، ثم قرب الجواز، وعن الحنفية التصريح بذلك (2).
وقد يتوهم عدم جواز استعماله في غير الاستصباح مطلقا، استنادا
إلى رواية قرب الإسناد الدالة على عدم جواز التدهن به، ولكن الرواية
ضعيفة السند (3).
لا يقال: إن هذه الرواية لا يجوز العمل بها وإن كانت صحيحة، لأنها
غير معمول بها بين الأصحاب، لفتواهم بجواز الانتفاع بالدهن المتنجس
في غير الاستصباح أيضا.
فإنه يقال: قد ذكرنا في علم الأصول أن اعراض المشهور عن الرواية
الصحيحة لا يوجب الوهن فيها، وقد أشرنا إليه في الكلام على رواية
تحف العقول.
لا يقال: إن هذه الرواية مجملة لا تفي باثبات المقصود، فإنه يحتمل
أن يكون قوله (عليه السلام): لا تدهن به، من باب الافتعال بالتشديد، فيكون

1 - يأتي ذكره بعيد هذا.
2 - في فقه المذاهب الأربعة عن الحنفية: فيجوز أن يبيع دهنا متنجسا ليستعمله في الدبغ
ودهن عدد الآلات (الماكينات) ونحوها (فقه المذاهب الأربعة 2: 232).
3 - علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن حب دهن ماتت فيه
فأرة، قال: لا تدهن به ولا تبعه من مسلم (قرب الإسناد: 112، عنه الوسائل 17: 100)،
مجهولة لعبد الله بن الحسن.
210

دالا على عدم جواز تنجيس البدن، أو من باب الأفعال فلا يمكن الاستناد
إليها في عدم جواز الاستعمال مطلقا.
فإنه يقال: إن ظاهر الرواية هو النهي عن طلي البدن بالدهن المتنجس،
ومن الواضح أن الادهان من الأفعال بمعنى الخدعة، وأن الذي بمعنى
الطلي هو من باب الافتعال.
والذي ينبغي أن يقال: إن جواز الانتفاع بهذا الدهن في غير الموارد
المنصوصة وعدم جوازه مبني على تحقيق الأصل في الانتفاع
بالمتنجس، فهل الأصل يقتضي جواز ذلك أو حرمته حتى يخرج
الخارج بالدليل، فذهب جمع من الأصحاب إلى الثاني، وقال جمع من
المتأخرين بالأول، وهو الأقوى، وهو مقتضى أصالة البراءة الثابتة
بالأدلة المستفيضة.
ويدل هذا الأصل على إباحة ما لم يرد فيه نهي وحليته، ومن البين أن
الانتفاع بالمتنجس في غير ما هو مشروط بالطهارة من صغريات ذلك.
قوله: وقاعدة حل الانتفاع بما في الأرض.
أقول: لا وجه لهذه القاعدة إلا قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في
الأرض جميعا (1)، ولكن الآية ليست بدالة على جواز الانتفاع بجميع ما
في الأرض ليكون الانتفاع بالمتنجس من صغرياته، بل هي:
أما ناظرة إلى بيان أن الغاية القصوى من خلق الأجرام الأرضية وما فيها
ليس إلا خلق البشر وتربيته وتكريمه، وأما غير البشر فقد خلقه الله
تعالى تبعا لخلق الانسان ومقدمة له، ومن البديهي أن هذا المعنى

1 - البقرة: 19.
وفي مجمع البيان: المعنى أن الأرض وجميع ما فيها نعم من الله تعالى مخلوقة لكم، أما
دينية فتستدلون بها على معرفته، وأما دنياوية فتنتفون بها بضروب النفع عاجلا.
211

لا ينافي تحليل بعض المنافع عليه دون بعض.
وأما ناظرة إلى أن خلق تلك الأجرام وتكوينها على الهيئات الخاصة
والأشكال المختلفة والأنواع المتشتتة، من الجبال والأدوية والأشجار
والحيوانات على أنواعها، وأنحاء المخلوقات من النامي وغيره، لبيان
طرق الاستدلال على وجود الصانع وتوحيد ذاته وصفاته وفعاله،
وعلى إتقان فعله وعلو صنعه وكمال قدرته وسعة علمه.
إذن فتكون اللام للانتفاع، فإنه أي منفعة أعظم من تكميل البشر،
ولعل هذا هو المقصود من قوله (عليه السلام) في دعاء الصباح: يا من دل على
ذاته بذاته.
الأصل جواز الانتفاع بالمتنجس:
قوله: ولا حاكم عليها سوى ما يتخيل.
أقول: قد استدل على حرمة الانتفاع بمطلق المتنجس بجملة من
الآيات والروايات، أما الآيات:
فمنها: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر
والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه (1)، فإن
المتنجس رجس فيجب الاجتناب عنه.
وفيه: أن الرجس وإن أطلق على الأعيان النجسة كثيرا كما أطلق على
الكلب في صحيحة البقباق (2)، إلا أن الآية لا ترتبط بالمدعى لوجوه:

1 - المائدة: 92.
2 - الفضل بن عبد الملك قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة - إلى أن قال:
- فلم أترك شيئا إلا سألت عنه، فقال: لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس لا
تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء - الخبر (التهذيب 1: 225، الإستبصار 1: 19، عنهما الوسائل
1: 226)، صحيحة.
212

1 - أن الظاهر من الرجس هي الأشياء التي يحكم عليها بالنجاسة
بعناوينها الأولية، فيختص بالأعيان النجسة ولا يشمل الأعيان
المتنجسة، لأن النجاسة فيها من الأمور العرضية.
2 - أن الرجس في الآية لا يراد منه القذارة الظاهرية لكي ينازع في
اختصاصه بالأعيان النجسة أو شموله الأعيان المتنجسة أيضا، بل المراد
منه القذارة المعنوية، أي الخمسة الموجودة في الأمور المذكورة في
الآية، سواء كانت قذرة بالقذارة الحسية أيضا أم لم تكن.
والذي يدل على ذلك من الآية اطلاق الرجس على الميسر والأنصاب
والأزلام، فإن من البديهي أن قذارة هذه الأشياء ليست ظاهرية، ولا شبهة
في صحة اطلاق الرجس في اللغة على ما يشمل القذارة الباطنية أيضا (1).
وعليه فالآية إنما تدل على وجوب الاجتناب عن كل قذر بالقذارة
الباطنية التي يعبر عنها في لغة الفرس بلفظ: پليد، فتكون المتنجسات
خارجة عنها جزما.
3 - أن جعل المذكورات في الآية من عمل الشيطان أما من جهة كون
الأفعال المتعلقة بالخمر والأنصاب والأزلام رجسا من عمل الشيطان،
كما يشير إليه قوله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة
والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله (2).

1 - في مجمع البيان (2: 239): رجس أي خبيث، وفي مفردات الراغب (188):
الرجس الشئ القذر، يقال: رجل رجس ورجال أرجاس، والرجس على أربعة أوجه أما من
حيث الطبع، وأما من جهة العقل، وأما من جهة الشرع، وأما من كل ذلك، وفي القاموس:
الرجس - بالكسر - القذر والمأثم، وكل ما استقذر من العمل والعمل المؤدي إلى العذاب، وفي
المنجد (250): رجس رجاسة عمل عملا قبيحا.
2 - المائدة: 93.
وفي مجمع البيان: والمعنى يريد الشيطان ايقاع العداوة بينكم بالاغواء المزين لكم ذلك،
حتى إذا سكرتم زالت عقولكم وأقدمتم على القبائح على ما يمنعه منه عقولكم، قال قتادة: إن
الرجل كان يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء
(مجمع البيان 2: 240).
213

فإن الرجس قد يطلق على مطلق القبائح والمعاصي، وقد عرفت ذلك
في الهامش من القاموس وغيره، وأما من جهة كون تلك الأمور نفسها من
عمل الشيطان، فعلى الأول تكون الآية دالة على وجوب الاجتناب عن
كل عمل قبيح يصدق عليه أنه رجس، وأما ما لم يحرز قبحه فلا تشمله
الآية، وعلى الثاني يكون موضوع الحكم فيها كل عين من الأعيان صدق
عليها أنها من عمل الشيطان.
وعليه فكل عين محرمة صدق هذا العنوان عليها تكون مشمولة للآية،
ومن الواضح أن الخمر من عمل الشيطان باعتبار صنعها، أو بلحاظ أن
أصل تعليمها كان من الشيطان، وكذلك النصب بلحاظ جعلها صليبا،
والأزلام بلحاظ التقسيم كالحظ والنصيب في الزمن الحاضر، المعبر عنه
في لغة الفارس بكلمة: بليط بخت آزمايى، وأما ما لا يصدق عليه ذلك
وإن كان من الأعيان النجسة، كالكلب والخنزير، فضلا عن المتنجسات
فلا تشمله الآية.
4 - إذا سلمنا شمول الآية للنجاسات والمتنجسات، فلا دلالة فيها
على حرمة الانتفاع بالمتنجس، فإن الاجتناب عن الشئ إنما يكون
باجتناب ما يناسب ذلك الشئ، فالاجتناب عن الخمر عبارة عن ترك
شربها إذا لم يدل دليل آخر على حرمة الانتفاع بها مطلقا، والاجتناب عن
النجاسات والمتنجسات عبارة عن ترك استعمالها فيما يناسبها، ومن
القمار عن ترك اللعب، ومن الأمهات والبنات والأخوات والخالات
214

وبقية المحارم عبارة عن ترك تزويجهن.
كما أن الاجتناب عن المسجد هو ترك العبادة فيه، والاجتناب عن
العالم ترك السؤال عنه، والاجتناب عن التاجر ترك المعاملة معه،
والاجتناب عن أهل الفسوق ترك معاشرتهم، وهكذا، وعلى الجملة
نسبة الاجتناب إلى ما يجب الاجتناب عنه تختلف باختلاف الموارد
وليست في جميعها على نسق واحد.
وعليه فلا دلالة في الآية على حرمة الانتفاع بالمتنجس مطلقا، بل
الأمر في ذلك موقوف على ورود دليل خاص يدل على وجوب
الاجتناب مطلقا.
قوله: مع أنه لو عم التنجس لزم أن يخرج عنه أكثر الأفراد.
أقول: لا يلزم من خروج المتنجسات كلها من الآية تخصيص الأكثر
فضلا عما إذا كان الخارج بعضها، فإن الخارج منها عنوان واحد ينطبق
على جميع أفراد المتنجس انطباق الكلي على أفراده.
نعم لو كان الخارج من عموم الآية كل فرد فرد من أفراده للزم المحذور
المذكور.
ومنها: قوله تعالى: والرجز فاهجر (1)، بناء على شمول الرجز
للأعيان النجسة والمتنجسة.
وقد ظهر الجواب عنها من كلامنا على الآية السابقة.
ثم إن نسبة الهجر إلى الأعيان الخارجية لا تصح إلا بالعناية والمجاز
بخلاف نسبته إلى الأعمال فإنها على نحو الحقيقة، وعليه فالمراد من
الآية خصوص الهجر عن الأعمال القبيحة والأفعال المحرمة،
ولا تشمل الأعيان المحرمة.

1 - المدثر: 5.
215

ويحتمل أن يراد من الرجز العذاب، كما في قوله تعالى: وأنزلنا
على الذين ظلموا رجزا من السماء (1)، وقد صرح بذلك بعض أهل اللغة
كصاحب القاموس وغيره.
وعلى هذا فالمراد من هجر العذاب هجر موجباته كما أريد من
المسارعة إلى المغفرة (2) ومن الاستباق إلى الخيرات (3) المسارعة
والاستباق إلى أسبابهما في آيتهما.
ومنها: قوله تعالى: ويحرم عليهم الخبائث (4)، بناء على صدق
الخبائث على المتنجسات، وحيث إن التحريم في الآية لم يقيد بجهة
خاصة فهي تدل على عموم تحريم الانتفاع بالمتنجسات.
وأجاب عنها المصنف بأن المراد من التحريم خصوص حرمة الأكل
بقرينة مقابلته بحلية الطيبات، وفيه: أن مقتضى الاطلاق هو حرمة
الانتفاع بالخبائث مطلقا فتدل على حرمة الانتفاع بالمتنجس كذلك.
والحق أن يقال: إن متعلق التحريم في الآية إنما هو العمل الخبيث
والفعل القبيح، فالمتنجس خارج عن مدلولها لأنه من الأعيان.
لا يقال: إذا أريد من الخبيث العمل القبيح وجب الالتزام بالتقدير،
وهو خلاف الظاهر من الآية.
فإنه يقال: إنما يلزم ذلك إذا لم يكن الخبيث بنفسه بمعنى العمل
القبيح، وقد أثبتنا في مبحث بيع الأبوال صحة اطلاقه عليه بدون عناية،
وخصوصا بقرينة قوله تعالى: ونجيناه من القرية التي كانت تعمل

1 - البقرة: 56.
2 - قوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم - المائدة: 93.
3 - قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات - البقرة: 143.
4 - الأعراف: 156.
216

الخبائث (1)، فإن المراد من الخبائث فيها اللواط.
وأما الأخبار فهي كثيرة، منها ما تقدم من رواية تحف العقول، حيث
علل النهي فيها عن بيع وجوه النجس بأن: ذلك كله محرم أكله وشربه
وامساكه وجميع التقلب في ذلك حرام ومحرم، فإن الظاهر منها أن
جميع الانتفاعات من المتنجس حرام لكونه من وجوه النجس.
وفيه أولا: ما تقدم في أول الكتاب من ضعف سند الرواية وعدم
انجباره بشئ.
وثانيا: أن الظاهر من وجوه النجس هي الأعيان النجسة، فإن وجه
الشئ هو عنوانه الأولى، فلا تشمل المتنجسات لأنها ليست نجسة
بعناوينها الأولية.
ومنها: رواية السكوني (2) الآمرة بإهراق المرق المتنجس بموت الفأرة
فيه، فتدل على حرمة الانتفاع به، إذ لولا ذلك لجاز الانتفاع به باطعامه
الصبي ونحوه، وبضميمة عدم القول بالفصل يتم المطلوب، وأجاب
عنها المصنف بأن الأمر بالاهراق كناية عن خصوص حرمة الأكل.
وفيه: أن الظاهر من الأمر بالاهراق هو عدم جواز الانتفاع بالمرق
مطلقا، إلا أنها لا تدل على المدعى لخصوصية المورد، فإن المرق غير
قابل للانتفاع به إلا في اطعام الصبي ونحوه، بناء على ما هو الظاهر من
جواز ذلك، ومن الواضح أن ذلك أنما يكون عادة إذا كان المرق قليلا
لا بمقدار القدر ونحوه.

1 - الأنبياء: 74.
2 - عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام): أن عليا (عليه السلام) سئل عن قدر طبخت وإذا في القدر فأرة،
قال: يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل (الكافي 6: 261، التهذيب 9: 86، الإستبصار 1: 25،
عنهم الوسائل 1: 206)، موثقة للسكوني.
217

ومنها: الأخبار (1) الدالة على أن الفأرة إذا ماتت في السمن الجامد
ونحوه وجب أن تطرح الفأرة وما يليها من السمن، لأنه لو جاز الانتفاع
بالمتنجس لما أمر الإمام (عليه السلام) بطرحه لامكان الانتفاع به في غير ما هو
مشروط بالطهارة، كتدهين السفن (2) والأجرب (3) ونحوهما، فتدل على
المدعى بضميمة عدم القول بالفصل بين أفراد المتنجسات.
وقد أجاب عنها المصنف بأن الطرح كناية عن حرمة الأكل فقط، فإن
الانتفاع بالاستصباح به جائز اجماعا.
ولكن يرد عليه ما تقدم، من ظهور الأمر بالطرح في حرمة الانتفاع به
مطلقا، وأما الاستصباح به فإنما خرج بالنصوص الخاصة كما عرفت.
والصحيح في الجواب ما أشرنا إليه، من أن الأمر بطرح ما تلي الفأرة
من السمن للارشاد إلى عدم امكان الانتفاع به بالاستصباح ونحوه لقلته،
فتكون الرواية غريبة عن المقام.

1 - زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه، فإن كان جامدا
فألقها وما يليها وكل ما بقي - الخبر (الكافي 6: 261، التهذيب 9: 85، عنهما الوسائل 1: 206،
17: 97)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن الفأرة والكلب إذا أكلا من
الجبن وشبهه أيحل أكله؟ قال: يطرح منه ما أكل ويحل الباقي (قرب الإسناد: 116، مسائل
علي بن جعفر (عليه السلام): 213، عنهما الوسائل 24: 198)، مجهولة لعبد الله بن الحسن.
إلى غير ذلك من الأخبار المزبورة في المواضع المتقدمة، راجع الوسائل 17: 97، 24: 198،
السنن للبيهقي 9: 354.
2 - السفن - محركة - جلد خشن يجعل على قوائم السيوف.
3 - في المنجد: الجرب، وهو داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكة شديدة.
218

ومن هنا ظهر ما في رواية زكريا بن آدم (1)، التي تدل على اهراق المرق
المتنجس، فإن الأمر بالهراقة فيها ارشاد إلى ما ذكرناه، من قلة نفعه مضافا
إلى أنها ضعيفة السند.
ومنها: قوله (عليه السلام) في روايتي سماعة وعمار الواردتين في الإنائين
المشتبهين: يهريقهما جميعا ويتيمم (2)، فإن أمره (عليه السلام) بهراقة الإنائين مع
امكان الانتفاع بهما في غير ما هو مشروط بالطهارة ظاهر في حرمة
الانتفاع بالماء المتنجس، وبضميمة عدم القول بالفصل بين أفراد
المتنجسات يتم المطلوب.
وفيه أن خصوصية المورد تقتضي كون الأمر بالاهراق ارشادا إلى
مانعية النجاسة عن الوضوء، ثم إذا سلمنا كون الأمر فيهما للمولوية
التكليفية فمن المحتمل القريب أن يكون الغرض من الأمر هو تتميم
موضوع جواز التيمم، لأن جوازه في الشريعة المقدسة مقيد بفقدان
الماء، وقبل إراقة الإنائين لا يتحقق عنوان الفقدان لوجود الماء الطاهر
عنده وإن لم يعرفه بعينه، ولذلك أفتى بعض الفقهاء بعدم جواز التيمم
قبل اهراق الإنائين.

1 - عن زكريا بن آدم قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في
قدر فيه لحم كثير ومرق كثير، قال: يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلب (التهذيب
1: 279، عنه الوسائل 3: 470)، مهملة للحسن المبارك، وضعيفة لمحمد بن موسى.
2 - قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ولا
يدري أيهما، وليس يقدر على ماء غيرهما، قال: يهريقهما جميعا ويتيمم (الكافي 3: 10،
التهذيب 1: 229 و 249، الإستبصار 1: 21، عنهم الوسائل 1: 151)، ضعيفة لعثمان بن عيسى.
ومثلها رواية عمار الساباطي عن أبي عبد الله (عليه السلام) (التهذيب 1: 248 و 407، عنهما
الوسائل 1: 155)، ولكنها موثقة لأجله ولمصدق بن صدقة.
219

ومنها: الأخبار الواردة (1) في اهراق الماء المتنجس، فإنه لولا حرمة
الانتفاع به في غير ما هو مشروط بالطهارة لم يؤمر بذلك.
وفيه أولا: ما عرفت من أن خصوصية المورد تقتضي ذلك لقلة نفعه
في العادة، وثانيا: أن الأمر بالهراقة في تلك الأخبار ارشاد إلى عدم جواز
التوضئ من ذلك الماء للنجاسة المشتبهة، ولا يجوز التعدي من
موردها إلى غيره من الاستعمالات، إلا إذا كان مشروطا بالطهارة، وإذن
فلا دلالة فيها على المطلوب أيضا.
ومنها: الأخبار المستفيضة عند الخاصة (2) والعامة (3)، الواردة في
استصباح الدهن المتنجس، فإنها ظاهرة في أن الانتفاع به منحصر في

1 - أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الجنب يجعل الركوة أو التور فيدخل
إصبعه فيه، قال: إن كانت يده قذرة فأهرقه - الحديث (التهذيب 1: 308، الإستبصار 1: 20،
السرائر: 473، عنهم الوسائل 1: 154)، صحيحة.
في القاموس: التور إناء يشرب فيه.
وفي موثقة سماعة: فإن أدخلت يدك في الماء وفيها شئ من ذلك فأهرق ذلك الماء
(الكافي 3: 11، عنه الوسائل 1: 152).
وفي موثقة أخرى له: وإن كان أصاب المني يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على
كفيه فليهرق الماء كله (التهذيب 1: 38، عنه الوسائل 1: 154).
الفضل بن عبد الملك قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة - إلى أن قال: -
فلم أترك شيئا إلا سألت عنه، فقال: لا بأس به حتى انتهيت إلى الكلب، فقال: رجس نجس
لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء - الخبر (التهذيب 1: 225، الإستبصار 1: 19، عنهما الوسائل
1: 226)، صحيحة.
2 - راجع الوسائل: 24، الباب: 32 أن ما قطع من أليات الغنم و 43 إن الفأرة إذا ماتت في
السمن من الأطعمة المحرمة، والوسائل: 17، الباب 6 جواز بيع الزيت مما يكتسب به.
3 - في سنن البيهقي: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الفأرة تقع في السمن أو الزيت، قال:
استصبحوا به ولا تأكلوه (سنن البيهقي 9: 354)، وغير ذلك من الأحاديث.
220

الاسراج، فإنه لو جاز الانتفاع به في غيره أيضا لتعرض له الإمام (عليه السلام) فيها
أو في غيرها.
وفيه: أن وجه التخصيص أن النفع الظاهر للدهن هو الأكل والاسراج
فقط، فإذا حرم أكله للتنجس اختص الانتفاع به بالاسراج، فلذا لم يتعرض
الإمام (عليه السلام) لغير الاستصباح، وإذن فلا دلالة فيها أيضا على المدعى.
على أنه قد ورد في بعض الروايات جواز الانتفاع به بغير الاستصباح،
كقوله (عليه السلام) في رواية قرب الإسناد: ولكن ينتفع به كسراج ونحوه (1)،
وكقول علي (عليه السلام) المروي عنه بطرق شتى: الزيت خاصة يبيعه لمن
يعمله صابونا (2).

1 - بإسناده عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) - إلى أن قال: - وسألت عن فأرة أو كلب
شربا في زيت أو سمن، قال: إن كان جرة أو نحوها فلا تأكله، ولكن ينتفع به كسراج ونحوه
(قرب الإسناد: 116، مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 33، عنهما الوسائل 24: 198)، مجهولة
لعبد الله بن الحسن.
2 - عن علي (عليه السلام) سئل عن الزيت يقع فيه شئ له دم فيموت، قال: الزيت خاصة يبيعه
لمن يعمله صابونا (الجعفريات: 26، عنه المستدرك 13: 73)، مجهولة لموسى بن إسماعيل.
ومثلها في دعائم الاسلام ونوادر الراوندي (دعائم الاسلام 1: 122، النوادر للراوندي: 50،
عنهما المستدرك 13: 73).
قال المحدث النوري نور الله مرقده في المستدرك في الفائدة الثانية من الخاتمة: كتاب
النوادر هو تأليف السيد الإمام الكبير ضياء الدين أبي الرضا فضل الله بن علي الراوندي
الكاشاني، حفيد الحسن المثنى بن الحسن المجتبي (عليه السلام)، ووصفه العلامة في إجازة بني زهرة
بالسيد الإمام، وفي فهرست الشيخ منتجب الدين: علامة زمانه جمع مع علو النسب كمال
الفضل والحسب، وكان أستاذ أئمة عصره، قال أبو سعد السمعاني في كتاب الأنساب: انه من
المشائخ واليه تنتهي كثيرا من أسانيد الإجازات، وهو تلميذ الشيخ أبي علي بن شيخ الطائفة،
وله تصانيف تشهد بفضله وأدبه وجمعه بين مورث المجد ومكتسبه، ومنه انتشرت الأدعية
الجليلة المعروفة بأدعية السر - انتهى ملخص كلامه (المستدرك 19: 173).
أقول: لا شبهة في علو شأنه ورفعة منزلته، ومكانة علمه، وثبوت وثاقته، وقد صرح بذلك
غير واحد من المترجمين، ولكن لم يظهر لنا اعتبار كتابه هذا، لأن في سنده من لم تثبت وثاقته
كعبد الواحد بن إسماعيل، ومن هو مجهول الحال كمحمد بن الحسن التميمي البكري.
221

فإن الظاهر أنه لا خصوصية للمورد فيهما، ونتيجة التعدي عنه هو
جواز الانتفاع بكل متنجس بجميع الانتفاعات المحللة، بل ورد في
أحاديث العامة (1) جواز الانتفاع به مطلقا من غير تقييد بنوع خاص من
المنافع.
وقد يخطر بالبال ان الأمر في الروايات بخصوص الاستصباح دون
غيره إنما هو فيما لا يتمكن الانسان من الانتفاع به بغير الاستصباح،
ولوفي الوجوه النادرة من المنافع، والا فلا خصوصية للتقييد
بالاستصباح كما لا خصوصية للتقييد بجعله صابونا، ولذا جوز الإمام
(عليه السلام) أن ينتفع به بغيرهما أيضا في رواية قرب الإسناد كما عرفت،
ولكنها ضعيفة السند.
وقد يقال بانعقاد الاجماع على حرمة الانتفاع بالمتنجس مطلقا،
فيكون مقتضى الأصل هو حرمة الانتفاع به في المقام، إلا أن ذلك ممنوع،
فإن الاجماع المنقول ممنوع الحجية، وقد حققناه في علم الأصول،
على أن دعوى الاجماع في المسألة موهونة بكثرة المخالفة فيها، وأما
الاجماع المحصل على ذلك فهو ممنوع التحقق أيضا.
ويضاف إلى ما ذكرناه كله أنه لا ظهور لعبارات الفقهاء المحتوية لنقله

1 - في سنن البيهقي في جملة من الأحاديث: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الفأرة تقع في
السمن، فقال: اطرحوها وما حولها إن كان جامدا، فقالوا: يا رسول الله فإن كان مائعا، قال:
فانتفعوا به ولا تأكلوه (سنن البيهقي 9: 354).
222

في ذلك المدعى، قال في الغنية بعد أن اشترط في البيع أن يكون مما
ينتفع به منفعة محللة: وقيدنا بكونها المنفعة مباحة تحفظا من المنافع
المحرمة، ويدخل في ذلك كل نجس لا يمكن تطهيره إلا ما أخرجه
الدليل، من بيع الكلب المعلم للصيد والزيت النجس للاستصباح به
تحت السماء، وهو اجماع الطائفة (1).
وهذه العبارة، وإن كانت صريحة في نقل الاجماع إلا أن الظاهر
رجوعه إلى مطلع كلامه، أعني حرمة بيع النجس، فلا دلالة فيها على
حرمة الانتفاع بالمتنجس، ويحتمل قريبا أن يرجع إلى آخر كلامه،
أعني استثناء الكلب المعلم للصيد والزيت المتنجس للاستصباح من
حرمة البيع.
وقال الشيخ في الخلاف: إذا ماتت الفأرة في سمن أو زيت أو شيرج أو
بزر نجس كله، وجاز الاستصباح به، ولا يجوز أكله، ولا الانتفاع به لغير
الاستصباح - ثم ذكر المخالفين في المسألة من العامة وغيرهم، إلى أن
قال: - دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم (2).
وفيه: أن محط كلامه إنما هو الدهن المتنجس فقط، فلو صح ما ادعاه
من الاجماع لدل على حرمة الانتفاع به خاصة، لكونه هو المتيقن من مورد
الاجماع فلا يشمل سائر المتنجسات.
وقد أجاب المصنف عما ادعاه الشيخ من الاجماع بأن معقده ما وقع
الخلاف فيه بينه وبين من ذكر من المخالفين، إذ فرق بين دعوى الاجماع
على محل النزاع بعد تحريره وبين دعواه ابتداء على الأحكام

1 - الغنية (الجوامع الفقهية): 524.
2 - الخلاف، كتاب الأطعمة، المسألة: 19.
223

المذكورات في عنوان المسألة، فإن الثاني يشمل الأحكام كلها، والأول
لا يشمل إلا الحكم الواقع مورد الخلاف، لأنه الظاهر من قوله: دليلنا
اجماع الفرقة.
وفيه: أن ما أفاده وإن كان صحيحا بحسب الكبرى إلا أنه خلاف ما
يظهر من كلام الشيخ (رحمه الله)، فإن ظاهره دعوى الاجماع على جميع
الأحكام المذكورة، فالصحيح في الجواب هو ما ذكرناه.
على أنا لو سلمنا قيام الاجماع على ذلك فلا نسلم كونه اجماعا تعبديا
كاشفا عن رأي المعصوم (عليه السلام)، إذ من المحتمل القريب جدا بل المظنون
عادة أن مدركه هو الوجوه المذكورة في المقام لحرمة الانتفاع بمطلق
المتنجس.
قوله: إن بل الصبغ والحناء.
أقول: الصبغ والحناء ليسا من محل النزاع هنا في شئ، ولم يتقدم
لهما ذكر سابق، فلا نرى وجها صحيحا لذكرهما.
قوله: ومراده بالنص ما ورد من المنع عن الاستصباح بالدهن المتنجس تحت
السقف.
أقول: قد عرفت عدم ورود النص بذلك.
قوله: والذي أظن وإن كان الظن لا يغني لغيري شيئا.
أقول: بل لا يغنيه أيضا، لعدم كونه من الظنون المعتبرة، اللهم إلا أن
يكون مراده من ذلك هو الظن الاطميناني، فيكون حجة له لا لغيره.
قوله: والرواية إشارة إلى ما عن الراوندي في كتاب النوادر.
أقول: قد عرفت أنها رواية واحدة نقلت بطرق ثلاثة، ولم يقع السؤال
عن الشحم في شئ منها، فما نقل في المتن ناشئ عن سهو القلم.
قوله: ثم لو قلنا بجواز البيع في الدهن.
224

أقول: كما يصح الانتفاع بالمتنجس على وجه الاطلاق، فكذلك يصح
بيعه للعمومات المقتضية لذلك، من قوله تعالى: أوفوا بالعقود،
وأحل الله البيع، وتجارة عن تراض، وعليه فلا نحتاج في ذلك إلى
التمسك بقوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول: وكل شئ يكون لهم فيه
الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وامساكه
واستعماله، كما تمسك به المصنف هنا.
قوله: وهذا هو الذي يقتضيه استصحاب الحكم قبل التنجيس.
أقول: إذا سلمنا جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية
وأغمضنا عن معارضته دائما بأصالة عدم الجعل، كما نقحناه في
الأصول، فلا نسلم جريانه في المقام، لأن محل الكلام هو الجواز
الوضعي بمعنى نفوذ البيع على تقدير وجوده، وعليه فاستصحاب
الجواز بعد التنجس يكون من الاستصحاب التعليقي الذي لا نقول به.
قوله: وأما قوله تعالى: فاجتنبوه، وقوله تعالى: والرجز فاهجر.
أقول: قد يتوهم أن ايراد المصنف (رحمه الله) الآيات المذكورة هنا لا يخلو
من الاشتباه وسهو القلم، لأنه قد استدل بها فيما مضى على حرمة الانتفاع
بالمتنجس، وكلامنا هنا مختص بجواز البيع فقط.
ولكنه توهم فاسد، فإن ذكر الآيات هنا ليس إلا لدفع توهم الاستدلال
بها على بطلان بيع المتنجس، والقرينة على ذلك قوله (رحمه الله) في مقام
الجواب عنه: فقد عرفت أنها لا تدل على حرمة الانتفاع بالمتنجس فضلا
عن حرمة البيع.
قوله: وأما مثل بيع الصابون المتنجس فلا يندفع الاشكال عنه.
أقول: وجه عدم الاندفاع هو أن الثوب المغسول بالصابون المتنجس
وإن كان يقبل الطهارة بالغسل إلا أنه ليس معنى ذلك أن الصابون رجع إلى
225

حالة يقبل معها الطهارة، فإن الأجزاء الصابونية تنفصل عن الثوب بالغسل
وإن كانت في غاية النجاسة والخباثة.
الأصل جواز الانتفاع بالأعيان النجسة:
قوله: بقي الكلام في حكم نجس العين.
أقول: الظاهر أن الأصل جواز الانتفاع بالأعيان النجسة أيضا إلا ما
خرج بالدليل كما اختاره بعض الأعاظم (1)، وإن ذهب المشهور إلى حرمة
الانتفاع بها بل ادعى عليه الاجماع.
قال في أول المكاسب من المراسم: التصرف في الميتة ولحم الخنزير
وشحمه والدم والعذرة والأبوال ببيع وغيره حرام (2).
وفي المكاسب المحظورة من النهاية: جميع النجاسات محرم
التصرف فيها (3).
وفي فصل ما يصح بيعه وما لا يصح من المبسوط: نجس العين لا
يجوز بيعه ولا إجارته ولا الانتفاع به ولا اقتناؤه بحال اجماعا إلا الكلب
فإن فيه خلافا (4).
وعلى هذا النهج مذاهب فقهاء العامة (5).

1 - هو الشيخ الكبير كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: 4 (مخطوط).
2 - المراسم: 170.
3 - نهاية الإحكام 2: 462.
4 - المبسوط 2: 167.
5 - في فقه المذاهب الأربعة (2: 231) عن الحنابلة: لا يصح الانتفاع بالدهن النجس في
أي شئ من الأشياء، وفي (2: 232) عن الحنفية: لا يحل الانتفاع بدهن الميتة لأنه جزء منها، وقد حرمها الشرع فلا تكون مالا.
وفي شرح فتح القدير (5: 203) حكم بحرمة الانتفاع بالميتة، ثم جعل بطلان البيع دائرا
مدار حرمة الانتفاع، وهي عدم المالية.
وفي فقه المذاهب الأربعة في الموضع المتقدم نقل اتفاق المذاهب على حرمة بيع النجس،
فقد عرفت من شرح فتح القدير الملازمة بين بطلان البيع وحرمة الانتفاع.
وفي شرح فتح القدير نقل أنه لو وقع شعر الخنزير في ماء قليل لا يفسده، لأن حل الانتفاع
به دليل طهارته.
وفي فقه المذاهب الأربعة (2: 167) عن الحنفية: لا ينعقد بيع كل ما لا يباح الانتفاع به
شرعا.
وفي شرح فتح القدير (8: 157) نقل عن بعضهم حرمة الانتفاع بالنجس ونقضه بجواز
الانتفاع بالسرقين، فإنه مع القول بنجاسته يجوز بيعه والانتفاع به بخلاف العذرة.
226

وكيف كان فقد استدل على عدم الجواز بوجوه:
منها: الآيات المتقدمة، من قوله تعالى: فاجتنبوه، وقوله تعالى:
والرجز فاهجر، وقد عرفت الجواب عن ذلك آنفا.
ومنها: قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير (1)،
فإن عموم التحريم فيها يقتضي حرمة الانتفاع بما ذكر فيها، وبعدم القول
بالفصل بين أفراد النجس يتم المطلوب.
وفيه: أن تحريم أي شئ إنما هو بحسب ما يناسبه من التصرفات،
فما يناسب الميتة والدم ولحم الخنزير إنما هو تحريم الأكل لا جميع
التصرفات، كما أن المناسب لتحريم الأم والبنت في قوله تعالى:
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم (2)، إنما هو تحريم النكاح فقط دون
النظر والتكلم.

1 - المائدة: 3.
2 - النساء: 23.
227

ومنها: ما أشار إليه المصنف بقوله: ويدل عليه أيضا كلما دل من
الأخبار والاجماع على عدم جواز بيع نجس العين، بناء على أن المنع من
بيعه لا يكون إلا مع حرمة الانتفاع به.
ولكنا لم نجد فيما تقدم ولا فيما يأتي ما دل من الأخبار على عدم
جواز بيع النجس بعنوانه، فضلا عن كون المنع عن البيع من جهة عدم
جواز الانتفاع به.
نعم تقدم في مبحث بيع الميتة ما دل على حرمة الانتفاع بالميتة، إلا أنك
عرفت هناك معارضتها بما دل على جواز الانتفاع بها، وأن الترجيح
للروايات المجوزة، على أنا إذا أخذنا بالروايات المانعة فهي أخص من
المدعى، لأنها مختصة بالميتة وموضوع كلامنا أعم منها ومن سائر
النجاسات.
نعم رواية تحف العقول صريحة في المدعى، فإن دلالة قوله (عليه السلام)
فيها: أو شئ من وجوه النجس، فهذا كله حرام محرم، لأن ذلك كله
منهي عن أكله وشربه ولبسه وملكه وامساكه والتقلب فيه، فجميع تقلبه
في ذلك حرام، صريحة لا تكاد تنكر، ولا وجه لحملها على الامساك
والتقلب لأجل الأكل والشرب كما في المتن، إلا أن الرواية لا يجوز
الاعتماد عليها لضعف سندها وعدم انجباره بعمل المشهور بها.
منها: قوله (عليه السلام) في دعائم الاسلام: وما كان محرما أصله منهيا عنه
لم يجز بيعه ولا شراؤه (1)، بدعوى أن حرمة البيع في الرواية قد علقت
على حرمة الشئ من أصله، فلا بد وأن يكون الانتفاع به محرما مطلقا،
إذ لو جاز الانتفاع به لجاز بيعه للملازمة بينهما.

1 - مر عنه في أول الكتاب، راجع دعائم الاسلام 2: 18، عنه المستدرك 13: 65.
228

وفيه مضافا إلى ضعف السند فيها، أن المراد بالحرمة في الرواية
حرمة التصرفات المناسبة لذلك الشئ المحرم لا حرمة جميع
التصرفات، وعليه فلا يستفاد منها حرمة جميع الانتفاعات.
على أنا لو سلمنا دلالتها على حرمة جميع التصرفات، فغاية ما
يستفاد منها أن كلما لا يجوز الانتفاع به بوجه فلا يجوز بيعه، لا أن كل ما
لا يجوز بيعه فلا يجوز الانتفاع به كما هو المدعى.
ومما ذكرناه تجلى ما في النبوي المشهور المجعول: إن الله إذا حرم
على قوم شيئا حرم عليهم ثمنه، وبالجملة أنا لم نجد آية ولا رواية تدل
على حرمة الانتفاع بنجس العين مطلقا إلا في موارد خاصة كالخمر.
ومنها: الاجماع المدعى على حرمة الانتفاع بها، وتقريره بوجهين:
1 - دعوى الاجماع على حرمة بيعها، وبما أن حرمة البيع تستلزم
حرمة الانتفاع للملازمة بينهما - وقد عرفت ذلك في الحاشية عن بعض
العامة - فيكون الثاني أيضا موردا للاجماع.
وفيه منع الملازمة بين الحرمتين، لجواز كون النهي عن بيعه تعبدا
محضا، وعليه فإذا قام الاجماع على حرمة البيع فلا يمكن أن يستدل به
على حرمة الانتفاع إلا بالحدس الظني، ومن الواضح أن الظن لا يغني من
الحق شيئا، بل اللازم أن يقتصر من الاجماع على مورده المتيقن من دون
أن يتعدى إلى غيره.
2 - دعوى الاجماع على حرمة الانتفاع بها ابتداء، كما هو الظاهر من
فخر الدين والفاضل المقداد (1).

1 - التنقيح الرائع 2: 5، ولم نجد شرح الإرشاد.
229

وفيه: أن دعواه في مثل هذه المسألة مع ذهاب الأكثر إلى جواز
الانتفاع بها من الأمور الصعبة، ولو سلمت هذه الدعوى فلا يمكن اثبات
كونه اجماعا تعبديا، لامكان استناد المجمعين في ذلك إلى الوجوه
المذكورة.
قوله: الجابر لرواية تحف العقول.
أقول: قد تقدم في أول الكتاب عدم انجبار ضعف الرواية بشئ من
الشهرة والاجماع وغيرهما.
قوله: مع احتمال أن يراد من جميع التقلب جميع أنواع التعاطي لا الاستعمالات.
أقول: إذا فرضنا اعتبار الرواية فلا مناص من القول بحرمة التصرف في
الأعيان النجسة على وجه الاطلاق ولو بالامساك، ولا وجه لتقييدها
بخصوص التعاطي، كما لا وجه لتقييد النهي عن الامساك بالامساك على
وجه محرم.
قوله: نعم يمكن أن يقال: إن مثل هذه الاستعمالات.
أقول: توضيحه: أن النهي عن الانتفاع بشئ ينصرف إلى النهي عن
الانتفاع به في منافعه الظاهرة، لأن المنفعة النادرة لا تعد من المنافع
عرفا، فهي خارجة عن حدود النهي، وإن كان الاطلاق في نفسه شاملا
لها.
لا يقال: إن النهي عن الانتفاع بشئ يدل على تحريم جميع منافعه،
لأن النهي عن الطبيعة يقتضي الانزجار عن جميع أفرادها، ولذلك كان
دالا على العموم.
فإنه يقال: إن الدلالة على العموم إنما تسلم بمقدار ما ينصرف إليه
اللفظ فقط، ونظير ذلك العمومات الناهية عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل
لحمه، فإنه ينصرف إلى غير الانسان، فلا ينعقد للعموم ظهور إلا به.
230

ولا يخفى أن القول بحرمة الانتفاع بالنجس مطلقا لا يقتضي حرمة
اقتنائه، وإن كان الاقتناء لغير الغرض العقلائي، ومن هنا ورد في جملة
من الأحاديث (1) جواز اقتناء الخمر بل أخذها للتخليل، مع أنها من
الخبائث الشديدة، وورد أيضا جواز اقتناء بعض الكلاب، وقد تقدم
ذلك في البحث عن بيعها.
قوله: والعذرة للتسميد.
أقول: التسميد في اللغة (2) ما يصلح به الزرع.
قوله: كما يدل عليه وقوع السؤال في بعض الروايات (3) عن الجص.
أقول: قال المحدث القاساني في كتاب الوافي:
لعل المراد بالماء الماء الممزوج بالجص، أو بالماء ماء المطر الذي
يصيب أرض المسجد المجصص بذلك الجص، وكأنه كان بلا سقف،
فإن السنة فيه ذلك، والمراد بالنار ما يحصل من الوقود التي يستحيل بها
أجزاء العذرة والعظام المختلطة بالجص رمادا، فإنها تطهر بالاستحالة،
والغرض أنه قد ورد على ذلك الجص أمران مطهران هما النار والماء،
فلم يبق ريب في طهارته، فلا يرد السؤال بأن النار إذا طهرته أولا فكيف

1 - راجع الكافي 6: 428، التهذيب 9: 117، الإستبصار 4: 93، قرب الإسناد: 116،
مستطرفات السرائر: 60، عنهم الوسائل 25: 370 - 372.
2 - عن المصباح (288): السماد وزان السلام ما يصلح به الزرع من تراب وسرجين،
سمدت الأرض تسميدا أصلحها بالسماد، وفي القاموس: وسمد الأرض تسميدا جعل فيها
السماد أي السرجين برماد، وفي مجمع البحرين (3: 70): والسماد - كسلام - ما يصلح به
الزرع من تراب وسرجين، وتسميد الأرض هو أن يجعل فيها السماد.
3 - الحسن بن محبوب قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام
الموتى، ثم يجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب إلي بخطه: أن الماء والنار قد طهراه
(التهذيب 2: 35، الفقيه 1: 175، عنهما الوسائل 3: 527)، صحيحة.
231

يحكم بتطهير الماء له ثانيا، إذ لا يلزم من ورود المطهر الثاني تأثيره في
التطهير (1).
وقال في الوسائل: تطهير النار للنجاسة بإحالتها رمادا أو دخانا
وتطهير الماء أعني ما يجبل به الجص، يراد به حصول النظافة وزوال
النفرة (2).
أقول: يمكن أن يراد من الماء ماء المطر الذي يصيب الموضع
المجصص بذلك الجص المتنجس، لكون المسجد مكشوفا وبلا سقف
كما احتمله القاساني، وأن يراد من النار الشمس، فإن الشمس إذا جففت
شيئا طهرته.
ويمكن أن يراد من التطهير التنظيف مجازا، كما احتمله في المستند
مطلقا (3)، وصاحب الوسائل في خصوص الماء.
ومع الاغماض عما ذكرناه فالرواية مجملة يرد علمها إلى أهلها، فإن
الثابت في الشريعة أن النار إنما تطهر من النجاسات ما أحالته رمادا، وهذا
الشرط غير حاصل في الجص، وأن الماء القليل إنما يطهر الموضع
المغسول إذا ورد عليه ثم انفصلت غسالته عنه، وكلا الأمرين منتف هنا.
إلا أن يقال: بعدم انفعال الماء القليل بامتزاجه الجص، وعدم اشتراط
انفصال الغسالة في التطهير به، كما أشار إليه المحدث القاساني في كلامه
المتقدم، قال: لعل المراد بالماء الماء الممزوج بالجص، وكلا الأمرين
مخدوش، وتفصيل الكلام في محله.

1 - الوافي 4: 36، الباب: 12 ما يطهر بغير الماء وما لا يحتاج إلى التطهير من أبواب
الطهارة عن الخبث.
2 - الوسائل 3: 527.
3 - المستند 1: 57.
232

وكيف كان، فالمستفاد من الرواية أمران: أحدهما اعتبار الطهارة فيما
يسجد عليه، وثانيهما جواز السجود على الجص ولو كان مطبوخا.
قوله: ثم إن منفعة النجس المحللة للأصل أو للنص قد يجعلها مالا
عرفا إلا أنه منع الشرع عن بيعه كجلد الميتة.
أقول: قد ظهر مما ذكرناه أنه لا ملازمة بين حرمة بيع الأعيان النجسة
وبين حرمة الانتفاع بها وسقوطها عن المالية، بل لا بد من ملاحظة دليل
الحرمة هل يوجد فيه ما يدل على إلغاء المالية من قبل الشارع كما في
الخمر والخنزير، فإن كان فيه ما يدل على ذلك أخذ به وحكم بعدم
ترتب آثار المالية عليها من الإرث والضمان وغيرهما، وإلا فلا يصح أن
يحكم بحرمة الانتفاع بها لمجرد حرمة بيعها، كيف وقد علمت جواز
الانتفاع بالميتة والعذرة وشعر الخنزير، وكلب الماشية وكلب الحائط
وكلب الزرع، وغيرها من أنواع النجاسات مع ذهاب الأكثر إلى حرمة
بيعها.
وعلى ذلك يجب أن تترتب عليها جميع آثار المالية، فإذا أتلفها أحد
ضمنها لمالكها، وإذا مات مالكها انتقلت إلى وارثه، ولا يجوز للغير أن
يزاحم الورثة في تصرفاتهم، وكذلك تجوز إعارتها وإجارتها وهبتها
ولو هبة معوضة، لأن حقيقة الهبة متقومة بالمجانية واشتراط العوض
فيها أمر زائد على حقيقتها وفائدته جواز فسخ الواهب إياها إذا لم يف له
المتهب بالشرط.
لا يقال: إن الشئ إذا حرم بيعه حرمت سائر المعاملات عليه بطريق
الأولوية القطعية.
فإنه يقال: إن الأحكام الشرعية توقيفية محضة، فلا يجوز التعدي عن
مورد ثبت فيه التعبد إلى غيره إلا بدليل، والموجود في أدلة النهي عن بيع
233

الأعيان النجسة في غير ما ألغى الشارع ماليته إنما هو حرمة ثمنها،
فلا تشمل العوض في سائر المعاملات لعدم اطلاق الثمن عليه إلا في
الصلح، بناء على كونه بيعا ومن قبيل المبادلة بين المالين.
قال المحقق الإيرواني: إن المالية لا تدور مدار المنفعة، فإن الجواهر
النفيسة ومنها النقود أموال ولا فائدة فيها، وفي الماء على الشط أهم
المنافع ولا يعد مالا، والتراب ينتفع به أهم الانتفاع من اصطناع آجر أو
خزف أو إناء وليس بمال (1).
وفيه: أنه لا شبهة في دوران المالية الشرعية مدار المنفعة المحللة،
ودوران المالية العرفية مدار مطلق المنافع وإن كانت محرمة، ولكن
الانتفاع بالأشياء ليس على نسق واحد بل يختلف باختلاف ذي النفع،
فنفع الجواهر والنقود بيعها وشرائها وجعلها أثمانا للأمتعة والعروض،
وأما عدم كون الماء على الشط والتراب في البر من الأموال مع الانتفاع
بها أهم الانتفاع، فلكون الناس في الانتفاع بهما شرعا سواء، ولذا
لو اختصا بشخص واحد كبعض أقسام التراب فإن الناس يبذلون بإزائهما
المال المهم.
وعلى الاجمال مالية الأشياء إنما هي باعتبار منافعها، فعديم المنفعة
ليس من الأموال.
حقيقة حق الاختصاص ومنشأ ثبوته:
قوله: والظاهر ثبوت حق الاختصاص في هذه الأمور.
أقول: قد قامت السيرة القطعية الشرعية والعقلائية على ثبوت حق

1 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 12.
234

الاختصاص والأولوية للملاك في أموالهم التي سقطت عن المالية
للعوارض والطوارئ، كالماء على الشط، والحيوان المملوك إذا مات،
والأراضي المملوكة إذا جعلها الجائر بين الناس شرعا سواء، كالطرق
والشوارع المغصوبة، بديهة عدم جواز مزاحمة الأجانب عن تصرف
الملاك في أمثال تلك الموارد ما لم يثبت الاعراض.
وهذا مما لا ريب فيه، وإنما الكلام في منشأ ذلك الحق، وقد استدل
عليه بوجوه:
1 - أن حق الاختصاص سلطنة ثابتة في الأموال وهي غير الملكية،
فإذا زالت الملكية بقي الحق على حاله، لأن كل واحد منهما ناشئ عن
سبب خاص به.
وفيه: أن ذلك وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلا أنه ممنوع في مقام
الاثبات لعدم الدليل عليه.
2 - أن حق الاختصاص مرتبة ضعيفة من الملكية، فإذا زالت الملكية
بحدها الأقوى بقيت منها المرتبة الضعيفة التي نسميها بحق الاختصاص،
لعدم الملازمة بينهما في الارتفاع، ويتضح ذلك بملاحظة الألوان
والكيفيات الخارجية.
وفيه: أن الملكية الحقيقية من أية مقولة كانت جدة أو إضافة ليست
قابلة للشدة والضعف حتى تعتبر بحدها الضعيف تارة وبحدها القوي
تارة أخرى، بل هي أمر بسيط، فإذا زالت زالت بأصلها، ولو سلمنا كون
الملكية الحقيقية ذات مراتب لم يجر ذلك في الاعتبارية، فإن اعتبار كل
مرتبة منها مغاير لاعتبار المرتبة الأخرى، وإذا زال اعتبار المرتبة القوية
لم يبق بعده اعتبار آخر للمرتبة الضعيفة، وعليه فلا يبقى هناك شئ
آخر لكي يسمى بالحق.
235

وهذا لا ينافي ما هو المعروف من أن الحق في نفسه مرتبة ضعيفة من
الملك، فإن معنى هذا الكلام أن الملك والحق كليهما من مقولة السلطنة
وأن الملك سلطنة قوية والحق سلطنة ضعيفة، وهو أمر آخر غير
اختلاف حقيقة الملك بالشدة والضعف والكمال والنقص، نظير الألوان
كما توهم.
ونظير ما نحن فيه تسمية الرجحان الضعيف في باب بالأوامر
بالاستحباب والرجحان الشديد بالوجوب، وهو أمر وراء كون
الاستحباب مرتبة ضعيفة من الوجوب.
3 - قد ثبت في الشريعة المقدسة أنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال
غيره إلا بطيب نفسه، وقد دلت على ذلك السيرة القطعية وجملة من
الأخبار (1)، فإذا زالت الملكية وشككنا في زوال ذلك الحكم كان مقتضى

1 - في الاحتجاج عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي، قال: كان فيما ورد على من
الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه في جواب مسائل إلى صاحب الزمان
(عليه السلام)، إلى أن قال (عليه السلام): وأما ما سألت عنه عن أمر الضياع التي لناحيتنا هل يجوز القيام
بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتسابا للأجر وتقربا إليكم
، فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحل ذلك في مالنا، من فعل ذلك
بغير أمرنا فقد استحل منا ما حرم عليه، ومن أكل من أموالنا شيئا فإنما يأكل في بطنه نارا
وسيصلى سعيرا (الإحتجاج: 480).
عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من كانت عنده أمانة
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه (الكافي
7: 273، الفقيه 4: 66، عنهما الوسائل 5: 120)، موثقة لزرعة وسماعة الواقفيين.
وعن تحف العقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في خطبة حجة الوداع: أيها الناس إنما
المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه (تحف العقول: 34، عنه
الوسائل 5: 120)، مرسلة.
عن عوالي اللئالي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المسلم أخو المسلم، لا يحل ماله إلا عن طيب
نفسه (عوالي اللئالي 3: 473، عنه المستدرك 3: 331)، مرسلة.
وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه إلا بإذنه (عوالي اللئالي 1: 146، عنه
المستدرك 3: 331)، مرسلة.
236

الاستصحاب الحكم ببقائه.
وفيه مضافا إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام لمعارضته
دائما بأصالة عدم الجعل كما نقحناه في علم الأصول، أن موضوع الحكم
محرمة التصرف هو مال الغير، فإذا سقط الشئ عن المالية سقطت عنه
حرمة التصرف حتى إذا كان باقيا علي صفة المملوكية، إذ لا دليل على
حرمة التصرف في ملك الغير فكيف إذا زالت عنه الملكية أيضا.
4 - دعوى الاجماع على ذلك.
وفيه: أن دعوى الاجماع التعبدي في المسألة بعيدة جدا، فإن من
الممكن استناد المجمعين إلى الوجوه المذكورة.
5 - دلالة المرسلة المعروفة بين الفقهاء: من حاز ملك، وقوله (صلى الله عليه وآله):
من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به (1)، على وجود ذلك
الحق في الأشياء التي سقطت عنها المالية.
وفيه: أن حديث الحيازة وإن اشتهر في السنة الفقهاء وكتبهم
الاستدلالية، ولكنا لم نجده في أصول الحديث من الخاصة والعامة،

1 - عن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وآله) فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبقه
إليه مسلم فهو له، قال: فخرج الناس يتعادون يتخاطون (سنن البيهقي 6: 142).
عن سمرة بن جندب عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو أحق به
(المبسوط 3: 268 كتاب احياء الموات، عوالي اللئالي 3: 480، عنه المستدرك 17: 112)،
مرسلة.
237

الظاهر أنه قاعدة فقهية متصيدة من الروايات الواردة في الأبواب
المختلفة، كاحياء الموات والتحجير وغيرهما، كسائر القواعد الفقهية
المضروبة لبيان الأحكام الجزئية.
ولو سلمنا كون ذلك رواية أو كان بناء الفقهاء على الاستدلال
بالقاعدة، فلا دلالة فيها على ثبوت حق الاختصاص بعد زوال الملكية،
فإن الظاهر منها ليس إلا ثبوت مالكية المحيز للمحاز، وأما الزائد عن
ذلك فلا دلالة لها عليه، على أنها ضعيفة السند وغير منجبرة بشئ، فإن
الشهرة إنما تكون جابرة لضعف سند الرواية إذا علم استناد المشهور إلى
الرواية الضعيفة، ولا ريب أن استناد أكثرهم هنا أو كلهم إلى غيرها،
وإنما ذكروها للتأييد والتأكيد.
ويضاف إلى ذلك أن جبر الرواية الضعيفة بالشهرة ضعيف المبنى،
وقد أشرنا إليه في أول الكتاب.
وأما حديث السبق ففيه أولا: أنه ضعيف السند وغير منجبر بشئ
صغرى وكبرى، وثانيا: أن ما نحن فيه خارج عن حدود هذا الحديث،
فإن مورده الموارد المشتركة بين المسلمين، بأن يكون لكل واحد منهم
حق الانتفاع بها، كالأوقاف العامة من المساجد والمشاهد والمدارس
والرباط وغيرها، فإذا سبق إليها أحد من الموقوف عليهم وأشغلها
بالجهة التي انعقد عليها الوقف حرمت على غيره مزاحمته وممانعته في
ذلك، ولو عممناه إلى موارد الحيازة فإنما يدل على ثبوت الحق الجديد
للمحيز في المحاز، ولا يدل على بقاء العلقة بين المالك وملكه بعد زوال
الملكية.
ومن جميع ما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق الإيرواني من الوهن،
حيث قال: والظاهر ثبوت حق الاختصاص، أما في الحيازة فلعموم دليل
238

من سبق إلى ما لم يسبقه أحد مسلم فهو أولى به، وأما فيما إذا كان أصله
ملكا للشخص فلاستصحاب بقاء العلقة (1).
فقد علمت أن المورد ليس مما يجري فيه الاستصحاب، وأن
الحديث لا يدل على المدعى.
قوله: ثم إنه يشترط في الاختصاص بالحيازة قصد الحائز للانتفاع.
أقول: محصل كلامه أنه يشترط في الاختصاص قصد الحائز الانتفاع
بالمحاز، فلو خلت حيازته عن ذلك القصد لم يثبت له حق الاختصاص
في المحاز وجاز لغيره مع العلم بذلك أن يزاحمه في التصرفات،
ولا فرق في ذلك بين الأوقاف العامة والمباحات الأصلية.
وعليه فيشكل الأمر فيما يتعارف في أكثر البلاد من جمع العذرة
وبيعها لتسميد البساطين والزروع، فإن الظاهر بل المقطوع به أنه ليس
للشخص قصد الانتفاع بفضلاته ولم يحرزها للانتفاع بها، فيكون أخذ
المال بإزائها أخذا محرما.
ولكن التحقيق أن يقال: إن المحاز قد يكون من الأمكنة المشتركة
كالأوقاف العامة، وقد يكون من المباحات الأصلية.
أما الأول، فلا ريب في أن اختصاص الحائز به مشروط بقصد الانتفاع
على حسب ما أوقفه أهله، وإلا فلا يثبت له الاختصاص لكونه على
خلاف مقصود الواقف، ومن هنا لم يجز بيعه ولا هبته ولا إجارته
ولا استملاكه.
على أنا لو قلنا بعدم الاشتراط بذلك لجاز اشغال المساجد ومعابد
المسلمين بنحو من الحيازة، ولو بالقاء السجادة ووضع التربة ثم بيعها من

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 12.
239

المصلين، ومن البديهي أن هذا على خلاف وجهة الوقف.
نعم لو اكتفينا في ثبوت الاختصاص بمجرد قصد الحيازة ولم تشترط
فيه قصد الانتفاع وقلنا بأن حق الاختصاص بما تجوز المعاوضة عليه،
لارتفع الاشكال.
وأما الثاني، كالاحتطاب والاصطياد، فالظاهر أن الاختصاص به غير
مشروط بشئ بل يكفي فيه مجرد الحيازة الخارجية لعدم الدليل على
التقييد، ومن هنا ذهب جمع من الأصحاب ومن العامة إلى عدم
الاشتراط، ويظهر ذلك لمن يلاحظ الموارد المناسبة لما نحن فيه.
قال الشيخ في الخلاف: الأرضون الموات للإمام خاصة لا يملكها
أحد بالاحياء إلا أن يأذن له الإمام، وقال الشافعي: من أحياها ملكها إذن
له الإمام أو لم يأذن، وقال أبو حنيفة: لا يملك إلا بإذن، وهو قول مالك،
دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم (1).
ولو كان لتقييد الاختصاص بقصد الانتفاع وجه لكان ذلك موردا
للخلاف، كالتقييد بإذن الإمام.
ويؤيده عموم عموم رواية: من سبق إلى ما لا يسبقه إليه مسلم فهو
أحق به، وقاعدة الحيازة المتقدمتين.
بل يمكن استفادة الاطلاق من الأخبار المتظافرة الواردة في احياء
الموات من الأراضي.
كصحيحة محمد بن مسلم: أيما قوم أحيوا شيئا من الأرض
وعمروها فهم أحق بها وهي لهم (2).

1 - الخلاف 2: 2.
2 - التهذيب 7: 148، الإستبصار 3: 110، عنهما الوسائل 25: 411.
240

وكحسنة زرارة لإبراهيم بن هاشم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحيا مواتا فهو له (1).
وغير ذلك من الروايات من طرق الشيعة (2) ومن طرق العامة (3).
-
1 - الكافي 5: 279، عنه الوسائل 25: 412.
2 - راجع الباب: 1 من كتاب احياء الموات من الوسائل 25: 411 - 413، المستدرك
17: 111.
3 - عن عائشة أنه قال: من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها (سنن البيهقي 6: 141،
وصحيح البخاري باب من أحيا أرضا مواتا 3: 140)، وغيرها من أحاديثهم.
النوع الثاني
ما يحرم لتحريم ما يقصد به
241

القسم الأول
ما لا يقصد من وجوده على نحوه الخاص إلا الحرام
المسألة (1)
حرمة بيع هياكل العبادة المبتدعة
قوله: منها: هياكل العبادة المبتدعة.
أقول: المشهور بل المجمع عليه بين الشيعة والسنة (1) هو تحريم بيع
هياكل (2) العبادة المبتدعة، وفي المتن: بلا خلاف ظاهر، بل الظاهر

1 - في سبل السلام: وأما علة تحريم بيع الأصنام، فقيل: لأنها لا منفعة فيها مباحة،
وقيل: أن كانت بحيث إذا كسرت انتفع باكسارها جاز بيعها، والأولى أن يقال: لا يجوز بيعها
وهي أصنام للنهي ويجوز بيع كسرها إذ هي ليست بأصنام، ولا وجه لمنع بيع الاكسار أصلا
(سبل السلام 2: 317).
أقول: قد أشار بالنهي إلى رواية جابر بن عبد الله حيث ذكر النهي فيها عن بيع الأصنام،
راجع سنن البيهقي 6: 12، وصحيح البخاري 3: 110.
2 - في المسالك: الأصل في الهيكل أنه بيت للصنم، كما نص عليه الجوهري وغيره، وأما
اطلاقه على نفس الصنم فلعله من باب المجاز اطلاقا لاسم المحل على الحال (المسالك
3: 122).
وفي تاج العروس: الهيكل الضخم من كل شئ، والهيكل بيت للنصارى فيه صنم على
صورة مريم (عليها السلام) فيما يزعمون - مشى النصارى حول بيت الهيكل - زاد في المحكم فيه صورة
مريم وعيسى (عليهما السلام)، وربما يسمى ديرهم هيكلا، والهيكل البناء المشرف، قيل: هذا هو
الأصل ثم سمي به بيوت الأصنام مجازا (تاج العروس 8: 170).
242

الاجماع عليه، وقد استدل على ذلك بأمور:
1 - بما في رواية تحف العقول، من قوله (عليه السلام): فكل أمر يكون فيه
الفساد مما هو منهي عنه، وقوله (عليه السلام) فيها: إنما حرم الله الصناعة التي
هي حرام كلها التي يجي منها الفساد محضا، نظير البرابط والمزامير
والشطرنج، وكل ملهو به والصلبان والأصنام، وقوله (عليه السلام) أيضا فيها:
أو عمل التصاوير والأصنام.
وفيه أولا: أن رواية تحف العقول ضعيفة السند فلا يمكن الاستناد
إليها في الأحكام الشرعية، وقد تقدم ذلك في أول الكتاب، وثانيا: أن
النهي فيها ظاهر في الحرمة التكليفية، فلا دلالة فيها على الحرمة
الوضعية، وهذا أيضا تقدم في أول الكتاب.
2 - بأن أكل المال بإزائها أكل له بالباطل، لآية التجارة عن تراض.
وفيه: أنك عرفت مرارا عديدة أن الآية ليست عن شرائط العوضين في
شئ، وإنما هي راجعة إلى بيان أسباب المعاملات، وستعرف ذلك
أيضا فيما يأتي.
3 - بقوله تعالى: واجتنبوا الرجس من الأوثان (1)، وبقوله تعالى:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه (2)، وبقوله تعالى: والرجز فاهجر (3).

1 - الحج: 32.
2 - المائدة: 90.
3 - المدثر: 5.
243

بناء على أن بيع هياكل العبادة والاكتساب بها مناف للاجتناب
المطلق، كما أن المراد من الأنصاب هي الأوثان والأصنام (1)، والمراد من
الرجز الرجس، ومن الهجر الاجتناب.
4 - بالنبوي المشهور المجعول: أن الله إذا حرم على قوم شيئا حرم
عليهم ثمنه، وبقوله (عليه السلام) في دعائم الاسلام: نهى عن بيع الأصنام (2).
وفيه مضافا إلى ضعف السند فيهما، وعدم ثبوت النبوي على النحو
المعروف، أن الظاهر من النهي في رواية الدعائم هي الحرمة التكليفية،
والمراد اثبات ما هو أعم منها ومن الحرمة الوضعية.
5 - بأنه قد ورد المنع عن بيع الخشب ممن يجعله صليبا أو صنما (3)،

1 - في تاج العروس (1: 486): الأنصاب، وهي حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل
عليها، ويذبح لغير الله تعالى، قاله ابن سيده، واحدها نصب كعنق وأعناق، أو نصب بالضم
كقفل وأقفال، قال تعالى: والأنصاب، وقوله: وما ذبح على النصب، الأنصاب الأوثان،
وقال القتيبي: النصب صنم أو حجر، وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده فيحمر بالدم.
وفي مفردات الراغب (494): والنصيب الحجارة تنصب على الشئ، وجمعه نصائب
ونصب، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها.
وفي حديث أبي الجارود في تفسير الآية: وأما الأنصاب الأوثان التي يعبدها المشركون،
وسيأتي التعرض لهذا الحديث في البحث عن بيع آلات القمار.
2 - دعائم الاسلام 2: 18، عنه المستدرك 13: 71.
3 - ابن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه
صلبانا، قال: لا (الكافي 5: 226، التهذيب 6: 373، 7: 134، عنهما الوسائل 17: 176)، حسنة
لإبراهيم بن هاشم.
وعن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التوت أبيعه يصنع به الصليب
والصنم، قال: لا (الكافي 5: 226، التهذيب 6: 373، 7: 134، عنهما الوسائل 17: 176)،
صحيحة.
وفي بعض النسخ: عمرو بن حريز، وعليه فالرواية ضعيفة، ولكن المشهور هو الأول.
لا يخفى أنه ذكر في بعض نسخ الوسائل: أبان بن عيسى، في سند الرواية، بدل أبان عن
عيسى، فهو من سهو القلم.
244

فإذا حرم بيع الخشب لذلك، فإن بيع الصليب والصنم أولى بالتحريم،
وهذا هو الوجه الوجيه، ويؤيده قيام السيرة القطعية المتصلة إلى زمان
المعصوم (عليه السلام) على حرمة بيع هياكل العبادة.
ويؤيده أيضا وجوب اتلافها حسما لمادة الفساد، كما أتلف النبي
(صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) أصنام مكة (1)، فإنه لو جاز بيعها لما جاز اتلافها.

1 - عن ابن مسعود قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله) مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون
نصبا، فجعل يطعنها بعود يده ويقول: جاء الحق وما يبدئ الباطل جاء الحق وزهق الباطل
إن الباطل كان زهوقا (سنن البيهقي 6: 101، ورواه البخاري ومسلم).
عن أبي هريرة قال: قال لي جابر بن عبد الله: دخلنا مع النبي (صلى الله عليه وآله) مكة وفي البيت وحوله
ثلاثمائة وستون صنما، فأمر بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فألقيت كلها لوجوهها، وكان على البيت صنم
طويل يقال له: هبل، فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) وقال له: يا علي تركب على أو أركب
عليك لألقي هبل عن ظهر الكعبة، قلت: يا رسول الله بل تركبني، فلما جلس على ظهري
لم أستطع حمله لثقل الرسالة، قلت: يا رسول الله بل أركبك، فضحك ونزل وطأطأ لي ظهره
واستويت عليه، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو أردت أن أمسك السماء لمسكتها بيدي،
فألقيت هبل عن ظهر الكعبة، فأنزل الله تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل (البحار
38: 76، والآية في الاسراء: 18).
وعن أحمد بن حنبل وأبي بكر الخطيب في كتابيهما ما يقرب من ذلك.
وعن أحمد بن حنبل وأبي يعلى الموصلي في مسنديهما، وأبي بكر الخطيب في تاريخه،
ومحمد بن الصباح الزعفراني في الفضائل، والخطيب الخوارزمي في أربعينه في تفسير قوله
تعالى: ورفعناه مكانا عليا، أنه في صعود علي (عليه السلام) على ظهر النبي (صلى الله عليه وآله) لقلع الصنم
(البحار 38: 75 - 85).
راجع مسند أحمد بن حنبل 1: 84 و 151، كنز العمال عن مسند أبي يعلى 6: 407، تاريخ
بغداد للخطيب 13: 302، السنن للبيهقي 3: 247، المناقب للخوارزمي: 71، شواهد التنزيل
للحسكاني 1: 350، الخصائص للنسائي: 31، ينابيع المودة للقندوزي: 139، وذخائر العقبى
للطبري: 85، والمستدرك للحاكم 2: 367.
245

بحث وتتميم:
إن كيفيات الأشياء وأوصافها محسوسة كانت أم غير محسوسة، وإن
كانت بحسب الدقة الفلسفية من مقولة الأعراض إلا أنها في نظر العرف
المبني على المسامحة والمساهلة منقسمة إلى قسمين:
1 - أن يكون النظر إلى الأشياء أنفسها بالأصالة، وإلى أوصافها بالتبع
لفنائها في المعروض واندكاكها فيه، ومثال ذلك الأعراض التي هي من
لوازم الوجود كالألوان، ومن هذا القبيل أيضا الليرات العثمانية التي
ألغيت عن الرواج والذهب والفضة غير المسكوكين.
2 - أن يكون النظر فيها إلى الهيئة والصورة بالأصالة وإلى المادة
والهيولي بالتبع، لكون الأوصاف معدودة من الصور النوعية في نظر
العرف، وذلك كالأشكال التي يكون عليها مدار التسمية والعنوان في
الخارج، كما في الكأس والكوز ونحوهما، من أن موادها من جنس
واحد ومن هذا القبيل الفرش والثوب ونحوهما.
أما القسم الأول، فالمالية فيها من ناحية المواد، لأن أوصافها خارجة
عن حدود الرغبات التي هي من علل ثبوت المالية في المرغوب فيه.
وأما القسم الثاني، فالمالية فيها لخصوص الهيئات لخروج موادها عن
حريم المالية وحدودها، لكونها إما مرغوبا عنها كالنقود الرائجة
المضروبة من القراطيس، أو مغفولا عنها في قبال الهيئة للتبعية
والاندكاك.
ومن هنا اتضح أن المالية إنما تقوم بمواد الأشياء، أما للرغبة فيها
246

أنفسها وأما للميل إلى هيئاتها، وأما للاشتياق إليهما معا، ولا تضر بذلك
استحالة عراء المادة عن هيئة ما كما لا يخفى.
وقد اتضح أن المراد بالصورة النوعية هنا هي العرفية دون العقلية
المبحوث عنها في طبيعيات الفلسفة، وأن بينهما عموما من وجه.
إذ قد يكون الوصف من الصور النوعية العرفية مع كونه في نظر العقل
من الأعراض كالرجولة والأنوثة، فإنهما وإن كانا عرضين للانسان إلا أنهما في نظر العرف من الصور النوعية، فالعبد والأمة نوعان في نظر
العرف وإن كانا بالنظر الدقيق صنفين من طبيعة واحدة.
وقد ينعكس الأمر فيكون ما هو من الصور النوعية في نظر العقل من
الأعراض في نظر العرف، وذلك كالثوبين المنسوج أحدهما من الحرير
والآخر من الفنتاز، فإنهما عند العقل ماهيتان متبائنتان وفي نظر العرف
حقيقة واحدة لا تعدد فيها.
وقد يجتمعان كالفراشين المنسوجين بنسج واحد ومن جنس واحد،
والكأسين المصوغين بصياغة واحدة ومن فلز واحد.
وإذا عرفت ما تلوناه عليك نقول: الملحوظ استقلالا في بيع الصليب
والصنم إن كانت هي الهيئات العارية عن المواد، إما لعدم مالية المواد
المصنوع من الخزف أو لكونها مغفولا عنها، فلا شبهة في حرمة بيعها
وضعا وتكليفا، لوقوع البيع في معرض الاضلال، ولتمحض المبيع في
جهة الفساد، وانحطاطه عن المالية لحرمة الانتفاع بهما بالهيئة الوثنية
ولذا وجب اتلافها.
وإن كان الملحوظ في بيعهما هي المواد مجردة عن الصورة الوثنية إلا
باللحاظ التبعي غير المقصود، فلا اشكال في صحة بيعهما لآية التجارة
وسائر العمومات، لأن البيع والمبيع لم يتصفا بجهة من الجهات
المبغوضية المنهي عنها.
247

وإن كان المقصود من البيع هي المواد والهيئة معا، كما إذا كانا
مصنوعين من الجواهر النفيسة أو الأشياء الثمينة فلا اشكال في حرمة
البيع وضعا وتكليفا، كالصورة الأولى، لعموم أدلة المنع عن البيع لهذا
الغرض أيضا.
لا يقال: إذا كان كل من الهيئة والمادة ملحوظا في البيع كان المورد من
صغريات بيع ما يملك وما لا يملك، كبيع الخل مع الخمر، وبيع الشاة
مع الخنزير في صفقة واحدة، وحكم ذلك أن يقسط الثمن عليهما،
وسيأتي، ويثبت للمشتري خيار تخلف الشرط لفوات الانضمام، وعلى
ذلك فلا وجه للحكم بالبطلان.
فإنه يقال: إن الانحلال والتقسيط وإن كانا بحسب الكبرى موافقين
للتحقيق إلا أن الاشكال في صحة الصغرى، لأن الهيئة الوثنية في
الصليب والصنم كالصورة النوعية للمادة في نظر العرف، فلا تكونان في
الخارج إلا شيئا واحدا، فلا موضع هنا للانحلال والتقسيط، كما
لا موضع لهما في المادة والصورة العقليتين عند التخلف، بأن يحكم
بالصحة في المادة السيالة المسماة بالهيولى الأولى لأنها محفوظة في
جميع الأشياء، وإن تبادلت عليها الصور وبالبطلان في الهيئة، لأن
المقصود منها غير واقع والواقع منها غير مقصود، ويتبع ذلك تقسيط
الثمن عليها بالنسبة.
ووجه الفساد أن المادة والهيئة ليستا من الأجزاء الخارجية لكي تنحل
المعاملة الواحدة إلى معاملات متكثرة حسب تكثر أجزاء المبيع،
فالمعاملة عليهما واحدة لاتحاد متعلقها خارجا والكثرة إنما هي تحليلية
عقلية، ولازم ذلك أن المعاملة إذا بطلت في جزء بطلت في الجميع،
فلا منشأ للانحلال والتقسيط، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الصورة
عقلية أو عرفية.
248

لا يقال: إن بيع المادة مع قصد الصورة الوثنية وإن كان موجبا للبطلان،
إلا أن اشتراط اعدام الهيئة وفنائها يوجب صحة البيع وترتب الأثر عليه،
لجواز الانتفاع بأجزائها بعد الكسر لأنها ليست بأصنام.
فإنه يقال: إذا تحقق موضوع الحرمة وترتب عليه الحكم لم يؤثر هذا
الاشتراط في الجواز، لأن الشئ لا ينقلب عما هو عليه.
ثم لا يخفى أنه لو اتصف شئ من آلات الصنايع كالمكائن ونحوها
بصورة الوثنية لكان داخلا في الأعيان ذات المنافع المحللة والمحرمة،
وسيأتي الكلام عليها، ولو قلنا بجواز بيعها باعتبار منافعها المحللة فإنما
هو فيما إذا أوجبت هذه المنافع ماليتها مع قطع النظر عن المنافع الأخرى
المحرمة وعن لحاظ الجهة الوثنية، وإلا فلا وجه لتوهم جواز البيع.
قوله: لو أتلف الغاصب لهذه الأمور ضمن موادها.
أقول: قد عرفت أنه يجب اعدام الصورة الوثنية، وعليه فإن كانت
لأبعاضها المكسورة قيمة، كما إذا كانت مصوغة من الذهب أو الفضة
فلا يجوز اتلافها بموادها، بل يجب اتلافها بهيئتها فقط، ولو أتلفت
بموادها ضمنها المتلف لمالكها إلا أن يتوقف اتلاف الهيئة على اتلاف
المادة، وإن لم تكن لرضاضها قيمة فلا مانع من اتلاف المادة أيضا مع
الهيئة.
لا يقال: إن توقف اتلاف الهيئة على اتلاف المادة لا ينافي ضمان
المادة إذا كانت لها قيمة، كما أن جواز أكل طعام الغير بدون إذنه في
المجاعة والمخمصة لا ينافي ضمان ذلك الطعام.
فإنه يقال: الفرق واضح بين المقامين، إذ الباعث إلى أكل طعام الغير في
المخمصة إنما هو الاضطرار الموجب لإذن الشارع في ذلك، وأما هياكل
العبادة فإن الباعث إلى اتلافها ليس إلا خصوص أمر الشارع بالاتلاف
فلا يستتبع ضمانا.
249

المسألة (2)
حرمة بيع آلات القمار
قوله: ومنها القمار.
أقول: قد اتفقت كلمات الأصحاب على حرمة بيع آلات القمار، بل
في المستند (1) دعوى الاجماع عليها محققا بعد أن نفى عنها الخلاف أولا.
ثم إن مورد البحث هنا سواء كان من حيث حرمة البيع أم من حيث
وجوب الاتلاف ما يكون معدا للمقامرة والمراهنة، كالنرد والشطرنج
ونحوهما، مما يعد آلة قمار بالحمل الشايع، وإلا فلا وجه لحرمة بيعه
وإن أنفقت المقامرة به في بعض الأحيان كالجوز والبيض ونحوهما، كما
لا يجوز اتلافه لكونه تصرفا في مال الغير بغير إذن منه ولا من الشارع،
نعم يجب نهي المقامرين بذلك عن المقامرة إذا اجتمعت فيه شرائط
النهي عن المنكر.
ويظهر حكم هذه المسألة مما أسسناه في المسألة السابقة، من
الضابطة الكلية في حرمة بيع ما قصدت منه الجهة المحرمة، فلا يحتاج
إلى التكرار، على أن حرمة البيع هنا قد دلت عليها جملة من الأخبار.
منها: رواية أبي الجارود الدالة على حرمة بيع آلات القمار وحرمة
الانتفاع بها (2).

1 - المستند 2: 335.
2 - عن علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله
عز وجل: إنما الخمر والميسر، وأما الخمر فكل مسكر من الشراب - إلى أن قال: - وأما
الميسر فالنرد والشطرنج وكل قمار ميسر، وأما الأنصاب فالأوثان التي كانت تعبدها
المشركون، وأما الأزلام فالأقداح التي كانت تستقسم بها المشركون من العرب في الجاهلية،
كل هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشئ من هذا حرام من الله محرم، وهو رجس من عمل
الشيطان، وقرن الله الخمر والميسر مع الأوثان (تفسير القمي 1: 180، عنه الوسائل 17: 321)،
ضعيفة لأبي الجارود، وهو زياد بن منذر، نعم إن قلنا بوثاقة رجال كامل الزيارات فهو ثقة.
250

ومنها: قوله (عليه السلام) في رواية أبي بصير: بيع الشطرنج حرام، وأكل
ثمنه سحت (1).
ومنها: ما في حديث المناهي: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع النرد (2).
ومورد الخبرين الأخيرين وإن كان خصوص بعض الآلات، ولكن يتم
المقصود بعدم القول بالفصل بين آلات القمار المعدة لذلك.
ثم إنه قد ورد في جملة من أحاديث العامة الأمر بكسر النرد
واحراقها (3)، فتدل على حرمة بيعها، لأن ما لا يجوز الانتفاع به لا يجوز
بيعه عندهم، وقد تقدم ذلك في البحث عن جواز الانتفاع بالنجس،
وسيأتي التعرض له في المسألة الآتية.

1 - محمد بن إدريس في آخر السرائر نقلا عن جامع البزنطي عن أبي بصير، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: بيع الشطرنج حرام، وأكل ثمنه سحت، واتخاذها كفر، واللعب بها شرك،
والسلام على اللاهي بها معصية، وكبيرة موبقة (مستطرفات السرائر: 59، عنه الوسائل
17: 323)، صحيحة.
2 - وعن الصدوق بإسناده عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) في المناهي
قال: ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع النرد (الفقيه 4: 4، عنه الوسائل 17: 325).
قال المحدث النوري في خاتمة المستدرك في الفائدة الخامسة من الخاتمة في شرح مشيخة
الفقيه: فالخبر ضعيف على المشهور لجهالة بعض رواته، ولكن تلوح من متنه آثار الصدق، و
ليس فيه من آثار الوضع علامة، والله العالم.
3 - راجع سنن البيهقي 10: 216.
251

قوله: وفي المسالك (1) أنه لو كان لمكسورها قيمة.
أقول: قال في التذكرة: ما أسقط الشارع منفعته لا نفع له فيحرم بيعه،
كآلات الملاهي وهياكل العبادة المبتدعة، كالصليب والصنم، وآلات
القمار كالنرد والشطرنج، إن كان رضاضها لا يعد مالا، وبه قال الشافعي،
وإن عد مالا فالأقوى عندي الجواز مع زوال الصفة المحرمة (2).
وذكر المصنف: أن أراد بزوال الصفة زوال الهيئة فلا ينبغي الاشكال
في الجواز، ولا ينبغي جعله محلا للخلاف بين العلامة والأكثر.
وفي حاشية السيد: لعله أراد بزوال الصفة عدم مقامرة الناس به
وتركهم له، بحيث خرج عن كونه آلة القمار وإن كانت الهيئة باقية (3).
ويرد على التوجيهين أن ظاهر عبارة العلامة أن الحرمة الفعلية لبيع
الأمور المذكورة تدور مدار عدم صدق المالية على اكسارها، وتوجيهها
بما ذكره المصنف أو بما ذكره السيد (قدس سرهما) بعيد عن مساق كلامه جدا.
نعم يحتمل وقوع التحريف في كلامه بالتقديم والتأخير، بأن تكون
العبارة: وإن عد مالا مع زوال الصفة المحرمة، فالأقوى عندي الجواز،
فيكون ملخص كلامه جواز البيع إذا كانت المادة من الأموال.
أو يوجه بتقدير المضاف بين كلمة مع وكلمة زوال، بأن يكون التقدير:
فالأقوى عندي الجواز مع اشتراط زوال الصفة المحرمة.
وكيف كان فهو أعرف بمرامه، ولا ندري ما الذي فهم منه المسالك
حتى استحسنه.

1 - المسالك 3: 122.
2 - التذكرة 1: 465.
3 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 5.
252

قوله: ثم إن المراد بالقمار مطلق المراهنة بعوض.
أقول: في مجمع البحرين (1): أصل القمار الرهن على اللعب بشئ،
وربما أطلق على اللعب بالخاتم والجوز، وسيأتي التعرض لحقيقة
القمار والميسر والأزلام، والتعرض لبيان أن المحرم هو مطلق المراهنة
والمغالبة أو المغالبة مع العوض في مسألة حرمة القمار.
المسألة (3)
حرمة بيع آلات الملاهي
قوله: ومنها آلات اللهو على اختلاف أصنافها.
أقول: اتفق فقهائنا بل الفقهاء كافة (2) ظاهرا على حرمة بيع آلات
الملاهي وضعا وتكليفا، بل في المستند (3) دعوى الاجماع على ذلك
محققا.

1 - مجمع البحرين 3: 463.
2 - في شرح فتح القدير: إذا كان أحد العوضين أو كلاهما محرما فالبيع فاسد.
وفي فقه المذاهب الأربعة (2: 166) عن الشافعية: أن من شرائط المعقود عليه أن يكون
منتفعا به شرعا.
وفي فقه المذاهب (2: 167) عن الحنفية: لا ينعقد بيع كل ما لا يباح الانتفاع به شرعا.
وفي فقه المذاهب (2: 168) عن المالكية: من شرائط المعقود عليه أن يكون منتفعا به
شرعا، فلا يصح بيع آلة اللهو.
وفقه المذاهب (3: 175): تحرم إجارة آلات الطرب وثمنها.
أقول: لا شبهة في ظهور كلمات هؤلاء بل صراحة بعضها في حرمة بيع آلات الملاهي، فإن
الانتفاع بها حرام في الشريعة المقدسة بالاتفاق، ولا ينافي ذلك لما سيأتي في البحث عن حرمة
الغناء من ذهاب العامة إلى جواز الغناء في نفسه.
3 - المستند 2: 335.
253

وقد يستدل على ذلك بالروايات العامة المتقدمة في أول الكتاب،
ولكنه فاسد لما فيها من ضعف السند والدلالة، وظهورها في الحرمة
التكليفية كما عرفت.
والذي ينبغي أن يقال: إن الروايات قد تواترت من طرقنا ومن طرق
العامة على حرمة الانتفاع بآلة اللهو في الملاهي والمعازف (1)، وأن
الاشتغال بها والاستماع إليها من الكبائر الموبقة والجرائم المهلكة، وإن
ضربها ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الخضرة، ويتسلط عليه
شيطان ينزع منه الحياء، وأنه من عمل قوم لوط، وفي سنن البيهقي:
يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير.
بل من الوظائف اللازمة كسرها واتلافها حسما لمادة الفساد، وليس
في ذلك ضمان بالضرورة، وفي بعض أحاديث العامة: أن رجلا كسر
طنبورا لرجل فرفعه إلى شريح فلم يضمنه (2).
إذن فالمسألة من صغريات الضابطة الكلية التي ذكرناها في البحث عن
حرمة بيع هياكل العبادة المبتدعة، وعليه فالحق هو حرمة بيع آلات
اللهو وضعا وتكليفا، على أنه ورد في الحديث ما يدل على حرمة بيع
آلات الملاهي وشرائها وحرمة ثمنها والتجارة فيها، ولكنه ضعيف
السند (3).

1 - سنتعرض لهذه الأخبار المنقولة من الفريقين في البحث عن حرمة الغناء.
2 - راجع سنن البيهقي 6: 101.
3 - ذكر الشيخ أبو الفتوح في تفسيره عن أبي أمامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الله
بعثني هدى ورحمة للعالمين، وأمرني أن أمحو المزامير والمعازف، والأوتار والأوثان،
وأمور الجاهلية - إلى أن قال: - إن آلات المزامير شراؤها وبيعها وثمنها والتجارة بها حرام
(تفسير أبو الفتوح الرازي 4: 269، عنه المستدرك 13: 219)، مرسلة.
254

لا يخفى أن موضوع الحرمة هنا هي آلة اللهو، وقد حقق في محله أن
المضاف إليه خارج عن حدود المضاف، فلا يعد جزء له إلا أنه داخل فيه
بنحو الاشتراط والتقييد، وحيث إن معرفة الحكم فرع معرفة الموضوع
بقيوده وشؤونه فلا بد هنا من العلم بحقيقة اللهو، وسيأتي التعرض له في
محله (1).
ومن أوضح مصاديقه ما هو مرسوم اليوم من تغني أهل الفسوق
ولهوهم بالراديوات وغيرها من آلات الملاهي.
المسألة (4)
حكم بيع آنية الذهب والفضة
قوله: ومنها أواني الذهب والفضة.
أقول: مفهوم الإناء أمر معلوم لكونه من المفاهيم العرفية، وهو ما
يكون معدا للأكل والشرب، جمعه آنية وأوان، والظرف أعم منه،
ومجمل القول هنا:
إن النهي عن آنية الذهب والفضة إن كان مختصا بالأكل أو الشرب فيها،
وكانت محرمة الاستعمال في خصوصهما، كما اتفق عليه الفقهاء كافة (2)،

1 - يأتي في المسألة العشرين.
2 - قال صاحب الجواهر في أواخر كتاب الطهارة: لا يجوز الأكل والشرب في آنية من
ذهب أو فضة اجماعا منا (الجواهر 6: 328)، وعلى هذا النهج كثير من الأصحاب.
وفي فقه المذاهب: فيحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة، فلا يحل لرجل أو امرأة أن يأكل
أو يشرب فيها، وكذلك لا يحل الطيب منها أو الأدهان أو غير ذلك، وكما يحرم استعمالها يحرم
اقتناؤها بدون استعمال (فقه المذاهب الأربعة 2: 16)، وغير ذلك من كلمات العامة.
255

واستفاضت الروايات بينهم من الفريقين (1)، فلا شبهة في جواز بيعها لسائر
الجهات المحللة، ومنها اقتناؤها لأنحاء الاستعمالات وأقسام التزينات
غير الأكل والشرب فيها.
وهكذا الحكم لو كان المستفاد من الروايات هو حرمة استعمالها على
وجه الاطلاق كما ادعى عليه الاجماع أيضا وذكر النهي عنه في بعض
الأحاديث (2)، إذ لا يعم ذلك مثل التزين، لعدم صدق الاستعمال عليه
فيجوز بيعها لذلك.
وإن كان المستفاد حرمة جميع منافعها وجميع أنحاء التقلب
والتصرف فيها حتى التزين بها، فلا ريب في حرمة المعاوضة عليها مطلقا
، لكونها مما يجئ منها الفساد محضا، وتكون من صغريات الكبرى
المتقدمة في البحث عن حرمة بيع هياكل العبادة المبتدعة.
وقد استدل على هذا الاحتمال الأخير بقوله (عليه السلام): آنية الذهب
والفضة متاع الذين لا يوقنون (3).
وفيه مضافا إلى ضعف السند في الرواية أنها ناظرة إلى الجهة
الأخلاقية، فلا تكون مدركا في الأحكام الفرعية، وتفصيل الكلام في
كتاب الطهارة.

1 - راجع الكافي 6: 267، التهذيب 9: 91، المحاسن: 581، الوسائل 3: 505 - 508، سنن
البيهقي 1: 27.
2 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): نهى عن استعمال أواني الذهب والفضة (درر اللئالي 1: 115،
عنه المستدرك 2: 598)، مرسلة.
3 - عن موسى بن بكر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: آنية الذهب والفضة - الخ (الكافي
2: 268، المحاسن: 582، عنهما الوسائل 3: 507)، ولكن ما في الكافي ضعيف لسهل، وما في
المحاسن ضعيف لعبد الله بن المغيرة.
256

المسألة (5)
حكم بيع الدراهم المغشوشة
قوله: ومنها الدراهم الخارجة المعمولة لأجل غش الناس.
أقول: لا شبهة في حرمة غش المؤمن في البيع والشراء وضعا
وتكليفا، وسنذكر ذلك عند التعرض لحرمة الغش، وإنما الكلام هنا يقع
في ناحيتين: الأولى جواز الانتفاع بها في التزين وفي دفعه إلى العشار في
المكوس والكمارك وإلى الظالم وعدم جوازه، الثاني جواز المعاوضة
عليها وعدم جوازها.
أما الناحية الأولى، فقد استدل على الحرمة بروايات:
منها: ما في رواية الجعفي (1) من الأمر بكسر الدرهم المغشوش، فإنه
لا يحل بيعه ولا انفاقه.
وفيه: أن الأمر فيها ليس تكليفيا ليجب كسره ويحرم تركه، بل هو
ارشاد إلى عدم صحة المعاوضة عليها وعدم جواز أداء الحقوق الواجبة
منها، ويدل على ذلك من الرواية تعليل الإمام (عليه السلام) الأمر بالكسر بأنه

1 - عن المفضل بن عمر الجعفي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فألقى بين يديه دراهم،
فألقى إلى درهما منها، فقال: أيش هذا، فقلت: ستوق، فقال: وما الستوق، فقلت: طبقتين فضة
وطبقة من نحاس وطبقة من فضة، فقال: اكسرها، فإنه لا يحل بيع هذا ولا انفاقه (التهذيب
7: 109، الإستبصار 3: 97)، ضعيفة لعلي بن الحسن الصيرفي.
قال في الوافي: الستوق - بالضم والفتح معا وتشديد التاء - وتستوق - بضم التاء - الزيف
البهرج الملبس بالفضة طبقتين فضة، الصواب طبقة من فضة، وكأنه مما صحفه النساخ، وحمل
منع انفاقه في التهذيبين على ما إذا لم يبين أنه كذلك فيظن الأخذ أنه جيد (الوافي، الباب: 101
انفاق الدراهم 10: 88).
257

لا يحل بيعه ولا انفاقه، إذ من البديهي أن الصد عن بيعه وانفاقه في الخارج
لا ينحصر في الكسر بل يحصل بغيره أيضا.
ومنها: ما في رواية موسى بن بكر (1)، من أن الإمام (عليه السلام) قطع الدينار
المغشوش بنصفين وأمره بالقائه في البالوعة حتى لا يباع ما فيه غش،
إذ لو جاز الانتفاع به في وجه لما قطعه بنصفين.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند وغير منجبرة بشئ.
وثانيا: أن فعله (عليه السلام) وإن كان حجة كسائر الأمارات الشرعية كما حقق
في محله، إلا أن ذلك فيما تكون وجهة الفعل معلومة، وعليه فلا يستفاد
من الرواية أكثر من الجواز الشرعي، ويكون مؤداها الإرشاد إلى عدم نفوذ
المعاملة عليه لوجود الغش فيه.
والشاهد على ذلك من الرواية قوله (عليه السلام): حتى لا يباع شئ فيه
غش، بل الظاهر أنه كان غشا محضا وإلا لما أمر الإمام (عليه السلام) بالقائه في
البالوعة، لكون هذا الفعل من أعلى مراتب الاسراف والتبذير، ومن هنا
ظهر ما في رواية دعائم الاسلام (2)، من حكمه (عليه السلام) بقطع الدرهم
المغشوش.
وأما الناحية الثانية، فتوضيح الكلام فيها: أن للدراهم المغشوشة
حالتين: الأولى أن تكون رائجة بين الناس حتى مع العلم بالغش كالدراهم
الرائجة في زماننا، والثانية أن لا تكون رائجة بينهم.

1 - عن موسى بن بكر قال: كنا عند أبي الحسن (عليه السلام) فإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر
إلى دينار فأخذه بيده، ثم قطعه بنصفين، ثم قال لي: ألقه في البالوعة حتى لا يباع شئ فيه
غش (الكافي 5: 160، التهذيب 7: 12، عنهما الوسائل 17: 280)، ضعيفة للارسال وللحسن بن
علي بن أبي عثمان.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في الستوق وهو المطبق عليه الفضة وداخل نحاس: يقطع و
لا يحل أن ينفق (دعائم الاسلام 2: 29، عنه المستدرك 13: 351)، مرسلة.
258

أما الحالة الأولى، فلا شبهة في جواز المعاوضة على الدراهم
المذكورة، لأن الغرض الأصيل منها أعني الرواج غير تابع لخلوص
المواد ونقائها من الغش، بل هو تابع لاعتبار سلطان الوقت لها وجريان
القانون الحكومي عليه، من غير فرق بين اغتشاش المادة وخلوصها، نعم
إذا سقطت عن الاعتبار فلا تجوز المعاوضة عليها من دون اعلام.
أما الحالة الثانية، فإن المعاوضة قد تقع على الدرهم الكلي ثم يدفع
البايع الدرهم المغشوش عند الاقباض، وقد تقع على شخص الدرهم
الخارجي المغشوش، فعلى الأول لا وجه للبطلان أيضا، ولا خيار
للمشتري، بل يجبر البايع على التبديل، فإن حصل التبديل فيها وإلا كان
للمشتري الخيار، وعلى الثاني فقد يكون المتعاملان كلاهما عالمين
بالغش، وقد يكونان جاهلين به، وقد يكونان مختلفين.
أما الصورة الأولى، فلا ريب في إباحة البيع تكليفا ونفوذه وضعا
للعمومات، ودعوى أن الغش مانع عن صحة البيع للأخبار المتظافرة
الآتية في البحث عن حرمة الغش دعوى جزافية، ضرورة خروج هذه
الصورة عن موردها خروجا تخصصيا، إذ الغش إنما يتقوم بعلم الغار
وجهل المغرور، وقد فرضنا علم المتبايعين بالحال.
والتمسك لذلك بروايتي الجعفي وموسى بن بكر المتقدمتين، بدعوى
ظهورهما في حرمة بيع الدراهم والدنانير المغشوشة توهم فاسد، فإن
الروايتين وإن كانتا ظاهرتين في ذلك ولكن يجب حملهما على الكراهة
لصراحة ما دل من الروايات (1) على جواز البيع مع علم المتبايعين بالحال.

1 - عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها
النحاس أو غيره ثم يبيعها، قال: إذا بين ذلك فلا بأس (الكافي 5: 253، التهذيب 7: 109، الإستبصار 3: 97، عنهم الوسائل 18: 185)، صحيحة.
عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمان الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): اشترى الشئ
بالدراهم فأعطى الناقص الحبة والحبتين، قال: لا، حتى تبينه - الحديث (الفقيه 3: 141،
التهذيب 7: 110، عنهما الوسائل 18: 187).
قال المحدث النوري في خاتمة المستدرك عند التعرض لمشيخة التهذيب: وإلى محمد بن
أبي عمير ثلاث طرق حسنات فهي المشيخة والفهرست، وعليه فالرواية المذكورة حسنة.
259

وأما الصورة الثانية، فالتحقيق فيها: أن الكلام تارة يقع في الحرمة
التكليفية، وأخرى في الحرمة الوضعية، أما الحرمة التكليفية، فمنفية
جزما لفقد موضوعها - وهو الغش - مع جهل المتبايعين، وأما الحرمة
الوضعية بمعنى عدم نفوذ البيع.
فتوضيح الحال فيها يتوقف على مقدمة قد أوضحناها في البحث عن
بيع هياكل العبادة، وتعرض المصنف لها في خيار تخلف الشرط،
ولا بأس هنا بالإشارة إليها اجمالا، وملخصها: أن القيود في المبيع سواء
كانت من قبيل الأوصاف أو الشروط إما صور نوعية عرفية أو جهات
كمالية.
فإن كانت من القبيل الأول فلا ريب في بطلان البيع مع التخلف، كما إذا
اشترى جارية على أنها شابة جميلة فظهرت عبدا شائبا كريه الوجه، أو
اشترى صندوقا فظهر أنه طبل.
ووجه البطلان أن ما جرى عليه العقد غير واقع وما هو واقع لم يجر
عليه العقد، فإن ما تعلقت به المعاملة وإن اتحد في الحقيقة مع ما تسلمه
المشتري إلا أنهما في نظر العرف متبائنان ولا يقسط الثمن على المادة
والهيئة، لتبطل المعاملة فيما قابل الهيئة وتنفذ فيما قابل المادة، كما
يتجزأ فيما إذا باع ما يملك وما لا يملك صفقة واحدة، كالشاة مع
260

الخنزير، وذلك لما عرفت من فساد الانحلال والتقسيط فيما إذا كانت
الكثرة تحليلية عقلية.
وإن كانت من القبيل الثاني فلا وجه للبطلان بل يثبت خيار تخلف
الشرط، كما إذا باع عبدا على أنه كاتب فبان أنه غير كاتب، أو باع كبشا
فظهر أنه نعجة، والوجه في ذلك هو أن الفائت ليس إلا من الأوصاف
الكمالية فلا يوجب تخلفه إلا الخيار.
ففي المقام، إذا باع درهما على أنه مسكوك بسكة السلطان، فبان أنه
مسكوك بسكة التاجر بطل البيع لكون الاختلاف بينهما من الاختلاف في
الصور النوعية، وأما لو باع درهما على أنه طازج فبان أنه عتيق، فإن البيع
صحيح وإنما يثبت للمشتري خيار تخلف الشرط.
ومن هنا ظهر ما في كلام المصنف من الوهن، حيث أثبت خيار
التدليس مع تفاوت السكة، ووجه الوهن هو أن الملحوظ إن كان هي
المادة المجردة فلا بطلان ولا خيار، وإن كان هي مع الهيئة أو الهيئة
المحضة فلا مناص عن البطلان.
نعم لو كان الملحوظ هي المادة المجردة وكان التفاوت بكثرة الخليط
وقلته لثبت خيار العيب، إلا أنه غير مفروض المصنف.
وأما الصورة الثالثة، فتارة يفرض علم البايع بالغش دون المشتري
وأخرى بالعكس، أما الأولى فهو من أوضح مصاديق الغش في المعاملة
ويجري فيه جميع ما ذكرناه في الصورة الثانية، وأما الثاني فلا مانع من
نفوذ البيع فيه وضعا وإباحته تكليفا للعمومات.
وتوهم أن الغش مانع عن النفوذ مندفع بما ذكرناه من تقومه بعلم البايع
وجهل المشتري والمفروض عكسه.
قوله: وهذا بخلاف ما تقدم من الآلات.
261

أقول: أراد بذلك إبداء الفرق بين بيع آلات اللهو والقمار وبيع الدراهم
المغشوشة، بدعوى استحالة صحته في الآلات، لأن المادة والهيئة
أجزاء تحليلية عقلية فلا تقابل المادة بجزء من الثمن والهيئة بجزء آخر
منه ليحكم بصحة البيع في المادة وبفساده في الهيئة، بل إذا بطل في جزء
بطل في الجميع وإذا صح في جزء صح في الجميع، والتقسيط إنما يكون
في الأجزاء الخارجية، كتقسيط الثمن على الخل والخمر إذا بيعا صفقة
واحدة، وهذا بخلاف الدراهم المغشوشة، لنفوذ المعاملة فيها مع
الخيار إلا إذا وقع عنوان المعاوضة على الدراهم المنصرف اطلاقه إلى
المسكوك بسكة السلطان، فإن البيع حينئذ يبطل إذا بان الخلاف.
وفيه: أن التزامه بالانحلال والتقسيط في الأجزاء الخارجية إذا ظهر
الخلاف وعدم التزامه بهما في آلات اللهو والقمار وسائر ما كان التعدد
فيه بالتحليل العقلي متين ومن الوضوح بمكان، إلا أن الحال في الدراهم
أيضا كذلك، فإذا كان الاختلاف من جهة السكة لا يمكن التصحيح من
جهة المادة والابطال من جهة الهيئة، وأما الصورة الأخرى التي يصح
البيع فيها مع الخيار أو مع عدمه فلا جامع بينها وبين آلات القمار ليحتاج
إلى إبداء الفارق بينهما.
ومن المحتمل أن هذه العبارة قد حررها النساخ في غير موضعها
اشتباها، والله العالم.
قوله: وهذا الكلام مطرد في كل قيد فاسد.
أقول: الشروط سواء كانت صحيحة أم فاسدة لا تقابل بجزء من الثمن،
كما سيأتي بيان ذلك في بابها، وعليه فتخلفها لا يوجب إلا الخيار حتى
على مسلك المصنف، ودعوى الخصوصية في المورد جزافية.
262

القسم الثاني
ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة
المسألة (1)
حكم بيع العنب على أن يعمل خمرا
قوله: القسم الثاني: ما يقصد منه المتعاملان المنفعة المحرمة.
أقول: أراد به تقسيم ما يقصد من بيعه الحرام إلى ثلاثة أقسام وبيان
حكم كل منها على حدة، ومنشأ القسمة هو:
أن المنفعة المحرمة التي يقصدها المتعاملان أما أن تكون تمام
الموضوع في المعاوضة، بحيث يرجع مفادها إلى بذل المال بإزاء تلك
المنفعة المحرمة لا غير، كالمعاوضة على العنب بشرط التخمير فقط،
وعلى الخشب بشرط صنعه صنما فحسب، وأما أن تكون بنحو الداعي
إلى المعاوضة من دون اشتراط فيها، كالمعاملة على العنب ليجعله خمرا
من غير اشتراط لذلك في المعاوضة، وأما أن تكون جزء الموضوع،
بحيث يرجع مفاد المعاوضة إلى ضم الغاية المحرمة للغاية المحللة
وبذل المال بإزائهما، كبيع الجارية المغنية إذا لوحظ بعض الثمن بإزاء
صفة الغناء، فهنا مسائل ثلاث.
ثم إن الوجوه المذكورة جارية في الإجارة أيضا، بل هي تزيد على
البيع بوجه رابع، وهو أن يؤجر نفسه لفعل الحرام كالزنا والنميمة
والغيبة والقتل والافتراء، ومن هذا القبيل إجارة الجارية المغنية للتغني.
263

قوله: الأولى: بيع العنب على أن يعمل خمرا والخشب على أن يعمل صنما.
أقول: ادعى في المستند (1) وفي متاجر الجواهر (2) وغيرهما عدم
الخلاف بل الاجماع على حرمة الإجارة والبيع بل كل معاملة وتكسب
للمحرم، سواء اشترطاه في العقد أم حصل اتفاق المتبايعين عليه،
كإجارة المساكن والحمولات للخمر، وركوب الظلمة واسكانهم للظلم،
وبيع العنب والتمر وغيرهما مما يتخذ منه المسكر ليعمل خمرا، أو
الخشب ليعمل صنما أو بربطا.
وإلى هذا القول ذهب بعض أهل الخلاف (3)، بل هو ظاهر جميعهم،
لنصهم على حرمة الإجارة للأمور المحرمة، وسيأتي، ولا فرق في ذلك
بين الإجارة وسائر المعاملات.
وكيف كان، فالكلام يقع في ناحيتين: الأولى في جواز بيع المباح على
أن يجعل حراما وعدم جوازه، والثانية في بيان أقسام ما يقصد من إجارته
الحرام وذكر أحكامه.
أما الناحية الأولى، فالذي يمكن الاستدلال به على حرمة البيع وجوه:
1 - إن بيع الأشياء المباحة على أن تصرف في الحرام، كبيع العنب
للتخمير، وبيع الخشب لجعله صنما أو آلة لهو، إعانة على الإثم، بل في
المستند (4) أنه معاونة على الإثم المحرم كتابا وسنة واجماعا.

1 - المستند 2: 336.
2 - جواهر الكلام 22: 31.
3 - في فقه المذاهب الأربعة: المالكية قالوا بحرمة بيع الدكان ليباع فيه الخمر ونحوها مما
يفسد العقل، أو يتخذ بيوتا للدعارة، أو محلا للفسق أو نحو ذلك (فقه المذاهب الأربعة
3: 176).
4 - المستند 2: 336.
264

وفيه أولا: أن الكبرى ممنوعة إلا في موارد خاصة كما سيأتي.
وثانيا: أنك علمت في بعض المباحث أن بين عنوان البيع وعنوان
الإعانة على الإثم عموما من وجه، لتقوم مفهوم الإعانة بالاقباض
والتسليط الخارجي على العين ولو بغير عنوان البيع، مع العلم بصرفها في
الحرام، وإن كان ينطبق عنوان الإعانة على البيع في بعض الأحيان،
وعليه فلا تستلزم حرمة الإعانة على الإثم حرمة البيع في جميع الموارد.
وثالثا: أن حرمة المعاوضة لو سلمت لا تدل على فساد المعاملة
وضعا، لأنها حرمة تكليفية محضة.
ورابعا: لو قلنا بدلالة النهي التكليفي على فساد المعاملة فإن ذلك فيما
إذا كانت المعاملة بعنوانها الأولى موردا للنهي كبيع الخمر لا بعنوانها
العرضي كما في المقام، وهذا لا ينافي ما سلكناه في بعض المباحث
وأشرنا إليه فيما سبق، من كون النواهي في باب المعاملات ارشادا إلى
الفساد كالنهي عن البيع الغرري كما أنها في أبواب الصلاة ارشاد إلى
المانعية، فإن ذلك فيما لم تقصد المولوية التكليفية من النهي كالنهي عن
بيع الخمر.
وخامسا: أن تخلف الشروط الصحيحة إنما يوجب الخيار للمشترط
لأن الشروط لا تقابل بجزء من الثمن، وقد حققناه في محله، والتزم به
المصنف في باب الشروط، ومن الواضح أن الشروط الفاسدة لا تزيد
على الصحيحة في ذلك فلا يسري فساد الشرط إلى العقد، ودعوى
امتياز المورد عن بقية الشروط الفاسدة موهونة جدا.
ولو سلمنا أن للشروط حصة من الثمن فيقسط عليها وعلى المشروط
فإنما هو في الشروط التي تجعل على البائع، كأن يشترط المشتري عليه
في ضمن العقد خياطة ثوبه أو بناية داره أو نجارة بابه ونحوها،
265

مما يوجب زيادة الثمن، وأما الشروط التي تجعل على المشتري، كأن
يشترط البائع عليه صرف المبيع في جهة خاصة سواء أكانت محرمة أم
محللة فلا تقابل بشئ من الثمن.
وإذن فاشتراط البائع على المشتري صرف المبيع في الحرام لا يوجب
فساد البيع حتى على القول بالتقسيط.
2 - إن ذلك أكل للمال بالباطل فهو حرام لآية التجارة.
وفيه أولا: ما عرفته مرارا وستعرفه، من أن الآية الشريفة مسوقة لبيان
الضابطة الكلية في الأسباب الصحيحة والأسباب الفاسدة للمعاملات
وأن شرائط العوضين خارجة عن حدودها.
وثانيا: ما عرفته مرارا أيضا، من أن الشروط لا تقابل بجزء من الثمن
ليلزم من فسادها أكل المال بالباطل، وإنما هي مجرد التزامات لا يترتب
على مخالفتها إلا الخيار.
3 - دعوى الاجماع على الحرمة.
وفيه مضافا إلى عدم حجية الاجماع المنقول، أن دعوى الاجماع
التعبدي في المقام موهونة جدا، لامكان استناد المجمعين إلى الوجوه
المذكورة في المسألة.
4 - ما ذكره في المستند (1)، من كونه بنفسه فعلا محرما، لما بينا في
موضعه أن فعل المباح بقصد التوصل به إلى الحرام محرم.
وفيه: أنا لو قلنا بحرمة مقدمة الحرام فإنما ذلك في المقدمات التي
لا يمكن التفكيك بينها وبين ذي المقدمة، بحيث لا يتمكن المكلف بعد
ايجاد المقدمة عن ترك ذي المقدمة فيعاقب على ذلك.

1 - المستند 2: 336.
266

ومن الضروري أن بيع المباح بقصد التوصل به إلى الحرام أو بشرط
صرفه فيه ليس علة لايجاده، وإنما هو من الدواعي والتخلف فيها ليس
بعزيز.
5 - ما توهم من شمول أدلة النهي على المنكر للمقام، بدعوى أنه إذا
وجب النهي عن المنكر لرفعه فإن النهي عنه لدفعه أولى بالوجوب.
وفيه: أنا لو استفدنا من الأدلة وجوب النهي عن المنكر لدفعه لأمكن
الالتزام بوجوب النهي عنه لرفعه بالفحوى، وأما العكس فلا، ولو
أغمضنا عن ذلك فهو إنما يتم إذا علم البائع بأن المشتري يصرف المبيع
في الحرام على حسب الاشتراط وإلا فلا مقتضى للوجوب، على أن
مقتضاه إنما هو مجرد التكليف والنهي التكليفي في المعاملات
لا يقتضي الفساد.
قوله: خبر جابر (1).
أقول: لا وجه لذكره في المقام إلا من جهة اتحاد حكم البيع والإجارة
فيما نحن فيه، وإلا فهو أجنبي عن البيع وصريح في حرمة الإجارة للغاية
المحرمة كما سيأتي.
وأما الناحية الثانية، فقد علمت أن ما يقصد من إجارته الحرام يكون
على أربعة أقسام:
1 - أن يكون متعلق الإجارة من الأمور المحرمة، كأن يؤجر نفسه
للعمل الحرام، وهذا لا شبهة في حرمته من حيث الوضع والتكليف،

1 - عن جابر - وفي التهذيب: صابر - قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته
فيباع فيه الخمر، قال: حرام أجره (الكافي 5: 227، التهذيب 6: 371، 7: 134، الإستبصار
3: 55، عنهم الوسائل 17: 174)، مجهولة لجابر، وعلى نسخة التهذيب حسنة، فإن صابر من
الحسان.
267

بللا نعرف فيه خلافا من الشيعة والسنة (1) إلا ما يظهر مما نسب إلى
أبي حنيفة في بعض الفروع (2)، وقد عرفت في معنى حرمة البيع أن نفس
أدلة المحرمات كافية في حرمة هذا القسم من الإجارة، إذ هي تقتضي
الانزجار عنها، ومقتضى العمومات هو وجوب الوفاء بالعقد، وهما
لا يجتمعان، ولعل المقصود من خبر جابر الآتي هو هذا القسم أيضا.
2 - أن يشترط المؤجر على المستأجر أن ينتفع بالعين المستأجرة
بالمنافع المحرمة من دون أن يكون أصل الايجار للحرام، كاستئجار
الثياب والحلى والأمتعة والخيام والسيارات وسائر الحمولة بشرط
الانتفاع بها بالجهات المحرمة.

1 - في المبسوط للسرخسي: ولا تجوز الإجارة على شئ من الغناء والنوح والمزامير
والطبل وشئ من اللهو، لأنه معصية، والاستئجار على المعاصي باطل، فإن بعقد الإجارة
يستحق تسليم المعقود عليه شرعا، ولا يجوز أن يستحق على المرء فعل به يكون عاصيا شرعا
(المبسوط 16: 38).
وفي فقه المذاهب: المالكية قالوا من جملة الإجارات الممتنعة الإجارة على تعليم الغناء،
فإنها لا تصح، وكلما لا يباح لا يصح تأجيره، ومن ذلك أجرة آلات الطرب (فقه المذاهب
الأربعة 3: 175).
وفيه: لا يصح الاستئجار على المعاصي مثل الغناء والنوح والملاهي، كاستئجار بعض
الفارغين من الشبان ليقوموا بأناشيد سخيفة، ويتبادلون في مجلسهم الخمور والمحرمات، فإن
استئجارها كبيرة لا يحل لمسلم أن يفعلها (فقه المذاهب الأربعة 3: 169).
وفي الهداية: ولا يجوز الاستئجار على الغناء والنوح وكذا سائر الملاهي، لأنه استئجار
على المعصية، والمعصية لا تستحق بالعقد (الهداية 7: 180).
2 - في أحكام القرآن للجصاص: في تسمية الله المهر أجرا دليل على صحة قول
أبي حنيفة فيمن استأجر امرأة فزنا بها، أنه لا حد عليه، لأن الله تعالى قد سمى المهر أجرا، فهو
كمن قال: أمهرك كذا، وقد روي نحوه عن عمر بن الخطاب، ومثل هذا يكون نكاحا فاسدا،
لأنه بغير شهود (أحكام القرآن للجصاص 2: 178).
268

المشهور بيننا وبين العامة (1) عدم جواز ذلك، إلا أن الظاهر أن المسألة
من صغريات الشرط الفاسد، وبما أنك علمت اجمالا وستعلم تفصيلا أن
فساد الشرط لا يستلزم فساد العقد ولا يسري إليه فلا موجب لفساد
الإجارة من ناحية الشرط المذكور.
وقد يستدل على الفساد برواية جابر (2)، حيث حكم الإمام (عليه السلام) فيها
بحرمة الأجرة في رجل آجر بيته فيباع فيه الخمر.
وفيه مضافا إلى ضعف السند فيها، أولا: أنها أجنبية عن اشتراط
الانتفاع بالعين المستأجرة في الحرام، إذ لا داعي للمسلم أن يؤاجر بيته
ويشترط على المستأجر أن ينتفع منها بالمنافع المحرمة، بل موردها
فرض العلم بالانتفاع المحرم من غير شرط.

1 - في المبسوط للسرخسي: إذا استأجر الذمي من المسلم بيتا ليبيع فيه الخمر لم يجز،
لأنه معصية فلا ينعقد العقد عليه، ولا أجر له، وعند أبي حنيفة والشافعي يجوز هذا العقد لعدم
ورود العقد على بيع الخمر بل على منفعة البيت، فله أن يبيع فيه شيئا آخر (المبسوط
للسرخسي 16: 38).
وفي فقه المذاهب: إجارة الدكان ليباع فيه الخمر ونحوها مما يفسد العقل أو يضر بالبدن،
فإنها لا تصح، وكذلك إجارة المنازل للدعارة والفسق (فقه المذاهب 3: 176).
وفي شرح فتح القدير: وقد صرح محمد في الجامع الصغير بأنه لا بأس عند أبي حنيفة أن
تؤاجر بيتك ليتخذ فيه بيت نار أو كنيسة أو بيعه، أو يباع الخمر فيه بالسواد (شرح فتح القدير
8: 129).
2 - عن جابر - وفي التهذيب: صابر - قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يؤاجر بيته
فيباع فيه الخمر، قال: حرام أجره (الكافي 5: 227، التهذيب 6: 371، 7: 134، الإستبصار
3: 55، عنهم الوسائل 17: 174)، مجهولة لجابر، وعلى نسخة التهذيب حسنة، فإن صابر من
الحسان.
269

وثانيا: أنها محمولة على الكراهة، لمعارضتها بحسنة ابن أذينة (1) الدالة
على جواز ايجار الحمولة لحمل الخمر والخنازير.
وجمع المصنف بينهما بأن رواية ابن أذينة محمولة على ما إذا اتفق
الحمل من غير أن يؤخذ ركنا أو شرطا في العقد، بتقريب أن خبر جابر
نص فيما نحن فيه وظاهر في هذا، وأن حسنة ابن أذينة بالعكس، فيطرح
ظاهر كل منهما بنص الآخر.
وفيه: أنه قد تقدم في البحث عن بيع العذرة أن المتيقن الخارج عن مقام
التخاطب من الدليلين لا يصحح الجمع الدلالي بينهما ما لم يساعده
شاهد من النقل والاعتبار، وإنما هو تبرعي محض.
ومن هنا اندفع ما في التهذيب (2)، من أنه إنما حرم إجارة البيت لمن يبيع
الخمر لأن بيع الخمر حرام وأجاز إجارة السفينة يحمل فيها الخمر، لأن
حملها ليس بحرام، لأنه يجوز أن يحمل ليجعل خلا، وعلى هذا
لا تنافي بين الخبرين، على أنه ذكر في الحسنة جواز حمل الخمر
والخنازير، وما ذكره من التوجيه في حمل الخمر لا يجري في حمل
الخنازير.
وقد يتوهم عدم نفوذ الإجارة وضعا وحرمتها تكليفا لرواية دعائم
الاسلام (3) الظاهر فيهما.

1 - ابن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته ودابته ممن
يحمل عليها أو فيها الخمر والخنازير، قال: لا بأس (الكافي 5: 227، التهذيب 6: 372،
الإستبصار 3: 55، عنهم الوسائل 17: 174)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
2 - التهذيب 6: 372.
3 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: من اكترى دابته أو سفينته، فحمل عليها المكتري خمرا أو خنازير أو ما يحرم، لم يكن على صاحب الدابة شئ، وإن تعاقدا على حمل ذلك
فالعقد فاسد، والكري على ذلك حرام (دعائم الاسلام 2: 78، عنه المستدرك 13: 121)،
مرسلة.
270

ولكنه توهم فاسد، لأن هذه الرواية ضعيفة السند وغير منجبرة
بشئ، فلا تفي لاثبات المقصود، على أنها معارضة بالحسنة المذكورة،
فتحمل على الكراهة.
ثم إنه بفحوى ما ذكرناه ظهر حكم القسم الثالث والرابع، أعني صورة
العلم بترتب الحرام على الإجارة من غير أن يجعل شرطا في العقد أو
داعيا إليها، وصورة أن يكون ترتب الحرام داعيا لإنشاء المعاملة،
ويتضح ذلك وضوحا من المسألة الثانية والرابعة.
قوله: بل الأظهر فساده وإن لم نقل بافساد الشرط الفاسد.
أقول: قد سمعت كون المسألة من صغريات الشرط الفاسد، ودعوى
الخصوصية فيها وامتيازها عن سائر الشروط الفاسدة مجازفة.
قوله: مع أن الجزء أقبل للتفكيك بينه وبين الجزء الآخر من الشرط والمشروط.
أقول: جواز الانحلال والتقسيط في الأجزاء الخارجية وإن كان
صحيحا كما أشرنا إليه، وسيأتي تفصيله في بيع ما يملك وما لا يملك،
إلا أنه غير صحيح في الأجزاء التحليلية العقلية، فإن الانحلال في ذلك
باطل جزما.
ومن ذلك يظهر أن بطلان بيع الآلات اللهوية لا يستلزم بطلان البيع
فيما إذا كان الشرط حراما، فإن الثمن في باب الشرط إنما جعل بإزاء نفس
المال فقط وليس للشرط حصة من الثمن ليقاس ببيع الآلات المحرمة.
271

المسألة (2)
حكم بيع الجارية المغنية
قوله: المسألة الثانية: يحرم المعاوضة على الجارية المغنية.
أقول: محصل كلامه أن الصفات سواء كانت محللة أم محرمة قد تكون
داعية إلى المعاوضة ولا دخل لها في المعاوضة بأكثر من ذلك، وقد
تكون دخيلة في ازدياد الثمن فيها، وقد تكون أجنبية عنها أصلا.
أما الأول والثالث فلا ريب في صحة المعاوضة فيهما، لأن المفروض
أن الصفة المحرمة لم توجب زيادة في الثمن، وكذا الثاني لو كانت الصفة
الموجبة لازدياد الثمن هي الصفة المحللة، وأما لو كان الموجب للزيادة
هي الصفة المحرمة فلا شبهة في فساد المعاوضة حينئذ، كملاحظة صفة
التغني في بيع الجارية المغنية، والمهارة في القمار، والسرقة واللهو في
بيع العبد، ووجه الفساد أن بذل شئ من الثمن بملاحظة الصفة المحرمة
أكل للمال بالباطل.
وأما التفكيك بين القيد والمقيد فيحكم بصحة العقد في المقيد
وبطلانه في القيد بما قابله من الثمن فتوهم فاسد، لأن القيد أمر معنوي
لا يوزع عليه شئ من المال.
أقول: تحقيق المسألة في جهتين: الأولى من حيث القواعد، والثانية
من حيث الروايات.
أما الجهة الأولى، فالقاعدة تقتضي صحة المعاوضة في جميع الوجوه
المذكورة لوجهين:
1 - أن بعض الأعمال كالخياطة ونحوها وإن صح أن تقع عليه
المعاوضة وأن يقابل بالمال إذا لوحظ على نحو الاستقلال، إلا أنه إذا
272

لوحظ وصفا في ضمن المعاوضة فإنه لا يقابل بشئ من الثمن، وإن كان
بذل المال بملاحظة وجودها، وعليه فحرمة الصفة لا تستلزم حرمة
المعاوضة في الموصوف، وإنما هي كالشروط الفاسدة لا توجب إلا
الخيار.
2 - لو سلمنا أن الأوصاف تقابل بجزء من الثمن فإن ذلك لا يستلزم
بطلان المعاملة، إذ الحرام إنما هي الأفعال الخارجية من التغني والقمار
والزنا دون القدرة عليها التي هي خارجة عن اختيار البشر، على أنه قد
ورد في الآيات والأحاديث أن قدرة الانسان على المحرمات قد توجب
كونه أعلى منزلة من الملائكة.
فإن الانسان يحتوي على القوة القدسية التي تبعث إلى الطاعة والقوة
الشهوية التي تبعث إلى المعصية، فإذا ترك مقتضى الثانية وانبعث
بمقتضى الأولى فقد حصل على أرقى مراتب العبودية، وهذا بخلاف
الملك فإنه لاختصاصه بالقوة الروحية والملكة القدسية الباعثة إلى
الطاعة والرادعة عن المعصية ولعرائه عن القوة الأخرى الشهوية
لا يعصى الله، فيكون الانسان الكامل أفضل من الملك، وتفصيل الكلام
في محله.
وأما الجهة الثانية، فقد استفاضت الروايات من الشيعة (1) والسنة (2) على

1 - عن الوشاء قال: سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) عن شراء المغنية، فقال: قد تكون للرجل
الجارية تلهيه وما ثمنها إلا ثمن كلب، وثمن الكلب سحت، والسحت في النار (الكافي
5: 120، التهذيب 6: 357، الإستبصار 3: 61، عنهم الوسائل 17: 124)، ضعيفة لسهل بن زياد
وغيره.
محمد الطاهري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات، فقال:
شراؤهن وبيعهن حرام، وتعلمهن كفر، واستماعهن نفاق (الكافي 5: 120، التهذيب 6: 356،
الإستبصار 3: 61، عنهم الوسائل 17: 124)، ضعيفة للطاهري وسهل وغيرهما.
أبو البلاد قال: أوصى إسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنيات أن نبيعهن ونحمل ثمنهن
إلى أبي الحسن (عليه السلام)، قال إبراهيم: فبعت الجواري بثلاثمائة ألف درهم وحملت الثمن إليه،
فقلت: إن مولى لك يقال له إسحاق بن عمر، قد أوصى عند موته ببيع جوار له مغنيات وحمل
الثمن إليك، وقد بعتهن، وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم، فقال: لا حاجة لي فيه، أن هذا سحت
، وتعليمهن كفر، والاستماع منهن نفاق، وثمنهن سحت (الكافي 5: 120، التهذيب 6: 357،
الإستبصار 3: 61، عنهم الوسائل 17: 123)، مرسلة.
عن أبي البلاد قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): جعلت فداك أن رجلا من مواليك عنده
جوار مغنيات قيمتهن أربعة عشر ألف دينار وقد جعل لك ثلثها، فقال: لا حاجة لي فيها، أن
ثمن الكلب والمغنية سحت (قرب الإسناد: 125، عنه الوسائل 17: 123)، صحيحة.
عن إسحاق بن يعقوب في التوقيعات - إلى أن قال (عليه السلام): - وثمن المغنية حرام (اكمال
الدين: 483، عنه الوسائل 17: 123)، مجهولة لمحمد بن عصام الكليني.
عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يحل بيع المغنيات، وشراؤهن وثمنهن حرام (لب اللباب،
مخطوط، عنه المستدرك 13: 92)، مرسلة.
عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه نهى عن بيع المغنيات، وشرائهن، والتجارة فيهن، وأكل ثمنهن (عوالي
اللئالي 2: 244، عنه المستدرك 13: 92)، مرسلة.
2 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا تبتاعوا المغنيات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن،
ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام، وفي مثل هذا الحديث نزلت: ومن الناس من
يشتري لهو الحديث - الآية (سنن البيهقي 6: 14).
عن مجاهد في تفسير الآية: هو اشتراؤه المغني والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه
وإلى مثله من الباطل (سنن البيهقي 6: 14).
273

حرمة بيع الجواري المغنيات وكون ثمنهن سحتا كثمن الكلب، وأكثر
هذه الروايات وإن كان ضعيف السند ولكن في المعتبر منها غنى وكفاية.
وقد يتوهم وقوع المعارضة بينها وبين ما دل على جواز البيع والشراء
274

للتذكير بالجنة وطلب الرزق كروايتي الدينوري (1) والصدوق (2).
وفيه أولا: أنهما ضعيفتا السند وغير منجبرتين بشئ،
وثانيا: أن رواية الصدوق خارجة عن محل الكلام أصلا، فإن
المفروض فيها شراء الجارية التي لها صوت، ومورد البحث هنا بيع
الجارية المغنية وبينهما بون بعيد، وأما رواية الدينوري فهي راجعة إلى
البيع والشراء لطلب الرزق وتحصيله فقط لا سوى ذلك فلا يكون حراما،
على أن المحرم إنما هو التغني الخارجي، وأما مجرد القدرة عليه فليس
بحرام جزما.
ثم الظاهر من الأخبار المانعة هو أن الحرام إنما هو بيع الجواري
المغنية المعدة للتلهي والتغني، كالمطربات اللاتي يتخذن الرقص
حرفة لهن ويدخلن على الرجال، إذ من الواضح جدا أن القدرة على
التغني كالقدرة على بقية المحرمات ليست بمبغوضة ما لم يصدر الحرام
في الخارج كما عرفت، على أن نفعها لا ينحصر بالتغني لجواز الانتفاع
بها بالخدمة وغيرها.
ومع الاغضاء عن جميع ذلك أن بيعها بقصد الجهة المحرمة لا يكون
سببا لوقوع الحرام، لبقاء المشتري بعد على اختياره في أن ينتفع بها
بالمنافع المحرمة إن شاء أو بالمنافع المحللة، وعليه فلا موجب لحرمة

1 - عن عبد الله بن الحسن الدينوري قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): جعلت فداك فاشترى
المغنية أو الجارية تحسن أن تغني أريد بها الرزق لا سوى ذلك، قال: اشتر وبع (التهذيب
6: 387، عنه الوسائل 17: 122)، مجهولة للدينوري.
2 - عن الصدوق قال: سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت،
فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست
بغناء، فأما الغناء فمحظور (الفقيه 4: 42، عنه الوسائل 17: 122)، مرسلة.
275

البيع إلا من جهة الإعانة على الإثم، وهي بنفسها لا تصلح للمانعية.
قال السيد (رحمه الله) في حاشيته على المتن: ويمكن الاستدلال بقوله (عليه السلام)
في حديث تحف العقول: أو شئ يكون فيه وجه من وجوه الفساد،
خصوصا بقرينة تمثيله بالبيع بالرباء، وذلك لأن المبيع في بيع الرباء ليس
مما لا يجوز بيعه بل الوجه في المنع هو خصوصية قصد الرباء، ففي
المقام أيضا الجارية من حيث هي ليست مما لا يجوز بيعها لكن لو قصد
بها الغناء يصدق أن في بيعها وجه الفساد (1).
وفيه مضافا إلى وهن الحديث من حيث السند، أنه لا مورد للقياس لأن
البيع الربوي حرام لذاته وبيع الجارية لو كان حراما فإنما هو حرام لأجل
قصد التغني، فالحرمة عرضية والقياس مع الفارق.
حرمة كسب المغنية:
لا بأس بالإشارة إلى حكم كسب المغنية وإن لم يتعرض له المصنف،
فنقول:
أنه ورد في جملة من الروايات عدم جواز كسب المغنية وأنها ملعونة
وملعون من أكل من كسبها (2)، فيدل ذلك على حرمة كسبها وضعا وتكليفا،

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 7.
2 - أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات، فقال: التي يدخل عليها
الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عز وجل: ومن الناس
من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله (الكافي 5: 119، التهذيب 6: 358، الإستبصار
3: 62، عنهم الوسائل 17: 120، والآية في لقمان: 6)، ضعيفة لعلي بن أبي حمزة بن سالم
البطائني.
وعنه عن عبد الله (عليه السلام) قال: المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها (الكافي
5: 120، التهذيب 6: 357، الإستبصار 3: 62، عنهم الوسائل 17: 121)، مجهولة لحكم الحناط.
وعنه قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، وليست
بالتي يدخل عليها الرجال (الكافي 5: 120، الفقيه 3: 98، التهذيب 6: 357، الإستبصار 3: 62،
عنهم الوسائل 17: 124)، صحيحة.
النصر بن قابوس قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: المغنية ملعونة، ملعون من أكل كسبها (
الكافي 5: 120، التهذيب 6: 357، الإستبصار 3: 61، عنهم الوسائل 17: 124)، حسنة لإسحاق
بن إبراهيم.
في فقه الرضا (عليه السلام): كسب المغنية حرام (فقه الرضا (عليه السلام): 33، عنه المستدرك 13: 91)،
ضعيفة.
وكذلك في المقنع مرسلا (المقنع: 122، الهداية: 80، عنهما المستدرك 13: 91).
276

على أنه يكفي في الحرمة جعلهن الأفعال المحرمة موردا للتكسب
كالتغني والدخول على الرجال وغيرهما، لما علمت سابقا من أن أدلة
صحة العقود ووجوب الوفاء بها مختصة بما إذا كان العمل سائغا في
نفسه، فلا وجه لرفع اليد بها عن دليل حرمة في نفسه.
نعم لو دعين لزف العرائس ولم يفعلن شيئا من الأفعال المحرمة
فلا بأس بكسبهن، وقد ورد ذلك في رواية أبي بصير وذكرناها في
الهامش، ومن جميع ما ذكرناه ظهر حكم الرجل المغني أيضا.
المسألة (3)
حكم بيع العنب ممن يجعله خمرا
قوله: المسألة الثالثة: يحرم بيع العنب ممن يعمله خمرا بقصد أن يعمله - الخ.
أقول: قد وقع الخلاف بين الفقهاء في جواز بيع الأشياء المباحة ممن
يعلم البائع أنه يصرفه في الحرام وعدم جوازه.
277

ففي المختلف (1): إذا كان البائع يعلم أن المشتري يعمل الخشب صنما
أو شيئا من الملاهي حرم بيعه، وإن لم يشترط في العقد ذلك، لنا أنه قد
اشتمل على نوع مفسدة فيكون محرما لأنه إعانة على المنكر.
ونقل عن ابن إدريس جواز ذلك لأن الوزر على من يجعله كذلك
لا على البائع.
وفصل المصنف (رحمه الله) بين ما لم يقصد منه الحرام فحكم بجواز بيعه
وبينما يقصد منه الحرام فحكم بحرمته لكونه إعانة على الإثم فتكون
محرمة بلا خلاف، وقد وقع الخلاف في ذلك بين العامة أيضا (2).
أما ما ذكره المصنف (رحمه الله) من التفصيل فيرد عليه أولا: أن مفهوم الإعانة
على الإثم والعدوان كمفهوم الإعانة على البر والتقوى أمر واقعي،
لا يتبدل بالقصد ولا يختلف بالوجوه والاعتبار.
وثانيا: لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم ما لم يكن التسبيب
والتسبب في البين كما سيأتي.

1 - المختلف: 676.
2 - في سنن البيهقي أفتى بكراهة بيع العصير ممن يعصر الخمر، والسيف ممن يعصى الله
عز وجل (سنن البيهقي 5: 327).
وفي المبسوط للسرخسي: ولا بأس ببيع العصير ممن يجعله خمرا، لأن العصير مشروب
طاهر حلال، فيجوز بيعه وأكل ثمنه، ولا فساد في قصد البائع، إنما الفساد في قصد المشتري،
ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكره ذلك أبو يوسف ومحمد استحسانا، لكونه إعانة على المعصية،
وذلك حرام (المبسوط للسرخسي 24: 26).
وفي شرح فتح القدير: ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا، لأن المعصية
لا تقام بعينه بل بعد تغييره (شرح فتح القدير 8: 127).
وفي فقه المذاهب الأربعة عن الحنابلة: كلما أفضى إلى محرم فهو حرام (فقه المذاهب
الأربعة 2: 52).
278

وثالثا: إنا إذا سلمنا حرمة البيع مع قصد الغاية المحرمة لصدق الإعانة
على الإثم عليه فلا بد من الالتزام بحرمة البيع مع العلم بترتب الحرام
أيضا، لصدق الإعانة على الإثم عليه أيضا، وإن قلنا بالجواز في الثاني من
جهة الأخبار المجوزة فلا بد من القول بالجواز في الأول أيضا، لعدم
اختصاص الجواز الذي دلت عليه الأخبار بفرض عدم القصد.
ورابعا: إنا لم نستوضح الفرق بين القسمين، فإن القصد بمعنى الإرادة
والاختيار يستحيل أن يتعلق بالغاية المحرمة في محل الكلام، لأنها من
فعل المشتري، إذ هو الذي يجعل العنب خمرا والخشب صنما،
فلا معنى لفرض تعلق القصد بالغاية المحرمة، وأما القصد بمعنى العلم
والالتفات فهو مفروض الوجود في القسمين، فلا وجه للتفصيل بينهما.
نعم يمكن أن يكون الداعي إلى بيع البائع هو ترتب الغاية المحرمة تارة
وغير ذلك تارة أخرى مع العلم بترتبها في الخارج، ولكن هذا لا يكون
سببا في اختلاف صدق الإعانة عليهما، لأن دعوة الحرام إلى الفعل ليست
شرطا في صدق الإعانة على الإثم، وهو واضح، إذن فلا وجه للتفصيل
المذكور في كلام المصنف.
ثم إن تحقيق هذه المسألة يقع تارة من حيث الروايات، وأخرى من
حيث القواعد.
أما الصورة الأولى، فالكلام فيها من جهتين: الأولى في الحرمة
الوضعية، والثانية في الحرمة التكليفية.
1 - ربما يقال بفساد المعاوضة مع العلم بصرف المبيع أو الانتفاع بالعين
المستأجرة في الجهة المحرمة، لخبر جابر المتقدم: عن الرجل يؤاجر
بيته فيباع فيه الخمر، قال: حرام أجرته، فإنه لا وجه لحرمة الأجرة إذا
كانت المعاملة صحيحة، وبعدم القول بالفصل بين الإجارة والبيع يتم
المقصود.
279

وفيه مضافا إلى ضعف السند فيه واختصاصه بالإجارة، أنه لا بد من
حمله على الكراهة لمعارضته بحسنة ابن أذينة المتقدمة التي دلت على
جواز إجارة الحمولة لحمل الخمر والخنازير.
2 - قد يقال بحرمة البيع تكليفا لما دل من الأخبار على حرمة بيع
الخشب ممن يتخذه صلبانا، وقد تقدم ذكرها في البحث عن بيع آلة اللهو،
وبعدم القول بالفصل بين موردها وغيره يتم المطلوب.
ولكن يعارضها ما ورد من الأخبار المتظافرة (1) الدالة على جواز بيع

1 - أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه
أو يجعله خمرا، قال: إذا بعته قبل أن يكون خمرا فهو حلال فلا بأس (الكافي 5: 231، التهذيب
7: 136، الإستبصار 3: 105، عنهم الوسائل 17: 229)، ضعيفة لقاسم بن محمد الجوهري.
محمد الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بيع عصير العنب ممن يجعله حراما، فقال:
لا بأس به، تبيعه حلالا فيجعله حراما، أبعده الله وأسحقه (الكافي 5: 231، التهذيب 7: 136،
الإستبصار 3: 105، عنهم الوسائل 17: 229)، صحيحة.
ابن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن
يعلم أنه يجعله خمرا أو سكرا؟ فقال: إنما باعه حلالا في الابان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس
ببيعه (الكافي 5: 231، عنه الوسائل 17: 230)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
في القاموس: السكر - محركة - الخمر ونبيذ يتخذ من التمر، وفيه أيضا: أبان الشئ -
بالكسر والتشديد - حينه أو أوله.
يزيد بن خليفة الحارثي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله رجل وأنا حاضر قال: إن لي
الكرم، قال: تبيعه عنبا، قال: فإنه يشتريه من يجعله خمرا، قال: بعه إذن عصيرا، قال: إنه
يشتريه مني عصيرا فيجعله خمرا في قربتي - وفي الوافي: قريتي - قال: بعته حلالا فجعله
حراما فأبعده الله، ثم سكت هنيئة، ثم قال: لا تذرن ثمنه عليه حتى يصيره خمرا فتكون تأخذ
ثمن الخمر (التهذيب 7: 138، الإستبصار 3: 106، عنهم الوسائل 17: 231)، ضعيفة ليزيد المذكور.
عن أبي بصير قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن بيع العصير فيصير خمرا قبل أن يقبض الثمن،
قال: فقال: لو باع ثمرته ممن يعلم أنه يجعله حراما لم يكن بذلك بأس، فأما إذا كان عصيرا
فلا يباع إلا بالنقد (الكافي 5: 230، التهذيب 7: 138، الإستبصار 3: 106، عنهم الوسائل
17: 229)، سند الكافي ضعيف لسهل وسند التهذيب صحيح.
أبو المعزى قال: سأل يعقوب الأحمر أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر، فقال: أصلحك الله أنه
كان لي أخ وهلك وترك في حجري يتيما ولي أخ يلي ضيعة لنا وهو يبيع العصير ممن يصنعه
خمرا - إلى أن قال (عليه السلام): - وأما بيع العصير ممن يصنعه خمرا فليس به بأس، خذ نصيب اليتيم
منه (التهذيب 7: 196 عنه الوسائل 17: 231)، صحيحة.
أقول: أبو المعزى هو حميد بن المثنى العجلي الكوفي الثقة، والمعزى - بكسر الميم
وسكون العين وفتح الزاء المعجمة - بمعنى المعز، وهو خلاف الضأن، وقد وقع الخلاف في
كتابته أنه بالمد كحمراء أو بالقصر كحبلى، فذهب إلى كل فريق، ولكن الظاهر من كتب اللغة هو
الثاني.
وإلى غير ذلك من الروايات.
عن أبي عبد الله (عليه السلام): جوز بيع العصير ونحوه ممن يصنعه خمرا (دعائم الاسلام 2: 19،
عنه المستدرك 13: 185).
280

العنب والتمر وعصيرهما ممن يجعلها خمرا بدعوى عدم الخصوصية
في مواردها، لعدم القول بالفصل بين هذه الموارد وبين غيرها، إذ لو قيل
بالجواز قيل به مطلقا وإلا فلا.
وقد يوجه ما ذكر في روايتي رفاعة وأبي كهمس (1) من بيعهم (عليهم السلام)
تمرهم ممن يجعله خمرا، بأن يراد من لفظ الخمر فيهما العصير المغلي

1 - وفي رواية أبي كهمس المتقدمة في البحث عن بيع العصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): هو
ذا نحن نبيع تمرنا ممن نعلم أنه يصنعه خمرا (الكافي 5: 232، عنه الوسائل 17: 231)، مجهولة
لأبي كهمس.
رفاعة قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر عن بيع العصير ممن يخمره، فقال: حلال
ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا (التهذيب 7: 136، الإستبصار 3: 105، عنهما الوسائل
17: 231)، صحيحة.
281

ولم يذهب ثلثاه، فإن ظاهر غير واحدة من الروايات أن شربه كان متعارفا
في زمان الصادق (عليه السلام)، إذ من المستبعد جدا أنهم (عليهم السلام) يبيعون تمرهم
في كل سنة ممن يصنعه خمرا.
وفيه: أن استعمال الخمر في العصير المغلي مجازا وإن صح إلا أنه
لا يمكن الالتزام به مع عراء الكلام عن القرينة المجوزة، على أن هذا
الحمل إنما يصح على القول بنجاسة عصير التمر أو بحرمته بعد غليانه،
ولم يثبت شئ منهما، بل الظاهر طهارته وإباحته ما لم يكن مسكرا،
وعليه فلا مجوز لاطلاق لفظ الخمر أو الشراب الخبيث عليه.
قال المصنف: فالأولى حمل الأخبار المانعة على الكراهة لشهادة غير
واحد من الأخبار على الكراهة، كما أفتى به جماعة (1) ويشهد له رواية
رفاعة عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا، قال: بعه ممن يطبخه أو يصنعه
خلا أحب إلي، ولا أرى به - بالأول - بأسا (2).
وفيه أولا: أنه معارض بما في بعض الروايات، من بيعهم (عليهم السلام)
تمرهم ممن يجعله شرابا خبيثا على ما أشرنا إليه، لبعد صدور الفعل
المكروه منهم (عليهم السلام) دفعة واحدة فضلا عن الدفعات، وبما في بعض
روايات الباب من تعليل جواز البيع بأنه قد وقع على العنب الحلال وإنما
المشتري جعله حراما أبعده الله وأسحقه فلا تزر وازرة وزر أخرى،
وقد ذكرنا الروايات في الحاشية.

1 - منهم المحقق في الشرايع 2: 10، والعلامة في الإرشاد 1: 357، والشهيد في اللمعة
: 108، ونسبه في الجواهر 22: 31 إلى المشهور.
2 - نسبة الرواية إلى رفاعة من سهو القلم، بل هي صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام)
أنه سئل عن بيع العصير ممن يصنعه خمرا، فقال: بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب إلي،
ولا أرى به بالأول بأسا (التهذيب 7: 137، الإستبصار 3: 106، عنهما الوسائل 17: 231).
282

وثانيا: أن كون بيع العصير ممن يجعله خلا أحب إلى الإمام (عليه السلام)
لا يدل على كراهة بيعه ممن يجعله خمرا، خصوصا مع تصريحه (عليه السلام)
فيها بالجواز بقوله: ولا أرى بالأول بأسا، نعم لو كان لفظ الرواية: إني
لا أحب بيعه ممن يجعله خمرا، لكان دالا على كراهة البيع.
ثم إنه لم نجد رواية تدل على الكراهة غير رواية الحلبي التي نسبها
المصنف إلى رفاعة، وقد عرفت عدم دلالتها على ذلك، وإذن فلا وجه
لقول المصنف: لشهادة غير واحد من الأخبار على الكراهة.
قال السيد في حاشيته ما ملخصه: أنه يمكن الجمع بحمل الأخبار
المجوزة على صورة العلم، بأن ذلك عمل المشتري وإن لم يعلم بصرف
هذا المبيع الخاص في المحرم، وحمل الأخبار المانعة على صورة العلم
بصرفه في الحرام، ويمكن الجمع أيضا بحمل المانعة على العلم بقصد
المشتري صرفه في الحرام، وحمل المجوزة على العلم بالتخمير مع
عدم العلم بأن قصده ذلك (1).
ويرد على الوجهين أنهما من الجموع التبرعية فلا شاهد لهما.
وفي المتن: وقد يجمع بينها وبين الأخبار المجوزة بحمل المانعة
على صورة اشتراط جعل الخشب صليبا أو صنما أو تواطئهما عليه.
وفيه مضافا إلى اطلاق الروايات المانعة وعدم تقيدها بصورة
الاشتراط واطلاق الروايات المجوزة وعدم تقيدها بصورة عدم
الاشتراط، أنه يرد عليه أولا ما في المتن من أنه لا داعي للمسلم إلى هذا
النحو من البيع ثم سؤاله عن حكمه.
وثانيا: أن ذكر جواز بيع الخشب ممن يجعله برابط وعدم جواز بيعه

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 7.
283

ممن يجعله صلبانا في روايتي ابن أذينة والمقنع (1) لا يلائم هذا الجمع،
ضرورة أن حمل رواية واحدة على جهتين متنافيتين من غير تقييد شبيه
بالجمع بينهما.
فإن السؤال إن كان عن جواز البيع مع اشتراط الصرف في جهة الحرام
فلا يلائمه الجواب بجواز البيع فيما جعله برابط، وإن كان السؤال عن
الجواز مع عدم الاشتراط فلا يلائمه الجواب بعدم الجواز فيما جعله
أصناما أو صلبانا.
والذي ينبغي أن يقال: إنه إذا تم عدم الفصل بين موارد الروايات
المجوزة والمانعة، كان من قبيل تعارض الدليلين، فيؤخذ بالطائفة
المجوزة لموافقتها لعمومات الكتاب، كقوله تعالى: أوفوا بالعقود (2)،
وأحل الله البيع (3)، وتجارة عن تراض (4)، وإن لم يثبت عدم الفصل
بين مواردها كما احتمله المصنف وجب أن يقتصر بكل طائفة على
موردها، ولا تصل النوبة إلى التعارض بينهما والعمل بقواعده.
وهذا هو الظاهر من الروايات، وتشهد له أيضا رواية ابن أذينة
المفصلة بين الأصنام والبرابط، ويقربه أن شرب الخمر وصنعها أو صنع

1 - ابن أذينة قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه
صلبانا، قال: لا (الكافي 5: 226، التهذيب 6: 373، 7: 134، عنهما الوسائل 17: 176)، حسنة
لإبراهيم بن هاشم.
في المقنع: ولا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه برابط، ولا يجوز بيعه لمن يتخذه صلبانا
(المقنع: 130، عنه المستدرك 13: 122)، مرسلة.
البربط: من الملاهي وآلات الغناء يشبه العود (لسان العرب 7: 258).
2 - المائدة: 1.
3 - البقرة: 275.
4 - النساء: 29.
284

البرابط وضربها، وإن كانت من المعاصي الكبيرة والجرائم الموبقة،
إلا أنها ليست كالشرك بالله العظيم، لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما
دون ذلك.
وعليه فيمكن اختلاف مقدمة الحرام من حيث الجواز وعدمه
باختلاف ذي المقدمة من حيث الشدة والضعف، ودعوى الاجماع على
عدم الفصل دعوى جزافية، لذهاب صاحبي الوسائل والمستدرك في
عناوين الأبواب من كتابيهما إلى التفصيل، مضافا إلى عدم حجية
الاجماع المنقول في نفسه.
هذا كله بحسب الروايات، وحاصل جميع ما ذكرناه أنه ليس في
الروايات ما يدل على حرمة بيع المباح ممن يجعله حراما.
وأما الصورة الثانية - أعني التكلم في حكم المسألة من حيث القواعد -
فالكلام فيها من نواحي شتى: الأولى في تحقيق مفهوم الإعانة وبيان ما
يعتبر فيه، الثانية في حكم الإعانة على الإثم، الثالثة أنه على القول بحرمة
الإعانة على الإثم فهل هي كحرمة الظلم لا تختلف بالوجوه والاعتبار ولا
تقبل التخصيص والتقييد، أو هي كحرمة الكذب التي تختلف بذلك،
وعليه فتتصف بالأحكام الخمسة.
حقيقة الإعانة ومفهومها:
ما حقيقة الإعانة ومفهومها، الظاهر أن مفهوم الإعانة كسائر المفاهيم
التي لا يمكن تحديدها إلا بنحو التقريب، فمفهوم الماء مثلا مع كونه من
أوضح المفاهيم ربما يشك في صدقه على بعض المصاديق، على ما
اعترف به المصنف في أول كتاب الطهارة، وقد وقع الخلاف في بيان
حقيقة الإعانة على وجوه:
285

1 - ما استظهره المصنف من الأكثر، وهو أنه يكفي في تحققها مجرد
ايجاد مقدمة من مقدمات فعل الغير وإن لم يكن عن قصد.
2 - ما أشار إليه في مطلع كلامه، من أن الإعانة هي فعل بعض مقدمات
فعل الغير بقصد حصوله منه لا مطلقا، ثم نسبه إلى المحقق الثاني
وصاحب الكفاية (1).
3 - ما نسبه إلى بعض معاصريه (2)، من أنه يعتبر في تحقق مفهومها وراء
القصد المذكور وقوع الفعل المعان عليه في الخارج.
4 - ما نسبه إلى المحقق الأردبيلي، من تعليقه صدق الإعانة على
القصد أو الصدق العرفي، بداهة أن الإعانة قد تصدق عرفا في موارد عدم
وجود القصد، مثل أن يطلب الظالم العصا من شخص لضرب مظلوم
فيعطيه إياها أو يطلب القلم لكتابة ظلم فيعطيه إياه، ونحو ذلك مما يعد
معونة عرفا.
5 - الفرق بين الإعانة في المقدمات القريبة فتحرم وبين المقدمات
البعيدة فلا تحرم.
6 - عدم اعتبار شئ في صدق الإعانة إلا وقوع المعان عليه في
الخارج.
وأوجهها هو الوجه الأخير، وتحقيق ذلك ببيان أمرين:
الأول: في بيان عدم اعتبار العلم والقصد في مفهوم الإعانة.
والثاني: في بيان اعتبار وقوع المعان عليه في صدقها.
1 - أن صحة استعمال كلمة الإعانة وما اقتطع منها في فعل غير القاصد

1 - حاشية الإرشاد: 205 (مخطوط)، كفاية الأحكام: 85.
2 - هو المحقق النراقي، أنظر عوائد الأيام: 26.
286

بل وغير الشاعر بلا عناية وعلاقة تقتضي عدم اعتبار القصد والإرادة في
صدقها لغة، كقوله (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي: وأعانني عليها
شقوتي، وقوله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة (1)، وفي بعض
الروايات أن المراد بالصبر هو الصوم (2).
وفي أحاديث الفريقين: من أكل الطين فمات فقد أعان على نفسه (3)،
ومن البديهي أن آكل الطين لم يقصد موته بذلك بل يرى أن حياته فيه،
وفي رواية أبي بصير: فأعينونا على ذلك بورع واجتهاد (4)، ومن

1 - البقرة: 42.
2 - عن سليمان عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: واستعينوا بالصبر، قال:
الصبر الصيام (الفقيه 2: 45، عنه الوسائل 10: 408).
وفي رواية أخرى يعني الصيام (الكافي 4: 63، تفسير العياشي 1: 43).
3 - عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أكل الطين فمات
فقد أعان على نفسه (الكافي 6: 366، التهذيب 9: 89، المحاسن: 565، عنهم الوسائل
24: 222)، موثقة للسكوني.
وفي رواية أخرى: فإن أكلته ومت كنت قد أعنت على نفسك (الكافي 6: 226، التهذيب
9: 90، المحاسن: 565، عنهم الوسائل 24: 222)، ضعيفة لسهل.
عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من أنهمك في أكل الطين فقد أعان على نفسه، و
في حديث آخر: من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه (سنن البيهقي 10: 11).
4 - عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أباه قال لجماعة من الشيعة: والله إني لأحب
ريحكم وأرواحكم، فأعينوا على ذلك بورع واجتهاد (الكافي 8: 212، الأمالي للصدوق: 500،
عنهما الوسائل 1: 88).
وفي رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام): فأعينوا على ما أنتم عليه بالورع
والاجتهاد (الكافي 2: 183، عنه الوسائل 1: 87).
في رواية ميسر عن أبي جعفر (عليه السلام): فأعينوا بورع واجتهاد (الوافي 3، باب تذاكر الإخوان
: 116).
287

المعلوم أن المعين على ذلك بالورع والاجتهاد لا بقصد الإعانة عليه في
جميع الأحيان.
وكذلك ما في بعض الأحاديث من قوله (عليه السلام): من أعان على قتل
مؤمن ولو بشطر كلمة (1)، وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله): من تبسم على وجه مبدع
فقد أعان على هدم الاسلام (2)، وفي رواية أبي هاشم الجعفري:
ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة (3).
وفي الصحيفة الكاملة السجادية في دعائه (عليه السلام) في طلب الحوائج:
واجعل ذلك عونا لي (4).
وأيضا يقال: الصوم عون للفقير والثوب عون للانسان، وسرت في
الماء وأعانني الماء والريح على السير، وأعانني العصا على المشي،
وكتبت باستعانة القلم، إلى غير ذلك من الاستعمالات الكثيرة الصحيحة،
ودعوى كونها مجازات جزافية لعدم القرينة عليها.
ونتيجة جميع ذلك أنه لا يعتبر في تحقق مفهوم الإعانة علم المعين
بها، ولا اعتبار الداعي إلى تحققها، لبديهة صدق الإعانة على الإثم على
اعطاء العصا لمن يريد ضرب اليتيم، وإن لم يعلم بذلك أو علم ولم يكن
اعطاؤه بداعي وقوع الحرام كما لا يخفى.
ويدل على ما ذكرناه ما تقدمت الإشارة إليه، من أن القصد سواء كان

1 - الكافي 2: 274، عنه الوسائل 12: 305.
من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله وبين عينيه مكتوب آيس من رحمة الله (سنن
البيهقي 8: 22).
2 - لب اللباب (مخطوط)، عنه المستدرك 12: 322.
3 - راجع الوافي: 3، باب تذكرة الإخوان: 116.
4 - الصحيفة السجادية الكاملة، الدعاء 13.
288

بمعنى الإرادة والاختيار أم بمعنى الالتفات لا يعتبر في مفهوم الإعانة،
وعلى الجملة لا نعرف وجها صحيحا لاعتبار القصد بأي معنى كان في
صدق الإعانة.
ومن هنا لا نظن أن أحدا ينكر تحقق الإعانة باعطاء السيف أو العصا
لمن يريد الظلم أو القتل، ولو كان المعطي غير ملتفت إلى ضمير مريد
الظلم أو القتل أو كان غافلا عنه، نعم لو نسب ذلك إلى الفاعل المختار
انصرف إلى صورة العلم والالتفات.
2 - الذي يوافقه الاعتبار ويساعد عليه الاستعمال هو تقييد مفهوم
الإعانة بحسب الوضع بوقوع المعان عليه في الخارج ومنع صدقها بدونه.
ومن هنا لو أراد شخص قتل غيره بزعم أنه مصون الدم، وهيأ له ثالث
جميع مقدمات القتل ثم أعرض عنه مريد القتل أو قتله، ثم بان أنه مهدور
الدم، فإنه لا يقال إن الثالث أعان على الإثم بتهيئة مقدمات القتل، كما
لا تصدق الإعانة على التقوى إذا لم يتحقق المعان عليه في الخارج، كما
إذا رأى شبحا يغرق فتوهم أنه شخص مؤمن فأنقذه إعانة منه له على
التقوى فبان أنه خشبة.
وقد يمنع من اعتبار وقوع المعان عليه في الخارج في مفهوم الإعانة
وصدقها، بدعوى أنه لو أراد رجلان التهجم على بيضة الاسلام أو على
قتل النفوس المحترمة فهيأ لهما آخران جميع مقدمات القتال فمضى
أحدهما وندم الآخر، فإنه لا شبهة في استحقاق كل من المهيئين الذم
واللوم من جهة الإعانة على الإثم، وإن تحقق الفعل المعان عليه في
أحدهما ولم يتحقق في الآخر، فلو كان ذلك شرطا في صدق الإعانة
لم يتوجه الذم إلا على الأول.
وفيه: أن الصادر من النادم ليس إلا التجري، وهو على تقدير الالتزام
289

بقبحه واستحقاق العقاب عليه لا يصدق عليه الإثم لتكون الإعانة عليه
إعانة على الإثم، وأما إذا قلنا بعدم استحقاق العقاب عليه فإن الأمر
أوضح.
مع أنه لا مضائقة في صحة ذم معينه بل في صحة عقابه أيضا، بناء على
حرمة الإعانة على الإثم وصحة العقاب على التجري، فإن المعين حينئذ
يرى نفسه عاصيا لتخيله أنه معين على الإثم فهو متجر في فعله،
والمفروض أن التجري يوجب استحقاق العقاب.
وقد تجلى من جميع ما ذكرناه ما في بقية الوجوه والأقوال المتقدمة
من الوهن والخلل، كما اتضح ضعف ما أورده المصنف على بعض
معاصريه، من أن حقيقة الإعانة على الشئ هو الفعل بقصد حصول ذلك
الشئ، سواء حصل في الخارج أم لا، ومن اشتغل ببعض مقدمات
الحرام الصادر من الغير بقصد التوصل إليه فهو داخل في الإعانة على
الإثم.
ثم لا يخفى أن عنوان الإعانة كما يتوقف على تحقق الفعل المعان عليه
في الخارج فكذلك يتوقف على تحقق المعين والمعان، بأن يكونا
مفروض الوجود مع قطع النظر عن تحقق الإعانة في الخارج ليقع فعل
المعين في سلسلة مقدمات فعل المعان فيكون عنوان الإعانة بهذا الاعتبار
من الأمور الإضافية.
وعليه فايجاد موضوع الإعانة كتوليد المعين مثلا خارج عن حدودها
وإلا لحرم التناكح والتناسل، للعلم العادي بأن في نسل الانسان في نظام
الوجود من يرتكب المعاصي وتصدر منه القبائح.
وأما مسير الحاج ومتاجرة التاجر مع العلم بأخذ المكوس
والكمارك وهكذا عدم التحفظ على المال مع العلم بحصول السرقة
290

فكلها داخل في عنوان الإعانة، فإنه لا وجه لجعل أمثالها من قبيل
الموضوع للإعانة وخروجها عن عنوانها، كما زعمه شيخنا الأستاذ
والمحقق الإيرواني (1).
كما لا وجه لما ذهب إليه المصنف (رحمه الله) من اخراجها عن عنوان الإعانة،
من حيث إن التاجر والحاج غير قاصدين لتحقق المعان عليه، لما عرفت
من عدم اعتبار القصد في صدقها.
وقد ظهر من مطاوي جميع ما ذكرناه أن المدار في عنوان الإعانة هو
الصدق العرفي، وعليه فلا يفرق في ذلك بين المقدمات القريبة
والمقدمات البعيدة، ولذلك صح اطلاق المعين على من تسبب في قضاء
حوائج الغير ولو بوسائط بعيدة.
حكم الإعانة على الإثم:
ما حكم الإعانة على الإثم، الظاهر جواز ذلك، لأنه مقتضى الأصل
الأولى ولا دليل يثبت حرمة الإعانة على الإثم، وإن ذهب المشهور
وبعض العامة إلى الحرمة (2).

1 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 16.
2 - في المبسوط للسرخسي عن أبي يوسف ومحمد: أن بيع العصير والعنب ممن يتخذه
خمرا إعانة على المعصية، وتمكين منها، وذلك حرام، وإذا امتنع البائع من البيع يتعذر على
المشتري اتخاذ الخمر فكان في البيع منه تهييج الفتنة، وفي الامتناع تسكينها (المبسوط
للسرخسي 24: 26).
وفي فقه المذاهب عن الحنابلة: كلما أفضى إلى محرم فهو حرام (فقه المذاهب الأربعة 2:
52).
وفي الهداية: ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة، لأنه تسبيب إلى المعصية (الهداية 8:
127).
291

وعليه فالحكم هو جواز الإعانة عليه إلا ما خرج بالدليل، كإعانة
الظالمين وإعانة أعوانهم وتهيئة مقدمات ظلمهم، لاستفاضة الروايات
على حرمة إعانتهم وتقويتهم وتعظيم شوكتهم، ولو بمدة قلم أو بكتابة
رقعة أو بجباية خراج ونحوها، وستأتي هذه الروايات في البحث عن
معونة الظالمين.
بل الحرمة في هذا النحو من الإعانة مما استقل به العقل وقامت عليه
ضرورة العقلاء، بل قال في العروة في مسألة من صلاة المسافر: أنه لو
كانت تبعية التابع إعانة للجائر في جوره وجب عليه التمام، وإن كان سفر
الجائر طاعة فإن التابع حينئذ يتم، مع أن المتبوع يقصر.
قوله: بعموم النهي عن التعاون على الإثم والعدوان.
أقول: استدلوا على حرمة الإعانة على الإثم بوجوه:
1 - قوله تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم
والعدوان (1)، فإن ظاهرها حرمة المعاونة على الإثم والعدوان مطلقا.
وفيه: أن التعاون عبارة عن اجتماع عدة من الأشخاص لايجاد أمر من
الخير أو الشر ليكون صادرا من جميعهم، كنهب الأموال وقتل النفوس،
وبناء المساجد والقناطر، وهذا بخلاف الإعانة، فإنها من الأفعال وهي
عبارة عن تهيئة مقدمات فعل الغير مع استقلال ذلك الغير في فعله.
وعليه فالنهي عن المعاونة على الإثم لا يستلزم النهي عن الإعانة على
الإثم، فلو عصى أحد فأعانه الآخر فإنه لا يصدق عليه التعاون بوجه، فإن
باب التفاعل يقتضي صدور المادة من كلا الشخصين، ومن الظاهر عدم
تحقق ذلك في محل الكلام.

1 - المائدة: 3.
292

نعم قد عرفت فيما سبق حرمة التسبيب إلى الحرام وجعل الداعي
إليه، لكن حرمة ذلك لا تستلزم الحرمة في المقام.
2 - ادعاء الاجماع على ذلك.
وفيه: أنها دعوى جزافية لاحتمال كون مدرك المجمعين هي الوجوه
المذكورة في المسألة فلا يكون اجماعا تعبديا، مضافا إلى عدم حجية
الاجماع المنقول في نفسه.
3 - إن ترك الإعانة على الإثم دفع للمنكر ودفع المنكر واجب كرفعه،
وإليه أشار المحقق الأردبيلي في محكي كلامه (1)، حيث استدل على
حرمة بيع العنب في المسألة بأدلة النهي عن المنكر، واستشهد له
المصنف برواية أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام)، من أنه: لولا أن بني
أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبى لهم الفئ ويقاتل عنهم ويشهد
جماعتهم لما سلبوا حقنا (2).
وفيه أولا: أن الاستدلال بدفع المنكر هنا إنما يتجه إذا علم المعين
بانحصار دفع الإثم بتركه الإعانة عليه، وأما مع الجهل بالحال أو العلم
بوقوع الإثم بإعانة الغير عليه فلا يتحقق مفهوم الدفع.
وثانيا: أن دفع المنكر إنما يجب إذا كان المنكر مما اهتم الشارع بعدم
وقوعه كقتل النفوس المحترمة، وهتك الأعراض المحترمة، ونهب
الأموال المحترمة، وهدم أساس الدين وكسر شوكة المسلمين، وترويج
بدع المضلين ونحو ذلك، فإن دفع المنكر في هذه الأمثلة ونحوها واجب
بضرورة العقل واتفاق المسلمين، وقد ورد الاهتمام به في بعض

1 - مجمع الفائدة 8: 49.
2 - الكافي 5: 106، التهذيب 6: 331، عنهما الوسائل 17: 199، والرواية ضعيفة لإبراهيم
ابن إسحاق الأحمري.
293

الأحاديث (1)، وأما في غير ما يهتم الشارع بعدمه من الأمور فلا دليل على
وجوب دفع المنكر، وعلى كلا الوجهين فالدليل أخص من المدعى.
وأما النهي عن المنكر فإنه وإن كان سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء،
وفريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتحل المكاسب وترد المظالم، إلا أنه
لا يدل على وجوب دفع المنكر، فإن معنى دفع المنكر هو تعجيز فاعله
عن الاتيان به وايجاده في الخارج، سواء ارتدع عنه باختياره أم لم يرتد،
والنهي عن المنكر ليس إلا ردع الفاعل وزجره عنه على مراتبه المقررة
في الشريعة المقدسة، وعلى الاجمال أنه لا وجه لقياس دفع المنكر على
رفعه.
وأما رواية أبي حمزة، فمضافا إلى ضعف السند فيها أنها أجنبية عن
رفع المنكر فضلا عن دفعه، لاختصاصها بحرمة إعانة الظلمة.
قال المحقق الإيرواني: الرفع هنا ليس إلا الدفع، فمن شرع بشرب
الخمر فبالنسبة إلى جرعه شرب لا معنى للنهي عنه، وبالنسبة إلى ما
لم يشرب كان النهي دفعا عنه (2).
وفيه: أن مرجع الرفع وإن كان إلى الدفع بالتحليل والتدقيق، إلا أن
الأحكام الشرعية وموضوعاتها لا تبتني على التدقيقات العقلية،
ولا شبهة في صدق رفع المنكر في العرف والشرع على منع العاصي عن
اتمام المعصية التي ارتكبها بخلاف الدفع.

1 - عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن ثلاثة نفر رفعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، واحد
منهم أمسك رجلا وأقبل الآخر فقتله، والآخر يراهم، فقضى في الربيئة أن تسمل عيناه، وفي
الذي أمسك أن يسجن حتى يموت كما أمسكه، وقضى في الذي قتل أن يقتل (التهذيب
10: 219)، موثقة للسكوني.
2 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 16.
294

قوله: وتوهم أن البيع حرام على كل أحد فلا يسوغ لهذا الشخص فعله، معتذرا بأنه
لو تركه لفعله غيره.
أقول: محصل الاشكال ما ذكره المحقق الإيرواني، من أن النهي عن
الطبيعة ينحل إلى نواهي متعددة حسب تعدد أفراد تلك الطبيعة على
سبيل العموم الاستغراقي، فكان كل فرد تحت نهي مستقل، وعلى هذا
فترك بيع فرد من العنب دفع لتخمير هذا الفرد، وإن علم أن عنبا آخر يباع
ويخمر لو لم يبع هو هذا، فإذا تراكمت التروك بترك هذا للبيع وترك ذاك
له وهكذا حصل ترك التخمير رأسا، وكان كل ترك مقدمة لترك فرد من
الحرام لا أن مجموع التروك يكون مقدمة لترك حرام واحد (1).
وفيه: أن النهي إنما ينحل إلى أفراد الطبيعة لأن معنى النهي عن الشئ
عبارة عن الزجر عنه لما فيه من المفسدة الالزامية، فإذا توجه النهي إلى
طبيعة ما وكان كل واحد من أفرادها مشتملا على المفسدة الالزامية
فلا محالة ينحل ذلك النهي إلى نواهي عديدة حسب تعدد الأفراد، وأما
في مثل المقام فإن منشأ النهي فيه هو أن لا يتحقق الإثم في الخارج،
فالغرض منه إنما هو الوصول إلى ذلك، فإذا علم صدور الإثم في الخارج
ولو مع ترك الإعانة من شخص خاص فلا موجب لحرمتها.
وهذا كما إذا نهى المولى عبيده عن الدخول عليه في ساعة عينها
لفراغه، فإن غرضه يفوت إذا دخل عليه واحد منهم فترتفع المبغوضية
عن دخول غيره.
ويدلنا على ذلك ما في الروايات المتقدمة، من تجويزهم (عليهم السلام) بيع
العنب والتمر وعصيرهما ممن يصنعها خمرا، إذ لو لم تدل تلك

1 - حاشية المحقق الإيرواني: 16.
295

الروايات على عدم حرمة الإعانة على الإثم مطلقا فلا أقل من دلالتها على
عدم الحرمة فيما إذا علم المعين تحقق الحرام في الخارج على كل حال.
إذن فما نحن فيه من قبيل رفع الحجر الثقيل الذي لا يرفعه إلا جماعة
من الناس، فإن الوجوب يرتفع عن الجماعة بمخالفة شخص واحد منهم،
وهكذا ما نحن فيه، لأن عدم تحقق المعصية من مشتري العنب يتوقف
على ترك كل أرباب العنب للبيع، لأن ترك المجموع سبب واحد لترك
المعصية، كما أن بيع أي واحد منهم على البدل شرط لتحقق المعصية من
المشتري.
تتميم وفيه تأسيس:
قد عرفت فيما تقدم أن جواز الإعانة على الإثم هو مقتضى الأصل
لعدم الدليل على التحريم، ويمكن الاستدلال عليه مضافا إلى ذلك
بأمور:
1 - أنه لو لم تجز الإعانة على الإثم لما جاز سقي الكافر لكونه إعانة
على الإثم لتنجس الماء بمباشرته إياه فيحرم عليه شربه، لكن السقي
جائز، لقوله (عليه السلام): إن الله يحب ابراد الكبد الحري، على ما تقدم
تفصيله في البحث عن بيع الميتة المختلطة مع المذكى، فتجوز الإعانة
على الإثم، والاعتذار عن ذلك بعدم قدرتهم على شرب الماء الطاهر في
حال الكفر اعتذار غير موجه، إذ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
2 - أنك علمت سابقا استفاضة الروايات على جواز بيع العنب والتمر
وعصيرهما ممن يجعلها خمرا، وجواز بيع الخشب ممن يجعله برابط، و
من الواضح جدا كون هذا البيع إعانة على الإثم، ومن أنكره بلسانه فإنما
أنكره بلسانه أو هو مكابر لوجدانه، وبعدم القول بالفصل يثبت الجواز في
غير موارد الروايات.
296

على أن في بعضها اشعارا إلى كلية الحكم وعدم اختصاصه بالأمور
المذكورة فيها، كقول الصادق (عليه السلام) في رواية أبي بصير: إذا بعته قبل أن
يكون خمرا فهو حلال فلا بأس به، وفي رواية الحلبي عن بيع العصير
ممن يجعله حراما، فقال: لا بأس به تبيعه حلالا فيجعله حراما أبعده
الله وأسحقه، وفي رواية ابن أذينة عن بيع العنب والتمر ممن يعلم أنه
يجعله خمرا، فقال: إنما باعه حلالا في الابان الذي يحل شربه أو أكله
فلا بأس ببيعه.
فإن الظاهر من هذه الروايات أن المناط في صحة البيع هي حلية المبيع
للبائع حين البيع وإن كان بيعه هذا إعانة على المحرم، ومثل هذه
الروايات غيرها أيضا.
3 - قيام السيرة القطعية على الجواز، ضرورة جواز المعاملة مع الكفار
وغير المبالين في أمر الدين من المسلمين ببيع الطعام منهم ولو كان
متنجسا، وإعارة الأواني إياهم للطبخ وغيره، مع أنه إعانة على أكل
الطعام المتنجس بمباشرتهم إياه، ووجوب تمكين الزوجة للزوج وإن
علمت بعدم اغتساله عن الجنابة، فيكون التمكين إعانة على الإثم.
وأيضا قامت السيرة القطعية على جواز تجارة التاجر ومسير الحاج
والزوار واعطائهم الضريبة المعينة للظلمة، مع أنه من أظهر مصاديق
الإعانة على الإثم، وأيضا قضت الضرورة بجواز إجارة الدواب والسفن
والسيارات والطيارات من المسافرين مع العلم اجمالا بأن فيهم من يقصد
في ركوبه معصية.
وأيضا قامت السيرة القطعية على جواز عقد الأندية والمجالس لتبليغ
الأحكام وإقامة شعائر الأفراح والأحزان، بل على وجوبها في بعض
الأحيان إذا توقف عليها احياء الدين وتعظيم الشعائر، مع العلم بوقوع
297

بعض المعاصي فيها، من الغيبة والاستهزاء والكذب والافتراء ونظر كل
من الرجال والنساء إلى من لا يجوز النظر إليه، وغيرها من المعاصي.
قوله: ثم إنه يمكن التفصيل في شروط الحرام المعان عليها بين ما ينحصر فائدته
ومنفعته عرفا في المشروط المحرم.
أقول: قد ظهر مما ذكرناه أن الميزان في حرمة المقدمة هو كونها سببا
لوقوع ذي المقدمة وإلا فلا وجه للتحريم، وإن انحصرت فائدته في
الحرام.
قوله: وإنما الثابت من العقلاء والعقل القاضي بوجوب اللطف وجوب رد من هم
بها.
أقول: إن كان المنكر مثل قتل النفس ونحوه مما يهتم الشارع بعدم
تحققه، فلا ريب في وجوب رفعه بل دفعه شرعا وعقلا كما تقدم، وأما
في غير الموارد التي يهتم الشارع بعدم تحققها فلا وجه لدعوى الوجوب
العقلي فيها، وإن ادعاه المشهور مطلقا، لمنع استقلال العقل بذلك في
جميع الموارد، ولذا ذهب جمع من المحققين إلى الوجوب الشرعي (1).
حرمة الإعانة على الإثم كحرمة الكذب تقبل التخصيص:
إن حرمة الإعانة على الإثم على فرض ثبوتها هل تقبل التخصيص
والتقييد أم لا، قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه أن حرمة ذلك على فرض
ثبوتها إنما هي كحرمة الكذب تقبل التخصيص والتقييد، وتختلف
بالوجوه والاعتبار، وليست هي كحرمة الظلم التي لا تختلف بذلك.

1 - قال الحكيم الطوسي (رحمه الله) في آخر التجريد: الأمر بالمعروف واجب، وكذا النهي عن
المنكر، وبالمندوب مندوب سمعا، وإلا لزم ما هو خلاف الواقع، والاخلال بحكمته تعالى،
وتبعه في هذا الرأي شراح التجريد كالعلامة والقوشجي وغيرهما.
298

قال شيخنا الأستاذ: لا اشكال في عدم امكان تخصيصها بعد تحقق
موضوعها، لأن هذه من العناوين الغير القابلة للتخصيص، فإنها كنفس
المعصية وكالظلم، فإنه كما لا يمكن أن يكون معصية خاصة مباحة
فكذلك لا يمكن أن تكون الإعانة على المعصية مباحة، فما عن الحدائق
بعد ما حكي عن الأردبيلي (رحمه الله) (1)، من القول بالحرمة في مسألتنا من جهة
كونها إعانة على الإثم، من أنه جيد في حد ذاته لو سلم من المعارضة
بأخبار الجواز، لا وجه له، لأنه لو كان بيع العنب ممن يعلم بأنه يعمله
خمرا داخلا في عنوان الإعانة فلا يمكن أن يدل دليل على جوازه، فمع
ورود الدليل على الجواز نستكشف بأنه ليس داخلا في هذا العنوان.
ولكن الوجوه المتقدمة الدالة على الجواز حجة عليه، ومن هنا لو أكره
الجائر أحدا على الإعانة على الإثم أو اضطر إليها فإنه لا شبهة حينئذ في
جوازها، ولو كانت حرمتها كحرمة الظلم لا تختلف بالوجوه والاعتبار
ولا تقبل التخصيص والتقييد، لما كانت جائزة في صورتي الاكراه
والاضطرار أيضا.
قوله: وقد تلخص مما ذكرنا أن فعل ما هو من قبيل الشرط لتحقق المعصية من الغير
من دون قصد توصل الغير به إلى المعصية غير محرم.
أقول: بعد ما علمت أنه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم،
ولا على اعتبار القصد في مفهوم الإعانة ولا في حكمها، فلا وجه لما
ذهب إليه المصنف وأتعب به نفسه من التطويل والتقسيم.
ثم على القول بحرمة الإعانة على الإثم، فلا وجه للحكم بحرمة البيع
في شئ من الشقوق التي ذكرها المصنف، إذ الإعانة على الإثم إنما

1 - حدائق الناضرة 18: 205، عن مجمع الفائدة 8: 51.
299

تتحقق بالتسليم والتسلم في الخارج، ومن الواضح أن بينهما وبين البيع
عموما من وجه.
قوله: وإن علم أو ظن عدم قيام الغير سقط عنه وجوب الترك.
أقول: إذا كان البيع على تقدير ترك الآخرين محرما فلا اشكال في
ارتفاع الحرمة عند العلم ببيع غيره، وأما مع الشك فيه فلا مانع من
استصحاب تركه والحكم بحرمة البيع، وأما الظن ببيع الغير فما لم تثبت
حجيته لا يغني من الحق شيئا.
قوله: ثم كل مورد حكم فيه بحرمة البيع من هذه الموارد الخمسة، فالظاهر عدم
فساد البيع.
أقول: توضيح كلامه أنه لا ملازمة بين الحرمة التكليفية والحرمة
الوضعية في المعاملات، فالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة مثلا صحيح
وإن كان محرما بالاتفاق، ولو سلمنا الملازمة بينهما فلا نسلمها فيما إذا
تعلق النهي بعنوان عرضي ينطبق على البيع، كتعلقه بعنوان الإعانة في بيع
العنب ممن يعلم أنه يجعله خمرا، إذ بين عنوان الإعانة على الإثم وبين
البيع عموم من وجه.
وعلى القول بالفساد مطلقا أو في الجملة فلا يفرق في ذلك بين علم
المتبايعين بالحال وبين علم أحدهما مع جهل الآخر، فإن حقيقة البيع
عبارة عن المبادلة بين العوض والمعوض في جهة الإضافة فإذا بطل من
أحد الطرفين بطل من الطرف الآخر أيضا، إذ لا يعقل التبعيض من حيث
الصحة والفساد في بيع واحد كما هو واضح.
300

القسم الثالث
ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا
بمعنى أن من شأنه أن يقصد منه الحرام
المسألة (1)
حرمة بيع السلاح من أعداء الدين
قوله: القسم الثالث: ما يحرم لتحريم ما يقصد منه شأنا، بمعنى أن من شأنه أن يقصد
منه الحرام.
أقول: هذا العنوان يعم جميع الأشياء ولو كانت مباحة، إذ ما من شئ
إلا وله شأنية الانتفاع به بالمنافع المحرمة، فلا يصح أن يجعل عنوانا
للبحث ولا بد من تخصيصه بالموارد المنصوصة، ولذا خصه الفقهاء
ببيع السلاح من أعداء الدين.
ثم إن تحقيق هذه المسألة يقع في ناحيتين:
الناحية الأولى: في حرمة بيعه وجوازه في الجملة أو مطلقا.
والأقوال في ذلك وإن كانت كثيرة قد أنهاها السيد في حاشيته إلى
ثمان (1)، إلا أن الأظهر منها هي حرمة بيعه من الكفار مطلقا ومن المخالفين
عند محاربتهم مع الشيعة الناجية.
وذهب بعض العامة إلى حرمة بيعه في حال الفتنة (2).

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 10.
2 - في الهداية: ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة ممن يعرف أنه من أهل الفتنة، لأنه
تسبيب إلى المعصية (الهداية 8: 127).
وفي شرح فتح القدير: ولا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب، ولا يجهز إليهم، لأن
النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم، ولأن فيه تقويتهم على قتال
المسلمين فيمنع من ذلك، وكذا الكراع لما بينا، وكذلك الحديد، لأنه أصل السلاح، وكذا بعد
الموادعة (شرح فتح القدير 8: 297).
وفي سنن البيهقي عن عمران بن حصين قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع السلاح في
الفتنة (سنن البيهقي 5: 327).
301

وفصل المصنف (رحمه الله) بين حالتي الحرب والصلح، فذهب إلى الحرمة
في الأولى وإلى الجواز في الثانية وملخص كلامه:
أن الروايات الواردة في المقام على طوائف:
الأولى: ما دل (1) على جواز بيعه من أعداء الدين في حال الهدنة.

1 - عن الحضرمي قال: دخلنا على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له حكم السراج: ما ترى فيما
يحمل إلى الشام من السروج وأداتها؟ فقال: لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول الله إنكم
في هدنة، فإذا كانت المبائنة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السروج والسلاح (الكافي 5: 112،
التهذيب 6: 354، الإستبصار 3: 57، عنهم الوسائل 17: 101)، ضعيفة للحضرمي.
وعن هند السراج قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلحك الله إني كنت أحمل السلاح إلى
أهل الشام فأبيعه منهم، فلما أن عرفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت: لا أحمل إلى أعداء
الله، فقال لي: احمل إليهم فإن الله عز وجل يدفع بهم عدونا وعدوكم، يعني الروم، وبعهم فإذا
كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل إلى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك
(الكافي 5: 112، الفقيه 3: 107، التهذيب 6: 353، الإستبصار 3: 58، عنهم الوسائل 17: 101)،
مجهولة لأبي سارة.
أقول: قد كثر من الرواة خطاب الأئمة (عليهم السلام) بكلمة أصلحك الله، والمراد بذلك هو مطالبة
اصلاح الشؤون الدنيوية لا الأمور الأخروية، وتغيير حال الجور والظلم إلى حال العدل
والانصاف، لكي يلزم منه جهل القائل بمقامهم، وإلا لم يقدر أحد على خطاب سلاطين الجور
بذلك، مع أنه كان مرسوما في الزمن السابق.
وعن السراد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إني أبيع السلاح، قال: لا تبعه في فتنة
(الكافي 5: 113، التهذيب 6: 354، الإستبصار 3: 57، عنهم الوسائل 17: 101).
أقول: إن كان المراد بالسراد هو ابن محبوب المعروف، فهو لا يروي عن الصادق (عليه السلام)
بلا واسطة، وإن كان المراد منه غيره فلا بد وأن يبحث في حاله، هذا على نسخة الكافي
والتهذيب، وفي الإستبصار: عن السراد عن رجل، وعليه فلا شبهة في ضعف الرواية، وفي
الوسائل عن السراج، وهو غلط جزما لاتفاق جميع النسخ على خلافه.
302

الثانية: ما دل (1) على جواز بيعه منهم مطلقا.
الثالثة: ما دل (2) على حرمة بيعه منهم كذلك.
ويمكن الجمع بينهما بحمل الطائفة المانعة على صورة قيام الحرب
بينهم وبين المسلمين وحمل الطائفة المجوزة على صورة الهدنة في
مقابل المبائنة والمنازعة، وشاهد الجمع الطائفة الأولى المفصلة بين
الحالتين الهدنة والمنازعة.
وعن الشهيد في حواشيه (3) أنه لا يجوز مطلقا، لأن فيه تقوية الكافر

1 - عن أبي القاسم الصيقل قال: كتبت إليه إني رجل صيقل أشتري السيوف وأبيعها من
السلطان أجائز لي بيعها؟ فكتب (عليه السلام): لا بأس به (التهذيب 6: 382، عنه الوسائل 17: 103)،
مجهولة لأبي القاسم.
2 - عن علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن حمل
المسلمين إلى المشركين التجارة، قال: إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس (قرب الإسناد: 113،
مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 176، عنهما الوسائل 17: 103)، صحيحة.
وعن الصدوق: فيما أوصى به النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة:
القتال، والساحر، والديوث، وناكح المرأة حراما في دبرها، وناكح البهيمة، ومن نكح ذات
محرم منه، والساعي في الفتنة، وبايع السلاح من أهل الحرب، ومانع الزكاة، ومن وجد سعة
فمات ولم يحج (الفقيه 4: 257، عنه الوسائل 17: 103)، مجهولة لحماد بن عمرو وأنس بن
محمد وأبيه.
3 - حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 35 عن حواشي الشهيد على القواعد.
303

على المسلم فلا يجوز على كل حال.
ويرد عليه أولا: أنه لا يمكن المساعدة على دليله، لأن بيع السلاح
عليهم قد لا يوجب تقويتهم على المسلمين، لامكان كونه في حال
الصلح أو عند حربهم مع الكفار الآخرين، أو كان مشروطا بأن لا يسلمه
إياهم إلا بعد الحرب، وثانيا: أن رأيه هذا شبه اجتهاد في مقابل النص،
فإنه أخذ بظهور المطلقات الدالة على المنع وترك العمل بالمقيد الذي هو
نص في مفهومه، وهو وإن لم يكن اجتهادا في مقابل النص ولكنه شبيه
بذلك - انتهى حاصل كلام المصنف.
ولكن الظاهر أن ما ذهب إليه الشهيد (رحمه الله) وجيه جدا، ولا يرد عليه
شئ مما ذكره المصنف لوجوه:
1 - أن ما جعله وجها للجمع بين المطلقات لا يصلح لذلك، فإن مورده
هم الجائرون من سلاطين الاسلام، كما دل عليه السؤال في روايتي
الحضرمي وهند السراج عن حمل السلاح إلى أهل الشام، وقد ذكرناهما
في الهامش، إذ لا شبهة في اسلامهم في ذلك الزمان، وإن كانوا مخالفين،
فتكون الطائفة الأولى المفصلة بين الهدنة وقيام الحرب مختصة بغير
الكفار من المخالفين، فلا يجوز بيعه منهم عند قيام الحرب بينهم وبين
الشيعة، وأما في غير تلك الحالة فلا شبهة في جوازه خصوصا عند
حربهم مع الكفار، لأن الله يدفع بهم أعداءه، وأما المطلقات فأجنبية عن
الطائفة المفصلة لاختصاصها بالمحاربين من الكفار والمشركين.
2 - أنه لا وجه لرد كلامهم الشهيد تارة برمية إلى شبه الاجتهاد في
مقابل النص وأخرى بتضعيف دليله، أما الأول فلأنه لا مناص هنا من
العمل بالمطلقات، لما عرفت من عدم صلاحية الطائفة المفصلة للتقييد،
فلا يكون ترك العمل بها والأخذ بالمطلقات شبه اجتهاد في مقابل النص،
وأما الثاني فلأن تقوية شخص الكافر بالسقي ونحوه وإن كان جائزا إلا أن
304

تقويته لجهة كفره غير جائزة قطعا، ومن الواضح أن تمكين المشركين
والمحاربين من السلاح يوجب تقويتهم على المسلمين، بل ربما يستقل
العقل بقبح ذلك، لأن تقويتهم تؤدي إلى قتل النفوس المحترمة.
ثم إن هذا كله لو تقارن البيع مع التسليم والتسلم الخارجي، وإلا
فلا شبهة في جوازه، لما عرفت من أن بين البيع وعنوان الإعانة عموما من
وجه، فلا يلزم من البيع المجرد تقوية الكافر على الاسلام.
3 - أنه قد أمر في الآية الشريفة (1) بجمع الأسلحة وغيرها للاستعداد
والتهيئة إلى إرهاب الكفار وقتالهم، فبيعها منهم ولو في حال الهدنة
نقض للغرض فلا يجوز، وأما ما دل على الجواز فإنه لضعف سنده
لا يقاوم الروايات المانعة، ويضاف إليه أنه ظاهر في سلاطين الجور من
أهل الخلاف.
ثم إن السيد (رحمه الله) في حاشيته احتمل دخول هذا القسم الذي هو مورد
بحثنا تحت الإعانة على الإثم (2)، بناء على عدم اعتبار القصد فيها وكون
المدار فيها هو الصدق العرفي لحصول الصدق في المقام، وحينئذ
فيتعدى إلى كل ما كان كذلك، ويؤيده قوله (عليه السلام): يستعينون به علينا.
وفيه: أن الإعانة على الإثم وإن لم يعتبر في مفهومها القصد إلا أنك قد
عرفت أنها ليست محرمة في نفسها، وعلى القول بحرمتها فبينها وبين ما
نحن فيه عموم من وجه كما هو واضح، وأما قوله (عليه السلام) في رواية هند
السراج المتقدمة في الهامش: فمن حمل إلى عدونا سلاحا يستعينون
به علينا فهو مشرك، فخارج عن حدود الإعانة على الإثم، وإنما يدل

1 - قوله تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله
وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم (الأنفال: 62).
2 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 11.
305

على حرمة إعانة الظلمة ولا سيما إذا كانت على المعصومين (عليهم السلام)
الموجبة لزوال حقوقهم.
قوله: بل يكفي مظنة ذلك بحسب غلبة ذلك مع قيام الحرب.
أقول: قد علمت أن الروايات المانعة تقتضي حرمة بيع السلاح من
أعداء الدين ولو مع العلم بعدم صرفه في محاربة المسلمين أو عدم
حصول التقوي لهم بالبيع، وعليه فلا وجه لما ذكره المصنف من تقييد
حرمة البيع بوجود المظنة بصرف السلاح في الحرب لغلبة ذلك عند
قيامها بحيث يصدق حصول التقوي لهم بالبيع.
الناحية الثانية: الظاهر شمول التحريم لمطلق آلة الحرب وحديدتها،
سواء كانت مما يدافع به في الحرب أم مما يقاتل، وذلك لوجوه:
1 - إن السلاح في اللغة (1) اسم لمطلق ما يكن، فيشمل مثل المجن (2)
والدرع والمغفر (3) وسائر ما يكن (4) به في الحرب.

1 - في تاج العروس: السلاح - بالكسر - والسلح كعنب والسلحان - بالضم - آلة الحرب
(تاج العروس 2: 165).
وفي المصباح: ما يقاتل به في الحرب ويدافع أو حديدتها، أي ما كان من الحديد كذا خصه
بعضهم، يذكر ويؤنث والتذكير أعلى، لأنه يجمع على أسلحة، وهو جمع المذكر مثل حمار و
أحمرة، ورداء وأردية، والسلاح القوس بلا وتر، والعصا تسمي سلاحا (المصباح 284).
وفي مجمع البحرين: قوله تعالى: خذوا أسلحتكم، هي جمع سلاح - بالكسر - وهو ما
يقاتل به في الحرب ويدافع، والتذكير فيه أغلب من التأنيث، ويجمع في التذكير على أسلحة،
وعلى التأنيث سلاحات (مجمع البحرين 2: 374).
2 - في القاموس: المجن والمجنة - بكسرهما - الترس، والجنة - بالضم - كل ما وقى.
3 - في القاموس: المغفر - كمنبر - زرد من الدرع يلبس تحت القلنسوة، أو حلق يتقنع بها
المتسلح.
4 - في تاج العروس: الكن - بالكسر - وقاء كل شئ وستره، وكن أمره عنه أخفاه، وقال
بعضهم: أكن الشئ ستره، وفي التنزيل العزيز: أو أكننتم في أنفسكم أي أخفيتم (تاج
العروس 9: 323.
306

2 - إنه تعالى أمر في الآية المتقدمة بالتهيئة والاستعداد إلى قتال الكفار
وارهابهم، فبيع السلاح منهم ولو بمثل المغفر والدرع نقض لغرضه
تعالى.
3 - إن تمكين الكفار من مطلق ما يكن به في الحرب تقوية لهم فهو
محرمة عقلا وشرعا كما علمت.
4 - إنه يحرم حمل السروج وأداتها إلى أهل الشام وبيعها منهم
والإعانة لهم عند قيام الحرب بينهم وبين الشيعة، لروايتي الحضرمي
وهند السراج، فبيعها من الكفار أولى بالتحريم، ولكن هذا الوجه يختص
بحال الحرب، على أن كلتا الروايتين ضعيفة السند.
وهم ودفع:
قد يتوهم أن المراد بالسروج المذكورة في رواية الحضرمي هي
السيوف السريجية، فلا تكون لها دلالة ولو بالفحوى على حرمة بيع ما
يكن من أعداء الدين.
ولكن هذا التوهم فاسد، فإنه مضافا إلى أن الظاهر من كون السائل
سراجا أن سؤاله متصل بصنعته، وهي عمل السروج ونقلها، فلا ربط له
بالسيوف وبيعها، إن حمل السروج بالواو على السيوف السريجية
لا تساعده القواعد اللغوية، لأن السريجي يجمع على سريجيات لا على
سروج، وإنما السروج جمع سرج.
على أنه لا يساعده صدر الرواية لاشتماله على كلمة الأداة، وليست
للسيف أدوات بخلاف السرج، وحملها على أدوات السيف من الغمد
ونحوه بعيد جدا.
307

قوله: بمقتضى أن التفصيل قاطع للشركة.
أقول: قد يقال بجواز بيع ما يكن من الكفار، لصحيحة محمد بن قيس
عن بيع السلاح من فئتين تلتقيان من أهل الباطل، فقال (عليه السلام): بعهما ما
يكنهما (1).
وفيه ما ذكره المصنف من عدم دلالتها على المطلوب، وتوضيح
ذلك: إن الإمام (عليه السلام) فصل بين السلاح وبين ما يكن، فلا بد وأن يكون بيع
السلاح حراما بعد ما جوز الإمام بيع الثاني، لأن التفصيل قاطع للشركة
في الحكم وإلا لكان التفصيل لغوا.
وعليه فترفع اليد عن ظهور الصحيحة وتحمل على فريقين محقوني
الدماء من أهل الخلاف، إذ لو كان كلاهما أو أحدهما مهدور الدم لم يكن
وجه لمنع بيع السلاح منهم، وحينئذ فيجب أن يباع منهما ما يكن
ليتحفظ كل منهما عن صاحبه، ويترأس به عنه، بل لو لم يشتروا وجب
اعطاؤهم إياه مجانا، فإن اضمحلالهم يوجب اضمحلال وجهة الاسلام
في الجملة.
ولذا سكت علي (عليه السلام) عن مطالبة حقه من الطغاة خوفا من انهدام حوزة
الاسلام، ومن هنا أفتى بعض الأعاظم في سالف الأيام بوجوب الجهاد
مع الكفار حفظا للدولة العثمانية.
قوله: ثم إن مقتضى الاقتصار على مورد النص عدم التعدي إلى غير أعداء الدين
كقطاع الطريق.

1 - قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح، فقال:
بعهما ما يكنهما الدرع والخفين ونحو هذا (الكافي 5: 113، التهذيب 6: 354، الإستبصار 3:،
عنهم الوسائل 17: 102)، صحيحة.
في القاموس: الفئة كجعة الطائفة، أصلها فئ كقيع، ج فئون وفئان.
308

أقول: بيع السلاح من السرقة وقطاع الطريق ونحوهم خارج عن
حريم بحثنا، وإنما هي من صغريات المسألة المتقدمة، فإن قلنا بحرمة
الإعانة على الإثم فلا يجوز بيعه منهم وإلا جاز كما هو الظاهر.
قوله: إلا أن المستفاد من رواية تحف العقول إناطة الحكم بتقوي الباطل ووهن
الحق.
أقول: لم يذكر ذلك في رواية تحف العقول، بل المذكور فيها هي
حرمة وهن الحق وتقوية الكفر، وعليه فلا يمكن التمسك بها على حرمة
بيع السلاح من قطاع الطريق ونحوهم، نعم يجوز الاستدلال على ذلك
بقوله (عليه السلام) فيها: أو شئ فيه وجه من وجوه الفساد، إلا أنك علمت في
أول الكتاب أن الرواية ضعيفة السند.
قوله: ثم النهي في هذه الأخبار لا يدل على الفساد.
أقول: لا شبهة في أن الحرمة الوضعية متقومة بكون النهي ارشاديا إلى
الفساد، ولا نظر له إلى مبغوضية المتعلق، كما أن قوام الحرمة التكليفية
بكون النهي مولويا تكليفيا ناظرا إلى مبغوضية متعلقه، ولا نظر له إلى
فساده وعدم تأثيره، فهما لا يجتمعان في استعمال واحد، وأيضا النهي
من حيث هو تحريم بحت لا يقتضي الفساد، لا شرعا ولا عرفا ولا عقلا،
سواء تعلق بذات المعاملة أو بوصفها أو بأمر خارج منطبق عليها، إذن
فلا ملازمة بين الحرمة الوضعية والحرمة التكليفية، على ما عرفت مرارا
عديدة.
وعليه فإن كان المراد بالنهي المتوجه إلى المعاملة هو النهي التكليفي
المولوي، كما هو الظاهر منه بحسب الوضع واللغة، لدل على خصوص
الحرمة التكليفية، كالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، إذ ليس
الغرض منه إلا بيان مبغوضية البيع، وإن لم ترد منه المولوية التكليفية كان
309

ارشادا إلى الفساد، كالنهي المتوجه إلى سائر المعاملات، أو إلى المانعية
كالنهي المتوجه إلى أجزاء الصلاة.
إذا عرفت ذلك فنقول: إن النهي عن بيع السلاح من أعداء الدين ليس إلا
لأجل مبغوضية ذات البيع في نظر الشارع فيحرم تكليفا فقط، ولا يكون
دالا على الفساد، ويتضح ذلك جليا لو كان النهي عنه لأجل حرمة تقوية
الكفر، لعدم تعلق النهي به، بل بأمر خارج يتحد معه.
310

النوع الثالث
ما لا منفعة فيه محللة معتدا بها عند العقلاء
جواز بيع ما لا نفع فيه
قوله: النوع الثالث مما يحرم الاكتساب به: ما لا منفعة فيه محللة معتدا بها عند
العقلاء.
أقول: البحث في هذا النوع ليس على نسق البحث في الأنواع السابقة
لنمحضه هنا لبيان الحرمة الوضعية، بخلافه في المسألة السابقة فإن
البحث فيها كان ناظرا إلى الحرمة التكليفية.
ومن ذلك يعلم أنه لا وجه لهذا البحث هنا إلا استطرادا، فإن المناسب
لهذا ذكره في شرائط العوضين، والعجب من المصنف (رحمه الله) حيث حيث
ذكر عدم جواز بيع المصحف من الكافر في شروط الصحة، مع أنه أولى
بالذكر هنا، لامكان دعوى كونه حراما تكليفا.
ثم إن ما لا نفع فيه تارة يكون لقلته، كحبة من الشعير والحنطة
وغيرهما، فإن هذه الأمور وإن كانت تعد عند العرف والشرع من الأموال
بل من مهماتها إلا أن قلتها أخرجتها عن حدودها وحدود امكان الانتفاع
بها.
وأخرى يكون لخسته وردائته كحشرات الأرض من العقارب
والحيات والخنافس والجعلان والضفادع والديدان، وكبعض أقسام
311

الطيور من بغاثها (1) والنسر والغربان والرخم (2) ونحوها.
تحقيق وتكميل:
قد تطابقت كلمات الأصحاب على فساد المعاملة على ما لا نفع فيه
نفعا يعتد به، قال الشيخ في المبسوط: وإن كان مما لا ينتفع به فلا يجوز
بيعه بلا خلاف، مثل الأسد والذئب وسائر الحشرات (3).
وفي التذكرة منع عن بيع تلك الأمور لخستها وعدم التفات نظر الشرع
إلى مثلها في التقويم، ولا يثبت لأحد الملكية عليها ولا اعتبار بما يورد
في الخواص من منافعها، فإنها مع ذلك لا نعد مالا، وكذا عند الشافعي (4).
وفي الجواهر (5) ادعى الاجماع محصلا ومنقولا على حرمة بيع ما
لا ينتفع به نفعا مجوزا للتكسب به على وجه يرفع السفه عن ذلك، وعلى
هذا المنهج فقهاء العامة أيضا (6)، وإن جوز بعضهم بيع الحشرات والهوام
إذا كانت مما ينتفع بها.
إذا عرفت ذلك فنقول: المتحصل من كلمات الفقهاء لفساد بيع ما لا نفع
فيه وجوه:

1 - في القاموس: البغاث - مثلثة - طائر أغبر، ج كغزلان وشرار الطيور.
2 - في القاموس: الرخم طائر من الجوارح الكبيرة الجثة الوحشية الطباع، الواحدة رخمة،
ج رخم.
3 - المبسوط 2: 166.
4 - التذكرة 1: 465.
5 - جواهر الكلام 22: 34.
6 - في فقه المذاهب (2: 232): يصح بيع الحشرات والهوام كالحيات والعقارب، إذا كان
ينتفع بها، وعن الحنابلة لا يصح بيع الحشرات، وفي (2: 237): فإذا لم يكن من شأنه الانتفاع
به كحبة من الحنطة، فلا يجوز بيعه.
312

1 - إن حقيقة البيع كما عن المصباح (1) عبارة عن مبادلة مال بمال،
فلا يصح بيع ما ليس بمال.
وفيه أولا: أنه لا يعتبر في مفهوم البيع وصدقه لغة وعرفا عنوان
المبادلة بين المالين، ومن هنا ذكر في القاموس أن كل من ترك شيئا
وتمسك بغيره فقد اشتراه، ومن الواضح جدا عدم تحقق الاشتراء بدون
البيع للملازمة بينهما، ولذا قال الراغب الأصفهاني: الشراء والبيع
يتلازمان (2)، بل كثر في الكتاب العزيز استعمال البيع والشراء في غير
المبادلة المالية.
وأما ما عن المصباح فمضافا إلى عدم حجية قوله إنه كسائر التعاريف
ليس تعريفا حقيقيا بل لمجرد شرح الاسم، فلا يبحث فيه طردا وعكسا،
نقضا وإبراما.
وثانيا: إنه لو ثبت ذلك فغاية ما يلزم منه أنه لا يمكن تصحيح البيع
بالعمومات الدالة على صحة البيع، وهو لا يمنع عن التمسك بالعمومات
الدالة على صحة العقد والتجارة عن تراض، بداهة صدقها على تبديل ما
لا نفع فيه بمثله أو بمال هو مال.
2 - ما عن الإيضاح، من أن المعاملة على ما ليس له نفع محلل أكل
للمال بالباطل فتكون فاسدة.

1 - المصباح المنير: 69.
2 - في مفردات الراغب: شريت بمعنى بعت أكثر، واتبعت بمعنى اشتريت أكثر، قال الله
تعالى: وشروه بثمن بخس أي باعوه، وكذلك قوله: يشرون الحياة الدنيا بالآخرة،
ويجوز الشراء والاشتراء في كل ما يحصل به شئ، نحو: إن الذين يشترون بعهد الله،
لا يشترون بآية الله، اشتروا الحياة الدنيا، اشتروا الضلالة، إن الله اشترى من المؤمنين، ومن
الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، فمعنى يشري يبيع (مفردات الراغب: 260).
313

وفيه: ما سمعته مرارا من أن الآية أجنبية عن بيان شرائط العوضين،
بل هي ناظرة إلى تمييز الأسباب الصحيحة للمعاملة عن الأسباب الفاسدة
لها، وعليه فلا يكون الأكل في محل الكلام من أكل المال بالباطل بعد
كون سببه تجارة عن تراض.
3 - إن بيع ما لا نفع فيه من المعاملات السفهية فهي فاسدة.
وفيه: أنه ممنوع صغرى وكبرى، أما الوجه في منع الصغرى فهو أن
المعاملة إنما تكون سفهية إذا انتفت عنها الأغراض النوعية والشخصية
كلتيهما وليس المقام كذلك، إذ ربما تتعلق الأغراض الشخصية باشتراء
ما لا نفع فيه من الحشرات وغيرها، وهي كافية في خروج المعاملة عن
السفهية.
وأما الوجه في منع الكبرى فلأنه لا دليل على فساد المعاملة السفهية
بعد أن شملتها العمومات كما أشرنا إلى ذلك مرارا، نعم قام الدليل على
فساد معاملة السفيه لكونه محجورا عن التصرف، والمعاملة السفهية غير
معاملة السفيه.
4 - ما استدل به المصنف (رحمه الله) من قوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول:
وكل شئ يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فذلك كله حلال
بيعه وشراؤه، إذ لا يراد منه مجرد المنفعة وإلا لعم الأشياء كلها، وقوله
(عليه السلام) في آخرها: إنما حرم الله الصناعة التي يجئ منها الفساد محضا
نظير كذا وكذا، إلى آخر ما ذكره، فإن كثيرا من الأمثلة المذكورة هناك
لها منافع محللة، فالأشربة المحرمة مثلا كثيرا ما ينتفع بها في معالجة
الدواب بل الأمراض، فجعلها مما يجئ منه الفساد محضا باعتبار عدم
الاعتناء بهذه المصالح لندرتها.
وفيه: أن هاتين القطعتين من الرواية إنما سيقتا لبيان حكم الأشياء التي
314

تمحضت للصلاح أو الفساد، أو تساوت فيها الجهتان، أو غلبت إحداهما
على الأخرى، فيحكم بصحة بيعها أو فساده حسب ما اقتضته تلك الجهة
التعليلية المكنونة فيها.
وأما الأشياء التي لها نفع محلل نادر فخارجة عن حدود الرواية،
إذ ليس فيها تعرض لذلك بوجه، لا من حيث صحة البيع ولا من حيث
فساده، وعليه فلا مانع من صحة المعاملة عليها للعمومات.
على أنها لو تمت فإنما تدل على فساد بيع ما لا نفع فيه لخسته لكونه
مما يجئ منه الفساد محضا، ولا تشمل ما لا نفع فيه لقلته كحبة من
الحنطة، إذ ليست فيه جهة فساد أصلا.
ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه فهي مختصة بالحرمة التكليفية على
ما تقدم في أول الكتاب، فلا تشمل الحرمة الوضعية، ويضاف إلى ما
ذكرناه كله أنها ضعيفة السند فلا يصح الاستدلال بها.
5 - دعوى غير واحد من الأعاظم الاجماع على ذلك.
وفيه: أن المحصل منه غير حاصل والمنقول منه ليس بحجة، على
أنا لا نطمئن بوجود الاجماع التعبدي الكاشف عن الحجة المعتبرة،
لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المذكورة في المسألة.
وربما يؤيد القول بالجواز بصحيحة محمد بن مسلم (1) الصريحة في
جواز بيع الهر، مع أنه مما لا نفع فيه، بل كثيرا ما يضر الناس.

1 - محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ثمن الكلب إلى لا يصيد سحت، ثم قال:
ولا بأس يثمن الهر (التهذيب 6: 356، عنه الوسائل 17: 119) موثقة.
عن علي (عليه السلام) أنه رأى رجلا يحمل هرة، فقال: ما تصنع، قال: أبيعها فلا حاجة لي بها، قال:
تصدق بثمنها (دعائم الاسلام 2: 20، عنه المستدرك 13: 90)، مرسلة.
315

وفي التذكرة (1): لا بأس ببيع الهر عند علمائنا، وبه قال ابن عباس
والحسن وابن سيرين والحكم وحماد والثوري ومالك والشافعي (2)
وإسحاق وأصحاب الرأي.
والعجب من المصنف حيث منع عن بيع القرد لكون المصلحة
المقصودة منه أعني حفظ المتاع نادرة بخلاف الهرة، لورود غير واحد من
الروايات على جواز بيعها، ووجه العجب أن منافع القرد المحللة ليست
بنادرة، بل هي من مهمات المنافع، وإنما الوجه في المنع عن بيع القرد
هو الروايات التي تقدمت في بيع المسوخ.
قوله: ولو فرض الشك في صدق المال على مثل هذه الأشياء المستلزم للشك في
صدق البيع.
أقول: العلم بعدم صدق المال على شئ لا يمنع عن وقوع البيع عليه
فضلا عن الشك في صدقه عليه، وإذن فلا وجه لرفع اليد عن عموم ما دل
على صحة البيع والتمسك بعمومات التجارة والصلح والعقود والهبة
المعوضة وغيرها كما صنعه المصنف.
قوله: لأن ظاهر تحريمها عليهم تحريم أكلها أو سائر منافعها المتعارفة.

1 - التذكرة 1: 464.
2 - في فقه المذاهب عن الحنفية: يصح بيع الحيوانات بأجمعها سوي الخنزير، وعن
الحنابلة أنه هل يصح بيع الهر خلاف، والمختار أنه لا يجوز (فقه المذاهب 2: 232).
أقول: الظاهر أن القائلين بحرمة بيع الهر قد استندوا إلى جملة من الأحاديث المروية عن
النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد أخرجها البيهقي في سننه:
منها ما عن جابر قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ثمن الكلب والسنور.
ومنها ما عن عبد الرزاق بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله): نهى عن ثمن الهر.
ومنها ما عن جابر أيضا: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أكل الهر وأكل ثمنه (راجع سنن البيهقي
6: 11).
316

أقول: هذا ينافي ما تقدم منه في بيع الأبوال، من حمل النبوي على
كون الشحوم محرمة الانتفاع على اليهود بجميع الانتفاعات.
قوله: ومنه يظهر أن الأقوى جواز بيع السباع، بناء على وقوع التذكية عليها،
أقول: يجوز بيع جلود السباع والانتفاع بها على وجه الاطلاق لجملة
من الأخبار التي ذكرناها في بيع المسوخ والسباع، وعليه فلا وجه
لدعوى أن النص إنما ورد ببعضها فقط فيجب تقييد جواز البيع به كما في
المتن.
ثم إن السباع مما يقبل التذكية كما هو المشهور، بل عن السرائر
الاجماع عليه، وتدل عليه موثقة سماعة التي تقدمت في مبحث جواز
الانتفاع بالميتة عن جلود السباع ينتفع بها، قال (عليه السلام): إذا رميت
وسميت فانتفع بجلده، إلا أنه لا وجه لتعليق جواز بيعها على قبول
التذكية إلا على القول بحرمة الانتفاع بالميتة، وإلا فلا مانع من بيعها في
حال الحياة للانتفاع بجلودها بعد الموت.
قوله: ولو غصبه غاصب كان عليه مثله إن كان مثليا.
أقول: الدليل على الضمان إنما هو السيرة القطعية من العقلاء
والمتشرعة، وعليه فلا بد وأن يخرج من عهدة الضمان، إما برد عينه أو
مثله، ومع فقدهما لا يمكن الخروج منها بأداء القيمة، بل أصبح الغاصب
مشغول الذمة لصاحب العين إلى يوم القيامة مثل المفلس، إذ الانتقال إلى
القيمة إنما هو فيما إذا كان التالف من الأموال فلا ينتقل إليها إذا لم يكن
التالف مالا.
وربما يتمسك للقول بالضمان بقاعدة ضمان اليد لشمولها لمطلق
المأخوذ بالغصب، سواء كان من الأموال أو من غيرها.
317

وفيه: أن القاعدة وإن ذكرت في بعض الأحاديث (1) واستند إليها
المشهور في موارد الضمان، ولكنها ضعيفة السند وغير منجبرة بشئ،
كما سيأتي التعرض لها في المقبوض بالعقد الفاسد.
وقد يتمسك للضمان بقاعدة الاتلاف: من أتلف مال الغير فهو له
ضامن، ولكنه واضح الفساد، لاختصاص موردها بالأموال فلا تشمل
غيرها.
نعم لو انفصلت كلمة: ما عن: اللام وأريد من الأول الموصول ومن
الثاني حرف الجر بحيث تكون العبارة هكذا: من أتلف ما للغير - الخ،
لشملت هذه القاعدة صورة الاتلاف وغيره إلا أنه بعيد جدا، على أن
القاعدة المذكورة متصيدة وليست بمتن رواية.
وكيف كان فموردها خصوص الاتلاف فلا تدل على الضمان عند
عدمه، فلا دليل على الضمان إلا السيرة كما عرفت.
قوله: خلافا للتذكرة (2)، فلم يوجب شيئا كغير المثلي.
أقول: ضعفه بعضهم (3) بأن اللازم حينئذ عدم الغرامة فيما لو غصب
صبرة تدريجا.

1 - عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): على اليد ما أخذت حتى تؤدي -
الحديث (كنز العمال للمتقي الهندي 5: 252، ومسند أحمد 5: 8، وسنن أبي داود السجستاني
3: 296، وسنن البيهقي 6: 90، ونيل الأوتار للشوكاني 5: 252).
وفي شرح النهج لابن أبي الحديد: أن سمرة هو الذي كان يحرض الناس لحرب الحسين
(عليه السلام)، وكان نائبا عن ابن زياد في البصرة عند مجيئه إلى الكوفة، وهو صاحب النخلة في
بستان الأنصاري، ومن المنحرفين عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (شرح النهج لابن أبي الحديد
1: 363).
2 - التذكرة 1: 465.
3 - قاله المحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 90.
318

ويرد عليه أن نظر العلامة (رحمه الله) ليس إلا عدم الضمان مطلقا، بل فيما إذا
لم يكن المغصوب مقدارا يصدق عليه عنوان المال، ومن البديهي أن كل
حبة من الصبرة وإن لم تكن مالا بشرط لا ومجردة عن الانضمام إلى حبة
أخرى، إلا أنها إذا انضمت إلى غيرها من الحبات صارت مالا فتشملها
أدلة الضمان.
فرع:
لو حاز ما لا نفع له كالحشرات لثبت له الاختصاص به، فيكون أولى به
من غيره، فليس لأحد أن يزاحمه في تصرفاته فيه للسيرة القطعية، على
أن أخذ المحاز من المحيز قهرا عليه ظلم فهو حرام عقلا وشرعا، وأما
حديث: من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد من المسلمين فهو أحق به (1)،
فقد تقدم أنه ضعيف السند وغير منجبر بشئ.
-
1 - عوالي اللئالي 3: 480.
319

النوع الرابع
ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه
قوله: النوع الرابع: ما يحرم الاكتساب به لكونه عملا محرما في نفسه.
أقول: قد جرت عادة الأصحاب بالبحث عن جملة من الأعمال
المحرمة في مقدمة أبحاث التجارة، وتبعهم المصنف بذكر أكثرها في
مسائل شتى بترتيب حروف أوائل عنواناتها، ونحن أيضا نقتفي أثرهم.
ثم إن قد علمت في البحث عن معنى حرمة البيع تكليفا أنه يكفي في
عدم جواز المعاملة على الأعمال المحرمة ما دل على حرمتها من الأدلة
الأولية، إذ مقتضى أدلة صحة العقود لزوم الوفاء بها ومقتضى أدلة
المحرمات حرمة الاتيان بها وهما لا يجتمعان، وعليه فلا موجب
للبحث في كل مسألة من المسائل الآتية عن صحة المعاملة عليها
وفسادها، بل في جهات أخرى.
وأما ما في حاشية السيد (1)، من عدم جواز أخذ الأجرة على العمل
المحرم، لقوله (عليه السلام): إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه، فإن المراد من
الثمن مطلق العوض فهو فاسد، فإنه مضافا إلى ضعف سند هذا الحديث
إنا نمنع صدق الثمن على مطلق العوض.

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 15.
320

المسألة (1)
حكم تدليس الماشطة
قوله: المسألة الأولى: تدليس الماشطة المرأة التي يراد تزويجها، أو الأمة التي
يراد بيعها حرام.
أقول: الماشطة والمشاطة التي تحسن المشط وتتخذ ذلك حرفة
لنفسها، والظاهر أنه لا خلاف في حرمة تدليسها إذا أظهرت في المرأة
التي يراد تزويجها أو الأمة التي يراد بيعها ما ليس فيهما من المحاسن، بل
ادعى عليه الاجماع كما في الرياض (1) وغيره (2).
قال في تجارة المقنع: ولا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط وقبلت
ما تعطي، ولا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها (3).
وفي المكاسب المحظورة من النهاية: كسب المواشط حلال إذا
لم يغششن ولا يدلسن في عملهن فيصلن شعر النساء بشعر غيرهن من
الناس، ويوشمن الخدود، ويستعملن ما لا يجوز في شريعة الاسلام (4).
وفي فتاوى العامة (5) أنه لا يجوز وصل شعر الانسان بشعر المرأة،

1 - رياض المسائل 1: 504.
2 - مجمع الفائدة 8: 84.
3 - المقنع (الجوامع الفقهية): 300.
4 - نهاية الإحكام: 366.
5 - في شرح فتح القدير: منع عن وصل شعر الانسان بشعر المرأة، لحديث لعن الله
الواصلة والمستوصلة (شرح فتح القدير 5: 204).
وفي فقه المذاهب عن الحنفية: ومن البيوع الباطلة بيع شعر الانسان، لأنه لا يجوز لحديث
لعن الله - الخ، وقد رخص في الشعر المأخوذ من الوبر ليزيد في ضفائر النساء (فقه المذاهب
2: 240).
وسنن البيهقي في عدة من الأحاديث: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الواصلة والمستوصلة (سنن
البيهقي 2: 426).
321

وتحقيق هذه المسألة في ثلاث جهات:
الجهة الأولى في تدليس الماشطة:
الظاهر أنه لا دليل على حرمة التدليس والغش من حيث هما تدليس
وغش إلا في بيع أو شراء أو تزويج، للروايات الخاصة التي سنتعرض لها
في البحث عن حرمة الغش، بل ربما يكونان مطلوبين للعقلاء، كتزيين
الدور والألبسة والأمتعة، لاظهار العظمة والشوكة وحفظ الكيان وإرائة
أنها جديدة.
نعم لو قلنا بحرمة الإعانة على الإثم لكان تزيين المرأة التي في معرض
التزويج أو الأمتعة التي في معرض البيع حراما، لكونه مقدمة للغش
المحرم.
وقد أجاد المحقق الإيرواني حيث قال: إن الماشطة لا ينطبق على
فعلها غش ولا تدليس، و إنما الغش يكون بفعل من يعرض المغشوش
والمدلس فيه على البيع، نعم الماشطة أعدت المرأة لأن يغش بها،
وحالها كحال الحائك الذي بفعله تعد العامة لأن يدلس بلبسها، وكفعل
صانع السبحة لأن يدلس بالتسبيح بها رياء، وأما نفس التمشيط فلا دليل
يدل على المنع عنه بقول مطلق، بل الأخبار رخصت فيه (1).
الجهة الثانية في تمشيط الماشطة:
الظاهر أنه لا دليل على المنع عنه بقول مطلق، وإن ورد النهي عن

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 19.
322

خصوص وصل الشعر بالشعر، بل يتجلى من الأخبار الكثيرة (1) جوازه

1 - عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أم حبيب الخافضة قال: وكانت
لأم حبيب أخت يقال لها: أم عطية، وكانت مقنية، يعني ماشطة، فلما انصرفت أم حبيب إلى
أختها فأخبرتها بما قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقبلت أم عطية إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته بما قالت
لها أختها، فقال لها: ادني مني يا أم عطية، إذا أنت قنيت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة، فإن
الخرقة تذهب بماء الوجه (الكافي 5: 118، التهذيب 6: 360، عنهما الوسائل 17: 131)،
صحيحة.
أقول: تقيين الجواري تزيينها، وعن الصحاح: اقتان الرجل إذا حسن، واقتان الروضة
أخذت زخرفها، ومنه قيل للماشطة مقنية، وقد قينت العروس تقيينا زينها.
وعن ابن أبي عمير عن رجل، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخلت ماشطة على رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه، فقالت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنا أعمله إلا أن
تنهاني عنه فأنتهي عنه، فقال: افعلي، فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرقة، فإنه يذهب بماء
الوجه، ولا تصلي الشعر بالشعر (الكافي 5: 119، التهذيب 6: 359، عنهما الوسائل 17: 132)،
ضعيفة لابن أشيم ومرسلة.
وزاد في المتن: وأما شعر المعز فلا بأس بأن يوصل بشعر المرأة، وهو من سهو القلم.
وعن سعد الإسكاف قال: سئل أبو جعفر (عليه السلام) عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن
تصلنه بشعورهن، فقال: لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها، قال: فقلت: بلغنا أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لعن الواصلة والموصولة، فقال: ليس هنالك، إنما لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الواصلة التي
تزني في شبابها، فلما كبرت قادت النساء إلى الرجال، فتلك الواصلة والموصولة (الكافي
5: 119، التهذيب 6: 360، عنهما الوسائل 17: 131)، ضعيفة لسعد المذكور.
أقول: القرمل - كزبرج - ما تشد المرأة في شعرها من شعر أو صوف أو إبريسم، ويقال له في
لغة الفرس: گيسوبند، وفي لغة الترك: صاج باغي.
عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لعن الواصلة والموصولة، قال: فقال: نعم، قلت: التي تتمشط وتجعل في الشعر القرامل، قال:
فقال لي: ليس بهذا بأس، قلت: فما الواصلة والموصولة، قال: الفاجرة والقوادة (الكافي
5: 119 و 520، التهذيب 6: 360، المحاسن: 114، عنهم الوسائل 2: 187)، مرسلة.
323

مطلقا، سواء اشترت فيه الأجرة أم لم تشترط، بل في رواية قاسم بن
محمد (1) صرح بجواز تعيش الماشطة بالتمشيط إذا لم تصل الشعر بالشعر.
وقد يقال بتقييدها بمفهوم مرسلة الفقيه وفقه الرضا (عليه السلام) (2)، فإنهما
تدلان على جواز كسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطي، إذ
مفهومهما يدل على حرمة كسبها مع انتفاء القيدين أو أحدهما، فتقيد به
المطلقات، وعليه فالنتيجة أنه لا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط
الأجرة وقبلت ما تعطي وإلا فيحرم كسبها.
وفيه أولا: أنهما ضعيفتا السند، فلا يجوز الاستدلال بهما على
الحرمة، نعم لا بأس بالاستدلال بهما على الكراهة، بناء على شمول
أخبار من بلغ للمكروهات.
وما ذكره المصنف من أن المراد بقوله (عليه السلام): إذا قبلت ما تعطي، البناء
على ذلك حين العمل، وإلا فلا يلحق العمل بعد وقوعه ما يوجب
كراهته، بين الخلل، فإنه لا موجب لهذا التوجيه بعد امكان الشرط
المتأخر ووقوعه، فلا غرو في تأثير عدم القبول بعد العمل في كراهة
ذلك العمل كتأثير الأغسال الليلية في صحة الصوم على القول به.

1 - وعن القاسم بن محمد، عن علي (عليه السلام) قال: سألته عن امرأة مسلمة تمشط العرائس
ليس لها معيشة غير ذلك وقد دخلها ضيق، قال: لا بأس، ولكن لا تصل الشعر بالشعر
(التهذيب 6: 359، عنه الوسائل 17: 131)، ضعيفة لقاسم المذكور.
2 - عن الصدوق قال: قال (عليه السلام): لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط، وقبلت ما تعطي،
ولا تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، وأما شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر المرأة (الفقيه
3: 98، عنه الوسائل 17: 133)، مرسلة.
في فقه الرضا (عليه السلام): ولا بأس بكسب الماشطة إذا لم تشارط، وقبلت ما تعطي، ولا تصل
شعر المرأة بغير شعرها، وأما شعر المعز فلا بأس (فقه الرضا (عليه السلام): 33، عنه المستدرك
13: 94)، ضعيفة.
324

وثانيا: ما ذكره المصنف (رحمه الله) وملخص كلامه: أن الوجه في أولوية
قبول ما تعطي وعدم مطالبتها بالزيادة إنما هو أحد أمرين على سبيل منع
الخلو:
1 - إن ما يعطى للماشطة والحجام والختان والحلاق وأمثالهم
لا ينقص غالبا عن أجرة مثل عملهم، إلا أنهم لكثرة حرصهم ودناءة
طباعهم يتوقعون الزيادة خصوصا من أولي المروة والثروة، بل لو منعوا
عما يطلبونه بادروا إلى السب وهتك العرض، ولذا أمروا في الشريعة
المقدسة بالقناعة بما يعطون وترك المطالبة بالزائد عنه.
2 - إن المشارطة والمماكسة في مثل تلك الأمور لا تناسب المحترمين
من ذوي المجد والفخامة، كما أن المسامحة فيها ربما توجب المطالبة
بأضعاف أجرة المثل، فلذلك أمر الشارع أصحاب هذه الأعمال بترك
المشارطة والرضا بما يعطى لهم.
وهذا كله لا ينافي جواز المطالبة بالزائد والامتناع عن قبول ما يعطى
إذا اتفق كونه أقل من أجرة المثل، إذ لا يجوز الاعطاء أقل من ذلك
لاحترام عملهم.
قوله: أو لأن الأولى في حق العامل قصد التبرع.
أقول: المرسلة إنما دلت على عدم المشارطة المستلزمة لعدم تحقق
الإجارة المعتبر فيها تعيين الأجرة، وهذا لا يستلزم قصد التبرع، لجواز
أن يكون ايجاد العمل بأمر الأمر، فيكون أمره هذا موجبا للضمان بأجرة
المثل كما هو متعارف في السوق كثيرا.
قوله: فلا ينافي ذلك ما ورد.
أقول: إن تم ما ذكره المصنف من حمل المرسلة على أن الأولى
بالعامل أن يقصد التبرع، كانت المرسلة خارجة عن حدود الإجارة
325

موضوعا، وإن لم يتم ذلك فلا بد وأن يلتزم بتخصيص ما دل (1) على
اعتبار تعيين الأجرة قبل العمل بواسطة المرسلة إذا كانت حجة، وإلا
فيرد علمها إلى أهلها.
الجهة الثالثة:
قد ورد في بعض الأخبار لعن الماشطة على خصال أربع: الوصل
والنمص والوشم والوشر (2).
أما الوصل، فإن كان المراد به ما هو المذكور في روايتي سعد

1 - عن سليمان بن جعفر الجعفري: أن الرضا (عليه السلام) أقبل على غلمانه يضربهم بالسوط
لعدم مقاطعتهم على أجرة الأجير قبل العمل (الكافي 5: 288، التهذيب 7: 212، عنهما الوسائل
19: 105)، صحيحة.
مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن
أجيرا حتى يعلمه ما أجره (الكافي 5: 289، التهذيب 7: 211، عنهما الوسائل 19: 105)، ضعيفة
لمسعدة.
2 - عن معاني الأخبار بإسناده عن علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام)
قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) النامصة والمنتمصة، والواشرة والمستوشرة، والواصلة
والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة (معاني الأخبار: 249، عنه الوسائل 17: 133)، ضعيفة
لعلي بن غراب وغيره من رجال الحديث.
قال الصدوق: قال علي بن غراب: النامصة التي تنتف الشعر من الوجه، والمنتمصة التي
يفعل ذلك بها، والواشرة التي تشر أسنان المرأة وتفلجها وتحددها، والمستوشرة التي يفعل
ذلك بها، والواصلة التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، والمستوصلة التي يفعل ذلك بها،
والواشمة التي تشم وشما في يد المرأة، أو في شئ من بدنها، وهو أن تغرز يديها أو ظهر كفيها
أو شيئا من بدنها بإبرة حتى تؤثر فيه، ثم تحشوه بالكحل أو بالنورة فتخضر، والمستوشمة التي
يفعل ذلك بها.
وقد ورد اللعن أيضا من طرق العامة على الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة،
والواشرة والمستوشرة، والنامصة و المنتمصة، راجع سنن البيهقي 2: 426 و 7: 312.
326

الإسكاف والاحتجاج المتقدمتين في الحاشية، من تفسير الواصلة
بالفاجرة والقوادة، فحرمته من ضروريات الاسلام، وسيأتي التعرض
لذلك في البحث عن حرمة القيادة، وإن كان المراد به ما في تفسير علي بن
غراب، من أن الواصلة التي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، فقد
يقال بحرمته أيضا لظهور اللعن فيها.
ولكن يرد عليه أولا: أنه لا حجية في تفسير ابن غراب لعدم كونه من
المعصوم، مع ورود الرد عليه في روايتي سعد الإسكاف والاحتجاج،
وتفسير الواصلة والموصولة فيها بمعنى آخر، ويحتمل قريبا أنه أخذ
هذا التفسير من العامة، فإن مضمونه مذكور في سنن البيهقي (1).
وثانيا: لو سلمنا اعتباره فإنه لا بد وأن يحمل على الكراهة، كما هو
مقتضى الجمع بين الروايات، وتوضيح ذلك: أن الروايات الواردة في
وصل الشعر بشعر امرأة على ثلاث طوائف:
الأولى: ما دل على الجواز مطلقا، كرواية سعد الإسكاف المتقدمة:
عن القرامل التي تضعها النساء في رؤوسهن تصلته بشعورهن، فقال
(عليه السلام): لا بأس على المرأة بما تزينت به لزوجها، وكرواية الإحتجاج (2).
الثانية: ما دل على التفصيل بين شعر المرأة وشعر غيرها وجوز
الوصل في الثاني دون الأول، كقوله (عليه السلام) في مرسلة الفقيه المتقدمة:
لا بأس بكسب الماشطة ما لم تشارط وقبلت ما تعطى، ولا تصل شعر

1 - سنن البيهقي 7: 312.
2 - عن أبي بصير قال: سألته عن قصة النواصي تريد المرأة الزينة لزوجها، وعن الخف
والقرامل والصوف وما أشبه ذلك، قال: لا بأس بذلك كله (مكارم الأخلاق 1: 194، الرقم
: 576، عنه الوسائل 20: 189). مرسلة.
327

المرأة بشعر امرأة غيرها، وأما شعر المعز فلا بأس بأن توصله بشعر
المرأة.
الثالثة: ما تظهر منه الخزمة في مطلق وصل الشعر بالشعر، كجملة من
الروايات المتقدمة من الفريقين، وكروايتي عبد الله بن الحسن (1) وثابت بن
أبي سعيد (2)، وهاتان الروايتان تدلان أيضا على جواز وصل الصوف
بالشعر.
ومقتضى الجمع بينهما أن يلتزم بجواز وصل شعر بشعر المرأة
بلا كراهة، وبجواز وصل شعر المرأة بشعر امرأة أخرى مع الكراهة، فإن
ما دل على المنع مطلقا يقيد بما دل على جواز الوصل بشعر المعز، وما
دل على حرمة وصل شعر المرأة بشعر امرأة أخرى يحمل على الكراهة،
لما دل على جواز تزين المرأة لزوجها مطلقا، فإن رواية سعد الإسكاف
وإن كانت بصراحتها تدفع توهم السائل من حيث الموضوع، وهو إرادة
وصل الشعر بالشعر من الواصلة والموصولة، ولكنها ظاهرة أيضا في
جواز وصل الشعر بالشعر مطلقا، إذ لو لم يكن جائزا لكان على الإمام
(عليه السلام) أن يدفع توهم السائل من حيث الحكم، فيقول له مثلا: إن وصل
شعر المرأة بشعر امرأة أخرى حرام، على أن روايتي عبد الله بن الحسن
وثابت غير ظاهرتين في الحرمة، كما هو واضح لمن يلاحظهما.

1 - قال: سألته عن القرامل، قال: وما القرامل، قلت: صوف تجعله النساء في رؤوسهن،
فقال: إن كان صوفا فلا بأس به، وإن كان شعرا فلا خير فيه من الواصلة والموصولة (التهذيب
6: 361، عنه الوسائل 17: 132)، مجهولة ليحيى بن مهران وعبد الله بن الحسن.
2 - قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن النساء يجعلن في رؤوسهن القرامل، قال: يصلح
الصوف وما كان من شعر امرأة لنفسها، وكره للمرأة أن تجعل القرامل من شعر غيرها، فإن
وصلت شعرها بصوف أو بشعر نفسها فلا يضر (الكافي 5: 520، عنه الوسائل 20: 18)، مجهولة
لثابت.
328

بقي هنا أمران:
1 - إن رواية سعد مختصة بزينة المرأة لزوجها، فلا تدل على جواز
الوصل مطلقا.
وفيه: أنها وإن كانت واردة في ذلك إلا أن من المقطوع به أن جواز تزين
المرأة لزوجها لا يسوغ التزيين بالمحرم كما تقدم، فيعلم من ذلك أن
وصل الشعر بالشعر ولو بشعر امرأة كان من الأمور السائغة في نفسها.
2 - إن رواية سعد مطلقة تدل على جواز وصل الشعر بالشعر مطلقا
ولو كان شعر امرأة أخرى، فتقيد بما اشتمل على النهي عن وصل شعر
المرأة بشعر امرأة غيرها.
وفيه: أن رواية سعد وإن كانت مطلقة ولكن السؤال فيها كان عن
خصوص وصل الشعر بالشعر، فلو كان في بعض أفراده فرد محرم لوجب
على الإمام (عليه السلام) أن يتعرض لبيان حرمته في مقام الجواب، فيعلم من
ذلك أنه ليس بحرام.
هذا كله مع صحة الروايات، ولكنها جميعا ضعيفة السند، وإذن
فمقتضى الأصل هو الجواز مطلقا.
وربما يقال: إن لعن الواصلة في النبوي صريح في الحرمة فلا يجوز
حمله على الكراهة.
وفيه مضافا إلى ضعف سنده واستعمال اللعن في الأمور المكروهة
في بعض الأحاديث (1)، أن اللعن ليس بصريح في الحرمة حتى لا يجوز

1 - عن الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمد، عن آبائه (عليهم السلام) في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي
(عليه السلام) قال: يا علي لعن الله ثلاثة: آكل زاده وحده، وراكب الفلاة وحده، والنائم في بيت وحده
(الفقيه 4: 259، عنه الوسائل 24: 416).
عن الكليني رفعه عن الزهري في التوقيع: ملعون ملعون من أخر العشاء إلى أن تشتبك
النجوم، ملعون ملعون من أخر الغداة إلى أن تنقضي النجوم (الإحتجاج: 479، عنه الوسائل
4: 201).
عن كنز الفوائد: ملعون ملعون من وهب الله له مالا فلم يتصدق منه شئ، أما سمعت أن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال: صدقة درهم أفضل من صلاة عشر ليال (كنز الفوائد: 63، عنه الوسائل
16: 280).
329

حمله على الكراهة، وإنما هو دعاء بالأبعاد المطلق الشامل للكراهة
أيضا، نظير الرجحان المطلق الشامل للوجوب والاستحباب كليهما،
غاية الأمر أن يدعي كونه ظاهرا في التحريم، لكنه لا بد من رفع اليد عن
ظهوره وحمله على الكراهة إذا تعارض بما يدل على الجواز كما عرفت.
ومن هنا ظهر جواز بقية الأمور المذكورة في النبوي، كالنمص
والوشم والوشر وإن كانت مكروهة، بل ربما يشكل الحكم بالكراهة
أيضا لضعف الرواية، إلا أن يتمسك في ذلك بقاعدة التسامح في أدلة
السنن، بناء على شمولها للمكروهات أيضا، بل ورد جواز النمص أعني
حف الشعر من الوجه في الخبر (1).
ومن جميع ما ذكرناه ظهر الجواب أيضا عن رواية عبد الله بن سنان (2)

1 - قرب الإسناد بإسناده عن علي بن جعفر (عليه السلام) أنه سأل أخاه موسى بن جعفر (عليه السلام) عن
المرأة التي تحف الشعر من وجهها، قال: لا بأس (قرب الإسناد: 101، عنه الوسائل 17: 133)،
مجهولة لعبد الله بن الحسن.
عن علي بن جعفر مثلها (مسائل علي بن جعفر (عليه السلام)، عنه الوسائل 20: 189)، ولكنه
صحيح.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الواشمة والمستوشمة، والناجش
والمنجوش ملعونون على لسان محمد (صلى الله عليه وآله) (الكافي 5: 559، عنه الوسائل 2: 239)، ضعيفة
لمحمد بن سنان.
330

المشتملة على اللعن علي الواشمة والموتشمة.
وقد يتوهم أنه ثبت بالأخبار المستفيضة المذكورة في أبواب النكاح
وبالسيرة القطعية جواز تزين المرأة لزوجها بل كونه من الأمور المستحبة،
ومقتضى ما دل على حرمة الوصل والنمص والوشم والوشر هو عدم
جواز التزين بها، سواء كان ذلك للزوج أو لغيره، فيتعارضان فيما كان
التزين بالأمور المذكورة للزوج ويتساقطان، فيرجع إلى الأصول العملية.
وفيه: أنه لو تم ما دل على حرمة الأمور المزبورة فالنسبة بينه وبين ما
دل على جواز التزين هو العموم المطلق، فيحكم بجواز التزين مطلقا إلا
بالأشياء المذكورة.
بيان ذلك: أن المذكور في الروايات وإن كان هو جواز تزين الزوجة
لزوجها فقط ولكنا نقطع بعدم مدخلية الزوجية في الحكم، بحيث لولاها
لكان التزين للنساء حراما، بل هو أمر مشروع للنساء كلها كما عليه السيرة
القطعية، إذن فلا بد من تخصيص الحكم بما دل على حرمة الأمور
المذكورة في النبوي.
قوله: خصوصا مع صرف الإمام للنبوي الوارد في الواصلة عن ظاهره.
أقول: صرف النبوي عن ظاهره بالتصرف في معنى الواصلة
والمستوصلة بإرادة القيادة من الواصلة يقتضي حرمة الوصل والنمص
والوشم والوشر المذكورة في النبوي لاتحاد السياق دون الكراهة، نعم
لو كان معنى اللعن في الرواية هو مطلق الأبعاد الذي يجتمع مع الكراهة
لصار مؤيدا لحمل ما عدا الوصل على الكراهة.
قوله: نعم، يشكل الأمر في وشم الأطفال من حيث إنه إيذاء لهم بغير مصلحة.
أقول: لا شبهة أن الوشم لا يلازم الايذاء دائما، بل بينهما عموم من
وجه، فإنه قد يتحقق الايذاء حيث يتحقق الوشم كما هو الكثير، وقد
331

يتحقق الوشم حيث لا يتحقق الايذاء لأجل استعمال بعض المخدرات
المعروفة في اليوم، وقد يجتمعان، وعلى تقدير الملازمة بينهما
فالسيرة القطعية قائمة على جواز الايذاء إذا كان لمصلحة التزين، كما في
ثقب الأذان والأناف.
قوله: ثم إن التدليس بما ذكرنا إنما يحصل بمجرد رغبة الخاطب أو المشتري.
أقول: التدليس في اللغة (1) عبارة عن تلبيس الأمر على الغير أو كتمان
عيب السلعة عن المشتري واخفائه عليه باظهار كمال ليس فيها، وأما ما
يوجب رغبة المشتري والخاطب فليس بتدليس ما لم يستلزم كتمان
عيب أو إظهار ما ليس فيه من الكمال، وإلا لحرم تزيين السلعة لكون ذلك
سببا لرغبة المشتري، ولحرم أيضا لبس المرأة الثياب الحمر والخضر
الموجبة لظهور بياض البدن وصفائه، بداهة كونه سببا لرغبة الخاطبين،
ولا نظن أن يلتزم بذلك فقيه أو متفقة.
المسألة (2)
تزيين الرجل بما يحرم عليه
قوله: المسألة الثانية: تزيين الرجل بما يحرم عليه، من لبس الحرير والذهب حرام.
أقول: اتفق فقهاؤنا وفقهاء العامة (2) واستفاضت الأخبار من طرقنا (3)

1 - في القاموس: التدليس كتمان عيب السلعة عن المشتري، وفي المنجد: دلس البائع
كتم عيب ما يبيعه عن المشتري.
2 - في فقه المذاهب: الشافعية قالوا: يحرم على الرجال لباس الحرير، فلا يجوز للرجال
أن يجلسوا على الحرير، ولا أن يستندوا إليه من غير حائل، ويحرم ستر الجدران به في أيام
الفرح والزينة إلا لعذر، والحنابلة قالوا بحرمة استعمال الحرير مطلقا، ولو كان بطانة لغيره،
ومثل الرجل الخنثى، وكذلك الصبي والمجنون فيحرم الباسهما الحرير (فقه المذاهب الأربعة
2: 10).
وفيه: الحنفية قالوا: يحرم على الرجال لبس الحرير إلا لضرورة (فقه المذاهب الأربعة
2: 12).
وفيه: المالكية قالوا: يحرم على الذكور البالغين لبس الحرير، وفي الصغار خلاف (فقه
المذاهب الأربعة 2: 13).
وفيه: يحرم على الرجل والمرأة استعمال الذهب والفضة (فقه المذاهب الأربعة 2: 14).
3 - الكافي 3: 399 - 400، التهذيب 2: 205 - 207، الوسائل 4: 367 - 369، الوسائل 4:
412 - 416.
332

ومن طرق السنة (1) على حرمة لبس الرجل الحرير والذهب إلا في موارد
خاصة، ولكن الأخبار خالية عن حرمة تزين الرجل بهما، فعقد المسألة
بهذا العنوان كما صنعه المصنف (رحمه الله) فيه مسامحة واضحة.
نعم ورد في بعض الأحاديث: لا تختم بالذهب فإنه زينتك في
الآخرة (2)، وفي بعضها الآخر: جعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء،
فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه (3).
ولكن مضافا إلى ضعف السند فيهما أنهما لا تدلان على حرمة تزين
الرجل بالذهب حتى يشمل النهي غير صورة اللبس أيضا، بل تفريعه
(عليه السلام) في الرواية الثانية حرمة لبس الذهب على كونه زينة النساء في الدنيا
لا يخلو عن الاشعار بجواز تزين الرجل بالذهب ما لم يصدق عليه عنوان
اللبس.
وقد يقال: إن عنوان التزين بالذهب والفضة وإن لم يذكر في الأخبار

1 - راجع سنن البيهقي 2: 422 و 424.
2 - الكافي 6: 468، عنه الوسائل 4: 412، ضعيفة لغالب بن عثمان.
3 - التهذيب 2: 227، عنه الوسائل 4: 414، مرسلة.
333

إلا أن لبس الحرير والذهب يلازم التزين بهما، فالنهي عن لبسهما يلازم
النهي عن التزين بهما.
وفيه أنها دعوى جزافية لمنع الملازمة، بل بين العنوانين عموم من
وجه، فإن ما تزين قد يصدق حيث لا يصدق اللبس، كما إذا جعلت إزرار
الثوب من الذهب أو من الحرير، وكما إذا خيط بهما الثوب كما تتعارف
خياطة الفرو بالحرير والديباج، وكما إذا صاغ الانسان أسنانه من الذهب،
وقد يصدق اللبس ولا يصدق التزين كلبس الحرير والذهب تحت سائر
الألبسة، وتختم الرجل بالذهب للتجربة والامتحان، وقد يجتمع
العنوانان، وتفصيل الكلام في البحث عن لباس المصلي في كتاب الصلاة.
ومن هنا ظهر أنه لا وجه لما ذهب إليه في العروة في المسألة من
مسائل لباس المصلي قال: نعم إذا كان زنجير الساعة من الذهب وعلقه
على رقبته أو وضعه في جيبه لكن علق رأس الزنجير يحرم، لأنه تزين
بالذهب، ولا تصلح الصلاة فيه أيضا.
تشبه الرجل بالمرأة وتشبه المرأة بالرجل:
هل يجوز تشبه الرجل بالمرأة وبالعكس أو لا، بأن يلبس الرجل ما
يختص بالنساء من الألبسة وتلبس المرأة ما يختص بالرجل منها
كالمنطقة والعمامة ونحوهما، ولا ريب أن ذلك يختلف باختلاف
العادات، فنقول:
أنه ورد النهي عن التشبه في الأخبار المتظافرة، ولعن الله ورسوله
المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال (1)، ولكن

1 - عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث: لعن الله
المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال - الحديث (علل الشرايع
: 602، عنه الوسائل 17: 284)، ضعيفة لعمرو بن شمر.
عن الطبرسي في مجمع البيان، عن أبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أربع لعنهم الله من فوق
عرشه وأمنت عليه الملائكة: الرجل يتشبه بالنساء وقد خلقه الله ذكرا، والمرأة تتشبه بالرجال
وقد خلقها الله أنثى (مجمع البيان 4: 140، عنه المستدرك 13: 203)، مرسلة.
عن الصدوق عن جابر بن يزيد الجعفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام)
يقول: لا يجوز للمرأة أن تتشبه بالرجال (الخصال: 585، عنه المستدرك 3: 246)، ضعيفة
لجعفر بن محمد بن عمارة ولأبيه.
وعن المفيد عن عروة بن عبد الله بن بشير الجعفي قال: دخلت على فاطمة بنت علي بن أبي
طالب، وهي عجوزة كبيرة، وفي عنقها خرز، وفي يدها مسكتان، فقالت: يكره للنساء
أن يتشبهن بالرجال - الخبر (الأمالي للمفيد: 94، عنه المستدرك 3: 246)، مجهول لعروة و
لغيره.
الخرز - بفتحتين -: ما ينظم في السلك من الجدع والودع، والواحدة: خرزة، والمسكة -
بالتحريك -: السوار والخلخال.
عن دعائم الاسلام عن جعفر بن محمد (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى النساء أن يكن
متعطلات من الحلي أن يتشبهن بالرجال، ولعن من فعل ذلك منهن (دعائم الاسلام 2: 163،
عنه المستدرك 3: 247)، مرسلة.
وعن فقه الرضا (عليه السلام): قد لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبعة: المتشبه من النساء بالرجل،
والرجال بالنساء (فقه الرضا (عليه السلام): 33، عنه المستدرك 3: 246)، ضعيفة.
334

هذه الأخبار كلها ضعيفة السند فلا تصلح دليلا للقول بالحرمة.
ومع الاغضاء عن ذلك فلا دلالة فيها على حرمة التشبه في اللباس،
لأن التشبه فيها إما أن يراد به مطلق التشبه أو التشبه في الطبيعة، كتأنث
الرجل وتذكر المرأة، أو التشبه الجامع بين التشبه في الطبيعة والتشبه في
اللباس.
أما الأول، فبديهي البطلان، فإن لازمه حرمة اشتغال الرجل بأعمال
335

المرأة كالغزل وغسل الثوب وتنظيف البيت والكنس ونحوها من الأمور
التي تعملها المرأة في العادة، وحرمة اشتغال المرأة بشغل الرجل
كالاحتطاب والاصطياد والسقي والزرع والحصد ونحوها، مع أنه
لم يلتزم به أحد، بل ولا يمكن الالتزام به.
وأما الثالث فلا يمكن أخذه كذلك، إذ لا جامع بين التشبه في اللباس
والتشبه في الطبيعة، فلا يكون أمرا مضبوطا فيتعين الثاني، ويكون
المراد من تشبه كل منهما بالآخر هو تأنث الرجل باللواط وتذكر المرأة
بالسحق، وهو الظاهر من لفظ التشبه في المقام.
ويؤيد ما ذكرناه تطبيق الإمام (عليه السلام) النبوي على المخنثين والمساحقات
في جملة روايات من الخاصة (1) وطرق العامة (2)، ولكنها ضعيفة السند.

1 - عن الصدوق في العلل عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي (عليه السلام): أنه رأى رجلا به
تأنث في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: اخرج من مسجد رسول الله يا لعنة رسول الله، ثم قال
علي (عليه السلام): سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء،
والمتشبهات من النساء بالرجال (علل الشرايع: 602، عنه الوسائل 17: 284)، ضعيفة لحسين
ابن علوان.
وفي حديث آخر: أخرجوهم من بيوتكم فإنهم أقذر شئ (علل الشرايع: 602، عنه
الوسائل 17: 284)، مرسلة.
وفي سنن البيهقي عن ابن عباس: أخرجوهم من بيوتكم (سنن البيهقي 8: 224).
وبهذا الاسناد عن علي (عليه السلام) قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالسا في المسجد حتى أتاه
رجل به تأنيث، فسلم عليه فرد عليه، ثم أكب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الأرض يسترجع، ثم قال:
مثل هؤلاء في أمتي، أنه لم يكن مثل هؤلاء في أمة إلا عذبت قبل الساعة (علل الشرايع: 602،
عنه الوسائل 17: 284)، ضعيفة للحسين بن علوان.
عن الجعفريات عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مخنثين الرجال المتشبهين
بالنساء، والمترجلات من النساء المتشبهات بالرجال - الحديث (الجعفريات: 147، عنه
المستدرك 13: 202)، ضعيف لأبي هريرة وغيره.
عن أبي خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) المتشبهين من الرجال
بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، قال: وهم المخنثون، واللاتي ينكحن بعضهن بعضا
(الكافي 5: 550، عنه الوسائل 20: 346)، مجهولة لأبي خديجة وغيره.
وقال في الوسائل بعد نقل الرواية: ورواه البرقي في المحاسن، وعليه فلا بأس بالعمل بها.
عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الراكبة والمركوبة قال: وفيهن قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لعن الله
المتشبهات بالرجال من النساء، والمتشبهين من الرجال بالنساء (الكافي 5: 552، عنه الوسائل
20: 345)، مجهولة للحسين بن زياد ويعقوب بن جعفر.
2 - في سنن البيهقي عن أبي هريرة: أتى بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): ما بال هذا، فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء، فأمر به فنفي إلى النقيع (سنن
البيهقي 8: 224).
336

وقد اتضح مما تلوناه بطلان ما ادعاه المحقق الإيرواني، من أن اطلاق
التشبه يشمل التشبه في كل شئ، ودعوى انصرافه إلى التشبه فيما هو
من مقتضيات طبع صاحبه لا ما هو مختص به بالجعل كاللباس في حيز
المنع، بل كون المساحقة من تشبه الأنثى بالذكر ممنوع، بل التخنث أيضا
ليس تشبها بالأنثى.
وكذلك ما في حاشية السيد، من عدم اختصاص النبوي بالتشبه في
التأنث والتذكر، لامكان شموله للتشبه في اللباس أيضا.
والعجب من المحقق الإيرواني حيث قال في توجيه رواية العلل: لعل
الرجل الذي أخرجه علي (عليه السلام) من المسجد كان متزينا بزينة النساء، كما
هو الشايع في شبان عصرنا، وكان هو المراد من التأنث لا التخنث، وهو
أعرف بمقاله.
ثم إنه قد ورد في بعض الأحاديث النهي عن التشبه في اللباس، كرواية
337

سماعة في الرجل يجر ثيابه، قال (عليه السلام): إني لأكره أن يتشبه بالنساء (1)،
وفي رواية أخرى: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينهى المرأة أن تتشبه بالرجال
في لباسها (2)، فإنه يستفاد منهما تحريم التشبه في اللباس.
وفيه: أنه ليس المراد من التشبه في الروايتين مجرد لبس كل من الرجل
والمرأة لباس الآخر، وإلا لحرم لبس أحد الزوجين لباس الآخر لبعض
الدواعي كبرد ونحوه، بل الظاهر من التشبه في اللباس المذكور في
الروايتين هو أن يتزيا كل من الرجل والمرأة بزي الآخر، كالمطربات
اللاتي أخذن زي الرجال، والمطربين الذين أخذوا زي النساء، ومن
البديهي أنه من المحرمات في الشريعة، بل من أخبث الخبائث وأشد
الجرائم وأكبر الكبائر.
على أن المراد في الرواية الأولى هي الكراهة، إذ من المقطوع به أن جر
الثوب ليس من المحرمات في الشريعة المقدسة.
وقد تجلى مما ذكرناه أنه لا شك في جواز لبس الرجل لباس المرأة
لاظهار الحزن وتجسم قضية الطف وإقامة التعزية لسيد شباب أهل
الجنة (عليه السلام)، وتوهم حرمته لأخبار النهي عن التشبه ناشئ من الوساوس
الشيطانية، فإنك قد عرفت عدم دلالتها على حرمة التشبه.
وقد علم مما تقدم أيضا أنه لا وجه لاعتبار القصد في مفهوم التشبه

1 - عن الطبرسي في مكارم الأخلاق عن سماعة، عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليهما السلام) في
الرجل يجر ثيابه، قال: إني لأكره أن يتشبه بالنساء (مكارم الأخلاق 1: 256، الرقم: 767، عنه
الوسائل 5: 25)، مرسلة.
2 - وعن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزجر الرجل أن يتشبه
بالنساء، وينهى المرأة أن تتشبه بالرجال في لباسها (مكارم الأخلاق 1: 256، الرقم: 768، عنه
الوسائل 5: 25)، مرسلة.
338

وصدقه، بل المناط في صدقه وقوع وجه الشبه في الخارج مع العلم
والالتفات، كاعتبار وقوع المعان عليه في صدق الإعانة، على أنه قد
أطلق التشبه في الأخبار على جر الثوب والتخنث والمساحقة، مع أنه
لا يصدر شئ منها بقصد التشبه.
ودعوى أن التشبه من التفعل الذي لا يتحقق إلا بالقصد دعوى جزافية
لصدقه بدون القصد كثيرا.
قوله: وفيها خصوصا الأولى بقرينة المورد ظهور في الكراهة.
أقول: قد علم مما ذكرناه أنه لا وجه لحمل ما ورد في التشبه في
اللباس على الكراهة، بدعوى ظهوره فيها، إذ لا نعرف منشأ لهذه
الدعوى إلا قوله (عليه السلام) في رواية سماعة في رجل يجر ثيابه: إني لأكره
أن يتشبه بالنساء، ومن الواضح جدا أن الكراهة المذكورة في الروايات
أعم من الكراهة الاصطلاحية.
على أن رواية الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنه كان
يزجر الرجل أن يتشبه بالنساء وينهى المرأة أن تتشبه بالرجال في
لباسها، كالصريحة في الحرمة، لعدم اطلاق الزجر في موارد الكراهة
الاصطلاحية.
قوله: ثم الخنثى يجب عليها ترك الزينتين - الخ.
أقول: اختلفوا في الخنثى هل هو من صنف الرجال، أو من صنف
الإناث، أو هو طبيعة ثالثة تقابل كلا من الصنفين على أقوال، قد ذكرت في
محلها، وما ذكره المصنف (رحمه الله) من أنه يجب عليها ترك الزينتين
المختصتين بكل من الرجل والمرأة، مبني على كونه داخلا تحت أحد
العنوانين: الذكر والاثني، وإلا فأصالة البراءة بالنسبة إلى التكاليف
المختصة بهما محكمة.
قوله: ويشكل بناء على كون مدرك الحكم حرمة التشبه، بأن الظاهر عن التشبه
339

صورة علم المتشبه.
أقول: لا اشكال في اعتبار العلم بصدور الفعل في تحقق عنوان التشبه
إلا أنه لا يختص بالعلم التفصيلي بل يكفي في ذلك العلم الاجمالي أيضا
فهو موجود في الخنثى.
المسألة (3)
التشبيب بالمرأة الأجنبية
قوله: المسألة الثالثة: التشبيب بالمرأة المعروفة المؤمنة المحترمة، وهي كما في
جامع المقاصد ذكر محاسنها واظهار حبها بالشعر، حرام.
أقول: لا شبهة في حرمة ذكر الأجنبيات والتشبيب بها كحرمة ذكر
الغلمان والتشبيب بهم بالشعر وغيره، إذا كان التشبيب لتمني الحرام
وترجى الوصول إلى المعاصي والفواحش كالزنا واللواط ونحوهما،
فإن ذلك هتك لأحكام الشارع وجرأة على معصيته.
ومن هنا حرم طلب الحرام من الله بالدعاء، ولا يفرق في ذلك بين كون
المذكورة مؤمنة أو كافرة، وعلى كل حال فحرمة ذلك ليس من جهة
التشبيب.
وأما التشبيب بالمعنى الذي ذكره المحقق الثاني في جامع المقاصد (1)
مع القيود التي اعتبرها المصنف ففي حرمته خلاف، فذهب جمع من
الأكابر إلى الحرمة (2) وذهب بعض آخر إلى الجواز وذهب جمع من العامة

1 - جامع المقاصد 4: 28.
2 - كالشيخ في المبسوط 8: 228، والمحقق في الشرايع 4: 128، والعلامة في التذكرة
1: 582، والتحرير 1: 161.
340

إلى حرمة مطلق التشبيب (1).
وقد استدل القائلون بالحرمة بوجوه:
1 - إن التشبيب هتك للمشبب بها وإهانة لها فيكون حراما.
وفيه أولا: لو سلمنا كون التشبيب هتكا لها فإن ذلك لا يختص
بالشعر، كما لا يختص بالمؤمنة المعروفة المحترمة، فإنه لا فرق في
حرمة الهتك بين أفراد الناس من المحرم وغير المحرم، والزوجة وغير
الزوجة، والمخطوبة وغير المخطوبة، فإن هتك جميعها حرام عقلا
وشرعا، وأيضا لا فرق في الشعر بين الانشاء والانشاد.
وثانيا: إن النسبة بين عنواني الإهانة والتشبيب هي العموم من وجه،
فإن الشاعر أو غيره قد يذكر محاسن امرأة أجنبية في حال الخلوة بحيث
لا يطلع عليه أحد ليلزم منه الهتك، أو يكون التوصيف واظهار محاسنها
وذكر جمالها مطلوبا، سواء كان ذلك بالنظم أم بغيره، كما إذا سأل سائل
عن بنات أحد الأعاظم والملوك ليخطب منهن واحدة، فهل يتوهم أحد
أن توصيفها بالجمال والكمال والأدب والأخلاق حرام، وكثيرا ما
يتحقق عنوان الهتك من دون تحقق التشبيب، وقد يجتمعان، وعليه
فلا ملازمة بينهما دائما.

1 - في فقه المذاهب الأربعة بعد أن حكم بإباحة الغناء قال: فلا يحل التغني بالألفاظ التي
تشمل على وصف امرأة معينة باقية على قيد الحياة، لأن ذلك يهيج الشهوة إليها، ويبعث على
الافتتان بها، ومثلها في ذلك الغلام الأمرد (فقه المذاهب الأربعة 2: 42).
وفيه عن الغزالي لا أعلم أحدا من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان في الأوصاف، وعن
الحنفية: التغني المحرم ما كان مشتملا على ألفاظ لا تحل، كوصف الغلمان، والمرأة المعينة
التي على قيد الحياة (فقه المذاهب الأربعة 2: 43).
341

وثالثا: إن كلامنا في المقام في حرمة التشبيب بعنوانه الأولي، فاثبات
حرمته لعنوان آخر عرضي كعنوان الهتك أو الإهانة أو غيرهما خروج عن
محل الكلام.
2 - إنه إيذاء للمشبب بها وهو حرام.
وفيه: أنه لا دليل على حرمة فعل يترتب عليه أذى الغير قهرا، إذا كان
الفعل سائغا في نفسه ولم يقصد العامل أذية الغير من فعله، وإلا لزم
القول بحرمة كل فعل يترتب عليه أذى الغير وإن كان الفعل في نفسه
مباحا أو مستحبا أو واجبا، كتأذي بعض الناس من اشتغال بعض آخر
بالتجارة والتعليم والتعلم والعبادة ونحوها، وكثيرا ما يتأذى بعض
التجار باستيراد البعض الآخر مال التجارة، ويتأذى الجار بعلو جدار
جاره أو من كثرة أمواله، مع أن أحدا لا يتفوه بحرمة ذلك.
على أن النسبة بين التشبيب والايذاء أيضا عموم من وجه، إذ قد
يتحقق التشبيب ولا يتحقق الايذاء، كالتشبيب بالمتبرجات، وقد يتحقق
الايذاء حيث لا يتحقق التشبيب، وهو واضح وقد يجتمعان.
ما استدل به على حرمة التشبيب والجواب عنه:
قوله: ويمكن أن يستدل عليه بما سيجئ.
أقول: بعد أن أشكل المصنف على الوجوه المتقدمة واعترف بعدم
نهوضها لاثبات حرمة التشبيب، أخذ بالاستدلال عليه بوجوه أضعف من
الوجوه الماضية:
1 - إن التشبيب من اللهو والباطل فيكون حراما، لما سيأتي من دلالة
جملة من الآيات والروايات على حرمتهما.
وفيه: أن هذه الدعوى ممنوعة صغرى وكبرى.
342

أما الوجه في منع الصغرى، فلأنه لا دليل على كون التشبيب من اللهو
والباطل، إذ قد يشتمل الكلام الذي يشبب به على المطالب الراقية
والمدائح العالية المطلوبة للعقلاء، خصوصا إذا كان شعرا كما هو مورد
البحث.
وأما الوجه في منع الكبرى، فلعدم العمل بها مطلقا، لأن اللهو
والباطل لو كان على اطلاقهما من المحرمات لزم القول بحرمة كل ما في
العالم، فإن كل ما أشغل عن ذكر الله وذكر الرسول، وذكر القيامة، وذكر
النار والجنة، والحور والقصور لهو وباطل، وقد نطق بذلك القرآن
الكريم أيضا في آيات عديدة (1)، وسيأتي من المصنف الاعتراف بعدم
حرمة اللهو إلا على نحو الموجبة الجزئية.
2 - إنه ورد النهي في الكتاب العزيز عن الفحشاء والمنكر (2)، ومنهما
التشبيب فيكون حراما.
وفيه: أنا نمنع كون التشبيب من الفحشاء والمنكر، على أن هذا الوجه
مع الوجه السابق وسائر الوجوه الآتية لو دلت على الحرمة لدلت عليها
مطلقا، سواء أ كان بالشعر أم بغيره، وسواء أكان التشبيب بأنثى أم بذكر،
وسواء أكانت الأنثى مؤمنة أم غير مؤمنة، فلا وجه لتخصيص الحرمة
بالشعر.

1 - كقوله تعالى في سورة الأنعام: 32: وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وقوله تعالى
في سورة العنكبوت: 64: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، وقوله تعالى في سورة
محمد (صلى الله عليه وآله): 38: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو، وقوله تعالى في سورة الحديد: 19:
اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو).
2 - في سورة النحل: 92، قوله تعالى: وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وغيرها
من الآيات.
343

ويضاف إلى ذلك أن النسبة بين التشبيب وبين تلك العناوين المحرمة
هي العموم من وجه، فلا تدل حرمتها على حرمة التشبيب دائما، مع أن
الكلام في التشبيب بعنوانه الأولي، فحرمته بعنوان اللهو أو الفحشاء أو
غيرهما من العناوين المحرمة خارج عن حدود البحث ومحل النزاع.
3 - إنه مناف للعفاف الذي اعتبر في العدالة بمقتضى بعض الروايات
(1)، وحيث إن العفاف واجب فيحرم الاخلال به.
وفيه: أنا نمنع اعتبار أي عفاف في العدالة، وإنما المعتبر فيها العفاف
عن المحرمات، وكون التشبيب منها أول الكلام.
4 - الأخبار الدالة على حرمة ما يثير الشهوة إلى غير الحليلة حتى
بالأسباب البعيدة، وهي كثيرة قد ذكرت في مواضع شتى:
منها: ما دل (2) على النهي عن النظر إلى الأجنبية لأنه سهم مسموم من

1 - عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين
حتى تقبل شهادته لهم وعليهم، فقال: إن تعرفوه بالستر والعفاف، وكف البطن والفرج واليد و
اللسان - الخبر (الوسائل، الباب 41 ما يعتبر في الشاهد من العدالة من الشهادات)، صحيح.
2 - عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: النظر سهم من سهام إبليس
مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة (الكافي 5: 559، عقاب الأعمال: 314، المحاسن
: 109، عنهم الوسائل 20: 191)، ضعيفة لعقبة.
وعن ابن أبي نجران عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ويزيد بن حماد وغيره عن أبي
جميلة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) قالا: ما من أحد إلا وهو يصيب حظا من الزنا، فزنا
العين النظر - الخبر (الكافي 5: 559، عنه الوسائل 20: 191)، السند الأول مرسل، والثاني
ضعيف لأبي جميلة.
عن الفقيه عن عقبة بن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): النظر سهم من سهام إبليس مسموم،
من تركها لله لا لغيره أعقبه الله ايمانا يجد طعمه (الفقيه 4: 11، عنه الوسائل 20: 192)، ضعيفة
لعقبة.
وعن الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى
بها لصاحبها فتنة (الفقيه 4: 11، عنه الوسائل 20: 193).
عن بعض أصحابنا قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إياكم والنظر، فإنه سهم من سهام إبليس
(الوافي، الباب 135 العفة من النكاح)، مرسلة.
عن مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام): إياكم والنظر إلى المحذورات، فإنه بذر الشهوات
(مصباح الشريعة: 241، عنه المستدرك 14: 249)، مرسلة.
وعن القطب الراوندي عن النبي (صلى الله عليه وآله): النظر إلى محاسن النساء سهم من سهام إبليس (لب
اللباب، مخطوط، عنه المستدرك 14: 270)، مرسلة.
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على حرمة النظر إلى الأجنبية، وعلى هذا المنهج
أحاديث العامة، راجع سنن البيهقي 7: 89.
344

سهام إبليس، والنكتة في اطلاق لفظ السهم على النظر هي تأثيره في
قلب الناظر وايمانه كتأثير السهم الخارجي في الغرض، ومن هنا أطلق
عليه زنا العين كما في رواية أبي جميلة، ووجه دلالة هذه الأخبار على
حرمة التشبيب هو أن النظر إلى الأجنبيات إذا كان سهما مسموما مؤثرا
في هدم الايمان وقلعه عن قلوب الناظرين فالتشبيب أولى بالتحريم، فإن
تأثير الكلام أشد من تأثير النظر.
وفيه: أنك قد عرفت عدم الملازمة بين التشبيب وبين سائر العناوين
المحرمة وكذلك في المقام، إذ قد يكون التشبيب مهيجا للقوة الشهوية
فلا يكون حراما كالتشبيب بالزوجة، وقد يكون التشبيب غير مهيج
للشهوة كما إذا شبب بإحدى محارمه، وقد يجتمعان، فلا ملازمة
بينهما.
ومنها: الأخبار الدالة على المنع عن الخلوة بالأجنبية، وهي كثيرة،
منها قوله (عليه السلام) في رواية مسمع في قضية أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله) البيعة على
345

النساء: ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء (1)، وهكذا في رواية مكارم
الأخلاق (2).
ومنها ما في رواية موسى بن إبراهيم، من قوله (عليه السلام): من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يبيت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له
بمحرم (3).
ومنها قوله (عليه السلام) في رواية محمد بن الطيار: فإن الرجل والمرأة إذا
خليا في بيت كان ثالثهما الشيطان (4).

1 - عن مسمع عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: فيما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من البيعة على
النساء، أن لا يحتبين ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء (الكافي 5: 519، عنه الوسائل
20: 185)، ضعيفة لسهل ومحمد بن الحسن بن شمون.
قال في الوافي: الأحباء الجمع بين الظهر والساقين بعمامة ونحوها.
2 - وعن الحسن الطبرسي في مكارم الأخلاق عن الصادق (عليه السلام) قال: أخذ رسول الله
(صلى الله عليه وآله) على النساء أن لا ينحن ولا يخمشن، ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء (مكارم الأخلاق
1: 497، الرقم: 1726، عنه المستدرك 20: 185)، مرسلة.
خمش الوجه: خدشه ولطمه وضربه وقطع عضوا منه.
وعن علي (عليه السلام) أنه قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيعة على النساء أن لا ينحن،
ولا يخمشن، ولا يقعدن مع الرجال في الخلاء (دعائم الاسلام 2: 226، عنه المستدرك
14: 265)، مرسلة.
3 - عن موسى بن إبراهيم، عن موسى بن جعفر (عليهما السلام)، عن آبائه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبيت في موضع يسمع نفس امرأة ليست له بمحرم
(الأمالي للطوسي 2: 300، عنه الوسائل 20: 185)، ضعيفة لموسى بن إبراهيم.
4 - عن محمد بن الطيار حيث استأجر دارا وفيها باب إلى بيت امرأة أجنبية، فسأل ذلك
عن أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: تحول منه، فإن الرجل والمرأة إذا خليا في بيت كان ثالثهما
الشيطان (الفقيه 3: 159، عنه الوسائل 19: 154)، مرسلة.
346

إلى غير ذلك من الروايات التي دلت على حرمة الخلوة مع الأجنبية (1)،
ففي بعضها: لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان (2).
وفي بعضها: أن الشيطان لا يغيب عن الانسان في موضع خلو الرجل
مع امرأة أجنبية (3).

1 - عن الجعفريات عن علي (عليه السلام) قال: ثلاثة من حفظهن كان معصوما من الشيطان
الرجيم ومن كل بلية: من لم يخل بامرأة لا يملك منها شيئا - الخ (الجعفريات: 96، عنه
المستدرك 14: 264)، مجهولة لموسى بن إسماعيل.
وعن الصدوق في الخصال عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما دعا نوح ربه على قومه أتاه إبليس
فقال: يا نوح إن لك عندي يدا أريد أن أكافيك عليها - إلى أن قال: - اذكرني إذا كنت مع امرأة
خاليا وليس معكما أحد (الخصال 1: 132، عنه المستدرك 14: 265)، ضعيفة لعمرو بن شمر.
وعنه مرسلا، قال إبليس لموسى: لا تخلون بامرأة غير محرم (لب اللباب، مخطوط، عنه
المستدرك 14: 265).
وعن المفيد في أماليه بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال إبليس لموسى بن عمران: أوصيك
بثلاث خصال يا موسى: لا تخل بامرأة، ولا تخل بك، فإنه لا يخلو رجل بامرأة، ولا تخلو به إلا
كنت صاحبه من دون أصحابي (الأمالي للمفيد: 156، عنه المستدرك 14: 266)، مجهولة
لسعدان بن مسلم.
وعن الشيخ أبي الفتوح في تفسيره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يخلون رجل بامرأة،
فإن ثالثهما الشيطان (تفسير أبي الفتوح الرازي 1: 520، عنه المستدرك 14: 266)، مرسلة.
عن الشيخ المفيد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أربعة مفسدة للقلوب: الخلوة بالنساء، والاستماع
منهن، والأخذ برأيهن (الأمالي للمفيد: 315، عنه المستدرك 12: 311)، مجهولة لجهالة أكثر
رواتها.
2 - وعن دعائم الاسلام عن علي (عليه السلام) أنه قال: لا يخلو بامرأة رجل، فما من رجل خلا
بامرأة إلا كان الشيطان ثالثها (دعائم الاسلام 2: 214، عنه المستدرك 14: 265)، مرسلة.
3 - وعن القطب الراوندي: روي أن إبليس قال: لا أغيب عن العبد في ثلاث مواضع: إذا
هم بصدقة، وإذا خلا بامرأة، وعند الموت (لب اللباب، مخطوط، عنه المستدرك 14: 265)،
مرسلة.
347

وعلى هذا النهج أحاديث العامة (1).
فيستفاد من جميعها حرمة خلو الرجل مع امرأة أجنبية، لأن الشيطان
لا يغيب عنه في هذه الحالة فيهيج قوته الشهوية ليلقيه إلى المهلكة
والمضلة، وبما أن التشبيب بالمرأة الأجنبية يهيج الشهوة أزيد مما
تهيجه الخلوة بها فيكون أولى بالتحريم.
وفيه: أنه لا دلالة في شئ من تلك الأخبار على حرمة الخلوة مع
الأجنبية فضلا عن دلالتها على حرمة التشبيب.
أما روايتا مسمع ومكارم الأخلاق فالمستفاد منهما حرمة قعود
الرجل مع المرأة في بيت الخلاء، فقد كان من المتعارف في زمان
الجاهلية أنهم يهيئون مكانا لقضاء الحاجة ويسمونه بيت الخلاء ويقعد
فيه الرجال والنساء والصبيان يستتر بعضهم عن بعض كبعض أهل البادية
في الزمن الحاضر، ولما بعث نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله) نهى عن ذلك وأخذ
البيعة على النساء أن لا يقعدن مع الرجال في الخلاء، على أن الخلوة مع
الأجنبية إذا كانت محرمة فلا تختص بحالة القعود بل هي محرمة مطلقا
وإن كانت بغير قعود.
ويؤيد ما ذكرناه، من المعنى أن النهي في الروايتين قد تعلق بقعود
الرجال مع النساء في الخلاء مطلقا وإن كن من المحارم، ومن الواضح أنه
لا مانع من خلوة الرجل مع محارمه وإن لم يكن للروايتين ظهور فيما
ادعيناه فلا ظهور لهما في حرمة الخلوة أيضا، ولا أقل من الشك
فتسقطان عن الحجية.
على أن من جملة ما أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيعة به على النساء أن

1 - راجع سنن البيهقي 7: 90.
348

لا يزنين، ولعل أخذ البيعة عليهن أن لا يقعدن مع الرجال في الخلاء من
جهة عدم تحقق الزنا، فإن حالة الخلوة مظنة الوقوع على الزنا.
وعليه فلا موضوعية لعنوان الخلوة بوجه، والغرض المهم هو النهي
عن الزنا، وإنما تعلق بالخلوة لكونها من المقدمات القريبة له.
ويدل على ما ذكرناه أيضا ما ورد في جملة من الروايات من تعليل
النهي عن الخلوة، بأن الثالث هو الشيطان، فإن الظاهر منها هو أنه لو خلا
الرجل مع المرأة الأجنبية، فإن الشيطان يكاد أو يوقعهما في البغي
والزنا.
ومن هنا ظهر أنه لا يجوز الاستدلال أيضا بهذه الروايات المشتملة
على التعليل المذكور، وقد ذكرنا جميع هذه الروايات في الحاشية.
وأما رواية موسى بن إبراهيم فهي خارجة عما نحن فيه، فإنها دلت
على حرمة نوم الرجل في موضع يسمع نفس الامرأة الأجنبية،
ولا ملازمة بين سماع النفس والخلوة دائما بل بينهما عموم من وجه، كما أن النهي عن نوم الرجل مع المرأة تحت لحاف واحد كما في بعض
الأحاديث (1) لا يدل على حرمة عنوان الخلوة.
ويمكن أن يكون نهى الرجل عن النوم في مكان يسمع نفس الامرأة
الأجنبية من جهة كون سماع نفس المرأة من المقدمات القريبة للزنا، كما أن النهي عن النوم تحت لحاف واحد كذلك، فإن سماع النفس في
الأشخاص العادية لا يكون إلا مع نومهم في محل واحد، ومن القريب
جدا أن هذا يوجب الزنا كثيرا.
بل يمكن أن يقال: إنه لو ورد نص صريح في النهي عن الخلوة مع

1 - الكافي 7: 181، الفقيه 4: 15، عنهما الوسائل 20: 324.
349

الأجنبية فلا موضوعية لها أيضا، وإنما نهى عنها لكونها من المقدمات
القريبة للزنا، فإن أهمية حفظ الأعراض في نظر الشارع المقدس تقتضي
النهي عن الزنا وعن كل ما يؤدي إليه عرفا.
وأما الروايات المشتملة على أن إبليس لا يغيب عن الانسان في
مواضع منها موضع خلوة الرجل مع امرأة أجنبية، فإن المستفاد منها أن
الشيطان يقظان في تلك المواضع يجر الناس إلى الحرام، فلا دلالة فيها
على المدعى.
وعلى الجملة فلا دليل على حرمة الخلوة بما هي خلوة، وإنما النهي
عنها للمقدمية فقط.
ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أن الروايات الواردة في النهي عن الخلوة
بالأجنبية كلها ضعيفة السند وغير منجبرة بشئ، ولو سلمنا وجود
الدليل على ذلك فإنه لا ملازمة بين حرمة الخلوة وحرمة التشبيب ولو
بالفحوى، إذ لا طريق لنا إلى العلم بأن ملاك الحرمة في الخلوة هو إثارة
القوة الشهوية حتى يقاس عليها كل ما يوجب تهيجها.
ومن هنا علم أنه لا وجه لقياس التشبيب على شئ يوجب تهيج القوة
الشهوية.
قوله: وكراهة جلوس الرجل في مكان المرأة حتى يبرد المكان.
أقول: استدل المصنف على حرمة التشبيب بفحوى أمور مكروهة:
منها (1) ما ورد في كراهة الجلوس في مجلس المرأة حتى يبرد المكان.

1 - عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا جلست المرأة
مجلسا فقامت عنه فلا يجلس في مجلسها رجل حتى يبرد (الكافي 5: 564، الفقيه 3: 361،
عنهما الوسائل 20: 248)، موثقة للسكوني.
350

ومنها (1) ما ورد في رجحان تستر المرأة عن نساء أهل الذمة.
ومنها (2) ما ورد في التستر عن الصبي المميز، إلى غير ذلك من الموارد
التي نهى الشارع عنها تنزيها، لكونها موجبة لتهيج الشهوة، فتدل
بالفحوى على حرمة التشبيب لكونه أقوى في إثارة الشهوة.
ولكنا لا نعرف وجها صحيحا لهذا الاستدلال، إذ لا معنى لاثبات
الحرمة لموضوع لثبوت الكراهة لموضوع آخر، حتى بناء على العمل
بالقياس، على أنا لا نعلم أن مناط الكراهة في تلك الأمور هو تهيج الشهوة
حتى يلتزم بالحرمة فيما إذا كان التهيج أشد وأقوى، وقد تقدم نظير ذلك
من المصنف في البحث عن حرمة القاء الغير في الحرام الواقعي، حيث
استدل على الحرمة بكراهة اطعام النجس للبهيمة.
على أن رجحان التستر عن نساء أهل الذمة إنما هو لئلا يطلعن رجالهن
على محاسن نساء المسلمين، ورجحان التستر عن الصبي المميز إنما هو
لكونه مميزا في نفسه، كما يظهر من الرواية الدالة على ذلك.
قوله: والنهي في الكتاب العزيز.
أقول: قد ورد النهي في الكتاب الشريف عن خضوع النساء بالقول
لئلا يطمع الذي في قلبه مرض (3)، وعن أن يضربن بأرجلهن ليعلم ما

1 - عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين
يدي اليهودية والنصرانية، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن (الكافي 5: 519، الفقيه 3: 366، عنهما
الوسائل 20: 184)، صحيحة.
2 - عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الصبي يحجم
المرأة، قال: إذا كان يحسن يصف فلا (الكافي 5: 534، عنه الوسائل 20: 233)، موثقة
للسكوني.
3 - الأحزاب: 32.
351

يخفين من زينتهن (1)، إلا أنه لا دلالة في شئ من ذلك على حرمة التشبيب،
كما لا دلالة عليها في حرمة التعريض بالخطبة لذات البعل ولذات العدة
الرجعية.
والتعريض هو الاتيان بلفظ يحتمل الرغبة في النكاح مع كونه ظاهرا
في النكاح، كأن يقول: رب راغب فيك وحريص عليك، أو أني راغب
فيك، أو أنت على كريمة أو عزيزة، أو أن الله لسائق إليك خيرا أو رزقا، أو
نحو ذلك.
قوله: سواء علم السامع اجمالا بقصد معينة أم لا، ففيه اشكال.
أقول: إذا ثبتت حرمة التشبيب وحرمة سماعه فلا يحرم سماعه إذا
كان المشبب بها امرأة غير معينة، لعدم علم السامع بها حتى يترتب عليه
ما تقدم من الأمور.
قوله: وفيه اشكال، من جهة اختلاف الوجوه المتقدمة للتحريم.
أقول: قد عرفت عدم دلالة شئ من الوجوه المتقدمة على حرمة
التشبيب، ولو سلم ذلك فلا دلالة فيها على حرمة التشبيب بامرأة مبهمة
أو خيالية، إلا إذا كان مرجعه إلى تمني الحرام، وقد عرفت أنه خارج عما
نحن فيه.
قوله: أما التشبيب بالغلام، فهو محرم على كل حال.
أقول: التشبيب بالغلام إن كان داخلا في عنوان تمني الحرام، فلا ريب
في حرمته، لكونه جرأة على حرمات المولى كما تقدم، وإلا فلا وجه
لحرمته فضلا عن كونه حراما على كل حال، بل ربما يكون التشبيب به
مطلوبا، ولذا يجوز مدح الأبطال والشجعان ومدح الشبان بتشبيههم

1 - النور: 31.
352

بالقمر والنجوم، ولا شبهة في صدق التشبيب عليه لغة (1) وعرفا.
قوله: لأنه فحش محض.
أقول: لا شبهة في حرمة الفحش والسب كما سيأتي، إلا أنه لا يرتبط
ذلك بالتشبيب بعنوانه الأولي الذي هو محل الكلام في المقام.
المسألة (4)
حرمة التصوير
قوله: المسألة الرابعة: تصوير صور ذوات الأرواح حرام إذا كانت الصورة مجسمة
بلا خلاف.
أقول: لا خلاف بين الشيعة والسنة (2) في حرمة التصوير في الجملة،

1 - في أقرب الموارد: تشبيب الشاعر بفلانة قال فيها النسيب ووصف محاسنها.
2 - في فقه المذاهب عن المالكية: إنما يحرم التصوير بشروط أربعة: أحدها أن تكون
الصورة لحيوان، ثانيها: أن تكون مجسدة، وقيدها بعضهم بكونها من مادة تبقى، وإلا فلا تحرم،
وفي غير المجسدة خلاف، فذهب بعضهم إلى الإباحة مطلقا، وبعضهم يرى إباحتها إذا كانت
على الثياب والبسط، ثالثها أن تكون كاملة الأعضاء، رابعها أن يكون لها ظل.
وعن الشافعية: يجوز تصوير غير الحيوان، وأما الحيوان فإنه لا يحل تصويره، وبعد
التصوير إن كانت الصورة مجسدة فلا يحل التفرج عليها إلا إذا كانت ناقصة، وغير المجسدة
لا يحل التفرج عليها إذا كان مرفوعا على الجدار، ويجوز التفرج على خيال الظل السينما،
ويستثنى من المذكورات لعب البنات.
وعن الحنابلة يجوز تصوير غير الحيوان، وأما تصوير الحيوان فإنه لا يحل إلا إذا كان
موضوعا على ثوب يفرش.
وعن الحنفية تصوير غير الحيوان جائز، أما تصوير الحيوان فإنه لا يحل إلا إذا كان على
بساط مفروش أو كانت الصورة ناقصة (فقه المذاهب الأربعة 2: 40).
353

ففي المستند (1) ادعى الاجماع على حرمة عمل الصور لذوات الأرواح إذا
كانت الصورة مجسمة، وذكر الخلاف في غير هذا القسم.
وفي المختلف (2): مسألة: قال ابن البراج (3): يحرم التماثيل المجسمة
وغير المجسمة، وقال ابن إدريس (4): وسائر التماثيل والصور ذوات
الأرواح مجسمة كانت أو غيرها، وأبو الصلاح (5) قال: يحرم التماثيل
وأطلق.
وعن المحقق الثاني (6) أنه قسم التصوير إلى أربعة أقسام، وقال: أحدها
محرم اجماعا، وهو عمل الصور المجسمة لذوات الأرواح، وباقي
الأقسام مختلف فيها.
فالمتحصل من كلمات الأصحاب أن الأقوال في حرمة التصوير أربعة:
1 - إن التصوير حرام إذا كانت الصورة مجسمة لذي روح، وهذا مما
لا خلاف في حرمته بين الأصحاب بل ادعي عليه الاجماع.
2 - إن تصوير ذوات الأرواح حرام، سواء كانت الصورة مجسمة أم غير
مجسمة، وقد اختاره المصنف وفاقا لما ذهب إليه الحلي والقاضي
وغيرهما من الأصحاب.
3 - حرمة التصاوير مطلقا إذا كانت مجسمة.
4 - القول بحرمتها على وجه الاطلاق، سواء كانت مجسمة أم غيرها،

1 - المستند 1: 337.
2 - المختلف 2: 163.
3 - المهذب 1: 344.
4 - السرائر 2: 215.
5 - الكافي: 281.
6 - جامع المقاصد 4: 16.
354

وسواء كانت لذوات الأرواح أم غيرها.
والقولان الأخيران وإن كانا أيضا مورد الخلاف بين الفقهاء، كما أشار
إليه النراقي والمحقق الثاني، إلا أنا لم نجد قائلا بهما عدا ما يستفاد من
ظاهر بعض العبائر، وكيف كان فالمهم في المقام هو التكلم في مدرك
الأقوال، فنقول:
الظاهر من بعض المطلقات المنقولة من طرق الشيعة (1)، ومن طرق

1 - وعن الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه جعل من أكل السحت تصوير التماثيل
(كتاب جعفر بن شريح الحضرمي: 76، عنه المستدرك 13: 210)، ضعيفة لعبد الله بن طلحة،
ولأن كتاب الحضرمي لم يثبت اعتباره.
وعن القطب الراوندي: من صور التماثيل فقد ضاد الله (لب اللباب، مخطوط، عنه
المستدرك 13: 210)، مرسلة.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أتاني جبرئيل وقال: يا
محمد إن ربك يقرؤك السلام وينهى عن تزويق البيوت، قال أبو بصير: فقلت: وما تزويق
البيوت، فقال: تصاوير التماثيل (الكافي 6: 526، المحاسن: 614، عنهما الوسائل 5: 303)،
ضعيفة لقاسم بن محمد الجوهري وعلي بن أبي حمزة.
التزويق: التزيين والتحسين.
عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من جدد قبرا أو مثل مثالا فقد خرج عن
الاسلام (التهذيب 1: 459، المحاسن: 612، عنه الوسائل 5: 306)، ضعيفة لأبي جارود، إلى
غير ذلك من المطلقات.
قال في التهذيب، وحاصله: أنه اختلف أصحابنا في رواية هذا الخبر وتأويله على وجوه،
فقال محمد بن الحسن الصفار: من جدد - بالجيم لا غير - فمعناه أنه لا يجوز تجديد القبر بعد
الاندراس وإن جاز تعميره أولا، وقال سعد بن عبد الله: من حدد قبرا - بالحاء غير المعجمة -
يعني به من سنم قبرا، وقال أحمد البرقي: إنما هو من جدث قبرا - بالجيم والثاء - ولم يفسر ما
معناه، إلا أنه يمكن أن يراد منه جعل القبر - الذي دفن فيه الميت - قبرا لإنسان آخر، لأن
الجدث هو القبر.
وقال محمد بن علي بن الحسين: إن معنى التجديد هو ما اختاره سعد بن عبد الله في معنى
التحديد، إلا أن جميع المعاني المذكورة داخل في معنى الحديث (الفقيه 1: 120).
وقال شيخنا محمد بن محمد بن النعمان (رحمه الله) يقول: إن الخبر - بالخاء والدالين - وذلك
مأخوذ من الخد بمعنى الشق، يقال: خدت الأرض خدا أي شققتها (التهذيب 1: 459).
وفي الوافي عن الفقيه: والذي أقوله في قوله (عليه السلام): من مثل مثالا، أنه يعني من أبدع بدعة
ودعا إليها، أو وضع دينا فقد خرج عن الاسلام (الوافي، الباب 95 وظائف القبر).
355

العامة (1) حرمة التصاوير مطلقا ولو كانت لغير ذوات الأرواح، ولم تكن
مجسمة، كقول علي (عليه السلام): إياكم وعمل الصور، فإنكم تسألون عنها
يوم القيامة (2)، وكالنبوي المذكور في سنن البيهقي: أن أشد الناس عذابا
عند الله يوم القيامة المصورون (3).
ولكن لا بد من تقييد هذه المطلقات بما دل على جواز التصوير لغير
ذوات الأرواح (4).

1 - راجع سنن البيهقي 7: 268.
2 - عن محمد بن مسلم عن علي (عليه السلام) قال: إياكم وعمل الصور - الخ (الخصال: 635،
عنه المستدرك 13: 210)، ضعيفة لقاسم بن يحيى.
3 - وعن الشهيد في المنية عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أشد الناس عذابا يوم القيامة مصور
يصور التماثيل (منية المريد: 137، عنه المستدرك 13: 210)، مرسلة.
4 - عن أبي العباس البقباق عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: يعملون له ما
يشاء من محاريب وتماثيل، فقال: والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها الشجر
وشبهه (الكافي 6: 527، المحاسن: 618، عنهما الوسائل 5: 304)، موثقة لأبان بن عثمان.
وعن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر والشمس والقمر،
فقال: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان (المحاسن: 619، عنه الوسائل 5: 308)، صحيحة.
أقول: يحتمل قريبا أن يكون السؤال في هذه الرواية عن اقتناء الصور وابقائها، وسيأتي
التعرض لذلك.
وفي أحاديث العامة أيضا ما يدل على جواز التصوير لغير ذوات الأرواح، راجع سنن
البيهقي 7: 270.
356

وعليه فتحمل المطلقات على تصوير ذوات الأرواح، ويحكم بجواز
التصوير لغيرها، سواء كانت الصورة مجسمة أم غير مجسمة، وهو
الموافق للأصل والاطلاقات والعمومات، من الآيات والروايات
الواردة في طلب الرزق وجواز الاكتساب بأي كيفية كان إلا ما خرج
بالدليل.
ويضاف إلى ما ذكرناه أن المطلقات المذكورة بأجمعها ضعيفة السند
وغير منجبرة بشئ، على أن مقتضى السيرة القطعية المستمرة إلى زمان
المعصوم (عليه السلام) جواز التصوير لغير ذوات الأرواح، ولم نر ولم نسمع من
أنكر جواز تصوير الأشجار والفواكه والجبال والبحار والشطوط
والحدائق، بل السيرة المذكورة ثابتة في تعلم بعض الأشياء خصوصا في
بعض العلوم الرياضية، حيث يعملون الصور لتسهيل التفهيم.
ويؤيد ما ذكرناه ما ورد في بعض الأحاديث، من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بعث عليا (عليه السلام) في هدم القبور وكسر الصور (1)، وأيضا قال له: لا تدع
صورة إلا محوتها (2).
فإنه ليس من المعهود أن عليا (عليه السلام) كسر الصور التي لغير ذوات
الأرواح، وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمره أيضا على ذلك.

1 - عن عبد الله بن ميمون الأسود القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين
(عليه السلام): بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هدم القبور وكسر الصور (الكافي 6: 528، المحاسن: 614،
عنهما الوسائل 5: 306)، ضعيفة لسهل.
2 - وعن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): بعثني رسول الله
(صلى الله عليه وآله) إلى المدينة فقال: لا تدع صورة إلا محوتها، ولا قبرا إلا سويته، ولا كلبا إلا قتلته
(الكافي 6: 528، المحاسن: 613، عنهما الوسائل 5: 306)، موثقة للسكوني.
357

ويضاف إلى ما ذكرناه أن الصورة في اللغة (1) وإن كانت مساوقة للشكل
وشاملة لصور ذوات الأرواح وغيرها، إلا أن المراد بها في المقام صور
ذوات الأرواح فقط، لما ورد في جملة من الروايات التي سنذكرها أن:
من صور صورة كلفه الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ (2).
ومن الواضح أن الأمر بالنفخ ولو كان تعجيزا إنما يمكن إذا كان المورد
قابلا لذلك، ولا شبهة أن نفس الأشجار والأحجار والبحار والشطوط
ونحوها غير قابلة للنفخ، فضلا عن صورها، فإن عدم القدرة على النفخ

1 - في أقرب الموارد: شكل الشئ صوره، وفيه أيضا: صوره تصويرا جعل له صورة
وشكلا، وهكذا في المنجد وغيره.
2 - عن ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من مثل تمثالا كلف يوم القيامة
أن ينفخ فيه الروح (الكافي 6: 527، المحاسن: 615، عنهما الوسائل 5: 304)، مرسلة.
وعن الحسين بن المنذر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ثلاثة معذبون يوم القيامة - إلى أن قال:
- ورجل صور تماثيل يكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ (الكافي 6: 528، المحاسن: 616،
عنهما الوسائل 5: 305)، ضعيفة للحسين.
عن سعد عن أبي جعفر (عليه السلام): أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المصورون، ويكلفون يوم
القيامة أن ينفخوا فيها الروح (المحاسن: 616، عنه الوسائل 5: 307)، ضعيفة لسعد وأبي جميلة
المفضل بن صالح الأسدي.
في حديث المناهي قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن التصاوير، وقال: من صور صورة كلفه
الله تعالى يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ - إلى أن قال: - ونهى أن ينقش شئ من
الحيوان على الخاتم (الفقيه 4: 3، عنه الوسائل 17: 297)، ضعيفة لشعيب بن واقد.
وعن الخصال عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من صور صورة عذب وكلف
أن ينفخ فيها وليس بفاعل (الخصال: 109، عنه الوسائل 17: 297)، مجهولة لعكرمة وغيره.
وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام): من صور صورة من الحيوان يعذب حتى ينفخ فيها
وليس بنافخ فيها (الخصال: 108، عنه الوسائل 17: 297)، مجهولة لمحمد بن مروان الكلبي.
وعلى هذا النهج أحاديث العامة، راجع سنن البيهقي 7: 269.
358

فيها ليس من جهة عجز الفاعل فقط بل لعدم قابلية المورد.
وأما القول الثاني، أعني حرمة تصوير الصور لذي الروح، سواء كانت
الصورة مجسمة أم غير مجسمة، فتدل عليه الأخبار المستفيضة من
الفريقين التي تقدمت الإشارة إليها، فإنه قد ذكر فيها: أن من صور صورة
يعذب يوم القيامة ويكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ، وفي بعضها:
أحيوا ما خلقتم (1)، ولكنها مع كثرتها ضعيفة السند وغير منجبرة
بشئ، فلا تكون صالحة للاستناد إليها في الحكم الشرعي.
ويضاف إلى ما ذكرناه ما تقدم في الحاشية من الروايات الدالة على
حرمة خصوص التصوير لذوات الأرواح، كصحيحة البقباق عن أبي
عبد الله (عليه السلام) في قول الله: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل (2)،
فقال: والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها الشجر وشبهه، فإن
ذكر الرجال والنساء فيها من باب المثال.
ويدل على ذلك من الرواية قوله (عليه السلام): ولكنها الشجر وشبهه،
وغيرها من الروايات المعتبرة.
ما استدل به على اختصاص الحرمة بالصور المجسمة:
وقد يقال: إن التحريم مختص بالصور المجسمة، لوجوه قد أشار إلى
جملة منها في متاجر الجواهر:
1 - إن الأخبار المشتملة على نفخ الروح ظاهرة في ذلك، فإن الظاهر
منها أن الصورة التي صنعها المصور جامعة لجميع ما يحتاج إليه الحيوان

1 - عن النبي (صلى الله عليه وآله): أن أهل هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال: أحيوا ما خلقتم
(عوالي اللئالي 1: 148، عنه المستدرك 13: 211، وفي سنن البيهقي 7: 268).
2 - سبأ: 12.
359

سوى الروح، وهذا إنما يكون في الصورة إذا كانت مجسمة وواجدة
للجثة والهيكل، ومشتملة على الأبعاد الثلاثة، إذ يستحيل الأمر بنفخ
الروح في النقوش الخالية عن الجسم، فإن الأمر بالنفخ لا يكون إلا في
محل قابل له والصور المنقوشة على الألواح والأوراق ونحوهما غير
قابلة لذلك، لاستحالة انقلاب العرض إلى الجواهر.
ودعوى إرادة تجسيم النقش مقدمة للنفخ ثم النفخ فيه، خلاف الظاهر
من الروايات.
وأجاب عنه المصنف بوجهين:
ألف: إن النفخ يمكن تصوره في النقش بملاحظة محله بل بدونها، كما
في أمر الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش على البساط بأخذ الساحر في
مجلس الخليفة (1).
وفيه: أن هذا خلاف ظواهر الأخبار، فإن الظاهر منها أن التكليف إنما
هو باحياء نفس الصور دون محلها، وأما أمر الإمام (عليه السلام) الأسد المنقوش
على البساط بأخذ الساحر، فسيأتي الجواب عنه.
ب: إن النفخ إنما هو بملاحظة لون النقش الذي هو في الحقيقة أجزاء

1 - عن علي بن يقطين قال: استدعى الرشيد رجلا يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن
جعفر (عليهما السلام)، ويقطعه ويخجله في المجلس، فانتدب له رجل معزم، فلما أحضرت المائدة
عمل ناموسا على الخبز، فكان كلما رام خادم أبي الحسن (عليه السلام) تناول رغيفا من الخبز طار من
بين يديه، واستقر هارون الفرح والضحك لذلك، فلم يلبث أبو الحسن (عليه السلام) أن رفع رأسه إلى
أسد مصور على بعض الستور، فقال: يا أسد الله خذ عدو الله، فوثبت تلك الصورة كأعظم ما
يكون من السباع، فافترست ذلك المعزم، فخر هارون وندماؤه على وجوههم مغشيا عليهم،
وطارت عقولهم خوفا من هول ما رأوه - الخبر (عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 95، الأمالي
للصدوق: 148، المناقب لابن شهرآشوب 3: 417، عنهم البحار 48: 42).
360

لطيفة من الصبغ، والحاصل أن مثل هذا لا يعد قرينة عرفا على تخصيص
الصورة بالمجسمة.
وهذا الجواب متين، وبيان ذلك: أنه إذا كان المقصود من النفخ هو
النفخ في النقوش الخالية عن الجسم التي هي ليست إلا أعراضا صرفة،
فإنه لا مناص عن الاشكال المذكور، وهو واضح، وإذا كان المقصود من
النفخ فيها بملاحظة لون النقش وأجزاء الصبغ اللطيفة فهو متين، إذ النفخ
حينئذ إنما هو في الأجزاء الصغار، ولا ريب في قابليتها للنفخ لتكون
حيوانا، ولا يلزم منه انقلاب العرض إلى الجوهر، بل هو من قبيل تبدل
جوهر بجوهر آخر.
وعليه فلا يتوجه الاشكال المذكور على شمول الروايات المتقدمة -
أعني الأخبار المشتملة على نفخ الروح - لصور ذي الروح مطلقا وإن
كانت غير مجسمة، ولكن قد عرفت أنها ضعيفة السند.
ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه، ففيما دل على حرمة تصوير الصور
لذوات الأرواح مطلقا غنى وكفاية كما عرفت.
ويضاف إلى ذلك كله ما تقدم من المطلقات التي دلت على حرمة
التصوير، فإن الخارج عنها ليس إلا تصوير الصور لغير ذي الروح، فيبقى
الباقي تحتها، ولكن قد عرفت أن تلك المطلقات ضعيفة السند.
ومن هنا يعلم أنه لا استحالة في صيرورة الصورة الأسدية المنقوشة
على البساط أسدا حقيقيا وحيوانا مفترسا بأمر الإمام (عليه السلام)، غاية الأمر أنه
من الأمور الخارقة للعادة لكونه اعجازا منه (عليه السلام)، وقد حققنا في مبحث
الاعجاز من مقدمة التفسير أن الاعجاز لا بد وأن يكون خارجا عن
النواميس الطبيعية وخارقا للعادة.
وتوضيح ذلك أن الخلق والايجاد على قسمين:
361

الأول: أن يكون بحسب المقدمات الاعدادية والنواميس الطبيعية،
فإنه تعالى وإن كان قادر على خلق العوالم بمجرد الإرادة التكوينية إلا أن
حكمته قد جرت على أن يخلقها بالسير الطبيعي وطي المراتب
المختلفة، بلبس الصور وخلعها حتى تصل إلى المقصد الأقصى والغاية
القصوى، مثلا إذا تعلقت المشية الإلهية بخلق الانسان بحسب المقدمات
الاعدادية والسير الطبيعي، جعل الله مواده الأصلية في كمون الأغذية
فيأكلها البشر فتحللها القوى المكنونة فيه إلى أن تصل إلى حد المنوية ثم
يستقر المني في الرحم، فيكون دما ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ثم عظما
ثم إنسانا، وهذا هو الخلق بالنواميس الطبيعية، وكذلك الحال في سائر
المخلوقات.
الثاني: أن يكون الخلق غير جار على النواميس الطبيعية، بل أمرا دفعيا
وخارقا للعادة، وتكون المقدمات الطبيعية كلها مطوية فيه، كجعل
الحبوب أشجارا وزروعا، والأحجار لؤلؤا ويواقيتا دفعة واحدة،
ويسمى ذلك بالاعجاز، وهذا من المواهب الإلهية التي خص الله بها
أنبياءه ورسله والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، وصيرورة الصورة الأسدية
حيوانا مفترسا بأمر الإمام (عليه السلام) من القبيل الثاني.
2 - ما ذكره في متاجر الجواهر (1)، وهو أن في بعض النصوص التي
تقدمت في كتاب الصلاة، من أنه لا بأس إذا غير رؤوسها (2)، وفي آخر

1 - جواهر الكلام 22: 42.
2 - عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيرت
رؤوسها منها، وترك ما سوى ذلك (الكافي 6: 527، المحاسن: 619، عنهما الوسائل 5: 308)،
حسنة لإبراهيم بن هاشم.
362

قطعت (1)، وفي ثالث كسرت (2)، نوع اشعار بالتجسم.
وفيه أولا: أنه لا اشعار في شئ من هذه الروايات بكون الصور المنهي
عنها مجسمة إلا في رواية قرب الإسناد: تكسر رؤوس التماثيل وتلطخ
رؤوس التصاوير، وهي ضعيفة السند، والوجه في عدم اشعار غيرها
بذلك هو أن قطع الرأس أو تغييره كما يصدق في الصور المجسمة
فكذلك يصدق في غيرها.
وثانيا: أن الكلام في المقام في عمل الصورة، وهو لا يرتبط بالصلاة
في بيت فيه تماثيل، بل الصلاة فيه كالصلاة في الموارد المكروهة.
3 - ما في الجواهر أيضا (3)، من أنه يظهر من مقابلة النقش للصورة في
خبر المناهي ذلك أيضا، أي كون الصور المحرمة مجسمة.
وفيه أولا: أن خبر المناهي ضعيف السند ومجهول الراوي، كما
عرفت مرارا.
وثانيا: ما ذكره السيد في حاشيته (4)، وهو أن ما اشتمل على كلمة
النقش خبر آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله) نقله الإمام (عليه السلام)، فلا مقابلة في كلام
النبي والإمام، والإمام أراد أن ينقل اللفظ الصادر عنه (صلى الله عليه وآله).

1 - عن علي بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألت عن الدار والحجرة فيها التماثيل
أيصلي فيها؟ فقال: لا تصل وفيها شئ يستقبلك، إلا أن لا تجد بدا، فتقطع رؤوسها وإلا
فلا تصل فيها (الكافي 6: 527، المحاسن: 620، عنهما الوسائل 5: 171)، صحيحة.
2 - عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن مسجد يكون فيه
تصاوير وتماثيل يصلي فيه؟ فقال: تكسر رؤوس التماثيل وتلطخ رؤوس التصاوير، ويصلي
فيه ولا بأس (قرب الإسناد: 94، عنه الوسائل 5: 172)، مجهولة لعبد الله بن الحسن.
3 - جواهر الكلام 22: 42.
4 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 20.
363

فروع مهمة:
1 - تصوير الملك والجن:
هل يلحق الجن والملك بالحيوان فيحرم تصويرهما أو لا، ففيه
قولان، وقد يقال بالثاني كما في الجواهر وحكاه عن بعض الأساطين في
شرحه على القواعد.
والوجه فيه: أن المطلقات المتقدمة وإن اقتضت حرمة التصوير مطلقا
إلا أنك قد عرفت أنها مقيدة بالروايات المعتبرة كصحيحة محمد بن
مسلم: لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان، وغيرها، وقد عرفت ذلك
آنفا، وعليه فنفى البأس عن تصوير غير الحيوان يقتضي اندراج الملك
والجن تحت الحكم بالجواز، فإن من الواضح أنهما ليسا من جنس
الحيوان.
وفيه: أن المراد من الحيوان هنا ما هو المعروف في مصطلح أهل
المعقول، من كونه جسما حساسا متحركا بالإرادة، ومن البديهي أن هذا
المفهوم يصدق على كل مادة ذات روح، سواء كانت من عالم العناصر أم
من عالم آخر هو فوقه، وعليه فلا قصور في شمول صحيحة محمد بن
مسلم للملك والجن والشيطان، فيحكم بحرمة تصويرهم.
ودعوى أن الملك من عالم المجردات فليس له مادة، كما اشتهر في
ألسنة الفلاسفة دعوى جزافية، فإنه مع الخدشة في أدلة القول بعالم
المجردات ما سوى الله، كما حقق في محله، أنه مخالف لظاهر الشرع،
ومن هنا حكم المجلسي (رحمه الله) في اعتقاداته بكفر من أنكر جسمية الملك،
وتفصيل الكلام في محله.
وإن أبيت إلا إرادة المفهوم العرفي من الحيوان، فاللازم هو القول
364

بانصرافه عن الانسان أيضا كانصرافه عن الملك والجن، ولذا قلنا إن
العمومات الدالة على حرمة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه منصرفة
عن الانسان قطعا، مع أنه لم يقل أحد هنا بالانصراف، فتحصل أنه لا يجوز
تصوير الملك والجن.
وفي حاشية السيد (رحمه الله) ما ملخصه: أن كلا من صحيحة ابن مسلم وما
في خبر تحف العقول: وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل
الروحاني، مشتمل على عقدين: عقد ترخيصي وعقد تحريمي،
فلا يكونان من الأعم والأخص المطلقين، لوجود التعارض بين منطوق
الصحيحة وبين مفهوم الخبر بالعموم من وجه في الملك والجن، فإن
مقتضى الصحيحة هو جواز تصويرهما ومقتضى مفهوم رواية تحف
العقول هو حرمة تصويرهما، وحيث إن الترجيح بحسب الدلالة غير
موجود، والمرجح السندي مع الصحيحة، فلا بد من ترجيح ما هو
أقوى من حيث السند (1).
وفيه أولا: أن خبر تحف العقول ضعيف السند ومضطرب الدلالة،
فلا يجوز العمل به في نفسه فضلا عما إذا كان معارضا لخبر صحيح،
وقد تقدم ذلك.
وثانيا: أنا سلمنا جواز العمل به ولكنا قد حققنا في باب التعادل
والترجيح من الأصول أن أقوائية السند لا تكون مرجحة في التعارض
بالعموم من وجه، بل لا بد من الرجوع إلى المرجحات الأخر، وحيث
لا ترجيح لكل منهما على الآخر فيحكم بالتساقط ويرجع إلى المطلقات
الدالة على حرمة التصوير مطلقا، وعليه فيحرم تصوير الملك والجن

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 19.
365

لهذه المطلقات، إلا أنك قد عرفت آنفا أن المطلقات بأجمعها ضعيفة
السند فلا تكون مرجعا في المقام، فلا بد وأن يرجع إلى البراءة،
وسيأتي أن صحيحة محمد بن مسلم غريبة عن حرمة التصوير.
اللهم إلا أن يقال: إن المتعارف من تصوير الملك والجن ما يكون
بشكل أحد الحيوانات فيحرم من هذه الجهة، ولكن يرد عليه أن من يصور
صورة الملك والجن إنما يقصد صورتهما لا صورة الحيوان، ولا بما هو
أعم منهما ومن الحيوان، إلا أن يكونا معدودين من أفراد الحيوان كما
عرفت.
نعم ما يمكن استفادة الحرمة من صحيحة البقباق المتقدمة بدعوى أن
الظاهر من قوله (عليه السلام) فيها: والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها
الشجر وشبهه، هو المقابلة بين ذي الروح وغيره، من حيث جواز
التصوير وعدمه، وذكر الأمور المذكورة فيها إنما هو من باب المثال،
والله العالم.
2 - إن حرمة التصوير غير مقيدة بكون الصورة معجبة:
ما ذكره المصنف وحاصله: أنا إذا عممنا الحكم لغير الحيوان مطلقا أو
مع التجسيم، فالظاهر أن المراد به ما كان مخلوقا لله سبحانه على هيئة
خاصة معجبة للناظر، وإلا فلا وجه للحرمة، وعلى هذا فلا يحرم
تصوير الصور لما هو من صنع البشر وإن كان على هيئة معجبة، كالسيوف
والأبنية والقصور والسيارات والطيارات والدبابات وغيرها، وكذلك
لا يحرم تصوير الصور لما هو مخلوق لله، ولكن لا بهيئة معجبة كالخشب
والقصب والشطوط والبحار والأدوية والعرصات ونحوها.
366

ومن هنا ظهر الاشكال فيما حكاه المصنف عن كاشف اللثام (1) في
مسألة كراهة الصلاة في الثوب المشتمل على التماثيل، من أنه لو عمت
الكراهة لتماثيل ذي الروح وغيرها كرهت الثياب ذوات الأعلام لشبه
الأعلام بالأخشاب والقصبات ونحوها، ولا ثياب المحشوة لشبه
طرائقها المخيطة بها، بل الثياب قاطبة لشبه خيوطها الأخشاب ونحوها.
وفيه أولا: أن ما دل على حرمة التصوير لم يقيد بكون الصورة أو ذي
الصورة معجبة، فلا وجه لجعل الاعجاب شرطا في حرمة التصوير.
وثانيا: ما ذكره المحقق الإيرواني (2)، من أن الاعجاب الحاصل عند
مشاهدة الصورة إنما هو من نفس الصورة لكشفها عن كمال مهارة النقاش،
ولو كانت صورة نمل أو دود، ولذا لا يحصل ذلك الاعجاب من مشاهدة
ذي الصورة.
وأما ما حكاه عن كاشف اللثام، فيرد عليه أولا: أن مورد البحث هنا
إنما هو الشبه الخاص، بحيث يقال في العرف: إن هذا صورة ذاك، ومن
البديهي أن مجرد كون الأعلام والطرائق والخيوط في الثياب على هيئة
الأخشاب والقصب لا يحقق الشبه المذكور، وإلا فلا محيص عن
الاشكال حتى بناء على اختصاص الحكم بذوات الأرواح لشبه أعلام
الثياب وطرائقها المخيط بالحيات والديدان ونحوهما.
وثانيا: أنه يعتبر في حرمة التصوير قصد الحكاية، كما سيأتي في
الفرع الآتي، فصانع الثوب لم يقصد شباهته بشئ من ذوات الأرواح
وغيرها، بل غرضه نسج الثوب فقط.

1 - كشف اللثام 1: 194.
2 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 21.
367

وعليه فلا بأس بشباهته بشئ من الحيوانات وغيرها شباهة اتفاقية،
نعم إذا قلنا بتعميم الحكم لغير الحيوان مطلقا أو في الجملة فلا مناص من
الالتزام بانصراف الأدلة عما هو مصنوع للعباد، بديهة أن ايجاد نفس ذي
الصورة جائز فايجاد صورته أولى بالجواز.
3 - اعتبار قصد الحكاية في حرمة التصوير:
ما ذكره المصنف بقوله: هذا كله مع قصد الحكاية والتمثيل، فلو
دعت الحاجة إلى عمل شئ يكون شبيها بشئ من خلق الله ولو كان
حيوانا من غير قصد الحكاية، فلا بأس قطعا.
وتوضيح كلامه، أنه لا شبهة في اعتبار قصد حكاية ذي الصورة في
حرمة التصوير، لأن المذكور في الروايات النهي عن التصوير والتمثيل،
ولا يصدق ذلك إذا حصل التشابه بالمصادفة والاتفاق من غير قصد
للحكاية، وهذا نظير اعتبار قصد الحكاية في صحة استعمال الألفاظ في
معانيها، وبدون ذلك ليس هناك استعمال.
وعليه فإذا احتاج أحد إلى عمل شئ من المكائن أو آلاتها أو غيرهما
من الأشياء اللازمة على صورة حيوان، فلا يكون ذلك حراما لعدم صدق
التصوير عليه بوجه.
والمثال الواضح لذلك الطائرات المصنوعة في زماننا، فإنها شبيهة
بالطيور ومع ذلك لم يفعل صانعها فعلا محرما، ولا يتوهم أحد حتى
الصبيان أن صانع الطائرة يصور صورة الطير بل إنما غرضه صنع شئ
آخر للمصلحة العامة، وكونه على هيئة الطير إنما هو اتفاقي.
ومن هنا لا وجه لما توهمه كاشف اللثام على ما عرفت، من أنه لو
عمت الكراهة لتماثيل ذي الروح وغيره كرهت الثياب ذوات الأعلام
368

لشبه الأعلام بالأخشاب، فإن النساج لم يقصد الحكاية في فعله.
وتوهم بعضهم أن مراد المصنف من كلامه في هذا الفرع هو أن يكون
الداعي إلى التصوير هو الاكتساب دون التمثيل، بأن يكون غرض
المصور نظر الناس إلى الصور والتماثيل واعطاء شئ بإزاء ذلك.
وفيه: أنه من العجائب لكونه غريبا عن كلام المصنف، على أنه من
أوضح أفراد التصوير المحرم، فكيف يحمل كلام المصنف عليه.
4 - اعتبار الصدق العرفي في حرمة التصوير:
ما ذكره المصنف أيضا، وهو أن المرجع في الصورة إلى العرف
فلا يقدح في الحرمة نقص بعض الأعضاء.
وتوضيح ذلك أنه يعتبر في تحقق الصورة في الخارج الصدق العرفي،
فإن الأدلة المتقدمة التي دلت على حرمة التصوير إنما تقتضي حرمة
الصورة العرفية التامة الأعضاء والجوارح، بحيث يصدق عليها أنها مثال
بالحمل الشايع.
وعليه فإذا صور أحد نصف حيوان من رأسه إلى وسطه أو بعض
أجزائه، فإن قدر الباقي موجودا فهو حرام، كما إذا صور انسانا جالسا
لا يتبين نصف بدنه، أو كان بعض أجزائه ظاهرا وبعضه مقدرا، بأن صور
انسانا وراء جدار أو فرس، أو يسبح في الماء ورأسه ظاهر، وإن قصد
النصف فقط فلا يكون حراما، فإن الحيوان لا يصدق على بعض أجزائه
كرجله ويده ورأسه، نعم إذا صدق الحيوان على هذا النصف كان
تصويره حراما.
وعلى هذا فإذا صور صورة حيوان متفرق الأجزاء فلا يكون ذلك
حراما، فإذا ركبها كان حراما، لصدق التصوير على التركيب، وإذا كان
369

الغرض تصوير بعض الأجزاء فقط ثم بدى له الاكمال حرم الاتمام فقط،
فإنه مع قطع النظر عن الاتمام ليس تصويرا لذي روح.
ومما ذكرناه ظهر بطلان قول المحقق الإيرواني (1): أن من المحتمل
قريبا حرمة كل جزء جزء أو حرمة ما يعم الجزء والكل، فنقش كل جزء
حرام مستقل إذا لم ينضم إليه نقش بقية الأجزاء، وإلا كان الكل مصداقا
واحدا للحرام - إلى أن قال: - ويحتمل أن يكون كل فاعلا للحرام، كما إذا
اجتمع جمع على قتل واحد، فإن الهيئة تحصل بفعل الجميع، فلولا
نقش السابق للأجزاء السابقة لم تتحصل الهيئة بفعل اللاحق.
على أن المقام لا يقاس باجتماع جمع على قتل واحد، فإن الإعانة
على القتل حرام بالروايات المستفيضة بل المتواترة، بخلاف ما نحن فيه،
فإن التصوير المحرم إنما يتحقق بفعل اللاحق وتحصل الهيئة المحرمة
بذلك.
غاية الأمر أن نقش السابق للأجزاء السابقة يكون إعانة على الإثم،
وهي ليست بحرام كما عرفت فيما سبق.
5 - جواز أخذ العكس المتعارف:
الظاهر من الأدلة المتقدمة الناهية عن التصوير والتمثيل هو النهي عن
ايجاد الصورة، كما أن النهي عن سائر الأفعال المحرمة نهى عن ايجادها
في الخارج، وعليه فلا يفرق في حرمة التصوير بين أن يكون باليد أو
بالطبع أو بالصياغة أو بالنسج، سواء أكان ذلك أمرا دفعيا كما إذا كان بالآلة
الطابعة أم تدريجيا.

1 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 21.
370

وعلى هذا المنهج فلا يحرم أخذ العكس المتعارف في زماننا لعدم
كونه ايجادا للصورة المحرمة، وإنما هو أخذ للظل وابقاء له بواسطة
الدواء، فإن الانسان إذا وقف في مقابل المكينة العكاسة كان حائلا بينها
وبين النور فيقع ظله على المكينة ويثبت فيها لأجل الدواء، فيكون صورة
لذي ظل، وأين هذا من التصوير المحرم.
وهذا من قبيل وضع شئ من الأدوية على الجدران أو الأجسام
الصيقلية لتثبت فيها الاظلال والصور المرتسمة، فهل يتوهم أحد حرمته
من جهة حرمة التصوير، وإلا لزمه القول بحرمة النظر إلى المرأة، إذ
لا يفرق في حرمة التصوير بين بقاء الصورة مدة قليلة أو مدة مديدة، وقد
اشتهر انطباع صور الأشياء في شجرة الجوز في بعض الأحيان،
ولا نحتمل أن يتفوه أحد بحرمة الوقوف في مقابلها في ذلك الوقت،
بدعوى كونه تصويرا محرم.
وعلى الاجمال لا نتصور حرمة أخذ العكس المتعارف، لا من جهة
الوقوف في مقابل المكينة العكاسة، ولا من جهة (عليه السلام) ابقاء الظل فيها كما
هو واضح.
6 - تصوير الحيوانات:
قد عرفت آنفا أن المناط في حرمة التصوير قصد الحكاية والصدق
العرفي، وعليه فيحرم تصوير الصورة للحيوانات مطلقا، سواء ما كان
منها فردا لنوع من الحيوانات الموجودة وما لم يكن كذلك، كالعنقاء
ونحوه من الحيوانات الخيالية، وذلك لاطلاق الأدلة.
371

7 - تصوير صورة مشتركة بين الحيوان وغيره:
إذا صور صورة مشتركة بين الحيوان وغيره لم يكن ذلك حراما إلا إذا
قصد الحكاية عن الحيوان، ثم إذا اشترك أشخاص عديدة في صنعة
صورة محرمة، فإن قصد كل واحد منهم التصوير المحرم فهو حرام،
وإلا فلا يحرم غير تركيب الأجزاء المتشتتة.
8 - عدم الفرق في حرمة التصوير بين المباشرة والتسبيب:
قد عرفت في البحث عن حرمة تغرير الجاهل أن القاء الغير في الحرام
الواقعي حرام، وعليه فلا فرق في حرمة التصوير بين المباشرة
والتسبيب، بل قد عرفت في المبحث المذكور أن نفس الأدلة الأولية
تقتضي عدم الفرق بين المباشرة والتسبيب في ايجاد المحرمات، وعلى
هذا فلا نحتاج في استفادة التعميم إلى القرينة وملاحظة المناط كما في
حاشية السيد (رحمه الله) (1).
ما استدل به على حرمة اقتناء الصور المحرمة والجواب عنه:
قوله: بقي الكلام في جواز اقتناء ما حرم عمله من الصور.
أقول: هل يجوز اقتناء الصورة المحرمة أو لا، ففيه قولان، فالمحكي
عن شرح الارشاد للمحقق الأردبيلي (2) وعن جامع المقاصد للمحقق
الثاني (3) هو الجواز.

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 24.
2 - حكاه في مفتاح الكرامة 4: 49 عن مجمع الفائدة 2: 93، شرح الإرشاد: 206.
3 - الجامع المقاصد 4: 16.
372

إلا أن المعروف بين القدماء حرمة بيع التماثيل وابتياعها والتكسب
بها، بل حرمة اقتنائها.
وقد استدل على حرمة اقتنائها بوجوه:
1 - إن الوجود والايجاد في الحقيقة شئ واحد، وإنما يختلفان
بالاعتبار، فإن الصادر من الفاعل بالنسبة إليه ايجاد وبالنسبة إلى القابل
وجود فإذا حرم الايجاد حرم الوجود.
وفيه: أن حرمة الايجاد وإن كان ملازما لحرمة الوجود إلا أن الكلام
هنا ليس في الوجود الأولي الذي هو عين الايجاد أو لازمه بل في الوجود
في الآن الثاني الذي هو عبارة عن البقاء، ومن البديهي أنه لا ملازمة بين
الحدوث والبقاء لا حكما ولا موضوعا.
وعليه فما يدل على حرمة الايجاد لا يدل على حرمة الوجود بقاء،
سواء كان صدوره من الفاعل عصيانا أم نسيانا أم غفلة، إلا إذا قامت قرينة
على ذلك، كدلالة حرمة تنجيس المسجد على وجوب إزالة النجاسة
عنه.
بل ربما يجب ابقاء النتيجة وإن كان الفعل حراما، كما إذا كتب القرآن
على ورق مغصوب أو بحبر مغصوب، أو كتبه العبد بدون إذن مولاه، أو
بنى مسجدا بدون إذنه، أو تولد أحد من الزنا، فإن في ذلك كله يجب حفظ
النتيجة، وأن كانت المقدمة محرمة.
وعلى الجملة ما هو متحد مع الايجاد ليس موردا للبحث، وما هو
مورد للبحث لا دليل على اتحاده مع الايجاد.
لا يقال: إن النهي عن الايجاد كاشف عن مبغوضية الوجود المستمر
في عمود الزمان، كما أن النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر حدوثا
يكشف عن حرمة ملكيته له بقاء.
373

فإنه يقال: إن النهي عن بيع العبد المسلم من الكافر إن تم فهو يدل على
وجوب إزالة علاقة الكافر عنه، كما سيأتي بيان ذلك في محله، ولا يفرق
في ذلك بين الحدوث والبقاء بخلاف ما نحن فيه، إذ قد عرفت أن مجرد
وجود الدليل على حرمة الايجاد لا يدل على حرمة الابقاء، إلا إذا كان
محفوفا بالقرائن المذكورة.
على أنا إذا سلمنا الملازمة بين مبغوضية الايجاد وبين مبغوضية
الوجود فإنما يتم بالنسبة إلى الفاعل فقط، فيجب عليه اتلافه دون غيره،
مع أن المدعى وجوب اتلافه على كل أحد، فالدليل أخص منه.
2 - إن صنعة التصاوير لذوات الأرواح من المحرمات الشرعية، وقد
دل عليه قوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول: وصنعة صنوف التصاوير ما
لم يكن مثال الروحاني، وكل صنعة يجئ منها الفساد محضا من دون
أن يكون فيها وجه من وجوه الصلاح فهي محرمة.
وقد دل على ذلك ما في رواية تحف العقول من الحصر: إنما حرم
الله الصناعة التي هي حرام كلها التي يجئ منها الفساد محضا،
ولا يكون منه وفيه شئ من وجوه الصلاح، وكل ما يجئ منه الفساد
محضا يحرم جميع التقلب فيه، ومنه الاقتناء والبيع، وقد دل عليه
قوله (عليه السلام) فيها: وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلها،
وقوله (عليه السلام) فيها أيضا: فكل أمر يكون فيه الفساد مما هو منهي عنه - إلى أن قال: - فهو حرام، محرم بيعه وشراؤه وامساكه وملكه وهبته
وعاريته، وجميع التقلب فيه.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند فلا يجوز الاستناد إليها في شئ
من المسائل الشرعية، كما عرفته في أول الكتاب.
وثانيا: قد عرفت أنه لا ملازمة بين حرمة عمل شئ وبين حرمة بيعه
374

واقتنائه، والتصرف فيه والتكسب به، ومن هنا نقول بحرمة الزنا،
ولا نقول بحرمة تربية أولاد الزنا، بل يجب حفظهم لكونهم محقوني
الدماء.
وثالثا: لا نسلم أن عمل التصاوير مما يجئ منه الفساد محضا، فإنه
كثيرا ما تترتب عليه المنافع المحللة، من التعليم والتعلم وحفظ صور
بعض الأعاظم ونحو ذلك من المنافع المباحة.
3 - قوله (صلى الله عليه وآله) في الخبر المتقدم: لا تدع صورة إلا محوتها.
وفيه أولا: أنه ضعيفة السند.
ثانيا: ما ذكره المحقق الإيرواني (1)، من أنه وارد في موضوع شخصي،
فلعل تصاوير المدينة كانت أصناما، وكلابها مؤذيات، وقبورها
مسنمات.
4 - ما دل (2) على عدم صلاحية اللعب بالتماثيل.
وفيه أولا: أنه ضعيف السند.
وثانيا: إن عدم الصلاحية أعم من الحرمة فلا يدل عليها.
وثالثا: لو سلمنا دلالته على حرمة اللعب بها فلا ملازمة بين حرمته
وحرمة اقتنائها، فإن حرمة اللعب أعم من حرمة الاقتناء.
ورابعا: إنه غريب عما نحن فيه، إذ من المحتمل القريب أن يراد من
التماثيل في هذه الطائفة من الرواية الشطرنج.

1 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 22.
2 - عن مثنى رفعه، قال: التماثيل لا يصلح أن يلعب بها (المحاسن: 618، عنه الوسائل
5: 307)، مرسلة، ومرفوعة، ومجهولة للمثنى.
علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن التماثيل هل يصلح أن يلعب
بها، قال: لا (قرب الإسناد: 122، عنه الوسائل 17: 298)، مجهولة لعبد الله بن الحسن.
375

والوجه في صحة اطلاق التماثيل عليه هو أن القطع التي يلعب بها في
الشطرنج على ستة أصناف، وكل صنف على صورة: كالشاة والفرزان (1)
والفيل والفرس والرخ (2) والبيذق (3)، وقد صور هذه القطع في كتاب
المنجد، فراجع.
ويؤيد ما ذكرناه من إرادة الشطرنج من التماثيل، أنا لا نتصور معنى
لحرمة اللعب بالتصاوير المتعارفة، كما هو واضح، وعليه فما دل على
حرمة اللعب بها إنما هو من أدلة حرمة اللعب بالشطرنج، ولا أقل من
الاحتمال، فلا يبقى له ظهور في إرادة الصور المتعارفة.
5 - صحيحة البقباق المتقدمة عند الاستدلال على حرمة التصوير، عن
أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: يعملون له ما يشاء من محاريب
وتماثيل (4)، فقال: والله ما هي تماثيل الرجال والنساء، ولكنها الشجر
وشبهه (5)، بدعوى أن ظاهر الرواية أن الإمام (عليه السلام) أنكر انشاء سليمان
(عليه السلام) هذا الصنف من التماثيل، فتكون دالة على مبغوضية وجود التماثيل
وحرمة اقتنائها.
وفيه: أن الظاهر من الرواية رجوع الانكار إلى كون التصاوير المعمولة

1 - الفرزان - بضم الفاء وسكون الراء المهملة - الملكة في لعب الشطرنج، ج فرازين -
بفتح الفاء - والكلمة من الدخيل.
2 - الرخ - بضم الراء المهملة والخاء المعجمة - طائر وهمي كبير، الواحدة رخة، قطعة من
قطع الشطرنج، ج رخاخ ورخخة بكسر الراء.
3 - البيذق - بفتح الباء وسكون الياء - الماشي راجلا، ومنه بيذق الشطرنج، ج بياذق.
4 - سبأ: 12.
5 - عن أبي العباس البقباق عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: يعملون له ما
يشاء من محاريب وتماثيل، فقال: والله ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها الشجر
وشبهه (الكافي 6: 527، المحاسن: 618، عنهما الوسائل 5: 304)، موثقة لأبان بن عثمان.
376

لسليمان (عليه السلام) تصاوير الرجال والنساء، فلا تدل الرواية على مبغوضية
العمل فضلا عن مبغوضية المعمول.
والوجه فيه هو أن عمل تصاوير الرجال والنساء من الأمور اللاهية غير
اللائقة بمنصب الأعاظم والمراجع من العلماء والروحانيين فضلا عن
مقام النبوة، فإن النبي (عليه السلام) لا بد وأن يكون راغبا عن الدنيا وزخرفها،
وأما عمل الصور وجمعها فمن لعب الصبيان وشغل المجانين والسفهاء
فلا يليق بمنصب النبوة، بخلاف تصاوير الشجر وشبهه فإنها غير منافية
لذلك.
وقد يقال: إن الصانعين للتماثيل هم الجن، وإنما يتم الاستدلال
بالرواية على حرمة اقتناء الصور إذا قلنا بحرمة التصوير على الجن
كحرمته على الإنس، وهو أول الكلام.
وفيه: أن الكلام ليس في عمل الصور بل في اقتنائها، ومن الواضح أنه
يعود إلى سليمان.
6 - حسنة زرارة المتقدمة في الحاشية: لا بأس بأن يكون التماثيل في
البيوت إذا غيرت رؤوسها منها وترك ما سوى ذلك (1)، فإنها بمفهومها
دالة على ثبوت البأس إذا لم يغير الرأس.
وفيه ما ذكره المصنف، من حمل البأس فيها على الكراهة للصلاة،
وعليه فتدل الرواية على جواز اقتناء الصور مع قطع النظر عن الصلاة،
ويؤيده ما في رواية قرب الإسناد من أنه: ليس فيما لا يعلم شئ فإذا

1 - عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا بأس بأن يكون التماثيل في البيوت إذا غيرت
رؤوسها منها، وترك ما سوى ذلك (الكافي 6: 527، المحاسن: 619، عنهما الوسائل 5: 308)،
حسنة لإبراهيم بن هاشم.
377

علم فلينزع الستر وليكسر رؤوس التماثيل (1)، فإن الظاهر أن الأمر بكسر
رؤوس التصاوير لأجل كون البيت معدا للصلاة.
ومع الاغضاء عما ذكرناه وتسليم أن البأس ظاهر في المنع، فالرواية
معارضة بما دل على جواز الاقتناء كما سيأتي، ويضاف إلى جميع ذلك أنها ضعيفة السند ومجهولة الراوي.
7 - ما دل على كراهة علي (عليه السلام) وجود الصور في البيوت (2)، فإنه
بضميمة ما دل على أن عليا (عليه السلام) لم يكن يكره الحلال (3) يدل على حرمة
اقتناء الصور في البيوت.
وفيه: أن المراد من الحلال الذي كان علي (عليه السلام) لا يكرهه المباح
المتساوي طرفاه، لا ما يقابل الحرمة لأن عليا (عليه السلام) كان يكره المكروه
أيضا، ومن هنا يظهر أن الكراهة المذكورة في الرواية الأولى أعم من
الحرمة والكراهة المصطلحة، وإذن فلا دلالة فيها أيضا على حرمة اقتناء
الصور.
8 - رواية الحلبي (4)، فقد أمر الإمام (عليه السلام) فيها بتغيير رأس الصورة

1 - قرب الإسناد: 87، عنه الوسائل 4: 441، مجهولة لعبد الله بن الحسن.
2 - عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام): أن عليا كان يكره الصورة في البيوت
(المحاسن: 617، عنه الوسائل 5: 307)، مجهولة لحاتم.
3 - في صحيحة أبي بصير: ولم يكن علي (عليه السلام) يكره الحلال (الكافي 5: 188، التهذيب
7: 96، عنهما الوسائل 18: 151).
4 - عن الطبرسي في مكارم الأخلاق عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: وقد أهديت
إلى طنفسة من الشام عليها تماثيل طائر، فأمرت به فغير رأسه، فجعل كهيئة الشجر (مكارم
الأخلاق 1: 286، الرقم: 887، عنه الوسائل 5: 309)، مرسلة.
الطنفسة - بالمثلثة في الطاء والفاء - البساط والحصير والثوب، ج طنافس، والكلمة من
الدخيل.
378

وجعلها كهيئة الشجر، فتدل على حرمة ابقاء الصورة من غير تغيير فيها.
وفيه: أن أمر الإمام (عليه السلام) بتغيير الصورة في الطنفسة التي أهديت إليه
ليس إلا كفعله بنفسه، ومن الواضح أن فعل الإمام (عليه السلام) لا يدل على
الوجوب، ولا يقاس ذلك بسائر الأوامر الصادرة منه (عليه السلام) الدالة على
الوجوب، وقد تقدم نظير ذلك في البحث عن بيع الدراهم المغشوشة من
أمره (عليه السلام) بكسر الدرهم المغشوش والقائه في البالوعة، على أن الرواية
مرسلة، فلا يجوز الاستناد إليها.
9 - صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة: عن تماثيل الشجر والشمس
والقمر، فقال (عليه السلام): لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان، فإنها ظاهرة في
حرمة اقتناء الصور المحرمة، فإن التماثيل جمع تمثال - بالفتح - ويجمع
على تمثالات، وعليه فالسؤال عن التماثيل إنما هو سؤال عن الصور
الموجودة في الخارج، فلا بد وأن يحمل على الأمور المناسبة لها من
البيع والشراء والاقتناء والتزين ونحوها، لا على نفس عمل الصور، كما أن السؤال عن بقية الأشياء الخارجية، من المأكولات والمشروبات
والمركوبات والمنكوحات ونحوها سؤال عن الأفعال المناسبة لها
والطارئة عليها بعد كونها موجودة في الخارج.
وإذن فالصحيحة دالة على حرمة اقتناء الصور المحرمة وبيعها
وشرائها والتزين بها كما هو واضح.
قال المحقق الإيرواني: والجواب أما عن الصحيحة فبعد تسليم
السؤال فيها عن حكم الاقتناء وكون اقتنائها من منافعها، أن غاية ما
يستفاد منها ثبوت البأس وهو أعم من التحريم (1).

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 22.
379

وفيه: أن كلمة البأس ظاهرة في المنع ما لم يثبت الترخيص من القرائن
الحالية أو المقالية، كما أن مقابلها، أعني كلمة لا بأس ظاهر في الجواز
المطلق.
فالانصاف أنها ظاهرة في التحريم إلا أنها معارضة بما دل على جواز
اقتناء الصور (1)، فلا بد من حملها على الكراهة كغيرها من الأخبار

1 - عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ربما قمت فأصلي وبين يدي الوسادة، وفيها
تماثيل طير فجعلت عليها ثوبا (التهذيب 2: 226، عنه الوسائل 5: 170)، صحيحة.
وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا بأس أن تصلي على كل التماثيل إذا
جعلتها تحتك (التهذيب 2: 363، عنه الوسائل 4: 439)، صحيحة.
وعنه قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه دراهم فيها تماثيل، فقال:
لا بأس بذلك (التهذيب 2: 363، عنه الوسائل 4: 439)، صحيحة.
وعن حماد بن عثمان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الدراهم السود فيها التماثيل أيصلي
الرجل وهي معه؟ فقال: لا بأس بذلك إذا كانت مواراة (التهذيب 2: 364، عنه الوسائل
4: 439)، صحيحة.
وأخرجها في الكافي ولكن لم يذكر كلمة بذلك (الكافي 3: 402، عنه الوسائل 4: 439).
وتدل على ذلك رواية ليث المرادي ولكنها ضعيفة السند لمحمد بن سنان (التهذيب
2: 363، عنه الوسائل 4: 439).
عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله (عليه السلام): سألته عن التمثال تكون في
البساط فتقع عينك عليه وأنت تصلي، قال: إن كان بعين واحدة فلا بأس، وإن كان له عينان
فلا (الكافي 2: 392، التهذيب 2: 363، عنهما الوسائل 4: 438)، مرسلة.
أقول: قد اشتهر بين الأصحاب قديما وحديثا أن مرسلات ابن أبي عمير من الأمارات
المعتبرة التي يجب العمل بها كسائر الأمارات المعتبرة، ولكن يرد عليه أولا: أنا نرى بالعيان
ونشاهد بالوجدان أن في مسندات ابن أبي عمير رجال ضعفاء، كما يتضح ذلك جليا لمن يلاحظ
أصول الحديث وكتب الرجال فنستكشف من ذلك أن مرسلاته أيضا على هذا النهج، ودعوى
أنه لم يرسل إلا عن الثقة دعوى جزافية، إذ لم يثبت لنا ذلك من العقل والنقل.
وثانيا: لو سلمنا أنه لم يرسل إلا عن الثقة، ولكن ثبوت الصحة عنده لا يوجب ثبوتها عندنا
لاحتمال اكتفائه في تصحيح الرواية بما لا نكتفي به نحن، ولعلنا نعتبر شيئا في رواة الحديث
لم يعتبره ابن أبي عمير في هؤلاء، ولا يقاس ذلك بتوثيق النجاشي وأمثاله وهو واضح.
عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال له رجل: رحمك الله ما هذه التماثيل التي
أراها في بيوتكم، فقال: هذا للنساء أو بيوت النساء (المحاسن: 621، عنه الوسائل 5: 309)،
صحيحة.
وفي رواية جعفر بن بشير: كانت لعلي بن الحسين (عليهما السلام) وسائد وأنماط فيها تماثيل
يجلس عليها (الكافي 6: 577، عنه الوسائل 5: 309)، مرسلة.
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في الأبواب المزبورة وغيرها.
380

المتقدمة لو سلمت دلالتها على الحرمة، بل الظاهر من بعضها أن النهي
عن اقتناء الصور في البيوت إنما هو من جهة كراهة الصلاة إليها (1).
وعليه فلا يكره الاقتناء في غير بيوت الصلاة، وقد ذكر المصنف هنا
جملة من الروايات ولكنها ضعيفة السند (2).

1 - وعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلي والتماثيل قدامي وأنا أنظر
إليها، قال: لا أطرح عليها ثوبا لا بأس بها، إذا كانت عن يمينك أو شمالك أو خلفك أو تحت
رجلك أو فوق رأسك، وإن كانت في القبلة، فالق عليها ثوبا وصل (التهذيب 2: 226،
الإستبصار 1: 394)، صحيحة.
2 - أما رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوسادة - الخ، فهي ضعيفة لعثمان
ابن عيسى (الكافي 6: 527، ععع 5: 308).
أما رواية أخرى لأبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نبسط عند الوسائد - الخ،
فهي ضعيفة لعلي بن أبي حمزة البطائني (التهذيب 6: 381، عنه الوسائل 17: 296).
أما رواية علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) عن الخاتم - الخ (قرب الإسناد: 94، عنه الوسائل
5: 172).
أما روايته عنه عن أخيه (عليه السلام) عن البيت - الخ (المحاسن: 620، عنه الوسائل 5: 173).
أما روايته عن قرب الإسناد عن علي بن جعفر (عليه السلام) - الخ (قرب الإسناد: 87، عنه الوسائل
4: 441).
أقول: كلها مجهولة لعبد الله بن الحسن.
381

ثم إن مقتضى العمومات الدالة على حلية البيع ونفوذه هو جواز بيع
الصور وإن كان عملها حراما، لعدم الدليل على حرمة بيعها وضعا
وتكليفا، بل الظاهر من بعض الأحاديث الدالة على جواز ابقاء الصور هو
جواز بيعها، فإن المذكور فيها جواز اقتناء الثياب والبسط والوسائد التي
فيها الصور، ومن الواضح جدا أنها تبتاع من السوق غالبا، وقد ذكرنا
جملة منها في الحاشية.
والمتحصل من جميع ما ذكرناه أن المحرم هو خصوص تصوير
الصور لذوات الأرواح فقط، وأما اقتناؤها وتزيين البيوت بها وبيعها
وشراؤها فلا اشكال في جوازها.
قوله: ويؤيد الكراهة الجمع بين اقتناء الصورة والتماثيل في البيت.
أقول: قد عرفت أنه لا دليل على حرمة اقتناء الصور المحرمة، وأن
مقتضى الجمع بين ما دل على جواز الاقتناء وبين ما دل على الحرمة هو
حمل الثاني على الكراهة.
ويؤيد ذلك أيضا الأخبار المستفيضة المصرحة بأن الملائكة
لا تدخل بيتا فيه صورة أو كلب أو إناء يبال فيه (1)، وفي بعض أحاديث

1 - عن ابن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن جبرئيل أتاني
فقال: إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا تمثال جسد، ولا إناء يبال فيه (الكافي
3: 393، التهذيب 2: 377، المحاسن: 615، الخصال: 138، عنهم الوسائل 5: 174)، مجهولة
لابن مروان.
وفي رواية عمرو بن خالد: إنا لا ندخل بيتا فيه صورة انسان (الكافي 3: 393، التهذيب
2: 377، عنهما الوسائل 5: 174)، مرسلة.
رواها في الكافي بطريق آخر (الكافي 6: 528، عنه الوسائل 5: 175)، ضعيفة لمعلى بن
محمد.
ورواها في المحاسن بطريق معتبر (المحاسن: 615، عنه الوسائل 5: 174).
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال جبرئيل: إنا لا ندخل بيتا فيه تمثال لا يوطأ - الحديث مختصر
(الكافي 6: 528، عنه الوسائل 5: 309)، ضعيف لعمرو بن شمر وعبد الله بن يحيى وأبيه.
وغير ذلك من الروايات الكثيرة.
382

العامة: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة تماثيل (1)، وفي بعض
أحاديثنا إضافة الجنب إلى الأمور المذكورة (2).
ووجه التأييد أن وجود الجنب والكلب والإناء الذي يبال فيه في
البيوت ليس من الأمور المحرمة في الشريعة المقدسة بل هو مكروه،
واتحاد السياق يقتضي كون اقتناء الصور فيها أيضا مكروها.
ثم إنه لا فرق فيما ذكرناه من جواز اقتناء الصورة وبيعها وشرائها بين
كونها مجسمة وغير مجسمة لاتحاد الأدلة نفيا واثباتا كما عرفت.
المسألة (5)
حرمة التطفيف والبخس
قوله: الخامسة: التطفيف حرام.
أقول: التطفيف (3) مثل التقليل وزنا ومعنى، والمراد به هنا أن يجعل

1 - راجع سنن البيهقي 7: 268.
2 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث: أن جبرئيل (عليه السلام) قال: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب
ولا جنب، ولا تمثال يوطأ (المحاسن: 615، عنه الوسائل 5: 176)، ضعيفة لعمرو بن شمر
وعبد الله بن يحيى وأبيه، الظاهر أن النسخة الصحيحة: ولا تمثال لا يوطأ.
3 - في تفسير التبيان للشيخ الطوسي: المطفف المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في
كيل أو وزن، والتطفيف التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو الوزن (التبيان 2: 760).
وفي مفردات الراغب: طفف الكيل قلل نصيب المكيل له في ايفائه واستيفائه (المفردات
: 305).
وعن المصباح: طففه فهو مطفف إذا كال أو وزن ولم يوف (المصباح: 374).
383

الانسان نفسه كيالا أو وزانا، فيقلل نصيب المكيل له في ايفائه واستيفائه
على وجه الخيانة، والبخس (1) نقص الشئ عن الحد الذي يوجبه الحق
على سبيل الظلم.
وكيف كان فلا اشكال في حرمتها عند المسلمين قاطبة، وتدل على
ذلك الأدلة الأربعة:
أما الكتاب، فقوله تعالى: ويل للمطففين (2)، وقوله تعالى:
ولا تبخسوا الناس أشياءهم (3)، وقوله تعالى: ولا تنقصوا المكيال
والميزان (4).
وأما السنة، فقد ورد النهي عن البخس والتطفيف في جملة من
الروايات (5).

1 - في مفردات الراغب: البخس نقص الشئ على سبيل الظلم (المفردات: 38)، وفي
المنجد بخسه بخسا نقصه وظلمه (المنجد: 27).
2 - المطففين: 2.
في تفسير التبيان (2: 760) وسنن البيهقي (6: 32) عن ابن عباس: لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله)
المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله: ويل للمطففين، فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
3 - راجع الأعراف: 83، وهود: 86، والشعراء: 180.
4 - هود: 85.
5 - عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول على المنبر: يا معشر
التجار الفقه ثم المتجر ثلاثا - إلى أن قال: - التاجر فأجر والفاجر في النار، إلا من أخذ الحق
وأعطى الحق (الكافي 5: 150، الفقيه 3: 121، التهذيب 7: 6، عنهم الوسائل 17: 381)، ضعيفة
لأبي جارود وعثمان بن عيسى.
وغير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المزبورة.
عن عيون الأخبار عن الرضا (عليه السلام)، فإنه (عليه السلام) جعل البخس في المكيال والميزان من
الكبائر (عيون الأخبار 1: 285، علل الشرايع: 391، عنهما الوسائل 15: 321).
أقول: قال في خاتمة الوسائل: ومن ذلك طريقه إلى الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في
كتابه إلى المأمون، وقد رواه في عيون الأخبار بالسند الأول والثاني جميعا، ورواه أيضا عن
حمزة بن محمد العلوي.
أقول: أما الطريق الأول فهو مجهول لعبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري وعلي
ابن قتيبة النيسابوري، وأما الثاني فهو مجهول للحاكم أبي محمد جعفر بن نعيم، وأما الثالث فهو
مجهول لحمزة بن محمد العلوي.
عن أبي القاسم الكوفي في كتاب الأخلاق عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) قال: إذا ظهر
الزناء في أمتي كثر موت الفجأة فيهم، وإذا طففت المكيال أخذهم بالسنين والنقص (كتاب
الأخلاق، مخطوط، عنه المستدرك 12: 334)، مرسلة.
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: وجدنا في كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا ظهر الزناء من بعدي كثر
موت الفجأة، وإذا طفف الميزان والمكيال أخذهم الله بالسنين والنقص (الكافي 2: 277،
الأمالي للصدوق: 253، عقاب الأعمال: 300، المحاسن: 116، عنهم الوسائل 16: 273)،
حسنة لإبراهيم بن هاشم.
وفي رواية حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل عد جملة من الأوصاف
المحرمة، إلى أن قال: ورأيت الرجل معيشته من بخس المكيال والميزان (الكافي 8: 36، عنه
الوسائل 16: 275)، حسنة لإبراهيم بن هاشم وحمران.
384

وأما الاجماع فإنه وإن كان قائما على حرمة التطفيف والبخس إلا أنه
ليس اجماعا تعبديا، بل من المحتمل القريب أن يكون مدركه الكتاب
والسنة.
وأما العقل فلأن تنقيص حق الناس وعدم الوفاء به ظلم، وقد استقل
العقل بحرمته.
ومما ذكرناه ظهر ما في كلام المحقق الإيرواني من الوهن، حيث قال:
385

الظاهر بل المقطوع به أن التطفيف بنفسه ليس عنوانا من العناوين
المحرمة، أعني الكيل بالمكيال الناقص، وكذا البخس في الميزان، مع
وفاء الحق كاملا (1).
ووجه الوهن أن التطفيف قد أخذ فيه عدم الوفاء بالحق، والبخس هو
نقص الشئ على سبيل الظلم، وهما بنفسهما من المحرمات الشرعية
والعقلية، على أنه قد ثبت الذم في الآية الشريفة على نفس عنوان
التطفيف، فإن الويل كلمة موضوعة للوعيد والتهديد، ويقال لمن وقع
في هلاك وعقاب، وكذلك نهى في الآيات المتعددة عن البخس كما
عرفت آنفا، وظاهر ذلك كون التطفيف والبخس بنفسهما من المحرمات
الإلهية.
قوله: ثم إن البخس في العدد والذرع يلحق به حكما وإن خرج عن موضوعه.
أقول: قد عرفت أن التطفيف والبخس مطلق التقليل والنقص على
سبيل الخيانة والظلم في ايفاء الحق واستيفائه، وعليه فذكر الكيل
والوزن في الآية وغيرها إنما هو من جهة الغلبة، فلا وجه لاخراج النقص
في العدد والذرع عن البخس والتطفيف موضوعا والحاقهما بهما حكما.
صحة المعاملة المطفف فيها وفسادها:
قوله: ولو وازن الربوي بجنسه فطفف في أحدهما، فإن جرت المعاوضة - الخ.
أقول: قد عرفت أنه لا اشكال في حرمة التطفيف تكليفا، فإجارة نفسه
عليه كإجارة نفسه على سائر الأفعال المحرمة محرمة وضعا وتكليفا،
كما عرفت مرارا.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 22.
386

وأما الكلام في صحة المعاملة المطفف فيها وفسادها فنقول:
إن المعاملة قد تقع على الكلي في الذمة، وقد تقع على الكلي في
المعين الخارجي، وقد تقع على الشخص المعين الموجود في الخارج
المشار إليه بالإشارة الحسية.
أما على الصورتين الأولتين فلا اشكال في صحة المعاملة وعدم
فسادها بالتطفيف الخارجي، فإن المعاملة قد انعقدت صحيحة ولكن
البائع أو من يباشر الاقباض والتسليم طفف في الكيل والوزن أو في الذرع
والعدد، وهو لا يوجب فسادها، بل يكون الدافع مشغول الذمة بما نقص
عن الحق، ولا يفرق في ذلك بين كون المعاملة ربوية أو غير ربوية كما هو
واضح، وعلى الجملة أن هاتين الصورتين خارجتان عما نحن فيه.
وأما على الصورة الثالثة، فربما يقال ببطلان المعاملة إذا وقعت على
المتاع الخارجي بما أنه مقدار بمقدار كذا، فظهر عدم انطباق العنوان
الملحوظ في البيع على المشار إليه الخارجي، ووجه البطلان أن ما هو
معنون بعنوان كذا غير موجود في الخارج، وما هو موجود في الخارج
غير معنون بذلك العنوان، وتوهم إلغاء الإشارة أو الوصف فاسد، فإن
اللازم هو الأخذ بكليهما لتعلق قصد المتبايعين بهما.
وفيه: أنه لا وجه للبطلان إذا تخلف العنوان، فإنه ليس من العناوين
المقومة بل هو إما أن يكون مأخوذا على نحو الشرطية أو على نحو
الجزئية كما سيجئ.
ولا يقاس ذلك بتخلف العناوين التي تعد من الصور النوعية عند
العرف، كما إذا باع صندوقا فظهر أنه طبل أو باع ذهبا فظهر أنه مذهب، أو
باع بغلا فظهر أنه حمار، فإن البطلان في أمثالها ليس من انفكاك العنوان
عن الإشارة بل من جهة عدم وجود المبيع أصلا، وقد تقدم ذلك في
387

البحث عن بيع هياكل العبادة وعن بيع الدراهم المغشوشة.
وربما يقال: إن المورد من صغريات تعارض الإشارة والعنوان،
وتقديم أحدهما على الآخر يختلف بحسب اختلاف الموارد.
وفيه: أن الكبرى وإن كانت مذكورة في كتب الشيعة والسنة (1)، إلا أنها
لا تنطبق على ما نحن فيه، فإن البيع من الأمور القصدية فلا معنى لتردد
المتبايعين فيما قصداه، نعم قد يقع التردد منهما في مقام الاثبات من جهة
اشتباه ما هو المقصود بالذات.
والذي ينبغي أن يقال: إن الصور المتصورة في المقام ثلاث:
1 - أن يكون انشاء البيع معلقا على كون المبيع متصفا بصفة خاصة، بأن
يقول: بعتك هذا المتاع الخارجي على أن يكون منا، فظهر الخلاف،
وهذا لا اشكال في بطلانه، لا من جهة التطفيف ولا من جهة تخلف
الوصف، بل لقيام الاجماع على بطلان التعليق في الانشاء.
2 - أن ينشأ البيع منجزا على المتاع الخارجي بشرط كونه كذا مقدار
ثم ظهر الخلاف، وهذا لا اشكال في صحته، فإن تخلف الأوصاف غير
المقومة للصورة النوعية لا يوجب بطلان المعاملة، غاية الأمر أنه يوجب
الخيار للمشتري.
3 - أن يكون مقصود البائع من قوله: بعتك هذا المتاع الخارجي
بدينارين على أن يكون كذا، مقدار بيع الموجود الخارجي فقط، وكان

1 - شرح فتح القدير في المهر: أن الإشارة والتسمية إذا اجتمعا والمشار إليه من خلاف
جنس المسمى فالعبرة للتسمية، لأنها تعرف الماهية والإشارة تعرف الصورة، فكان اعتبار
التسمية أولى، لأن المعاني أحق بالاعتبار، وإن كان المشار إليه من جنس المسمى إلا أنهما
اختلفا وصفا فالعبرة للإشارة، لأن المسمى موجود في المشار إليه ذاتا، والوصف يتبعه - إلى أن قال: - والشأن في التخريج على هذا الأصل (شرح فتح القدير 2: 464).
388

غرضه من الاشتراط الإشارة إلى تعيين مقدار العوضين ووقوع كل منهما
في مقابل الآخر بحيث يقسط الثمن على أجزاء المثمن، وعليه فإذا ظهر
الخلاف صح البيع في المقدار الموجود وبطل في غيره، نظير بيع ما
يملك وما لا يملك، كالخنزير مع الشاة والخمر مع الخل.
والظاهر هي الصورة الأخيرة، فإن مقصود البايع من الاشتراط المذكور
ليس إلا بيان مقدار المبيع فقط من غير تعليق في الانشاء، ولا اعتبار شرط
في المعاملة كما هو واضح.
هذا كله إذا لم يكن البيع ربويا، وأما إذا كان ربويا فإن كان من قبيل
الصورة الأولى بطل البيع للتعليق مع قطع النظر عن التخلف وكون
المعاملة ربوية، وإن كان من قبيل الصورة الثانية بطل البيع لكونه ربويا مع
قطع النظر عن تخلف الشرط، وإن كان من قبيل الصورة الثالثة قسط الثمن
على الأجزاء وصح البيع في المقدار الموجود وبطل في غيره.
المسألة (6)
التنجيم
قوله: السادسة: التنجيم (1) حرام، وهو كما في جامع المقاصد (2) الأخبار عن أحكام
النجوم.
أقول: تحقيق المرام يبتني على مقدمتين: المقدمة الأولى في بيان
أمرين:
الأمر الأول: أن أصول الاسلام أربعة:
1 - الايمان بالله والاقرار بوجوده وكونه صانعا للعالم، وبجميع ما

1 - نجم من التفعيل رعى النجوم وراقبها ليعلم منها أحوال العالم.
2 - جامع المقاصد 4: 31.
389

يحدث فيه من غرائب الصنع وآثار الرحمة وعجائب الخلق، واختلاف
الموجودات من الشمس والقمر والنجوم، والرياح والسحاب،
والجبال والبحار، والأشجار والأثمار، واختلاف الليل والنهار، فمن
أنكر ذلك كان كافرا، كالدهرية القائلين بكون الأمور كلها تحت سلطان
الدهر بلا احتياج إلى الصانع، وكفره ثابت بالضرورة من المسلمين، بل
ومن جميع المليين، وقد دلت الآيات الكثيرة على أن من لم يؤمن بالله
وأنكره فهو كافر.
2 - الاقرار بتوحيده تعالى ويقابله الشرك، والقول بأن للعالم أكثر من
صانع واحد، كما يقوله الثنوية وغيرهم، وكفر منكر التوحيد ثابت بكثير
من الآيات، كقوله تعالى: إنما المشركون نجس (1)، والروايات.
3 - الايمان بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) والاعتراف بكونه نبيا مرسلا: وما
ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى (2)، ومن أنكر ذلك كاليهود
والنصارى وأشباههم كان كافرا بحكم الضرورة من المسلمين، وقد دلت
عليه جملة من الآيات والروايات.
وأما الاقرار بالأنبياء السابقين فهو داخل في الاقرار بما جاء به النبي
(صلى الله عليه وآله)، فانكاره يوجب الكفر من جهة تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله).
4 - الايمان بالمعاد الجسماني والاقرار بيوم القيامة والحشر والنشر
وجمع العظام البالية وارجاع الأرواح فيها، فمن أنكر المعاد أو أنكر كونه
جسمانيا فهو كافر بالضرورة.
ولا بد وأن يعلم أن الاقرار بهذه الأمور الأربعة له موضوعية في
التلبس بحلية الاسلام، وانكار أي واحد منها في حد نفسه موجب

1 - التوبة: 28.
2 - النجم: 3 - 4.
390

للكفر، سواء أكان مستندا إلى العناد واللجاج، أم كان مستندا إلى الغفلة
وعدم الالتفات الناشئ عن التقصير أو القصور، وقد دلت الآيات الكثيرة
أيضا على كفر منكر المعاد.
الأمر الثاني: أنه يجب على العباد الاعتراف بفرائض الله وسنن رسوله
(صلى الله عليه وآله) وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، فمن تركها جاحدا وهو عالم بأن انكاره
هذا يستلزم تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله) فهو كافر، وإلا فلا ملازمة بين الانكار
وبين الكفر، ومن هنا لا يحكم بكفر المخالفين في الظاهر مع انكارهم
الولاية.
وقد دلت الآيات وروايات الفريقين على اعتبار الأمور المذكورة في
الاسلام وحقن الدماء وحفظ الأموال، ففي موثقة سماعة: الاسلام
شهادة أن لا إله إلا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء، وعليه
جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس (1)، وفي رواية
داود بن كثير الرقي: أن الله تعالى فرض فرائض موجبات على العباد،
فمن ترك فريضة من الموجبات وجحدها كان كافرا (2).
ومن طرق العامة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أقاتل الناس حتى يشهدوا أن
لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني
دماءهم وأموالهم (3).
المقدمة الثانية: أنه لا اشكال في اختلاف الأجرام العلوية والكيفيات
الخاصة الحاصلة بين الفلكيات بعضها مع بعض وتأثيرها في الأوضاع
الأرضية والأجسام العنصرية، كتأثير قرب الشمس من خط الاستواء

1 - الكافي 2: 25.
2 - الكافي 2: 283، عنه الوسائل 1: 30.
3 - سنن البيهقي 8: 202.
391

وبعدها عنه في اختلاف الفصول، وكزيادة الرطوبة في الأبدان بزيادة نور
القمر ونقصانها بنقصانه، وزيادة أدمغة الحيوانات وألبانها بزيادة نوره
ونقصانها بنقصانه، وزيادة البقول والثمار نموا ونضجا، احمرارا
واخضرارا عند زيادة نور القمر، بل ذكر المحقق البهائي في الحديقة
الهلالية (1): أن المزاولين لها يسمعون صوتا من القناء والقرع والبطيخ عند
تمدده وقت زيادة النور.
وكزيادة المياه في البحار والشطوط والينابيع في كل يوم من النصف
الأول من الشهر ونقصانها يوما فيوما في النصف الأخير منه، إلى غير
ذلك من الآثار الواضحة التي يجوز الاعتقاد بها والاخبار عنها، من دون
أن يترتب عليه محذور شرعا.
وأيضا لا اشكال في جواز النظر إلى أوضاع الكواكب وسيرها،
وملاحظة اقتران بعضها مع بعض، والاذعان بها، والاخبار عنها كالاخبار
عن سير الكواكب حركة سريعة من المشرق إلى المغرب في يوم وليلة
التي بها يتحقق طلوعها وغروبها ويتحقق الليل والنهار، كما حقق في
الهيئة القديمة، وكالاخبار عن الخسوف والكسوف وعن ممازجات
الكواكب ومقارناتها، واختفائها واحتراقها، ونحوها من الأمور الواضحة
المقررة في علم معرفة التقويم وعلم الهيئة.
فإن الاخبار عنها نظير الاخبار عن طلوع الشمس في أول اليوم وعن
غروبها في آخره، مبني على التجربة والامتحان والحساب الصحيح
الذي لا يتخلف غالبا.
ومن الواضح جدا أنه لا يرتبط شئ منها بما نحن فيه، بل هي خارجة
عن علم النجوم، نعم إذا استند المخبر عن تلك الأمور إلى الظنون غير

1 - الحديقة الهلالية: 139.
392

المعتبرة عقلا وكان كلامه ظاهرا في الاخبار الجزمي كان الاخبار حراما
من جهة الكذب، وعليه فلا وجه لما ذكره المصنف من تجويز الاخبار
عن سير الكواكب مع الاستناد إلى الأمارات الظنية.
إذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول:
قد اختلفت الأقوال في جواز تعلم النجوم وتعليمها، والنظر فيها مع
عدم اعتقاد تأثيرها أصلا وعدم جوازه، وتنقيح المسألة وتهذيبها يقع
في أمور:
1 - قال جمع من الفلاسفة: إن للأفلاك نفوسا ترتسم فيها صورة
المقدرات، ويقال لها: لوح المحو والاثبات، وأن الأفلاك متحركة على
الاستدارة والدوام حرمة إرادية اختيارية للشبه بعالم العقول والوصول
إلى المقصد الأقصى، وأنها مؤثرة فيما يحدث في عالم العناصر، من
الموت والمرض والصحة والفقر والغنى، وأن نظام الكل بشخصيته هو
الانسان الكبير، والعقول والنفوس بمنزلة القوى العاقلة والعاملة التي
هي مبادي الادراكات والتحريكات، والنفوس المنطبعة بمنزلة الروح
الحيواني.
وعلى الجملة التزموا بأن الموجودات الممكنة برمتها مفوضة إلى
النفوس الفلكية والعقول الطولية، وأن الله تعالى بعد خلقه العقل الأول
منعزل عن التصرف في مخلوقه.
وفيه: أنه على خلاف ضرورة الدين واجماع المسلمين، والاعتقاد به
كفر وزندقة لكونه انكارا للصانع، فإن الأدلة العقلية والسمعية من الآيات
والروايات مطبقة على اثبات الصانع واثبات القدرة المطلقة له تعالى،
وأن أزمة المخلوقات كلها في قبضة قدرته، يفعل فيها ما يشاء ولا يسأل
عما يفعل وهم يسألون.
393

إلا أن يكون مراد الفلاسفة أن الفياض على الاطلاق في جميع
الحالات هو الباري تعالى، ولكن إفاضة الوجود بواسطة النفوس الفلكية،
وهي طرق لوصول الفيض وليست مؤثرة في عالم العناصر ليلزم منه
انكار الصانع، ويظهر هذا من كلام جماعة منهم.
على أن الظاهر من الآيات والروايات أن حركة الأفلاك إنما هي حركة
قسرية وبمباشرة الملائكة، فالاعتقاد على خلافه مخالف للشرع
وتكذيب للنبي الصادق (صلى الله عليه وآله) في أخباره، فيكون كفرا، وإرادة النفوس
الفلكية من الملائكة من تأويلات الملاحدة، كما صرح به المجلسي (رحمه الله)
في اعتقاداته (1).
ثم إن الاعتقاد بالأمور المذكورة إنما يوجب الكفر إذا علم المعتقد
بالملازمة بينها وبين انكار الصانع أو تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله)، وإلا
فلا محذور فيه كما عرفت في المقدمة الثانية.
2 - أن يلتزم بتأثير الأوضاع الفلكية والكيفيات الكوكبية بنفسها في
حوادث العوالم السفلية، كتوسعة الرزق وأنوثة الولد ورجولته، وصحة
المزاج وسقمه، وازدياد الأموال ونقصانها، وغيرها من الخيرات
والشرور، سواء قلنا بالنفوس الفلكية أم لم نقل، وهو على وجهين: الأول:
أن يكون ذلك علة تامة لحدوث الحوادث، والثاني أن يكون شريكا للعلة
في الأمور المذكورة.
وكلا الوجهين باطل، لأنه انكار للصانع أو لتوحيده جل وعلا،
والظاهر أنه لا خلاف في ذلك بين الشيعة والسنة (2)، بل قامت الضرورة بين

1 - راجع البحار 58: 308، 59: 299.
2 - عن ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: أن المعلوم ضرورة من الدين ابطال حكم
النجوم وتحريم الاعتقاد بها والزجر عن تصديق المنجمين (شرح النهج 6: 212).
وفي سنن البيهقي في حديث زيد الجهني: قال الشافعي: وأما من قال مطرنا بنوء كذا، على
ما كان بعض أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أن أمطره نوء كذا، فذلك كفر، وفي الموضع
المزبور عن الجهني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال الله: أصبح من عبادي مؤمن وكافر، فأما من قال
: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا
فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (سنن البيهقي 3: 358).
ورواه العلامة (رحمه الله) مرسلا في التذكرة في صلاة الاستسقاء (التذكرة 1: 169).
ورواه صاحب الوسائل أيضا مرسلا (الذكرى للشهيد الأول: 251، عنه الوسائل 11: 374).
في لسان العرب مادة نوأ: قال أبو عبيد: الأنواء ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في
أزمنة السنة، وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر قالوا: لا بد من أن يكون
عند ذلك مطر أو رياح، فينسبون كل غيث عند ذلك إلى ذلك النجم، فيقولون: مطرنا بنوء الثريا -
الخ، وإنما سمي نوءا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق، أي نهض وطلع
(لسان العرب 1: 176).
394

المسلمين على كفر من اعتقد بذلك.
قال العلامة المجلسي في مرآة العقول: إن القول باستقلال النجوم في
تأثيرها كفر وخلاف لضرورة الدين، وإن القول بالتأثير الناقص إما كفر أو
فسق (1).
وقال المحقق البهائي في الحديقة الهلالية: إن الالتزام بأن تلك
الأجرام هي العلة المؤثرة في تلك الحوادث بالاستقلال أو أنها شريكة في
التأثير، فهذا لا يحل للمسلم اعتقاده، وعلم النجوم المبتني على هذا
كفر (2)، إلى غير ذلك من كلمات الأعاظم الصريحة فيما ذكرناه.
3 - أن يلتزم بكون أوضاع الكواكب من التقارن والتباعد والاتصال
والتربيع والاختفاء وغيرها من الحالات علامة على حوادث عالم

1 - البحار 58: 308، مرآة العقول 4: 410.
2 - الحديقة الهلالية: 139.
395

العناصر التي تحدث بقدرة الله وإرادته، بأن يجعل الوضع الفلاني علامة
رجولة الولد والوضع الفلاني علامة أنوثته وهكذا، كما أن سرعة حركة
النبض علامة على الحمى، واختلاج بعض الأعضاء علامة على بعض
الحوادث المستقبلة، ونصب العلم علامة على التعزية والرثاء.
وهذا الوجه قد اختاره السيد ابن طاووس في محكي كلامه في رسالته
النجومية (1) ووافقه عليه جمع من الأعاظم، كالمحقق البهائي في الحديقة
الهلالية (2)، والسيد الجزائري في شرح الصحيفة السجادية (3)،
والمحدث النوري في المستدرك (4) وغيرهم، وحملوا عليه ما روي من
صحة علم النجوم وجواز تعلمه.
4 - أن يلتزم بأن الله تعالى قد أودع في طبائع أوضاع الكواكب
خصوصيات تقتضي حدوث بعض الحوادث، من غير أن يكون لها
استقلال في التأثير ولو بنحو الشركة، وتلك الخصوصيات كالحرارة
والبرودة المقتضيتين للاحراق والتبريد.
وهذان الوجهان وإن لم يكن الاعتقاد بهما موجبا للكفر بأنفسهما
إلا أنهما باطلان لوجوه:
الأول: إنه لا طريق لنا إلى كشف هذا المعنى في مقام الاثبات، وإن
كان ممكنا في مقام الثبوت.
الثاني: إن ذلك مناف لاطلاق الروايات الدالة على حرمة العمل بعلم

1 - فرج المهموم: 86.
2 - الحديقة الهلالية: 139.
3 - شرح الصحيفة السجادية: 181.
4 - المستدرك 8: 125.
396

النجوم وجعلها علامة على الحوادث (1).

1 - عن عبد الله بن عوف بن الأحمر قال: لما أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) المسير إلى النهروان
أتاه منجم فقال له: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من
النهار، فقال (عليه السلام): ولم ذاك، قال: لأنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك
أذى وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك ظفرت وظهرت وأصبت كلما طلبت،
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): تدري ما في بطن هذه الدابة أذكر أم أنثى؟ قال: إن حسبت علمت،
قال له أمير المؤمنين (عليه السلام): من صدقك على هذا القول كذب بالقرآن، إن الله عنده علم
الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري بأي
أرض تموت إن الله عليم خبير، ما كان محمد (صلى الله عليه وآله) يدعي ما ادعيت، أتزعم أنك تهتدي إلى
الساعة التي من سار فيها حاق به الضر، من صدق بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة بالله في
ذلك الوجه، وأحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه، وينبغي له أن يوليك الحمد دون ربه،
فمن آمن لك بهذا فقد أتخذك من دون الله ندا وضدا.
ثم قال (عليه السلام): اللهم لا طير إلا طيرك، ولا ضير إلا ضيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله
غيرك، بل نكذبك ونخالفك، ونسير في الساعة التي نهيت عنها (الأمالي للصدوق: 338، عنه
الوسائل 11: 371، والآية في لقمان: 34)، ضعيفة لعبد الله بن عوف وعمر بن سعد ومحمد بن
علي القرشي وغيرهم، ولكن آثار الصدق منها ظاهرة.
وقريب منه ما نقله السيد في نهج البلاغة مرسلا، أعني الخطبة 76 من خطبه (عليه السلام).
قوله: حاق به الضر أي أحاط به.
عن الكابلي قال: سمعت زين العابدين (عليه السلام) - إلى أن قال: - والذنوب التي تظلم الهواء:
السحر والكهانة والايمان بالنجوم (معاني الأخبار: 270، عنه الوسائل 11: 373)، ضعيفة
لأحمد بن يحيى بن زكريا وبكر بن عبد الله بن حبيب وغيرهما.
عن عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني قد ابتليت بهذا العلم فأريد
الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت الطالع
الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: تقضي؟ قلت: نعم، قال: احرق كتبك (الفقيه 2: 175، عنه
الوسائل 11: 370)، حسنة لعبد الملك.
في حديث احتجاج الصادق (عليه السلام) على الزنديق قال: فما تقول في علم النجوم، قال (عليه السلام):
هو علم قلت منافعه وكثرت مضراته، لأنه لا يدفع به المقدور ولا يتقي به المحذور، إن أخبر
المنجم بالبلاء لم ينجه التحرز من القضاء، وإن أخبر هو بخير لم يستطع تعجيله، وإن حدث به
سوء لم يمكنه صرفه، والمنجم يضاد الله في علمه بزعمه أن يرد قضاء الله عن خلقه (
الإحتجاج: 347، عنه الوسائل 17: 143، المستدرك 8: 123)، مرسلة.
عن المحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة والشهيدان قالوا: من صدق كاهنا أو منجما فهو
كافر بما أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) (المعتبر: 311، التذكرة: 271، عنهما الوسائل 17: 144)،
مرسلة.
397

وظاهر جملة من الروايات أن لعلم النجوم حقيقة واقعية (1)، ولكن

1 - عن قيس بن سعد قال: كنت كثيرا أساير أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا سار إلى وجه من
الوجوه، فلما قصد النهروان وصرنا بالمدائن وكنت يومئذ مسايرا له، إذ خرج إليه قوم من أهل
المدائن - إلى أن قال: - وكان فيمن تلقاه دهقان، وكانت الفرس تحكم برأيه في النجوم، فجرى
بينه وبين علي (عليه السلام) بعض الأسئلة، فقال الدهقان: لا أدري، ثم قال علي (عليه السلام): لو علمت ذلك
لعلمت أنك تحصي عقود القصب في هذه الأجمة، ومضى أمير المؤمنين فهزم أهل النهروان
فقتلهم وعاد بالغنيمة والظفر، فقال الدهقان: ليس هذا العلم بما في أيدي أهل زماننا، هذا علم
مادته من السماء (البحار 58: 229)، ضعيفة لأبي جارود زياد بن المنذر.
عن أبان بن تغلب قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه رجل من أهل اليمن - إلى أن قال (عليه السلام): - ما صناعتك يا سعد؟ فقال: جعلت فداك إنا من أهل بيت ننظر بالنجوم لا يقال إن
باليمن أحدا أعلم بالنجوم منا، إلى أن ذكر أبو عبد الله (عليه السلام) أمورا، فقال له اليماني: ما ظننت أن
أحدا يعلم هذا وما يدري ما كنهه (البحار 58: 219 و 227)، مرسلة.
عن هشام الخفاف قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): كيف بصرك بالنجوم، قال: قلت: ما
خلفت بالعراق أبصر بالنجوم مني - إلى أن قال (عليه السلام): - إن أصل الحساب حق ولكن لا يعلم
ذلك إلا من علم مواليد الخلق كلهم (الكافي 8: 351، عنه الوسائل 17: 142)، مجهولة لحماد
الأزدي.
عن عبد الرحمان بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) بعد أن جوز النظر إلى النجوم قال: إنكم
تنظرون في شئ منها كثيره لا يدرك وقليله لا ينتفع به (الكافي 8: 195، عنه الوسائل 17: 14)،
ضعيفة لعبد الرحمان بن سيابة، ومجهولة للحسن بن أسباط.
عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الحر والبرد مما يكونان، فأجاب
الإمام (عليه السلام) بما حاصله: أن المريخ كوكب حار، وزحل كوكب بارد، فكلما ارتفع المريخ درجة
انحط زحل درجة، فلذلك يشتد الحر في الصيف، وإذا انعكس الأمر اشتد البرد كما في الشتاء،
وشدة البرد في الصيف أحيانا مستندة إلى القمر، وشدة الحر في الشتاء أحيانا مستندة إلى
الشمس (الكافي 8: 306، عنه البحار 58: 246)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في الأبواب المتقدمة وغيرها وأكثرها مذكورة في
البحار 58: 200 - 300.
398

لا يحيط بها غير علام الغيوب ومن ارتضاه لغيبه، فلا يجوز لغيره أن
يجعلها علامة على الحوادث.
ومن هنا قال الشهيد في محكي قواعده: وأما ما يقال من أن استناد
الأفعال إليها كاستناد الاحراق إلى النار وغيرها من العاديات - إلى أن قال:
- فهذا لا يكفر معتقده ولكنه مخطي أيضا (1).
الثالث: إن ذلك مناف للأخبار المتواترة والواردة في الحث على
الدعاء والصدقات وسائر وجوه البر، والدالة على أنها ترد القضاء الذي
نزل من السماء وابرم ابراما، وأنها ترد البلاء المبرم.
ومن الواضح جدا أن الالتزام بالوجهين المذكورين انكار لذلك، وهو
مستلزم للكفر من حيث إنه تكذيب النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا يفرق في ذلك بين
كون الالتزام بأن أوضاع الكواكب مجرد علامة على الحوادث أو مؤثرة
فيها، ولو بغير شعور واختيار نظير الحرارة والبرودة.
لا يقال: قد ورد في بعض الأحاديث أنه يكره التزويج في بعض الأيام
والساعات لنحوستها كمحاق الشهر (2)، وعند كون القمر في برج

1 - القواعد والفوائد 2: 35.
2 - وعن الصدوق: روي أنه يكره التزويج في محاق الشهر (الفقيه 3: 250).
399

العقرب (1)، فيستفاد من ذلك أن سير الكواكب وأوضاعها علامة على بعض
الحوادث.
فإن ذلك لا ينافي ما قدمناه بعد أن كان المبين له هو الشارع على السنة
أمنائه، وقد عرفت دلالة بعض الأخبار على أن لعلم النجوم حقيقة ولكن
لا يعلم بها غير علام الغيوب ومن ارتضاه لغيبه، على أن ذلك أجنبي عما
نحن فيه، فإن كراهة التزويج في تلك الأوقات ككراهة الصلاة في
المواضع المكروهة، وكراهة الجماع في الأوقات المخصوصة،
فلا دلالة في ذلك على المطلوب.
5 - هل يجوز تعلم علم النجوم في حد ذاته من غير اذعان بتأثير
الكواكب أم لا، نسب الشهيد في محكي الدروس القول بالحرمة إلى
بعض الأصحاب (2).
ولكن الظاهر من بعض الأحاديث (3) هو الجواز إذا كان ذلك لمجرد

1 - عن محمد بن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): من تزوج امرأة والقمر في العقرب لم ير
الحسنى (التهذيب 7: 461، المقنعة: 79، عنهما الوسائل 20: 115).
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سافر أو تزوج والقمر في العقرب لم ير الحسنى (الكافي
8: 275، الفقيه 2: 174، المحاسن: 347، عنهم الوسائل 11: 367).
2 - الدروس 3: 165.
3 - عن ابن أبي عمير أنه قال: كنت أنظر في النجوم وأعرفها وأعرف الطالع، فيدخلني من
ذلك شئ، فشكوت ذلك إلى أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) فقال: إذا وقع في نفسك شئ
فتصدق على أول مسكين ثم امض فإن الله يدفع عنك (المحاسن: 349، عنه البحار 58: 228)،
حسنة لإبراهيم بن هاشم.
عن عبد الملك بن أعين قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني قد ابتليت بهذا العلم فأريد
الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت الطالع الشر جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت الطالع
الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: تقضي؟ قلت: نعم، قال: احرق كتبك (الفقيه 2: 175، عنه
الوسائل 11: 370)، حسنة لعبد الملك.
عن عبد الرحمان بن سيابة عن أبي عبد الله (عليه السلام) بعد أن جوز النظر إلى النجوم قال: إنكم
تنظرون في شئ منها كثيره لا يدرك وقليله لا ينتفع به (الكافي 8: 195، عنه الوسائل 17: 14)،
ضعيفة لعبد الرحمان بن سيابة، ومجهولة للحسن بن أسباط.
400

معرفة سير الكواكب وأوضاعها الخاصة، وفاقا لجمع من الأعاظم (قدس سرهم)،
وأما ما يوهم حرمة تعلم النجوم من أحاديث الشيعة (1) والسنة (2)،
فمحمول على غير هذه الصورة، والله العالم.
المسألة (7)
حفظ كتب الضلال
قوله: السابعة: حفظ كتب الضلال حرام في الجملة بلا خلاف.
أقول: قال الشيخ في غنائم المبسوط: إذا وجد في المغنم كتب نظر
فيها - إلى أن قال: - وإن كانت كتبا لا يحل إمساكه كالكفر والزندقة وما
أشبه ذلك لا يجوز بيعه، ثم حكم بوجوب تمزيقها واتلافها، وحكم
بكون التوراة والإنجيل من هذا القبيل لوقوع التحريف فيهما (3)، ونحوه
العلامة في غنائم التذكرة (4).
ثم إن المراد بكتب الضلال كل ما وضع لغرض الاضلال واغواء
الناس، وأوجب الضلالة والغواية في الاعتقادات أو الفروع، فيشمل

1 - راجع المصادر المذكورة والبحار 58: 210 - 240.
2 - راجع سنن البيهقي 8: 138.
3 - المبسوط 2: 30.
4 - التذكرة 1: 582، كذا الفاضل المقداد في التنقيح 2: 12، والمحقق الثاني في جامع
المقاصد 4: 26.
401

كتب الفحش والهجو والسخرية، وكتب القصص والحكايات،
والجرائد المشتملة على الضلالة، وبعض كتب الحكمة والعرفان،
والسحر والكهانة، ونحوها مما يوجب الاضلال.
وقد استدل على حرمة الحفظ بوجوه:
1 - حكم العقل بوجوب قلع مادة الفساد.
وفيه: أن مدرك حكمه إن كان هو حسن العدل وقبح الظلم، بدعوى أن
قلع مادة الفساد حسن وحفظها ظلم وهتك للشارع، فيرد عليه أنه لا دليل
على وجوب دفع الظلم في جميع الموارد، وإلا لوجب على الله وعلى
الأنبياء والأوصياء الممانعة عن الظلم تكوينا، مع أنه تعالى هو الذي
أقدر الانسان على فعل الخير والشر، وهداه السبيل إما شاكرا وإما
كفورا.
وإن كان مدرك حكمه وجوب الإطاعة وحرمة المعصية لأمره تعالى
بقلع مادة الفساد، فلا دليل على ذلك إلا في موارد خاصة، كما في كسر
الأصنام والصلبان وسائر هياكل العبادة.
وأما التمسك برواية تحف العقول في استفادة كلية الحكم، فسيأتي
الكلام فيه.
نعم إذا كان الفساد موجبا لوهن الحق وسد بابه، واحياء الباطل
وتشييد كلمته، وجب دفعه لأهمية حفظ الشريعة المقدسة، ولكنه أيضا
وجوب شرعي في مورد خاص، فلا يرتبط بحكم العقل بقلع مادة الفساد.
2 - قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن
سبيل الله (1)، فقد قيل في تفسير الآية: أن يشتري كتابا فيه لهو الحديث،

1 - لقمان: 5.
402

فتشمل حفظ كتب الضلال أيضا (1).
وفيه أولا: أن المذموم في ظاهر الآية هو اشتراء لهو الحديث
للاضلال، ومن الواضح أن هذا المعنى أجنبي عن حفظ كتب الضلال
لعدم العلم بترتب الغاية المحرمة عليه، غاية الأمر احتمال ترتب
الاضلال على الحفظ.
وثانيا: أنا إذا سلمنا ذلك، فالمستفاد من الآية حرمة اشتراء كتب
الضلال ولا دلالة فيها على حرمة ابقائها وحفظها بعد الشراء، كما أن
التصوير حرام وأما اقتناؤه فليس بحرام، والزناء حرام وتربية أولاد
الزناء ليس بحرام، وقد تقدم ذلك في البحث عن جواز اقتناء الصور
المحرمة.
وثالثا: أنه قيل إن الآية قد نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة (2)، فإنه
كان يشتري كتبا فيها أحاديث الفرس من حديث رستم واسفنديار، وكان
يلهى الناس بذلك ويظرف به ليصدهم عن سماع القرآن وتدبر ما فيه،
نظير الجرائد المعروفة في هذا الزمان، فإنها مشتملة على الأمور اللاهية
التي تصد الناس عن الحق.
ورابعا: ما ذكره المحقق الإيرواني (3)، من أن المراد من الاشتراء هو
التعاطي، وهو كناية عن التحدث به، وهذا داخل في الاضلال عن سبيل
الله بسبب التحدث بلهو الحديث، ولا اشكال في حرمة الاضلال،

1 - في تفسير التبيان: ومن الناس من يشتري لهو الحديث أي يستبدل لهو الحديث،
قيل في معناه قولان: أحدهما أن يشتري كتابا فيه لهو الحديث، الثاني أنه يشتري لهو الحديث
عن الحديث (التبيان 2: 429).
2 - راجع الموضع المزبور من التبيان.
3 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 25.
403

وذلك غير ما نحن فيه من اعدام ما يوجب الاضلال.
3 - قوله تعالى: واجتنبوا قول الزور (1).
وفيه: أن قول الزور قد فسر بالكذب (2)، وسيأتي في مبحث حرمة
الغناء تفسير قول الزور بالغناء في جملة من الروايات، ولا منافاة بين
التفسيرين، فإن كلا منهما لبيان المصداق، وقد ذكرنا في مبحث التفسير
أن القرآن لا يختص بطائفة ولا بمصداق، وإلا لنفد بنفاد تلك الطائفة
وانعدم ذلك المصداق، بل القرآن يجري مجرى الشمس والقمر، كما
في عدة من الروايات.
وقد ذكرنا جملة منها في مقدمات التفسير، وجمعها في مشكاة
الأنوار المعروف بمقدمة تفسير البرهان، وكيف كان، فالآية غريبة عما
نحن فيه.
لا يقال: إن الآية تدل على اعدام كتب الضلال لكونها من أظهر مصاديق
الكذب بل هي كذب على الله ورسوله.
فإنه يقال: غاية ما يستفاد من الآية وجوب الاجتناب عن التكلم
بالكذب، وأما اعدامه فلا، وإلا لوجب اعدام جميع ما فيه كذب كأكثر
التواريخ ونحوها، ولم يلتزم به أحد من المحصلين فضلا عن الفقهاء.
4 - أن جملة من فقرات رواية تحف العقول تدل على حرمة حفظ كتب
الضلال، منها قوله (عليه السلام): إنما حرم الله الصناعة التي يجئ منها الفساد
محضا، بدعوى أن مفهوم الحصر يقتضي حرمة الصناعة المحرمة
بجميع منافعها، ومنها الحفظ.

1 - الحج: 30.
2 - في تفسير التبيان: واجتنبوا قول الزور يعني الكذب، وروي أصحابنا أنه يدخل
فيه الغناء وسائر الأقوال الملهية (التبيان 2: 304).
404

وفيه: أن حرمة الصناعة لا تلازم حرمة ابقاء المصنوع، كما تقدم في
مبحث ابقاء الصور المحرمة، فغاية ما تدل عليه الرواية أن تأليف كتب
الضلال أو استنساخها من المحرمات لصدق الصناعة عليهما، ولا تدل
على حرمة الابقاء.
ومنها: قوله (عليه السلام): وما يكون منه وفيه الفساد محضا - إلى قوله
(عليه السلام): - وجميع التقلب فيه من جميع وجوه الحركات كلها.
وفيه: أن صدق التقلب على الحفظ ممنوع، خصوصا إذا كان غرض
الحافظ عدم وقوع كتب الضلال في أيدي الناس لتوجب اضلالهم.
ومنها: قوله (عليه السلام): أو يقوى به الكفر والشرك في جميع وجوه
المعاصي، أو باب يوهن به الحق، فهو حرام محرم بيعه وشراؤه
وامساكه.
وفيه: أن الكبرى وإن كانت مسلمة ولكن للمناقشة في الصغرى مجالا
واسعا، لمنع كون الحفظ تقوية للكفر وإهانة للحق، كما هو واضح، إلا أن
يكون بهذا الداعي.
ويضاف إلى جميع ما ذكرناه من الأجوبة أنها ضعيفة السند وغير
منجبرة بشئ كما تقدم، فلا تصلح أن تكون مستندا لشئ من الأحكام الشرعية.
5 - حسنة عبد الملك بن أعين التي تقدمت في مبحث التنجيم، حيث
سأل عن ابتلائه بالنجوم: فقال لي: تقضي، قلت: نعم، قال: احرق
كتبك.
وفيه: أن مقتضى التفصيل فيها القاطع للشركة هو جواز الحفظ مع عدم
الحكم.
6 - الاجماع.
وفيه أولا: أنا لا نسلم تحققه على المطلوب، ولذا قال في الحدائق ما
405

حاصله: أنه لا دليل على حفظ كتب الضلال، وأما الوجوه التي أقاموها
على حرمته فهي تخمينية اعتبارية لا يجوز الاعتماد عليها في الأحكام الشرعية.
وثانيا: لو سلمنا تحققه على المطلوب فليس اجماعا تعبديا لاحتمال
استناده إلى الوجوه المذكورة في المسألة، ولو سلمنا جميع ذلك
فالمتيقن من الاجماع ما يترتب عليه الاضلال خارجا، ولا ريب أن حرمة
اضلال الناس عن الحق من الضروريات بين المسلمين فلا يحتاج في
اثباتها إلى الاجماع.
ثم لو سلمنا حرمة حفظ كتب الضلال فإنه لا بأس بحفظها لردها أو
إظهار ما فيها من العقائد الخرافية والقصص المضحكة والأحكام الواهية.
ومما ذكرناه ظهر حكم المعاملة عليها وضعا وتكليفا، وكذلك ظهر
حكم كتب المخالفين المدونة في الفقه والعقائد والأخبار وغيرها.
المسألة
حرمة حلق اللحية
ولا بأس بالتعرض لحرمة حلق اللحية إجابة لالتماس بعض الأفاضل،
فنقول:
المشهور بل المجمع عليه بين الشيعة والسنة (1) هو حرمة حلق اللحية.

1 - في فقه المذاهب: الحنفية قالوا: يحرم حلق لحية الرجل، المالكية قالوا: يحرم حلقاللحية، والحنابلة قالوا: يحرم حلق اللحية، والشافعية قالوا: أما اللحية فإنه يكره حلقها
والمبالغة في قصها (فقه المذاهب الأربعة 2: 44 - 46.
وفي سنن البيهقي باب سنة المضمضة عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عشر من
الفطرة: قص الشوارب واعفاء اللحية - الحديث (سنن البيهقي 1: 52).
وفيه عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: اعفوا اللحى واحفوا الشوارب (سنن البيهقي
1: 149).
وفيه عنه (صلى الله عليه وآله): جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، وخالفوا المجوس (سنن البيهقي
1: 150).
وفيه عن النبي (صلى الله عليه وآله): نهى عن نتف الشيب، وقال: إنه من نور الاسلام، وعنه (صلى الله عليه وآله):
لانتزعوا الشيب - الحديث (سنن البيهقي 7: 311).
406

وقد استدل عليها بوجوه:
1 - قوله تعالى في التحدث عن قول الشيطان: ولآمرنهم فليغيرن
خلق الله (1)، بدعوى أن حلق اللحية من تغيير الخلقة، وكل ما يكون
تغييرا لها فهو حرام.
وفيه: أنه إن كان المراد بالتغيير في الآية المباركة تغييرا خاصا
فلا شبهة في حرمته على اجماله، ولكن لا دليل على كون المراد به ما يعم
حلق اللحية.
وإن كان المراد به مطلق التغيير فالكبرى ممنوعة، ضرورة عدم الدليل
على حرمة تغيير الخلقة على وجه الاطلاق وإلا لزم القول بحرمة
التصرف في مصنوعاته تعالى، حتى بمثل جري الأنهار وغرس الأشجار
وحفر الآبار وقطع الأخشاب وقلم الأظفار وغيرها من التغييرات في
مخلوقاته سبحانه.
والظاهر أن المراد به تغيير دين الله الذي فطر الناس عليها، وفاقا

1 - النساء: 118.
407

للشيخ الطوسي (رحمه الله) في تفسيره (1)، ويدل عليه قوله تعالى: فطرة الله
التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم (2).
وقد نقل الشيخ (رحمه الله) في تفسير الآية أقوالا شتى وليس منها ما يعم
حلق اللحية.
2 - ما في جملة من الروايات (3)، من الأمر باعفاء اللحى وحف
الشوارب والنهي عن التشبه باليهود والمجوس.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند.
وثانيا: أنها لا تدل على الوجوب، فإن من الواضح جدا أن اعفاء اللحى
ليس واجبا بل الزائد عن القبضة الواحدة مذموم، نعم غاية الأمر أنه
يستفاد منها الاستحباب.

1 - في تفسير التبيان: وقوله تعالى: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، اختلفوا في معناه،
فعن ابن عباس: فليغيرن دين الله، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، وقال
مجاهد: كذب عكرمة في قوله إنه الاخصاء، وإنما هو تغيير دين الله الذي فطر الناس عليه في
قوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم، وقال قوم: هو
الوشم، وقال عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات المتغيرات خلق الله،
وأقوى الأقوال قول من قال فليغيرن خلق الله بمعنى دين الله، بدلالة قوله: فطرة الله - الآية،
ويدخل في ذلك جميع ما قاله المفسرون، لأنه إذا كان ذلك خلاف الدين فالآية تتناوله - انتهى
كلامه بأدنى تفاوت (التبيان 1: 471).
2 - الروم: 29.
3 - عن الصدوق قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حفوا الشوارب واعفوا اللحى، ولا تتشبهوا
باليهود (الفقيه 1: 76، عنه الوسائل 2: 116)، مرسلة.
قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن المجوس جزوا لحاهم ووفروا شواربهم، وأما نحن نجز
الشوارب ونعفي اللحى، وهي الفطرة (الفقيه 1: 76، عنه الوسائل 2: 116)، مرسلة.
عن معاني الأخبار بإسناده عن علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده
(عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حفوا الشوارب، واعفوا اللحى، ولا تشبهوا بالمجوس
(معاني الأخبار: 291، عنه الوسائل 2: 116)، ضعيفة للحسين بن إبراهيم وموسى بن عمران
النخعي والحسين بن يزيد وعلي بن غراب.
408

أقول: الظاهر أن الأمر بالاعفاء عقيب الاحفاء ثم النهي عن التشبه
باليهود ما ذكره المحدث القاساني (رحمه الله) بعد نقل الحديث (1)، من أن اليهود
لا يأخذون من لحاهم بل يطيلونها، فذكر الاعفاء عقيب الاحفاء، ثم
النهي عن التشبه باليهود دليل على أن المراد بالاعفاء أن لا يستأصل
ويؤخذ منها من دون استقصاء، بل مع توفير وابقاء بحيث لا يتجاوز
القبضة فتستحق النار.
وعلى هذا فلا دلالة في ذلك على حرمة حلق اللحية، لأن المأمور به
حينئذ هو الاعفاء وابقاء اللحية بما لا يزيد على القبضة، وهو ليس
بواجب قطعا.
وأما النهي عن التشبه بالمجوس عقيب الاعفاء والاحفاء، فالمراد به
أن لا تحلق اللحية وتترك الشوارب كما يصنعون، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
إن المجوس جزوا لحاهم ووفروا شواربهم، وأما نحن نجز الشوارب
ونعفي اللحى، وهي الفطرة، وعليه فلا يدل هذا النهي على حرمة حلق
اللحية وترك الشوارب معا، فإن نفي التشبه يحصل بفعل أي منهما.
وأما ما يقال من أن الروايات لا تدل على وجوب الاعفاء لاشتمالها
على قص الشوارب وهو مستحب اتفاقا.
ففيه: أن ظهور الأمر في الوجوب إنما ترفع اليد عنه بمقدار ما ثبت فيه
الترخيص، وقد حققنا ذلك في موضعه.
3 - رواية الجعفريات (2) الدالة على أن حلق اللحية من المثلة ومن مثل
فعليه لعنة الله.

1 - الوافي، باب جز اللحية 4: 99.
2 - عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حلق اللحية من المثلة، ومن مثل فعليه
لعنة الله (الجعفريات: 157، عنه المستدرك 1: 406)، مجهولة لموسى بن إسماعيل.
409

وفيه أولا: أنها مجهولة السند.
وثانيا: أن المثلة هو التنكيل بالغير بقصد هتكه وإهانته، بحيث تظهر
آثار فعل الفاعل بالمنكل به، وعليه فتكون الرواية دالة على حرمة هتك
الغير بإزالة لحيته لكون ذلك مثلة والمثلة محرمة، فلا ترتبط بحلق
اللحية بالاختيار، سواء أكان ذلك بمباشرة نفسه أم بمباشرة غيره.
وثالثا: أن اللعن كما يجتمع مع الحرمة فكذلك يجتمع مع الكراهة
أيضا فترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى القرينة المعينة، ويدل
على هذا ورود اللعن علي فعل المكروه في موارد عديدة، وقد تقدمت
في مسألة الوصل والنمص، ومن تلك الموارد ما في وصية النبي (صلى الله عليه وآله)
لعلي (عليه السلام) قال: يا علي لعن الله ثلاثة: آكل زاده وحده، وراكب الفلاة
وحده، والنائم في بيت وحده.
ومن ذلك يظهر بطلان الفرق بين اللعن المطلق وبين كون اللعن من الله
أو من رسوله، بتوهم أن الأول يجتمع مع الكراهة لكونه ظاهرا في البعد
المطلق، بخلاف الثاني فإنه يختص بالحرمة لكونه ظاهرا في انشاء
الحرمة.
اللهم إلا أن يقال: إن الرواية المذكورة ضعيفة السند ولم نجد في
غيرها ورود اللعن من الله على فعل المكروه، وعليه فلا بأس في ظهور
ذلك في الحرمة.
4 - ما دل على عدم جواز السلوك مسلك أعداء الدين، ومن شعارهم
حلق اللحية (1).

1 - عن الفقيه بإسناده عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: قل
للمؤمنين لا تلبسوا لباس أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تسلكوا مسالك أعدائي،
فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي (الفقيه 1: 163، علل الشرايع: 348، عيون الأخبار 2: 23، عنهم
الوسائل 4: 385)، موثقة للسكوني.
410

وفيه أولا: أنه ضعيف السند، وثانيا: أن السلوك مسلك أعداء الدين
عبارة عن اتخاذ سيرتهم شعارا وزيا، وهذا لا يتحقق بمجرد الاتصاف
بوصف من أوصافهم.
5 - قوله (صلى الله عليه وآله) لرسولي كسرى: ويلكما من أمركما بهذا، قالا: أمرنا
بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لكن ربي أمرني باعفاء
لحيتي وقص شواربي (1).
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: ما تقدم من أن المأمور به إنما هو الاعفاء وهو ليس بواجب
قطعا.
6 - قوله (عليه السلام): أقوام حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمسخوا (2).

1 - راجع المستدرك 1: 407، عن الكازروني في المنتقي.
2 - عن حبابة الوالبية قالت: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) في شرطة الخميس ومعه درة لها
سبابتان يضرب بها بياعي الجري والمارماهي والزمار، ويقول لهم: يا بياعي مسوخ بني
إسرائيل وجند بني مروان، فقام إليه فرات بن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين وما جند بني
مروان؟ قال: فقال له: أقوام حلقوا اللحى وفتلوا الشوارب فمسخوا - الخ (الكافي 1: 280،
اكمال الدين: 536، عنهما الوسائل 2: 117)، مجهولة لمحمد بن إسماعيل وعبد الله بن أيوب
وعبد الله بن هاشم وغيرهم.
قال في مرآة العقول: الوالبية نسبة إلى والبة، موضع بالبادية من اليمن، وفي النهاية:
الشرطة أول طائفة من الجيش تشهد الوقعة، والخميس ومنهم من يشدد ولعله تصحيف:
الجيش، سمي به لأنه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب،
وقيل: لأنه تخمس فيه الغنائم.
والدرة - بكسر الدال وتشديد الراء - السوط، والسبابة - بالتخفيف - رأس السوط،
والجري - بكسر الجيم وتشديد الراء والياء - نوع من السمك لا فلوس له، وكذا المارماهي -
بفتح الراء -، وكذا الزمار - بكسر الزاء وتشديد الميم -، والمسوخ - بضم الميم والسين - جمع
المسخ - بالفتح - وإنما سموا بالمسوخ لكونها على خلقتها وليست من أولادها، لأنهم ماتوا بعد
ثلاثة أيام، كما ورد في الخبر، وجند بني مروان قوم كانوا في الأمم السالفة - انتهى كلام
المجلسي.
411

وفيه: أن الرواية وإن كانت ظاهرة في الحرمة إلا أنها ضعيفة السند.
7 - وهو العمدة صحيحة البزنطي (1) الدالة على حرمة حلق اللحية
وأخذها ولو بالنتف ونحوه، وتدل على ذلك أيضا السيرة القطعية بين
المتدينين المتصلة إلى زمان النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنهم ملتزمون بحفظ اللحية
ويذمون حالقها، بل يعاملونه معاملة الفساق في الأمور التي تعتبر فيها
العدالة.
ويؤيد ما ذكرناه دعوى الاجماع عليه كما في كلمات جملة من
الأعلام، وعدم نقلهم الخلاف في المقام من الشيعة والسنة كما هو
كذلك والله العالم.
وموضوع حرمة حلق اللحية هو اعدامها، وعليه فلا يفرق في ذلك
بين الحلق والنتف وغيرهما مما يوجب إزالة الشعر عن اللحية، أما
مقدار اللحية في جانب القلة فلم يرد في تحديده نص خاص، فالمدار في
ذلك هو الصدق العرفي.
وعلى هذا فإذا أخذت بمثل المكينة والمقراض أو غيرهما بحيث
لم تصدق اللحية على الباقي كان حراما.

1 - عن محمد بن إدريس في آخر السرائر نقلا عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام)
قال: وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يأخذ من لحيته؟ قال: أما من عارضيه فلا بأس، وأما
من مقدمها فلا (مستطرفات السرائر: 56، عنه الوسائل 2: 111)، صحيحة.
ورواها علي بن جعفر (عليه السلام) في كتابه، إلا أنه قال في آخرها: فلا يأخذ (قرب الإسناد
: 122، مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 139، عنهما الوسائل 2: 111).
412

المسألة (8)
موضوع الرشوة وحقيقتها
قوله: الثامنة: الرشوة حرام.
أقول: لم نجد نصا من طرق الخاصة ومن طرق العامة يحقق موضوع
الرشوة ويبين حقيقتها، غير أنه ورد في بعض الروايات أنها تكون في
الأحكام، ولكنها لم توضح أن الرشوة هل هي بذل المال على مطلق
الحكم أو على الحكم بالباطل، بل لا يفهم منها الاختصاص بالأحكام
وإلا لما صح اطلاقها في غيرها.
وكيف كان فلا بد في تحقيق مفهومها من الرجوع إلى العرف واللغة (1)

1 - في مجمع البحرين: رشا، في الحديث: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الراشي والمرتشي
والرايش، يعني المعطي للرشوة والآخذ لها والساعي بينهما، يزيد لهذا وينقص لهذا، وهو
الرايش، والرشوة - بالكسر - ما يعطيه الشخص الحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما
يريد، وقل ما تستعمل إلا فيما يتوصل به إلى ابطال حق أو تمشية باطل (مجمع البحرين
1: 184)، وكذلك ما عن المصباح: 228.
وفي القاموس: الرشوة - مثلثة - الجعل، ج رشى بالفتح، ورشى بالكسر (قاموس المحيط
4: 334).
وفي المنجد: الرشوة - مثلثة - ما يعطى لابطال حق أو احقاق باطل (المنجد: 262).
وفي أقرب الموارد: رشاه مراشاة صانعه، والرشوة - مثلثة - ما يعطى لابطال حق أو احقاق
باطل، وما يعطى للتملق.
وعن النهاية: الرشوة الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، فالراشي الذي يعطي ما يعينه، فأما ما
يعطى توصلا إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه (النهاية 2: 226).
413

وكلمات الأصحاب.
ففي المستند (1): أن مقتضى كلام الأكثر والمتفاهم في العرف أن الرشوة
عامة لكل ما يدفع من المال للحاكم، سواء أكان لحق أم كان لباطل،
وحكي ذلك عن تصريح والده، ثم قال: وهو الظاهر من القاموس والكنز
ومجمع البحرين، ويدل عليه استعمالها فيما أعطي للحق في الصحيح
عن رجل: يرشو الرجل على أن يتحول عن منزله فيسكنه غيره، قال:
لا بأس، فإن الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره
الحقيقة كما حقق في موضعه - انتهى ملخص كلامه.
وسنذكر الرواية في البحث عن حكم الرشوة في غير الأحكام، وعن
حاشية الإرشاد (2): أن الرشوة ما يبذله المتحاكمان، وفي كلمات جماعة
أن الرشوة ما يبذله المحق ليحكم له بحق، بحيث لو لم يبذله لأبطل حقه
ولحكم عليه بالباطل، إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب بمضامين
مختلفة.
والمتحصل من كلمات الفقهاء (قدس سرهم) ومن أهل العرف واللغة مع ضم
بعضها إلى بعض، أن الرشوة ما يعطيه أحد الشخصين للآخر لاحقاق حق
أو تمشية باطل، أو للتملق أو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو في عمل

1 - المستند 2: 526.
2 - حاشية الإرشاد: 206 (مخطوط).
414

لا يقابل بالأجرة، والجعل عند العرف والعقلاء وإن كان محطا لغرضهم
وموردا لنظرهم، بل يفعلون ذلك العمل للتعاون والتعاضد فيما بينهم،
كاحقاق الحق وابطال الباطل، وترك الظلم والايذاء أو دفعهما، وتسليم
الأوقاف من المدراس والمساجد والمعابد ونحوها إلى غيره، كأن يرشو
الرجل على أن يتحوله عن منزله فيسكنه غيره، أو يتحوله عن مكان في
المساجد فيجلس فيه غيره، إلى غير ذلك من الموارد التي لم يتعارف
أخذ الأجرة عليها.
نعم ما ذكره في القاموس من تفسير الرشوة بمطلق الجعل محمول
على التفسير بالأعم، كما هو شأن اللغوي أحيانا، وإلا لشمل الجعل في
مثل قول القائل: من رد عبدي فله ألف درهم، مع أنه لا يقول به أحد.
حرمة الرشوة:
ما حكم الرشوة، الظاهر بل الواقع لا خلاف بين الشيعة والسنة (1) في
الجملة للأخذ والمعطي، بل عن جامع المقاصد (2): أجمع أهل الاسلام
على تحريم الرشا في الحكم، سواء أكان الحكم لحق أم لباطل، وسواء
أكان للباذل أم عليه، وفي تجارة المسالك (3): على تحريمه اجماع
المسلمين.

1 - في سنن البيهقي عن عبد الله بن عمر قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الراشي والمرتشي،
وفي حديث آخر عن السحت فقال: الرشا (سنن البيهقي 10: 139).
وفي شرح فتح القدير: يحرم قبول الهدية عند الخصومة (شرح فتح القدير 5: 467).
2 - جامع المقاصد 4: 35.
3 - المسالك 3: 136.
415

وتدل على حرمتها في الجملة الروايات المتظافرة، وسنذكرها في
الحاشية، وقوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها
إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم (1).
ووجه الدلالة أنه تعالى نهى عن الادلاء بالمال إلى الحكام لابطال الحق
وإقامة الباطل حتى يأكلوا بذلك فريقا من أموال الناس بالإثم والعدوان،
وهذا هو معنى الرشوة، وإذا حرم الاعطاء حرم الأخذ أيضا للملازمة
بينهما.
لا يقال: إن الآية إنما نزلت في خصوص أموال اليتامى والوديعة
والمال المتنازع فيه، وقد نهى الله تعالى فيها عن اعطاء مقدار من تلك
الأموال للقضاة والحكام لأكل البقية بالإثم والعدوان، وعلى هذا فهي
أجنبية عن الرشوة.
فإنه يقال: نعم قد فسرت الآية الشريفة بكل واحدة من الأمور
المذكورة (2)، إلا أن هذه التفاسير من قبيل بيان المصداق والقرآن لا
يختص بطائفة ولا بمصداق بل يجري كجري الشمس والقمر، كما دلت
عليه جملة من الروايات، وقد ذكرناها في مقدمة التفسير، على أن في
مجمع البحرين عن الصحاح: أن قوله تعالى: وتدلوا بها إلى الحكام،
يعني الرشوة (3).

1 - البقرة: 184.
2 - في تفسير التبيان: قوله تعالى: وتدلوا بها إلى الحكام، وقيل في معناه قولان:
أحدهما قال ابن عباس والحسن وقتادة أنه الوديعة وما تقوم به بينة، الثاني قال الجبائي: في
مال اليتيم الذي في يد الأوصياء (التبيان 1: 208).
3 - وفي مجمع البحرين عن الصحاح: وتدلوا بها إلى الحكام، يعني الرشوة (مجمع
البحرين 1: 145).
416

وقد يتوهم أن الآية ليست لها تعرض لحكم الرشوة، فإن قوله تعالى:
وتدلوا بها إلى الحكام، ظاهر في أن المحرم هو الادلاء بأموال الناس
إلى الحكام ليستعين بهؤلاء على أكل فريق آخر من أموال الناس بالإثم،
ومن المعلوم أن الرشوة هي ما يعطيها الراشي من مال نفسه لابطال حق أو
احقاق باطل.
وفيه أولا: أن الرشوة في العرف واللغة أعم من ذلك كما تقدم،
فلا وجه للتخصيص بقسم خاص.
وثانيا: أنه لا ظهور في الآية المباركة في كون المدفوع إلى الحكام مال
الغير بل هي أعم من ذلك، أو ظاهرة في كون المدفوع مال المعطي.
ومجمل القول: إن حرمة الرشوة في الجملة من ضروريات الدين
ومما قام عليه اجماع المسلمين فلا حاجة إلى الاستدلال عليها.
ثم إن تفصيل الكلام في أحكام الرشوة، أن القاضي قد يأخذ الرشوة من
شخص ليحكم له بالباطل مع العلم ببطلان الحكم، وقد يأخذها ليحكم
للباذل مع جهله سواء طابق حكمه الواقع أم لم يطابق، وقد يأخذها
ليحكم له بالحق مع العلم والهدى من الله تعالى.
أما الصورتان الأوليان، فلا شبهة في حرمتهما، فإن الحكم بالباطل
والافتاء والقضاء مع الجهل بالمطابقة للواقع محرمان بضرورة الدين
واجماع المسلمين، بل هما من الجرائم الموبقة والكبائر المهلكة، ويدل
على حرمتهما أيضا العقل والكتاب (1) والسنة (2).

1 - في سورة المائدة: 48، قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
، وفي سورة الأنعام: 116، قوله تعالى: أن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون، وفي
سورة يونس: 37 وسورة النجم: 29، قوله تعالى: إن الظن لا يغني من الحق شيئا، وفي
سورة يونس: 60، قوله تعالى: قل الله أذن لكم أم على الله تفترون، وفي سورة بني
إسرائيل: 39، قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم.
2 - راجع الوسائل باب: 6، عدم جواز القضاء بالرأي من أبواب صفات القاضي من كتاب
القضاء، والمستدرك باب 6 عدم جواز القضاء بالرأي من أبواب صفات القاضي 17: 252 -
258، وسنن البيهقي 10: 116.
417

وعلى هذا فمقتضى القاعدة حرمة الرشوة في كلتا الصورتين، لما
عرفت في أوائل الكتاب من حرمة المعاملة على الأعمال المحرمة وضعا
وتكليفا، على أن الروايات من الشيعة (3) والسنة (4) قد أطبقت على حرمة
الرشاء في الحكم.

3 - عن الصدوق في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا علي من السحت ثمن الميتة، والرشوة في
الحكم (الفقيه 4: 262، تفسير العياشي 1: 322، عنهما الوسائل 17: 94).
أقول: رجال سند هذه الوصية مجاهيل، لا طريق إلى الحكم بصحتها واعتبارها من جهته.
وعن الخصال بإسناده عن عمار بن مروان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): وأما الرشا يا عمار
في الأحكام، فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله (صلى الله عليه وآله) (معاني الأخبار: 211، الخصال
: 329، تفسير العياشي 1: 321، عنهم الوسائل 17: 95)، صحيحة.
وعن الطبرسي في مجمع البيان عن النبي (صلى الله عليه وآله): أن السحت هو الرشوة في الحكم، وعن
أبي عبد الله (عليه السلام) - إلى أن قال: - فأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله (مجمع البيان 2: 196،
عنه الوسائل 17: 96)، مرسلة.
عن أبي عبد الله (عليه السلام): فأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله
(الكافي 5: 126، التهذيب 6: 368، عنهما الوسائل 17: 92)، ضعيفة لسهل.
عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الرشا في الحكم هو الكفر بالله (التهذيب 6: 352،
عنه الوسائل 17: 92)، موثقة لزرعة وسماعة.
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المتقدمة.
4 - في سنن البيهقي في جملة من الأحاديث: أن الرشا في الحكم هو الكفر (سنن البيهقي
10: 139).
418

وأما الصورة الثالثة، فمقتضى القاعدة فيها جواز أخذ المال على
القضاء والافتاء، فإن عمل المسلم محترم فلا يذهب هدرا، وأما الآية
المتقدمة فلا تشمل المقام لاختصاصها بالحكم بالباطل كما عرفت.
نعم الحرمة فيها هي مقتضى اطلاق الروايات المتقدمة الدالة على
ذلك، وهذا المعنى هو الذي تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع، فإن
القضاء من المناصب الإلهية التي جعلها الله للرسول فلا ينبغي لمن
يتفضل عليه الله بهذا المنصب الرفيع أن يأخذ عليه الأجرة.
ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه، ففي الروايات الدالة على حرمة
أخذ الأجرة على القضاء غنى وكفاية، وسنتعرض لهذه الروايات في
البحث عن حكم أخذ الأجرة على القضاء، إذ الظاهر من الأجرة فيها
الجعل المأخوذ للقضاء دون الأجر المقرر من قبل السلطان، ولو كان
جائزا فإنه لا شبهة في جواز أخذه إذا كان الدخول فيه بوجه محلل،
كعلي بن يقطين والنجاشي وأمثالهما.
لا يقال: إن الرشوة في اللغة ما يؤخذ لابطال حق أو احقاق باطل،
فلا تصدق على ما يؤخذ للقضاء بما يحق.
فإنه يقال: إن مفهوم الرشوة أعم من ذلك كما عرفت، فلا وجه للحصر
وتقييد المطلقات، على أن الأمور التي يكون وضعها على المجانية فإن
أخذ الأجرة عليها يعد رشوة في نظر العرف، ومن هذا القبيل القضاوة
والافتاء.
نعم لو فرضنا قصور الأدلة المتقدمة عن اثبات الحرمة كان مقتضى
أصالة الحل هو الإباحة، بل وهو مقتضى عمومات صحة المعاملات،
كأوفوا بالعقود، وأحل الله البيع، وتجارة عن تراض، وغيرها.
419

قوله: وظاهر رواية حمزة بن حمران.
أقول: ربما يقول بجواز أخذ الأجرة على القضاوة الحقة، لقوله (عليه السلام)
في رواية حمزة بن حمران عن المستأكلين بعلمهم: إنما ذلك الذي يفتي
الناس بغير علم ولا هدى من الله ليبطل به الحقوق طمعا في حطام
الدنيا (1).
فإن الظاهر منها حصر الاستيكال المذموم فيما كان لأجل الحكم
بالباطل أو مع عدم معرفة الحق، فيجوز الاستيكال مع العلم بالحق.
وقد يدعى كون الحصر إضافيا بالنسبة إلى الفرد الذي ذكره السائل،
فلا يدل إلا على عدم الذم على هذا الفرد المخصوص دون سائر الأفراد
التي لا تدخل في الحصر، إلا أن هذه الدعوى خلاف الظاهر.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أنها مسوقة لدفع توهم السائل، أن من تحمل علوم الأئمة
(عليهم السلام) وبثها في شيعتهم ووصل إليه منهم البر والاحسان بغير مطالبة كان
من المستأكلين بعلمه، فأجاب الإمام (عليه السلام) بأن هذا ليس من الاستيكال
المذموم، وإنما المستأكلون الذين يفتون بغير علم لابطال الحقوق.
وعلى هذا فمفهوم الحصر هو العقد السلبي المذكور في الرواية
صريحا، وليس فيها تعرض لأخذ الأجرة على الحكم بالحق لا مفهوما
ولا منطوقا.

1 - عن ابن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: من استأكل بعلمه افتقر، قلت: إن
في شيعتك قوما يتحملون علومكم ويبثونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البر والصلة والاكرام،
فقال: ليس أولئك بمستأكلين، إنما ذلك الذي يفتي بغير علم ولا هدى من الله ليبطل به الحقوق
طمعا في حطام الدنيا (معاني الأخبار: 181)، ضعيفة لمحمد بن سنان وتميم ابن بهلول وأبيه.
420

وأما ما ذكره أخيرا من كون الحصر ليس إضافيا فهو متين، ولكن لا من
جهة كونه خلاف الظاهر بل من جهة أنه لا معنى للحصر الإضافي في قبال
الحصر الحقيقي، غاية الأمر أن دائرة الحصر تختلف سعة وضيقا، وقد
تقدم ذلك في أول الكتاب (1).
وقال العلامة في المختلف (2): إن تعين القضاء عليه إما بتعيين الإمام
(عليه السلام) أو بعقد غيره أو بكونه الأفضل وكان متمكنا لم يجز الأجر عليه،
وإن لم يتعين أو كان محتاجا فالأقرب الكراهة، لنا الأصل الإباحة على
التقدير الثاني، ولأنه فعل لا يجب عليه فجاز أخذ الأجر عليه، أما مع
التعيين فلأنه يؤدي واجبا فلا يجوز أخذ الأجرة عليه كغيره من العبادات
الواجبة.
وفيه: أنه لا وجه لذكر هذا التفصيل في المقام، فإن حرمة الأجرة على
القضاء لكونه واجبا عينيا أو كفائيا من صغريات البحث عن أخذ الأجرة
على الواجب الذي سيأتي الكلام فيه، وكلامنا هنا في حكم أخذ الرشوة
على القضاء من حيث هي رشوة لا من جهات أخر.
وعليه، فمقتضى الاطلاقات الدالة على حرمة أخذ الأجرة على
الحكم هو عدم الفرق بين صورتي الاحتياج إلى أخذ الأجرة والانحصار
وبين عدمهما كما هو واضح.
ومن هنا ظهر أنه لا وجه لقول المصنف: وأما اعتبار الحاجة فلظهور
اختصاص أدلة المنع بصورة الاستغناء.
ثم الظاهر أنه لا يجوز أخذ الأجرة والرشوة على تبليغ الأحكام

1 - مر في البحث عن رواية تحف العقول في أول الكتاب.
2 - المختلف 2: 164.
421

الشرعية وتعليم المسائل الدينية، فقد عرفت فيما تقدم أن منصب
القضاوة والافتاء والتبليغ يقتضي المجانية.
ويدل على الحرمة أيضا ما في رواية يوسف بن جابر، من أنه لعن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة (1).
ولكن الرواية ضعيفة السند.
والعمدة في المقام التمسك بالاطلاقات المتقدمة الناهية عن أخذ
الرشوة على الحكم.
جواز ارتزاق القاضي من بيت المال:
قوله: وأما الارتزاق من بيت المال فلا اشكال في جوازه للقاضي.
أقول: الفرق بين الأجرة والارتزاق، أن الأجرة تفتقر إلى تقدير العمل
والعوض وضبط المدة، وأما الارتزاق من بيت المال فمنوط بنظر الحاكم
من غير أن يقدر بقدر خاص.
ولا اشكال في جواز ارتزاق القاضي من بيت المال في الجملة كما هو
المشهور، لأن بيت المال معد لمصالح المسلمين والقضاء من مهماتها،
ولما كتبه على أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر في عهد طويل، فقد
ذكر (عليه السلام) فيه صفات القاضي ثم قال: وافسح له في البذل ما يزيل علته
وتقل معه حاجته إلى الناس (2)، والعهد وإن نقل مرسلا إلا أن آثار
الصدق منه لائحة، كما لا يخفى للناظر إليه (3).

1 - عن يوسف بن جابر قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجلا احتاج الناس
إليه لفقهه فسألهم الرشوة (التهذيب 6: 224)، مجهولة لعبد الرحمان ويوسف بن جابر.
2 - راجع نهج البلاغة في العهد الذي كتبه للأشتر النخعي.
3 - العهد المذكور مروي في النهج مرسلا، أما للشيخ الطوسي إليه طريقا صحيحا، ذكره
في الفهرست، الرقم: 119، حيث قال: أخبرنا بالعهد ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن، عن
الحميري، عن هارون بن مسلم والحسن بن طريف جميعا، عن الحسين بن علوان الكلبي، عن
سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، راجع معجم رجال الحديث
3: 222.
422

ويدل على ذلك أيضا بعض الفقرات من مرسلة الحماد الطويلة (1).
ثم إن القاضي قد يكون جامعا لشرائط القضاوة على النحو المقرر في
الشريعة ومنصوبا من قبل الإمام (عليه السلام) خاصا أو عاما، وقد يكون جامعا
لشرائط القضاء ولكنه كان منصوبا من قبل سلطان الجور، ولم يكن له
غرض في قبولها إلا التوادد والتحبب إلى فقراء الشيعة وقضاء حوائجهم
وانفاذ أمورهم وانقاذهم من المهلكة والشدة، وقد لا يكون جامعا
للشرائط، سواء كان منصوبا من قبل الجائر أم لا.
أما الأولان، فلا شبهة في جواز ارتزاقهم من بيت المال، لما عرفت
من أنه معد لمصالح المسلمين والقضاء من مهماتها، ولا مجال في هاتين
الصورتين للبحث عن خصوصيات المسألة، من أنه يجوز مطلقا أو مع
الاحتياج وعدم التعيين، لأن الفرض أن القاضي أعرف بموارد مصرف
بيت المال وعدالته المفروضة تمنعه عن الحيف.
وأما الثالث، فيحرم ارتزاقه من بيت المال لعدم قابليته لمنصب
القضاوة كخلفاء الجور، فلا يكون من موارد المصرف لبيت المال.
وقد يستدل على حرمة ارتزاق القاضي بحسنة عبد الله بن سنان، عن

1 - عن حماد عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (عليه السلام) - إلى أن قال: - فيكون بعد ذلك
ارزاق أعوانه على دين الله وفي مصلحة ما ينوبه، من تقوية الاسلام وتقوية الدين في وجوه
الجهاد وغير ذلك مما فيه مصلحة العامة، ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير (الكافي 1: 540)،
مرسلة.
423

قاض بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق، فقال (عليه السلام): ذلك
السحت (1).
وفيه: أن الرواية محمولة على الصورة الثالثة، من عدم كونه قابلا
للقضاوة، لأنه إذا كان جامعا للشرائط لا يحرم ارتزاقه من بيت المال أو من
جوائز السلطان، وهو واضح، ويمكن حملها على كون الرزق أجرة على
القضاء، فقد عرفت أن أخذ الأجرة على القضاء حرام.
جواز أخذ القاضي للهدية:
قوله: وأما الهدية، فهي ما يبذله على وجه الهبة.
أقول: قد عرفت حكم الرشوة والأجرة على الحكم والقضاء، وأما
الهدية ففي حرمتها خلاف، وهي كما عن المصباح (2) العطية على سبيل
الملاطفة.
ثم إنها قد تكون للملاطفة والتودد فقط، بحيث لا مساس لها للدواعي
الأخرى.
وقد تكون على وجه الهبة لتورث المودة التي توجب الحكم له حقا
كان أم باطلا، إذا علم المبذول له أن ذلك من قصد الباذل وإن لم يقصد هو
إلا الحكم بالحق.
وقد تكون لأجل الحكم للباذل ولو باطلا ولكن المبذول له لم يكن
ملتفتا إلى ذلك وإلا لكان رشوة محرمة.
وقد تكون متأخرة عن الفعل المحرم ولكنها بداعي المجازاة وأداء
الشكر.

1 - الكافي 7: 409، حسنة.
2 - المصباح: 636.
424

ومقتضى القاعدة جواز أخذها للقاضي في جميع الصور، وإن حرم
الدفع على المعطي إذا كان غرضه الحكم له.
وقد استدل على حرمة الأخذ بوجوه:
1 - قوله (عليه السلام) في رواية الأصبغ: وإن أخذ هدية كان غلولا (1).
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أنها واردة في هدايا الولاة دون القضاة، فتكون أجنبية عن
المقام، وبما أن الهدية إلى الولاة جائزة فلا بد من حمل الرواية على غير
ذلك من الوجوه الممكنة:
الأول: أن تحمل على الكراهة، لأن اهداء الهدية إلى الوالي قد يحبب
إليه أخذ الرشوة المحرمة.
الثاني: أن تحمل على ظاهرها ولكن يقيد الاعطاء بكونه لدفع الظلم أو
انقاذ الحق أو لأجل أن يظلم غيره، فإنها في هذه الصور كلها محرمة على
الوالي، وفي الصورة الأخيرة محرمة على المعطي أيضا.
الثالث: أن تحمل على كون ولايتهم من قبل السلطان مشروطة بعدم
أخذ شئ من الرعية لأنهم يرتزقون منه، وعلى الجملة لا يمكن
الاستدلال بها على المطلوب.
2 - ما ورد من أن هدايا العمال أو الأمراء غلول أو سحت (2).

1 - عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أيما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم
القيامة وعن حوائجه، وإن أخذ هدية كان غلولا، وإن أخذ الأجرة فهو مشرك (عقاب الأعمال
: 310، عنه الوسائل 17: 94)، ضعيفة لأبي الجارود وسعد الإسكاف.
2 - في سنن البيهقي عن أبي حميد الساعدي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هدايا الأمراء
غلول (سنن البيهقي 10: 138).
وفي آداب القاضي من المبسوط للطوسي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: هدية العمال غلول،
وفي بعضها: هدية العمال سحت (المبسوط 8: 151)، مرسلة.
425

وفيه أولا: أنه ضعيف السند.
وثانيا: أنه أجنبي عما نحن فيه، لوروده في هدايا العمال وهم غير
القضاة، ووجه كونها محرمة قد علم من الوجوه المتقدمة.
وثالثا: أنه يمكن أن يراد من إضافة الهدايا إلى العمال إضافة المصدر
إلى الفاعل دون المفعول، بمعنى أن الهدايا التي تصل إلى الرعية من
عمال سلاطين الجور غلول، فتكون الرواية راجعة إلى جوائز السلطان
وعماله وسنتكلم عليها.
وهذا الوجه الأخير وإن كان في نفسه جيدا إلا أنه إنما يتم فيما إذا علم
كون الهدية من الأموال المحرمة وإلا فلا وجه لكونها غلولا، على أنه
بعيد عن ظاهر الرواية.
3 - ما استدل به في المستند (1) على حرمة أخذ القاضي للهدية، من أن
النبي (صلى الله عليه وآله) زجر عمال الصدقة عن أخذهم الهدايا (2).
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند لكونها منقولة من طرق العامة.
وثانيا: أنها وردت في عمال الصدقة فلا ترتبط بما نحن فيه، ولعل
حرمتها عليهم من جهة الوجوه التي ذكرناها في حرمتها على الولاة.

1 - المستند 2: 526.
2 - عن أبي حميد الأنصاري ثم الساعدي أنه أخبره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) استعمل عاملا
على الصدقة، فجاء به العامل حين فرغ من عمله فقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الذي لكم وهذا
الذي أهدي إلي - إلى أن قام (صلى الله عليه وآله) فصعد المنبر ثم قال: - أما بعد فما بال العامل نستعمله فيأتينا
فيقول هذا: من عملكم وهذا الذي أهدي لي، فهلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى له أم
لا، والذي نفسي بيده لا يقبل أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه
(المبسوط 8: 151، سنن البيهقي لأبي بكر الشافعي 10: 138)، نبوي ضعيف.
426

4 - ما تقدم فيما سبق عن الرضا، عن آبائه، عن علي (عليهم السلام) في قوله
تعالى: أكالون للسحت (1)، قال: هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثم
يقبل هديته (2).
وفيه أولا: أن الرواية مجهولة.
وثانيا: أنها وردت في خصوص الهدية بعد قضاء حاجة المؤمن
ولم يقل أحد بحرمتها هناك لما دل على جواز قبول الهدية من المؤمن بل
من الكافر ولما دل على استحباب الاهداء إلى المسلم، وإذن فلا بد من
حمل الرواية على الكراهة ورجحان التجنب عن قبول الهدايا من أهل
الحاجة إليه لئلا يقع يوما في الرشوة.
5 - أن المناط في حرمة الرشوة للقاضي هو صرفه عن الحكم بالحق
إلى الحكم بالباطل، وهو موجود في الهدية أيضا فتكون محرمة.
وفيه: أن غاية ما يحصل من تنقيح المناط هو الظن بذلك، والظن
لا يغني من الحق شيئا.
الرشوة في غير الأحكام:
قوله: وهل يحرم الرشوة في غير الحكم؟
أقول: الرشوة في غير الأحكام قد تكون لاتمام أمر محرم، وقد تكون
لاصلاح أمر مباح، وقد تكون لانهاء أمر مشترك الجهة بين المحلل
والمحرم.
أما الأول فلا شبهة في حرمته من غير احتياج إلى أدلة حرمة الرشوة،

1 - المائدة: 46.
2 - عيون الأخبار 2: 28، عنه الوسائل 17: 95، وقد مر في البحث عن بيع العذرة.
427

لما عرفت من حرمة أخذ المال على عمل محرم.
وأما الثاني فلا شبهة في جوازه لعدم الدليل على الحرمة، مع كون
العمل سائغا في نفسه وصالحا لأن يقابل بالمال، وإن كان كثيرون
يفعلونه للتعاضد والتعاون ولا يأخذون عليه مالا.
وأما الثالث فإن قصدت به الجهة المحرمة فهو حرام، وإن قصدت به
الجهة المحللة فهو حلال.
وإن بذل المال على اصلاح أمره حلالا أم حراما فقد استظهر المصنف
حرمته لوجهين:
1 - أنه أكل للمال بالباطل، فيكون حراما.
وفيه: أن أخذ المال على الجهة المشتركة بين المحلل والمحرم ليس
من أكل المال بالباطل، فإن أكل المال إنما يكون باطلا إذا كان بالأسباب
التي علم بطلانها في الشريعة، كالقمار والغزو ونحوهما، ولم يعلم
بطلان أخذ المال على العمل المشترك بين الحلال والحرام، فلا يكون
من مصاديق أكل المال بالباطل.
2 - اطلاق فحوى ما تقدم في هدية الولاة والعمال.
وفيه أولا: أن الروايات المتقدمة في هدية الولاة والعمال ضعيفة
السيد، وقد عرفت ذلك آنفا.
وثانيا: أن حرمة الهدية لهما إنما تقتضي حرمة اعطاء الرشوة لهما،
ولا دلالة لهما على حرمة الرشوة على غيرهما من الناس.
وقد يقال بحرمة الرشوة مطلقا حتى في غير الأحكام، لاطلاق بعض
الروايات المتقدمة في الحاشية من طرق الخاصة ومن طرق العامة.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند وقد عرفت ذلك آنفا.
وثانيا: أنها منصرفة إلى الرشا في الحكم كما في المتن.
428

وثالثا: أنها مقيدة بما دل على جواز الرشوة لأمر مباح (1) وللتحويل عن
المنزل المشترك كالأوقاف العامة (2).
وقد يتوهم أن موضوع الرشوة مختص بالأحكام، لما ورد في جملة
من الروايات الماضية، من أن الرشا في الحكم حرام أو كفر أو سحت.
وفيه أولا: أن المستفاد منها ليس إلا حرمة الرشوة في الحكم
لاختصاص موضوعها به وهو واضح، بل قد يدعى أنها مشعرة بعموم
مفهوم الرشوة لغير الأحكام وإلا للزم إلغاء التقييد في قوله (عليه السلام): وأما
الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم.
وثانيا: أن مفهوم الرشوة في اللغة غير مختص بما يؤخذ في الحكم بل
هو أعم من ذلك.
من الرشوة في الحكم، المعاملة المحاباتية مع القاضي:
قوله: ومما يعد من الرشوة أو يلحق بها المعاملة المشتملة على المحاباة.

1 - عن حكم بن حكيم الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وسأله حفص الأعور فقال:
إن السلطان يشترون منا القرب والاداوي، فيوكلون الوكيل حتى يستوفيه ونرشوه حتى
لا يظلمنا، فقال: لا بأس ما تصلح به مالك، ثم سكت ساعة ثم قال: أرأيت إذا أنت رشوته يأخذ
أقل من الشرط، قال: نعم، قال: فسدت رشوتك (التهذيب 7: 235، عنه الوسائل 18: 96)،
ضعيفة لإسماعيل بن أبي سماك.
أقول: القرب - بكسر القاف - جمع القربة، وهي ما يستقي فيه الماء، الاداوي جمع الإداوة،
وهي إناء صغير من جلد وتسمي المطهرة.
ثم إنه نقل المصنف الرواية عن أبي الحسن (عليه السلام) وذكر الإداوة بدل الاداوي، وكلاهما من
سهو القلم، ولعله تبع في ذلك لصاحب الوسائل.
2 - عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يرشو الرشوة على أن
يتحوله عن منزله فيسكنه، قال: لا بأس (التهذيب 6: 375، عنه الوسائل 17: 278)، صحيحة.
429

أقول: الكلام في المعاملة المشتملة على المحاباة بعينه هو الكلام
فيما تقدم من الرشوة، فإذا باع من القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم
كان الناقص من الرشا المحرم، وإن كان غرضه من ذلك تعظيم القاضي أو
التودد المحض أو التقرب إلى الله فلا وجه للحرمة.
ثم إن في حكم بذل العين له بذل المنافع، كسكنى الدار وركوب
المراكب ونحوهما من المنافع كما لا يخفى.
وأما ما يرجع إلى الأقوال كمدح القاضي والثناء عليه فلا يعد رشوة
فضلا عن كونه محرما لذلك، نعم لو كان ذلك إعانة على الظلم كان حراما
من هذه الجهة.
قوله: وفي فساد المعاملة المحابي فيها وجه قوي.
أقول: لا وجه لفساد المعاملة المشتملة على المحاباة المحرمة، إلا
إذا كان الحكم للمحابي شرطا فيها وقلنا بأن الشرط الفاسد مفسد للعقد
فيحكم بالبطلان.
فائدة:
الظاهر من الأخبار المتقدمة أن منزلة الرشوة منزلة الرباء، فكما أن
الرباء حرام على كل من المعطي والآخذ والساعي بينهما، فكذلك
الرشوة فإنها محرمة على الراشي والمرتشي والرائش، أي الساعي
بينهما، يستزيد لهذا ويستنقص لذلك.
نعم لا بأس باعطائها إذا كان الراشي محقا في دعواه ولا يمكن له
الوصول إلى حقه إلا بالرشوة، كما استحسنه في المستند (1) لمعارضة
الاطلاقات تحريمها مع أدلة نفي الضرر، فيرجع إلى الأصل لو لم يرجح

1 - المستند 2: 526.
430

الثاني، بل يتعين ترجيحه لحكومة أدلة نفي الضرر على أدلة الأحكام
بعناوينها الأولية كما هو واضح.
حكم الرشوة وضعا:
قوله: ثم إن كلما حكم بحرمة أخذه وجب على الأخذ رده ورد بدله مع التلف.
أقول: قد ذكرنا أن الباذل قد يعطي الرشوة للقاضي أو غيره ليحكم له
على خصمه، وقد يحابيه في معاملة ليحكم له في الخصومات
والدعاوي، وقد يرسل إليه هدية بداع الحكم له.
أما الأول فلا شبهة في ضمان القابض المال الذي أخذه من الدافع
بعنوان الرشوة، كما لا شبهة في الحرمة عليهما تكليفا، فيجب على
الأخذ رد المال أو رد بدله من المثل أو القيمة مع التلف.
قال في الجواهر: لا خلاف ولا اشكال في بقاء الرشوة على ملك
المالك، كما هو مقتضى قوله (عليه السلام): أنها سحت، وغيره من النصوص
الدالة على ذلك - إلى أن قال: - فإذا أخذ ما لم ينتقل إليه من مال غيره كان
ضامنا (1).
ووجه الضمان أن الرشوة في هذه الصورة إنما وقعت في مقابل الحكم
فتكون في الحقيقة إجارة فاسدة أو شبيهة بها، فيحكم بالضمان لكونها من
صغريات كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وهذه القاعدة وإن لم يرد عليها نص بالخصوص ولكنها متصيدة من الأخبار الواردة في
موارد الضمان، فتكون حجة، وسيأتي ذكرها في محلها، ومن هنا ظهر
بطلان القول بعدم الضمان إذا علم الدافع بالحرمة، لكون التسليط حينئذ

1 - جواهر الكلام 22: 150.
431

مجانيا.
وأما الثاني فهو كالأول من حيث الحرمة التكليفية، ولكن لا وجه
للضمان لما نقص من القيمة، فإن غاية الأمر أن المعاملة كانت مشروطة
بالشرط الفاسد، وقد عرفت اجمالا وستعرف تفصيلا أن الشروط مطلقا
لا تقابل بجزء من الثمن، وأن الفاسد منها لا يوجب فساد المعاملة، وإنما
يثبت الخيار فقط للمشروط له.
وأما الثالث فالظاهر أنه لا ضمان فيه أيضا، لأن الدافع لم يقصد
المقابلة بين الحكم والمال المبذول للقاضي وإنما أعطاه مجانا ليحكم
له، فيكون مرجعه إلى هبة مجانية فاسدة، لأن الداعي ليس قابلا للعوضية
ولا مؤثرا في الحكم الشرعي وضعا ولا تكليفا، وعليه فيكون المورد
من صغريات الضابطة الكلية: كل عقد لا يضمن بصحيحة لا يضمن
بفاسده.
وقد يقال بالضمان لقاعدة الضمان باليد.
وفيه: أن عموم على اليد مختص بغير اليد المتفرعة على التسليط
المجاني، ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.
قوله: وفي كلام بعض المعاصرين (1) أن احتمال عدم الضمان في الرشوة مطلقا غير
بعيد.
أقول: علله القائل في محكي كلامه بوجهين:
1 - أن المالك قد سلطه عليها تسليطا مجانيا فلا موجب للضمان.
2 - أنها تشبه المعاوضة، وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.
أما الأول فيرد عليه أن التسليط في المقام ليس بمجاني بل هو في

1 - لعله صاحب الجواهر حيث استشكل في الرجوع بها مع تلفها وعلم الدافع بالحرمة
باعتبار تسليطه، راجع الجواهر 22: 149.
432

مقابل الحكم للباذل كما عرفت.
وأما الثاني فيرد عليه أن عملهم هذا إما إجارة فاسدة أو شبيهة بها،
وعلى أي حال يكون موجبا للضمان لقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده.
اختلاف الدافع والقابض:
قوله: فروع في اختلاف الدافع والقابض.
أقول: ذكر المصنف هنا فروعا ثلاثة وتعرض لحكمها، وتحقيق
الكلام في مسألة المترافعين في الدفع والقبض، وبيان الضابطة الكلية
فيها:
أن الفروض المتصورة فيها أربع كلها تنطبق على المقام غير الصورة
الرابعة، ولعل المصنف لذلك أهملها:
1 - أن يتوافق المترافعان على فساد الأخذ والاعطاء ولكن الدافع
يدعي كون المدفوع رشوة على سبيل الإجارة والجعالة فتكون موجبة
للضمان، لأن الإجارة الصحيحة توجب الضمان فكذلك الإجارة
الفاسدة، والقابض يدعي أنه على سبيل الهدية إلا أنها فاسدة فلا تكون
موجبة للضمان، لأن الهبة الصحيحة لا ضمان فيها فكذا الهبة الفاسدة.
وقد رجح المصنف القول الأول، لأن عموم خبر على اليد (1) يقضي
بالضمان إلا مع تسليط المالك مجانا، والأصل عدم تحققه، وهذا حاكم
على أصالة عدم سبب الضمان، فافهم.
وفيه: أن موضوع قاعدة الضمان باليد إنما هو التسليط غير المجاني

1 - عوالي اللئالي 2: 344، عنه المستدرك 14: 7.
433

والتسليط هنا محرز بالوجدان، وعدم كونه مجانيا محرز بالأصل فيلتئم
الموضوع بضم الوجدان إلى الأصل ويترتب عليه الحكم، ولا يلزم
المحذور المذكور.
نعم يرد عليه أن خبر على اليد ضعيف السند وغير منجبر بشئ
فلا يجوز الاستناد إليه، وقد عرفته فيما سبق (1) ويأتي التعرض له في
أحكام الضمان.
والتحقيق أنه ثبت في الشريعة المقدسة عدم جواز التصرف في مال
امرئ مسلم إلا بطيب نفسه، وقد تقدمت الإشارة إليه فيما سبق (2)، وثبت
فيها أيضا أن وضع اليد على مال الغير بدون رضى مالكه موجب للضمان
للسيرة القطعية، ومن الواضح جدا أن وضع اليد على مال الغير في المقام
محرز بالوجدان، فإذا ضممنا إليه أصالة عدم رضى المالك بالتصرف
المجاني تألف الموضوع من الوجدان والأصل وحكم بالضمان،
ولا يلزم شئ من المحاذير.
وليس المراد من الأصل المذكور استصحاب العدم الأزلي ليرد عليه
ما أوردوه في علم الأصول، بل المراد به استصحاب العدم المحمولي،
وهو واضح، وإن قلنا بحجية الأول أيضا.
2 - أن يتسالم المترافعان على شئ واحد ولكن القابض يدعي صحته
على وجه لا يمكن معه الرجوع ويدعي الباذل فساده، كما إذا ادعى
الباذل كون المبذول هدية على سبيل الرشوة وادعى القابض كونها هبة
صحيحة لازمة.

1 - مر في البحث عن جواز بيع ما لا نفع فيه.
2 - مر في البحث عن حقيقة حق الاختصاص ومنشأ ثبوته.
434

وهذا النزاع إنما يكون له أثر فيما إذا كانت الدعوى قبل تلف العين مع
عدم كون الهبة لذي رحم أو على وجه قربي، فإنه يترتب على النزاع
حينئذ استرجاع العين من الموهوب له، وأما إذا كان النزاع بعد التلف
فلا أثر له بوجه، فإنه لا ضمان للهبة بعد التلف، سواء أكانت فاسدة أم
صحيحة.
وعليه فلا وجه لما ذكره المصنف (رحمه الله) من قوله: ولأصالة الضمان في
اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف.
وقد يقال هنا بالضمان لعموم قاعدة على اليد، لأن وضع القابض يده
على مال الدافع محرز بالوجدان وعدم كونه بالهبة الصحيحة الناقلة
محرز بالأصل، فيلتئم الموضوع منهما ويترتب عليه الحكم بالضمان،
ولا يعارض ذلك الأصل بأصالة عدم الهبة الفاسدة، لأنها لا أثر لها.
والتحقيق هو القول بعدم الضمان، لأن أصالة الصحة في العقود تتقدم
على جميع الأصول الموضوعية، وعليه اتفاق كافة العلماء وبناء
العقلاء.
لا يقال: الدافع إنما يدعي ما لا يعلم إلا من قبله فيقدم قوله في دعواه
لأنه أعرف بضميره.
فإنه يقال: لا دليل على ثبوت هذه القاعدة في غير الموارد الخاصة،
كاخبار المرأة عن الحمل أو الحيض أو الطهر، فلا يجوز التعدي إلى
غيرها.
3 - أن يكون مصب الدعوى أمرا مختلفا، كما إذا ادعى الباذل أنها
رشوة محرمة أو أجرة على الحرام وادعى القابض كونها هبة صحيحة.
والظاهر هنا تقديم قول الدافع لأصالة عدم تحقق الهبة الصحيحة
الناقلة، فإنها أمر وجودي وموضوع للأثر فالأصل عدمها، ولا تعارضها
435

أصالة عدم تحقق الرشوة المحرمة أو الإجارة الفاسدة لأنهما لا أثر لهما،
وإنما الأثر مترتب على عدم تحقق السبب الناقل سواء تحقق معه شئ
من الأسباب الفاسدة أم لم يتحقق.
وربما يقال بتقديم أصالة الصحة على الأصول الموضوعية لحكومتها
عليها في باب المعاملات على حذو ما تقدم.
وفيه: أن مدرك أصالة الصحة هو الاجماع وبناء العقلاء كما عرفت،
وهما من الأدلة اللبية فلا بد من الأخذ بالقدر المتيقن، وهو ما كان مصب
الدعوى أمرا واحدا معلوما للمترافعين وكان الاختلاف في
الخصوصيات، وقد فرضنا أن المقام ليس كذلك.
4 - أن يدعي كل منهما عنوانا صحيحا غير ما يدعيه الآخر، كأن
يدعي الباذل كونه بيعا ليتحقق فيه الضمان ويدعي القابض كونه هبة
مجانية لكي لا يتحقق فيه الضمان، فإن أقام أحدهما بينة أو حلف مع
نكول الآخر حكم له وإلا وجب التحالف وينفسخ العقد، وعليه فيجب
على القابض رد العين مع البقاء أو بدلها مع التلف، وهذه الصورة لا تنطبق
على ما نحن فيه.
المسألة (9)
حرمة سب المؤمن
قوله: التاسعة: سب المؤمن حرام في الجملة بالأدلة الأربعة.
أقول: قد استقل العقل بحرمة سب المؤمن في الجملة، لكونه ظلما
وايذاء، وعلى ذلك اجماع المسلمين من غير نكير، وقد تعرض الغزالي
لذلك في احياء العلوم (1).

1 - احياء العلوم 3: 110، ولا ينقضي العجب من الغزالي حيث جوز لعن الروافض
كتجويزه لعن اليهود والمجوس والخوارج ومنع عن لعن يزيد!؟
436

وقد استفاضت الروايات من طرقنا (1) ومن طرق العامة (2) على حرمته.

1 - أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن رجلا من بني تميم أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال:
أوصني، فكان مما أوصاه أن قال: لا تسبوا الناس فتكسبوا العداوة لهم (الكافي 2: 268، عنه
الوسائل 12: 297)، صحيحة.
وفي رواية جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): فإياكم والطعن علي المؤمنين (الكافي 2: 268،
عقاب الأعمال: 320، عنهما الوسائل 12: 298)، ضعيفة لعمرو بن شمر.
عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن كالمشرف
على الهلكة (الكافي 2: 268، عنه الوسائل 12: 298)، موثقة للسكوني.
أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر،
وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه (الكافي 2: 268، الفقيه 4: 300، المحاسن: 102،
عنهم الوسائل 12: 298)، موثقة لعبد الله بن بكير.
أبو حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إن اللعنة إذا خرجت من في صاحبها
ترددت بينهما، فإن وجدت مساغا وإلا رجعت على صاحبها (الكافي 2: 268، عقاب الأعمال
: 320، عنهما الوسائل 12: 301)، موثقة للحسن بن علي بن فضال.
وغير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المذكورة.
في الوسائل باب 159 تحريم الطعن علي المؤمن، وباب 160 تحريم لعن المؤمن من
أحكام العشرة، وباب 70 تحريم الفحش، وباب 71 تحريم البذاء من كتاب جهاد النفس،
والمستدرك باب الفحش، وباب 71 تحريم البذاء من جهاد النفس، وباب 138 تحريم سب
المؤمن من كتاب العشرة، وباب 71 تحريم الفحش من جهاد النفس، والوافي باب البذاء،
والكافي باب البذاء، وغير ذلك من الموارد.
2 - في سنن البيهقي باب شهادة أهل العصبية عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
المستبان ما قالا، فعلى البادي ما لم يتعد المظلوم (سنن البيهقي 10: 235).
وفي رواية عياض بن حمار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان -
الخ (سنن البيهقي 10: 235).
وفي رواية أخرى جعل الشتم من الكبائر (سنن البيهقي 10: 235).
وفيه: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (سنن البيهقي 10: 209). وغير ذلك من أحاديث
العامة.
437

نعم المراد هنا من المؤمن في رواياتنا غير ما هو المراد في روايات
العامة، ومن هنا منعوا عن سب أبي حنيفة (1) وأشباهه.
ويدل على الحرمة أيضا قوله تعالى: واجتنبوا قول الزور (2)، فإن
سب المؤمن من أوضح مصاديق قول الزور، ولا ينافي ذلك ما ورد من
تطبيق الآية على الكذب كما سيأتي.
قوله: ورواية ابن الحجاج عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجلين يتسابان، قال:
البادي منهما أظلم ووزره على صاحبه ما لم يعتذر إلى المظلوم (3)، وفي مرجع
الضمائر اغتشاش ويمكن الخطأ من الراوي.
أقول: محصول كلامه أن الظاهر وقوع الاغتشاش في مرجع الضمائر
في الرواية بحسب المعنى، فإنه إذا رجع الضميران المجرور في
قوله (عليه السلام): ووزره على صاحبه، إلى الراد لزم كون الوزرين كليهما على
البادي وليس على الراد شئ.
ويمكن أن يكون لفظ الرواية: مثل وزره على صاحبه، فتكون دالة
على أن البادي يستحق وزرين: أحدهما للمباشرة، والثاني للتسبيب،

1 - في شرح فتح القدير في عداد من لا تقبل شهادته قال: ولا من يظهر سب السلف
كالصحابة والتابعين ومنهم أبو حنيفة وكذا العلماء (شرح فتح القدير 6: 40).
2 - الحج: 31.
3 - ابن الحجاج البجلي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في رجلين يتسابان، فقال: البادي
منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم (الكافي 2: 368، عنه الوسائل
12: 297)، صحيحة.
وفي حسنة أخرى باختلاف في صدر السند، قال (عليه السلام): ما لم يتعد المظلوم (الكافي
2: 243، عنه الوسائل 16: 29) حسنة لإبراهيم بن هاشم.
438

من غير أن يخفف عن الراد شئ، ولكن الراوي أخطأ فحذف كلمة مثل.
وعليه فشأن الرواية شأن ما عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أيما عبد من
عباد الله سن سنة هدى كان له مثل أجر من عمل بذلك من غير أن ينقص
من أجورهم شئ، وأيما عبد من عباد الله سن سنة ضلال كان عليه مثل
وزر من فعل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شئ (1)، وغير ذلك من
الروايات المستفيضة (2) الواردة بهذا المضمون.
ولكن ما أفاده المصنف على خلاف الظاهر من الرواية، فإن الظاهر
منها الضمير المضاف إليه في كلمة: وزره يرجع إلى السب المستفاد
من قوله (عليه السلام): يتسابان، نظير قوله تعالى: أعدلوا هو أقرب
للتقوى (3)، فالمعنى أن وزر كل سب على فاعله ولا يرتفع عنه إلا
بالاعتذار من المسبوب، لهتك كل من المتسابين صاحبه وظلمه إياه،
وعلى هذا فلا اغتشاش في الضمائر.
ولكن الذي يسهل الخطب أنا لم نجد الرواية على النحو الذي نقله
المصنف، بل هي مروية هكذا: ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر
إلى المظلوم، وفي رواية أخرى: ما لم يتعد المظلوم، أي ما
لم يتجاوز عن الاعتداء بالمثل، وقد ذكرناهما في الحاشية آنفا.
أما الأولى فتدل على أن البادي منهما يستحق وزرين: أحدهما
بالأصالة والآخر بالتسبيب والقاء غيره في الحرام الواقعي، وقد عرفت
في البحث عن حرمة تغرير الجاهل أن التسبيب إلى الحرام حرام بالأدلة

1 - ثواب الأعمال: 160، عنه الوسائل 16: 174.
2 - راجع الوسائل باب 16 إقامة السنن الحسنة من الأمر بالمعروف.
3 - المائدة: 11.
439

الأولية مع قطع النظر عن الروايات الخاصة.
وأما الثانية فتدل على جواز الاعتداء بالمثل وكون وزر الاعتداء على
البادي من دون أن يكون للمظلوم شئ من الوزر ما لم يتجاوز، وإذا
تجاوز كان هو البادي في القدر الزائد، وقد ذهب إلى ذلك جمع من
الأكابر.
قال العلامة المجلسي (1): إن إثم سباب المتسابين على البادي، أما إثم
ابتدائه فلأن السب حرام وفسق، لحديث: سباب المؤمن فسوق وقتاله
كفر، وأما إثم سب الراد فلأن البادي هو الحامل له على الرد - إلى أن قال:
- لكن الصادر عنه هو سب يترتب عليه الإثم إلا أن الشرع أسقط عنه
المؤاخذة وجعلها على البادي للعلة المتقدمة، وإنما أسقطها عنه ما
لم يتعد فإن تعدي كان هو البادي في القدر الزائد.
وعن المحقق الأردبيلي في آيات الأحكام بعد ذكر جملة من الآيات
الظاهرة في الاعتداء بالمثل قال: فيها دلالة على جواز القصاص في
النفس والطرف والجروح بل جواز التعويض مطلقا، حتى ضرب
المضروب وشتم المشتوم بمثل فعلهما - إلى أن قال: - وتدل على عدم
التجاوز عما فعل به وتحريم الظلم والتعدي.
ومن هنا ظهر أن هذا الرأي لا بعد فيه خلافا لما استظهرناه في الدورة
السابقة، وقد وقع التصريح بذلك في جملة من أحاديث العامة، وتقدم
بعضها في الهامش.
قوله: ثم إن المرجع في السب إلى العرف.

1 - راجع مرآة العقول 2: 311.
440

أقول: الظاهر من العرف واللغة (1) اعتبار الإهانة والتعبير في مفهوم
السب وكونه تنقيصا وازراءا على المسبوب وأنه متحد مع الشتم، وعلى
هذا فيدخل فيه كلما يوجب إهانة المسبوب وهتكه، كالقذف و
التوصيف بالوضيع واللا شئ، والحمار والكلب والخنزير، والكافر
والمرتد، والأبرص والأجذم والأعور، وغير ذلك من الألفاظ الموجبة
للنقص والإهانة، وعليه فلا يتحقق مفهومه إلا بقصد الهتك، وأما
مواجهة المسبوب فلا تعتبر فيه.
قوله: فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه.
أقول: ذكر المصنف في البحث عن مستثنيات الغيبة ما هذا نص
عبارته: نعم لو تأذى من ذمه بذلك دون ظهوره لم يقدح في الجواز، ولذا
جاز سبه بما لا يكون كذبا، وهذا هو الفارق بين السب والغيبة، حيث إن
مناط الأول المذمة والتنقيص فيجوز، ومناط الثاني إظهار عيوبه
فلا يجوز إلا بمقدار الرخصة.
والتحقيق أن النسبة بينهما هي العموم من وجه، فإنه قد يتحقق السب
ولا يتصف بعنوان الغيبة، كأن يخاطب المسبوب بصفة مشهورة مع قصد
الإهانة والاذلال، فإن ذلك ليس إظهارا لما ستره الله.
وقد تتحقق الغيبة حيث لا يتحقق السب، كأن يتكلم بكلام يظهر به ما
ستره الله من غير قصد للتنقيص والإهانة.

1 - في لسان العرب: سب أي عير بالبخل، والسب الشتم، والسبة العار، ويقال: صار
هذا الأمر سبة عليهم - بالضم - أي عارا يسب به (لسان العرب 1: 456).
وعن المصباح السبة العار (المصباح: 283)، وفي مفردات الراغب: السب الشتم الوجيع، و
السبابة سميت للإشارة بها عند السب، وتسميتها بذلك كتسميتها بالمسبحة لتحريكها بالتسبيح
(المفردات: 220).
441

وقد يجتمعان ويتعدد العقاب في مورد الاجتماع لكون كل من
العنوانين موضوعا للعقاب، فلا وجه للتداخل ولعل هذا مراد المصنف
هنا وفي مبحث الغيبة.
وقال المحقق الإيرواني: إن النسبة بين السب والغيبة هو التبائن، فإن
السب هو ما كان بقصد الانشاء، وأما الغيبة فجملة خبرية (1).
وفيه: أنه لا دليل على هذه التفرقة، فإن كلا منهما يتحقق بكل من
الانشاء والاخبار.
قوله: ثم إنه يستثنى من المؤمن المتظاهر بالفسق.
أقول: يجوز سب المتجاهر بالفسق بالمعصية التي تجاهر فيها لزوال
احترامه بالتظاهر بالمنكرات كما في بعض الأحاديث، وسيأتي ذكره في
البحث عن مستثنيات الغيبة، وأما المعاصي التي ارتكبها العاصي ولكن
لم يتجاهر فيها فلا يجوز السب بها، وأما السب بما ليس في المسبوب
فافتراء عليه فيحرم من جهتين.
قوله: ويستثنى منه المبدع أيضا.
أقول: قد دلت الروايات المتظافرة على جواز سب المبدع في الدين
ووجوب البراءة منه واتهامه (2).

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 280.
2 - عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل
الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم، والقول فيهم والوقيعة،
وباهتوهم كي لا يطمعوا في الفساد في الاسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم،
يكتب الله لهم بذلك الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة (الكافي 2: 278، عنه
الوسائل 16: 267)، صحيحة.
وغير ذلك من الروايات المذكورة في الأبواب المزبورة.
442

ولكن الظاهر أنه لا وجه لجعله من المستثنيات باستقلاله، فإنه إن كان
المراد به المبدع في الأحكام الشرعية فهو متجاهر بالفسق، وإن كان
المراد به المبدع في العقائد والأصول الدينية فهو كافر بالله العظيم،
فيكون خارجا عن المقام موضوعا لعدم كونه متصفا بالايمان.
قوله: ويمكن أن يستثنى من ذلك ما إذا لم تأثر المسبوب عرفا.
أقول: مقتضى الاطلاقات المتقدمة أن سب المؤمن حرام مطلقا، سواء
تأثر أم لم يتأثر، نعم إذا لم يوجب إهانة المسبوب في نظر العرف كان
خارجا عن عنوان السب موضوعا، لما عرفت من اعتبار الإهانة
والاستنقاص في مفهوم السب.
وعليه فلا وجه لاستثناء بعض الأمثلة عن مورد البحث، كسب الوالد
ولده، وسب المعلم متعلمه، وسب المولى عبده، لأنه إن كان موجبا
لإهانتهم فلا مجوز للاستثناء، وإن لم يكن موجبا لذلك فهو خارج عن
السب موضوعا.
وقد ظهر أيضا فساد ما يقال من أن السب في الأمثلة المذكورة فخر
للمسبوب وتأديب له فلا يحرم.
ووجه الفساد أن مفهوم السب ينافي مفهوم الفخر والتأديب
فلا يجتمعان في مورد واحد.
وأضعف من جميع ذلك دعوى السيرة على الجواز في الموارد
المزبورة، فإنا لو سلمنا تحقق السيرة من المتدينين فإنما هي في غير
موارد الهتك والظلم، فلا تكون إلا على جواز التأديب دون السب.
قوله: وأما الوالد، فيمكن استفادة الجواز في حقه مما ورد من مثل قولهم (عليهم السلام):
أنت وما لك لأبيك.
أقول: قد وردت هذه الجملة المباركة في الروايات المتظافرة
443

الصحيحة وغيرها (1)، ولكنها راجعة إلى الجهات الأخلاقية الناشئة من
الجهات التكوينية، فإن الولد بحسب التكوين من المواهب الإلهية للوالد
فلا يناسبه أن يعارض أباه في تصرفاته.
ويؤيد ذلك المعنى ما في رواية محمد بن سنان (2) الضعيف من تعليل
حلية مال الولد لأبيه، بأن الولد موهب للوالد، في قوله تعالى: يهب
لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (3)، وعليه فليس لفظ اللام في
قوله (عليه السلام): أنت وما لك لأبيك، إلا للاختصاص فقط الناشئ من المحبة
الجبلية والعطوفة الغريزية المنافية للايذاء والاذلال ولو بالسب والشتم.
نعم لو دلت هذه الروايات على الملكية، حقيقة كانت أم تنزيلية، أو
على الولاية المطلقة والسلطنة التامة، كان لكلام المصنف وجه، ولكن
كلا الاحتمالين بديهي البطلان.
أما الأول فلأنه لو تم لجاز للأب أن يتصرف فيما يرجع إلى أولاده
ويتصرف في شؤونهم تصرف الموالي في عبيدهم وأمورهم، مع أنه
لم يلتزم به أحد، على أنه مخالف للروايات المعتبرة الصريحة في أن
للأب أن يستقرض من مال ابنه (4) ويقوم جاريته بقيمة عادلة ويتصرف
فيها بالملك (5)، فإن من الواضح أنه لو كان الابن وماله للأب لما احتاج في

1 - راجع الكافي 5: 136، الفقيه 3: 109، عنهما الوسائل 17: 265.
2 - عيون الأخبار 2: 96، علل الشرايع: 524، عنهما الوسائل 17:. 266.
3 - الشورى: 49.
4 - عن علي بن جعفر عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يأكل من مال ولده،
قال: لا إلا بإذنه أو يضطر فيأكل بالمعروف أو يستقرض منه حتى يعطيه إذا أيسر (قرب الإسناد
: 119، عنه الوسائل 17: 265.
5 - عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الوالد يحل له من مال ولده
إذا احتاج إليه، قال: نعم، وإن كان له جارية فأراد أن ينكحها قومها على نفسه ويعلن ذلك (
الكافي 5: 471، التهذيب 6: 345، عنهما الوسائل 17: 268).
444

جواز التصرف في ماله وجاريته إلى الاستقراض والتقويم.
وأما الثاني فأيضا فاسد، لأن مورد بعضها الولد الكبير ومن المقطوع
به أنه لا ولاية للأب عليه، ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه، فهي
معارضة بما دل على حرمة سب المؤمن بالعموم من وجه، ففي مورد
التعارض يرجع إلى عمومات ما دل على حرمة الظلم، وهو واضح.
المسألة (10)
حرمة السحر
قوله: العاشرة: السحر حرام في الجملة بلا خلاف.
أقول: لا خلاف في حرمة السحر في الجملة، بل هي من ضروريات
الدين ومما قام عليه اجماع المسلمين، وقد استفاضت بها الروايات من
طرقنا (1) ومن طرق العامة (2).

1 - في نهج البلاغة: المنجم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر
في النار (النهج 1: 124)، مرسلة.
عن الصدوق في رواية نضر: والساحر ملعون (الخصال: 297، عنه الوسائل 17: 143)،
ضعيفة للحسن بن علي الكوفي وإسحاق بن إبراهيم.
وقال: قال (عليه السلام): المنجم كالكاهن - إلى آخر ما تقدم من النهج (الخصال: 297، عنه
الوسائل 17: 143)، مرسلة.
عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ساحر المسلمين يقتل و
ساحر الكافر لا يقتل، قيل: يا رسول الله ولم لا يقتل ساحر الكفار؟ فقال: لأن الكفر أعظم من
السحر، ولأن السحر والشرك مقرونان (الكافي 7: 260، الفقيه 3: 371، التهذيب 10: 147،
علل الشرايع: 546، عنهم الوسائل 28: 365) موثقة للسكوني.
رواه في الجعفريات مثله بتفاوت يسير (الجعفريات: 128، عنه المستدرك 18: 191)،
مجهول لموسى بن إسماعيل.
وعن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على
رأسه (الكافي 7: 260، التهذيب 10: 147، عنهما الوسائل 28: 366)، مجهولة لحبيب بن الحسن
وبشار.
وفي رواية أخرى قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الساحر، فقال: إذا جاء رجلان عدلان
فشهدا عليه فقد حل دمه (التهذيب 10: 147، عنه الوسائل 28: 367)، ضعيفة للحسين بن
علوان العامي.
وعن إسحاق بن عمار: أن عليا (عليه السلام) كان يقول: من تعلم من السحر شيئا كان آخر عهده
بربه، وحده القتل إلا أن يتوب (التهذيب 10: 147، عنه الوسائل 28: 367)، حسنة لإبراهيم بن
هاشم.
رواه في قرب الإسناد مثله (قرب الإسناد: 71، عنه الوسائل 17: 148)، ضعيفة لأبي
البختري.
وعن الخصال: ثلاثة لا يدخلون الجنة، وعد منهم مدمن السحر (الخصال: 179، عنه
الوسائل 17: 148)، مجهولة لجهالة أكثر رواتها.
وفي قصة هارون وماروت ما يدل على حرمة السحر وكفر الساحر (عيون الأخبار
1: 266، عنه الوسائل 17: 147)، ولكنها ضعيفة السند.
في صحيحة عبد العظيم الحسيني عد السحر من الكبائر (الكافي 2: 217، عيون الأخبار
1: 85، علل الشرايع: 391، عنهم الوسائل 15: 320).
عن الجعفريات عن علي (عليه السلام) أنه قال: من السحت ثمن الميتة - إلى أن قال: - وأجر
الساحر (الجعفريات: 180، عنه المستدرك 13: 69)، مجهولة لموسى بن إسماعيل.
عن الجعفريات: أن ابن أعصم سحر النبي (صلى الله عليه وآله) فقتله (الجعفريات: 128، عنه المستدرك
18: 191)، مجهولة لموسى بن إسماعيل.
وغير ذلك من الروايات الكثيرة الصريحة في حرمة السحر، وقد ذكرت هذه الأخبار
الكثيرة في المصادر المزبورة وغيرها.
2 - في سنن البيهقي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد
كفر بما أنزل على محمد (سنن البيهقي 8: 135).
وفي رواية أخرى: كتب عمر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، و في ثالثة: حد الساحر ضربة
بالسيف (سنن البيهقي 8: 135)، وغيرها من الأحاديث من طرق العامة.
445

وهذا لا شبهة فيه، وإنما الكلام في تحقيق موضوع السحر وبيان
حقيقته.
وقد اختلفت كلمات أهل اللغة في ذلك (1)، فذكر بعضهم: أنه الخدعة
والتمويه، وقال بعضهم: إنه إظهار الباطل بصورة الحق، وقيل: هو
الآخذة في العين، وفي القاموس: أنه ما لطف مأخذه ودق، وقال
بعضهم: إنه صرف الشئ عن وجهه إلى غير حقيقته بالأسباب الخفية
على سبيل الخدعة والتمويه، إلى غير ذلك من التعاريف.
وقد وقع الخلاف بين الأصحاب في ذلك أيضا، فعن العلامة في

1 - في لسان العرب: ومن السحر الآخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما يرى
وليس الأصل على ما يرى، والسحر الآخذة وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر، قال
الأزهري: وأصل السحر صرف الشئ عن حقيقته إلى غيرها، فكان الساحر لما أرى الباطل
في صورة الحق خيل الشئ على غير حقيقته، فقد سحر الشئ عن وجهه أي صرفه، وقال
الفراء في قوله تعالى: فأنى تسحرون، معناه: فأنى تصرفون، وقال يونس: تقول العرب
للرجل: ما سحرك عن وجه كذا وكذا، أي صرفك (لسان العرب 4: 348).
وفي أقرب الموارد: سحره سحرا عمل له السحر وخدعه، وسحر فلانا عن الأمور صرفه،
ويقال: سحرت الفضة إذا طليتها بالذهب، وقيل: السحر والتمويه يجريان مجري واحدا.
وفي مجمع البحرين: قوله تعالى: فأنى تسحرون أي فكيف تخدعون عن توحيده ويموه
لكم، ويسمى السحر سحرا لأنه صرف جهته (مجمع البحرين 3: 324).
وفي مفردات الراغب: نحن قوم مسحورون أي مصروفون عن معرفتنا بالسحر (المفردات
: 225).
وفي المنجد: سحره خدعه، وسحره عن كذا صرفه وأبعده، وسحر الفضة طلاها بالذهب
(المنجد: 322).
447

القواعد: أنه كلام يتكلم به أو يكتبه أو رقية أو يعمل شيئا يؤثر في بدن
المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة (1)، وعن المنتهى أنه زاد: أو
عقد (2)، وفي المسالك أنه زاد: أو أقسام وعزائم يحدث بسببها ضرر على
الغير (3)، وعن الدروس أنه زاد: الدخنة والتصوير والنفث وتصفية
النفس (4)، إلى غير ذلك من كلماتهم.
والتحقيق أن المتبادر عند أهل العرف من كلمة السحر والظاهر من
استقراء موارد استعمالها وما اشتق منها عند أهل اللسان والمتصيد من
مجموع كلمات اللغويين في تحديد معناها: أن السحر هو صرف الشئ
عن وجهه على سبيل الخدعة والتمويه، بحيث إن الساحر يلبس الباطل
لباس الحق ويظهره بصورة الواقع، فيرى الناس الهياكل الغريبة
والأشكال المعجبة المخوفة.
والوجه في ذلك أن السحر عمل خفي يحصل بالأسباب الخفية،
ويصور الشئ على خلاف صورته الواقعية، ويصرفه عن وجهه
بالخدعة والتمويه، ويقلبه من جنسه في الظاهر لا في الحقيقة، بحيث إن
الساحر يسحر الناظرين حتى يتخيلوا أنه يتصرف في الأمور التكوينية
ويغيرها عن حقيقتها إلى حقيقة أخرى، فيريهم البر بحرا عجاجا تجري
فيه السفن وتتلاطم فيه الأمواج، من غير أن يلتفتوا إلى كونه خدعة
وتمويها واظهارا للباطل بصورة الحق، وقصة السحرة مع موسى (عليه السلام)
مذكورة في القرآن حين ألقوا: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من

1 - القواعد 1: 121، التحرير 1: 161.
2 - المنتهى 2: 1014.
3 - المسالك 3: 128.
4 - الدروس 3: 163.
448

سحرهم أنها تسعى (1).
لا يقال: قد تكون للسحر حقيقة واقعية، كالتصرف في عقل المسحور
أو بدنه أو ما يرجع إليه، وعليه فلا يتم تعريفه المذكور.
فإنه يقال: ليست للسحر حقيقة واقعية، ولكن قد يترتب عليه أمر
واقعي، فقد يظهر الساحر للمسحور شيئا مهولا فيخاف هذا ويصبح
مجنونا، أو يريه بحرا وفيه سفينة جارية فيحاول المسحور أن يركبها
فيقع من شاهق ويموت، فإن الجنون والموت وإن كانا من الأمور الواقعية
إلا أنهما ترتبا على الأمر التخيلي الذي هو السحر.
ويقرب ما ذكرناه ما عن صاحب العين، من أنه يقلب الشئ من جنسه
في الظاهر ولا يقلبه عن جنسه في الحقيقة (2).
وقد أشير إلى ما ذكرناه في خبر الإحتجاج، حيث سئل الإمام (عليه السلام)
عن الساحر أيقلب الواقع إلى واقع آخر، فقال (عليه السلام): هو أضعف من
ذلك (3).
وعلى ما ذكرناه من المعنى قد استعملت كلمة السحر في مواضع شتى

1 - طه: 69.
2 - وعن الطبرسي عن صاحب العين: السحر عمل يقرب إلى الشياطين، ومن السحر
الآخذة التي تأخذ العين حتى تظن أن الأمر كما ترى وليس الأمر كما ترى، فالسحر عمل خفي
لخفاء سببه، يصور الشئ بخلاف صورته ويقلبه عن جنسه في الظاهر، ولا يقلبه عن جنسه
في الحقيقة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
3 - في الإحتجاج في احتجاج الصادق (عليه السلام) على الزنديق قال: أفيقدر الساحر أن يجعل
الانسان بسحره في صورة الكلب أو الحمار أو غير ذلك، قال (عليه السلام): هو أعجز من ذلك وأضعف
من أن يغير خلق الله، إن من أبطل ما ركبه الله وصوره وغيره فهو شريك الله في خلقه، تعالى
الله عن ذلك علوا كبيرا، لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهرم والآفة - الحديث (
الإحتجاج: 340)، مرسل.
449

من الكتاب العزيز (1)، وأطلق المشركون صفة الساحر على النبي الصادق
المصدق، فقد زعموا أن محمدا (صلى الله عليه وآله) يظهر الباطل بصورة الحق
بكلمات فصيحة وخطب بليغة حتى يسحر بها أعين الناظرين وقلوبهم.
ومن هنا أيضا أطلق السحر على البيان الجيد بلحاظ المدح والذم (2)،
فإنه يصرف حواس الحاضرين وآذان السامعين إلى المتكلم، وبهذا
الاعتبار أيضا أطلق السحر على تمويه الفضة بالذهب.
وعلى الجملة إن الناظر إلى كلمات أهل اللغة وموارد الاستعمال
يقطع بأن السحر ليست له حقيقة واقعية وإنما هو ما ذكرناه، ومن جميع
ما تقدم ظهر ما هو المراد من الأخبار المتظافرة الدالة على حرمة السحر،
وقد ذكرنا بعضها في الهامش.
وأما ما ذكره في القاموس من أن السحر ما لطف مأخذه ودق، فإنه
وإن انطبق على ما ذكرناه، لأن صرف الشئ عن وجهه على سبيل التمويه
له مأخذ دقيق جدا، إلا أنه تعريف بالأعم، فإن الأمور التي يلطف

1 - في مفردات الراغب: نحن قوم مسحورون أي مصروفون، وفي لسان العرب فأنى
تسحرون أي تصرفون، وفي مجمع البحرين إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي مصروفا عن الحق،
وغير ذلك من الموارد (مر ذكر المصادر قبيل هذا).
2 - في لسان العرب: السحر البيان في فطنة، كما جاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
إلى أن قال: إن من البيان لسحرا، قال أبو عبيدة: كان المعنى أنه يبلغ من ثنائه أنه يمدح الانسان
فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله، ثم يذمه فيصدق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله
الآخر، فكأنه قد سحر السامعين بذلك (لسان العرب 4: 349).
ذكر في البحار الحديث ثم قال ما حاصله: وسمى النبي (صلى الله عليه وآله) بعض البيان سحرا لوجهين:
الأول: أنه لدقته ولطفه يستميل القلوب إلى المتكلم.
والثاني: أن المقتدر على البيان يكون قادرا على تحسين ما يكون قبيحا، وتقبيح ما يكون
حسنا، فذلك يشبه السحر من هذا الوجه (البحار 59: 277).
450

مأخذها وهي ليست من السحر في شئ كثيرة جدا، كالقوى الكهربائية
والراديوات والطائرات وبعض أقسام أدوات الحرب وغير ذلك مما
لا يعرفه أكثر الناس خصوصا الصناعات المستحدثة.
وقد ظهر مما ذكرناه الفرق بين السحر وبين المعجزة والشعوذة،
فإنك قد عرفت في البحث عن حرمة التصوير اجمالا أن الاعجاز أمر
حقيقي له واقعية إلا أنه غير جار على السير الطبيعي، بل هو أمر دفعي
خارق للعادة، وأما المقدمات الطبيعية فكلها مطوية فيه كجعل الحبوب
أشجارا وزروعا والأحجار لؤلؤا ويواقيت دفعة واحدة، ومنه صيرورة
عصا موسى (عليه السلام) ثعبانا وصيرورة الأسد المنقوش على البساط حيوانا
مفترسا بأمر الإمام (عليه السلام) في مجلس الخليفة، وقد تقدم ذلك في المبحث
المذكور.
وأما السحر، فقد عرفت أنه ليست لها حقيقة واقعية أصلا.
وأما الشعوذة، فسيأتي أنها عبارة عن الخفة في اليد والسرعة في
الحركة، المعبر عنها في لغة الفارس بكلمة: تردستي وتندكاري، فإن
المشعوذ الحاذق يفعل الأمور العادية والأفعال المتعارفة بتمام السرعة
بحيث يشغل أذهان الناظرين بأشياء ويأخذ حواسهم إليها ثم يعمل شيئا
آخر بسرعة شديدة وبحركة خفيفة فيظهر لهم غير ما انتظروه ويتعجبون
منه، ولكن الصادر منه أمر واقعي كأخذ الأشياء من موضع ووضعها في
موضع آخر بالسرعة التامة حتى يتخيل الناظر إليها أنها انتقلت بنفسها،
فالنقل والانتقال أمر حقيقي ولكن الناظر لا يلتفت إلى الناقل.
وهذا بخلاف السحر فإنه أمر خيالي محض كما عرفت التنبيه عليه،
ومن هنا اتضح الفرق بين الشعوذة والمعجزة أيضا.
وأما ما ذكره الأصحاب من بيان حقيقة السحر وأسبابه وأقسامه،
451

فكلها تقريبية، فإن انطبق على ما ذكرناه فهو وإلا فيرد إلى قائله، وهو
أعرف بمقاله.
أقسام السحر:
ولا بأس بالتعرض لما ذكره الأصحاب من أقسام السحر، ليعلم هل
أنها مشمولة لما دل على حرمة السحر أم لا، وقد تكلم عليها العلامة
المجلسي في البحار (1) وأطال الكلام فيها موضوعا وحكما نقضا وإبراما،
وحاصل كلامه في تحقيق أقسام السحر أنه على أنواع شتى:
1 - سحر الكلدانيين الذين كانوا من قديم الدهر، وهم قوم يعبدون
الكواكب ويزعمون كونها مدبرة للعالم السفلي ومبادي لصدور الخيرات
والشرور، وقد بعث الله إبراهيم (عليه السلام) مبطلا لمقالتهم وهدم أساس
مذهبهم.
وهم على فرق ثلاث، فإن منهم من يزعم أن الكواكب هي الواجبة
الخالقة للعالم، ومنهم من يزعم أنها قديمة لقدم العلة المؤثرة فيها،
ومنهم من يزعم أنها حادثة مخلوقة ولكنها فعالة مختارة فوض خالقها
أمر العالم إليها.
والساحر من هذه الفرق الثلاثة من يعرف القوى العالية الفعالة بسائطها
ومركباتها، ويعرف ما يليق بالعالم السفلي وحوادثه، ويعرف معدات
هذه الحوادث ليعدها، وعوائقها ليرفعها بحسب الطاقة البشرية، فيكون
متمكنا من استحداث ما يخرق العادة - انتهى ملخص كلام المجلسي (رحمه الله)
في النوع الأول.

1 - البحار 59: 277 - 297.
452

أقول: قد عرفت أن السحر هو صرف الشئ عن وجهه على سبيل
الخديعة والتمويه من دون أن يكون له واقعية، فاستحداث الأمور
الخارقة للعادة ليس من السحر، ولو تمكن أحد من احداث الأمور الغريبة
بواسطة القوة النفسانية الحاصلة بالرياضة أو بصرف المقدمات، فلا يقال
له أنه ساحر، بل لا دليل على حرمته، فإن هذا شعار أهل الكرامة.
نعم لا شبهة في كفر الفرق المذكورة، كما اعترف به المجلسي (رحمه الله)
حتى الفرقة الثالثة القائلة بتفويض أمر العالم إلى الكواكب، فإن قولهم هذا
مخالف لضرورة الدين، فإن الله هو الذي يحيي ويميت، ويهب لمن
يشاء ذكورا ويهب لمن يشاء إناثا، ويصور في الأرحام كيف يشاء.
2 - سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، فقد ثبت بالوجوه
العديدة امكان تسلط النفوس على جوارح الغير وأعضائه، فتسخره
للقيام بحرمات وتأدية أعمال على غير إرادة منه ومن دون وساطة شئ
آخر، وهذه النفوس قد تكون لرياضتها قوية صافية عن الكدورات
البدنية، فتستغني في تأثيرها عن الاستعانة بأدوات من خارجها وتصدر
عنها الأمور الغريبة الخارقة للعادة، وقد تكون ضعيفة وممزوجة
بأوساخ المواد فتحتاج في اتمام تأثيرها إلى الاستعانة بأدوات سحرية
أخرى - انتهى حاصل كلامه في النوع الثاني.
أقول: لا شبهة أن بعض النفوس لصفائها بالرياضات تؤثر في الأمور
التكوينية وتصرفها عن وجهها صرفا حقيقيا، كايقاف الماشي عن
المشي، والمياه الجارية عن الجريان، بل قيل إن هذا المعنى مكنون في
الأسد بحسب الغريزة والطبيعة.
فإنه إذا نظر إلى حيوان أوقفه عن المشي والحركة، إلا أنه لا دليل على
حرمته بعنوان الأولي ما لم يترتب عليه شئ من العناوين المحرمة، بل
453

نمنع عن صدق السحر عليه، وإنما هو نحو من الكرامة إن كان بطريق حق،
ومن الكفر أو الفسق إن كان بطريق الباطل.
ولا نظن أن يتوهم أحد أن تصفية النفس بالرياضات الحقة حتى تصير
مؤثرة في الأمور التكوينية من المحرمات بل هو مطلوب في الشريعة
المقدسة إذا كان بالإطاعة والتقوى، ومن المعروف المشهور أن سلمان
(رضي الله عنه) قد وصل بمجاهداته وتقواه وعظيم طاعته لمولاه إلى حد أن
انقادت الأمور التكوينية لإرادته والتزمت فرض طاعته.
3 - الاستعانة بالأرواح الأرضية، واعلم أن القول بوجود الجن مما
أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة، وأما أكابر الفلاسفة
فإنهم لم ينكروا القول بوجود الجن ولكنهم سموها بالأرواح الأرضية،
وهي بأنفسها مختلفة الأصناف، فإن منها خيرة ومنها شريرة، وقد شاهد
أهل الصنعة والتجربة أن الاتصال بها يحصل بأمور خفيفة وبأفعال سهلة
لا مشقة في ايجادها، كالبرق والدخن والتجريد، وقد سموا هذا النوع
بالعزائم وعمل تسخير الجن - انتهى حاصل كلام المجلسي في النوع
الثالث.
أقول: لا ريب في خروج هذا النوع أيضا من السحر موضوعا وحكما،
تعليما وتعلما، بل لا دليل على حرمته في نفسه إلا إذا ترتب عليه عنوان
محرم من إيذاء انسان والاضرار به، أو كانت مقدماتها محرمة فيحرم
الاشتغال بها، وإلا فلا يحرم استخدام الجن وكشف الغائبات بواسطتهم،
بل لا دليل على حرمة ايذاهم.
4 - التخيلات والأخذ بالعيون، وهذا النوع يتضح بأمور:
الأول: وقوع الأغلاط في البصر كثيرا، فإن الساكن قد يرى متحركا
وبالعكس.
454

كما أن راكب السفينة إذا نظر إلى البحر يرى السفينة ساكنة ويرى الماء
متحركا، والقطرة النازلة من السماء ترى خطا مستقيما، والشعلة الجوالة
ترى دائرة من النار، والأشياء الصغيرة ترى في الماء كبيرة، وغير ذلك
من أغلاط البصر.
الثاني: أن المحسوسات قد يختلط بعضها ببعض إذا كانت مدركة
بسرعة النظر، لأن القوة الباصرة إذا وقفت على محسوس وقوفا تاما في
زمان معتد به أدركته على نحو لا يشتبه بغيره كثيرا، وأما إذا أدركته في
زمان قليل ثم أدركت محسوسا آخر وهكذا فإنه يختلط بعضه ببعض.
الثالث: أنه قد تشغل النفس بشئ فلا تشعر حينئذ بشئ، وإن كان
حاضرا عند الانسان كالوارد على السلطان فإنه قد يلقاه شخص فيتكلم
معه ولكن لا يلتفت إليه، والناظر في المرآة يرى القذارة في عينيه
ولا يرى أكبر منها.
إذا عرفت هذه الأمور اتضح لك تصوير هذا النوع من السحر، فإن
المشعبذ الحاذق يشغل أذهان الناظرين بأمور ويأخذ بأبصارهم ثم يعمل
شيئا آخر بسرعة شديدة وبحركة خفيفة، فيظهر لهم غير ما انتظروه
فيتعجبون منه.
أقول: هذا النوع هو المعروف بالشعوذة فلا يرتبط بالسحر، وسيأتي
أنه لا دليل على حرمتها، فإنها ليست إلا الحركة السريعة في الأعضاء
فلا معنى لحرمتها في نفسها إلا إذا اقترنت بعناوين محرمة، نعم أطلق
عليها السحر في خبر الاحتجاج المتقدم في الحاشية، فإنه قد ذكر الإمام
(عليه السلام) فيه: ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفة، إلا أنه على
سبيل المجازية، فقد عرفت الفرق بين السحر والشعوذة وعدم صدق
كل منهما على الآخر.
455

5 - الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات على النسب
الهندسية، كراقص يرقص، وكفارسين يقتتلان، وكراكب على فرسه
وفي يده بوق كلما مضى ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسه
أحد، ومن هذا القبيل الصور المصنوعة لأهل الروم والهند، بحيث يراها
الناظر إليها انسانا على كيفيات مختلفة ضاحكة وباكية حتى يفرق فيها
بين ضحك السرور وضحك الخجل وضحك الشامت.
فهذه الوجوه كلها من لطائف التخابيل، وكان سحر سحرة فرعون من
هذا الضرب، ومن ذلك أيضا تركيب صندوق الساعات، وعلم جر
الأثقال والأجسام العظيمة بآلات خفيفة، وهذا النوع في الحقيقة
لا ينبغي أن يعد من السحر فإن لها أسبابا معلومة معينة، ومن اطلع عليها
قدر على ايجادها وحيث لم يصل إليها إلا الفرد النادر لصعوبتها عدها
أهل الظاهر من السحر - انتهى ملخص كلامه.
أقول: إن ايجاد الصنايع المعجبة وتركيب الأمور الغريبة كما هو
المعروف كثيرا في العصر الحاضر، كالطائرات والقطارات والسيارات
وسائر أدوات النقل والآلات العجيبة المعدة للحرب ليس من
المحرمات بعناوينها الأولية إلا إذا انطبقت عليه عناوين محرمة أخرى،
وليس من مقولة السحر كما اعترف به المجلسي، ولم يثبت كون سحر
سحرة فرعون من هذا القبيل.
6 - الاستعانة بخواص الأدوية، مثل أن تجعل في الطعام بعض الأدوية
المبلدة أو المزيلة للعقل، أو الدخن المسكر البخور، أو عصارة البنج
المجعول في الملبس، وهذا مما لا سبيل إلى انكاره، فإن أثر المغناطيس
شاهد - انتهى ملخص كلام المجلسي.
أقول: هذا النوع أيضا خارج عن السحر موضوعا وحكما، وإنما هي
456

أسرار يكتشفها علم الكيمياء وقد يستعان بها في علم الطب، ولو كانت
الاستعانة بالأدوية محرمة للزم القول بحرمة علم الطب ولم يلتزم به أحد،
بل وجوبه من الضروريات عند الملل وعقلاء العالم.
7 - تعليق القلب، وهو أن يدعي الساحر علم الكيمياء (1) وعلم
الليمياء (2) والاسم الأعظم، ويدعي أن الجن يطيعونه، فإذا كان السامع
ضعيف العقل قليل التميز اعتقد بذلك وتعلق قلبه به، ويلزم ذلك أن
يحصل فيه الرعب والخوف ويفعل فيه الساحر ما يشاء، مع أن تلك
الدعاوي ليس لها أصل، ومن جرب هذا المعنى وأهله علم أن لتعليق
القلب أثرا عظيما من حيث الخوف والرجاء كليهما.
وفيه: أنه لا وجه لجعله من أقسام السحر، وإنما هو قسم من الكذب
إذا لم يكن له واقع، على أن تعليق القلب لو كان سحرا لكانت الاستمالة
بمطلقها سحرا محرما، سواء كانت بالأمور الواقعية أم بغيرها.
8 - النميمة.
وفيه: أنها وإن كانت محرمة بالضرورة عند الفريقين بل عند العقلاء
إلا أنها أجنبية عن السحر وعن مورد الأخبار الدالة على كفر الساحر
ووجوب قتله، فإن من البديهي أن النمام ليس بكافر ولا يجوز قتله.
وعلى الجملة لم يتحصل لنا من الأقسام المذكورة ما يكون سحرا
ومحرما بعنوانه، فانحصر السحر المحرم بما ذكرناه، أعني صرف الشئ

1 - الكيمياء: علم يراد به تحويل بعض المعادن إلى بعض، وعلى الخصوص تحويلها إلى
الذهب (محيط المحيط: 801).
2 - الليمياء أو السيمياء: علم يطلق على غير الحقيقي من السحر، وحاصله احداث
مثالات خيالية لا وجود لها في الحس، وقد يطلق على ايجاد تلك المثالات بصورها في الحس،
وتكون صورا في جوهر الهواء (محيط المحيط: 443).
457

عن وجهه على سبيل الخدعة والتمويه، وقد تقدم أن هذا هو المورد
للأخبار الدالة على حرمة السحر.
ثم إنه ورد في جملة من الروايات المتقدمة ما دل على كفر الساحر،
وفي الروايات الأخرى المتقدمة في الحاشية أنه يقتل.
أما الحكم بالكفر فلا يمكن أن يراد به الكفر المصطلح في الشريعة
المقدسة، ضرورة عدم جريان أحكام الكفر عليه من قسمة الأموال
وبينونة زوجته والحكم بنجاسته، فيشمله ما دل على اسلام من أقر
بالشهادتين والمعاد، على أنا لم نر ولم نسمع من يعامل الساحر معاملة
الكافر حتى في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام).
ويؤيد ما ذكرناه ما سيأتي في البحث عن جواز دفع السحر بالسحر من
قوله (عليه السلام) للساحر الذي أخذ السحر صناعة لنفسه: حل ولا تعقد (1)،
فلو كان السحر موجبا للكفر لحكم أبو عبد الله (عليه السلام) بكفره، ولكن الرواية
مجهولة.
وكيف كان فما دل على كفر الساحر لا بد من حمله أما على مستحل
السحر، وأما على من يعارض به القرآن والنبوة، ويدعي به الرسالة أو
الإمامة، أو يدعي ما لا يقدر عليه إلا الله.
ويدل على الأخير ما في رواية العسكري (عليه السلام) في قصة هاروت
وماروت، من قوله (عليه السلام): فلا تكفر باستعمال هذا السحر وطلب
الاضرار ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنك تحيي وتميت وتفعل ما
لا يقدر عليه إلا الله، فإن ذلك كفر (2)، ولكن الرواية ضعيفة السند،

1 - الكافي 5: 115، الفقيه 3: 110، التهذيب 6: 364، قرب الإسناد: 25، عنهم الوسائل
17: 146.
2 - عيون الأخبار 1: 266، عنه الوسائل 17: 147.
458

وسنتعرض لها في البحث عن جواز دفع السحر بالسحر.
وأما الحكم بقتله، فهو المشهور بين الأصحاب بل في كلمات غير
واحد منهم دعوى الاجماع عليه، من دون فرق بين المستحل وغيره.
وفي حدود الرياض: يقتل الساحر إذا كان مسلما ويعزر إذا كان كافرا
بلا خلاف فتوى ونصا، ثم قال: إن مقتضى اطلاق النص والفتوى بقتله
عدم الفرق فيه بين كونه مستحلا أم لا، وبه صرح بعض الأصحاب،
وحكي آخر من متأخر المتأخرين قولا بتقييده بالأول، ووجهه غير
واضح (1).
أقول: قد ورد في الروايات العديدة المتقدمة في أول المسألة أن حد
الساحر هو القتل، إلا أنها روايات ضعيفة وغير منجبرة بالشهرة
الفتوائية، فقد عرفت مرارا أنها لا تجبر ضعف الرواية، وعليه فإن تم
الاجماع والتسالم على ذلك أخذ به وإلا فعمومات ما دل على حرمة قتل
النفس محكمة.
نعم إذا كان الساحر مستحلا للسحر أو كان يعارض به بعض المناصب
الإلهية وجب قتله، إلا أن القتل لم يجب عليه بما أنه ساحر بل بما أنه
منكر لما هو من ضروريات الاسلام.
قوله: وبعضها قد ذكر فيما ذكره في الإحتجاج.
أقول: قد ظهر مما تقدم أن اطلاق السحر على بعض الأمور المذكورة
في خبر الإحتجاج، كالسرعة والخفة والنميمة إنما هو بنحو من العناية
والمجاز، على أن الرواية ضعيفة السند وغير منجبرة بشئ.
قوله: وأما الأقسام الأربعة المتقدمة من الإيضاح - الخ.

1 - رياض المسائل 2: 482.
459

أقول: قال في محكي الإيضاح: إن استحداث الخوارق إما بمجرد
التأثيرات النفسانية وهو السحر، أو بالاستعانة بالفلكيات فقط وهو
دعوة الكواكب، أو بتمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية وهي
الطلسمات، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة وهي العزائم،
ويدخل فيه النيرنجات، والكل حرام في شريعة الاسلام، ومستحله
كافر (1).
وتبعه المصنف في ذلك لوجهين:
1 - شهادة المجلسي (رحمه الله) في البحار بدخولها في السحر عند أهل
الشرع، فتشملها الاطلاقات.
2 - دعوى فخر الدين في الإيضاح كون حرمتها من ضروريات الدين،
وهذا الوجه يوجب الاطمينان بالحكم وباتفاق العلماء عليه في جميع
الأعصار.
أما الوجه الأول فيرد عليه أولا: أنه لا حجية في شهادة المجلسي
لاستناده إلى اجتهاده، وقد اعترف به المصنف أيضا فيما سيأتي، فقد
قال: لكن الظاهر استناد شهادتهم إلى الاجتهاد.
وثانيا: أنا لم نجد في كلام المجلسي شهادة على كون الأقسام
المذكورة من السحر عند عرف الشارع، فإنه قال: إن لفظ السحر في عرف
الشرع مختص بكل مخفي سببه ويتخيل على غير حقيقته، ويجري
مجرى التمويه والخداع، ثم ذكر الأنواع المتقدمة، وأي شهادة في ذلك
على مقصود المصنف.
وثالثا: أنك قد عرفت خروج كثير من الأقسام المزبورة، بل كلها عن

1 - إيضاح الفوائد 1: 405.
460

حقيقة السحر، بل يكفي الشك في منع شمول الاطلاقات لها، لعدم
جواز التمسك بها عند الشك في الصدق.
ورابعا: ما ذكره المصنف فيما سيأتي من معارضة شهادة المجلسي
بما ذكره الفخر، من اخراج علمي الخواص والحيل من السحر، وبما
ذكره صاحب المسالك (1) وغيره من تخصيصهم السحر بما يحدث ضررا،
وبما ذكره العلامة من تخصيصه السحر بما يؤثر في بدن المسحور أو قلبه
أو عقله، وهذه الشهادات من هؤلاء الأعيان تكشف عن عدم العموم في
لفظ السحر لجميع ما تقدم، وعن كون الاطلاق في جملة منها مجازا.
ومن هنا ظهر الجواب عن الوجه الثاني أيضا، على أن الدعوى
المذكورة لا توجب الاطمينان بالحكم إلا في المورد المتيقن، كالاضرار
بالمسحور في عقله أو بدنه أو ماله، أو ما يرجع إليه من شؤونه، وأما في
غير الموارد المتيقنة فإنه لا دليل على حرمة الاستعانة بالأمور المتقدمة،
بل ربما تكون مطلوبة لابطال سحر مدعي النبوة والإمامة، ومع الشك فيه
فأصالة البراءة محكمة.
عدم اختصاص حرمة السحر بالمضر منه:
هل تختص حرمة السحر بالمضر منه أو تعم غير المضر أيضا؟ فيه
خلاف، فالمحكي عن الشهيدين في الدروس (2) والمسالك (3) أن المعتبر
في السحر الاضرار، وعن شارح النخبة: أن ما كان من الطلسمات مشتملا
على اضرار أو تمويه على المسلمين أو الاستهانة بشئ من حرمات الله

1 - المسالك 3: 128.
2 - الدروس 3: 163.
3 - المسالك 3: 128.
461

فهو حرام، سواء عد من السحر أم لا، وعن جملة من الأكابر: أنه حرام
مطلقا سواء أكان مضرا أم لا، تمسكا بظاهر الاطلاقات المتقدمة.
ومن هنا ظهر أنه لا وجه لتقييد السحر بما كان مؤثرا في بدن المسحور
أو عقله أو قلبه من غير مباشرة، كما عرفته عن العلامة في القواعد.
وقد يستدل على اختصاص حرمة السحر بالمضر منه ببعض
الروايات الواردة في قصة هاروت وماروت، وسيأتي ذكرها.
وفيه أولا: أن هذه الروايات ضعيفة السند.
وثانيا: أنه لا تنافي بينها وبين المطلقات الدالة على حرمة السحر
مطلقا.
قوله: فمثل احداث حب مفرط في الشخص يعد سحرا.
أقول: الوجه فيه ما ورد في بعض الأحاديث من تشديد النبي (صلى الله عليه وآله)
المرأة التي صنعت ذلك لزوجها واستقباله إياها باللعن والتوبيخ وحكمه
عليها بعدم قبول التوبة (1).
وفيه أولا: أنه ليس في الرواية ما يدل على كون المصنوع سحرا.

1 - عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لامرأة سألته أن لي زوجا وبه علي غلظة وإني صنعت شيئا لأعطفه علي، فقال لها
رسول الله (صلى الله عليه وآله): أف لك، كدرت البحار، وكدرت الطين، ولعنتك الملائكة الأخيار، وملائكة
السماوات والأرض، قال: فصامت المرأة نهارها، وقامت ليلها، وحلقت رأسها، ولبست
المسوح، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: إن ذلك لا يقبل منها (الفقيه 3: 282، عنه الوسائل
20: 247)، موثقة للسكوني.
وقريب منها ما في الجعفريات (الجعفريات: 99، عنه المستدرك 14: 297)، مجهولة
لموسى بن إسماعيل.
أقول: المسح - بكسر الميم - البلاس يقعد عليه والكساء من شعر، وما يلبس من نسيج
الشعر على البدن تقشفا وقهرا، ج أمساح ومسوح.
462

وثانيا: أن العمل بها يقتضي حرمة ادخال الزوجة حبها في قلب
الزوج، وإن كان ذلك بالأخلاق الحسنة والأفعال المرضية، مع أنه
مطلوب في الشريعة المقدسة، وقد أمر به في الأخبار المتظافرة بل
المتواترة المذكورة في أبواب مقدمات النكاح، وعليه فلا بد من حمل
الرواية على كون المصنوع أمرا غير مشروع يوجب تكدر البحار والطين
واستحقاق المرأة باللعن.
وثالثا: أن الرواية مخالفة للقواعد، فإنها مشتملة على عدم قبول التوبة
من المرأة التي صنعت لزوجها شيئا يوجب المحبة والعطف، مع أن
الثابت في الاسلام جواز توبة المرأة المرتدة، سواء أكانت فطرية أم ملية،
ومن المقطوع به أن سحرها لا يزيد على الارتداد.
ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أن الرواية ضعيفة السند.
جواز دفع ضرر السحر بالسحر:
قوله: بقي الكلام في جواز دفع ضرر السحر بالسحر.
أقول: وقد يستدل على الجواز بالروايات الواردة في قصة هاروت
وماروت (1) وغيرها، فإنها تدل على جواز دفع ضرر السحر بالسحر.

1 - علي عن أبيه قال: حدثني شيخ من أصحابنا، قال: دخل عيسى بن سيفي - وفي
نسخة الكافي: شفقي - على أبي عبد الله (عليه السلام) وكان ساحرا يأتيه الناس، ويأخذ على ذلك
الأجر وسأله عن ذلك، قال (عليه السلام): حل ولا تعقد (الكافي 5: 115، الفقيه 3: 110، التهذيب
6: 364، قرب الإسناد: 25، عنهم الوسائل 17: 146)، مرسلة.
أقول: ظاهر الرواية أن الحل والعقد كليهما بالسحر، فحمل الحل على ما كان بغير السحر
من الأدعية ونحوها بعيد عنها.
وفي قصة الملكين ما يدل على جواز دفع ضرر السحر بالسحر (عيون الأخبار 1: 266، عنه
الوسائل 17: 147)، ولكن الرواية مرسلة.
عن العيون في رواية العسكري (عليه السلام) ما يدل على ذلك (عيون الأخبار 1: 266، عنه
الوسائل 17: 147)، ولكنها مجهولة.
وفي رواية جهم عن الرضا (عليه السلام) في حديث قال: وأما هاروت وماروت فكانا ملكين علما
الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة ويبطلوا به كيدهم - الحديث (عيون الأخبار 1: 271،
عنه الوسائل 17: 147)، مجهول.
463

وفيه: أنها وإن كانت ظاهرة الدلالة على ذلك، ولكنها ضعيفة السند
فلا يمكن الاستناد إليها.
نعم يمكن الاستدلال على الجواز بالآية الواردة في قصة هاروت
وماروت (1)، بتقريب أن السحر لو لم يكن جائز الاستعمال حتى في مقام
دفع الضرر لم يجز تعليمه أصلا، فجواز التعليم يدل على جواز العمل به
في الجملة، والقدر المتيقن منه هو صورة دفع ضرر الساحر.
وكيف كان فلا ريب في أنه قد يجب إذا توقفت عليه مصلحة ملزمة،
كما إذا ادعى الساحر منصبا من المناصب الإلهية كالنبوة والإمامة.
التسخير ليس من السحر:
وقد يقال بأن من السحر التسخيرات بأقسامها، حتى تسخير
الحيوانات، بدعوى أن تعاريف السحر صادقة عليها، حتى أن
الشهيدين (2) مع أخذهما الاضرار في تحريم السحر ذكروا أن استخدام

1 - البقرة: 96، قوله تعالى: وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان
من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.
2 - الدروس 3: 163، المسالك 3: 128.
464

الملائكة والجن من السحر، وعليه فتشملها الاطلاقات المتقدمة الدالة
على حرمة السحر بجميع شؤونه.
وفيه: أنك قد عرفت خروج الاستعانة بالأرواح الأرضية واستخدام
الجن من السحر موضوعا وحكما، وحينئذ فإن انطبق على ذلك شئ
من العناوين المحرمة حكم عليه بالحرمة لتلك الجهة المحرمة لا لكونه
سحرا.
كما إذا اشتملت التسخيرات على المقدمات المحرمة، أو كان
المسخر - بالكسر - لعمله ذلك عرضا للتضرر أو التلف أو الجنون، أو
لارتكاب شئ آخر من الأمور غير المشروعة، أو كان المسخر - بالفتح -
مؤمنا من الإنس أو ملكا، وكان التسخير ظلما عليهم، ومع انتفاء العناوين
المحرمة فلا وجه للحرمة، كتسخير الكفار من الإنس والجن، وإن
اشتمل ذلك على ايذائهم، وإلا لما جاز قتل الكفار وأخذ الجزية منهم
وهم صاغرون.
وكذلك يجوز تسخير الحيوانات مطلقا، خصوصا المؤذيات منها،
كالعقارب والحيات والسباع، وإلا لما جاز استخدام الحمولة وقتل
المؤذيات منها.
وقد أجاد المحقق الإيرواني حيث قال: فالأمر في تسخير الحيوانات
أوضح، فهل يمكن الالتزام بجواز تسخير الحيوانات بالقهر والغلبة
والضرب، ومع ذلك لا يجوز تسخيرها بما يوجب دخولها تحت الخدمة
طوعا (1).

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 28.
465

المسألة (11)
الشعوذة
قوله: الحادية عشرة: الشعبذة حرام بلا خلاف.
أقول: الشعوذة (1)، هي اللعبة المعروفة، أعني الخفة في الحركة المعبر
عنها في لغة الفرس بكلمة: تردستي، وأما الذي يترتب على الشعوذة
فهو أمر واقعي، فإن المشعوذ يفعل ما يفعله سائر الناس من الأمور
العادية، إلا أنه يشغل أذهان الناظرين بسرعة حركته وخفة يده، بحيث
يتعجبون من أفعاله، من غير أن تكون تلك الأفعال الصادرة منه خيالية
محضة كما في السحر، أو غير جارية على السير الطبيعي كما في
المعجزات، على ما عرفت من التفرقة بينها وبين السحر والمعجزة في
المسألة السابقة.
ويمكن أن تكون الشعوذة أعم من السحر، ويظهر ذلك من ملاحظة ما
ذكره بعض اللغويين مع ملاحظة ما ذكرناه في معنى الشعوذة بحسب

1 - في لسان العرب: الشعوذة خفة في اليد وأخذ كالسحر يرى الشئ بغير ما هو عليه
أصله في رأي العين، والشعوذة السرعة، وقيل: هي الخفة في كل أمر (لسان العرب 3: 495).
وعن المصباح: شعوذ الرجل شعوذة، ومنهم من يقول: شعبذه شعبذة، وهو بالذال
المعجمة، وليس من كلام أهل البادية، وهي لعب يرى الانسان ما ليس له حقيقة كالسحر
(المصباح: 314).
وفي أقرب الموارد: الشعبذة كشعوذة زنة ومعنى، وفيه أيضا الشعوذة، وهي خفة في اليد
وأخذ كالسحر، يرى الشئ في رأي العين بغير ما عليه أصله.
وفي المنجد: الشعبذة كشعوذة زنة ومعنى، وفيه أيضا الشعوذة وهي خفة في اليد وأعمال
كالسحر ترى الشئ في العين بغير ما هو عليه (المنجد: 388).
وفي مجمع البحرين: الشعبذة هي الحركة الخفيفة (مجمع البحرين 2: 90).
466

المتفاهم العرفي، ولكن الظاهر هو ما ذكرناه من المبائنة بينهما.
وقد استدل المصنف (رحمه الله) على حرمة الشعوذة بأمور:
1 - الاجماع.
وفيه: أنه ليس هنا اجماع تعبدي، لاحتمال استناده إلى سائر الوجوه
المذكورة في المسألة.
2 - أنه من اللهو والباطل.
وفيه: أنه ممنوع صغرى وكبرى، أما الوجه في منع الصغرى فلأنا
لا نسلم كونها من اللهو والباطل إذا ترتب عليها غرض عقلائي، وأما
الوجه في منع الكبرى فلأنه لا دليل على حرمتهما على الاطلاق، بل
الحرام منهما هو القسم الخاص.
3 - قوله (عليه السلام) في خبر الاحتجاج: ونوع آخر منه خطفة وسرعة
ومخاريق وخفة.
وفيه أولا: أنه ضعيف السند وغير منجبر بشئ، وقد تقدم ذلك آنفا،
وأما جبره بالاجماع المحكي، فإن الاجماع إن كان حجة في نفسه لزم
اتباعه لذلك وإلا فإن ضم غير الحجة إلى مثله لا يفيد الاعتبار.
4 - صدق بعض تعاريف السحر على الشعوذة، فتكون مشمولة لما دل
على حرمة السحر.
وفيه: أنك قد عرفت خروجها عن حدود السحر موضوعا وعدم
صدقه عليها.
المسألة (12)
الغش حرام
قوله: الثانية عشرة: الغش حرام بلا خلاف.
467

أقول: لا شبهة في حرمة غش المسلم في الجملة بلا خلاف بين
الشيعة وأهل السنة (1)، لتواتر الروايات من طرقنا، ومن طرق العامة (2)،

1 - في فقه المذاهب: نهي عن الغش والتدليس ومدح السلعة بما ليس فيها، وكتم ما بها
من عيب ونحو ذلك (فقه المذاهب الأربعة 2: 284).
2 - عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس منا من غشنا (الكافي 5: 160،
التهذيب 7: 12، عنهما الوسائل 17: 279)، صحيحة.
وبهذا الاسناد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل يبيع التمر: يا فلان
أما علمت أنه ليس من المسلمين من غشهم (الكافي 5: 160، التهذيب 7: 12، عنهما الوسائل
17: 279)، صحيحة.
وعن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: دخل عليه رجل يبيع الدقيق فقال: إياك والغش،
فإن من غش غش في ماله، فإن لم يكن له مال غش في أهله (الكافي 5: 160، التهذيب 7: 12،
عنهما الوسائل 17: 281)، مرسلة.
وعن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أن يشاب اللبن بالماء
للبيع (الكافي 5: 160، الفقيه 3: 173، التهذيب 7: 12، عنهم الوسائل 17: 280)، موثقة
للسكوني.
وعن هشام بن الحكم قال: كنت أبيع السابري في الظلال، فمر بي أبو الحسن موسى (عليه السلام)
فقال لي: يا هشام إن البيع في الظلال غش، والغش لا يحل (الكافي 5: 160، الفقيه 3: 172،
التهذيب 7: 13، عنهما الوسائل 17: 280)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
أقول: السابري ثوب رقيق جيد.
عن زينب العطارة الحولاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا بعت فأحسني ولا تغشي، فإنه أنقى لله
وأبقى للمال (الكافي 8: 153، الفقيه 3: 173، عنهما الوسائل 17: 281)، حسنة للحسين بن
زيد.
في حديث المناهي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ومن غش مسلما في شراء أو بيع فليس
منا، ويحشر يوم القيامة مع اليهود، لأنهم أغش الخلق للمسلمين (الفقيه 4: 8، عنه الوسائل
17: 282)، مجهولة لشعيب بن واقد.
عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يكون عنده لونان من طعام واحد
وسعرهما شتى، وأحدهما خير من الآخر، فيخلطهما جميعا ثم يبيعهما بسعر واحد، فقال:
لا يصلح له أن يفعل ذلك يغش به المسلمين حتى يبينه (الكافي 5: 183، الفقيه 3: 129، التهذيب
7: 34، عنهم الوسائل 18: 112)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المتقدمة.
أما في روايات العامة، فراجع سنن البيهقي 5: 320.
468

بل هي من ضروريات مذهب المسلمين.
والعجب من المحقق الإيرواني حيث ألغى عنوان الغش عن
الموضوعية والتزم بحرمته للعناوين الثانوية، من الكذب وأكل أموال
الناس بلا رضى منهم (1).
ولا ريب أن الروايات حجة عليه، لظهورها في حرمة الغش في نفسه،
فإذا تحقق موضوعه في مورد ترتب عليه حكمه، كسائر القضايا
الحقيقية، وسيأتي أن موضوع الغش أمر عرفي.
فقد ظهر أنه لا وجه لما ارتكبه المحقق المذكور من السبر والتقسيم
في نفي موضوعية الغش، بدعوى أنه لا دليل على حرمة شوب اللبن
بالماء، ولا على حرمة عرض المشوب على البيع، ولا على حرمة مجرد
الانشاء، فتعين أن يكون الغش المحرم أخذ قيمة غير المغشوش بإزاء
المغشوش.
موضوع الغش:
لا شك في أن الغش ليست له حقيقة شرعية ولا متشرعية، بل المراد به

1 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 29.
469

ما جرى عليه العرف واللغة (1)، من كونه بمعنى الكدر والخديعة
والخيانة، ويعبر عنه في لغة الفرس بكلمة: گول زدن، ولا يتحقق ذلك
إلا بعلم الغاش وجهل المغشوش، فإذا كان كلاهما عالمين بالواقع أو
جاهلين به، أو كان الغاش جاهلا والمغشوش عالما انتفى مفهوم الغش.
ثم إنه لا يعتبر في مفهوم الغش انحصار معرفته بالغاش، فإن أكثر أفراد
الغش يعرفه نوع الناس بإمعان النظر، خصوصا من كان من أهل الفطانة
والتجربة، ومن كان شغله الغش، فإنه لا شبهة أن من الغش جعل الجيد من
الحبوب على ظاهر الصبرة ورديه في باطنها، وبيع الأمتعة في الظلال، و
من الواضح أن نوع الناس يلتفتون إلى الغش في أمثال ذلك بتدقيق النظر،
ولو اختص مفهوم الغش بما انحصر طريق معرفته بالغاش لم يبق له إلا
مورد نادر.
نعم قد تنحصر معرفته بالغاش كمزج اللبن بالماء، وخلط الدهن
الجيد بالدهن الردي، ووضع الحرير ونحوه في مكان بارد ليكتسب ثقلا،
وبيع الحيوان مسموما لا يبقى أزيد من يوم ويومين، وغير ذلك من
الموارد التي لا يطلع على الغش إلا خصوص الغاش فقط، ولكن هذا
لا يوجب اختصاص الغش بتلك الموارد وعدم تحقق مفهومه في غيرها.
وقد ظهر مما ذكرناه أن الغش لا يصدق لغة ولا عرفا على الخلط

1 - في لسان العرب: الغش نقيض النصح، وهو مأخوذ من الغشش المشرب الكدر، أنشد
ابن الأعرابي: ومنهل تروي به غير غشش، أي غير كدر ولا قليل، قال: ومن هذا الغش في
البياعات (لسان العرب 6: 323).
وفي مجمع البحرين: المغشوش الغير الخالص (مجمع البحرين 4: 145).
وفي المنجد: غشه أظهر له خلاف ما أضمره، وخدعه، الغش بالكسر اسم من الغش،
بالفتح الخيانة، المغشوش غير الخالص (المنجد: 550).
470

الظاهر الذي لا تحتاج معرفته إلى إمعان النظر، فإذا مزج الردي بالجيد
مزجا يعرفه أي ناظر إليه من الناس بغير تدقيق النظر، وجعل الردي في
ظاهر الصبرة والجيد في باطنها فإن ذلك لا يكون غشا، ويدل على ذلك
بعض الأحاديث (1).
تذييل:
إن ظاهر المطلقات المتقدمة هو حرمة الغش على وجه الاطلاق،
سواء أكان في المعاملة أم في غيرها، إلا أنه لا بد من صرفها إلى خصوص
المعاملات في الجملة، بداهة أنه لا بأس بتزيين الدور والألبسة والأمتعة
لإراءة أنها جديدة مع أنها عتيقة، وكذلك لا بأس باطعام الطعام
المغشوش، وسقي اللبن الممزوج للضيف وغيره، وبذل الأموال
المغشوشة للفقراء، بل يمكن دعوى عدم صدق الغش في هذه الموارد
أو في بعضها.
نعم لو أخبر بموافقة الظاهر في ذلك للواقع كان حراما من جهة الكذب،
سواء كان اخباره قوليا أم فعليا، وهو أجنبي عما نحن فيه.
لا يعتبر في صدق الغش قصد مفهومه:
قوله: ويمكن أن يمنع صدق الأخبار المذكورة إلا على ما قصد التلبيس.
أقول: ظاهر المصنف أنه يعتبر في حقيقة الغش قصد مفهومه من
التلبيس والخديعة، وأما ما يكون ملتبسا في نفسه فلا يجب عليه

1 - عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) أنه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض وبعضه
أجود من بعض قال: إذا رؤيا جميعا فلا بأس ما لم يغط الجيد الردي (الكافي 5: 183، التهذيب
7: 33، عنهما الوسائل 18: 112)، صحيحة.
ويظهر ذلك من بعض الروايات المتقدمة الدالة على حرمة الغش.
471

الاعلام به.
وفيه: أنه لا دليل على اعتبار القصد بمعنى الداعي في مفهوم الغش،
بداهة كونه من الأمور الواقعية، وهي لا تختلف باختلاف الدواعي
كالأمور القصدية، وإنما المعتبر فيه علم البائع بالخلط مع جهل
المشتري إياه.
وعليه فإذا اختلط الجيد بالردي أو امتزج اللبن بالماء بغير اختيار من
المالك ولا رضى وباعهما بدون التنبيه، كان ذلك أيضا غشا محرما
لاطلاق الروايات، وعدم دلالة شئ منها على اعتبار القصد في تحقق
الغش.
ومما ذكرناه ظهر بطلان ما في الرياض، من قوله: ثم لو غش لا بقصده
بل بقصد اصلاح المال لم يحرم للأصل، واختصاص ما مر من النص
بحكم التبادر بصورة القصد.
حكم المعاملة المشتملة على الغش من حيث الصحة أو الفساد:
قوله: ثم إن في جامع المقاصد (1) ذكر في الغش بما يخفى بعد تمثيله له بمزج اللبن
بالماء وجهين في صحة المعاملة وفسادها.
أقول: ضابط الصحة والفساد في المقام هو ما حققناه في البحث عن
بيع الدراهم المغشوشة وغيره، واجماله:
إن المبيع أما أن يكون كليا ويكون الغش في الفرد المقبوض، كما إذا
باع منا من الحنطة الجيدة ودفع عنها حنطة مغشوشة، فإنه لا شبهة في
صحة البيع في هذه الصورة، لعدم كون الغش في البيع، وإنما هو في

1 - جامع المقاصد 4: 25.
472

تطبيق المبيع الكلي على الفرد الخارجي، فللمشتري تبديله بغيره.
وأما أن يكون المبيع شخصيا، وهو على أقسام، لأن الأوصاف
المأخوذة في المبيع قد تكون من قبيل الصورة النوعية في نظر العرف،
ولا شبهة في بطلان البيع في هذه الصورة إذا ظهر المبيع مغشوشا، كما إذا
باع فلزا على أنه ذهب فبان مذهبا، ووجه البطلان أن ما وقع عليه العقد
ليس بموجود وما هو موجود لم يقع عليه العقد.
وقد تكون الأوصاف المأخوذة فيه من قبيل وصف الكمال أو الصحة،
كما إذا باع عبدا على أنه كاتب أو نجار أو بصير، فبان أنه لا يحسن الكتابة
والنجارة أو أنه أعمى.
وحينئذ فإن كان العقد معلقا على الوصف بحيث ينتفي البيع مع انتفاء
الوصف فهو باطل للتعليق المجمع على كونه مبطلا للعقد، وإن كان
مشروطا بالوصف حكم بالصحة، وعليه فإذا كان التخلف في الأوصاف
الكمالية ثبت خيار تخلف الشرط للمشتري، وإذا كان التخلف في
وصف الصحة كان المشتري مخيرا بين الأمور الثلاثة الفسخ أو الامضاء
بدون الأرش أو الامضاء معه.
وقد يكون المبيع المجموع المركب من جزئين أو من أجزاء، وهو
على قسمين:
أحدهما: أن يكون للهيئة الاجتماعية دخل في ازدياد الثمن، بأن كانت
واسطة في زيادة مالية المبيع وإن لم يقابلها بنفسها جزء من الثمن، كما هو
الشأن في عامة الأوصاف حتى ما كان من قبيل الصور النوعية، وعليه
فلا شبهة في بطلان البيع في الجزء الفائت وكون المشتري مخيرا في
الباقي بين الفسخ والامضاء.
ومثاله أن يبيع دورة البحار فيظهر أن أحد الأجزاء التي وقع عليها البيع
473

كتاب لغة، أو يبيع مصراعي الباب فيبين أنه مصراع واحد، أو يبيع زوجي
الخف فيبين أنه فرد واحد، أو يبيع عدلي الغرارة - أي الجوالق - فيبين أنه
عدل واحد، وغير ذلك من الأمثلة، فإنه لا شبهة في دخل الهيئة
الاجتماعية في زيادة المالية في الأمور المذكورة، فيترتب عليها الحكم
المزبور.
وثانيهما: أن لا يكون للهيئة الاجتماعية مساس في زيادة مالية المبيع
أصلا بل كان الانضمام كوضع الحجر في جنب الانسان
وعليه فلا شبهة في صحة البيع ولزومه بالنسبة إلى الجزء الموجود
من دون أن يثبت للمشتري خيار تخلف الوصف، كما إذا باع صبرة حنطة
بدينارين على أنها وزنتان، فوجد نصفها ترابا فيصح البيع في الوزنة
الموجودة ويبطل في الأخرى، فإن مرجع ذلك إلى بيع كل وزنة من هذه
الحنطة بدينار.
ومن هنا ظهر ما في كلام المصنف، من أن الغش إن كان من قبيل
التراب الكثير في الحنطة كان له حكم تبعض الصفقة ونقص الثمن بمقدار
التراب الزائد.
ومن جميع ما ذكرناه يظهر ضعف كلام الشهيد، حيث قال في شرائط
الاقتداء من الذكرى: الثالث: يشترط القصد إلى إمام معين - إلى أن قال: -
ولو نوى الاقتداء بالحاضر على أنه زيد فبان عمروا ففي ترجيح الإشارة
على الاسم فيصح أو بالعكس فيبطل نظر، نظير أن يقول المطلق لزوجة
اسمها عمرة: هذه - هنا - زينب طالق، ويشير البايع إلى حمار فيقول:
بعتك هذا الفرس (1).
ومنشأ التردد في ذلك تغليب الإشارة أو الوصف، ويضاف إلى ما

1 - الذكرى: 271.
474

ذكرناه أنك قد عرفت في مبحث التطفيف أن البيع من الأمور القصدية
فلا معنى لتردد المتبايعين فيما قصداه.
وكذلك ظهر بطلان ما استدل به القائلون بالفساد مطلقا، من أن العقد
لم يتعلق بذات المبيع بأي عنوان اتفق بل تعلق بالمبيع بعنوان أنه غير
مغشوش، فإذا ظهر الغش فقد ظهر أن ما هو المبيع غير موجود وما هو
موجود غير المبيع.
ووجه البطلان أنه إنما يتم فيما إذا كانت الأوصاف المختلفة من قبيل
الصور النوعية لا مطلقا، وقد أوضحنا ذلك فيما تقدم.
وقد يستدل على الفساد بوجوه أخر، قد أشار إليها المصنف:
1 - النهي الوارد عن بيع المغشوش، فإنه يدل على فساده.
وفيه: أنا لم نجد ما يدل على النهي عن بيع المغشوش في نفسه غير
خبر موسى بن بكر وخبر الجعفي، وسيجئ الكلام عليهما.
2 - النهي عن الغش الوارد في الروايات الكثيرة، وقد تقدم ذكرها في
الحاشية، ومن الواضح أن الغش متحد مع البيع كما تدل عليه رواية هشام
المتقدمة: أما علمت أن البيع في الظلال غش، فيدل على الفساد.
وفيه: أن النهي إنما تعلق بالغش وهو أمر خارج عن البيع، والنهي إذا
تعلق بأمر خارج عن الشئ لا يدل على فساد ذلك الشئ، وقد حقق
ذلك في محله، وأما رواية هشام فهي لا تدل على أزيد من ذلك خصوصا
بعد ملاحظة قوله (عليه السلام) في ذيلها: والغش لا يحل، فإنه ظاهر في
الحكم التكليفي فقط.
3 - خبر موسى بن بكر عن أبي الحسن (عليه السلام) فإنه: أخذ دينارا من
الدنانير المصبوبة بين يديه فقطعها بنصفين، ثم قال: القه في البالوعة حتى
475

لا يباع شئ فيه غش (1)، فإن تعليله (عليه السلام) ذلك بأن لا يقع بيع على شئ
فيه غش يدل على فساد هذه المعاملة، ونظير ذلك خبر الجعفي (2).
قد تقدم الكلام عليهما في البحث عن بيع الدراهم المغشوشة، مع
أنهما ضعيفتا السند كما تقدم في المبحث المذكور.
المسألة (13)
حرمة الغناء
قوله: الثالثة عشرة: الغناء، لا خلاف في حرمته في الجملة.
أقول: لا خلاف في حرمة العناء في الجملة بين الشيعة، وأما العامة
فقد التزموا بحرمته لجهات خارجية (3) وإلا فهو بنفسه أمر مباح عندهم.
قال في المستند (4) بعد أن ذكر موضوع الغناء: فلا خلاف في حرمة ما

1 - الكافي 5: 160، التهذيب 7: 12، عنهما الوسائل 17: 280.
2 - التهذيب 7: 109، الإستبصار 3: 97.
3 - في فقه المذاهب: فالتغني من حيث كونه ترديد الصوت بالألحان مباح لا شئ فيه،
ولكن قد يعرض له ما يجعله حراما أو مكروها، وعلى هذا المنهج تفصيل المذاهب الأربعة، ثم
قال: فما عن أبي حنيفة من أنه يكره الغناء ويجعل سماعه من الذنوب، فهو محمول على النوع
المحرم منه (فقه المذاهب الأربعة 2: 42).
نقل الغزالي في الاحياء عن الشافعي: لا أعلم أحدا من علماء الحجاز كره السماع، وقد
استدل الغزالي على الجواز برقص الحبشة والزنوج في المسجد النبوي يوم عيد وأقرهم
الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثم ذكر أن حرمة الغناء من جهة المحرمات الخارجية، راجع فقه المذاهب
الأربعة 2: 43)
أقول: قد تظافرت الأحاديث من طرقهم في حول الغناء اثباتا ونفيا، راجع سنن البيهقي 10
: 221 - 230
4 - المستند 2: 340.
476

ذكرناه أنه غناء قطعا، ولعل عدم الخلاف بل الاجماع عليه مستفيض بل
هو اجماع محقق قطعا، بل ضرورة دينية، وفي متاجر الرياض: بل عليه
اجماع العلماء كما حكاه بعض الأجلاء، وهو الحجة (1).
وغير ذلك من كلمات الأصحاب المشتملة على دعوى الاجماع
والضرورة على حرمة الغناء.
ويدل على حرمته وجوه:
1 - قيام الاجماع عليها محصلا ومنقولا،
وفيه: أن دعوى الاجماع على الحرمة في الجملة وإن لم تكن جزافية،
بل في كلمات غير واحد من الأعلام دعوى الضرورة عليها، إلا أنه ليس
اجماعا تعبديا، فإن من المحتمل القريب استناد المجمعين إلى الآيات
والروايات الدالة على حرمة الغناء.
2 - جملة من الآيات الكريمة ولو بضميمة الروايات:
منها: قوله تعالى: واجتنبوا قول الزور (2)، ومنه الغناء للروايات
الواردة في تطبيقه عليه (3).

1 - رياض المسائل 1: 499.
2 - الحج: 31.
3 - عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: واجتنبوا قول الزور، قال:
هو الغناء (الكافي 6: 431، عنه الوسائل 17: 305)، ضعيفة لسهل.
عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قول الزور الغناء (الكافي 6: 431، عنه الوسائل
17: 305)، ضعيف لدرست بن منصور.
وعن ابن أبي عمير مثله مرسلا (الكافي 6: 431، عنه الوسائل 17: 305).
وعن معاني الأخبار: قول الزور الغناء (معاني الأخبار: 349، عنه الوسائل 17: 308)،
ضعيف لمظفر العلوي.
وعن تفسير علي بن إبراهيم مثله (تفسير علي بن إبراهيم 2: 84)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
وعن الصدوق مثله مرسلا (المقنع: 54، عنه المستدرك 13: 214).
477

ولا فرق في هذه النتيجة بين كون الغناء نفسه من مقولة الكلام أو هو
كيفية مسموعة تقوم به، لاتحادهما في الخارج على كل حال، فلا وجه
للخدشة في الروايات الواردة في تفسير الآية بأن مقتضاها أن الغناء من
مقولة الكلام مع أنه كيفية تقوم به.
ومنها: قوله تعالى: ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن
سبيل الله (1)، فقد ذكرت عدة من الروايات أن الغناء من مصاديق لهو
الحديث الذي حرمته الآية الكريمة (2)، بل نسبه الطبرسي إلى أكثر
المفسرين (3)، ولفظ الاشتراء في الآية يجري على ضرب من المجاز، أو
على بعض التعاريف التي يذكرها فريق من اللغويين، وقد تقدم ذلك فيما
سبق.

1 - لقمان: 5.
2 - عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الغناء مما وعد الله عليه النار، وتلا هذه
الآية (الكافي 6: 431، عنه الوسائل 17: 304)، حسنة لإبراهيم وعلي بن إسماعيل.
وعن مهران بن محمد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الغناء مما قال الله: ومن
الناس - الآية (الكافي 6: 431، عنه الوسائل 17: 304)، مجهولة لمهران.
وعن الوشاء قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الغناء فقال: هو
قول الله: ومن الناس - الآية، ضعيفة لسهل (الكافي 6: 432، عنه الوسائل 17: 306).
وفي سنن البيهقي عن ابن مسعود قال: ومن الناس من يشتري - الآية، قال: هو والله
الغناء (سنن البيهقي 10: 223).
وفي المستدرك 13: 212 - 215 أخرج جملة من الروايات في تطبيق الآية على الغناء،
ولكنها ضعيفة السند.
3 - مجمع البيان ط صيدا 4: 312.
478

فلا ضير في أن يتعلق بلهو الحديث وبالغناء، كما ذكرته الروايات،
وإن لم يكونا من الأعيان.
ومنها: قوله تعالى: والذين هم عن اللغو معرضون (1)، بضميمة ما
في تفسير القمي، من تطبيق الآية على الغناء (2).
ومنها: قوله تعالى: والذين لا يشهدون الزور (3)، فإنه قد ورد في
بعض الأحاديث تفسير الزور في الآية بالغناء (4)، ويؤيده ما تقدم من
الروايات في قوله تعالى: واجتنبوا قول الزور.
والروايات المذكورة في تفسير الآيات المزبورة وإن كان أكثرها
ضعيف السند إلا أن في المعتبر منها غنى وكفاية.
وقد أورد في المستند على دلالة الآيات على حرمة الغناء بأن
الروايات الواردة في تفسيرها بالغناء معارضة بما ورد في تفسيرها بغيره.
وفيه: أن الأحاديث المذكورة في تفسير القرآن كلها مسوقة لتنقيح
الصغرى وبيان المصداق، فلا تدل على الانحصار بوجه حتى تقع
المعارضة بينهما، وقد أشرنا إلى هذا فيما سبق مرارا، وتكلمنا عليه في
البحث عن مقدمات التفسير مفصلا.

1 - المؤمنون: 3.
2 - فيه: والذين هم عن اللغو معرضون عن الغناء والملاهي (تفسير القمي 2: 88).
3 - الفرقان: 72.
4 - عن أبي الصباح عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله تعالى: والذين لا يشهدون
الزور، قال: الغناء (الكافي 6: 431، عنه الوسائل 17: 304)، صحيحة.
وفي رواية أخرى عنه مثلها (الكافي 6: 433، عنه الوسائل 17: 304)، ولكنها حسنة
لإبراهيم.
في تفسير القمي (2: 117) طبق الآية على الغناء.
479

3 - الروايات (1) الدالة على حرمة الغناء، وحرمة تعليمه وتعلمه
وحرمة التكسب به واستماعه، وأنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت
الماء الخضرة، وأنه يورث الفقر والقساوة، وينزع الحياء، وأنه رقية
الزناء، ويرفع البركة، وينزل البلاء كما نزل البلاء على المغنين من بني
إسرائيل، وأنه مما وعد الله عليه النار وبئس المصير، وأنه غش النفاق،
وأن الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وأن استماع الغناء نفاق وتعلمه
كفر.
وأن صاحب الغناء يحشر من قبره أعمى وأخرس وأبكم، وأن من
ضرب في بيته شيئا من الملاهي أربعين يوما فقد باء بغضب من الله، فإن
مات في أربعين مات فاجرا فاسقا مأواه النار وبئس المصير، وأن من
أصغى إلى ناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان، وأن الغناء أخبث
ما خلق الله وشر ما خلق الله، وأنه يورث الفقر والنفاق، وأن من استمع
إلى الغناء يذاب في إذنه الإفك.
وغير ذلك من المضامين المدهشة التي اشتملت عليها الأخبار
المتواترة والروايات الواردة في حرمة الغناء، وإن كان أكثرها ضعيف
السند ولكن في المعتبر منها غنى وكفاية.
والعجب من المحقق الأردبيلي حيث قال في محكي شرح الإرشاد: ما
رأيت رواية صحيحة صريحة في التحريم، وهو أعرف بمقاله.

1 - راجع الوسائل 17: باب 99 تحريم الغناء، وباب 100 تحريم استعمال الملاهي،
وباب 101 تحريم سماع الغناء مما يكتسب به: 303 - 312، والمستدرك 13: 212 - 215 هذه
الأبواب.
480

رأي المحدث القاساني في حرمة الغناء، والجواب عنه:
قال في الوافي (1) ما حاصله: الذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة في
الغناء هو اختصاص حرمته وحرمة التكسب به، وحرمة تعليمه وتعلمه
واستماعه بما كان متعارفا زمن بني أمية وبني العباس، من دخول الرجال
على النساء وتكلمهن بالأباطيل، ولعبهن بالملاهي على أقسامها، وأما
غير ذلك فلا محذور فيه، وعليه فلا بأس بسماع الغناء بما يتضمن ذكر
الجنة والنار، والتشويق إلى دار القرار، والترغيب إلى الله وإلى عبادته
وطاعته، ثم حمل على هذا كلام الشيخ في الإستبصار، وقد استشهد
على رأيه هذا بوجوه:
1 - مرسلة الفقيه، سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية
لها صوت فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة (2).
2 - رواية أبي بصير قال، قال أبو عبد الله (عليه السلام): أجر المغنية التي تزف
العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال (3).

1 - الوافي 17: 218 - 223.
2 - عن الصدوق قال: سأل رجل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن شراء جارية لها صوت،
فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست
بغناء، فأما الغناء فمحظور (الفقيه 4: 42، عنه الوسائل 17: 122)، مرسلة.
3 - أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات، فقال: التي يدخل عليها
الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عز وجل: ومن الناس
من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله (الكافي 5: 119، التهذيب 6: 358، الإستبصار
3: 62، عنهم الوسائل 17: 120، والآية في لقمان: 6)، ضعيفة لعلي بن أبي حمزة بن سالم
البطائني.
وعنه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها (الكافي
5: 120، التهذيب 6: 357، الإستبصار 3: 62، عنهم الوسائل 17: 121)، مجهولة لحكم الحناط.
481

3 - الروايات (1) المشتملة على مدح الصوت الحسن، وعلى استحباب
قراءة القرآن به وبألحان العرب، وأن لكل شئ حلية وحلية القرآن
الصوت الحسن، وأن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) كان أحسن الناس
صوتا بالقرآن، فإن المستفاد من جميعها جواز الغناء في نفسه، بل
استحبابه في خصوص القرآن وأن حرمته إنما تكون للأمور الخارجية
التي قد تقارنه في الوجود.
أقول: يرد عليه أمور:
1 - إن الظاهر من الروايات المتظافرة بل المتواترة - من حيث المعنى -
الناهية عن الغناء وعن جميع ما يتعلق به، هو تحريمه بنفسه مع قطع
النظر عن اقترانه بسائر العناوين المحرمة، وقد عرفت جملة منها في
الهامش، وعرفت مصادرها فراجع.
2 - إنه إذا كان تحريم الغناء إنما هو للعوارض المحرمة كان الاهتمام
بالمنع عنه في هذه الروايات لغوا محضا، لورود النهي عن سائر
المحرمات بأنفسها.
3 - إن ما استشهد به على مقصده لا يفي بمراده:
أما مرسلة الفقيه فمضافا إلى ضعف السند فيها أنها أجنبية عن الغناء
نفيا واثباتا كما تقدم في بيع الجارية المغنية.
وأما رواية أبي بصير فإنها وإن كانت صحيحة إلا أنها لا دلالة فيها على
مقصد المحدث المذكور، فإن غاية ما يستفاد منها ومن رواية أخرى
لأبي بصير أنه لا بأس بأجر المغنية التي تدعى إلى العرائس ولا يدخل

1 - سنشير إلى مصادرها في البحث عن مستثنيات الغناء.
482

عليها الرجال، أما الغناء في غير زف العرائس فلا تعرض في الروايتين
لحكمه.
وأما الروايات الواردة في قراءة القرآن بصوت حسن فلا صلة لها
بالمقام، إذ لا ملازمة بين حسن الصوت وبين الغناء بل بينهما عموم من
وجه، فيقع التعارض في مورد الاجتماع، وتحمل الطائفة المجوزة على
التقية، لما عرفت من ذهاب العامة إلى جواز الغناء في نفسه، على أن هذه
الروايات ضعيفة السند وستأتي الإشارة إلى ذلك.
ويضاف إلى ذلك كله أن ما ذهب إليه المحدث المذكور مخالف
للاجماع بل الضرورة من مذهب الشيعة، وقد عرفت ذلك في أول
المسألة.
ثم إن هذا القول نسب إلى صاحب الكفاية، ولكنه بعيد، فإن
المتأخرين عنه نسبوا إليه استثناء الغناء في القرآن (1)، ومن الواضح أن
ذلك فرع الالتزام بحرمة الغناء.
وقد يستدل على ما ذهب إليه القاساني برواية قرب الإسناد، عن
علي بن جعفر، عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن الغناء هل يصلح في الفطر
والأضحى والفرح، قال: لا بأس به ما لم يعص به (2)، وهي وإن كانت
مجهولة لعبد الله بن الحسن، ولكن رواها علي بن جعفر في كتابه، إلا أنه
قال: ما لم يزمر به (3)، وعليه فهي صحيحة، فتدل على جواز الغناء في
نفسه وحرمته إذا اقترن بالمعاصي الخارجية.
وفيه: أن الظاهر من قوله (عليه السلام): ما لم يزمر به، أن الصوت بنفسه

1 - كفاية الأحكام: 85.
2 - قرب الإسناد: 121، عنه الوسائل 17: 122.
3 - مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 156، عنه الوسائل 17: 122.
483

صوت مزماري ولحن رقصي كألحان أهل الفسوق، ويعبر عنها في
الفارسية بكلمة: پسته وسرود ودوبيت وآواز خواندن، لا أنه صوت
يكون في المزمار، وإلا لقال: ما لم يكن في المزمار، أو بالنفخ في
المزمار.
وعليه فتدل الرواية على تحقق الغناء بالصوت المزماري واللحن
الرقصي لا مطلقا، وسيأتي، وعلى هذا يحمل قوله (عليه السلام): ما لم يعص
به، وفي رواية قرب الإسناد على تقدير صدورها من المعصوم.
وأما اطلاق الغناء على غير هذا القسم في هاتين الروايتين في قول
السائل: سألته عن الغناء، وتقرير الإمام (عليه السلام) صحة الاطلاق بالجواب
عن حكمه بقوله: لا بأس به، فهو كاطلاق نوع أهل اللغة لفظ الغناء على
المعنى الأعم.
تحقيق موضوع الغناء:
قوله: وإن اختلف فيه عبارات الفقهاء واللغويين.
أقول: عرفوا الغناء بتعاريف مختلفة (1)، إلا أنها ليست تعاريف حقيقية

1 - في لسان العرب مادة غنا: كل من رفع صوته وولاه فصوته عند العرب غناء، وقال بعد
ثلاث صفحات: الغناء من الصوت ما طرب به (لسان العرب 15: 136 - 139).
وفي مجمع البحرين: الغناء ككساء الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، أو ما يسمي
في العرف غناء وإن لم يطرب، سواء كان في شعر أو قرآن أو غيرهما (مجمع البحرين 1: 322).
وفي المنجد: الغناء من الصوت ما طرب به (المنجد: 560)، وعن الصحاح الغناء من
السماع (الصحاح 6: 2449)، وعن المصباح أنه مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب،
وعن الشافعي أنه تحسين الصوت وترقيقه (المصباح: 455).
وفي فقه المذاهب أنه ترديد الصوت بالألحان، عن الحنابلة أنه تحسين الصوت والترنم
(فقه المذاهب الأربعة 2: 42 - 44).
وفي المستند أشار إلى جميع ما قيل في معنى الغناء، وقال: إن كلمات العلماء من اللغويين
والأدباء والفقهاء مختلفة في تفسير الغناء، فسره بعضهم بالصوت المطرب، وآخر بالصوت
المشتمل على الترجيع، وبالصوت المشتمل على الترجيع والاطراب معا، وبالترجيع،
وبالتطريب، وبالترجيع مع التطريب، وبرفع الصوت مع الترجيع، وبمد الصوت، وبمده مع
أحد الوصفين أو كليهما، وبتحسين الصوت، وبمد الصوت ومولاته، وهو الغزالي بالصوت
الموزون المفهم المحرك للقلب (المستند 2: 340).
484

لعدم الاطراد والانعكاس، بل هي بين افراط وتفريط.
فقد عرفه في المصباح بأنه مد الصوت المشتمل على الترجيع
المطرب، وعلى قوله هذا يخرج أكثر أفراد الغناء مما لم يحتوي على
القيدين المذكورين، فإن من أظهر أفراده الألحان التي يستعملها أهل
الفسوق، وهي لا توجب الطرب إلا أحيانا، ولذا التجأ الطريحي في
المجمع (1) وبعض آخر في غيره إلى توسعة التعريف المذكور بقولهم: أو
ما يسمى في العرف غناء، نعم قد يحصل الطرب لحسن الصوت وإن لم يشتمل على ترجيع.
وعرفه آخرون بأنه مجرد مد الصوت أو رفعه مع الترجيع أو بدونه،
وبأنه تحسين الصوت فقط أو ترجيعه كذلك.
ويلزم من هذه التعاريف أن يدخل في الغناء ما ليس من أفراده قطعا،
كرفع الصوت لنداء أحد من البعيد، ورفع الصوت أو تحسينه لقراءة
القرآن والمراثي والمدائح والخطب، بل التكلم العنيف، مع أن الشارع
قد ندب إلى قراءة القرآن بصوت حسن وبألحان العرب.
بل في بعضها: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) أحسن الناس صوتا بالقرآن

1 - مجمع البحرين 1: 321.
485

(1)، وفي بعضها أنه: كان يقرأ القرآن فربما مر به المار فصعق من حسن
صوته (2)، وفي بعضها: ورجع بالقرآن صوتك، فإن الله تعالى يحب
الصوت الحسن يرجع به ترجيعا (3)، وستأتي الإشارة إلى هذه الروايات.
فإن جميع هذه الأفراد مما يصدق عليه الغناء على التفاسير المذكورة،
وهي ليست منه قطعا.
وأيضا ثبت في الشريعة المقدسة استحباب رفع الصوت بالأذان،
ولم يتوهم أحد أنه غناء، وقد ورد أنه: ما بعث الله نبيا إلا حسن
الصوت (4)، ومن الواضح جدا أن حسن الصوت لا يعلم إلا بالمد والرفع
والترجيع، وقد دلت السيرة القطعية المتصلة إلى زمان المعصوم (عليه السلام)
على جواز رفع الصوت بقراءة المراثي، بل ورد الحث على قراءة الرثاء
للأئمة (عليهم السلام) وأولادهم، ودلت الروايات على مدح بعض الراثين كدعبل
وغيره، فلو كان مجرد رفع الصوت غناء لما جاز ذلك كله، وتوهم خروج
جميع المذكورات بالتخصيص تكلف.
والتحقيق أن المستفاد من مجموع الروايات بعد ضم بعضها إلى بعض
هو ما ذكره المصنف من حيث الكبرى، وتوضيح ذلك:
أن الغناء المحرم عبارة عن الصوت المرجع فيه على سبيل اللهو
والباطل والاضلال عن الحق، سواء تحقق في كلام باطل أم في كلام حق،
وسماه في الصحاح بالسماع، ويعبر عنه في لغة الفرس بكلمة: دو بيت
وسرود وپسته وآواز خواندن، ويصدق عليه في العرف أنه قول زور و

1 - الكافي 2: 451، عنه الوسائل 6: 211.
2 - الكافي 2: 450، عنه الوسائل 6: 211.
3 - الكافي 2: 451، عنه الوسائل 6: 211.
4 - الكافي 2: 616، مرسلة، وضعيفة لسهل وموسى بن عمر الصيقل.
486

صوت لهوي.
فإن اللهو المحرم قد يكون بآلة اللهو من غير صوت كضرب الأوتار،
وقد يكون بالصوت المجرد، وقد يكون بالصوت في آلة اللهو كالنفخ في
المزمار والقصب، وقد يكون بالحركات المجردة كالرقص، وقد يكون
بغيرها من موجبات اللهو.
وعلى هذا فكل صوت كان صوتا لهويا ومعدودا في الخارج من ألحان
أهل الفسوق والمعاصي، فهو غناء محرم، ومن أظهر مصاديقه الأغاني
الشائعة بين الناس في الراديوات ونحوها، وما لم يدخل في المعيار
المذكور فلا دليل على كونه غناء فضلا عن حرمته وإن صدق عليه بعض
التعاريف المتقدمة.
ثم إن الضابطة المذكورة إنما تتحقق بأحد أمرين على سبيل مانعة
الخلو:
1 - أن تكون الأصوات المتصفة بصفة الغناء مقترنة بكلام لا يعد عند
العقلاء إلا باطلا، لعدم اشتماله على المعاني الصحيحة، بحيث يكون
لكل واحد من اللحن وبطلان المادة مدخل في تحقق معنى السماع
والغناء.
ومثاله الألفاظ المصوغة على هيئة خاصة المشتملة على الأوزان
والسجع والقافية، والمعاني المهيجة للشهوة الباطلة والعشق الحيواني
من دون أن تشتمل على غرض عقلائي، بل قد لا تكون كلماتها متناسبة
كما تداول ذلك كثيرا بين شبان العصر وشاباته، وقد يقترن بالتصفيق
وضرب الأوتار وشرب الخمور وهتك الناس، وغيرها من الأمور
المحرمة.
وعليه فلو وجد اللحن المذكور في كلام له معنى صحيح عند العقلاء
487

لما كان غناء، ومثاله قراءة القرآن والأدعية والخطب، والأشعار
المشتملة على الحكم والمواعظ ومدائح الأنبياء والأوصياء وأعاظم
الدين ومصائبهم ورثائهم.
نعم قد يتوهم صدق الغناء على رفع الصوت وترجيعه بالأمور
المذكورة لجملة من التعاريف المتقدمة، فيكون مشمولا لاطلاقات
حرمة الغناء، ولكنك قد عرفت أنها تعاريف لفظية وإنما سيقت لمجرد
شرح الاسم فقط، وإن كان بلفظ أعم فلا تكون مطردة ولا منعكسة.
وعليه فلا وجه لما ذكره بعضهم من عد المراثي من المستثنيات من
حرمة الغناء، فإنها خارجة عنه موضوعا كما عرفت.
وإذا ثبت كونها غناء فلا دليل على الاستثناء الذي يدعيه هؤلاء
القائلون، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
2 - أن يكون الصوت بنفسه مصداقا للغناء وقول الزور واللهو
المحرم، كألحان أهل الفسوق والكبائر التي لا تصلح إلا للرقص
والطرب، سواء تحققت بكلمات باطلة أم تحققت بكلمات مشتملة على
المعاني الراقية كالقرآن ونهج البلاغة والأدعية.
نعم وهي في هذه الأمور المعظمة وما أشبهها أبغض لكونها هتكا
للدين، بل قد ينجر إلى الكفر والزندقة، ومن هنا نهي في بعض
الأحاديث عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق والكبائر (1)، أو بألحان

1 - عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اقرأوا
القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنه سيجئ بعدي
أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية (الكافي 2: 614)، ضعيفة لإبراهيم
الأحمر.
488

أهل الكتابين كما في بعض الأحاديث، ويريدون بأهل الكتابين اليهود
والنصارى (1).
ومن هذا القبيل ما ذكر في غناء جواري الأنصار (2): جئناكم جئناكم،
حيونا حيونا نحييكم، ومنه أيضا الرجز (3) الذي يشبه ما جاء في غناء
جواري الأنصار، فإن التكلم العادي بذلك ليس من المحرمات في
الشريعة المقدسة بل هو مطلوب لكونه مصداقا للتحية والاكرام، وإنما
يكون حراما إذا تكيف في الخارج بكيفية لهوية وظهر في صورة السماع
والغناء.
وعلى الجملة لا ريب أن للصوت تأثيرا في النفوس، فإن كان ايجاده
للحزن والبكاء وذكر الجنة والنار بقراءة القرآن ونحوه لم يكن غناء
ليحكم بحرمته، بل يكون القاري مأجورا عند الله، وإن كان ذلك للرقص
والتلهي كان غناء وسماعا ومشمولا للروايات المتواترة الدالة على
حرمة الغناء، والله العالم.

1 - الدعوات للراوندي: 4، عنه البحار 92: 190، المستدرك 4: 272.
2 - عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغناء وقلت: إنهم يزعمون أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) رخص في أن يقال: جئناكم - إلى أن قال (عليه السلام): - كذبوا - الحديث (الكافي 6: 433،
عنه الوسائل 17: 307)، مجهول لعبد الأعلى.
والانكار في هذه الرواية إشارة إلى ما في مصابيح السنة للبغوي باب اعلان النكاح والخطبة
عن عائشة: أن جارية من الأنصار زوجت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ألا أرسلتم معها من يقول: أتيناكم
أتيناكم فحيانا وحياكم.
3 - في فقه المذاهب 2: 44: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم، ولولا الحبة السمراء لم نحلل
بواديكم (فقه المذاهب 2: 44).
489

مستثنيات حرمة الغناء:
1 - رثاء الحسين وسائر المعصومين (عليهم السلام):
قال المحقق الأردبيلي (رحمه الله) في محكي شرح الإرشاد: وقد استثنى
مراثي الحسين (عليه السلام) أيضا، ودليله أيضا غير واضح، ثم قرب الجواز
لعدم الدليل على حرمة الغناء مطلقا، ثم قال: ويؤيده أن البكاء والتفجع
عليه (عليه السلام) مطلوب ومرغوب وفيه ثواب عظيم، والغناء معين على ذلك
وأنه متعارف دائما في بلاد المسلمين في زمن المشائخ إلى زماننا هذا من
غير نكير، وهو يدل على الجواز غالبا، ثم أيد رأيه هذا بما دل على
جواز النياحة في الشريعة المقدسة، وبأن التحريم إنما هو للطرب وليس
في المراثي طرب بل ليس فيها إلا الحزن.
واستدل بعض متأخر المتأخرين على ذلك بعمومات أدلة البكاء
والرثاء.
أقول: قد عرفت آنفا أن المراثي خارجة عن الغناء موضوعا فلا وجه
لذكرها من مستثنيات حرمة الغناء، ولو سلمنا اطلاق الغناء عليها
لشملتها اطلاقات حرمة الغناء المتقدمة، ولا دليل على الاستثناء،
ووجود السيرة على الرثاء وإقامة التعزية على المعصومين (عليهم السلام) في بلاد
المسلمين وإن كان مسلما، ولكنها لا تدل على جواز الغناء فيها، الذي
ثبت تحريمه بالآيات والروايات.
وأما ما دل على ثواب البكاء على الحسين (عليه السلام)، أو ما دل على جواز
النوح على الميت فلا يعارض بما دل على حرمة الغناء، وسيأتي.
وأما ما ذكره الأردبيلي، من أنه معين على البكاء فهو ممنوع، فإن
الغناء على ما حققنا من مفهومه لا يجتمع مع البكاء والتفجع.
وأما ما ذكره من أن التحريم إنما هو للطرب وليس في المراثي طرب،
490

فهو يدل على خروج الغناء عن المراثي موضوعا لا حكما.
2 - الحداء لسوق الإبل:
وقد اشتهر فيه استثناء الغناء، ولكنه ممنوع، لعدم الدليل عليه، نعم
ذكر في جملة من النبويات المنقولة من طرق العامة جواز ذلك (1)، ولكنها
ضعيفة السند وغير منجبرة بشئ، ولو سلمنا انجبارها فلا دلالة فيها
على كون الحداء الذي جوزه النبي (صلى الله عليه وآله) غناء، فإن القضية التي ذكرت
فيها لم يعلم وقوعها بأي كيفية.
نعم الظاهر خروجه من مفهوم الغناء موضوعا، وقد مال إليه صاحب
الجواهر (2)، قال: بل ربما ادعى أن الحداء قسيم للغناء بشهادة العرف،
وحينئذ يكون خارجا عن الموضوع لا عن الحكم، فلا بأس به.
3 - غناء المغنية في زف العرائس:
وقد استثناه جمع كثير من أعاظم الأصحاب، وهو كذلك للروايات
الدالة على الجواز، كصحيحة أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أجر
المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها
الرجال (3)، وغيرها من الروايات المتقدمة في البحث عن بيع الجارية

1 - راجع سنن البيهقي 10: 227، وفيه: أنه (صلى الله عليه وآله) قال لعبد الله بن رواحة: حرك النوق،
فاندفع يرتجز، وكان عبد الله جيد الحداء.
ودليل الجواز تقرير النبي (صلى الله عليه وآله) لعبد الله بن رواحه حيث حدا الإبل، كما في المسالك
2: 323.
2 - جواهر الكلام 22: 46.
3 - عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس،
وليست بالتي يدخل عليها الرجال (الكافي 5: 120، الفقيه 3: 98، التهذيب 6: 357،
الإستبصار 3: 62، عنهم الوسائل 17: 124)، صحيحة.
491

المغنية.
ثم إن هذا فيما لم يطرأ عليه عنوان آخر محرم، وإلا كان حراما،
كالتكلم بالأباطيل والكذب وضرب الأوتار ودخول الرجال عليهن
وغيرها من الأمور المحرمة، وقد صرح بذلك المحقق الأردبيلي في
محكي شرح الإرشاد.
لا يقال: إن الظاهر من قوله (عليه السلام): وليست بالتي يدخل عليها
الرجال، أن الغناء إنما يكون حراما للمحرمات الخارجية كما ذهب إليه
المحدث القاساني (رحمه الله)، ولذا جوزه الإمام (عليه السلام) في زفاف العرائس مع
عدم اقترانه بها.
فإنه يقال: الظاهر من هذه الرواية، ومن قوله (عليه السلام) في رواية أخرى:
لا بأس بمن تدعى إلى العرائس (1)، أن الغناء على قسمين: أحدهما ما
يختلط فيه الرجال والنساء، والثاني ما يختص بالنساء، أما الأول فهو
حرام مطلقا، وأما الثاني فهو أيضا حرام إلا في زف العرائس.
4 - الغناء في قراءة القرآن:

1 - أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات، فقال: التي يدخل عليها
الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عز وجل: ومن الناس
من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله (الكافي 5: 119، التهذيب 6: 358، الإستبصار
3: 62، عنهم الوسائل 17: 120، والآية في لقمان: 6)، ضعيفة لعلي بن أبي حمزة بن سالم
البطائني.
492

وقد اشتهر بين المتأخرين نسبة استثناء الغناء في قراءة القرآن إلى
صاحب الكفاية، قال في تجارة الكفاية: إن غير واحد من الأخبار (1) يدل
على جواز الغناء في القرآن بل استحبابه، بناء على دلالة الروايات على
استحباب حسن الصوت والتحزين والترجيع به، والظاهر أن شيئا منها
لا يوجد بدون الغناء، على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم، على ما
فصلنا في بعض رسائلنا (2).
وفيه: أن مفاد هذه الروايات خارج عن الغناء موضوعا كما عرفت،
فلا دلالة في شئ منها على جواز الغناء في القرآن، بل بعضها صريح في
النهي عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق والكبائر الذين يرجعون
القرآن ترجيع الغناء، وقد ذكرنا هذه الرواية في البحث عن موضوع
الغناء.
وعلى الجملة أن قراءة القرآن بالصوت الحسن وإن كان مطلوبا للشارع
ولكنها محدودة بما إذا لم ننجر إلى الغناء وإلا كانت محرمة، نعم
لا شبهة في صدق الغناء عليه على تعاريف بعض أهل اللغة ولكنك قد
عرفت أنها ليست بجامعة ولا مانعة.

1 - عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني
الشيطان، فقال: إنما ترائي بهذا أهلك والناس، قال: يا أبا محمد اقرأ قراءة ما بين القراءتين
تسمع أهلك، ورجع بالقرآن صوتك، فإن الله عز وجل يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا
(الكافي 2: 451، عنه الوسائل 6: 211)، ضعيفة لأبي حمزة.
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المذكورة في المصادر المزبورة، وفي الوسائل 6: 210 -
212، والمستدرك 4: 272 - 275، ولكن كلها ضعيفة السند، نعم كثرتها توجب الاطمينان
بصدور بعضها عن المعصوم (عليه السلام).
2 - كفاية الأحكام: 86.
493

ولقد أجاد صاحب الكفاية في الوجه الأول من الوجهين الذين جمع
بهما بين الأخبار قال: أحدهما تخصيص تلك الأخبار الواردة المانعة بما
عدا القرآن وحمل ما يدل على ذم التغني بالقرآن على قراءة تكون على
سبيل اللهو كما يصنعه الفساق، ثم أيده برواية عبد الله بن سنان الناهية
عن قراءة القرآن بألحان أهل الفسوق (1).
وقد يقال بجواز الغناء في القرآن بدعوى أن أخبار الغناء معارضة
بالأخبار الكثيرة المتواترة الدالة على فضل قراءة القرآن والأدعية
والأذكار بالعموم من وجه، وبعد التساقط في مورد الاجتماع يرجع إلى
أصالة الإباحة، وقد ذكر المصنف هذا الوجه في خلال كلام صاحب
الكفاية ولكن ليس في تجارة الكفاية من ذلك عين ولا أثر، ولا لما نسبه
إليه المصنف من جملة من العبارات ولا تأييد مذهبه برواية علي بن جعفر
(عليه السلام).
وقد أشكل عليه المصنف بما حاصله: أن أدلة الأحكام غير الالزامية
لا تقاوم أدلة الأحكام الالزامية، والوجه في ذلك: أن الفعل إنما يتصف
بالحكم بغير الالزامي إذا خلا في طبعه عما يقتضي الوجوب أو الحرمة،
ومثاله أن إجابة دعوة المؤمن وقضاء حاجته وادخال السرور في قلبه
وكشف كربته من الأمور المستحبة في نفسها، ولكن إذا استلزم امتثالها
ترك واجب كالصوم والصلاة أو ايجاد حرام كالزناء واللواط تخرج عن
الاستحباب وتكون محرمة.
وفيه: أن ما ذكره لا يرتبط بكلام المستدل، وتحقيق ذلك: أن ملاحظة
اجتماع الأحكام الالزامية مع الأحكام غير الالزامية يتصور على وجوه:

1 - كفاية الأحكام: 85.
494

1 - أن تقع المزاحمة بين الطائفتين في مرحلة الامتثال من دون أن ترتبط
إحداهما بالأخرى في مقام الجعل والانشاء، كالمزاحمة الواقعة بين
الاتيان بالواجب وبين الاتيان بالأمور المستحبة، فإنه لا شبهة حينئذ في
تقديم أدلة الأحكام الالزامية على غيرها وكونها معجزة عنه، كما ذكره
المصنف.
2 - أن يكون الموضوع فيهما واحدا من دون أن يكون بينهما تماس
في مرحلتي الثبوت والاثبات، ولا يقع بينهما تزاحم وتعارض أصلا،
كما إذا حكم الشارع بجواز شئ في نفسه وطبعه وبحرمته، بلحاظ ما
يطرأ عليه من العناوين الثانوية.
ومثال ذلك: إباحة الشارع أكل لحم الضأن مثلا في حد نفسه،
وحكمه بحرمته إذا كان الحيوان جلالا أو موطوءا، فإنه لا تنافي بين
الحكمين ثبوتا واثباتا، إذ لا اطلاق لدليل الحكم غير الالزامي حتى
بالنسبة إلى العناوين الثانوية لتقع المعارضة بينهما.
3 - أن يتحد موضوع الحكمين أيضا ولكن يقيد الحكم غير الالزامي
بعدم المخالفة للحكم الالزامي.
مثاله: أن قضاء حاجة المؤمن وإجابة دعوته وادخال السرور في قلبه
وتفريج غمه من الأمور المرغوبة في الشريعة المقدسة، إلا أنها مقيدة
بعدم ترك الواجب وفعل الحرام، لما ورد من أنه لا طاعة للمخلوق في
معصية الخالق (1)، فتقديم دليل الوجوب أو الحرمة في هذه الصورة على
أدلة الأمور المذكورة وإن كان مسلما إلا أنه لدليل خارجي، لا لما ذكره

1 - الكافي 2: 276، التهذيب 6: 179، الفقيه 4: 288، الخصال: 3، راجع الوسائل 16: 152
- 156، المستدرك 12: 207.
495

المصنف.
فهذه الصور الثلاثة كلها غريبة عن كلام المستدل، نعم لو صحت
رواية عبد الله بن سنان المتقدمة التي دلت على استحباب قراءة القرآن
بألحان العرب وحرمة قراءته بألحان أهل الفسوق والكبائر لوجب تقييد
ما دل على استحباب قراءة القرآن بصوت حسن بغير الغناء، ولكن
الرواية ضعيفة السند.
4 - أن يكون الحكم متحدا في مقام الثبوت، ولكن الأدلة متعارضة في
اثبات كونه إلزاميا أو غير الزامي.
5 - أن يكون الحكمان الالزامي وغير الالزامي في مرحلة جعلهما
مطلقين بحيث لا يرتبط أحدهما بالآخر، ولكنهما قد يتصادقان على
مورد في الخارج ويتعارضان بالعموم من وجه لا بنحو التبائن، وفي
هاتين الصورتين لا وجه لدعوى أن أدلة الأحكام غير الالزامية لا تقاوم أدلة
الأحكام الالزامية، بل لا بد من ملاحظة المرجحات في تقديم إحداهما
على الأخرى، وقد حقق ذلك في محله.
وما ذكره المستدل إنما هو من قبيل الصورة الرابعة، وعليه فلا وجه
للحكم بالتساقط والرجوع إلى أصالة الإباحة، بل يقدم ما دل على حرمة
الغناء لكونه مخالفا للعامة ويترك ما دل على الجواز لموافقته لهم،
ونتيجة ذلك أنه لا دليل على استثناء الغناء في القرآن والأدعية والأذكار.
496

تنبيه:
هل يجوز تعلم الغناء وتعليمه أو لا، قد يكون ذلك بالتغني
واستماعه، وقد يكون بالتوصيف والسؤال عن قواعده، أما الأول
فلا شبهة في حرمته فإن التغني والاستماع إليه كلاهما حرام، وأما الثاني
فقد ذكر تحريمه في بعض الروايات (1) ولكنها ضعيفة السند، فمقتضى
الأصل هو الجواز إلا أن يطرأ عليه عنوان محرم.
المسألة (14)
حرمة الغيبة
قوله: الرابعة عشرة: الغيبة حرام بالأدلة الأربعة.
أقول: لا اشكال في حرمة الغيبة في الجملة للآية والروايات
المتظافرة المتواترة من طرق الشيعة (2) ومن طرق العامة (3)، وأكثر هذه
الروايات وإن كان ضعيف السند ولكن في المعتبر منها غنى وكفاية،
على أنها متواترة معنى، بل حرمتها من ضروريات الدين ومما قام عليه
اجماع المسلمين، وقد حكم العقل بحرمتها أيضا لكونها ظلما للمغتاب
- بالفتح - وهتكا له.
ويكفي في اثبات الحرمة قوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضا

1 - عن دعائم الاسلام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: لا يحل بيع الغناء، ولا شراؤه،
واستماعه نفاق، وتعلمه كفر (دعائم الاسلام 2: 209، عنه المستدرك 13: 221)، مرسلة.
2 - راجع الكافي 2: 134، 187، 266، الوسائل 12: 278 - 288، المستدرك 9: 113 -
129.
3 - راجع سنن البيهقي 10: 245 - 247، واحياء العلوم للغزالي 3: 124.
497

أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه (1)، فإنه تعالى بعد نهيه
عن الغيبة صريحا أراد بيان كونها من الكبائر الموبقة والجرائم المهلكة.
فشبه المغتاب - بالكسر - بآكل الميتة، إما لأنه يأكل الجيف في الآخرة
كما في بعض الروايات (2)، أو لتشبيه بالسباع والكلاب، أو لكون حرمة
الغيبة كحرمة أكل الميتة، بل أعظم كما في رواية العسكري (عليه السلام) (3).
وقد شبه عرض المؤمن باللحم، فإنه ينتقص بالهتك كما ينتقص
اللحم بالأكل، وشبه الاغتياب بالأكل لحصول الالتذاذ بهما، ووصف
المؤمن بأنه أخ، فإن المؤمنين إخوة ومن طبيعة الإخوة أن يكون بينهم
تحابب وتوادد، وشبه المغتاب (بالفتح) بالميت لعدم حضوره في أكثر
حالات الاغتياب.
وصدر سبحانه وتعالى الجملة بالاستفهام الانكاري اشعارا للفاعل
بأن هذا العمل يقبح أن يصدر من أحد، إذ كما لا يحب أحد أن يأكل لحم
أخيه الميت، لاشمئزاز طبعه عنه وشدة رأفته به، وكذلك لا بد وأن
يشمئز عقله عن الغيبة لكونها هتكا لعرض أخيه المؤمن.
وقد استدل على حرمة الغيبة بآيات أخر، ولكن لا دلالة في شئ منها
على ذلك إلا بالقرائن الخارجية، فلا يكون الاستدلال بها بالآيات بل بتلك
الأمور الخارجية.

1 - الحجرات: 12.
2 - عن القطب الراوندي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه نظر في النار ليلة الاسراء، فإذا قوم يأكلون
الجيف، فقال: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحم الناس (لب اللباب،
مخطوط، عنه المستدرك 9: 125، مجموعة الورام: 115)، مرسلة.
3 - عن الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) في تفسيره: اعلموا أن غيبتكم لأخيكم المؤمن
من شيعة آل محمد (عليهم السلام) أعظم في التحريم من الميتة، قال الله: ولا يغتب - الآية (تفسير
الإمام (عليه السلام): 245، عنه المستدرك 9: 113)، أقول: لم يثبت لنا اعتبار هذا التفسير.
498

منها: قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول (1).
وفيه أولا: أنه ليس في الآية ما يدل على أن الغيبة من الجهر بالسوء إلا
بالقرائن الخارجية.
وثانيا: لا يستفاد منها التحريم، فإن عدم المحبوبية أعم منه ومن
الكراهة المصطلحة.
ومنها: قوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة (2).
وفيه: أن الهمزة واللمزة بمعنى كثير الطعن علي غيره بغير حق، سواء
كان في الغياب أم في الحضور، وسواء كان باللسان أم بغيره، وسيأتي أن
الغيبة عبارة عن إظهار ما ستره الله، وبين العنوانين عموم من وجه.
ومنها: قوله تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين
آمنوا لهم عذاب أليم (3).
وفيه: أن الآية تدل على أن حب شيوع الفاحشة من المحرمات، وقد
أوعد الله عليه النار، والغيبة اخبار عن الفاحشة والعيب المستور، وهما
متبائنان، إلا أن يكون الاخبار عن العيوب المستورة بنفسه من الفواحش،
كما هو مقتضى الروايات الدالة على حرمة الغيبة، بل في بعض الروايات
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه
فهو من الذين قال الله عز وجل: إن الذين يحبون - الآية (4).
ويرد عليه أولا: أنه خروج عن الاستدلال بالآية إلى الرواية.

1 - النساء: 147.
2 - الهمزة: 1.
3 - النور: 18.
4 - الكافي 2: 266، عنه الوسائل 12: 280، مرسلة.
رواها الصدوق بطريق آخر (الأمالي: 276)، ولكنها مجهولة لمحمد بن حمران.
499

وثانيا: أنه أخص من المدعى، فإن الآية لا يندرج فيها إلا نشر الغيبة
لا مطلقا، ويضاف إلى ذلك أن الرواية ضعيفة السند.
الغيبة من الذنوب الكبيرة:
قوله: ثم ظاهر هذه الأخبار كون الغيبة من الكبائر.
أقول: وجه الظهور ما ذكره في مبحث الكبائر من رسالته في العدالة،
وأن عد المعصية كبيرة يثبت بأمور، قال: الثاني: النص المعتبر على أنها
مما أوجب الله عليها النار، سواء أوعد في الكتاب أو أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) أو
الإمام بأنه مما يوجب النار، لدلالة الصحاح المروية في الكافي وغيرها
على أنها مما أوجب الله عليه النار، ومن الواضح أن الغيبة كذلك.
وتوضيح المسألة على نحو الاجمال، أنه اشتهر بين الفقهاء التفصيل
بين الكبيرة والصغيرة حكما وموضوعا، واختلفت كلماتهم في
تفسيرهما على نحو لا يمكن الجمع بينها.
فقيل: إن الكبيرة كل ذنب توعد الله عليه بالعذاب في كتابه العزيز، بل
ربما نسب هذا القول إلى المشهور، وقيل: إنها كل ذنب رتب الشارع
المقدس عليه حدا أو صرح فيه بالوعيد، وقيل: إنها كل معصية تؤذن
بقلة اعتناء فاعلها بالدين، وقيل: كلما علمت حرمته بدليل قاطع فهو من
الكبائر، وقيل: كلما توعد عليه توعدا شديدا في الكتاب أو السنة فهو من
الكبائر، إلى غير ذلك من التفاسير، ثم قالوا: إن الكبائر تنافي العدالة دون
الصغائر.
والتحقيق ما ذكرناه في مبحث العدالة من كتاب الصلاة، من أن
المعاصي كلها كبيرة وإن كان بعضها أكبر من بعضها الآخر، كالشرك بالله
العظيم، فإنه من أعظم المعاصي، وقتل النفوس المحترمة، فإنه أعظم من
500

بقية الذنوب، وهكذا، وإنما أطلقت الكبيرة عليها بالتشكيك على
اختلاف مراتبها شدة وضعفا.
وعليه فلا وجه للنزاع في أن الغيبة من الكبائر أم من الصغائر، وقد
اختار هذا الرأي جمع من الأصحاب، بل ظاهر ابن إدريس في كتاب
الشهادة من السرائر (1) دعوى الاجماع عليه، فإنه بعد ما نقل كلام الشيخ
في المبسوط (2) الظاهر في أن الذنوب على قسمين صغائر وكبائر قال:
وهذا القول لم يذهب إليه (رحمه الله) إلا في هذا الكتاب - أعني المبسوط -
ولا ذهب إليه أحد من الأصحاب، لأنه لا صغائر عندنا في المعاصي إلا
بالإضافة إلى غيرها.
ومن هنا يتضح أن الأخبار الواردة في عد الكبائر إنما هي مسوقة لبيان
عظمها بين سائر الذنوب، لحصر المعاصي الكبيرة بالأمور المذكورة،
وعليه يحمل قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
عنكم سيئاتكم (3).
ومع الاغضاء عما ذكرناه فلا ثمرة للنزاع في الفرق بين الكبائر
والصغائر، فإن الذنوب كلها تضر بالعدالة وتنافيها، فإن العدالة هي
الاعتدال في الدين والاستقامة على طريقة سيد المرسلين، وارتكاب أية
معصية وإن كانت صغيرة يوجب الانحراف في الدين والخروج عن
الصراط المستقيم لكون ذلك هتكا للمولى وجرأة عليه، كما أن الخروج
عن الطرق التكوينية انحراف عنها.
ولو سلمنا أن الصغائر لا تنافي العدالة إلا أن الغيبة من الكبائر، فإن

1 - السرائر 2: 69.
2 - المبسوط 8: 177.
3 - النساء: 35.
501

الكبيرة ليست لها حقيقة شرعية لنبحث فيها، بل المراد بها هو معناها
اللغوي، وهو الذنب العظيم عند الشارع، ويعرف عظمه تارة بالنص
على كونه من الكبائر كالشرك والزناء وقتل النفس المحترمة وغيرها من
الكبائر المنصوصة، وأخرى بالتوعد عليه في الكتاب أو السنة المعتبرة،
وثالثة بترتيب آثار الكبيرة عليه، ورابعة بالقياس إلى ما ثبت كونه من
الكبائر الموبقة، كقوله تعالى: والفتنة أشد من القتل (1)، وقد ثبت في
السنة المعتبرة التوعيد على الغيبة فتكون من الكبائر.
وتدل على ذلك أيضا الروايات الدالة على أن الخيانة من الكبائر،
وبديهي أن الغيبة من أعظم الخيانات، ويدل على كون الغيبة من الخيانة
قول النبي (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر: يا أبا ذر المجالس بالأمانة وافشاء
سر أخيك خيانة فاجتنب ذلك، واجتنب مجلس العشرة (2)، ولكنها
ضعيفة السند.
وقد يستدل أيضا على كون الغيبة كبيرة بالروايات الدالة على أن الغيبة
أشد من الزناء، وهو من الكبائر، فالغيبة أولى منه بأن تكون كبيرة (3).

1 - البقرة: 187.
2 - ضعيفة لأبي المفضل ورجاء بن يحيى ومحمد بن الحسن بن ميمون وغيرهم، راجع
مكارم الأخلاق 2: 363، الرقم: 2661.
3 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر قال: يا أبا ذر إياك والغيبة، فإن الغيبة أشد من
الزناء، قلت: يا رسول الله ولم ذاك بأبي أنت وأمي؟ قال: لأن الرجل يزني فيتوب إلى الله
فيتوب الله عليه والغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها (الأمالي للشيخ الطوسي 2: 150، عنه
الوسائل 12: 281، الاختصاص: 226، عنه المستدرك 9: 114، مكارم الأخلاق 2: 363، الرقم
: 2661)، ضعيفة لأبي المفضل ورجاء وابن ميمون.
وهذه الرواية وإن نقلها غير واحد من حملة الحديث مسندا ومرسلا، ولكن الظاهر أنها
رواية واحدة مأخوذة من وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر (رحمه الله)، وذكر الرواية الغزالي في الاحياء
3: 124.
502

ولكن يرد عليه أولا: أن ما ورد بهذا المضمون كله ضعيف السند.
وثانيا: أن هذه الروايات عللت ذلك بأن الغيبة لا نغفر حتى يغفرها
صاحبها بخلاف بعض أقسام الزناء.
ويؤيد ما ذكرناه أن كل واحد من الذنوب فيه جهة من المبغوضية
لا نوجد في غيره من المعاصي، فلا عجب في كونه أشد من غيره في هذه
الخصوصية وإن كان غيره أشد منه من جهات شتى، واختلافها في ذلك
كاختلاف المعاصي في الآثار، نعم هذه الأخبار صالحة لتأييد ذلك.
ويصلح لتأييده أيضا ما روي مرسلا: أن أربى الرباء عرض المؤمن (1)
فيكون تناول عرضه بالغيبة كبيرة، فإنه ثبت في الشريعة المقدسة أن الرباء
من الذنوب الكبيرة، بل في جملة من الروايات أنه أشد من ثلاثين أو سبعين
زنية كلها بذات محرم (2).
حرمة الغيبة مشروطة بالايمان:
قوله: ثم إن ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن.
أقول: المراد من المؤمن هنا من آمن بالله وبرسوله وبالمعاد وبالأئمة

1 - عن الشيخ الورام عن أنس قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فذكر الرباء وعظم شأنه - إلى أن قال: - وأربى الرباء عرض الرجل المسلم (مجموعة الورام: 115، عنه المستدرك 9: 119)،
مرسلة.
ذكره الغزالي في احياء العلوم 3: 125.
وفي سنن البيهقي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من أربى الرباء الاستطالة في عرض المسلم بغير
حق (سنن البيهقي 10: 241).
2 - راجع الكافي 5: 144، الفقيه 3: 174، التهذيب 7: 14، عنهم الوسائل 18: 117.
503

الاثني عشر (عليهم السلام)، أولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم القائم
الحجة المنتظر عجل الله فرجه وجعلنا من أعوانه وأنصاره، ومن أنكر
واحدا منهم جازت غيبته لوجوه:
1 - أنه ثبت في الروايات (1) والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين،
ووجوب البراءة منهم، واكثار السب عليهم واتهامهم، والوقيعة فيهم
أي غيبتهم، لأنهم من أهل البدع والريب (2).
بل لا شبهة في كفرهم، لأن انكار الولاية والأئمة (عليهم السلام) حتى الواحد
منهم والاعتقاد بخلافة غيرهم، وبالعقائد الخرافية كالجبر ونحوه
يوجب الكفر والزندقة، وتدل عليه الأخبار المتواترة (3) الظاهرة في كفر
منكر الولاية وكفر المعتقد بالعقائد المذكورة وما يشبهها من الضلالات.
ويدل عليه أيضا قوله (عليه السلام) في الزيارة الجامعة: ومن جحدكم
كافر، وقوله (عليه السلام) فيها أيضا: ومن وحده قبل عنكم، فإنه ينتج بعكس
النقيض أن من لم يقبل عنكم لم يوحده بل هو مشرك بالله العظيم.
وفي بعض الأحاديث الواردة في عدم وجوب قضاء الصلاة على
المستبصر: أن الحال التي كنت عليها أعظم من ترك ما تركت من
الصلاة (4).

1 - راجع الكافي 2: 278، المحاسن: 208، عنهما الوسائل 16: 267 - 269.
2 - مورد البحث هنا عنوان المخالفين، ومن الواضح أن ترتب الأحكام المذكورة عليه
لا يرتبط بالأشخاص على ما ذكره الغزالي في احياء العلوم 3: 111، فإنه جوز لعن الروافض
كتجويزه لعن اليهود والنصارى والخوارج والقدرية بزعم أنه على الوصف الأعم.
3 - راجع الوسائل: 28، باب 6 جملة ما يثبت به الكفر والارتداد من أبواب المرتد: 339
- 356.
4 - راجع الوسائل: 1، باب 31 عدم وجوب قضاء المخالف عبادته إذا استبصر من
مقدمات العبادة: 125 - 127.
504

وفي جملة من الروايات: الناصب لنا أهل البيت شر من اليهود
والنصارى وأهون من الكلب، وأنه تعالى لم يخلق خلقا أنجس من الكلب
وأن الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه (1).
ومن البديهي أن جواز غيبتهم أهون من الأمور المذكورة، بل قد
عرفت جواز الوقيعة في أهل البدع والضلال، والوقيعة هي الغيبة.
نعم قد ثبت حكم الاسلام على بعضهم في بعض الأحكام فقط تسهيلا
للأمر وحقنا للدماء.
2 - إن المخالفين بأجمعهم متجاهرون بالفسق، لبطلان عملهم رأسا
كما في الروايات المتظافرة (2)، بل التزموا بما هو أعظم من الفسق كما
عرفت، وسيجئ أن المتجاهر بالفسق تجوز غيبته.
3 - إن المستفاد من الآية والروايات هو تحريم غيبة الأخ المؤمن، ومن
البديهي أنه لا إخوة ولا عصمة بيننا وبين المخالفين، وهذا هو المراد
أيضا من مطلقات أخبار الغيبة، لا من جهة حمل المطلق على المقيد
لعدم التنافي بينهما، بل لأجل مناسبة الحكم والموضوع.
على أن الظاهر من الأخبار الواردة في تفسير الغيبة هو اختصاص
حرمتها بالمؤمن فقط، وسيأتي، فتكون هذه الروايات مقيدة للمطلقات،
فافهم.
وقد حكي عن المحقق الأردبيلي تحريم غيبة المخالفين، ولكنه
لم يأت بشئ تركن إليه النفس.

1 - الكافي 6: 503، عنه الوسائل 1: 219.
2 - راجع الوسائل: 1، باب 29 بطلان العبادة بدون ولاية الأئمة (عليهم السلام) من مقدمات
العبادة: 118 - 125.
505

4 - قيام السيرة المستمرة بين عوام الشيعة وعلمائهم على غيبة
المخالفين، بل سبهم ولعنهم في جميع الأعصار والأمصار، بل في
الجواهر: أن جواز ذلك من الضروريات (1).
حرمة غيبة الصبي المميز:
قوله: ثم الظاهر دخول الصبي المميز المتأثر بالغيبة لو سمعها.
أقول: لم يشترط في حرمة الغيبة كون المغتاب - بالفتح - مكلفا بل
المستفاد من الروايات المتقدمة وغيرها أن المناط في حرمة الغيبة صدق
المؤمن على المغتاب - بالفتح - كما أن الظاهر من معنى الغيبة هي كشف
أمر قد ستره الله، وسيأتي.
ومن الضروري أن الصبي المميز ممن يصدق عليه عنوان المؤمن إذا
أقر بما يعتبر في الايمان، بل قد يكون أكمل ايمانا من أكثر البالغين،
وأيضا لا شبهة أن الله قد ستر عيوب الناس حتى الصبيان المميزين،
فذكرهم بالمساوي الموجودة فيهم كشف لما ستره الله عليهم.
نعم لا بأس بذكر الأمور التي هي من مقتضيات الصباوة، بحيث لا تعد
من العيوب والمساوي، كاللعب بالجوز والكعاب والكرة ونحوها.
أما الصبيان أو المجانين غير المميزين فلا شبهة في جواز اغتيابهم،
لأن الأمور الصادرة منهم لا تعد عيبا حتى يكون ذكرها كشفا لما ستره الله
عليهم.

1 - جواهر الكلام 22: 62.
506

موضوع الغيبة:
قوله: بقي الكلام في أمور، الأول: الغيبة اسم مصدر لاغتاب.
أقول: وقع الخلاف في تحديد مفهوم الغيبة وبيان حقيقتها، فالمروي
من الخاصة (1) والعامة (2) والمعروف بيننا وبين السنة (3)، وبعض أهل اللغة (4)
أن الغيبة ذكر الانسان بما يكرهه وهو حق، بل حكى المصنف عن بعض
من قارب عصره أن الاجماع والأخبار متطابقان على أن حقيقة الغيبة ذكر
غيره بما يكرهه لو سمعه، ولكن هذا التعريف لا يرجع إلى معنى محصل.
فإن المراد من الموصول فيه إن كان هو الذكر، بحيث يكون حاصله أن
الغيبة ذكر غيره بذكر لا يرضى به لو سمعه، دخل في التعريف ما ليس
بغيبة قطعا إذا كره المقول فيه، كذكره بفعل بعض المباحات، بل وبعض
المستحبات، من المواظبة على الأدعية والأذكار، والقيام على النوافل
والعبادات، والالتزام بالزيارات واعطاء الصدقات، وعليه فالتعريف
المذكور تعريف بالأعم.
كما أن تعريف المصباح بقوله: اغتابه إذا ذكره بما يكرهه من العيوب

1 - عن أبي ذر في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) له، قال: قلت: يا رسول الله وما الغيبة؟ قال: ذكرك
أخاك بما يكره، قلت: يا رسول الله فإن كان فيه ذاك الذي يذكر به؟ قال: اعلم أنك إذا ذكرته بما
هو فيه فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما ليس فيه فقد بهته (الأمالي للشيخ الطوسي 2: 150، عنه
الوسائل 12: 281، الاختصاص: 226، عنه المستدرك 9: 114، مكارم الأخلاق 2: 363،
الرقم: 2661)، ضعيفة لأبي المفضل ورجاء وابن ميمون، وغيرهم.
2 - في سنن البيهقي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله
ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره - الحديث (سنن البيهقي 10: 247).
3 - راجع احياء العلوم للغزالي 3: 126.
4 - قاموس المحيط 1: 112، النهاية 3: 399، المصباح المنير: 458.
507

وهو حق، والاسم الغيبة، يكون تعريفا بالأخص.
وإن كان المراد من الموصول في التعريف الأوصاف المذمومة
والأفعال القبيحة الصادرة من المقول فيه، ويقربه التعريف المتقدم من
المصباح خرج عن الغيبة ما لا يشك أحد كونه منها، كذكر الغير بالأمور
المحرمة التي ارتكبها عن رغبة وشهوة، من غير أن يشمئز منها ومن
ذكرها، وعليه فلا يكون التعريف المذكور جامعا للأفراد.
والتحقيق أن يقال: إنه لم يرد نص صحيح في تحديد مفهوم الغيبة
ولا تعريف من أهل اللغة كي يكون جامعا للأفراد ومانعا للأغيار، وعلى
هذا فلا بد من أخذ المتيقن من مفهوم الغيبة وترتيب الحكم عليه، وهو أن
تقول في أخيك ما ستره الله عليه، وأما في المقدار الزائد فيرجع إلى
الأصول العملية.
وقد ذكر هذا في جملة من الروايات (1) وهي وإن كانت ضعيفة السند،
ولكن مفهومها موافق للذوق السليم والفهم العرفي، ويؤيده ما في لسان
العرب (2) وغيره، من أن الغيبة أن تتكلم خلف انسان مستور بسوء أو بما
يغمه لو سمعه.
بل ينطبق عليه جميع تعاريف الفقهاء وأهل اللغة لكونه المقدار

1 - عن عبد الرحمان بن سيابة عن الصادق (عليه السلام): الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره الله
عليه، وأما الأمر الظاهر فيه مثل الحدة والعجلة فلا، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه (الأمالي
للصدوق: 276، معاني الأخبار: 184، عنهما الوسائل 12: 282)، ضعيفة لعبد الرحمان.
وعن داود بن سرحان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغيبة قال: هو أن تقول لأخيك في
دينه ما لم يفعل، وتثبت عليه أمرا قد ستره الله عليه، لم يقم عليه فيه حد (الكافي 2: 266، عنه
الوسائل 12: 288)، ضعيفة لمعلي بن محمد.
2 - لسان العرب 1: 656.
508

المتيقن من مفهوم الغيبة كما عرفت، وقد أشير إليه في بعض أحاديث
العامة (1).
وتوضيح ما ذكرناه من المعنى أن ذكر الناس والتعرض لأوصافهم
لا يخلو عن صور ثلاث:
1 - ذكر الانسان بما يوجب تعظيمه وترفيعه بين الناس، كأن يقول: إن
فلانا عالم زاهد مجتهد، يصلي النوافل ويعطي الفقراء ويهتم بأمور
المسلمين وحوائجهم ونحو ذلك من المدائح، ولا نظن أن يعد أحد هذه
الصورة من الغيبة، نعم في لسان العرب (2) وتاج العروس عن ابن الأعرابي:
غاب إذا ذكر انسانا بخير أو شر، إلا أنه أجنبي عن المقام، فإنه غير
الاغتياب.
والوجه في خروج هذه الصورة عن مفهوم الغيبة، أن هذه المذكورات
ليست من السوء، سواء كره ذكرها المقول فيه أملا.
2 - أن يذكر انسانا بشئ من صفاته العادية المتعارفة التي لا توصف
بالمدح أو الذم.
ولا ريب في عدم اندراج هذه الصورة أيضا تحت الغيبة، فإن الأمور
العادية ليست مما سترها الله على المقول فيه، وذكرها لا يوجب نقصه
وافتضاحه، سواء أكان كارها لها أم لا.
3 - أن يذكر انسانا بالأوصاف الذميمة والأفعال القبيحة الموجودة فيه
التي قد سترها الله عليه.
وموضوع الغيبة هو هذه الصورة، وما ذكرناه من الصور المذكورة

1 - في سنن البيهقي: ومن ستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عذبه
وإن شاء غفر له (سنن
البيهقي 10: 246).
2 - لسان العرب 1: 656.
509

يشمل ما لو نفي عن المقول فيه بعض الأوصاف.
تنبيهات موضوع الغيبة:
ولا بد من التنبيه على أمور:
1 - أنه لا يفرق في صدق الغيبة بين أن يكون المقول نقصا في دين
المقول فيه أو بدنه أو نسبه أو أخلاقه، أو فعله أو قوله أو عشيرته، أو ثوبه
أو داره أو دابته، أو خادمه أو تعيشه، أو في أي شأن من شؤونه (1)، إلا أن
الظاهر من رواية داود بن سرحان المتقدمة في الحاشية أن الغيبة ذكر
الانسان بما يكون نقصا في دينه فقط.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند وقد عرفت.
وثانيا: أن رواية ابن سيابة المتقدمة في البحث عن معنى الغيبة
صرحت بأن الغيبة قولك في أخيك ما ستره الله عليه، وهذا الاطلاق
يشمل ما إذا كان المقول نقصا دينيا وغير ديني.
وتوهم حمل المطلق على المقيد هنا فاسد، لعدم التنافي بينهما،
على أن رواية ابن سيابة فصلت بين ذكر الأمور المستورة والأمور الظاهرة،
وصرحت بخروج الثانية عن حدود الغيبة.
ومن الواضح أن مقتضى التفصيل القاطع للشركة هو عموم مفهوم
الغيبة بذكر مطلق العيوب غير الأمور الظاهرة، ولكنك عرفت أن هذه
الرواية أيضا ضعيفة السند.
وقد يتوهم (2) اعتبار قصد الانتقاص في موضوع الغيبة، ولكنه توهم
فاسد إذ لا دليل عليه، فإن صدق عنوان العيب على المقول أمر عرفي

1 - راجع كشف الريبة: 61.
2 - قائله الشهيد الثاني في كشف الريبة: 51.
510

لا يرتبط بالقصد، ولا يقاس هذا بالتعظيم والهتك المتقومين بالقصد.
2 - إن ذكر أحد بالأوصاف العادية أو نفيها عنه إنما لا يكون غيبة إذا
لم يستلزم نقصا في الجهات المزبورة في التنبيه السابق، وإلا فلا شبهة
في كونه غيبة كنفي العدالة عنه، فإنه يدل بالملازمة على ارتكابه
المعاصي، وكقوله: إن فلانا يقرأ علم النحو منذ ثلاثين سنة، فإنه يدل
بالملازمة على بلادة المقول فيه وبلاهته أو مماطلته وبطالته.
3 - إن مقتضى ما ذكرناه من التعريف، بل المتيقن من مفهوم الغيبة
ومورد الروايات الدالة على حرمة الغيبة، أن يكون المقول أمرا قد ستره
الله على المقول فيه، وأما ذكر الأمور الظاهرة فليس من الغيبة، وقد
ذكره الأصحاب في مستثنياتها، وسيأتي ذكره، وتدل على ذلك رواية
ابن سيابة المتقدمة ورواية الأزرق (1)، إلا أنهما ضعيفتا السند.
نعم في احياء العلوم عن عائشة أنها: دخلت علينا امرأة فلما ولت
أو مات بيدي أنها قصيرة، فقال (صلى الله عليه وآله): اغتبتها (2)، فإن الظاهر منها تحقق
الغيبة بحكاية الأمور الظاهرة، ولكنه ضعيف السند.
نعم قد يكون ذكر الأمور الظاهرة حراما لانطباق شئ من العناوين
المحرمة عليه، كالتعبير والهجاء والسب والهتك والظلم ونحوها،
وعليه فيكون حراما من غير جهة الغيبة.
4 - قد تتحقق الغيبة بالتعريض والإشارة قولا، كأن يقول: الحمد لله
الذي لم يبتليني بالسلطان وبالميل إلى الحكام، أو فعلا، كأن يحكي

1 - عن الأزرق قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): من ذكر رجلا من خلفه بما هو فيه مما عرفه
الناس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لا يعرفه الناس اغتابه، ومن ذكره بما ليس
فيه فقد بهته (الكافي 2: 266، عنه الوسائل 12: 289)، مجهولة ليحيى الأزرق.
2 - راجع احياء العلوم باب الغيبة 3: 127.
511

مشية الغائب، بل هو أشد من الذكر باللسان لكونه أعظم في الانتقاص، أو
كتابة، فقد قيل: إن القلم أحد اللسانين، فإن المناط في تحقق الغيبة كشف
ما ستره الله ولا خصوصية للكاشف.
5 - لا بد في صدق الغيبة من وجود أحد يقصد بالتفهيم، فقد عرفت
أنها إظهار ما ستره الله، وهو لا يتحقق بمجرد حديث النفس، فإنه
لا يزيد على الصور العلمية والملكات النفسانية، ومن هنا علم عدم
تحقق الغيبة أيضا بذكر الانسان بعيوب يعلمها المخاطب، نعم قد يحرم
ذلك من جهة أخرى.
6 - لا تتحقق الغيبة إلا بكون المغتاب - بالفتح - معلوما بالتفصيل عند
المخاطبين، فلو كان مرددا عندهم بين أشخاص، سواء كانوا محصورين
أم غير محصورين، فذكره بالنقائص والمعائب المستورة لا يكون غيبة،
فإنه ليس كشفا لما ستره الله.
ومثاله أن تقول: رأيت اليوم رجلا بخيلا، أو جاءني اليوم شارب
الخمر، أو تارك الحج، أو عاق الوالدين، أو من يعيش معيشة ضنكا، فكل
ذلك لا يكون من الغيبة في شئ، ولا يكون حراما إلا إذا انطبق عليه
عنوان محرم آخر، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون كل واحد من
المحصورين كارها لذلك الذكر أم لا، لما عرفت من أن كراهة المقول فيه
ليست شرطا في تحقق الغيبة.
نعم لو عرفنا الغيبة بأنها ذكر الغير بما يكرهه كما عليه المشهور، كان
ذلك من الغيبة وشملته أدلة تحريمها، ولكنك قد عرفت ضعفه فيما
سبق.
ولا يخفى أن ما ذكرناه من اشتراط العلم التفصيلي بالمغتاب في مفهوم
الغيبة إنما هو بالإضافة إلى الأفراد، أما إذا كان المذكور نقصا للعنوان
512

الكلي وكشفا لما ستره الله على النوع، بحيث يكون المصداق المردد
إنما ذكر من باب تطبيق الكلي على الفرد كان ذلك غيبة لجميع أفراد الكلي
الموجودة في الخارج لانحلاله إليها كسائر القضايا الحقيقية، بل بالنسبة
إلى الأفراد الماضية أيضا، بل ربما يكون ذلك بالنسبة إلى بعض الأفراد
بهتانا.
ومثاله أن يذكر انسانا بالسوء المستور لكونه عجميا أو عربيا، أو بقالا،
أو لكونه من أهل البلد الفلاني، أو من الصنف الفلاني وهكذا.
7 - قد عرفت أنه ليس في المسألة ما يعتمد عليه في تعريف الغيبة
وتفسيرها إلا بعض الروايات الضعيفة، وعليه فكلما شككنا في تحقق
موضوع الغيبة للشك في اعتبار قيد في المفهوم أو شرط في تحققه يرجع
إلى أصالة العدم.
8 - أن مقتضى ما ذكره المشهور، من أن الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه
لو سمعه، عدم صدق الغيبة مع حضور المغتاب - بالفتح - بل هذا هو
الظاهر من الآية، فإن تشبيه المغتاب بالميتة إنما هو لعدم شعوره بما قيل
فيه، وأما على ما ذكرناه في تعريف الغيبة فلا فرق في انطباقها بين حضور
المغتاب وعدمه ما دام يصدق على القول أنه إظهار لما ستره الله.
قوله: نظير ما إذا نفي عنه الاجتهاد.
أقول: نفي الاجتهاد ليس نقصا في حق أحد كما ذكره المصنف،
ولكنه فيما إذا لم يستلزم تعريضا بغباوة المنفي عنه لطول اشتغاله
بالتحصيل، وإلا فلا شبهة في كونه غيبة.
قوله: لعموم ما دل على حرمة إيذاء المؤمن.
513

أقول: قد دلت الروايات المتواترة (1) على حرمة إيذاء المؤمن وإهانته
وسبه، وعلى حرمة التنابز بالألقاب، وعلى حرمة تعيير المؤمن بصدور
معصية منه فضلا عن غير المعصية، إلا أنها خارجة عن المقام كما ذكره
المصنف، فإن النسبة بين ما نحن فيه وبين المذكورات هي العموم من
وجه، وقد أشرنا إلى ذلك في البحث عن حرمة سب المؤمن.
دواعي الغيبة:
قوله: ثم إن دواعي الغيبة كثيرة.
أقول: الأسباب التي ذكروها باعثة للغيبة عشرة، وقد أشير إليها فيما
روي عن الصادق (عليه السلام) في مصباح الشريعة (2)، ولكن الرواية ضعيفة
السند، وتكلم عليها الشهيد الثاني (قدس سره) في كشف الربية بما لا مزيد عليه،
ونذكر منها اثنين، فإن لهما مأخذا دقيقا لا يلتفت إليه نوع الناس فيقعون
في الغيبة من حيث لا يشعرون:
1 - أن يرفع نفسه بتنقيص غيره، بأن يقول: فلان ضعيف الرأي وركيك
الفهم، وما ذكره بديهي البطلان، ونحوها من الكلمات المشعرة بالذم،
وأكثر من يبتلي به هم المزاولون للبحث والتدريس والتأليف فيما إذا
أخذهم الغرور والعجب.
2 - أن يغتم لأجل ما يبتلي به أحد، فيظهر غمه للناس ويذكر سبب

1 - راجع الكافي 2: 261 - 263، والوسائل 12: 264 - 269.
2 - وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق، والخلق، والعقل، والفعل، والمعاملة،
والمذهب، والجهل وأشباهه، وأصل الغيبة يتنوع بعشرة أنواع: شفاء غيظ، ومساعدة قوم،
وتهمة، وتصديق خبر بلا كشفه، وسوء ظن، وحسد، وسخرية، وتعجب، وتبرم، وتزين، فإن
أردت السلامة فاذكر الخالق لا المخلوق - الخ (مصباح الشريعة: 274، عنه المستدرك 9: 118).
514

غمه، وهو شئ ستره الله على أخيه، فيقع في الغيبة من حيث إنه يقصد
الاهتمام بشأنه، فإن اغتمامه له رحمة، ولكن ذكره سبب ذلك عليه شر.
وقد يتصنع ذلك بعض المنافقين ويأخذه وسيلة لهتك أعراض الناس
وكشف عوراتهم، بأن يظهر الاغتمام والتحسر لابتلاء شخص محترم ثم
يذكر فيه ما يوجب افتضاحه في الأنظار وانحطاطه عن درجة الاعتبار،
فيلقي نفسه في جهنم وبئس المصير، وبذلك يكون أداما لكلاب النار،
كما في بعض الأحاديث (1)، أستعيذ بالله من الحقد والحسد وغيظ
القلوب.
كفارة الغيبة:
قوله: الثاني: في كفارة الغيبة الماحية لها.
أقول: الذي قيل أو يمكن أن يقال في بيان كفارة الغيبة وجوه:
1 - الاستحلال من المغتاب - بالفتح -.
2 - الاستغفار له فقط.
3 - كلا الأمرين معا.
4 - أحدهما على سبيل التخيير.
5 - التفصيل بين وصول الغيبة إلى المغتاب فكفارتها الاستحلال منه،
وبين عدم وصولها إليه فكفارتها الاستغفار له فقط.
6 - التفصيل بين امكان الاستحلال منه وبين عدمه لموت، أو بعد
مكان، أو كون الاعتذار موجبا لإثارة الفتنة والإهانة، فعلى الأول يجب

1 - عن جامع الأخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله): كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم
الناس بالغيبة، اجتنبوا الغيبة فإنها أدام كلاب النار (جامع الأخبار: 171، عنه المستدرك
9: 121)، مرسلة.
515

الاستحلال منه، وعلى الثاني يجب الاستغفار له.
7 - عدم وجوب شئ منهما في جميع الصور بل الواجب على
المغتاب - بالكسر - الاستغفار لنفسه والتوبة من ذنبه.
أقول: قبل التكلم في الوجوه المذكورة لا بد وأن يعلم أنه إذا شك في
وجوب شئ منها، فإن أصالة البراءة محكمة للشك في ثبوت التكليف
المقتضي للامتثال.
وقال المصنف (رحمه الله): إن أصالة بقاء الحق الثابت للمغتاب - بالفتح - على
المغتاب - بالكسر - يقتضي عدم الخروج منه إلا بالاستحلال خاصة.
وفيه: أنه لم يثبت هنا للمقول فيه حق حتى يستصحب بقاؤه ويجب
الخروج عن عهدته، فإن من حق المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه، وإذا
اغتابه لم يحفظ حقه فلم يبق موضوع للاستصحاب، ولم يثبت بذلك
حق آخر للمغتاب حتى يستصحب.
وعليه فلا وجه لما أفاده المحقق الإيرواني، من أن الأصل في المسألة
هو الاحتياط والاتيان بكل ما احتمل دخله في رفع العقاب من
الاستحلال والتوبة والاستغفار للمغتاب - بالفتح - وغير ذلك (1).
إذا عرفت ذلك فنقول: أما الاستحلال من المغتاب مطلقا فذهب إلى
وجوبه جمع من الأصحاب.
قال الشهيد في كشف الريبة: إعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم
ويتوب على ما فعله ليخرج من حق الله سبحانه وتعالى، ثم يستحل
المغتاب ليحله فيخرج عن مظلمته (2).

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 34.
2 - كشف الريبة: 111.
516

ويمكن الاستدلال على ذلك بأن الغيبة من حقوق الناس وحقوق
الناس لا ترتفع إلا باسقاط ذي الحق منهم.
أما الوجه في الصغرى فلأنها ظلم للمغتاب، ولما ورد في الأخبار
الكثيرة من أن حق المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه.
وأما الوجه في الكبرى فهو جملة من الروايات:
منها: ما دل على أن الغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها، وقد تقدمت
هذه الرواية في البحث أنها صغيرة أو كبيرة.
وفيه: أنها وإن كانت واضحة الدلالة على المقصود، ولكنها ضعيفة
السند.
ومنها: ما عن الكراجكي عن علي (عليه السلام) في رواية قال فيها: إن للمؤمن
على المؤمن ثلاثين حقا - وذكرها على التفصيل، ثم قال (عليه السلام): - سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه يوم
القيامة فيقضي لها وعليه (1).
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند، وثانيا: أنها لا تدل على وجوب
الاستحلال، لاشتمالها على حقوق لا قائل بوجوب أدائها، كعيادة
المريض وحضور الميت وقضاء الحاجة وغيرها.
ولم يتوهم أحد ولا يتوهم أن من لم يعمل بالحقوق المذكورة في هذه
الرواية وغيرها من الروايات المتواترة الواردة في حقوق الإخوان وجب
عليه أن يستحل من ذي الحق مع التمكن ومن وليه مع عدمه نظير الحقوق
المالية، وإنما هي حقوق أخلاقية ينبغي للانسان أن يراعيها ويواظب

1 - كنز الكراجكي: 141، عنه الوسائل 12: 212، ضعيفة للحسين بن محمد بن علي
السيرافي البغدادي.
517

عليها، لكونها مقومة لاجتماعهم، بل هي في الجملة من مقتضيات طبع
البشر والعقلاء مع قطع النظر عن الشريعة.
وعليه فالمراد من القضاء بموجبها يوم القيامة هو ما ذكره المصنف،
من المعاملة معه معاملة من لم يراع حقوق المؤمن لا العقاب عليها.
ومنها: النبوي: من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال
فليستحلها (1).
وفيه: أنه ضعيف السند، ولا بأس بحمله على الاستحباب للتسامح
في أدلة السنن، نعم قد ثبت بالأدلة القطعية الضمان في الحقوق المالية
فقط.
ومنها: ما عن عائشة أنها قالت لامرأة قالت لأخرى: أنها طويلة الذيل:
قد اغتبتها فاستحلها (2).
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند، وثانيا: أن ما ذكر فيها ليس من
الغيبة لأنه من الأمور الظاهرة، وثالثا: أنه لا حجية في قول عائشة.
ومنها: ما دل على أن من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل الله صلاته
ولا صيامه أربعين يوما وليلة إلا أن يغفر له صاحبه (3).
وفيه أولا: أنه ضعيف السند، وثانيا: أنه لا بد من حمل نظائر هذه الأخبار على الأحكام الأخلاقية، فإنه لم يتفوه أحد ببطلان عبادة
المغتاب - بالكسر - ووجوب القضاء عليهم بعد التوبة.
ومنها: ما دل على انتقال الأعمال الصالحة باغتياب الناس المغتاب -

1 - راجع سنن البيهقي 2: 83، وكشف الريبة: 87، واحياء العلوم 3: 134.
2 - راجع احياء العلوم 3: 134.
3 - كرواية جامع الأخبار: 171، عنه المستدرك 9: 122، مرسلة.
518

بالفتح - فإذا استحل منه رجعت إلى صاحبها (1).
وفيه مضافا إلى كونه ضعيف السند، أنه لا دلالة له على وجوب
الاستحلال.
وقد ذكر المصنف أن في الدعاء التاسع والثلاثين من أدعية الصحيفة
السجادية (2)، ودعاء يوم الاثنين من ملحقاتها (3) ما يدل على هذا المعنى
أيضا.
وفيه: أن ما فيهما أجنبي عما نحن فيه، أما الأول فهو مسوق لطلب
العفو والرحمة لذي الحق والمظلة في حال عدم التمكن من استحلاله
ولا تعرض فيه لوجوب الاستحلال منه أصلا، وأما الثاني فيدل على
طلب المغفرة له مع عدم التمكن من التحلل والرد من غير تعرض
لوجوب الاستحلال كما سيأتي.
وأما الاستغفار للمغتاب - بالفتح - فذهب إلى وجوبه غير واحد من
الأصحاب، ويمكن الاستدلال عليه بأمور:
1 - ما تقدم من دعاء السجاد (عليه السلام) في طلب العفو والرحمة لذوي
الحقوق والمظلمة.

1 - كرواية جامع الأخبار: 171، عنه المستدرك 9: 122.
2 - حيث قال (عليه السلام) في الفقرة الرابعة من الدعاء: اللهم وأيما عبد من عبيدك أدركه مني
درك، أو مسه من ناحيتي أذى، أو لحقه بي، أو بسببي ظلم، ففته بحقه، أو سبقته بمظلمته، فصل
على محمد وآله، وارضه عني من وجدك، وأوفه حقه من عندك.
3 - قال (عليه السلام): فأيما عبد من عبيدك أو أمة من إمائك كانت له قبلي مظلمة ظلمتها إياه، في
نفسه، أو في عرضه، أو في ماله، أو في أهله وولده، أو غيبة اغتبته بها - إلى أن قال: - فقصرت
يدي وضاق وسعي عن ردها إليه والتحلل منه، فأسألك - إلى أن قال: - أن ترضيه عني بما
شئت.
519

وفيه: أن الفعل الصادر من المعصوم (عليه السلام) لا يدل على الوجوب لكونه
أعم منه ومن المستحب،
2 - رواية حفص بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل النبي (صلى الله عليه وآله)
ما كفارة الاغتياب، قال: تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته (1).
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند، وثانيا: أن مقتضى العمل بها هو
وجوب الاستغفار للمغتاب - بالفتح - كلما ذكره أو كل وقت ذكر
الاغتياب، ومن الواضح أن هذا خلاف الضرورة ولم يلتزم به فقيه فيما
نعلم، وإن ذكره بعض أهل الأخلاق، وعليه فتحمل الرواية على
الجهات الأخلاقية.
نعم بناء على كون النسخة: كما ذكرته، بدل: كلما ذكرته، على ما
ذكره المجلسي في مرآة العقول لا يتوجه عليها الاشكال الثاني.
3 - ما في رواية السكوني، من قول الإمام (عليه السلام): من ظلم أحدا ففاته
فليستغفر الله له، فإنه كفارة له (2)، بدعوى أن الضمير المنصوب في كلمة
فاته يرجع إلى الظلم، المفهوم من كلمة ظلم، نظير قوله تعالى: اعدلوا
هو أقرب للتقوى (3)، ومن الواضح أن الغيبة من الظلم فيجب على من
اغتاب أحدا أن يستغفر له.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أن الظاهر منها رجوع الضمير إلى المظلوم، كما جزم به
المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول، فالمعنى: أن من لم يدرك المظلوم

1 - الكافي 2: 266، عنه الوسائل 12: 290، مجهولة لحفص بن عمر.
أقول: قد نسب المصنف هذه الرواية إلى السكوني، وهو من سهو القلم.
2 - الكافي 2: 334، موثقة للسكوني.
3 - المائدة: 8.
520

ليطلب منه براءة الذمة ويسترضيه عن المظلمة فليستغفر الله له وعليه،
فتدل الرواية على وجوب طلب المغفرة للمظلوم مع عدم التمكن من
الوصول إليه لا مطلقا.
ومما ذكرناه في الرواية الثانية والثالثة ظهر الجواب عن روايتي
الجعفريات (1) أيضا.
ومن جميع ما حققناه في عدم وجوب الاستحلال والاستغفار تكليفا
ظهر الجواب عن القول بوجوب كلا الأمرين تعيينا أو تخييرا، وعلم أيضا
أنه لا وجه لما نقله المامقاني عن بعض مشائخه من العمل بطائفتي الأخبار
الدالة: إحداهما على الاستغفار والأخرى منهما على الاستحلال، فيلزم
المغتاب - بالكسر - الجمع بينهما، بأن يستغفر للمقول فيه ويستحل منه.
وأما التفصيل بين وصول الغيبة للمقول فيه وبين عدم وصولها إليه،
فيجب الاستحلال منه في الصورة الأولى ويجب الاستغفار له في
الصورة الثانية، فقد ذهب إليه جمع من أعاظم الأصحاب، كالشهيد الثاني
والمجلسي وغيرهما، قال المحقق الطوسي في مبحث التوبة من
التجريد: ويجب الاعتذار عن المغتاب مع بلوغه، وتبعه العلامة
والقوشجي في شرحهما على التجريد.
ويدل على هذا التفصيل ما عن مصباح الشريعة، وهو قوله (عليه السلام): لن
اغتبت فبلغ المغتاب فاستحل منه، فإن لم تبلغه ولم تلحقه فاستغفر الله
له (2).

1 - عن النبي (صلى الله عليه وآله): من ظلم أحدا فغابه فليستغفر الله له كما ذكره فإنه كفارة له
(الجعفريات: 228، عنه المستدرك 9: 130)، مجهولة لموسى بن إسماعيل
2 - مصباح الشريعة: 274، عنه المستدرك 9: 117، مرسلة.
521

وفيه أولا: أنه ضعيف السند.
وثانيا: أن الغيبة إن كانت من حقوق الناس وجب الاستحلال من
المقول فيه، سواء علم بذلك أم لا، وإلا بقي المغتاب - بالكسر - مشغول
الذمة إلى الأبد، ويكون شأن الغيبة في ذلك شأن الحقوق المالية وإن لم تكن من حقوق الناس، فلا وجه لوجوب الاستحلال من المقول فيه
وإن بلغته الغيبة.
وعلى كل حال فلا وجه للتفصيل المذكور، ولا بد إما من حمل
الرواية على الجهات الأخلاقية أو رد علمها إلى قائلها.
ومما ذكرناه ظهر ما في كلامي الشهيد في كشف الريبة (1) والمجلسي
في مرآة العقول من الضعف، حيث جعلا التفصيل المذكور وجه الجمع
بين الروايات.
وأما التفصيل بين امكان الاستحلال وعدمه، فألحقه الشهيد في
كشف الريبة بالتفصيل المتقدم حكما، وقال: وفي حكم من لم يبلغه من
لم يقدر على الوصول إليه بموت أو غيبة.
ويمكن الاستدلال عليه بما في دعاء السجاد (عليه السلام) يوم الاثنين من
طلب العفو والمغفرة لذوي الحقوق والمظلمة مع عدم امكان الخروج
عنها.
وفيه أولا: أن الأدعية الواردة في أيام الأسبوع لم يثبت كونها من زين
العابدين (عليه السلام)، ولذا عدوها من الملحقات للصحيفة المعروفة.
وثانيا: أن فعل المعصوم وإن كان حجة كسائر الأمارات المعتبرة إلا أنه مجمل لا يدل الوجوب، كما عرفته آنفا.

1 - كشف الريبة: 111.
522

وأما الاكتفاء بالتوبة في محو تبعات الغيبة كما يكتفي بها في محو
تبعات سائر المعاصي فهو المتعين، لقيام الضرورة ودلالة الآيات
المتظافرة والروايات المتواترة من الفريقين على أن التائب عن ذنبه كمن
لا ذنب له، وفي احياء العلوم عن مجاهد: أن كفارة أكلك لحم أخيك أن
تثني عليه وتدعو له بخير (1).
وفيه: أنه وإن كان حكما أخلاقيا ولكن قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه
أنه لا دليل عليه.
وكذلك لا وجه لما حكاه عن عطاء، من أنه سئل عن التوبة من الغيبة
قال: أن تمشي إلى صاحبك فتقول له: كذبت فيما قلت وظلمتك
وأسأت، وإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت، وهذا هو الأصح (2).
على أن ما ذكره في طريق الاعتذار، من أن يقول المغتاب - بالكسر -
لصاحبه: كذبت فيما قلت، كذب محرم، لما عرفت أن الغيبة كشف
العيوب المستورة الموجودة في المقول فيه، فلا يكون الاغتياب من
الأكاذيب.
قوله: والانصاف أن الأخبار الواردة في هذا الباب كلها غير نقية السند.
أقول: ربما قيل: إنه لا وجه لمناقشة المصنف في اعتبار الروايات،
فإنه قد اعترف بكونها مستفيضة، على أنه (رحمه الله) جعل من أدلة وجوب
الاستحلال الدعاء التاسع والثلاثين من الصحيفة، ومن البديهي أن
الصحيفة وصلت إلينا بسند معتبر عن الإمام الرابع عليه وعلى آبائه ألف
تحية وسلام.

1 - احياء العلوم 3: 134.
2 - احياء العلوم 3: 134.
523

وفيه: أن مراد المصنف من الأخبار التي ناقش في اعتبارها غير الدعاء
المزبور كما هو الظاهر، وإنما لم يلتزم بوجوب الاستحلال، لأن الدعاء
غير تام الدلالة عليه، وأما الاستفاضة فهي لا تنافي عدم الاعتبار، فإن
الخبر المستفيض قسم من الأخبار الآحاد كما حقق في محله، ولذا
يجعلونه في مقابل المتواتر.
مستثنيات الغيبة:
قوله: الثالث: فيما استثنى من الغيبة وحكم بجوازها بالمعنى الأعم.
أقول: ذكر المصنف تبعا لجامع المقاصد (1) أن المستفاد من الأخبار أن
الغيبة المحرمة هي ما كان الغرض منها انتقاص المؤمن وهتك عرضه، أو
التفكه به أو اضحاك الناس منه، وأما إذا كان الاغتياب لغرض صحيح
راجع إلى المغتاب - بالكسر أو الفتح - أو إلى ثالث، بحيث يكون هذا
الغرض الصحيح أعظم مصلحة من احترام المؤمن وجب العمل على طبق
أقوى المصلحتين، وهذا كنصح المستشير والتظلم ونحوهما، وعليه
فموارد الاستثناء لا تنحصر بعدد معين بل المدار فيها وجود مصلحة أهم
من مصلحة احترام المؤمن.
وعلى هذا المنهج جميع موارد التزاحم في الواجبات والمحرمات،
سواء كانت من حقوق الله أم من حقوق الناس.
أقول: مقتضى الأدلة المتقدمة هو تحريم الغيبة بعنوانها الأولي، سواء
انطبقت عليها سائر العناوين المحرمة أم لا، وعليه فلا وجه لجعل حرمة
الغيبة تابعة لقصد هتك المؤمن أو التفكه به أو انطباق غيرهما من العناوين
المحرمة.

1 - جامع المقاصد 4: 27.
524

نعم ما ذكره المصنف تبعا لجامع المقاصد في ضابطة ترجيح الأهم
على المهم فهو في غاية المتانة والجودة، على ما نقحناه في علم
الأصول، ولا تحصى ثمراته في علم الفقه، إلا أنه لا وجه لذكر هذه
الضابطة في المقام، فإن الكلام هنا متمحض لبيان مستثنيات الغيبة
بحسب التعبد بالأدلة الخاصة، فلا مساس له بلحاظ المناط والعمل
بطبق أقوى الملاكين.
وكيف كان فقد عدوا من مستثنيات الغيبة أمورا:
1 - المتجاهر بالفسق:
فإنه يجوز اغتيابه بلا خلاف بين الشيعة والسنة (1)، وتدل على جواز
غيبته جملة من الروايات:
منها: رواية هارون بن الجهم عن الصادق (عليه السلام) قال: إذا جاهر الفاسق
بفسقه فلا حرمة له ولا غيبة (2).
وفيه: أن الرواية وإن كانت ظاهرة الدلالة على المدعى، ولكنها
ضعيفة السند.
ومنها: النبوي: من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له (3).
أقول: ليس المراد في الحديث من ألقى جلباب الحياء بينه وبين ربه
حتى قام في صف المتمردين عليه، وإلا لدل الخبر على جواز اغتياب
كل مذنب لهتكهم الستر المرخى بينهم وبين ربهم، وليس المراد به أيضا

1 - راجع احياء العلوم 3: 134.
2 - الأمالي للصدوق: 42، عنه الوسائل 12: 289، ضعيفة لأحمد بن هارون.
3 - الاختصاص: 242، عنه المستدرك 9: 129.
سنن البيهقي 10: 210، واحياء العلوم 3: 134.
525

من لا يبالي بارتكاب الأمور العادية غير المناسبة لنوع الناس، كالأكل في
السوق والجلوس في المقاهي، والاعتياد على الأكل في الضيافة زائدا
على المتعارف، بل المراد منه هو الفاسق المعلن بفسقه غير المبالي
بالتمرد على الشارع والجرأة على مخالفته بالاقدام على القبائح
والمعاصي علنا، فيدل على المقصود إلا أنه ضعيف السند.
ومنها: الروايات الدالة على أن الفاسق المعلن بفسقه لا غيبة له
ولا حرمة (1)، إلا أنها ضعيفة السند.
ومنها: ما روي عنه (عليه السلام) بطرق عديدة: من عامل الناس فلم يظلمهم،
وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم كان ممن حرمت غيبته،
وكملت مروته، وظهر عدله، ووجبت أخوته (2).

1 - عن قرب الإسناد قال (عليه السلام): ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع، والإمام
الجائر، والفاسق المعلن بالفسق (قرب الإسناد: 82، عنه الوسائل 12: 289)، ضعيفة لأبي
البختري.
رواها الغزالي في احياء العلوم 3: 134 عن الحسن.
عن القطب الراوندي عن النبي (صلى الله عليه وآله): لا غيبة لثلاث: سلطان جائر، وفاسق معلن،
وصاحب بدعة (لب اللباب، مخطوط، عنه المستدرك 9: 128)، مرسلة.
وعن السيد فضل الله الراوندي: أربعة ليس غيبتهم غيبة: الفاسق المعلن بفسقه (النوادر
للراوندي: 18، عنه البحار 75: 261، المستدرك 9: 129)، مرسلة.
عن عوالي اللئالي عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا غيبة لفاسق أو في فاسق (عوالي اللئالي 1: 438،
عنه المستدرك 9: 129)، مرسلة.
2 - الكافي 2: 239، ضعيفة لعثمان بن عيسى، نقله في الخصال 1: 208، صحيفة الرضا
(عليه السلام): 97، العيون 2: 30، عنهما البحار 70: 1، 75: 93 و 236 و 252، الوسائل 12: 279،
ولكن ما عن الخصال ضعيف لزيد بن محمد وعبد الله بن أحمد الطائي وأبيه، وأما ما عن العيون
فرواه الصدوق عن الرضا (عليه السلام) بطرق ثلاثة وكلها مجهولة.
526

فهذه الرواية دلت بمفهومها على أن من ارتكب الأمور المذكورة فهو
جائز الغيبة، ومن الواضح أن من ظلم الناس في معاملاتهم وكذبهم في
حديثهم كان متجاهرا بالفسق.
ولكن الرواية بجميع طرقها ضعيفة السند، على أن الظاهر من هذه
الرواية ومن صحيحة ابن أبي يعفور ورواية علقمة الآتيتين اعتبار العدالة
في حرمة الغيبة ولم يلتزم به أحد.
ومنها: صحيحة ابن أبي يعفور (1)، فقد دلت على أن حرمة التفتيش عن
أحوال الناس مترتبة على الستر والعفاف منهم، ومقتضى ذلك أن حرمة
التفتيش تنتفي إذا انتفت الأمور المذكورة.
وفيه: أن التفتيش غير الغيبة وحرمة أحدهما لا تستلزم حرمة الآخر،
نعم قد يجتمعان، ثم لو سلمنا اتحادهما فإن مقتضى ذلك اعتبار العدالة
في حرمة الغيبة.
ومنها: ما في رواية علقمة عن الصادق (عليه السلام)، وهو قوله: فمن لم تره
بعينك يرتكب ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة
والستر وشهادته مقبولة، وإن كان في نفسه مذنبا، ومن اغتابه بما فيه فهو
خارج من ولاية الله وداخل في ولاية الشيطان (2).
قال المصنف: دل على ترتب حرمة الاغتياب وقبول الشهادة على
كونه من أهل الستر وكونه من أهل العدالة، على طريق اللف والنشر، أو
على اشتراط الكل بكون الرجل غير مرئي منه المعصية ولا مشهودا عليه
بها ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط خرج منه غير
المتجاهر.

1 - راجع الوسائل باب 41 ما يعتبر في الشاهد من أبواب الشهادات.
2 - أمالي الصدوق: 91، عنه الوسائل 12: 285، ضعيفة لصالح بن عقبة وعلقمة.
527

وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أن ظاهرها اعتبار العدالة في حرمة الغيبة، وهو بديهي البطلان
كما عرفت آنفا.
وثالثا: أن ظاهر مفهومها هو أن غيبة الرجل جائزة لمن يشاهد صدور
المعصية منه أو إذا شهد عليه بها شاهدان، وعليه فتنحصر موارد الأدلة
الدالة على حرمة الغيبة بالعيوب البدنية والأخلاقية، فإن المغتاب -
بالكسر - لا بد له من العلم حين يغتاب، وإلا كان من البهتان لا من الغيبة،
وهذا خلاف صراحة غير واحد من الروايات الدالة على حرمتها، على أنه
لم يلتزم به أحد.
نعم لو أريد من الخطاب في قوله (عليه السلام): فمن لم تره بعينك، العنوان
الكلي والقضية الحقيقية، وكان معناه أن صدور المعصية منه بمرأى من
الناس ومسمع منهم، بحيث ير الناس ويرونه وهو يوقع المعصية،
لسلم عن هذا الاشكال.
ومنها: ما في رواية ابن أبي يعفور المتقدمة، من قوله (عليه السلام):
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا غيبة إلا لمن صلى في بيته ورغب عن جماعتنا
، ومن رغب عن جماعة المسلمين وجبت على المسلمين غيبته (1)، فإنه
يدل على جواز غيبة من رغب عن الجماعة بل على وجوبها.
وفيه: أولا: أن أصل الرواية وإن كانت صحيحة كما عرفت إلا أن هذه
القطعة قد زيدت عليها في رواية الشيخ، وهي مشتملة على ضعف في
السند.

1 - رواه في الوسائل باب 41 ما يعتبر في الشاهد من أبواب الشهادات،
وهو ضعيف
لمحمد بن موسى، أورده الشهيد مرسلا في الذكري: 265، عنه الوسائل 8: 317.
528

وثانيا: أنها مختصة بمن رغب عن الجماعة فلا تعم غيره.
وثالثا: أن ظاهر الرواية هو دوران الغيبة والعدالة اثباتا ونفيا مدار
حضور الجماعة والرغبة عنها، ويدل على هذا من الرواية أيضا قوله
(عليه السلام) بعد القطعة المذكورة: وسقطت بينهم عدالته ووجب هجرانه،
وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذره، فإن حضر جماعة المسلمين
وإلا أحرق عليه بيته، ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته وثبتت
عدالته بينهم.
وحاصل ما تقدم أنه لم يدل دليل معتبر على جواز غيبة المتجاهر
بالفسق ليكون مقيدا للاطلاقات الدالة على حرمة الغيبة مطلقا.
نعم قد ذكرنا في معنى الغيبة أنها عبارة عن كشف ما ستره الله على
العباد، وأيدناه ببعض الروايات، فيكون المتجاهر بالفسق خارجا عن
حدود الغيبة تخصصا وموضوعا، لأنه قد كشف ستره بنفسه قبل أن
يكشفه المغتاب - بالكسر.
فروع:
1 - هل يعتبر في جواز غيبة المتجاهر بالفسق قصد الغرض الصحيح
من النهي عن المنكر وردعه عن المعاصي أو لا؟
مقتضى العمل بالاطلاقات المتقدمة الدالة على نفي الغيبة عن
المتجاهر بالفسق هو الثاني، إذ لم تقيد بالقصد المذكور، كما أن ذلك
أيضا مقتضى ما ذكرنا، من خروج ذكر المتجاهر بالفسق عن تعريف الغيبة
موضوعا، إذ لم يتقيد عنوان الغيبة بأكثر من كونها كشفا لما ستره الله.
2 - هل تجوز غيبة المتجاهر في جميع ما ارتكبه من المعاصي وإن
529

لم يتجاهر إلا في بعضها كما عن الحدائق (1)، أو لا تجوز إلا فيما تجاهر فيه
كما عن الشهيد الثاني (رحمه الله)؟ (2)
وفصل المصنف بين المعاصي التي هي دون ما تجاهر فيه في القبح
وبين غيرها، فيجوز اغتيابه في الأول ولا يجوز اغتيابه في الثاني، ومثاله
من تجاهر باللواط جاز اغتيابه بالتعرض للأجنبيات، ومن تجاهر بقطع
الطرق جاز اغتيابه بالسرقة، ومن تجاهر بكونه جلاد سلطان الجور يقتل
الناس ويمثل بهم وينكل جاز اغتيابه بشرب الخمر والزناء واللواط،
ومن تجاهر بنفس المعصية جاز اغتيابه في مقدماتها، ومن تجاهر
بالمعاصي الكبيرة جاز اغتيابه بالتعرض لجميع القبائح، ولعل هذا هو
المراد من قوله (صلى الله عليه وآله): من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له، لا من تجاهر
بمعصية خاصة وعد مستورا في غيرها كبعض عمال الظلمة - انتهى
ملخص كلامه.
أقول: أما القول بالتفصيل المذكور فلا دليل عليه بوجه، فإن بعض
الناس قد يتجاهر بالذنوب الكبيرة، كقتل النفوس المحترمة وشرب
الخمور وأكل أموال الناس، ومع ذلك يتستر فيما هو دونها، كايذاء
الجار والنظر إلى الأجنبيات وترك العبادات الواجبة.
نعم إذا تجاهر في معصية جاز اغتيابه بها وبلوازمها، فإذا تجاهر
بشرب الخمر جاز اغتيابه بتهيئة مقدمات الشرب من الشراء والحمل أو
الصنع، فإن الالتزام بالشئ التزام بلوازمه، ومن ألقى جلباب الحياء في

1 - الحدائق 18: 166.
2 - كشف الريبة: 79، صرح به قبل الشهيد المحقق الثاني في رسالته في العدالة (مجموعة
رسائله): 42.
530

معصية ألقى جلبابه في لوازمه أيضا، وعليه فيدور الأمر بين القول بالجواز
مطلقا وبين القول بعدم الجواز كذلك.
وقد يقال: إن الظاهر هو جواز اغتياب المتجاهر مطلقا كما عن
الحدائق، بل استظهره من كلام جملة من الأعلام، بل ذكر المصنف
تصريح بعض الأساطين بذلك (1).
والوجه فيه هو اطلاق الروايات المتقدمة، فإنه دال على جواز غيبة
المتجاهر بالفسق حتى بذكر المعاصي التي لم يتجاهر فيها، فكان
تجاهره بمعصية واحدة أسقط احترامه في نظر الشارع بحيث صار مهدور
الحرمة، كما أن المرتد بارتداده يصبح مهدور الدم.
ولكنك قد عرفت ضعف الروايات المذكورة، فلا يمكن التمسك
باطلاقها، وعليه فالاقتصار على المقدار المتيقن يقتضي عدم جواز غيبة
المتجاهر بغير ما تجاهر فيه وفي لوازمه.
3 - ظهر من مطاوي ما ذكرناه أنه يعتبر في صدق التجاهر بالفسق أن يكون المتجاهر به مما يوجب الفسق والخروج عن العدالة، فلو ارتكب
أحد الحرام الواقعي لشبهة حكمية أو موضوعية فإنه ليس بمذنب فضلا
عن كونه متجاهرا بالفسق.
أما الشبهة الحكمية، فكما إذا شرب العصير التمري المغلي قبل
ذهاب ثلثيه أو أكل لحم الأرنب، لأنه يعتقد إباحتهما بحسب اجتهاده أو
اجتهاد من يقلده، فإنه يكون معذورا في هذا الارتكاب إذا تمت له أو
لمقلده مقدمات الاجتهاد.
وأما الشبهة الموضوعية، فكشرب الخمر باعتقاد أنها ماء، وكوطئ

1 - صرح به كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط): 35.
531

امرأة أجنبية باعتقاد أنها زوجته، وكقتل المؤمن باعتقاد أنه مهدور الدم،
فإنه أيضا معذور في هذه الأعمال إلا إذا كان مقصرا فيها.
4 - قد عرفت أن مقتضى العمل بالمطلقات هو جواز غيبة المتجاهر
مطلقا بمجرد تجاهره بمعصية من المعاصي، فيكون التجاهر ولو في
معصية واحدة علة تامة لجواز الغيبة، وعليه فلا يفرق في ذلك بين أن يكون معروفا بالتجاهر في الفسق بين جميع الناس وفي جميع الأمكنة
والأصقاع أو بين بعضهم وفي بعض البلاد والقرى.
وعلى هذا فلا وجه لما استشكله المصنف، من دعوى ظهور روايات
الرخصة فيمن لا يستنكف عن الاطلاع على عمله مطلقا، فرب متجاهر
في بلد متستر في بلاد الغربة أو في طريق الحج والزيارة لئلا يقع عن
عيون الناس، نعم لو تجاهر بذلك بين جماعة هم أصحاب سره ورفقائه
في العمل فإنه لا يعد متجاهرا بالفسق.
ولكن قد عرفت ضعف المطلقات المذكورة فلا يمكن الاستناد إليها
في تجويز هتك عرض المؤمن وافتضاحه بين الناس، ولا تصلح لتقييد
المطلقات الدالة على حرمة الغيبة.
وإذن فلا تجوز غيبة المتجاهر إلا لمن تجاهر بالمعصية عنده لا من
جهة الروايات بل لعدم تحقق مفهوم الغيبة مع التجاهر على ما ذكرناه في
تفسيرها، والله العالم.
ولقد أجاد المصنف حيث قال: وبالجملة فحيث كان الأصل في
المؤمن الاحترام على الاطلاق وجب الاقتصار على ما تيقن خروجه.
قوله: وهذا هو الفارق بين السب والغيبة.
أقول: قد تقدم توضيح ذلك في البحث عن حرمة سباب المؤمن،
وقلنا إن النسبة بين الغيبة وسب المؤمن هي العموم من وجه.
532

2 - جواز تظلم المظلوم:
قوله: الثاني: تظلم المظلوم واظهار ما فعل به الظالم وإن كان متسترا به.
أقول: ذكر الشيعة والسنة (1) من مستثنيات حرمة الغيبة تظلم المظلوم،
واظهار ما أصابه من الظالم وإن كان متسترا في ظلمه إياه، كما إذا ضربه أو
شتمه أو أخذ ماله أو هجم على داره في مكان لا يراهما أحد أو لا يراهما
من يتظلم إليه، فإنه يجوز للمظلوم أن يتظلم بها إلى الناس.
ويدل عليه قوله تعالى: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من
ظلم (2)، فقد ثبت من الخارج أن الغيبة من الجهر بالسوء، فإنها إظهار ما
ستره الله من العيوب الموجبة لهتك المقول فيه وإهانته كما عرفت،
وعليه فتنطبق الآية على ما نحن فيه، وتكون النتيجة: إن الله لا يحب
الاغتياب إلا للمظلوم، فإن له أن يتظلم إلى الناس بذكر مساوي الظالم،
وإن لم يرج ارتداعه عن ظلمه إياه.
وأما الرواية المفسرة للجهر بالسوء بأن المراد به الشتم (3)، فمضافا إلى
ضعف السند فيها أن انطباقه على ذلك لا ينافي انطباقه على الغيبة أيضا،
لما عرفت مرارا من أن الروايات الواردة في تفسير القرآن كلها لبيان
المصداق وتنقيح الصغرى.
وقيد الشهيد في كشف الريبة (4) وجمع ممن تأخر عنه (5) جواز الغيبة

1 - راجع احياء العلوم 3: 133.
2 - النساء: 148.
3 - مجمع البيان 2: 131.
4 - كشف الريبة: 77.
5 - كالمحقق السبزواري في كفاية الأحكام: 86، والمحقق النراقي في المستند 2: 347،
والسيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 66.
533

هنا بكونها عند من يرجو منه إزالة الظلم عنه، اقتصارا في مخالفة الأصل
الثابت بالعقل والنقل على المتيقن، إذ لا عموم في الآية ليتمسك به في
اثبات الإباحة مطلقا، وما ورد في تفسير الآية من الأخبار لا ينهض
للحجية، مع أن المروي عن الباقر (عليه السلام) في تفسيرها المحكي عن مجمع
البيان أنه لا يحب الشتم في الانتصار إلا من ظلم (1).
وفيه: أن الآية وإن لم تشتمل على شئ من ألفاظ العموم وأدواته إلا أن قوله: إلا من ظلم مطلق، فبمقتضى مقدمات الحكمة فيه يفيد
العموم، وعليه فيجوز للمظلوم اغتياب الظالم، سواء احتمل ارتداعه
أملا.
ويدل على الحكم المذكور ما في تفسير القمي، من الرخصة للمظلوم
في معارضة الظالم (2)، وكذلك يدل عليه ما ورد في تطبيق الآية على ذكر
الضيف إساءة المضيف إياه (3)، ولكن جميع ذلك ضعيف السند.
ثم إن المراد من إساءة الضيافة هو هتك الضيف وعدم القيام بما يليق
بشأنه، وبما تقتضيه وظائف الضيافة والمعاشرة المقررة في الشريعة
المقدسة، ويسمى ذلك في لغة الفرس بكلمة: پذيرائي، وليس
المراد بها ترك ما يشتهيه الضيف ويتمناه زائدا على المقدار المتعارف.
وبعبارة أخرى حق الضيف على المضيف أن يكرمه ويحترمه بالحد
الأوسط، فلا تجوز له مطالبته بالحد الأعلى، ولا يجوز للمضيف أن

1 - مجمع البيان 2: 131.
2 - تفسير القمي 1: 157.
3 - روي في قوله تعالى: لا يحب الله - الخ عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه الضيف ينزل
بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله (تفسير العياشي 1: 283،
عنه الوسائل 12: 290، مجمع البيان 2: 131)، مرسلة.
534

يعامل ضيفه بالحد الأدنى، وإلا لجاز لأي منهما أن يذكر ما فعله الآخر
معه من المساءة، لأنه نوع من التظلم فيكون مشمولا للآية من دون احتياج
إلى الرواية، وحينئذ فيكون تطبيق الآية على إساءة الضيافة مؤيدة لما
ذكرناه.
وقد يستدل على الجواز هنا بأمور غير ناهضة للدلالة على المقصود:
1 - قوله تعالى: والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون (1)، وقوله
تعالى: ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (2)، بدعوى
أن ذكر المظلوم ما فعله الظالم معه من السوء نحو من الانتصار فيكون
مشمولا للآيتين.
وفيه: أن الآيتين أجنبيتان عما نحن فيه، بل هما راجعتان إلى جواز
الاعتداء والانتقام بالمثل، نظير قوله تعالى: فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم (3)، وقد ذهب إلى هذا جمع من
الأكابر، حتى صرح الأردبيلي في محكي كلامه بجواز اعتداء المضروب
بالضرب والمشتوم بالشتم، كما عرفته اجمالا في البحث عن حرمة السب.
ويدل على ما ذكرناه، من حمل الآيتين على الانتقام بالمثل، قوله
تعالى بينهما: وجزاء سيئة سيئة مثلها (4).
ودعوى أن الغيبة نحو من الاعتداء دعوى جزافية، فإنه لا اطلاق
للآيتين بالنسبة إلى المجازات بالمحرمات وإلا لجاز الاعتداء بالزناء
ونحوه ولم يلتزم به أحد بل هو ضروري البطلان.

1 - الشورى: 39.
2 - الشورى: 41.
3 - البقرة: 190.
4 - الشورى: 40.
535

2 - إن في منع المظلوم من التظلم حرجا عظيما، بل ربما لا يتحمله إلا
الأوحدي من الناس.
وفيه: أن هذا لا يتم في جميع الموارد، فإن رب شخص يتحمل ما
لا يحصى من المصائب الشديدة والنوائب العسرة حتى من الأشخاص
الدنية بغير حرج ومشقة، على أن في شمول دليل الحرج للمقام اشكالا
بل منعا، لأنه مناف للامتنان في حق المغتاب - بالفتح - وقد حققنا في
معنى أدلة الحرج والضرر أنها أدلة امتنانية، وإنما تجري إذا لم يلزم من
جريانها خلاف الامتنان في حق الآخرين.
3 - إن في تشريع الجواز مظنة ردع الظالم وهي مصلحة خالية عن
المفسدة فتوجب الجواز، فإن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح
والمفاسد على مسلك العدلية.
وفيه: أن الأحكام الشرعية وإن كانت تابعة للملاكات الواقعية إلا أن
المصلحة المظنونة لا تقاوم المفسدة المقطوعة، لأن الظن لا يغني من
الحق شيئا، على أنه ربما لا يرتدع الظالم باغتيابه بل قد لا يرتدع بما هو
أعظم من الاغتياب، على أن لازم هذا الوجه هو جواز اغتيابه حتى من غير
المظلوم، فإن الظن بالارتداع موجود فيهما، بل قد يكون ذكر غير
المظلوم آكد في ردع الظالم.
4 - ما في رواية قرب الإسناد المتقدمة في البحث عن جواز غيبة
المتجاهر بالفسق، وهو قوله (عليه السلام): ثلاثة ليس لهم حرمة: صاحب
هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بالفسق، بدعوى أن عدم
احترام الإمام الجائر إنما هو لجوره لا لتجاهره بالفسق، وإلا لم يكن
قسيما للفاسق المعلن بفسقه.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند كما عرفته في المبحث المذكور.
536

وثانيا: يمكن أن يراد من الإمام الجائر من يتقمص بقميص الخلافة
على غير استحقاق، وينتصب منصب الإمامة بغير رضى من الله ورسوله،
ويمكن أن يراد به مطلق القاعد الذي يجور على الناس بظلمهم، سواء
ادعى الخلافة مع ذلك أم لا، ويعبر عنه في لغة الفرس بلفظ: زمامدار،
وعليه فيدخل فيه من يقضي بين الناس أو يفتيهم على غير هدى من الله
ورسوله.
وعلى كل حال فلا دلالة في توصيف الإمام بالجور على عليته لجواز
الغيبة، فإن عطف الفاسق عليه من قبيل عطف العام على الخاص، على
أن الرواية المذكورة مروية عن النبي (صلى الله عليه وآله) بسند آخر، وهي تشتمل
على توصيف الإمام بالكذاب (1)، على أن هذا الوجه لو دل على الجواز
لم يختص بخصوص المظلوم، فإن الإمام الجائر يجوز اغتيابه لكل أحد،
فعموم العلة أعني الجور يقتضي عموم الحكم.
5 - قوله (صلى الله عليه وآله): ولصاحب الحق مقال (2).
وفيه أولا: أنه ضعيف السند وغير منجبر بشئ.
وثانيا: أنه لا دليل إلا على ثبوت المقال لصاحب الحق من حيث

1 - النوادر للراوندي: 18، عنه البحار 75: 261، المستدرك 9: 129، مجهولة لموسى بن
إسماعيل.
2 - عن أبي هريرة: أن أعرابيا تقاضى النبي (صلى الله عليه وآله) دينا كان له عليه فأغلظ له، فهم به
أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: اقضوه،
فقالوا: لا نجد إلا سنا أفضل من سنه، قال: اشتروه وأعطوه، فإن خيركم أحسنكم قضاء (سنن
البيهقي، باب ما جاء في التقاضي 6: 52، وصحيح البخاري باب الوكالة في قضاء الدين 2: 37).
وفي احياء العلوم 3: 132 ذكر هذه الجملة: إن لصاحب الحق مقالا، في مسوغات الغيبة
ولم يذكر المصدر.
537

الكبرى، أي في موارد ثبوت الحق له بالفعل، وأما احراز الصغرى فلا بد
وأن يكون بأدلة أخرى، ومعنى الحديث: أن كل من ثبت له حق فعلي
على أحد من الحقوق المالية والعرضية والبدنية وغيرها، فله مقال في
المطالبة به والمرافعة عليه، وعلى هذا فلا تشمل المظلوم الذي أضيع
حقه وفات بالظلم عليه، إذ ليس له حق فعلي حتى يكون له مقال في
المطالبة به والمرافعة عليه.
ويحتمل اختصاصه بالدين فقط، فيكون مساوقا لقوله (صلى الله عليه وآله): لي
الواجد بالدين يحل عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله عز
وجل (1).
عدم جواز الغيبة في ترك الأولى:
لا يجوز للمظلوم أن يغتاب الظالم بترك الأولى لعدم الدليل عليه، وقد
يستدل على الجواز بروايتين:
1 - رواية حماد بن عثمان (2) الواردة في استقضاء الدين، فإنها ظاهرة في

1 - أمالي الطوسي 2: 134، عنه الوسائل 18: 333، ضعيفة لهارون.
وفي سنن البيهقي 6: 51 روى هذه الجملة: لي الواجد يحل عرضه وعقوبته في أحاديث
شتى.
رواه في عوالي اللئالي 4: 72 مرسلا، عنه المستدرك 13: 397.
أقول: اللي: مطل الدين..
2 - عن حماد قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) فشكى إليه رجلا من أصحابه، فلم
يلبث أن جاء المشكو، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما لفلان يشكوك؟ فقال له: يشكوني أني
استقصيت منه حقي، قال: فجلس أبو عبد الله (عليه السلام) مغضبا ثم قال: كأنك إذا استقصيت حقك
لم تسئ، أرأيت ما حكى الله عز وجل فقال: ويخافون سوء الحساب، أترى أنهم خافوا الله
أن يجور عليهم، لا والله ما خافوا إلا الاستقصاء، فسماه الله سوء الحساب، فمن استقصى فقد
أساء (الكافي 5: 100، عنه الوسائل 18: 348)، ضعيفة لمعلي بن محمد.
رواها في التهذيب 6: 194، عنه الوسائل 18: 348 بسند فيه جهالة لمحمد بن يحيى
الصيرفي.
رواه في المستدرك 13: 406 عن العياشي في تفسيره 2: 210 مرسلا.
رواه الطبرسي في مشكاة الأنوار: 187 مرسلا.
538

جواز الشكوى من الدائن لتركه الأولى، لأن الامهال في قضاء الدين من
الأمور المستحبة.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند.
وثانيا: أن ظاهر الفرض في الرواية أن الدائن قد تعدى على المديون
فطلب منه أداء الدين مع عدم وجوب الأداء عليه لعسر أو لغيره،
ولا شبهة أن ذلك ظلم تباح معه الغيبة.
ويؤيد ذلك أن الإمام (عليه السلام) لم يوجب على المديون أداء الدين، ولو
كان واجدا ولم يكن له عذر لكان أداء الدين واجبا عليه بلا ريب، لما ورد:
أن لي الواجد يحل عرضه وعقوبته، وقد عرفت ذلك آنفا.
هذا كله على النسخة المعروفة التي تبعها صاحب الوسائل والمصنف
في النقل، وأما على نسختي الوافي والمستدرك، وما ذكره المجلسي (1)
عن بعض النسخ القديمة، من تبديل الضاد المعجمة في استقضيت في
الموضعين بالصاد المهملة، فالرواية تكاد تكون نصا فيما ذكرناه، فإن
معنى الاستقصاء في الحق البلوغ إلى الغاية في المطالبة، ومن الواضح أن
ذلك قد يؤدي إلى الهتك والظلم فيكون حراما.
وعليه فتكون الرواية من جملة ما دل على جواز اغتياب الظالم من قبل
المظلوم بذكر أوصافه المحرمة كما تقدم.

1 - راجع مرآة العقول باب 25 آداب قضاء الدين 3: 389.
539

ومن تأمل الرواية وتشديد الإمام (عليه السلام) فيها على المشكو عليه
واستشهاده بالآية يطمئن بصحة نسخة الوافي، على أن المحدث
القاساني دقيق في نقله، ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه، وتسليم عدم
ظهور الرواية فيما نقول، فليس لها ظهور فيما ذكره المصنف أيضا،
فتكون مجملة.
2 - مرسلة ثعلبة بن ميمون، قال: كان عنده قوم يحدثهم، إذ ذكر رجل
منهم رجلا فوقع فيه وشكاه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): وأنى لك بأخيك
كله وأي الرجال المهذب (1)، فإن الظاهر من الجواب أن الشكوى إنما
كانت من ترك الأولى الذي لا يليق بالأخ الكامل المهذب.
وفيه: أولا أنها ضعيفة السند.
وثانيا: أن جواب الإمام (عليه السلام) ظاهر في أن الصنع الذي شكى منه
الرجل أمر يصيب به جميع الناس، وليس يوجد من لا يصيب به إلا
الأوحدي، وعليه فيخرج هذا عن موضوع الغيبة، فقد عرفت أنها كشف
ما ستره الله.
وقد يستدل على جواز الغيبة بترك الأولى بما ورد في ذكر الضيف:
مساوي ضيافة المضيف، فإن ذلك ليس إلا من ترك الأولى.
وفيه مضافا إلى ضعف السند فيه، أنك قد عرفت أن المراد من إساءة

1 - عن ثعلبة بن ميمون عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان عنده قوم يحدثهم إذ
ذكر رجل منهم رجلا فوقع فيه وشكاه، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): وأنى لك بأخيك كله، وأي
الرجال المهذب (الكافي 2: 476، عنه الوسائل 12: 85)، مرسلة.
فسر العلامة المجلسي (رحمه الله) في المرآة 12: 550 عبارة: بأخيك كله بقوله: أي كل الأخ
التام في الأخوة، أي لا يحصل مثل ذلك إلا نادرا، فتوقع ذلك كتوقع أمر محال، فارض من
الناس بالقليل.
540

الضيافة في الرواية هو الهتك والظلم والإهانة، وإلا لما صح تطبيق الآية
على الموارد.
وأما ما في حاشية الإيرواني (1)، من دعوى أن ترك الأولى نوع من الظلم
فلا وجه له.
قوله: ويبقى من موارد الرخصة لمزاحمة الغرض الأهم صور تعرضوا لها، منها
نصح المستشير.
أقول: مستثنيات الغيبة التي ذكروها تندرج في واحد من ثلاثة
عناوين:
1 - ما كان خارجا عنها موضوعا، كذكر المتجاهر بالفسق إذا خصصنا
الجواز بذكر ما تجاهر فيه من المعاصي، وقد تكلمنا عليه مفصلا، ومن
هذا القبيل ذكر الأشخاص بالأوصاف الظاهرة، كالأعمش والأحول
والأعرج ونحوها، بل من المتعارف في كل زمان ذكر الناس بالأوصاف
الواضحة، كما هو كذلك في كثير من الرواة.
والوجه في ذلك هو ما تقدم في معنى الغيبة، من كونها إظهارا لما
ستره الله على المقول فيه، فذكر الأمور الظاهرة ليس منها شئ.
2 - أن تكون في الغيبة مصلحة تزاحم المفسدة في تركها، كما إذا
توقف حفظ النفس المحترمة أو الأموال الخطيرة أو صيانة العرض عن
الخيانة على الغيبة، ولا بد حينئذ من ملاحظة قواعد التزاحم والعمل
على طبق أقوى الملاكين، وعليه فتتصف الغيبة بالأحكام الخمسة كما
هو واضح.
3 - ما كان خارجا عن الغيبة بالتخصص، وهو على قسمين:

1 - حاشية المحقق الإيرواني على المكاسب: 36.
541

الأول: أن يكون الخروج بدليل مختص بالغيبة كتظلم المظلوم، وقد
تقدم الكلام فيه.
الثاني: أن يكون الخروج بدليل عام جار في أبواب الفقه ولا يختص
بالغيبة فقط، كأدلة نفي الحرج والضرر، هذا كله بحسب الكبرى، وأما
بحسب الصغرى فقد ذكروا لها موارد عديدة:
3 - نصح المستشير:
قال المصنف: فإن النصيحة واجبة للمستشير، فإن خيانته قد تكون
أقوى مفسدة من الوقوع في المغتاب، وكذلك النصح من غير استشارة.
وعليه فالنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه، لأن الغيبة قد تتحقق
باظهار العيوب المستورة حيث لا يتحقق النصح كما هو الكثير، وقد
يتحقق النصح حيث لا تتحقق الغيبة كما إذا لم يتوقف على ذكر أحد
بالسوء، وقد يجتمعان كما إذا استشاره أحد في التزويج بامرأة معلومة
وهو يعلم أنها فاجرة ومتبرجة، أو استشاره في مصاحبة رجل في السفر
أو التجارة أو المجالسة وهو يعلم أنه خائن وسئ الخلق وشارب الخمر
ومرتكب الفجور، وآكل أموال الناس بالظلم والعدوان، أو استشاره في
التلمذة عند شخص وهو يعلم أنه سئ العقيدة أو سئ العمل، فإن
النصح في الموارد المذكورة يتوقف على الغيبة.
وعلى هذا فإن كان دليل وجوب النصح ودليل حرمة الغيبة من قبيل
المتعارضين تساقطا معا في مادة الاجتماع، وكان المرجع إلى أصالة
الإباحة، وإن كانا من قبيل تزاحم المقتضيين فلا بد في ترجيح أحدهما
على الآخر من ملاحظة أقوى الملاكين.
ولكن الظاهر أن ما نحن فيه من صغريات باب التزاحم لا التعارض، فإن
542

الغيبة في موارد الاجتماع مأخوذة في مقدمات النصح، وأنه يتولد منها
ويتوقف عليها، نظير توقف انقاذ الغريق والاتيان بالصلاة على التصرف
في ملك غيره.
وعليه فيتصف كل من النصح والغيبة بالأحكام الخمسة حسب
اختلاف الموارد بقوة الملاك وضعفه، على ما تقدمت الإشارة إليه، فإن
تساوي الملاكان كان النصح والغيبة مباحين، وإن زاد أحدهما على
الآخر كان الزائد متصفا بالوجوب أو الاستحباب بقدر ما فيه من زيادة
الملاك، وكان الناقص محرما أو مكروها بمقدار ما فيه من نقصه.
هذا كله مع تسليم وجوب النصح، ولكن بعد التأمل في الأخبار
الموهمة لوجوب النصح لم نجد فيها ما يدل على الوجوب، فإنها على
أربع طوائف:
1 - ما دل على حرمة خيانة المؤمن لأخيه (1)، ومن المعلوم أنها أجنبية
عما نحن فيه، لعدم الملازمة بين الخيانة وترك النصيحة حتى مع
الاستشارة لامكان رده إلى غيره، سواء كان ذلك الغير أعرف منه بحال
المستشير أم لا، ومن الواضح أنه لو كان النصح واجبا لما جاز رده.

1 - في رواية أبي المأمون الحارثي عن أبي عبد الله (عليه السلام): من حق المؤمن على المؤمن أن
لا يخونه (الكافي 2: 137، عنه الوسائل 12: 207)، مجهولة للحارثي.
عن أبي المعزاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله،
ولا يخونه (الكافي 2: 139، عنه الوسائل 12: 203)، صحيحة.
عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه
(الكافي 2: 133، عنه الوسائل 12: 205)، صحيحة.
وفي رواية الحارث عن أبي عبد الله (عليه السلام): المسلم أخو المسلم، لا يخونه (الكافي 2: 133،
عنه الوسائل 12: 204)، ضعيفة لسهل ومجهولة للمثنى الحناط.
إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المذكورة في المصادر المزبورة.
543

2 - الأخبار الدالة على وجوب نصح المؤمن ابتداء بدون سبق استشارة
واستهداء (1)، وهي وإن كانت كثيرة ومعتبرة ولكنها راجعة إلى الجهات
الأخلاقية فتحمل على الاستحباب.
والوجه في ذلك هو لزوم العسر الأكيد والحرج الشديد من القول
بوجوب النصح على وجه الاطلاق، وتقييده بمورد الابتلاء أو بمن يفي
بحقوق الأخوة من غير أن يضيع منها شيئا، وإن كان يرفع العسر والحرج
ولكن قامت الضرورة على عدم وجوبه هنا أيضا.
3 - الأخبار الواردة في خصوص نصح المستشير، وقد ادعى غير
واحد من المحدثين وغيرهم ظهورها في الوجوب.
منها: قوله (عليه السلام) في رواية ابن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من
استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي سلبه الله عز وجل رأيه (2).
ومنها: قوله (عليه السلام) في رواية النوفلي: من استشاره أخوه المؤمن
فلم يمحضه النصيحة سلبه الله لبه (3).
وفيه: أن التوعيد في هاتين الروايتين بالعقوبة الدنيوية، من سلب اللب

1 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنسك الناس نسكا أنصحهم حبا (الكافي 2: 131، عنه الوسائل
16: 340)، موثقة للسكوني.
عن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه (الكافي
2: 166، عنه الوسائل 16: 381)، صحيحة.
وعن ابن وهب عنه (عليه السلام) قال: يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب
(الكافي 2: 166، عنه الوسائل 16: 381)، صحيحة.
وغير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المتقدمة، راجع الوسائل 16: 381 - 383.
2 - المحاسن: 602، عنه الوسائل 12: 44، مجهولة للحسين بن حازم والحسين بن عمر.
3 - الأربعين لمحيي الدين حلبي بن زهرة: 5، عنه البحار 75: 104، المستدرك 8: 346،
مجهولة لعبد الله بن سليمان النوفلي.
544

والرأي لا يدل على أزيد من الاستحباب ورجحان العمل، فإن العقل من
أعظم النعم الإلهية وقد من به سبحانه على عباده لهدايتهم، فصرفه إلى
غير ما خلق لأجله يوجب الزوال وهو من النقمات الشديدة، كما أن صرفه
إلى ما خلق لأجله يوجب المزية والاستكمال، ولا شبهة في رجحانه.
ومن هنا ظهر أن قوله (عليه السلام) في رواية عباية: وأنصح لمن استشارك (1)،
ارشاد إلى ما ذكرناه، فيكون محمولا على الاستحباب، على أن الروايات
المذكورة كلها مجهولة الرواة.
ويدل على عدم الوجوب أيضا ما أشرنا إليه سابقا من جواز ارجاع
المستشير إلى غيره فإنه ينافي وجوب النصح.
4 - الروايات الآمرة بإعانة المؤمن وكشف كربته وقضاء حاجته (2)،
ومن الواضح أن نصح المؤمن نوع منها فيكون واجبا.
وفيه: أن جميع ما ورد في حقوق الإخوان محمول على الجهات
الأخلاقية، فيحمل على الاستحباب إلا ما ثبت وجوبه في الشريعة، كرد
السلام ونحوه، ضرورة أنه لم يلتزم أحد فيها بالوجوب بل قامت
الضرورة على عدم الوجوب، فتكون الضرورة قرينة على رفع اليد عن
ظهورها في الوجوب.
وحاصل جميع ما قدمناه أنه لا دليل على وجوب النصح بعنوانه
الأولى مطلقا، إلا إذا كان تركه موجبا لتلف النفس وهتك العرض وذهاب
المال الخطير، فإنه يجب حينئذ لأهمية الأمور المذكورة.

1 - الغارات 1: 249، عنه المستدرك 8: 346، مجهولة ليحيى ومالك وعباية.
2 - راجع مصادقة الإخوان للصدوق، والوافي الفصل الخامس أبواب ما يجب على
المؤمن من الحقوق في المعاشرة، والوسائل: 12 أبواب العشرة في السفر، والمستدرك: 9
أبواب العشرة في السفر من كتاب الحج.
545

4 - جواز الاغتياب في مواضع الاستفتاء:
الاستفتاء إذا توقف على ذكر الظالم بالخصوص، بأن يقول للمفتي:
ظلمني فلان في حقي فكيف طريقي في الخلاص.
والذي تقتضيه القاعدة هو الجواز إذا كان السؤال موردا للابتلاء مع
عدم تمكن السائل منه بغير تسمية المغتاب، والوجه في ذلك هو قيام
الأدلة النقلية والعقلية وضرورة المذهب على وجوب تعلم الأحكام الشرعية التي تكون في معرض الابتلاء بها، وعليه فإذا توقف ذلك على
ترك واجب أو ارتكاب حرام فإن العمل حينئذ يكون على طبق أقوى
الملاكين، ومن الواضح أن التعلم أهم من ترك الغيبة، فإن ترك التعلم ينجر
إلى اضمحلال الدين.
وأما بحسب الروايات، فقد استدل على الجواز بروايتين:
1 - شكاية هند زوجة أبي سفيان إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث قالت: إن
أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، ولم يزجرها النبي
(صلى الله عليه وآله) عن قولها (1).
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أن القضية شخصية، فيحتمل أن يكون عدم الردع لفسق أبي
سفيان ونفاقه، أو لمعروفيته بالبخل، حتى قيل إنه كان مضرب المثل في
البخل، على أن مورد الرواية من صغريات تظلم المظلوم، فقد عرفت
جواز ذكر الظالم فيه فلا تدل على جواز الغيبة في مورد الاستفتاء مطلقا.

1 - عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان حين قالت: إن أبا سفيان رجل
شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني، فقال لها: خذي لك ولولدك بالمعروف (عوالي اللئالي
1: 402، عنه المستدرك 9: 129، احياء العلوم 3: 133)، مرسلة.
546

ومن هنا ظهر الجواب عما ورد في قصة بيعة النساء، من أن هند رمت
زوجها أبا سفيان إلى أنه رجل ممسك ولم يردعها الرسول (صلى الله عليه وآله) (1).
2 - صحيحة ابن سنان المشتملة على ذكر الرجل أمه بأنها لا تدفع يد
لامس (2)، ولم يردعه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتدل على جواز الغيبة عند
الاستفتاء.
وفيه أولا: أنه لم يظهر لنا من الرواية كون المرأة معروفة عند النبي
(صلى الله عليه وآله)، وقد عرفت فيما سبق اعتبار العلم بالمغتاب - بالفتح - في تحقق
الغيبة وذكرها بعنوان الأمومة لا يستلزم التعيين ويتفق نظير ذلك كثيرا
للمراجع والمجتهدين.
وثانيا: أن المذكور في الرواية قضية شخصية وخصوصياتها مجهولة
لنا، فيحتمل أن تكون الأم متجاهرة بالزناء، كما هو الظاهر من قول ابنها:
أن أمي لا تدفع يد لامس - الخ، وعلى هذا فلا مجال لاستصحاب عدم
التجاهر كما صنعه المصنف، على أنه لا يترتب عليه أثر إلا على القول
بالأصل المثبت.
5 - جواز الاغتياب لردع المقول فيه عن المنكر:
قصد ردع المغتاب - بالفتح - عن المنكر الذي يفعله، وقد استدل
المصنف على الجواز هنا بوجهين:

1 - راجع مجمع البيان ط صيدا 5: 276.
2 - عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:
إن أمي لا تدفع يد لامس، قال: فاحبسها، قال: قد فعلت، قال: فامنع من يدخل عليها، قال:
قد فعلت، قال: فقيدها فإنك لا تبرها بشئ أفضل من أن تمنعها من محارم الله عز وجل (الفقيه
4: 51، عنه الوسائل 28: 150)، صحيحة.
547

1 - إن الغيبة هنا احسان في حقه، فإنها وإن اشتملت على هتكه
وإهانته إلا أنه توجب انقاذه من المهلكة الأبدية والعقوبة الأخروية.
2 - إن عمومات النهي عن المنكر شاملة لذلك.
أما الوجه الأول، ففيه أولا: أن الدليل أخص من المدعي، إذ ربما
لا يرتدع المقول فيه عن فعل المنكر، وثانيا: أن الغيبة محرمة على
المغتاب - بالكسر - ولا يجوز الاحسان بالأمر المحرم، فإنه إنما يتقبل
الله من المتقين، وهل يتوهم أحد جواز الاحسان بالمال المغصوب
والمسروق إلا إذا كان أعمى البصيرة، كبعض المنحرفين عن الصراط
المستقيم.
ودعوى رضي المقول فيه حينئذ بالغيبة جزافية، فإنها مضافا إلى
بعدها أن رضاه لا يرفع الحرمة التكليفية.
وأما الوجه الثاني، ففيه أنه لا يجوز ردع المنكر بالمنكر لانصراف
أدلته عن ذلك، وإلا لجاز ردع الزناة بالزناء باعراضهم، وردع السراق
بسرقة أموالهم، نعم قد ثبت جواز دفع المنكر بالمنكر في موارد خاصة،
كما يتضح ذلك لمن يلاحظ أبواب النهي عن المنكر وأبواب الحدود،
وقد تقدم في البحث عن حرمة السب جواز شتم المبدع والوقيعة فيه
والبهت عليه بل وجوبها، كما يظهر من بعض الروايات المتقدمة في
المبحث المذكور.
هذا كله فيما إذا لم يكن ردع ذلك المنكر مطلوبا من كل أحد وإلا
وجب ردعه على كل من اطلع عليه بأي نحو اتفق، كمن تصدى لقتل
النفوس المصونة وهتك الأعراض المحترمة وأخذ الأموال الخطيرة،
فإن منعه واجب بما هو أعظم من الغيبة فضلا عنها، لأن حفظ الأمور
المذكورة أهم في نظر الشارع من ترك الغيبة ونحوها، وقد تقدمت
الإشارة إلى حكم مزاحمة ترك الغيبة بما هو أهم منه.
548

6 - جواز الاغتياب لحسم مادة الفساد:
قصد حسم مادة الفساد عن الناس، كاغتياب المبدع في الدين الذي
يخاف اضلاله للناس وقوده إياهم إلى الطريقة الباطلة، ويدل على جواز
الغيبة هنا أمور:
1 - إن مصلحة دفع فتنته عن الناس أولى من الستر عليه، بل ربما يجب
هتكه وحطه عن الأنظار إذا لم يرتدع بالغيبة وحدها، فإن حرمة الدين في
نظر الشارع أهم من حرمة هذا المبدع في الدين.
2 - قوله (عليه السلام) في صحيحة داود بن سرحان المتقدمة في البحث عن
حرمة سب المؤمن: إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا
البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة الغيبة، وباهتوهم
كيلا يطمعوا في الفساد في الاسلام (1).
3 - ما تقدم في البحث عن جواز غيبة المتجاهر بالفسق: ثلاثة ليس
لهم حرمة، صاحب هوى مبتدع، ولكنه ضعيف السند.
7 - جواز جرح الشهود:
وقد اتفق الأصحاب على جواز جرحهم واظهار فسقهم، بل إقامة
البينة على ذلك، صونا لأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم، إذ لولا ذلك
لبغي الفساق في الأرض وأظهروا فيها الفساد فيدعي الواحد منهم على
غيره حقا ماليا أو عرضيا أو بدنيا، أو يدعي زوجية امرأة أجنبية لنفسه أو
يدعي نسبا كاذبا ليرث من ميت ثم يقيم الشهود على دعواه من أشباه
الهمج الرعاع، فيصيب من أموال الناس وأعراضهم ودمائهم ما يشاء.

1 - الكافي 2: 278، عنه الوسائل 16: 267.
549

وأولى بالجواز من ذلك جرح الرواة الضعفاء، إذ يتوقف عليه حفظ
الدين وصيانة شريعة سيد المرسلين، وقد جرى عليه ديدن الأصحاب
في جميع الأمصار والأعصار، ودونوا في ذلك كتبا مفصلة لتمييز الموثق
منهم عن غيره، بل على هذا سيرة الأئمة (عليهم السلام).
ويؤمي إلى هذا قوله تعالى: إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا (1)، فإن
التبين عن حال الفاسق الحامل للخبر لا يخلو عن الجرح غالبا.
ومن هنا يظهر حكم الشهادة على الناس بالقتل والزناء، والسرقة
والقذف وشرب الخمر ونحوها لإقامة الحد عليهم، وقد ثبت جواز
الشهادة بل وجوبها بالكتاب والسنة المعتبرة، كما يظهر ذلك لمن يراجع
أبواب الشهادات.
8 - جواز الاغتياب لدفع الضرر عن المقول فيه:
جواز الاغتياب لدفع الضرر عن المغتاب - بالفتح - كما إذا أراد أحد أن
يقتله، أو يهتك عرضه، أو يأخذ أمواله، أو يضره بما يرجع إليه، فإن
غيبته جائزة لدفع الأمور المذكورة عنه، فإن حفظها أهم في الشريعة
المقدسة من ستر ما فيه من العيوب، بل لو اطلع عليها المقول فيه لرضي
بالاغتياب طوعا.
وقد حمل المصنف على هذا ما ورد في ذم زرارة بن أعين (رحمه الله) من
الأحاديث المذكورة في كتب الرجال (2)، واستوضح ذلك من صحيحة
الكشي الصريحة في تنزيه زرارة وتقديسه عن المطاعن والمعائب (3)،

1 - الحجرات: 6.
2 - راجع رجال الكشي: 133 - 160، الأرقام: 208 - 269.
3 - رجال الكشي: 138، الرقم: 221.
550

وأن ذم الإمام (عليه السلام) إياه في بعض الأحيان إنما هو كتعيب الخضر (عليه السلام)
سفينة المساكين لئلا يأخذ الغاصب من ورائهم، بل تبقى صالحة لأهلها،
وقد أورد الكشي (رحمه الله) في رجاله روايات عديدة مشتملة على اعتذار
الإمام (عليه السلام) عن قدح زرارة وذمه والتبري منه لكي يصان زرارة عن كيد
الخائنين ولا تصيبنه فتنة المعاندين.
ولكن الظاهر أنه لا دلالة في شئ من الروايات المذكورة على مقصود
المصنف، من جواز الغيبة لدفع الضرر عن المقول فيه، فإنك قد عرفت أن
الغيبة إظهار ما ستره الله عليه، ومن الواضح أنه لم يكن في زرارة عيب
ديني ليكون ذكره غيبة، وإنما ذمه الإمام (عليه السلام) وتبرأ منه لحفظ دمه
وشؤونه عن الأخطار، كما عرفت التصريح بذلك فيما أشرنا إليه من
الأخبار المتقدمة، بل الظاهر منها أن قدح الإمام (عليه السلام) فيه يدل على رفعة
شأنه وعظم مقامه وجلالة مرتبته بحيث لا يرضى الإمام (عليه السلام) أن تمسه
أيدي الظالمين.
9 - جواز الاغتياب بذكر الأوصاف الظاهرة:
أن يكون الانسان معروفا بوصف يدل على عيب، كالأعمش والأعرج
والأشتر والأحول والأصم، فإنه لا محذور في ذكر المقول فيه
بالأوصاف المذكورة وما يجري مجراها، فقد كثر بين الفقهاء وعلماء
الرجال ذكر الرواة وحملة الأحاديث بالأوصاف الظاهرة المعربة عن
العيوب.
بل وعليه السيرة القطعية من حديث الأيام وقديمها، بل وكان هذا
مرسوما بين الأئمة (عليهم السلام) أيضا كما يؤمي إليه بعض الأحاديث الواردة في
551

توثيق بعض الرواة (1)، وفي بعض الأحاديث: جاءت زينب العطارة
الحولاء إلى نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد تقدم ذلك في البحث عن
حرمة الغش.
والوجه في جواز ذلك أن ذكر الأوصاف الظاهرة خارج عن تعريف
الغيبة كما تقدم، لأنها ليست مما ستره الله، إلا إذا كان ذكرها بقصد
التنقيص والتعيير فإنه حرام من غير جهة الاغتياب.
10 - إذا علم السامع بها:
قال الشهيد في كشف الريبة (2): قيل: إذا علم اثنان من رجل معصية
شاهداها فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز لأنه لا يؤثر
عند السامع شيئا، ثم قال: الأولى تنزيه النفس عن ذلك بغير غرض
صحيح خصوصا مع احتمال النسيان، ولكن الظاهر خروج هذا القسم عن
الغيبة موضوعا، وهو واضح.
11 - رد من ادعى نسبا ليس له:
وقد استدل عليه المصنف بأن مصلحة حفظ الأنساب أولى من
مراعاة حرمة المغتاب.
أقول: أهمية حفظ الأنساب ثابتة فيما إذا ترتب على النسب أثر شرعي
من التوارث والنظر إلى النساء ونحوهما، وأما إذا لم يترتب عليه أثر
شرعي أو ترتب الأثر على دعوى النسب كأن ادعاه لصيانة نفسه أو عرضه

1 - عن الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أحب الناس إلى أحياء
وأمواتا أربعة، وذكر منهم الأحول، وهو محمد بن علي (رجال الكشي: 135، الرقم: 215.
2 - كشف الريبة: 80.
552

أو ماله من إصابة الظالم إياها، فلا تجوز الغيبة برد هذه الدعوى، ومع
الشك في مورد يرجع إلى المطلقات الدالة على حرمة الغيبة على وجه
الاطلاق، لأن الشبهة وإن كانت مصداقية إلا أن التخصيص من جهة
المزاحمة فلا بد من الاقتصار على المتيقن.
12 - القدح في مقالة باطلة:
فإن وجوب حفظ الحق وإضاعة الباطل أهم من احترام المقول فيه.
وأما ما وقع من بعض المتجاهرين بالنسبة إلى الأعاظم أحياء كانوا أم
أمواتا من الجهر بالسوء كاطلاق الغبي والبله ونحوهما من الألفاظ
القبيحة فلا شبهة في حرمته لكونه من الفحش والشتم كما تقدمت
الإشارة إليه في البحث عن حرمة السب.
قوله: ثم إنهم ذكروا موارد للاستثناء لا حاجة إلى ذكرها.
أقول: منها تفضيل بعض العلماء على بعضهم وإن استلزم انتقاص
الآخر، ولا ريب في جوازه لتوقف الغرض الأهم عليه، وقد جرى على
هذا ديدن الأصحاب في جميع الأزمان والأقطار، خصوصا في تعيين
مراجع التقليد، ولكن هذه مرحلة كم زلت فيها الأقدام، عصمنا الله من
الزلل.
حرمة استماع الغيبة:
قال المصنف (رحمه الله): يحرم استماع الغيبة بلا خلاف، فقد ورد أن السامع
للغيبة أحد المغتابين، والأخبار في حرمته كثيرة، إلا أن ما يدل على كونه
من الكبائر كالرواية المذكورة ونحوها ضعيفة السند.
553

أقول: الظاهر أنه لا خلاف بين الشيعة والسنة (1) في حرمة استماع
الغيبة، ولكنا لم نجد دليلا صحيحا يدل عليها، بحيث يكون استماع
الغيبة من المحرمات فضلا عن كونه من الكبائر، إذ ما ورد في حرمته من
طرق الخاصة (2) ومن طرق العامة (3) كله لا يخلو عن الارسال وضعف
السند، فلا يكون قابلا للاستناد إليه.
نعم قال في كتاب الاختصاص: نظر أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى رجل
يغتاب رجلا عند الحسن ابنه (عليه السلام)، فقال: يا بني نزه سمعك عن مثل
هذا فإنه نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك (4).
فإنه ربما يدعى كونه رواية مسندة قد أرسلها صاحب الاختصاص
للاختصار، فيدل ذلك على وثاقة رواتها المحذوفين عنده، إذ فرق بين
كلمة: روي عنه كذا، وبين كلمة: قال فلان كذا، فإن القول الأول ظاهر في
كون المنقول مرسلا دون الثاني، وعليه فهي رواية معتبرة تدل على
حرمة استماع الغيبة، ولكن يرد عليه أن ثبوت الاعتبار عنده لا يستلزم
ثبوته عندنا، إذ لعله يعتمد على ما لا نعتمده.

1 - راجع احياء العلوم 3: 126.
2 - عن كتاب الروضة عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: الغيبة كفر، والمستمع لها، والراضي
بها مشرك (المستدرك 9: 133)، مرسلة.
وعن الشيخ أبي الفتوح الرازي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: السامع للغيبة أحد المغتابين
(تفسير أبي الفتوح 5: 125، عنه المستدرك 9: 133)، مرسلة.
وعن القطب الراوندي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من سمع الغيبة ولم يغير كان كمن اغتاب
(لب اللباب، مخطوط، عنه المستدرك 9: 133)، مرسلة.
3 - في احياء العلوم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المستمع أحد المغتابين (احياء العلوم
3: 128)، وغير ذلك من الأحاديث.
4 - الاختصاص: 225، عنه المستدرك 9: 132.
554

وقد يستدل على الحرمة مطلقا بحديث المناهي، فإن رسول الله
(صلى الله عليه وآله): نهى عن الغيبة والاستماع إليها، ونهى عن النميمة والاستماع
إليها (1).
وفيه أولا: أنه ضعيف السند كما عرفته مرارا.
وثانيا: أن صدره وإن كان ظاهرا في الحرمة مطلقا إلا أن ذيله قرينة
على حرمة الاستماع مع عدم الرد فقط، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): ومن تطوع
على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردها عنه رد الله عنه ألف باب
من الشر في الدنيا والآخرة، فإن هو لم يردها وهو قادر على ردها كان
عليه كوزر من اغتابه سبعين مرة (2)، وحملها على السماع القهري خلاف
الظاهر منها، على أنه أمر نادر.
وقد يجاب عن حديث المناهي بعدم ظهوره في الحرمة التكليفية،
فإن النهي فيه عن استماع الغيبة نهي تنزيهي وارشاد إلى الجهات
الأخلاقية، ويدل عليه من الحديث ذكر الأمور الأخلاقية فيه من آثار
الغيبة، ككونها موجبة لبطلان الوضوء والصوم.
وفيه: أن ما ثبت كونه راجعا إلى الأخلاقيات ترفع اليد فيه عن ظهور
النهي في الحرمة، وأما غيره فيؤخذ بظهوره لا محالة كما حقق في محله.
ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه وتسليم صحة الروايات المتقدمة
الظاهرة في حرمة استماع الغيبة مطلقا فلا بد من تقييدها بالروايات
المتكثرة (3) الظاهرة في جواز استماعها لردها عن المقول فيه،

1 - الفقيه 4: 4، عنه الوسائل 12: 282، مكارم الأخلاق 2: 306، مجهولة لشعيب بن واقد.
2 - الفقيه 4: 4، عنه الوسائل 12: 282، مكارم الأخلاق 2: 306، مجهولة لشعيب بن واقد.
3 - في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا علي من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع
نصره فلم ينصره خذله الله في الدنيا والآخرة (الفقيه 4: 269، عنه الوسائل 12: 291)، رجال
سند هذه الوصية مجاهيل لا طريق إلى الحكم بصحتها.
وعن أبي الورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من اغتيب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه نصره
الله وأعانه في الدنيا والآخرة، ومن لم ينصره ولم يعنه ولم يدفع عنه وهو يقدر على نصرته
وعونه إلا خفضه الله في الدنيا والآخرة (ثواب الأعمال: 299، ثواب الأعمال: 177، المحاسن
: 103، عنهم الوسائل 12: 291)، حسنة لأبي الورد.
وعن عقاب الأعمال عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال في خطبة له: ومن رد عن أخيه غيبة سمعها في
مجلس رد الله عنه ألف باب من الشر في الدنيا والآخرة، فإن لم يرد عنه وأعجبه كان كوزر من
اغتاب (عقاب الأعمال: 335، عنه الوسائل 12: 291)، ضعيفة لموسى بن عمران وأبي هريرة
وغيرهم.
عن النبي (صلى الله عليه وآله) في وصية له قال: يا أبا ذر من ذب عن أخيه المؤمن الغيبة كان حقا على الله
أن يعتقه من النار، يا أبا ذر من اغتيب عنده أخوه المؤمن وهو يستطيع نصره فنصره نصره الله
في الدنيا والآخرة، فإن خذله وهو يستطيع نصره خذله الله في الدنيا والآخرة (أمالي الطوسي
2: 150، عنه الوسائل 12: 293، مكارم الأخلاق 2: 362، الرقم: 2661، عنه المستدرك 9: 131
)، ضعيفة لأبي المفضل ورجاء وابن ميمون أو شمون.
وغير ذلك من الروايات الدالة على وجوب رد الاغتياب المذكورة في الباب المزبورة من
الوسائل والمستدرك وغيرها من المصادر.
555

وتخصيصها بصورة السماع القهري، قد تقدم الجواب عنه آنفا، وعليه
فإنما يحرم استماع الغيبة مع عدم الرد.
وقد يقال: إن النسبة بين الأخبار الواردة في سماع الغيبة للرد وبين
المطلقات المتقدمة الدالة على حرمة سماع الغيبة هي العموم من وجه،
فإن الطائفة الأولى أعم من الثانية من حيث شمولها للسماع القهري
الاتفاقي، وأخص منها من حيث اختصاصها بصورة الاستماع للرد فقط،
والطائفة الثانية أعم من حيث شمولها للاستماع بغير داعي الرد، وأخص
من حيث اختصاصها بالاستماع الاختياري.
556

فيقع التعارض بينهما في مورد الاجتماع، ويؤخذ بالطائفة الأولى
لكونها صحيحة السند دون الطائفة الثانية، بناء على أن صحة السند من
المرجحات كما هو المشهور بين المتأخرين.
ولكن يرد عليه: أن مجرد صحة السند لا يكون من المرجحات في
معارضة الدليلين، وقد حققناه في علم الأصول، وعليه فتسقطان
للمعارضة ويرجع إلى عمومات ما دل على رجحان إعانة المؤمن، وإلا
فيرجع إلى البراءة، على أنك قد عرفت أن الطائفة الثانية ضعيفة السند،
فلا تعارض الطائفة الأولى فضلا عن وصول النوبة إلى الترجيح.
وعلى ما ذكرناه من عدم الدليل الصحيح على حرمة استماع الغيبة
فإنما يلتزم بالجواز إذا لم يرض السامع بالغيبة، أو لم يكن سكوته امضاء
لها، أو تشجيعا للمتكلم عليها، أو تسبيبا للاغتياب من آخر، وإلا كان
حراما من هذه الجهات، وقد ورد في أحاديث عديدة أن الراضي بفعل
قوم كالداخل معهم (1).
وتقدم في البحث عن بيع المتنجس حرمة التسبيب لوقوع الجاهل في
الحرام الواقعي، بل تحرم مجالسته للأخبار المتظافرة الدالة على حرمة
المجالسة مع أهل المعاصي - وسنشير إلى مصادرها - كما تحرم مجالسة
من يكفر بآيات الله للآية (2).

1 - راجع الوافي باب حد الأمر بالمعروف، والوسائل 16: باب 5 وجوب انكار المنكر
بالقلب من الأمر بالمعروف: 137 - 143، والمستدرك 12: 195 - 197.
وفي شرح النهج لمحمد عبده 3: 191 قال علي (عليه السلام): الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم
وعلى كل داخل أثمان: إثم العمل به وإثم الرضا به.
2 - قوله تعالى: وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ
بها فلا تقعدوا معهم - الآية، النساء: 140.
557

وقد يستدل على حرمة الاستماع بأدلة حرمة الغيبة، بدعوى عدم
تحققها إلا بالمستمع، وفيه: أن حرمة الغيبة لا تلازم حرمة الاستماع وإن
كان بينهما تلازم خارجا، فإن التلازم في الخارج لا يستدعي التلازم في
الحكم، وقد جاز سماع الغيبة للرد جزما.
قوله: والظاهر أن الرد غير النهي عن الغيبة.
أقول: الغرض من رد الغيبة هو نصرة المغتاب وتنزيهه عن تلك
الوقيعة وإن أفاد النهي عن المنكر أيضا، وأما النهي عن الغيبة فهو من
صغريات النهي عن المنكر فيجري عليه حكمه، سواء قلنا بوجوب رد
الغيبة أم لا.
ثم إن نصرة الغائب برد الغيبة عنه تختلف باختلاف المعائب، فإن كان
العيب راجعا إلى الأمور الدنيوية فنصرته بأن يقول مثلا: العيب ليس إلا ما
عابه الله من المعاصي، وإن كان راجعا إلى الأمور الدينية وجهه بما
يخرجه عن كونه معصية، وإذا لم يقبل التوجيه رده بأن المؤمن قد يبتلي
بالذنوب فإنه ليس بمعصوم، وهكذا ينصره في ذكر سائر العيوب.
حرمة الغيبة لا تلازم حرمة استماعها:
قوله: ثم إن المحرم سماع الغيبة المحرمة دون ما علم حليتها.
أقول: إذا سلمنا حرمة سماع الغيبة بالإرادة والاختيار فهل هو حرام
مطلقا حتى مع جواز الاغتياب كما في الموارد المتقدمة، أو أنه يحرم مع
حرمة الاغتياب فقط، أو يفصل بين علم السامع بالحلية فيلتزم بالجواز،
وبين جهله بها فيلتزم بالحرمة.
وظاهر المصنف جواز الاستماع ما لم يعلم السامع حرمة الغيبة، لأنه
قول غير منكر فلا يحرم الاصغاء إليه للأصل، وأما حديث: السامع أحد
558

المغتابين، فمع تسليم صحته يدل على أن السامع لغيبة كالمتكلم بتلك
الغيبة في الحرمة والحلية، فيكون دليلا على الجواز هنا.
إلا أن يقال: إن الحديث ينزل السامع للغيبة منزلة المتكلم بها، فإذا
جاز للسامع التكلم بالغيبة جاز له سماعها وإلا فلا، ولكنه خلاف الظاهر
من الحديث.
والتحقيق أن جواز الغيبة قد يكون حكما واقعيا وقد يكون حكما
ظاهريا، أما الجواز الواقعي فلا ملازمة فيه بين جواز الغيبة وجواز
الاستماع إليها، لأنه يتصور على أنحاء ثلاثة:
1 - أن يكون المقول فيه جائز الغيبة عند الناس من غير اختصاص
بشخص دون شخص، بأن كان متجاهرا في الفسق ومتظاهرا في مخالفة
المولى، فإن مثل هذا تجوز غيبته واقعا لكل أحد، أما مطلقا أو في
خصوص ما تجاهر فيه من الذنوب على الخلاف المتقدم، بل قد عرفت
خروجه عن موضوع الغيبة رأسا، وعليه فالاستماع إليها أولى بالجواز،
وكذلك الكلام في غيبة المبدع في الدين والإمام الجائر.
2 - أن يكون جواز الغيبة الواقعي مختصا بالمغتاب - بالكسر - كالصبي
المميز والمكره على اغتياب الناس، وعليه فلا يجوز استماعها مطلقا
لمن يحرم عليه الاغتياب لعدم الملازمة بينهما، فإن ارتفاع الحكم عن
أحدهما لا يستلزم ارتفاعه عن الآخر.
وعلى الجملة جواز السماع يدور مدار الرد عن المغتاب - بالفتح -
ومع عدمه كان حراما وإن لم يكن المغتاب - بالكسر - مكلفا، فتحصل أن
الاغتياب جائز والاستماع حرام، كما أنه قد يكون السماع جائزا
والاستماع حراما، نظير ما إذا كان المغتاب - بالكسر - ممن لا يمكن رده
ولا الفرار عنه كالسلطان الجائر ونحوه، ولذا سكت الإمام المجتبى (عليه السلام)
عند سب أبيه.
559

ونظير ذلك ما إذا تصدى أحد لقتل شخص محقون الدم بزعم أنه كافر
حربي، ونحن نعلم أنه محقون الدم فإنه يحرم علينا السكوت وإن جاز له
القتل، ونظائره كثيرة في باب الرشوة وغيره.
3 - أن تكون هنا ملازمة عرفية بين جواز الغيبة وجواز الاستماع إليها
كتظلم المظلوم، فإن مناط جواز الغيبة هنا هو ظهور ظلامته واشتهارها
بين الناس، وهذا المعنى لا يتحقق في نظر العرف إلا بسماع التظلم منه،
وكذلك الشأن في سماع الغيبة في موارد الاستفتاء.
وعلى الجملة فجواز الغيبة واقعا لا يلازم جواز السماع ملازمة
دائمية بل النسبة بينهما عموم من وجه، فقد تحرم الغيبة دون الاستماع
كالمكره على السماع، وقد يحرم الاستماع دون الغيبة كما إذا كان القائل
معذورا في ذلك دون السامع، وقد يجتمعان.
وأما الجواز الظاهري للغيبة، فهل يلازم جواز استماعها أم لا، كما إذا
احتمل السامع أو صرح القائل بأن المقول فيه مستحق للغيبة؟
ففي كشف الريبة (1) عند ذكر مستثنيات الغيبة أنه: إذا سمع أحد مغتابا
لآخر وهو لا يعلم استحقاق المقول عنه للغيبة ولا عدمه، قيل: لا يجب
نهي القائل لامكان استحقاق المقول عنه، فيحمل فعل القائل على
الصحة ما لم يعلم فساده لأن ردعه يستلزم انتهاك حرمته، وهو أحد
المحرمين.
وأجاب الشهيد (رحمه الله) عن ذلك في الكتاب المذكور بأن الأولى التنبيه
على ذلك إلى أن يتحقق المخرج منه، لعموم الأدلة وترك الاستفصال
فيها، وهو دليل إرادة العموم حذرا من الاغراء بالجهل، ولأن ذلك لو تم

1 - كشف الريبة: 81.
560

لتمشي فيمن يعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة إلى السامع،
لاحتمال اطلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقاله، وهو هدم قاعدة
النهي عن الغيبة.
ورده المصنف بأن في ذلك خلطا بين رد الغيبة والنهي عنها، والذي
نفاه القائل بعدم وجوب النهي هو الثاني الذي هو من صغريات النهي عن
المنكر دون الأول.
وتحقيق مراد المصنف أن النسبة بين وجوب رد الغيبة ووجوب
النهي عنها عموم من وجه، فإنه قد يجب النهي عن الغيبة لوجوب النهي
عن المنكر حيث لا يجب ردها ولو من جهة كون المقول فيه جائز الغيبة
عند السامع مع كونه مستورا عند القائل، ومع ذلك يجب نهي القائل عنها
من باب وجوب النهي عن المنكر.
وقد يجب رد الغيبة حيث لا مورد للنهي عن المنكر، كما إذا كان
المغتاب - بالكسر - صبيا فإن فعله ليس بمنكر لكي يجب النهي عنه، إلا أنه يجب على السامع حينئذ رد الغيبة حفظا لاحترام أخيه المؤمن، وقد
يجتمعان كما إذا علم السامع بكون الاغتياب حراما، فإنه من حيث كونه
من المنكرات في الشريعة يجب النهي عنه، ومن حيث كونه هتكا
للمؤمن وكشفا لعورته يجب رده.
وإذا شك في استحقاق المقول فيه الغيبة وعدم استحقاقه حرم
سماعها على القول بحرمته ووجب ردها على النحو الذي تقدم من
توجيه فعل المقول فيه على نحو يخرجه عن المعصية، ومع هذا لا يجب
نهي القائل بل لا يجوز، لامكان استحقاق المقول فيه، فيحمل فعل
القائل على الصحة ما لم يعلم فساده، فإن ردعه يستلزم انتهاك حرمته
وهو حرام، على أن اثبات وجوب الردع بأدلة النهي عن المنكر تمسك
بالعام في الشبهات المصداقية وهو لا يجوز.
561

لا يقال: كما لا يجب نهي القائل عن الغيبة فكذلك لا يجب ردها
لاحتمال كون المقول فيه مستحقا للغيبة عند القائل ومسلوب الاحترام
في عقيدته، وعليه فاثبات وجوب الرد في الفرد المشكوك بالأدلة الدالة
على وجوب احترام المؤمن ووجوب رد غيبته تمسك بالعام في الشبهة
المصداقية.
فإنه يقال: أولا أنه لا شبهة في كون المقول فيه مؤمنا وجدانا، وعدم
وجود المجوز لاغتيابه محرز بأصالة العدم، فإن المقول فيه كان في زمان
ولم يكن فيه ما يجوز غيبته والأصل بقاؤه في تلك الحالة، وقد ذكرنا في
محله أن عنوان المخصص إذا كان أمرا وجوديا فإنه ينفى بالأصل
الموضوعي في مورد الشك وينقح به موضوع التمسك بالعام، ولا يلزم
منه التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وكذلك في المقام، إذا شككنا
أن المقول فيه جائز الغيبة عند القائل أم لا نستصحب عدمه، وينقح به
موضوع التمسك بعموم ما دل على حرمة استماع الغيبة على تقدير
ثبوته، وبعموم ما دل على وجوب رد الغيبة.
وثانيا: أن المتعارف من أفراد الغيبة هو أن السامع لا يعلم نوعا بحال
المقول فيه، والظاهر من الروايات الدالة على وجوب رد الغيبة أن ذلك
هو المراد، إذ لو حملناها على خصوص ما إذا علم السامع بكون المقول
فيه غير جائز الغيبة كان ذلك حملا لها على المورد النادر.
حرمة كون الانسان ذا لسانين:
قوله: ثم إنه قد يتضاعف عقاب المغتاب إذا كان ممن يمدح المغتاب في حضوره.
أقول: توضيح كلامه أنه إذا كان للانسان لسان مدح في الحضور ولسان
ذم في الغياب استحق بذلك عقابين: أحدهما للاغتياب، والثاني لكونه ذا
562

لسانين، ويسمى هذا منافقا أيضا، وإذا مدح المقول فيه في حضوره بما
ليس فيه عوقب بثلاثة عقاب: للاغتياب والكذب والنفاق.
ثم إن الحمد في الحضور بالأوصاف المباحة وإن كان جائزا في نفسه
بل ربما يكون مطلوبا للعقلاء، ولكنه إذا كان مسبوقا بالذم أو ملحوقا به
كان من الجرائم الموبقة والكبائر المهلكة، وقد ورد في الأخبار
المستفيضة (1) أن ذا لسانين يجئ يوم القيامة وله لسانان من النار، فإن
لسانه المدح في الحضور وإن لم يكن لسانا من النار إلا أنه إذا تعقبه أو
تقدمه لسان الذم في الغياب صار كذلك.
ثم إن النسبة بين المغتاب - بالكسر - وبين ذي اللسانين هي العموم من
وجه، فإنه قد توجد الغيبة ولا يوجد النفاق، وقد يوجد النفاق حيث
لا توجد الغيبة، كأن يمدح المقول فيه حضورا ويذمه بالسب والبهتان
غيابا، وقد يجتمعان كما عرفت.
قوله: وقد يطلق الاغتياب على البهتان.
أقول: قد عرفت أن الغيبة هي أن تقول في أخيك ما ستره الله عليه،
وأما البهتان فهو على ما تقدم في بعض أخبار الغيبة: ذكرك أخاك بما ليس
فيه، فهما متبائنان مفهوما ومصداقا، نعم بناء على مقالة المشهور، من أن
الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه، فيمكن اجتماعهما في بعض الموارد.
وأما اطلاق الغيبة على البهتان في رواية علقمة (2) فبنحو من المسامحة

1 - الكافي 2: 257، الخصال: 38، الزهد: 5، عنهم الوسائل 12: 256 - 260، المستدرك
9: 96 - 97.
2 - عن الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من اغتاب مؤمنا بما فيه لم يجمع الله
بينهما في الجنة أبدا، ومن اغتاب مؤمنا بما ليس فيه فقد انقطعت العصمة بينهما وكان المغتاب
في النار خالدا فيها وبئس المصير - الحديث (أمالي الصدوق: 91، عنه الوسائل 12: 285)،
ضعيف لعلقمة بن محمد وصالح بن عقبة وغيرهما.
563

والتجوز، على أنها ضعيفة السند، وأما كون عقاب التهمة أشد من الغيبة
فلاشتمالها على الفرية والهتك معا.
حقوق الإخوان:
قوله: خاتمة: في بعض ما ورد من حقوق المسلم على أخيه.
أقول: قد ورد في الروايات المتظافرة بل المتواترة (1) أن للمسلم على
أخيه حقوقا كثيرة.
وفي رواية الكراجكي: أن للمؤمن على أخيه ثلاثين حقا - وعدها
واحدا بعد واحد، ثم قال (عليه السلام): - سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: وإن
أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة فيقضي له
وعليه (2)، وقد عرفت في البحث عن كفارة الغيبة أنها ضعيفة السند.
وفي صحيحة مرازم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: ما عبد الله بشئ
أفضل من أداء حق المؤمن (3).
وقد خص المصنف هذه الأخبار بالأخ العارف بهذه الحقوق المؤدي
لها بحسب اليسر، أما المؤمن المضيع لها فالظاهر عدم تأكد مراعاة هذه
الحقوق بالنسبة إليه، ولا يوجب اهمالها مطالبته يوم القيامة لتحقق
المقاصة، فإن التهاتر يقع في الحقوق كما يقع في الأموال، واستشهد
المصنف (رحمه الله) على رأيه هذا بعدة روايات قاصرة الدلالة عليه:

1 - راجع مصادقة الإخوان للصدوق، والكافي باب حق المؤمن على أخيه، والوافي باب
حقوق الأخوة وباب صفة الأخ، والوسائل والمستدرك باب وجوب أداء حق المؤمن من كتاب
العشرة، والبحار كتاب العشرة، وغير ذلك من الأبواب من الكتب المذكورة وغيرها.
2 - كنز الكراجكي: 141، عنه الوسائل 12: 212.
3 - الكافي 2: 136، عنه الوسائل 12: 203.
564

منها: ما رواه الصدوق والكليني عن أبي جعفر (عليه السلام)، وقد ذكر فيها:
إخوان الثقة وإخوان المكاشرة، وقال في إخوان المكاشرة: وابذل لهم
ما بذلوا لك من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان (1).
وفيه: أن هذه الرواية غريبة عما ذكره المصنف، فإنها مسوقة لبيان
وظيفة العمل بحقوق الإخوان على حسب مراتب الأخوة، فإن منهم من
هو في أرقى مراتب الأخوة في أداء حقوقها حتى يطمئن به الانسان على
عرضه وماله وسائر شؤونه، وهذا الأخ كالكف والجناح، فيبذل له
المال واليد، ويعادي من عاداه ويصافي من صافاه، ومنهم إخوان الإنس
والفرح والمجالسة والمفاكهة، فلا يبذل لهم إلا ما يبذلون من طلاقة
الوجه وحلاوة اللسان، ولا يطمأن إليهم في الأمور المذكورة.
ومنها: رواية عبيد الله الحلبي (2)، فإنها تدل على أن للصداقة حدودا،

1 - عن أبي مريم الأنصاري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين
(عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الإخوان، فقال: الإخوان صنفان: إخوان الثقة وإخوان
المكاشرة، فأما إخوان الثقة فهم الكف والجناح والأهل والمال، فإذا كنت من أخيك على حد
الثقة فأبذل له مالك وبدنك، وصاف من صافاه، وعاد من عاداه، واكتم سره وعيبه، وأظهر منه
الحسن، واعلم أيها السائل أنهم أقل من الكبريت الأحمر، وأما إخوان المكاشرة فإنك تصيب
لذتك منهم فلا تقطعن ذلك منهم، ولا تطلبن ما وراء ذلك عن ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك
من طلاقة الوجه وحلاوة اللسان (الكافي 2: 193، عنه الوسائل 12: 146)، صحيحة.
ورواها الصدوق في مصادقة الإخوان: 30 مرسلا، وفي الخصال: 49 بسند فيه ضعف
لعبد الله بن أحمد الرازي وبكر بن صالح ومحمد بن حفص وغيرهم.
الكشر: التبسم، كاشره: كشف له أنيابه.
2 - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود
أو شئ منها فانسبه إلى الصداقة، ومن لم يكن فيه شئ منها فلا تنسبه إلى شئ من الصداقة،
فأولها: أن تكون سريرته وعلانيته لك واحدة، والثانية: أن يرى زينك زينه وشينك شينه، و
الثالثة: أن لا تغيره عليك ولاية ولا مال، و الرابعة: أن لا يمنعك شيئا تناله مقدرته، والخامسة
وهي تجمع هذه الخصال: أن لا يسلمك عند النكبات (الكافي 2: 467، مصادقة الإخوان: 30،
عنهما الوسائل 12: 25)، ضعيفة لعبيد الله الدهقان.
الاسلام: الخذلان.
565

ولا يليق بها إلا من كانت فيه هذه الحدود.
ووجه الاستدلال هو ما ذكره المصنف، من أنه إذا لم تكن الصداقة
لم تكن الإخوة، فلا بأس بترك الحقوق المذكورة بالنسبة إليه.
وفيه: أن الصداقة المنفية عمن لا يفي بحدودها غير الأخوة الثابتة بين
المؤمنين بنص الآية (1) والروايات، ومن الواضح أن الحقوق المذكورة إنما
ثبتت للأخوة المحضة، سواء أكانت معها صداقة أم لا.
وعليه فنفي الصداقة في مورد لا يدل على نفي الأخوة لأن الصداقة
فوق الأخوة، ونفي المرتبة الشديدة لا يدل على نفي المرتبة الضعيفة،
على أن الرواية ضعيفة السند.
ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بما في نهج البلاغة (2) من نفي
الصداقة عمن لا يحفظ أخاه في ثلاث، مع أنه ضعيف للارسال.
ومنها: ما دل على سلب الأخوة عمن لا يلبس المؤمن العاري،
كروايتي الوصافي (3) وابن أبي عمير (4).

1 - قوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة، الحجرات: 10.
2 - في النهج، قال (عليه السلام): لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته و
غيبته ووفاته (النهج، قسم قصار الحكم، الرقم: 134)، مرسلة.
3 - عن علي بن عقبة عن الوصافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: يا أبا إسماعيل
أرأيت من قبلكم إذا كان الرجل ليس له رداء وعند بعض إخوانه فضل رداء يطرح عليه حتى
يصيب رداءا، قال: قلت: لا، قال: فإذا كان ليس عنده إزار يوصل إليه بعض إخوانه فضل إزار
حتى يصيب إزارا، قلت: لا، فضرب بيده على فخذه ثم قال: ما هؤلاء بإخوة (مصادقة الإخوان: 36، عنه الوسائل 12: 26)، مرسلة.
4 - عن محمد بن أبي عمير عن خلاد السندي رفعه قال: أبطأ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجل
فقال: ما أبطأ بك؟ فقال: العرى يا رسول الله، فقال: أما كان لك جار له ثوبان يعيرك أحدهما؟
قال: بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: ما هذا لك بأخ (مصادقة الإخوان: 36، عنه الوسائل
12: 27)، مرفوعة ومجهولة لخلاد.
566

وفيه: أن المراد من سلب الأخوة في الروايتين كناية عن سلب الأخوة
الكاملة، فقد تعارف بين المتحاورين نفي المحمول بلسان نفي الموضوع
لأجل المبالغة في التعبير، كما يقال: يا أشباه الرجال ولا رجال،
ولا صلاة لجار المسجد إلا فيه، ولا شك لكثير الشك، ويقال لمن
لا يعمل بعلمه أنه ليس بعالم، إلى غير ذلك من الاطلاقات الفصيحة.
وعليه فلا دلالة في الروايتين على نفي الأخوة حقيقة الذي هو مفاد
ليست التامة.
ويدل على ما ذكرناه أنه لو أريد من السلب نفي الأخوة حقيقة لزم
القول بعدم وجوب مراعاة سائر الحقوق الثابتة، من رد الاغتياب ونحوه
وهو بديهي البطلان، ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أن الروايتين ضعيفتا
السند.
ومنها: رواية يونس بن ظبيان (5) الدالة على اختبار الإخوان باتيانهم

5 - عن المفضل بن عمر ويونس بن ظبيان قالا: قال أبو عبد الله (عليه السلام): اختبروا إخوانكم
بخصلتين، فإن كانتا فيهم وإلا فأعزب ثم أعزب: المحافظة على الصلاة في مواقيتها، والبر
بالإخوان في العسر واليسر (الكافي 2: 493، عنه الوسائل 12: 148)، مجهولة لعمر بن
عبد العزيز.
أقول: العزوب - بالعين المهملة والزاء - البعد والغيبة.
567

بالصلاة في وقتها وبرهم في الإخوان، وإذا لم يحفظوهما فاعزبوا عنهم.
وفيه: أن ظاهر الرواية كونها راجعة إلى ترك العشرة والمجالسة مع من
لا يهتم بالاتيان بالصلاة في أوقاتها والاحسان للإخوان في اليسر
والعسر، فإن المجالسة مؤثرة كتأثير النار في الحطب، ولذا نهى عن
المجالسة مع العصاة والفساق (1)، وأمر بمجالسة العلماء والصلحاء (2)،
وعليه فلا دلالة فيها على نفي الأخوة عمن لا يقوم بحقوق الإخوان، على
أن الرواية مجهولة، وعلى الجملة فلا وجه لتقييد المطلقات الواردة في
حقوق الإخوان بصورة قيامهم بذلك.
ولا يخفى أن الميزان في تأدية حقوق الأخوة هو الميزان في الامتثال
في بقية الأعمال المستحبة، من أن الاتيان بجميعها تكليف بما لا يطاق،
فتقع المزاحمة بينها في مرحلة الامتثال فيؤتى الأهم فالأهم.
المسألة (15)
حرمة القمار
قوله: الخامسة عشرة: القمار حرام اجماعا.
أقول: تحقيق الكلام في حرمة القمار يقع في جهتين: الأولى في
حرمة بيع الآلات المعدة للقمار وضعا وتكليفا، وقد تقدم الكلام فيه
تفصيلا في النوع الثاني، الثانية في حرمة اللعب بها، وتنقيح الكلام هنا
في ضمن مسائل أربع:

1 - راجع الوسائل: 16 باب 37 تحريم مجاورة أهل المعاصي ومخالطتهم، وباب 38
تحريم المجالسة لأهل المعاصي من الأمر بالمعروف، والوسائل: 12 باب 17 تحريم مصاحبة
الكذاب والفاسق من العشرة.
2 - راجع الوسائل: 12 باب 11 استحباب صحبة خيار الناس من كتاب العشرة.
568

1 - حرمة اللعب بالآلات المعدة للقمار مع المراهنة:
أنه لا خلاف بين الفقهاء من الشيعة والسنة (1) في حرمة اللعب بالآلات
المعدة للقمار مع المراهنة، ومن هذا القبيل الحظ والنصيب المعروف
في هذا الزمان المعبر عنه في الفارسية بلفظ: بليط آزمايش بخت، نظير
اللعب بالأقداح في زمن الجاهلية، وسنتعرض لتفسير اللعب بالأقداح في
الهامش.
بل على حرمة القمار ضرورة مذهب الاسلام، وتدل عليها الآيات
المتظافرة (2) والروايات المتواترة من طرقنا (3) ومن طرق السنة (4)، وقد أشير
إلى حكمة التحريم في قوله تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم
العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن
الصلاة فهل أنتم منتهون (5).
فإن أخذ مال الناس بغير تجارة ومشقة موجب لالقاء العداوة
والبغضاء، والاشتغال بلعب القمار يصد عن ذكر الله وعن امتثال الأحكام
الإلهية.

1 - في فقه المذاهب: وكذلك نهت الشريعة نهيا شديدا عن الميسر - القمار - فحرمته
بجميع أنواعه، وسدت في وجه المسلمين سبله ونوافذه، وحذرتهم من الدنو من أي ناحية من
نواحيه (فقه المذاهب الأربعة 2: 47).
2 - منها قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس
من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، المائدة: 92.
3 - راجع الكافي 5: 122 - 124، التهذيب 6: 370 - 371، التهذيب 9: 83، الفقيه 3: 97،
قرب الإسناد: 11، الوسائل 17: 164 - 167، 24: 217 - 220.
4 - راجع سنن البيهقي 10: 213.
5 - المائدة: 93.
569

2 - حرمة اللعب بآلات المعدة للقمار بدون الرهن:
بأن كان الغرض منه مجرد الأنس والفرح، كما هو المرسوم كثيرا بين
الأمراء والسلاطين، وهذا أيضا لا اشكال في حرمته، بل في المستند (1)
بلا خلاف فيها، وقد وقع الخلاف في ذلك بين العامة (2).
وكيف كان فقد استدل المصنف على حرمته بوجهين:
1 - قوله (عليه السلام) في رواية تحف العقول: إن ما يجئ منه الفساد محضا
لا يجوز التقلب فيه من جميع وجوه الحركات.
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند، وقد تقدم.
وثانيا: أنها لا تدل إلا على صدق الكبرى من حرمة التقلب والتصرف
في كل ما يجئ منه الفساد محضا، وأما احراز الصغرى فلا بد وأن يثبت
من الخارج، ومن الواضح أن كون الآلات المعدة للقمار كذلك أول
الكلام، إذ لو كان اللعب بها بدون مراهنة جائزا لم تكن كذلك، فلا يمكن
اثبات الحرمة به فإنه دور ظاهر.
2 - ما في رواية أبي الجارود (3)، من تفسير الميسر بالنرد والشطرنج

1 - المستند 2: 327.
2 - في فقه المذاهب عن المالكية: يحرم اللعب بالنرد والشطرنج ولو بغير عوض، وعن
الشافعية: يحل اللعب بالشطرنج والكرة وحمل الأثقال والمشابكة بالأصابع، وعن الحنفية:
تحل المسابقة بدون عوض في كل ما ذكر عند الشافعية إلا الشطرنج، وعن الحنابلة: يكره
اللعب بالشطرنج وكلما أفضى إلى محرم فهو حرام (فقه المذاهب 2: 51 - 52).
وفي شرح فتح القدير حكم بحرمة اللعب بالشطرنج، ثم حكي عن بعض الناس إباحة ذلك
لما فيه من تشحيذ الخواطر، وهو محكي عن الشافعي (شرح فتح القدير 8: 132).
3 - تفسير القمي 1: 180، عنه الوسائل 17: 321، مرسلة، وضعيفة لأبي الجارود.
570

وبكل قمار، إلى أن قال (عليه السلام): وكل هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشئ
من هذا حرام من الله محرم، فإنها تشمل باطلاقها اللعب بالآلات المعدة
للقمار بدون الرهن.
وقد يقال: إن المراد بالقمار المذكور في الرواية هو المعنى المصدري
أعني العمل الخارجي، وعليه فتكون الرواية منصرفة إلى اللعب بالآلات
المذكورة مع الرهن، كما أن المطلقات منصرفة إليه أيضا، ولكنها دعوى
جزافية، فإن المراد من القمار فيها هو نفس الآلات، ويدل عليه من
الرواية قوله (عليه السلام): بيعه وشراؤه، وقوله (عليه السلام): وأما الميسر فالنرد
والشطرنج.
وفيه: أن الرواية وإن كانت صريحة الدلالة على المقصود ولكنها
ضعيفة السند.
ثم إن المصنف (رحمه الله) ذكر جملة من الروايات للتأييد وادعى عدم
انصرافها إلى اللعب الخارجي.
منها: ما عن مجالس المفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي (رحمه الله)، وهو قوله
(عليه السلام): كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر (1).
وفيه أولا: أن هذه الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أنها محمولة على الكراهة، فإن كثيرا من الأمور يلهي عن ذكر
الله وليس بميسر ولا بحرام، وإلا لزم الالتزام بحرمة كثير من الأمور
الدنيوية، لقوله تعالى: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو (2).
بل قد أطلق اللهو على بعض الأمور المستحبة في جملة من

1 - الأمالي للشيخ الطوسي 1: 345، عنه البحار 73: 157، الوسائل 17: 315، ضعيفة لابن
الصلت وغيره.
2 - محمد (صلى الله عليه وآله): 38.
571

الروايات (1)، كسباق الخيل ومفاكهة الإخوان وملاعبة الرجل أهله ومتعة
النساء، فإنها من الأشياء المندوبة في الشريعة، ومع ذلك أطلق عليها
اللهو، وتوهم أن الملاهي غير المحرمة خارجة عن الحديث توهم فاسد،
فإنه مستلزم لتخصيص الأكثر وهو مستهجن.
ومنها: رواية الفضيل عن النرد والشطرنج وغيرهما من آلات القمار
التي يلعب بها، فقال (عليه السلام): إذا ميز الله بين الحق والباطل في أيهما
يكون، قلت: مع الباطل، قال (عليه السلام): فما لك والباطل (2).
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند، وثانيا: أنه لا ملازمة بين البطلان
والحرمة.
ومنها: رواية زرارة عن لعبة بعض أقسام القمار، فقال (عليه السلام): أرأيتك
إذا ميز الله الحق والباطل مع أيهما يكون، قال: قلت: مع الباطل، قال
(عليه السلام): فلا خير فيه (3).
وفيه: أن نفي الخير أعم من الحرمة والكراهة.
ومنها: رواية عبد الواحد بن المختار، أنه سأل الإمام (عليه السلام) عن اللعب
بالشطرنج، قال (عليه السلام): إن المؤمن لمشغول عن اللعب (4)، فإن إناطة

1 - في حديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل اللهو باطل إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس،
ورميه عن قوسه، وملاعبته امرأته، فإنهن حق (الكافي 5: 50، عنه الوسائل 19: 250،
20: 118، 15: 140)، مرفوعة.
ورواها الشيخ بسند فيه ضعف لعبد الله بن عبد الرحمان (التهذيب 6: 175، عنه الوسائل
15: 141).
ورواها البيهقي الشافعي في سننه الكبرى 10: 14.
2 - الكافي 6: 436، عنه الوسائل 17: 324، ضعيفة لسهل بن زياد.
3 - الكافي 6: 436، عنه الوسائل 17: 319، موثقة لابن فضال وابن بكير.
4 - الخصال 1: 26، عنه الوسائل 17: 320، ضعيفة لسهل، ومجهولة لابن المختار
وغيره.
572

الحكم باللعب تقتضي عدم اعتبار الرهن في حرمة اللعب بالآلات
المزبورة.
وفيه: أن الرواية غريبة عما نحن فيه، فإن الظاهر منها أخذ عنوان
المؤمن موضوعا للاجتناب عن اللعب المطلق، وبما أنه لا دليل على
حرمته على وجه الاطلاق حتى اللعب باليد والأصابع واللحية والسبحة
ونحوها، فتكون الرواية ارشادا إلى بيان شأن المؤمن من أنه لا يناسبه
الاشتغال بالأمور اللاغية، فإنها غير مفيدة له في دينه ودنياه.
وقد استدل على حرمة القمار بدون الرهن بالمطلقات الناهية عن
الميسر والقمار من الآيات والروايات، وقد أشرنا إلى مصادرها في
هامش ما تقدم، وأجاب عنه المصنف بوجهين:
1 - إن المطلقات منصرفة إلى الفرد الغالب، وهو اللعب بالآلات
المذكورة مع الرهن.
وفيه أولا: أن اللعب بآلات القمار من غير رهن كثير في نفسه لو لم يكن
أكثر من اللعب بها مع المراهنة أو مساويا له في الكثرة.
وثانيا: إن مجرد غلبة الوجود في الخارج لا توجب الانصراف، نعم إن
دعوى الانصراف إنما تصح إذا كان لها منشأ صحيح، كأن يكون الفرد
النادر أو غير الغالب على نحو لا يراه العرف فردا للعمومات والمطلقات،
كانصراف الحيوان عن الانسان في نظر العرف مع أنه من أكمل أفراده، ولذا
قلنا بانصراف الروايات المانعة عن الصلاة في غير المأكول عن الانسان.
والوجه في ذلك أن العرف يرى الانسان مبائنا للحيوان، حتى أنه
لو خوطب أحد بالحيوان فإن العرف يعد ذلك من السباب.
573

2 - ما أشار إليه بقوله: وفي صدق القمار عليه نظر لما عرفت،
وتوضيح ذلك: أن المستفاد من كلمات أهل العرف واللغة (1) أن القمار
وكذلك الميسر موضوع للعب بأي شئ مع الرهان، ويعبر عنه في لغة
الفارس بكلمة: برد وبأخت، وعليه فاللعب بالآلات بدون الرهن
خارج عن المطلقات موضوعا وتخصصا.
نعم في الجواهر (2) عن ظاهر الصحاح والمصباح (3) والتكملة والذيل أنه

1 - في القاموس ولسان العرب: تقمره: راهنه فغلبه، وفي مجمع البحرين: القمار -
بالكسر - اللعب بالآلات المعدة له على اختلاف أنواعها، وربما أطلق على اللعب بالخاتم
والجوز، وأصل القمار الرهن على اللعب بشئ، وفي أقرب الموارد: قمر الرجل قمرا راهنه
ولعب القمار، وفي المنجد: قمر قمرا راهن ولعب في القمار.
وفي القاموس وتاج العروس ولسان العرب وأقرب الموارد وغيرها في مادة يسر: الميسر
كمنزل ومجلس اللعب بالقداح، أو هو الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، وكانوا إذا أرادوا أن
ييسروا اشتروا جزورا نسئة، ونحروه قبل أن ييسروا وقسموه ثمانية وعشرين قسما أو عشرة
أقسام، فإذا خرج واحد واحد باسم رجل رجل ظهر فوز من لهم ذوات الأنصباء، وغرم من
خرج له الغفل، أو هو النرد، أو كل قمار.
وفي مجمع البحرين مادة زلم: والمراد بها في المشهور ودلالة الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله) هو
أن الأزلام القداح العشرة المعروفة فيما بينهم في الجاهلية، والقصة في ذلك أنه كان يجتمع
العشرة من الرجال فيشترون بعيرا وينحرونه ويقسمونه عشرة أجزاء، وكان لهم عشرة قداح
لها أسماء، وهي: الفذ، له سهم، والتوام، وله سهمان، والرقيب، وله ثلاثة، والحلس - بكسر
الحاء وسكون اللام - وله أربعة، والنافس، وله خمسة، والمسبل - كمحسن - وله ستة،
والمعلي - بضم الميم وسكون العين وفتح اللام - وله سبعة، وثلاثة لا أنصباء لها، وهي المنيح،
والسفيح والوغد (مجمع البحرين 6: 80).
أقول: إن ما ذكره في المجمع من تقسيم البعير إلى العشرة لا يمكن تصديقه، ضرورة
استحالة كونها مخرجا لتلك السهام، فإن المخرج لها لا يكون أقل من ثمانية وعشرين، كما
عرفته من القاموس وغيره، نعم تنقسم العشرة بغير القسمة المذكورة.
2 - جواهر الكلام 22: 109.
3 - حكاه في مفتاح الكرامة 4: 56، لكن راجعنا الصحاح والمصباح فلم نقف فيهما على
كلام ظاهر في ذلك.
574

قد يطلق على اللعب بها مطلقا مع الرهن ودونه.
والظاهر أنه من باب المجاز لعلاقة المشابهة والمشاكلة، ولا أقل من
الشك في صدق مفهوم القمار عليه، ومن المعلوم أنه مع الشك في
الصدق لا يجوز التمسك بالمطلقات، وكذلك لا يجوز التمسك بقوله
تعالى: إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر و
الميسر (1)، فإن العداوة إنما تتحقق مع الرهان لا بدونه.
والتحقيق أن يستدل على الحرمة بالمطلقات الكثيرة (2) الناهية عن
اللعب بالنرد والشطرنج وبكل ما يكون معدا للتقامر، فإنه لا شبهة أن
اللعب بالأمور المذكورة يعم بما كان مع المراهنة أو بدونها.
وقد ناقش المصنف في ذلك بانصراف المطلقات المذكورة إلى صورة
اللعب بآلات القمار مع الرهن، وقد عرفت جوابه.
والعجب منه (رحمه الله) أنه استبعد الانصراف في رواية أبي الربيع الشامي
الناهية عن الاقتراب من النرد والشطرنج (3)، ثم التزم به في المطلقات
المذكورة، مع أنهما من باب واحد، فإن النهي عن الاقتراب من النرد
والشطرنج كناية عن حرمة اللعب بهما، فشأن رواية أبي الربيع شأن

1 - المائدة: 93.
2 - راجع الوسائل: 17 باب 35 تحريم كسب القمار، وباب 102 تحريم اللعب بالشطرنج
ونحوه، وباب 104 تحريم اللعب بالنرد، وباب: 103 تحريم الحضور عند اللاعب بالشطرنج،
والمستدرك: 13 هذه الأبواب.
3 - عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن الشطرنج والنرد، فقال:
لا تقربوهما (معاني الأخبار: 224، عنه الوسائل 17: 320)، مجهولة لأبي الربيع.
575

المطلقات في الانصراف وعدمه، ولكن الرواية ضعيفة السند.
3 - حرمة المراهنة على اللعب بغير الآلات المعدة للقمار:
المراهنة على اللعب بغير الآلات المعدة للقمار كالمراهنة على حمل
الحجر الثقيل وعلى المصارعة، ونطاح الكباش وصراع البقر، ومهارشة
الديكة ومضاربتها، والمراهنة على الطيور وعلى الطفرة، ونحو ذلك
مما عدوها في باب السبق والرماية، من غير الأفراد التي نص على
جوازها.
والظاهر أنه لا خلاف في الجملة بين الشيعة وأكثر العامة (1) في حرمة
المراهنة على اللعب مطلقا، وإن كان بغير الآلات المعدة للقمار، نعم
يظهر من الجواهر (2) اختصاص الحرمة بما إذا كان اللعب بالآلات المعدة
له، وأما مطلق الرهان والمغالبة بغيرها فلا حرمة فيه، نعم تفسد المعاملة
عليه ولا يملك الراهن الجعل فيحرم عليه التصرف فيه.
وذكر المصنف (رحمه الله) أن الظاهر الحاقه بالقمار في الحرمة والفساد، بل
صرح العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في مصابيحه بعدم الخلاف في ذلك (3)، ثم
قال المصنف: وهو ظاهر كل من نفي الخلاف في تحريم المسابقة فيما

1 - في فقه المذاهب: لا تصح المسابقة بجعل (رهان) في غير الخيل والجمال والرمي إلا
عن الشافعية، فإنهم قالوا: تصح المسابقة بالرهان أيضا على البغال والحمير والفيلة أيضا (فقه
المذاهب 3: 51).
2 - جواهر الكلام 22: 109.
3 - المصابيح، مخطوط، ولم نقف عليه، نعم صرح بذلك السيد الطباطبائي في كتاب السبق
والرماية من الرياض 2: 41.
576

عدا المنصوص مع العوض وجعل محل الخلاف فيها بدون العوض (1).
وتوضيح كلامه: أن الخلاف في حكم المسابقة بدون الرهن في غير
الموارد المنصوصة لا معنى له إلا في الحرمة التكليفية، فإن الحرمة
الوضعية عبارة عن فساد المعاملة وعدم انتقال المال إلى غير مالكه،
والمفروض أنه ليس هنا رهن ليقع الاختلاف في انتقاله إلى غير مالكه
وعدم انتقاله، فتعين أن يكون الخلاف في هذه الصورة في الحرمة
التكليفية فقط دون الحرمة الوضعية.
وعليه فمقابلة مورد الوفاق أعني حرمة المسابقة مع الرهن في غير
الموارد المنصوصة بمورد الخلاف تقتضي أن يكون مورد الوفاق هو
خصوص الحرمة التكليفية، أو الأعم منها ومن الحرمة الوضعية، وأما
تخصيص مورد الوفاق بخصوص الحرمة الوضعية كما عرفته من ظاهر
الجواهر فلا يلائم كلماتهم.
وكيف كان فقد استدل القائلون بالحرمة والفساد بوجوه:
1 - الاجماع.
وفيه: أن دعواه في المقام على الحرمة وإن لم تكن جزافية كما عرفت
ولكنا لا نطمئن بكونه اجماعا تعبديا، بل من المحتمل القريب استناده
إلى سائر الوجوه المذكورة في المسألة.
2 - صدق مفهوم القمار عليه بغير عناية وعلاقة، فقد عرفت أن الظاهر
من أهل العرف واللغة أن القمار هو الرهن على اللعب بأي شئ كان،
وتفسيره باللعب بالآلات المعدة للقمار دور ظاهر.

1 - كما عن الشهيد الثاني في المسالك 1: 301 (الطبعة الحجرية)، وصاحب الجواهر في
الجواهر 28: 218، وإن قال في كتاب التجارة اختصاص الحرمة بما كان بالآلات المعدة للقمار.
577

ويدل على ما ذكرناه ترادف كلمة القمار في لغة الفرس لكلمة: برد
وبأخت، بأي نحو تحقق، ومن أوضح أفراده في هذا الزمان الحظ
والنصيب المعبر عن ذلك في الفارسية بلفظ: بليط آزمايش بخت.
وإذا صدق عليه مفهوم القمار شملته المطلقات الدالة على حرمة
القمار والميسر والأزلام وحرمة ما أصيب به من الأموال، غاية الأمر أن
الموارد المنصوصة في باب السبق والرماية قد خرجت عن هذه
المطلقات.
3 - الروايات الكثيرة الظاهرة في حرمة الرهان على المسابقة في غير
الموارد المنصوصة:
منها: ما دل (1) على نفار الملائكة عند الرهان ولعنها صاحبه، ما خلا
الحافر والخف والريش والنصل، ولكن جميعه ضعيف السند.
ومنها: ما عن تفسير العياشي (2)، من أن الميسر هو الثقل الخارج بين

1 - عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس شئ تحضره الملائكة إلا الرهان
وملاعبة الرجل أهله (الكافي 5: 554، عنه الوسائل 19: 251)، مجهولة لسعدان بن مسلم.
عن الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام): إن الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا
الحافر والخف والريش والنصل (الكافي 5: 49، عنه الوسائل 19: 250)، مرسلة.
في رواية العلاء بن سيابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): أن الملائكة تحضر الرهان في الخف
والحافر والريش، وما سوى ذلك فهو قمار (التهذيب 6: 384، عنه الوسائل 19: 253)، ضعيفة
لابن سيابة.
في رواية زيد النرسي: تنفر - الملائكة - عند الرهان، وإياكم والرهان إلا رهان الخف
والحافر والريش - الخ (أصل زيد: 57، عنه المستدرك 14: 79)، مجهولة للنرسي، بل ربما
يناقش في انتساب الأصل المعروف إليه.
2 - عن تفسير العياشي عن ياسر الخادم عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الميسر، قال:
الثقل من كل شئ، قال: والثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم (تفسير العياشي 1: 341،
عنه الوسائل 17: 325)، مجهولة لياسر، على أن التفسير المزبور لم يثبت اعتباره عندنا.
578

المتراهنين، فيدل على الحرمة وضعا وتكليفا، وعليه فلا وجه لحمله
على الحرمة الوضعية فقط كما صنعه المحقق الإيرواني، ولكنه ضعيف
السند.
ومنها: ما دل (1) على أن كل ما قومر به فهو من الميسر حتى اللعب
بالجوز واللوز والكعاب، ومعنى المقامرة هو المراهنة على اللعب كما
عرفته في الهامش آنفا.
ومنها: رواية إسحاق بن عمار (2) الصريحة في حرمة المقامرة بالجوز
والبيض وحرمة أكلهما، فإنها دلت على تحقق القمار باللعب بغير الآلات
المعدة له، وتدل على هذا أيضا الرواية المشتملة على قي الإمام (عليه السلام)
البيض الذي قامر به الغارم، وسيأتي الكلام في هذه الرواية وبيان أنها
ضعيفة السند.

1 - عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة
واحدة، وكل ما قومر عليه فهو ميسر (الكافي 6: 435، عنه الوسائل 17: 323)، صحيحة.
عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أنزل الله على رسوله: إنما الخمر والميسر - الخ،
قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ قال: كلما تقومر به حتى الكعاب والجوز (الكافي 5: 122،
التهذيب 6: 371، الفقيه 3: 97، عنهم الوسائل 17: 165)، ضعيفة لعمرو بن شمر.
وفي فقه الرضا (عليه السلام): 38، عنه المستدرك 13: 224 ما يدل على ذلك ولكنه ضعيف.
2 - عن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الصبيان يلعبون بالجوز والبيض
ويقامرون، فقال: لا تأكل منه فإنه حرام (الكافي 5: 124، التهذيب 6: 370، عنهما الوسائل
17: 166).
أقول: من جملة رجال السند في هذه الرواية محمد بن أحمد النهدي، وقد رماه النجاشي
بالاضطراب، وضعفه ابن الغضائري، ووثقه الكشي، وعليه فلا بد من التوقف كما عليه العلامة.
579

والحاصل أن الرهن على اللعب بغير الآلات المعدة للقمار حرام
وضعا وتكليفا، فلا وجه لانكار الحرمة التكليفية والالتزام بخصوص
الفساد كما صنعه صاحب الجواهر (1).
وقد يستدل على ما ذهب إليه صاحب الجواهر بما في صحيحة
محمد بن قيس الواردة في مؤاكلة الشاة، من أنه قال (عليه السلام): لا شئ في
المؤاكلة من الطعام ما قل منه أو كثر ومنع غرامة فيه (2)، بدعوى أن الإمام
(عليه السلام) لم يتعرض فيها لغير فساد المراهنة في الطعام، وأنه ليس لها أثر
يترتب عليها، ولو كانت المراهنة المزبورة محرمة تكليفا لردع عنها
أيضا.
وأجاب المصنف عن ذلك، بأن هذا وارد على تقدير القول بالبطلان
وعدم التحريم، لأن التصرف في هذا المال مع فساد المعاملة حرام أيضا،
فتأمل.
وتوضيح كلامه: أن سكوت الإمام (عليه السلام) عن بيان الحرمة في جهة
لا يستلزم ثبوت الجواز فيها، وإلا لكانت الرواية دالة على جواز التصرف
في مال الغير، بناء على فساد هذه المعاملة، لأن الإمام (عليه السلام) قد سكت عن
بيان حرمته أيضا.
أقول: الظاهر أن الرواية أجنبية عن المقام، وإنما هي مسوقة لبيان
حكم عقد المؤاكلة في الطعام، فإن مالك الشاة قد أباحها لأشخاص

1 - الجواهر 22: 110.
2 - عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل أكل
وأصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، وإن لم تأكلوها فعليكم كذا وكذا، فقضى فيه أن
ذلك باطل لا شئ في المؤاكلة من الطعام، ما قل منه وما كثر، ومنع غرامة فيه (الكافي 7: 428
، التهذيب 6: 290)، صحيحة.
580

معينين بشرط متأخر، وهو قوله: إن أكلتموها فهي لكم، واشترط عليهم
الضمان إذا تخلف الشرط المذكور، وقال: وإن لم تأكلوها فعليكم كذا
وكذا، وقد حكم الإمام (عليه السلام) بفساد هذه المعاملة وعدم ترتب الأثر عليها
بقوله: لا شئ في المؤاكلة، وأنها ليست من المعاملات التي أمضاها
الشارع، كما أمضى المزارعة والمضاربة والمساقات وغيرها.
وعلى هذا فمفاد الرواية ينحل إلى قضيتين: إحداهما موجبة وهي
إباحة الشاة بشرط متأخر إباحة مالكية، والثانية سالبة وهي عدم تحقق
الإباحة المالكية مع تخلف الشرط المذكور، وحكم القضية الأولى هو
الجواز وضعا وتكليفا من غير غرامة على الآكلين، وحكم القضية الثانية
هو عدم الجواز وضعا لا تكليفا، فتثبت عليه غرامة الأكل لكونه مشمولا
لعمومات أدلة الضمان، لا لأنها معاملة خاصة توجب الضمان بنفسها.
ويدل على ذلك من الرواية أمران: أحدهما قوله (عليه السلام): لا شئ في
المؤاكلة، فإن ظاهره أن الصادر بين مالك الشاة وأصحابه إنما هو عقد
المؤاكلة في الشاة، وثانيهما قول المالك: إن أكلتموها فهي لكم وإن لم تأكلوها فعليكم كذا وكذا، فإن ظاهره أن هذا القول من المالك صيغة
لعقد المؤاكلة، وأن المتعاملين بها يحاولون ايجاد معاملة خاصة كسائر
المعاملات المقررة في الشريعة المقدسة.
وقد علم من الوجهين المذكورين أن كلمة: آكل في قول السائل:
في رجل آكل وأصحاب له شاة، إنما هو فعل ماض من باب المفاعلة
وليس باسم فاعل من الثلاثي المجرد، ولا فعل ماض منه كما هو واضح.
ونظير هذه المعاملة كثير الوقوع بين أهل العرف، فيقول أحدهم
لصاحبه: إن أكلت كذا مقدارا من الثمرة، أو إن سكنت في هذه الدار سنة
واحدة فليس عليك شئ وإلا فعليك كذا وكذا.
581

قوله: ثم إن حكم العوض من حيث الفساد حكم سائر المأخوذ بالمعاملات الفاسدة.
أقول: حكم المأخوذ بالقمار وكذلك حكم المأخوذ بسائر
المعاملات الفاسدة هو وجوب رد عينه مع البقاء ورد بدله من المثل أو
القيمة مع التلف، ويأتي الكلام إن شاء الله على هذا في البحث عن
المقبوض بالعقد الفاسد.
قوله: وما ورد من قيء الإمام (عليه السلام) البيض الذي قامر به الغلام (1).
أقول: لم يتوهم أحد ولا موقع للتوهم أيضا أن القيء من جهة رد البيض
إلى المالك، فإن آكل الحرام لا يجب عليه رد عينه ولو كان عالما عامدا
فضلا عما إذا تناوله جاهلا، لأن الطعام بعد المضغ يعد في العرف تالفا
خصوصا بعد وصوله إلى المعدة، أما بعد القيء فإنه يعد من القذارات
العرفية، وإنما الوجه في ذلك هو تنزه الإمام (عليه السلام) أن لا يصير الحرام
الواقعي جزءا من بدنه، بل الظاهر من الرواية أن البيض قد اشتراه الغلام
للإمام (عليه السلام) ولكنه قامر به في الطريق، فلا موضوع هنا للضمان.
ولو سلمنا أن الإمام (عليه السلام) لم يكن مالكا للبيض، فيمكن أن يقال: إن
الأموال كلها للإمام (عليه السلام) لأنه أولى بالناس من أنفسهم، ويؤيده ما دل
على أن الأرض وما يخرج منها له (عليه السلام).
وعلى هذين الوجهين فقيء الإمام (عليه السلام) البيض إنما هو لئلا يكون ما
أصيب به القمار جزءا من بدنه.
وكيف كان فقد أورد المصنف على الرواية، بأن ما كان تأثيره كذلك
يشكل أكل المعصوم له جهلا، بناء على عدم اقدامه على المحرمات

1 - عن عبد الحميد بن سعيد قال: بعث أبو الحسن (عليه السلام) غلاما يشتري له بيضا أو بيضتين،
فقامر بها، فلما أتى به أكله، فقال مولى له: إن فيه من القمار، قال: فدعا بطشت فتقيأ فقاءه
(الكافي 5: 123، عنه الوسائل 17: 165)، مجهولة لعبد الحميد، وضعيفة لسهل.
582

الواقعية الغير المتبدلة بالعلم لا جهلا ولا غفلة، لأن ما دل على عدم
جواز الغفلة عليه في ترك الواجب وفعل الحرام دل على عدم جواز
الجهل عليه في ذلك.
ويمكن أن يقال: إن الاعتراض على الرواية مبني على كون علم الأئمة
(عليهم السلام) بالموضوعات حاضرا عندهم من غير توقف على الإرادة، وقد
دلت عليه جملة من الروايات، كما أن علمهم بالأحكام كذلك، وأما بناء
على أن علمهم بالموضوعات تابع لإرادتهم واختيارهم، كما دلت عليه
جملة أخرى من الروايات فلا يتوجه الاشكال على الرواية، لامكان
صدور الفعل عنهم (عليهم السلام) جهلا قبل الإرادة.
ولكن الذي يسهل الخطب أن البحث في علم الإمام (عليه السلام) من المباحث
الغامضة، والأولى رد علم ذلك إلى أهله كما ذكره المصنف (رحمه الله)، على أن
الرواية المذكورة ضعيفة السند.
4 - حكم المسابقة بغير رهان فيما عدا الموارد المنصوصة:
قوله: الرابعة: المغالبة بغير عوض في غير ما نص على جواز المسابقة فيه.
أقول: المشهور بين الأصحاب (1) هو عدم جواز المسابقة بغير رهان
فيما عدا الموارد المنصوصة، كالمصارعة وحمل الأثقال والجري على
الاقدام، وكالمسابقة على السفن والبقر والكلاب والطيور، والمكث في
الماء وحفظ الأخبار والأشعار، ورمي البنادق والوقوف على رجل
واحدة وغيرها.

1 - كما عن صاحب الرياض 2: 41، والقاضي في المهذب 1: 331، والمحقق الثاني في
جامع المقاصد 8: 326، والعلامة في التذكرة 2: 354.
583

وقد ذهب بعض الأصحاب (1) وجمع من العامة (2) إلى الجواز، ويمكن
الاستدلال على الحرمة بوجوه:
1 - دعوى الاجماع عليها، وقد ادعاه غير واحد من الأصحاب.
وفيه: أن من المحتمل القريب استناده إلى الوجوه الآتية، فليس هنا
اجماع تعبدي، ومن هنا علله بعض الأعاظم من الأصحاب بعموم النهي
عن المسابقة إلا في ثلاثة (3).
2 - ما ورد في جملة من الأحاديث (4)، من نفي السبق إلا في خف أو
حافر أو نصل، بدعوى أن السبق بالسكون مصدر لكلمة سبقه إلى كذا،
أي تقدمه وخلفه وغلبه على كذا، فيراد من نفيه نفي مشروعية المسابقة
والمغالبة وإن لم يكن فيها رهان، فيكون مفاده كمفاد: لا رهبانية
ولا نجش في الاسلام.
وفيه: أن ذلك أنما يتم لو كان المذكور هو السبق بسكون الباء
ولم يثبت ذلك، بل في المسالك (5) أن قراءة الفتح هي المشهور، والسبق
بالفتح هو العوض الذي يتراهن عليه المتسابقون، وعليه فلا تدل الرواية
إلا على تحريم المراهنة فقط.

1 - كما في المسالك 1: 301، كفاية الأحكام: 137.
2 - في فقه المذاهب نقل عن المذاهب الأربعة جواز المسابقة بدون رهن (فقه المذاهب
2: 51).
3 - التذكرة 2: 354.
4 - عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لا سبق إلا في خف أو
حافر أو نصل، يعني النضال (الكافي 5: 48، عنه الوسائل 19: 253)، ضعيفة لمعلي بن محمد.
وقد ذكرت هذه الرواية في جملة من أحاديث العامة، راجع سنن البيهقي 10: 16.
عن دعائم الاسلام: لا سبق إلا في ثلاث في خف أو حافر أو نصل (دعائم الاسلام 1: 345،
عنه الوسائل 14: 80)، مرسلة، وعن الشهيد الثاني إضافة الجناح.
5 - المسالك 1: 301.
584

بل قال المصنف إنها غير ظاهرة في التحريم أيضا، لاحتمال إرادة
فسادها، بل هو الأظهر، لأن نفي العوض ظاهر في نفي استحقاقه وإرادة
نفي جواز العقد عليه في غاية البعد.
ومع الاغضاء عن ثبوت قراءة الفتح فالرواية مجملة، فلا يجوز
التمسك بها إلا في الموارد المتيقنة، على أنها ضعيفة السند.
ثم إنه أورد المصنف على قراءة السكون بأنه على تقدير السكون فكما
يحتمل نفي الجواز التكليفي فيحتمل نفي الصحة، لوروده مورد الغالب
من اشتمال المسابقة على العوض.
وفيه أولا: أن المسابقة بدون المراهنة كثيرة في نفسها.
وثانيا: أن غلبة الوجود بمجردها لا توجب الانصراف.
3 - أن مفهوم القمار صادق على مطلق المغالبة ولو بدون العوض، كما
يدل عليه ما تقدم في بعض الروايات من تسمية اللعب بالشطرنج بدون
المراهنة قمارا، وعليه فتشمله الاطلاقات الدالة على حرمة القمار.
وفيه: أنك قد عرفت فيما سبق آنفا أن الرهان مأخوذ في مفهوم القمار
سواء كان اللعب بالآلات المعدة له أم لا، فالمسابقة بغير المراهنة خارجة
عن القمار موضوعا، واطلاق القمار عليها أحيانا لا يدل على الحقيقة،
فإنه أعم من الحقيقة والمجاز، وحرمة اللعب بالنرد والشطرنج من جهة
الأدلة الخاصة لا من جهة صدق مفهوم القمار عليه.
ولو سلمنا أن اطلاق القمار على المسابقة الخالية عن العوض على
سبيل الحقيقة، فإن السيرة القطعية قائمة على جوازها، كالسباحة
والمصارعة والمكاتبة والمشاعرة وغيرها، خصوصا إذا كان الفعل أمرا
قربيا، كبناء المساجد والقناطر والمدارس، فإن في ذلك فليتنافس
المتنافسون.
585

4 - أنه قد علل تحريم اللعب بالنرد والشطرنج في بعض الأخبار
المتقدمة في الهامش آنفا بأنه من اللهو والباطل، وهو جار فيما نحن فيه
أيضا، بل ورد من طرق الخاصة والعامة أن كل لهو المؤمن باطل إلا في
ثلاث، وقد تقدم في الحاشية، وهو باطلاقه شامل للمقام، وقد تقدم
أيضا أن: كلما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر، ومن الواضح أن المسابقة
وإن كانت بغير عوض تلهى عن ذكر الله.
وفيه: أنه لا دليل على حرمة مطلق اللهو كما عرفت وستعرفه في
البحث عن حرمة اللهو، فإن كثيرا من الأمور لهو وهو ليس بحرام،
كاللعب بالأحجار والأشجار والسبحة واللحية وأزرار الثوب ونحوها،
على أنه لا ملازمة بين ما نحن فيه وبين اللهو، فإن النسبة بينهما هي
العموم من وجه، إذ كثيرا ما تكون المسابقة للأغراض العقلائية، من تربية
البدن ومعالجته والتنزه والتفريح كما هو واضح.
المسألة (16)
حرمة القيادة
قوله: السادسة عشرة: القيادة حرام.
أقول: وهي في اللغة السعي بين الشخصين لجمعهما على الوطي
المحرم، وقد يعبر عنها بكلمة الدياثة، ولا شبهة في حرمتها وضعا
وتكليفا، بل ذلك من ضروريات الاسلام، وهي من الكبائر الموبقة
والجرائم المهلكة.
وفي مرسلة الشيخ الورام عن النبي (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل قال: اطلعت
على النار فرأيت في جهنم واديا يغلي، فقلت: يا مالك لمن هذا، فقال:
586

لثلاثة: المحتكرين والمدمنين للخمر والقوادين (1).
وقد تقدم في رواية سعد الإسكاف وغيرها تفسير الواصلة
والمستوصلة بذلك (2).
وفي رواية ابن سنان عن حد القواد قال (عليه السلام): يضرب ثلاثة أرباع حد
الزاني خمسة وسبعين سوطا، وينفى من المصر الذي هو فيه (3).
وفي بعض الأحاديث: لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا ديوث (4)،
وفي عيون الأخبار: وأما التي كانت تحرق وجهها وبدنها، وهي تجر
أمعاؤها فإنها كانت قوادة (5)، وقد ورد اللعن والتوعيد على القواد في
بعض الأحاديث (6).
المسألة (16)
حرمة اتيان القائف وترتيب الأثر على قوله
قوله: السابعة عشرة: القيافة حرام في الجملة.

1 - عنه الوسائل 17: 426، ولم نجده في مجموعة الورام المطبوع.
2 - مر في البحث عن حكم تدليس الماشطة.
3 - راجع الكافي 7: 261، التهذيب 10: 64، عنهما الوسائل 28: 171.
4 - جعفر بن أحمد القمي في المانعات: 2، عنه المستدرك 13: 112.
5 - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 10، عنه الوسائل 20: 213.
6 - عن إبراهيم بن زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لعن الله الواصلة
والمستوصلة، يعني الزانية والقوادة (معاني الأخبار: 250، عنه الوسائل 20: 351).
وعن عقاب الأعمال عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث قال: ومن قاد بين امرأة ورجل حرم
الله عليه الجنة، ومأواه جهنم وساءت مصيرا، ولم يزل في سخط الله حتى يموت (عقاب
الأعمال: 337، عنه الوسائل 20: 351).
587

أقول: القيافة في اللغة (1) معرفة الآثار وشبه الرجل بأخيه وأبيه،
والظاهر أنه لا شبهة في جواز تحصيل العلم أو الظن بأنساب الأشخاص
بعلم القيافة وبقول القافة، ولم يرد في الشريعة المقدسة ما يدل على
حرمة ذلك.
وما ورد في حرمة اتيان العراف والقائف لا مساس له بهذه الصورة،
وإنما المراد منه حرمة العمل بقول القافة وترتيب الأثر عليه كما سيأتي،
ومع الشك في الحرمة والجواز في هذه الصورة يرجع إلى الأصول
العملية.
ثم إنه لا شبهة في حرمة الرجوع إلى القائف وترتيب الآثار على قوله،
وفي الكفاية لا أعرف فيها الخلاف (2)، وفي المنتهى الاجماع على ذلك (3)،
خلافا لأكثر العامة (4)، فإنهم جوزوا العمل بقول القافة استنادا إلى جملة

1 - في تاج العروس: والقائف من يعرف الآثار، ج قافة (تاج العروس 6: 228)، وقال ابن
الأثير: القائف الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، ومنه أن مجززا كان
قائفا (النهاية 4: 121).
2 - كفاية الأحكام: 87.
3 - المنتهى 2: 1014، وفيه نفي الخلاف، وحكى الاجماع عنه المحقق الأردبيلي في
مجمع الفائدة 8: 80.
4 - في شرح صحيح مسلم: أثبت العمل بالقافة الشافعي، ونفاه أبو حنيفة، والمشهور عن
مالك في الإماء دون الحرائر، وروى عنه ابن وهب اثباته في الحرائر، ولا خلاف عند القائلين
بالقافة أنها إنما تكون فيما أشكل من الفراشين ثابتين كأمة يطؤها البائع والمشتري في طهر
واحد قبل الاستبراء من وطئ البائع، فتأتي بولد أكثر من ستة أشهر من وطئ المشتري وأقل
من أقصى الحمل من وطئ البائع، وإن ألحقه القائف بأحدهما لحق وإلا ترك الولد حتى يبلغ
فينتسب إلى من يميل إليه منهما، وإن ألحقه القائف بهما، فإن مذهب عمر بن الخطاب ومالك
والشافعي يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من يميل إليه، وقال أبو ثور: يكون ابنا لهما، وقال
الماجشون ومحمد بن مسلمة المالكيان: يلحق بأكثرهما شبها (شرح صحيح مسلم 4: 80).
وفي هامش سنن البيهقي عن الثوري قال: إذا قال القافة الولد منهما، لحق بهما وورثهما
وورثاه (هامش سنن البيهقي 10: 264).
588

من الروايات الواردة من طرقهم وسنشير إليها.
وتدل على حرمة العمل بقول القافة الآيات الدالة على حرمة العمل
بغير علم، وعلى حرمة اتباع الظنون وأنها لا تغني من الحق شيئا، وقد
تقدمت هذه الآيات (1).
فإن نفي النسب عن شخص أو الحاقه به بالاستحسانات الحاصلة من
ملاحظة أعضاء البدن على النحو الذي تقرر في علم القيافة لا يتفق
والقواعد الشرعية، فإنه هدم لأحكام الإرث المترتبة على التوالد
الشرعي.
وأيضا قد ثبت في الشريعة أن الولد للفراش، بل هو من القواعد
المسلمة بين الفريقين، والعمل بالقيافة ينافيها في كثير من الموارد.
ويضاف إلى ما ذكرناه أن النسب إذا لم تقم على ثبوته أمارة شرعية فإن
الاستصحاب يقتضي نفيه، ولا يجوز رفع اليد عنه إلا بالأمارات المعتبرة
شرعا وليست القيافة منها.
وأما ما ورد في أحاديث العامة (2) من العمل بقول القافة فلا يصلح

1 - في البحث عن حرمة الرشوة.
2 - منها ما عن عائشة أن النبي (صلى الله عليه وآله) دخل عليها وهو مسرور تبرق أسارير وجهه، فقال:
ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي ورأي أسامة وزيدا نائمين وقد خرجت أقدامهما، فقال: إن
هذه الأقدام بعضها من بعض.
راجع سنن البيهقي كتاب الدعوى والبينات 10: 262، وصحيح البخاري آخر كتاب
الفرائض، وصحيح مسلم آخر الرضاع 1: 565، وسنن أبي داود كتاب الطلاق 2: 280، وسنن
النسائي كتاب اللعان 2: 108، وجامع الترمذي مع شرح ابن العربي آخر باب الولاء والهبة
والوصايا 8: 290.
أسارير: الخطوط التي تكون بالجبهة.
وفي ارشاد الساري في شرح البخاري: 446: مجزز - بضم الميم وكسر الجيم والزاء
الأولى المشددة وآخره زاء معجمة - سمي بذلك لأنه كان يجز ناصية الأسير في الجاهلية
ويطلقه، وقال العسقلاني في فتح الباري 12: 44 لم أر من ذكر اسمه.
589

أن يكون رافعا للاستصحاب، فإنه مضافا إلى ضعف السند فيها أنه مناف
لما ورد في المنع عن العمل بعلم القيافة في بعض أحاديث الشيعة (1)،
وفي رواية الجعفريات (2) جعل من السحت أجر القافي.
وقد استشهد المصنف (رحمه الله) على حرمة العمل بقول القافة برواية زكريا
ابن يحيى الواردة في قصة أبي الحسن الرضا (عليه السلام) واثبات بنوة ابنه
الجواد (عليه السلام) وإمامته بالرجوع إلى القافة، حيث زعموا ما كان فينا إمام قط
حائل اللون (3).

1 - عن الخصال عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: فالقيافة؟ قال: ما أحب
أن تأتيهم - إلى أن قال (عليه السلام): - القيافة فضلة من النبوة ذهبت في الناس حين بعث النبي (صلى الله عليه وآله)
(الخصال: 19، عنه الوسائل 17: 150).
2 - الجعفريات: 180، عنه المستدرك 13: 110.
3 - جاء إخوة الرضا (عليه السلام) إليه فقالوا له: ما كان فينا إمام قط حائل اللون، فقال لهم الرضا
(عليه السلام): هو ابني، قالوا: فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قضى بالقافة فبيننا وبينك القافة، قال: ابعثوا
أنتم إليهم وأما أنا فلا ولا تعلموهم لما دعوتموهم - إلى أن قال: - ثم جاؤوا بأبي جعفر (عليه السلام)
فقالوا: ألحقوا هذا الغلام بأبيه، فقالوا: ليس هاهنا أب ولكن هذا عم أبيه وهذا عمه وهذا عمه
وهذه عمته وإن يكن له هاهنا أب فهو صاحب البستان، فإن قدميه وقدميه واحدة، فلما رجع
أبو الحسن (عليه السلام) قالوا: هذا أبوه (الكافي 1: 322)، مجهولة لزكريا بن يحيى.
حال لونه: تغير واسود.
590

ولكن لم نجد في الرواية ما يستشهد به لذلك، بل الظاهر منها أن
الشيعة أيضا كانوا يعتقدون بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول القافة، وأن
الرضا (عليه السلام) لم ينكر عليهم ذلك.
نعم يرد على الرواية وجوه:
1 - أنها ضعيفة السند.
2 - أنها مخالفة لضرورة المذهب، فإنها اشتملت على عرض أخوات
الإمام وعماته على القافة وهو حرام لا يصدر من الإمام (عليه السلام)، وتوهم أن
ذلك من جهة الاضطرار وهو يبيح المحظورات توهم فاسد، إذ لم تتوقف
معرفة بنوة الجواد للرضا (عليهما السلام) على احضار النساء.
3 - أن الجماعة الذين بغوا على الرضا (عليه السلام) لينفوا بنوة الجواد (عليه السلام)
عنه لو كانوا معتقدين بإمامة الرضا (عليه السلام) لما احتاجوا إلى القافة بعد اخباره
بالبنوة.
المسألة (18)
حرمة الكذب
قوله: الثامنة عشرة: الكذب حرام، بضرورة العقول والأديان، ويدل عليه الأدلة
الأربعة.
أقول: لا شبهة في حرمة الكذب، فإنه من قبائح الذنوب وفواحش
العيوب بل هو مفتاح الشرور ورأس الفجور، ومن أشد الجرائم وأكبر
الكبائر، وحرمته من ضروريات مذهب الاسلام بل جميع الأديان.
وقد استدل عليها المصنف بالأدلة الأربعة:
591

أما الكتاب والسنة الواردة لدى الخاصة (1) والعامة (2) في ذلك،
فذكرهما مما لا يحصى.
وأما الاجماع فمن المحتمل القريب بل المقطوع به أنه مستند إلى
الكتاب والسنة، فلا يكون هنا اجماع تعبدي كما هو واضح.
وأما العقل فإنه لا يحكم بحرمة الكذب بعنوانه الأولي مع قطع النظر
عن ترتب المفسدة والمضرة عليه، وكيف يحكم العقل بقبح الاخبار
بالأخبار الكاذبة التي لا تترتب عليها مفسدة دنيوية أو أخروية.
نعم إذا ترتب عليه شئ من تلك المفاسد كقتل النفوس المحترمة
وهتك الأعراض المحترمة، ونهب الأموال أو إيذاء الناس وظلمهم
ونحوها من العناوين المحرمة، فإن ذلك محرم بضرورة العقل، ولكنه
لا يختص بالكذب، بل يجري في كل ما استلزم شيئا من الأمور المذكورة،
ولو كان صدقا.
الكذب من الكبائر:
قوله: أحدهما في أنه من الكبائر.
أقول: قد عرفت في مبحث الغيبة تحقيق الحال في كون معصية
كبيرة، وقد استدل المصنف على كون الكذب من الكبائر في الجملة بعدة
من الروايات:
منها: روايتا الأعمش (3) وعيون الأخبار (4)، حيث جعل الإمام (عليه السلام) الكذب
من الكبائر في هاتين الروايتين.

1 - راجع الكافي 2: 254 - 256، الوسائل 12: 243 - 250، المستدرك 9: 83 - 90.
2 - راجع سنن البيهقي 10: 195، واحياء العلوم 3: 93.
3 - كنز الكراجكي: 184، عنه الوسائل 15: 331.
4 - راجع عيون الأخبار 2: 125، عنه الوسائل 15: 329.
592

وفيه: أنهما وإن كانتا ظاهرتين في المقصود، ولكنهما ضعيفة
السند (1).
ومنها: قوله (عليه السلام) في رواية عثمان بن عيسى: إن الله جعل للشر
أقفالا وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب (2).
وفيه أولا: أنها ضعيفة السند.
وثانيا: أنها مخالفة للضرورة، إذ لا يلتزم فقيه بل ولا متفقه بأن جميع
أفراد الكذب شر من شرب الخمر، فإذا دار الأمر في مقام الاضطرار بين
ارتكاب طبيعي الكذب، ولو بأن يقول المكره - بالفتح - إن عمر فلان مائة
سنة مع أنه ابن خمسين، وبين شرب الخمر، فلا يحتمل أحد ترجيح
شرب الخمر على الكذب.
ومما ذكرناه ظهر الجواب عما دل (3) على أن المؤمن إذا كذب بغير عذر
كتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية أهونها كمن يزني مع أمه، ومن
الواضح أن الزناء بالأم من أكبر الكبائر فكذلك الكذب، على أن هذه
الرواية أيضا ضعيفة السند.
ويضاف إلى ذلك ما ذكرناه في مبحث الغيبة، وهو أن كل واحد من
الذنوب مشتمل غالبا على خصوصية لا توجد في غيره، وكونه أشد من

1 - أما رواية العيون فالطريق الأول فهو مجهول لعبد الواحد بن محمد بن عبدوس
النيسابوري وعلي بن قتيبة النيسابوري، وأما الثاني فهو مجهول للحاكم أبي محمد جعفر بن
نعيم، وأما الثالث فهو مجهول لحمزة بن محمد العلوي.
وأما رواية الأعمش فلأحمد بن يحيى بن زكريا وغيره.
2 - الكافي 2: 254، عقاب الأعمال: 291، عنهما الوسائل 15: 244، ضعيفة لعثمان بن
عيسى.
3 - جامع الأخبار: 173، عنه البحار 72: 263، المستدرك 9: 86، مرسلة.
593

غيره في هذه الخصوصية لا يستلزم كونه أشد منه في جميع الجهات.
نعم قد يكون بعض أفراد الكذب أشد من شرب الخمر والزناء،
كالكذب على الله وعلى رسوله، وكالكذب لقتل النفس المحترمة
ولإثارة الفتنة ونحوها، ولا مضايقة في جعله حينئذ من الكبائر.
ومنها: ما عن العسكري (عليه السلام) فإنه قال: جعلت الخبائث كلها في بيت
وجعل مفتاحها الكذب (1)، بدعوى أن ما يكون مفتاحا للخبائث كلها
لا بد وأن يكون كبيرة.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: لا ملازمة بين كون الشئ مفتاحا للخبائث وبين كونه معصية
فضلا عن كونه من الكبائر، فإنه قد يكون الشئ غير محرم ومع ذلك
يكون مفتاحا للحرام، كالشبهات ومقدمات الحرام، وعليه فشأن هذه
الرواية شأن الروايات الآمرة بالاجتناب عن الشبهات، فهي غير دالة على
حرمة الكذب فضلا عن كونه من الكبائر.
قوله: ويمكن الاستدلال على كونه من الكبائر بقوله تعالى: إنما يفتري
الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله (2).
أقول: وجه الدلالة أنه تعالى جعل الكاذب غير مؤمن بآيات الله كافرا
بها.
وفيه: أن الآية وإن كانت ظاهرة الدلالة على كون الكذب المذكور فيها
من الكبائر، ولكن الظاهر من ملاحظة الآية وما قبلها أن المراد بالكاذبين
في الآية الشريفة هم الذين يفترون على الله وعلى رسوله في آيات الله،

1 - الدرة الباهرة: 43، عنه المستدرك 9: 85.
2 - النمل: 107.
594

كاليهود والمشركين، لزعمهم أن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) كله من تلقاء نفسه
ومفتريات شخصه، وقد رد الله كلامهم عليهم بقوله عز من قائل: إنما
يفتري الكذب.
وعلى هذا فالكذابون المذكورون في الآية لم يؤمنوا بالله وبرسوله
وبالمعاد من الأول، لا أن الكذب أوجب خروجهم عن الايمان لكي تدل
الآية على مقصد المصنف.
قوله: كونه من الكبائر من غير فرق بين أن يترتب على الخبر الكذاب مفسدة وأن لا
يترتب عليه شئ أصلا.
أقول: ذهب المصنف تبعا لظاهر الفاضلين (1) والشهيد الثاني (2) إلى أن
الكذب مطلقا من الكبائر، سواء ترتبت عليه مفسدة أم لا، واستند في
رأيه هذا إلى الاطلاقات المتقدمة التي استدل بها على كون الكذب من
الكبائر.
ثم أيده بقول النبي (صلى الله عليه وآله) في وصيته لأبي ذر (رضي الله عنه): ويل للذي
يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ويل له، ويل له (3)، بدعوى
أن الأكاذيب المضحكة لا يترتب عليها الابقاء في المفسدة إلا نادرا.
والوجه في جعلها من المؤيدات ما ذكره المصنف في مبحث الكبائر
من رسالته في العدالة، وهو أن من الموازين التي تعد به الخطيئة كبيرة

1 - لم نقف عليه في كتب المحقق والعلامة، نعم في القواعد 2: 236: أن الكبيرة ما توعد
الله فيها بالنار، ومثله في التحرير 2: 208.
2 - الروضة البهية 3: 129.
3 - الأمالي للشيخ الطوسي 2: 150، عنه الوسائل 12: 281، الاختصاص: 226، عنه
المستدرك 9: 114، مكارم الأخلاق 2: 363، الرقم: 2661، ضعيفة لأبي المفضل ورجاء وابن
ميمون.
595

ورود النص المعتبرة على أنها مما أوجب الله عليها النار، ومن الواضح
أن الوصية المذكورة ضعيفة السند.
أقول: قد عرفت أن الاطلاقات المتقدمة لا تنهض لاثبات المطلوب
إما لضعف السند فيها أو لضعف الدلالة، وكذلك الشأن في رواية أبي ذر،
فهي وإن كانت ظاهرة في المقصود ولكن قد عرفت أنها ضعيفة السند.
والتحقيق أنه لا دليل على جعل الكذب مطلقا من الكبائر، بل المذكور
في رواية أبي خديجة: الكذب على الله وعلى رسوله وعلى الأوصياء
(عليهم السلام) من الكبائر (1)، فإن الظاهر منها أنها مسوقة للتحديد وبيان أن
الكذب الذي يعد كبيرة إنما هو الكذب الخاص، وعليه فتقيد بها
المطلقات المتقدمة الظاهرة في كون الكذب بمطلقه من الكبائر، بناء على
صحتها من حيث السند والدلالة، ولكن رواية أبي خديجة المذكورة
ضعيفة السند.
وفي مرسلة الفقيه: من قال على ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار (2)،
فإن الظاهر منها أن الكذب على الرسول من الكبائر، بناء على تفسير
الكبيرة بما أوعد الله عليه النار في الكتاب العزيز أو في السنة المعتبرة،
وعليه فيدخل فيه الكذب على الله وعلى أوصيائه (عليهم السلام) لملازمتهما
للكذب على النبي (صلى الله عليه وآله)، ولكن الرواية ضعيفة السند.
وفي بعض الأحاديث (3) أن شهادة الزور واليمين الغموس الكاذبة التي
يتعمدها صاحبها من الكبائر.

1 - الكافي 2: 254، المحاسن: 118، عنهما الوسائل 12: 248، ضعيفة بمحمد بن علي.
2 - الفقيه 3: 372، عنه الوسائل 15: 327، مرسل، رواها في عقاب الأعمال: 318،
المحاسن: 118، عنهما الوسائل 12: 249 مسندا.
3 - كنز الكراجكي: 184، عنه الوسائل 15: 331.
596

ومما يؤيد أن الكذب ليس مطلقا من الكبائر ما ورد في مرسلة سيف بن
عميرة (1) من التحذير عن الكذب الصغير والكبير، فإن انقسام الكذب إلى
الصغير والكبير يدل على عدم كونه مطلقا من الكبائر، إلا أن الرواية
مرسلة.
وفي رواية ابن الحجاج (2) ما يشعر بعدم كون الكذب مطلقا من الكبائر.
ولكن الذي يعظم الخطب ما تقدمت الإشارة إليه في مبحث الغيبة،
من أنه لا أثر لهذه المباحث، فإن الذنوب كلها كبيرة وإن كان بعضها أكبر
من بعض، ولذا اختلفت الأخبار في تعدادها، ولو سلمنا انقسامها إلى
الصغيرة والكبيرة فإن جميعها مضرة بالعدالة، فإن العدالة هي الاستقامة
والاعتدال، فأي ذنب ارتكبه المكلف فإنه يوجب الخروج عنها.
حرمة الكذب في الهزل والجد:
هل يحرم الكذب مطلقا وإن كان صادرا بعنوان الهزل، أو تختص
حرمته بالكذب الجدي؟ فنقول:
إن الكذب المسوق للهزل على قسمين، فإنه قد يكون الهازل بكذبه
مخبرا عن الواقع ولكن بداع المزاح والهزل، من دون أن يكون اخباره
مطابقا للواقع، كأن يخبر أحدا بقدوم مسافر له أو حدوث حادث أو

1 - الكافي 2: 253، عنه الوسائل 12: 250.
2 - عن ابن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الكذاب هو الذي يكذب في الشئ،
قال: لا من أحد إلا يكون ذلك منه، ولكن المطبوع على الكذب (الكافي 2: 255، عنه الوسائل
12: 245)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
أقول: المطبوع على الكذب المجبول عليه، بحيث صار عادة له، ومن لا يكون كذلك
لا يصدق عليه الكذاب الذي من الصيغ المبالغة، وهو واضح.
597

وصول حاجة، ليغتر المخاطب بقوله فيرتب عليه الأثر فيضحك منه
الناس.
وهذا لا شبهة في كونه من الكذب، فإنه عبارة عن الخبر غير الموافق
للواقع، واختلاف الدواعي لا يخرجه عن واقعه وحقيقته، وإذن فيكون
مشمولا لما دل على حرمة الكذب.
وقد يكون الكلام بنفسه مصادقا للهزل، بحيث يقصد المتكلم انشاء
بعض المعاني بداعي الهزل المحض، من غير أن يقصد الحكاية عن واقع
ليكون اخبارا ولا يستند إلى داع آخر من دواعي الانشاء، ومثاله أن
ينشئ المتكلم وصفا لأحد من حضار مجلسه بداعي الهزل، كاطلاق
البطل على الجبان، والذكي على الأبله، والعالم على الجاهل.
وهذا لا دليل على حرمته مع نصب القرينة عليه، كما استقربه
المصنف، والوجه في ذلك هو أن الصدق والكذب إنما يتصف بهما
الخبر الذي يحكي عن المخبر به، وقد عرفت أن الصادر عن الهازل في
المقام ليس إلا الانشاء المحض فيخرج عن حدود الخبر موضوعا.
وقد يقال بالحرمة هنا أيضا لاطلاق جملة من الروايات: منها مرسلة
سيف المتقدمة فإنها ظاهرة في وجوب الاتقاء عن صغير الكذب وكبيره
في الجد والهزل على وجه الاطلاق.
وفيه مضافا إلى كونها ضعيفة السند، أن انشاء الهزل خارج عن الكذب
موضوعا كما عرفت، فلا يشمله ما دل على حرمة الكذب.
ومن هنا ظهر الجواب عن التمسك برواية أبي ذر المتقدمة من اثبات
الويل لمطلق الكاذب، كما ظهر الجواب عن رواية الحارث الأعور (1)،

1 - عن علي (عليه السلام) قال: لا يصلح الكذب جد وهزل (أمالي الصدوق: 342، عنه الوسائل
12: 250 (ضعيفة بأبي وكيع).
598

على أن كلمة: لا يصلح فيها ظاهرة في الكراهة المصطلحة دون
الحرمة.
كما أن قوله (عليه السلام) في رواية الأصبغ: لا يجد العبد طعم الايمان حتى
يترك الكذب هزله وجده (1)، لا يستفاد منه أزيد من الكراهة، فإن
المكروهات مانعة أيضا عن وجدان المؤمن طعم ايمانه، وكذلك ظهر
الجواب عن رواية الخصال (2).
بيان حقيقة الوعد وأقسامه:
قوله: وكيف كان فالظاهر عدم دخول خلف الوعد في الكذب.
أقول: لا بأس بتوضيح حقيقة الوعد وبيان حكم الخلف فيه، أما
حقيقة الوعد فإنه يتحقق بأحد أمور ثلاثة:
1 - أن يخبر المتكلم عن عزمه على الوفاء بشئ، كان يقول لواحد:
إني عازم على أن أعطيك درهما، أو إني ملتزم بالمجئ إلى ضيافتك، أو
على اعظامك واكرامك، ولا شبهة في كون هذا من أفراد الخبر، غاية
الأمر أن المخبر به من الأفعال النفسانية، أعني العزم على الفعل
الخارجي، نظير الاخبار عن سائر الأمور النفسانية، من العلم والظن
والشك والوهم.
وعليه فإن كان حين الاخبار عازما فهو صادق وإلا فهو كاذب، فتشمله
أدلة حرمة الكذب ويكون خارجا عن المقام.

1 - الكافي 2: 255، المحاسن: 118، عنهما الوسائل 12: 250، مجهولة لقاسم بن عروة.
2 - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أنا زعيم بيت في ربض الجنة، وبيت في وسط الجنة،
وبيت في أعلى الجنة، لمن ترك المراء وإن كان محقا، ولمن ترك الكذب وإن كان هازلا، ولمن
حسن خلقه (الخصال 1: 144)، مجهولة.
599

2 - أن ينشئ المتكلم ما التزمه بنفس أصله التي تكلم بها، بأن يقول:
لك على كذا درهما أو دينارا أو ثوبا، ونظيره صيغ النذر والعهد، كقولك:
لله على أن أفعل كذا.
ولا ريب أن مثل هذه الجمل انشائية محضة، فلا تتصف بالصدق
ولا بالكذب بالمعنى المتعارف، بل الصدق والكذب في ذلك بمعنى
الوفاء بهذا الالتزام وعدم الوفاء به.
3 - أن يخبر المتكلم عن الوفاء بأمر مستقبل، كقوله: أجيئك غدا، أو
أعطيك درهما بعد ساعة، أو أدعوك إلى ضيافتي بعد شهر، وهذه جمل
خبرية بالحمل الشايع ولكنها مخبرة عن أمور مستقبلة، كسائر الجمل
الخبرية الحاكية عن الحوادث الآتية، كالاخبار عن قدوم المسافر غدا،
وعن نزول الضيف يوم الجمعة، وعن وقوع الحرب بين السلاطين بعد
شهر.
ولا شبهة في اتصاف هذا القسم من الوعد بالصدق والكذب، فإنها
عبارة عن موافقة الخبر للواقع وعدم موافقته له، من غير فرق بين أنواع
الخبر، وهو واضح.
وأما حرمة الكذب هنا فإن تنجزها يتوقف على عدم احراز تحقق
المخبر به في ظرفه، فيكون النهي عنه منجزا حينئذ، وأما لو أحرز حين
الاخبار تحقق الوفاء بوعده في ظرفه ولكن بدا له أو حصل له المانع من
باب الاتفاق وأصبح مسلوب الاختيار عن الاتمام والانهاء لم تكن
الحرمة منجزة وإن كان اخباره هذا في الواقع كذبا.
وأما حكم المقام من حيث خلف الوعد، فسيأتي التكلم عليه.
ومن هنا اتضح أن النسبة بين حرمة الكذب وبين خلف الوعد هي
العموم من وجه، فإنه قد يتحقق الكذب المحرم حيث لا مورد لخلف
600

الوعد، وقد يوجد خلف الوعد حيث لا يوجد الكذب المحرم، وقد
يجتمعان.
وقد ظهر من مطاوي ما ذكرناه أن الاخبار إذا كان عن الأمور المستقبلة
كان صدق الخبر وكذبه منوطين بتحقق المخبر به في ظرفه على نحو
الشرط المتأخر وعدم تحققه فيه.
وعليه فإذا كان عازما على الوفاء بوعده حين الاخبار فهل يجب عليه
البقاء على عزمه هذا ما لم يطرأ عليه العجز صونا لكلامه عن الاتصاف
بالكذب أو لا يجب عليه ذلك، الظاهر هو الثاني، فإنه لا دليل على
وجوب اتمام العزم وعلى حرمة العدول عنه لكي لا يتصف كلامه السابق
بالكذب.
ونظير ذلك الاخبار عن عزمه على ايجاد فعل في الخارج كإرادة السفر
ونحوه، ولم يتوهم أحد وجوب البقاء على عزمه السابق لئلا يتصف
كلامه بالكذب على نحو الشرط المتأخر.
وأما الأدلة الناهية عن الكذب فهي مختصة بالكذب الفعلي،
فلا تشمل غيره كما سيأتي.
خلف الوعد:
قد عرفت أن حقيقة الوعد إنما تتحقق بأحد أمور ثلاثة، وأما المراد من
خلفه فهو نقض ما التزم به وترك ما وعده، وعدم انهائه واتمامه، فهل
هذا حرام أم لا؟
قد يقال بالحرمة، بدعوى أنه من أفراد الكذب، فيكون مشمولا لعموم
ما دل على حرمته، ولكنها دعوى جزافية، فإن ما دل على حرمة الكذبة
يختص بالكذب الفعلي الابتدائي فلا يشمل الكذب في مرحلة البقاء،
601

وإن شئت قلت: المحرم إنما هو ايجاد الكلام الكاذب لا ايجاد صفة
الكذب في كلام سابق.
ونظير ذلك ما حققناه في كتاب الصلاة في البحث عن معنى الزيادة في
المكتوبة، وقلنا: إن المراد بها هو الزيادة الابتدائية، أي الشئ الذي
لا يطابق المأمور به حين صدوره من الفاعل، بحيث إذا وجد لم يوجد إلا
بعنوان الزيادة، وعليه فإذا أوجد المصلي شيئا في صلاته بعنوان الجزئية
أو الشرطية ثم بدا له ما أخرجه عن عنوانه الأولي وألحقه بالزيادة لم يكن
محكوما بحكم الزيادة في الفريضة، فلا تشمله قوله (عليه السلام): من زاد في
صلاته فعليه الإعادة (1).
وكذلك في المقام، فإن ما دل على حرمة الكذب مختص بالكذب
الابتدائي الفعلي المعنون بعنوان الكذب حين صدوره من المتكلم، أما إذا
وجد كلام في الخارج وهو غير متصف بالكذب ولكن عرض له ما ألحقه
بالكذب بعد ذلك فلا يكون حراما، لانصراف ما دل على حرمة الكذب
عنه وإن صدق عليه مفهوم الكذب حقيقة من حيث مخالفة المتكلم
لوعده وعدم جريه على وفق عهده، ولذا يطلق عليه وعد كاذب ووعد
مكذوب، كما يطلق على الوفاء به وعد صادق ووعد غير مكذوب.
وقد استدل على حرمة مخالفة الوعد على وجه الاطلاق بالأخبار
الكثيرة (2) الدالة على وجوب الوفاء به.

1 - التهذيب 2: 194، الإستبصار 1: 376، عنهما الوسائل 8: 231.
2 - عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة
له، فمن أخلف فبخلف الله بدا، ولمقته تعرض، وذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا
لم تقولون ما لا تفعلون - الخ، (الكافي 2: 270، عنه الوسائل 12: 165)، حسنة لإبراهيم بن
هاشم، المقت: الغضب.
وعن شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد (الكافي 2: 270، عنه الوسائل 12: 165)، حسنة لإبراهيم.
وغير ذلك من الروايات المذكورة في الكافي 2: 270 - 286، الوسائل 12: 164 - 166،
12: 203 - 213، المستدرك 9: 54 - 56.
602

أقول: الروايات الواردة في هذا المقام كثيرة جدا، وكلها ظاهرة في
وجوب الوفاء بالوعد وحرمة مخالفته، ولم نجد منها ما يكون ظاهرا في
الاستحباب، ولكن خلف الوعد حيث كان يعم به البلوى لجميع الطبقات
في جميع الأزمان فلو كان حراما لاشتهر بين الفقهاء كاشتهار سائر
المحرمات بينهم.
مع ما عرفت من كثرة الروايات في ذلك وكونها بمرأى منهم ومسمع،
ومع ذلك كله فقد أفتوا باستحباب الوفاء به وكراهة مخالفته حتى
المحدثين منهم، كصاحبي الوسائل والمستدرك وغيرهما مع جمودهم
على ظهور الروايات (1)، وذلك يدلنا على أنهم اطلعوا في هذه الروايات
على قرينة الاستحباب فأعرضوا عن ظاهرها.
ولكنا قد حققنا في علم الأصول أن اعراض المشهور عن العمل
بالرواية الصحيحة لا يوجب وهنها، كما أن عملهم بالرواية الضعيفة
لا يوجب اعتبارها إلا إذا رجع اعراضهم إلى تضعيف الرواية ورجوع
عملهم إلى توثيقها.
وإذن فلا وجه لرفع اليد عن ظهور الروايات المذكورة على كثرتها
وحملها على الاستحباب.

1 - الوسائل: 12، باب 109: 165، والمستدرك: 8 باب 92: 461 استحباب الصدق في
الوعد.
603

ولكن الذي يسهل الخطب أن السيرة القطعية بين المتشرعة قائمة على
جواز خلف الوعد وعلى عدم معاملة من أخلف بوعده معاملة الفساق،
ولم نعهد من أعاظم الأصحاب أن ينكروا على مخالفة الوعد كانكارهم
على مخالفة الواجب وارتكاب الحرام، فهذه السيرة القطعية تكون قرينة
على حمل الأخبار المذكورة على استحباب الوفاء بالوعد وكراهة
مخالفته.
نعم الوفاء به والجري على طبقه من مهمات الجهات الأخلاقية، بل
ربما توجب مخالفته سقوط الشخص عن الاعتبار في الأنظار، لحكم
العقل على مرجوحيته.
ومع ذلك كله فرفع اليد عن ظهور الروايات وحملها على الاستحباب
يحتاج إلى الجرأة، والأوفق بالاحتياط هو الوفاء بالوعد.
وقد يستدل على الحرمة أيضا بقوله تعالى: لم تقولون ما لا تفعلون
، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (1)، حيث قيل: كبر أن تعدوا
من أنفسكم ما لا تفون به مقتا عند الله (2)، وقد استشهد الإمام (عليه السلام) بهذه
الآية أيضا على ذلك في بعض الروايات المتقدمة في الحاشية.
وفيه: أن الآية أجنبية عن حرمة مخالفة الوعد، فإنها راجعة إلى ذم
القول بغير العمل، وعليه فموردها أحد الأمرين على سبيل مانعة الخلو:
1 - أن يتكلم الانسان بالأقاويل الكاذبة، بأن يخبر عن أشياء مع علمه
بكذبها وعدم موافقتها للواقع ونفس الأمر، فإن هذا حرام بضرورة
الاسلام كما تقدم.

1 - الصف: 2.
2 - مجمع البيان ط صيدا 5: 278.
604

2 - موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يأمر الناس
بالمعروف ويتركه هو، وينهاهم عن المنكر ويرتكبه، وهذا هو الظاهر
من الآية ومن الطبرسي في تفسيرها (1).
وعليه فشأن الآية شأن قوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم (2)، وهذا أيضا حرام بالضرورة، بل هو أقوى من الأمر بالمنكر
والنهي عن المعروف بالقول لكونه ترويجا للباطل بالعمل، ومن البديهي
أن تأثيره في الترويج أقوى من تأثير القول فيه.
وأما الوعيد فمن حيث القاعدة يجري فيها ما جرى في الوعد انشاء
واخبارا، وأما من حيث الروايات فلا تشمله الأحاديث المتقدمة في
الحاشية الظاهرة في الوجوب، بداهة أنه لا يجب الوفاء بالوعيد قطعا، بل
قد يحرم ذلك في بعض الموارد جزما.
خروج المبالغة عن الكذب موضوعا:
قوله: ثم إنه لا ينبغي الاشكال في أن المبالغة في الادعاء وإن بلغت ما بلغت ليست
من الكذب.
أقول: إذا كانت المبالغة بالزيادة على الواقع كانت كذبا حقيقة، كما إذا
أعطى زيدا درهما فيقول أعطيته عشرة دراهم، أو إذا زار الحسين (عليه السلام) أو
بقية المشاهد المشرفة أو الكعبة المكرمة مرة واحدة فيقول: زرت
عشرين مرة.
ومن هذا القبيل تأدية المعين بلفظ واحد موضوع للكثرة والمبالغة،

1 - مجمع البيان ط صيدا 5: 278.
2 - البقرة: 41.
605

كاطلاق الضراب على الضارب، فإنه اخبار عن الكثرة بالهيئة، نعم لو
قامت قرينة خارجية على إرادة الواقع وكون استعمال اللفظ فيه لأجل
المبالغة فقط لما كان كذبا.
ومثله ما هو متعارف بين المتحاورين من استعمال بعض الفصول من
الأعداد في مقام التكثير والاهتمام، كلفظ سبع أو سبعين أو ألف، فيقول
المولى لعبده مثلا: لو اعتذرت مني ألف مرة لما قبلت عذرك، ومن ذلك
قوله تعالى: إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (1)، كما ذكره
الطبرسي (2)، فإن الغرض من الآية هو نفي الغفران رأسا.
وتجوز المبالغة أيضا بالتشبيه والاستعارة، كتشبيه الرجل العالم
بالبحر المواج، وتشبيه الوجه الحسن بفلقة القمر، وكالكناية عن الجود
بكثرة الرماد وهزال الفصيل وجبن الكلب، واستعارة الأسد والسيف
البتار للرجل الشجاع، ولا يعد شئ منها كذبا، وكيف والقرآن الكريم
وخطب الأئمة (عليهم السلام) وكلمات الفصحاء مشحونة بذلك، بل ربما تكون
هذه الخصوصيات وأمثالها موجبة لقوة الكلام ووصوله إلى حد الاعجاز
أو ما يقرب منه.
والوجه في خروج المبالغة بأقسامها عن الكذب هو أن المتكلم إنما
قصد الاخبار عن لب الواقع فقط، إلا أنه بالغ في كيفية الأداء فتخرج عن
الكذب موضوعا، نعم إذا انتفى ما هو ملاك المبالغة من وجه الشبه ونحوه
كان الكلام كاذبا.

1 - التوبة: 81.
2 - في مجمع البيان ط صيدا: الوجه في تعليق الاستغفار بسبعين مرة المبالغة لا العدد
المخصوص، والمراد بذلك نفي الغفران جملة، وقيل: إن العرب تبالغ بالسبعة والسبعين ولهذا
قيل للأسد السبع، لأنهم تأولوا فيه لقوته أنها ضوعفت له سبع مرات (مجمع البيان 3: 55).
606

خروج التورية عن الكذب:
قوله: وأما التورية، وهو أن يريد بلفظ معنى مطابقا للواقع.
أقول: المعروف بين أهل اللغة وغيرهم أن الكذب نقيض الصدق،
فصدق الكلام بالمطابقة وكذبه بعدم المطابقة، وإنما الكلام في بيان
معنى المطابق - بالكسر - وأنه عبارة عما يظهر من كلام المتكلم أو عبارة
عن مراده منه وبيان المطابق - بالفتح - وأنه عبارة عن الواقع والنسبة
الخارجية أو عن اعتقاد المخبر أو عن كليهما.
فذهب المشهور إلى أن صدق الخبر مطابقته بظهوره للواقع وكذبه
عدم مطابقته للواقع، بدعوى أن هيئة الجملة الخبرية إنما وضعت لتحقق
النسبة في الخارج، سواء كانت النسبة ثبوتية أو سلبية، كما أن ألفاظ
أجزائها موضوعة للمعان التصورية من الموضوع والمحمول
ومتعلقاتها، فمطابقة الخبر لتلك النسبة الخارجية الواقعية صدق وعدمها
كذب، فإذا قيل: زيد قائم، فإن هذا القول يدل على تحقق النسبة الخبرية
في الخارج، أعني اتصاف زيد بالقيام، فإن طابقها كان صادقا وإن خالفها
كان كاذبا.
وفيه أولا: أنه قد لا تكون للنسبة خارجية أصلا، كقولنا شريك الباري
ممتنع، واجتماع النقيضين محال، والدور أو التسلسل باطل، وما سوى
الله ممكن، إذ لا وجود للامتناع والامكان والبطلان في الخارج.
إلا أن يقال: إن المراد بالخارج ما هو أعم منه ومن نفس الأمر، ومن
البين أن الأمثلة المذكورة مطابقة للنسبة في نفس الأمر، وتفسير الخارج
بذلك ظاهر المحقق التفتازاني، حيث قال في المطول بعد تفسيره الصدق
بمطابقة الخبر للواقع والكذب بعدم مطابقته للواقع: وهذا معنى مطابقة
607

الكلام للواقع والخارج وما في نفس الأمر (1).
وثانيا: أن الالتزام المذكور لا يتفق مع تعريف القضية بأنها تحتمل
الصدق والكذب، فإن دلالة الجملة على وقوع النسبة في الخارج تقتضي
الجزم بالوقوع، ومقتضى التعريف المذكور هو الشك في ذلك، وهما
لا يجتمعان.
وثالثا: لو كانت الجمل الخبرية بهيئاتها موضوعة للنسبة الخارجية
لكانت دلالتها عليها قطعية، كما أن دلالة الألفاظ المفردة على معانيها
التصورية قطعية، فإن الشك لا يتطرق إلى الدلالة بعد العلم بالموضوع له
وإرادة اللافظ، مع أنه لا يحصل للمخاطب بعد سماع الجمل الخبرية
غير احتمال وقوع النسبة في الخارج، وقد كان هذا الاحتمال حاصلا
قبل سماعها.
لا يقال: قد يحصل العلم بوقوع النسبة في الخارج من اخبار المتكلم
لقوة الوثوق به.
فإنه يقال: ليس موضع بحثنا إذا اشتملت الجملة الخبرية على قرائن
خارجية تدل على صدقها، بل مورد الكلام هو نفس الخبر العاري عن
القرائن، على أنه لا يتم إلا مع الوثوق بالمتكلم، ومورد البحث أعم من
ذلك.
لا يقال: إن المخاطب يحصل له من سماع الخبر ما لم يحصل قبله من
العلوم، فكيف يسوغ القول بأن استماع الخبر لم يفده غير ما كان يعرفه
أولا.
فإنه يقال: إن ما يحصل للمخاطب من المعاني التصورية وغيرها فيما

1 - المطول: 38.
608

سنذكره غير مقصود للقائل بوضع الجمل الخبرية للنسب الخارجية،
وما هو مقصوده لا يحصل من ذلك، وعن النظام ومن تابعه: أن صدق
الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر وكذبه عدمها وإن كان الاعتقاد خطأ (1).
واستدل عليه بآية المنافقين (2)، بدعوى أن الله سجل عليهم بأنهم
لكاذبون في قولهم إنك لرسول الله، لعدم اعتقادهم بالرسالة المحمدية،
وإن كان قولهم مطابقا للواقع، وأجابوا عنه بأن المنافقين لكاذبون في
شهادتهم للرسالة لعدم كونها عن خلوص الاعتقاد.
وتوضيح ذلك يحتاج إلى مقدمتين:
1 - إن الشهادة في العرف واللغة بمعنى الحضور (3)، سواء كان حضورا
خارجيا، كقوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه (4)، وكقول
المسافر: شاهدت البلد الفلانية وأقمت فيها، أم حضورا ذهنيا كحضور
الواقعة في ذهن الشاهد.
2 - إن المخبر به قد يكون أمرا خارجيا، وقد يكون أمرا اعتباريا، و
قد يكون أمرا ذهنيا كالاخبار عن الصور النفسانية.
فيتجلى من هاتين المقدمتين أن الاخبار عن الشهادة بالرسالة مبني على
حضور المخبر به والمشهود به في صقع الذهن، لأن الشهادة ليست من
الأعيان الخارجية، وحيث إن المنافقين غير معتقدين بالرسالة ولم يكن
المخبر به وهو الاعتقاد بالنبوة موجودا في أذهانهم فرماهم الله إلى
الكذب والفرية، فلا دلالة في الآية على مقصود النظام.

1 - المطول: 41.
2 - المنافقون: 1.
3 - في المنجد: شهد المجلس: حضره (المنجد: 406).
4 - البقرة: 181.
609

ويضاف إلى ذلك أنه لو أخبر أحد عن قضية لم يعتقد بوقوعها في
الخارج وهي واقعة فيه، فإنه على مسلك النظام خبر كاذب مع أنه صادق
بالضرورة.
وعن الجاحظ (1) أن صدق الخبر مطابقته للواقع والاعتقاد معا، وكذبه
عدم مطابقته لهما معا، وغير ذلك لا صدق ولا كذب.
واستدل على رأيه هذا بقوله تعالى: افترى على الله كذبا أم به
جنة (2)، فإن الاخبار حال الجنة غير الكذب، لأنهم جعلوه قسيما للافتراء
وغير الصدق، لعدم مطابقته للواقع في عقيدتهم.
وفيه: إنا نرى بالعيان ونشاهد بالوجدان وبحكم الضرورة انحصار
الخبر بالصدق والكذب وعدم الواسطة بينهما، وأما الآية المذكورة
فهي غريبة عن مقصود الجاحظ، لأن الظاهر منها أن المشركين نسبوا
اخبار النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الافتراء الذي هو كذب خاص أو إلى الاخبار حال
الجنة الذي لا أثر له عند العقلاء.
والتحقيق أن الجمل بأجمعها خبرية كانت أم انشائية قد وضعت
بهيئاتها النوعية لابراز الصور الذهنية واظهار الدعاوي النفسانية - ما
شئت فعبر - فإن الواضع - أي شخص كان - إنما تعهد، وتابعه بقية الناس،
بأن متى أراد أن يبرز شيئا من دعاويه ومقاصده أن يتكلم بجملة مشتملة
على هيئة خاصة تفي بمراده وأداء دعواه في مقام المحادثة والمحاورة.
وهذه الجهة أعني ابراز المقاصد النفسانية بمظهر إنما هي في مرحلة
دلالة اللفظ على معناه الموضوع له، فيشترك فيها جميع الجمل خبرية

1 - المطول: 40.
2 - سبأ: 8.
610

كانت أم انشائية، بل يشترك فيها جميع الألفاظ الموضوعة، مفردة كانت
أم مركبة.
والوجه فيه أن دلالة اللفظ على معناه بحسب العلقة الوضعية أمر
ضروري فلا يعقل الانفكاك بينهما في مرحلة الاستعمال إلا بانسلاخ
اللفظ عن معناه بالقرائن الخارجية، وهذه الدعاوي النفسانية على
قسمين:
1 - أن تكون أمرا اعتباريا محضا وقائما بنفس المعتبر، بأن يعتبر في
نفسه شيئا ثم يظهره في الخارج بمبرز من لفظ أو غيره من دون قصد
للحكاية عن شئ، وهذا يسمى انشاء ولا يتصف بالصدق والكذب
بوجه، لأنه شئ يقوم بالاعتبار الساذج كما عرفت.
2 - أن تكون حاكية عن شئ آخر، سواء كان هذا المحكي من القضايا
الخارجية كقيام زيد في الخارج، أم من الأوصاف النفسانية كالعلم
والشجاعة والسخاوة ونحوها، وهذه الحكاية إن طابقت للواقع
المحكي اتصفت الدعاوي المذكورة بالصدق وإلا فهي كاذبة، وأما
اتصاف الجمل الخبرية بهما فمن قبيل اتصاف الشئ بحال متعلقه،
كرجل منيع جاره، ومؤدب خدامه، ورحب فناؤه.
فتحصل من جميع ما ذكرناه أن المراد من المطابق - بالكسر - هو مراد
المتكلم أي الدعاوي النفسانية لا ظهور كلامه كما توهم، وأن المراد من
المطابق - بالفتح - هو الواقع ونفس الأمر المحكي بالدعاوي النفسانية.
وإذا عرفت ما تلوناه عليك فنقول: لا شبهة في خروج التورية عن
الكذب موضوعا، فإنها في اللغة بمعنى الستر (1)، فكأن المتكلم وارى

1 - في مجمع البحرين: وريت الخبر - بالتشديد - تورية إذا سترته وأظهرت غيره، حيث
يكون للفظ معنيان: أحدهما أشيع من الآخر وتنطق به وتريد الخفي (مجمع البحرين 1: 436).
611

مراده عن المخاطب باظهار غيره وخيل إليه أنه أراد ظاهر كلامه، وقد
عرفت آنفا أن الكذب هو مخالفة الدعاوي النفسانية للواقع لا مخالفة
ظاهر الكلام له.
و يتفرع على هذا أن جواز التورية لا يختص بمورد الاضطرار ونحوه،
لأنها ليست من مستثنيات الكذب بل هي خارجة عنه موضوعا، ومن هنا
ذهب الأصحاب فيما سيأتي من جواز الكذب عند الضرورة إلى وجوب
التورية مع التمكن منها، وعللوا ذلك بتمكن المتكلم مما يخرج به كلامه
عن الكذب.
ثم إن الكلام الذي يوري به قد يكون ظاهرا في بيان مراد المتكلم
ولكن المخاطب لغباوته وقصور فهمه لا يلتفت إليه، وهذا خارج عن
التورية، بل هو كسائر الخطابات الصادرة من المتكلم في مقام المحادثة
والمحاورة، ومن هذا القبيل ما نقل عن بعض الأجلة أن شخصا اقترح
عليه أن يعطيه شيئا من الدراهم وكان يراه غير مستحق لذلك، فألقى
السبحة من يده وقال: والله إن يدي خالية، وتخيل السائل من كلامه أنه
غير متمكن من ذلك.
وقد يكون الكلام ظاهرا في غير ما أراده المتكلم، وهو مورد التورية،
كما إذا أراد أحد أن ينكر مقالته الصادرة منه، فيقول: علم الله ما قلته،
ويظهر كلمة الموصول على صورة أداة النفي، ويخيل إلى السامع أنه
ينكر كلامه.
ومن هذا القبيل ما ذكره سلطان المحققين في حاشية المعالم في
612

البحث عن المجمل، من أنه سئل أحد العلماء عن علي (عليه السلام) وأبي بكر
أيهما خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: من بنته في بيته (1)، ومنه قول عقيل:
أمرني معاوية أن ألعن عليا ألا فالعنوه.
ومن هذا القبيل أيضا ما سئل بعض الشيعة عن عدد الخلفاء فقال:
أربعة أربعة أربعة، وإنما قصد منها الأئمة الاثني عشر، وزعم السائل أنه
أراد الخلفاء الأربع.
ومما يدل على جواز التورية وخروجها عن الكذب أمور:
1 - نقل ابن إدريس في آخر السرائر من كتاب عبد الله بن بكير عن
أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يستأذن عليه، فيقول للجارية: قولي: ليس
هو هاهنا، قال: لا بأس ليس بكذب (2).
2 - روى سويد بن حنظلة، قال: خرجنا ومعنا وابل بن حجر يريد
النبي (صلى الله عليه وآله)، فأخذه أعداء له، فخرج القوم أن يحلفوا وحلفت بالله إنه
أخي، فخلى عنه العدو، فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: صدقت،
المسلم أخو المسلم (3)، وهي وإن كانت ظاهرة الدلالة على جواز
التورية وعدم كونها من الكذب ولكنها ضعيفة السند.
3 - ما ورد (4) من نفي الكذب عن قول إبراهيم (عليه السلام): بل فعله كبيرهم

1 - معالم الأصول: 157.
2 - مستطرفات السرائر: 137، عنه الوسائل 12: 254.
3 - المبسوط 5: 95، مرسلة، وضعيفة لسويد.
4 - عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في
قول يوسف (عليه السلام): أيتها العير إنكم لسارقون، قال: والله ما سرقوا وما كذب، وقال إبراهيم
(عليه السلام): بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فقال: والله ما فعلوا وما كذب - إلى
أن قال أبو عبد الله (عليه السلام): - إن إبراهيم (عليه السلام) إنما قال: بل فعله كبيرهم هذا، إرادة الاصلاح، و
قال يوسف (عليه السلام) إرادة الاصلاح (الكافي 2: 255، عنه الوسائل 12: 253، والآيات في يوسف
: 70، الأنبياء: 63)، مجهولة للحسن الصيقل.
وعن عطاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا كذب على مصلح، ثم تلا:
أيتها العير - الخ، ثم قال: والله ما سرقوا وما كذب، ثم تلا: بل فعله - الخ، ثم قال: والله
ما فعلوه وما كذب (السرائر: 137، عنه الوسائل 12: 254)، مجهولة بمعمر بن عمرو وعطاء.
وفي رواية أبي بصير عن أبي جعفر: ولقد قال إبراهيم (عليه السلام): إني سقيم، وما كان سقيما
وما كذب، ولقد قال إبراهيم (عليه السلام): بل فعله كبيرهم هذا، وما فعله وما كذب، ولقد قال
يوسف (عليه السلام): أيتها العير إنكم لسارقون، والله ما كانوا سارقين وما كذب (تفسير العياشي
2: 184، عنه المستدرك 9: 95)، ضعيفة لمعلي بن محمد.
وغير ذلك من الروايات المذكورة في المستدرك 9: 94 - 96، وسيأتي في رواية الاحتجاج
ما يدل على ذلك.
613

هذا (1)، مع أن كبيرهم لم يفعله، وعن قوله (عليه السلام): إني سقيم (2)، وما كان
سقيما، وعن قول يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون (3)، وما كانوا
سراقا، فيدل ذلك كله على كون الأقوال المذكورة من التورية وأن التورية
خارجة عن الكذب موضوعا.
نعم يمكن أن يقال: إن نفي الكذب عن قول إبراهيم ويوسف (عليهما السلام)
إنما هو بلحاظ نفي الحكم وأنهما قد ارتكبا الكذب لإرادة الاصلاح.
ويدل عليه قوله (عليه السلام) في رواية الصيقل: أن إبراهيم إنما قال: بل فعله
كبيرهم هذا، إرادة الاصلاح، وقال يوسف إرادة الاصلاح، وقوله (عليه السلام)
في رواية عطاء: لا كذب على مصلح، ثم تلا: أيتها العير - الخ، وقد
تقدمت الروايتان في الحاشية.

1 - الأنبياء: 63.
2 - الصافات: 89.
3 - يوسف: 70.
614

ويؤيده ما في بعض أحاديث العامة: أن إبراهيم (عليه السلام) كذب ثلاث
كذبات، قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله في سارة:
إنها أختي (1).
ولكن الروايات المذكورة كلها ضعيفة السند، كما أن بقية الأحاديث
التي اطلعت عليها في القصص المزبورة مشتملة على ضعف في السند
أيضا وجهالة في الراوي، فلا يمكن الاستناد إليها بوجه.
رفع غشاوة:
قد يتوهم أنه لا محيص أن تكون أقوال إبراهيم ويوسف المذكورة
كاذبة، غاية الأمر أنها من الأكاذيب الجائزة، أما قول إبراهيم (عليه السلام): إني
سقيم، وقول يوسف (عليه السلام): أيتها العير إنكم لسارقون، فصدق
الكذب عليهما واضح.
وأما قول إبراهيم (عليه السلام): بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا
ينطقون، فلأن الشرط فيه أما أن يرجع إلى السؤال المذكور فيه، وأما أن
يرجع إلى الفعل، فإن كان راجعا إلى السؤال انحلت الآية الكريمة إلى
قضيتين: إحداهما حملية، وهي قوله تعالى: بل فعله كبيرهم هذا،
والثانية انشائية مشروطة، وهي قوله تعالى: فاسألوهم إن كانوا
ينطقون.
أما القضية الأولى فهي كاذبة لكونها غير مطابقة للواقع، وأما القضية
الثانية فهي انشائية لا تتصف بالصدق والكذب، وإن كان راجعا إلى الفعل
الذي نسبه إلى كبيرهم كانت الآية مسوقة لبيان قضية شرطية، مقدمها
قوله تعالى: بل فعله كبيرهم هذا، وتاليها قوله تعالى: كانوا

1 - راجع سنن البيهقي 10: 198، ومجمع البيان ط صيدا 4: 450.
615

ينطقون، فقد دخلت عليها أداة الشرط وجعلتهما قضية واحدة شرطية،
ومن البديهي أنها أيضا كاذبة.
فإن الصدق والكذب في القضايا الشرطية يدوران مدار صحة
الملازمة وفسادها، ولا شبهة أنها منتفية في المقام، بداهة أنه لا ملازمة
بين نطق كبير الأصنام وبين صدور الفعل منه، بل الفعل قد صدر من
إبراهيم على كل تقدير، سواء نطق كبيرهم أم لم ينطق.
أقول: أما رمي قول إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا بالكذب، فجوابه:
إنا قد حققنا في مبحث الواجب المشروط من علم الأصول أن الشروط في
الواجبات المشروطة أما أن ترجع إلى الانشاء، أعني به ابراز الاعتبار
النفساني، وأما أن ترجع إلى متعلق الوجوب، أي المادة المحضة، كما
في الواجب المعلق، على ما نسب إلى المصنف في التقريرات، وأما أن
ترجع إلى المنشأ، وهو ما اعتبره في النفس ثم أبرزه بالانشاء، فيكون
مرجع القيد في قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه هو وجوب الاكرام، فيصير
مقيدا بمجئ زيد.
أما الأول فهو محال، لأن الانشاء من الأمور التكوينية التي يدور أمرها
بين الوجود والعدم، فإذا أوجده المتكلم استحال أن يتوقف وجوده على
شئ آخر، لاستحالة انقلاب الشئ عما هو عليه.
وأما الثاني فهو وإن كان ممكنا في مرحلة الثبوت ولكنه خلاف ظاهر
الأدلة في مقام الاثبات، ولا يمكن المصير إليه بدون دليل وقرينة، وإذن
فيتعين الاحتمال الثالث.
وهذا الكلام بعينه جار في القضايا المشروطة من الجمل الخبرية
أيضا، فإن ارجاع القيد فيها إلى نفس الاخبار، أي الألفاظ المظهرة
للدعاوي النفسانية غير معقول، لتحققه بمجرد التكلم بالقضية الشرطية،
616

ولا يعقل بعد ذلك أن تكون موقوفة على حصول قيد أو شرط، وأما
ارجاعه إلى متعلق الخبر، وهو وإن كان سائغا في نفسه ولكنه خلاف
ظاهر القضايا الشرطية، وحينئذ فيتعين ارجاعه إلى المخبر به، وهو
الدعاوي النفسانية، مثلا إذا قال أحد: إن كانت الشمس طالعة فالنهار
موجود، فإن معناه: أن دعوى تحقق النهار مقيدة بطلوع الشمس ومع
عدم طلوعها فالدعوى منتفية.
وعليه فتقدير الآية: بل فعله كبيرهم إن نطقوا فاسألوهم، فقد علقت
الدعوى على نطق كبيرهم، ولما استحال نطقه انتفت الدعوى، فلا تكون
كاذبة، ونظير ذلك قولك: فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء،
وكقولك أيضا: لا أعتقد إلها إن كان له شريك، ولا أعتقد خليفة للرسول
(صلى الله عليه وآله) إن لم يكن منصوبا من الله، هذا فاغتنم.
ويؤيد ما ذكرناه خبر الإحتجاج عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: ما فعله
كبيرهم، وما كذب إبراهيم، قيل: وكيف ذلك، فقال: إنما قال إبراهيم: إن
كانوا ينطقون، فإن نطقوا فكبيرهم فعل وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم
شيئا، فما نطقوا وما كذب إبراهيم (1).
وقد ذكر المفسرون وجوها لتفسير الآية فراجع.
وأما رمي قول إبراهيم: إني سقيم بالكذب، فجوابه: إن المراد به
كونه سقيما في دينه أي مرتادا وطالبا في دينه، ويؤيده ما في خبر
الإحتجاج المتقدم عن الصادق (عليه السلام)، من قوله: ما كان إبراهيم سقيما،
وما كذب، وإنما عنى سقيما في دينه أي مرتادا (2).

1 - الإحتجاج 2: 354، مرسلة.
2 - الإحتجاج 2: 354، مرسلة.
617

ومعنى المرتاد في اللغة هو الطلب والميل، أي إني طالب في ديني
ومجد لتحصيل الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، فقد خيل بذلك إلى عبدة
الأصنام والنجوم أنه مريض لا يقدر على التكلم، فتولوا عنه مدبرين
وأخروا المحاكمة إلى وقت آخر، وللعلماء فيه وجوه أخرى قد ذكرها
المفسرون في تفاسيرهم.
وأما رمي قول يوسف (عليه السلام): أيتها العير إنكم لسارقون بالكذب،
فقد ذكروا في الجواب عنه وجوها، أظهرها أن المؤذن لم يقل: أيتها العير
إنكم لسرقتم صواع الملك، بل قال: إنكم لسارقون، ولعل مراده: أنكم
سرقتم يوسف من أبيه، ألا ترى أنهم لما سألوا ماذا تفقدون، قالوا لهم:
نفقد صواع الملك، ولم يقولوا: سرقتم ذلك.
ويؤيده ما في خبر الإحتجاج المتقدم عن الصادق (عليه السلام)، من قوله:
إنهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى - الخ (1).
مسوغات الكذب:
1 - جواز الكذب لدفع الضرورة:
قوله: فاعلم أنه يسوغ لوجهين: أحدهما الضرورة إليه فيسوغ معها بالأدلة الأربعة.
أقول: لا شبهة في كون الكذب حراما في نفسه ومبغوضا بعينة، لظاهر
الأدلة المتقدمة المطبقة على حرمته، وعلى هذا فلا وجه لما زعمه
الغزالي (2)، من أن الكذب ليس حراما بعينه، بل فيه من الضرر على
المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشئ على

1 - الإحتجاج 2: 355، مرسلة.
2 - احياء العلوم، بيان ما رخص فيه من الكذب 3: 121.
618

خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا وقد يتعلق به ضرر غيره.
نعم الظاهر أن حرمة الكذب ليست ذاتية كحرمة الظلم، ولذا يختلف
حكمه بالوجوه والاعتبارات، وعليه فإذا توقف الواجب على الكذب
وانحصرت به المقدمة وقعت المزاحمة بين حرمة الكذب وبين ذلك
الواجب في مقام الامتثال وجرت عليهما أحكام المتزاحمين، مثلا إذا
توقف انجاء المؤمن ودفع الهلكة عنه على الكذب كان واجبا.
وقد استدل المصنف على جواز الكذب في مورد الاضطرار بالأدلة
الأربعة:
أما الاجماع، فهو وإن كان محققا ولكنه ليس اجماعا تعبديا كاشفا عن
رأي المعصوم (عليه السلام)، فإن الظاهر أن المجمعين قد استندوا في فتياهم
بالجواز إلى الكتاب والسنة، فلا وجه لجعله دليلا مستقلا في المسألة،
وقد مر نظير ذلك مرارا.
وأما العقل، فهو وإن كان حاكما بجواز الكذب لدفع الضرورات في
الجملة، كحفظ النفس المحترمة ونحوه، إلا أنه لا يحكم بذلك في
جميع الموارد، فلو توقف على الكذب حفظ مال يسير لا يضر ذهابه
بالمالك، فإن العقل لا يحكم بجواز الكذب حينئذ.
وأما الكتاب فقد ذكر المصنف منه آيتين:
1 - قوله تعالى: من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم
عذاب عظيم (1).

1 - النحل: 108.
619

وتقرير الاستدلال: أن الآية الشريفة تدل بالمطابقة على جواز التكلم
بكلمة الكفر والارتداد عن الاسلام عند الاكراه والاضطرار بشرط أن
يكون المتكلم معتقدا بالله ومطمئنا بالايمان، فتدل على جواز الكذب
في غير ذلك للمكره بطريق أولى.
2 - قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين
ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة (1)، أي لا
يجوز للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لأنفسهم يستعينون بهم و
يلتجؤون إليهم، ويظهرون المحبة والمودة لهم إلا أن يتقوا منهم تقاة،
فإنه حينئذ يجوز إظهار مودتهم تقية منهم، فتدل هذه الآية أيضا على
جواز الكذب في سائر موارد التقية بالأولى.
ولكن لا دلالة في الآيتين على جواز الكذب في جميع موارد الاضطرار
غير مورد الخوف والتقية.
وأما الأخبار المجوزة للكذب في موارد الخوف والتقية فهي أكثر من
أن تحصى، وقد استفاضت بل تواترت على جواز الحلف كاذبا لدفع
الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو عن أخيه، وستأتي الإشارة إلى جملة
منها.
قوله: إنما الاشكال والخلاف في أنه هل يجب حينئذ التورية لمن يقدر عليها أم لا.
أقول: قد وقع الخلاف بين الأعلام في أن جواز الكذب هل هو مقيد
بعدم التمكن من التورية أم لا؟ فنسب المصنف القول الأول إلى ظاهر
المشهور، ولكن العبارات التي نقلها عنهم أما غير ظاهرة في مقصوده
وأما ظاهرة في خلافه.

1 - آل عمران: 27.
620

أما الأول، فكالمحكي عن الغنية والسرائر، والشرايع والقواعد،
واللمعة وشرحها، وجامع المقاصد وغيرها من الكتب (1)، فإن مفروض
الكلام فيها إنما هو اشتراط جواز الحلف الكاذب بعدم التمكن من
التورية، وأما جواز مطلق الكذب فهو خارج عن مورد كلامهم، فإنهم
قالوا في مسألة جواز الحلف لدفع الظالم عن الوديعة: أنه يجوز الحلف
كاذبا إذا لم يحسن التورية وإلا فيوري بما يخرجه عن الكذب.
وأما الثاني، فكالمحكي عن المقنعة (2) حيث قال: من كانت عنده أمانة
فطالبها ظالم فليجحد، وإن استحلفه ظالم على ذلك فليحلف ويوري
في نفسه بما يخرجه عن الكذب - إلى أن قال: - فإن لم يحسن التورية
وكانت نيته حفظ الأمانة أجزأته النية، وكان مأجورا.
أما أن هذه العبارة ظاهرة في خلاف مقصود المصنف، فلأن المذكور
فيها أمران: الأول: إذا طلب الظالم الوديعة من الودعي جاز له انكارها
مطلقا، سواء تمكن من التورية أم لا، الثاني: إذا استحلف الظالم الودعي
على انكار الوديعة جاز له الحلف مع عدم التمكن من التورية، ولو كان نظر
صاحب المقنعة إلى اعتبار التمكن من التورية في جواز مطلق الكذب
لم يفصل بين الحلف وغيره.
وعلى الاجمال فلا دلالة في شئ من هذه العبارات المنقولة عن
الأصحاب على مقصود المصنف.
ثم إن المصنف وجه ما نسبه إلى المشهور بوجهين، وسنتعرض لهما
فيما بعد، إن شاء الله.

1 - الغنية (الجوامع الفقهية): 538، السرائر 3: 43، شرايع الاسلام 2: 163، 3: 32، القواعد
1: 190، اللمعة وشرحها 4: 235، التحرير 1: 266، جامع المقاصد 4: 27، رياض المسائل
1: 622، مجمع الفائدة 10: 300، المختصر النافع 1: 150.
2 - المقنعة: 556.
621

قوله: إلا أن مقتضى اطلاقات أدلة الترخيص في الحلف كاذبا لدفع
الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو أخيه عدم اعتبار ذلك.
أقول: بعد ما نسب المصنف القول المذكور إلى ظاهر المشهور
ووجهه بوجهين آتيين، حاول استفادة حكم المسألة من الأخبار، وجعل
اعتبار عدم التمكن من التورية في جواز الحلف كاذبا موافقا للأخبار،
وذكر جملة منها وترك جملة أخرى، وأحال بعضها إلى ما يأتي من جواز
الكذب في الاصلاح، وهي بأجمعها (1) ظاهرة في جواز الحلف الكاذب
لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو عن أخيه على وجه الاطلاق، و
ليست مقيدة بعدم التمكن من التورية، وهي تدل بطريق الأولوية على
جواز الكذب بغير حلف لدفع الضرر.

1 - عن إسماعيل عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال: سألته عن رجل أحلفه
السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف، قال: لا جناح عليه، وعن رجل يخاف على ماله من
السلطان فيحلفه لينجو به منه، قال: لا جناح عليه، وسألته هل يحلف الرجل على مال أخيه
كما يحلف على ماله، قال: نعم (الكافي 7: 440، التهذيب 8: 285، عنهما الوسائل 23: 224).
وعن السكوني عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): احلف بالله كاذبا ونج أخاك من القتل (الفقيه
3: 235، التهذيب 8: 300، عنهما الوسائل 23: 225)، موثقة للسكوني.
وعن الصدوق قال: وقال الصادق (عليه السلام): اليمين على وجهين - إلى أن قال: - فأما الذي
يؤجر عليها الرجل إذا حلف كاذبا ولم تلزمه الكفارة، فهو أن يحلف الرجل في خلاص امرئ
مسلم أو خلاص ماله من متعد يتعدى عليه من لص أو غيره (الفقيه 3: 231، عنه الوسائل
23: 226).
وعن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إنا نمر على هؤلاء القوم فيستحلفونا على
أموالنا وقد أدينا زكاتها، فقال: يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاؤوا (نوادر أحمد بن محمد
ابن عيسى: 73، عنه الوسائل 23: 227)، موثقة لابن بكير.
في كتاب الإخوان عن الرضا (عليه السلام): وأن الرجل يكذب على أخيه يريد به نفعه فيكون عند
الله صادقا (مصادقة الإخوان: 76، عنه الوسائل 12: 255).
622

وقد استحسن المصنف عدم اعتبار القيد المزبور، لأن ايجاب التورية
على القادر لا يخلو عن الالزام بالعسر والخرج، فلو قيل بتوسعة الشارع
على العباد بعدم ترتيب الآثار على الكذب فيما نحن فيه وإن قدر على
التورية كان حسنا.
ثم إنه (رحمه الله) احتاط في المسألة ورجع إلى ما نسبه إلى ظاهر المشهور
وجعله مطابقا للقاعدة، وقال: إلا أن الاحتياط في خلافه، بل هو المطابق
للقواعد لولا استبعاد التقييد في هذه المطلقات، لأن النسبة بين هذه
المطلقات وبين ما دل، كالرواية الأخيرة وغيرها على اختصاص بالجواز
بصورة الاضطرار المستلزم للمنع مع عدمه مطلقا، عموم من وجه،
فيرجع إلى عمومات حرمة الكذب، فتأمل.
فمراده من التقييد ما ذكره قبيل هذا بقوله: يصعب على الفقيه التزام
تقييدها بصورة عدم القدرة على التورية، ومراده من المطلقات ما ذكره من
الأخبار الواردة في جواز الحلف الكاذب لدفع الضرر البدني أو المالي عن
نفسه أو عن أخيه، وما يأتي من الأخبار الواردة في جواز الكذب للاصلاح.
وتوضيح مرامه أنه إذا قطعنا النظر عن استبعاد التقييد في هذه
المطلقات فإن ما ذهب إليه المشهور هو الموافق للاحتياط والمطابق
للقواعد، لأن النسبة بين المطلقات المزبورة وبين رواية سماعة (1) وما في
معناها (2) هي العموم من وجه، فإن بعض المطلقات ظاهرة في جواز

1 - عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا حلف الرجل تقية لم يضره إذا هو أكره
واضطر إليه، وقال: ليس شئ مما حرم الله إلا وقد أحله لمن اضطر إليه (نوادر أحمد بن محمد
بن عيسى: 75، عنه الوسائل 23: 228)، مرسلة.
2 - عن ابن بكير فقال (عليه السلام): يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاؤوا (نوادر أحمد بن
محمد بن عيسى: 73، عنه الوسائل 23: 227)، موثقة لابن بكير، وغير ذلك من الروايات.
623

الكذب لمجرد إرادة الاصلاح، وبعضها ظاهر في جواز الحلف الكاذب
لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو عن أخيه، سواه بلغ ذلك حد
الاضطرار أم لا، ورواية سماعة وما يساويها في المضمون ظاهرة في
اختصاص جواز الحلف كاذبا بصورة الخوف والاضطرار والاكراه، فتدل
بمفهومها على حرمته في غير الموارد المذكورة.
وحينئذ فتقع المعارضة بين مفهوم رواية سماعة وبين مطلقات
الحلف الكاذب في غير الموارد المذكورة، كما تقع المعارضة بينها وبين
مطلقات الكذب لإرادة الاصلاح في غير الموارد المذكورة أيضا،
فيتساقطان في مورد الاجتماع ويرجع إلى عمومات حرمة الكذب.
ولا بعد في تقييد المطلقات فإنها واردة بلحاظ حال عامة الناس الذين
لا يلتفتون إلى التورية ليقصدوها ويلتجئوا إليها عند الخوف والتقية،
وعليه فلا بأس بتقييدها بمن يتمكن من التورية.
وقد أورد المحقق الإيرواني (1) على المصنف بوجهين:
1 - أنه لا مفهوم لرواية سماعة، فإنها ناظرة إلى جواز الكذب لأجل
الاكراه والاضطرار، وأما جوازه في غير مورد الضرورة أو حرمته فيه
فخارج عن الرواية.
وفيه: أن الظاهر من المحقق المذكور أنه إنما نفي المفهوم عن الرواية
لأنه لم ينظر إلا إلى ذيلها، وهو مسوق لضرب قاعدة كلية ليس لها
مفهوم، ومن المعلوم أن المصنف إنما أثبت المفهوم للرواية نظرا
إلى صدرها، ولا شبهة أنه قضية شرطية مشتملة على عقد شرطي
ايجابي، وهو المنطوق، وعلى عقد شرطي سلبي، وهو المفهوم.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 39.
624

2 - إنا لو سلمنا المعارضة المذكورة التي أبداها المصنف بين مفهوم
رواية سماعة وبين المطلقات المزبورة، فإنه لا وجه للرجوع إلى مطلقات
حرمة الكذب، إذ النسبة بين الاطلاقين هي العموم من وجه، وبعد
تعارضهما في مادة الاجتماع وتساقطهما فيها يرجع إلى أصالة الحل.
وفيه: أنه لم يظهر لنا مراده من هذا الاشكال، فإن النسبة بين الاطلاقين
هي العموم المطلق، لأن ما دل على جواز الكذب أخص مما دل على
حرمته، وإذن فلا مناص عن تقييد مطلقات حرمة الكذب بما دل على
جوازه في موارد خاصة.
والتحقيق أنه لا وجه لرفع اليد عن المطلقات الدالة على جواز الحلف
كاذبا لانجاء النفس المحترمة من الهلكة، ولحفظ مال نفسه أو مال أخيه
عن التلف، فقد ذكرنا في مبحث التعادل والترجيح من علم الأصول أن من
المرجحات في الدليلين المتعارضين بالعموم من وجه أن يلزم من تقديم
أحدهما إلغاء العنوان المأخوذ في الدليل الآخر على سبيل الموضوعية
بخلاف العكس، وقد مثلنا له في بعض المباحث السابقة بأمثلة
متعددة (1)، وواضح أن ما نحن فيه من هذا القبيل.
فإن المطلقات المذكورة دلت على جواز الحلف كاذبا لانجاء النفس
المحترمة ولحفظ مال نفسه أو مال أخيه، وهي مشتركة مع رواية سماعة
وما في معناها في تجويز الحلف كاذبا للاكراه والاضطرار، وإنما تمتاز
المطلقات عن رواية سماعة وما يساويها في المضمون باشتمالها على
جواز الحلف الكاذب في غير موارد الخوف والاضطرار أيضا.
وعليه فلو قدمنا رواية سماعة وما في مضمونها على المطلقات

1 - مر في البحث عن حرمة بيع كلب الحراسة.
625

المزبورة وحكمنا لذلك بحرمة الحلف كاذبا في غير موارد الاكراه
والاضطرار لكانت العناوين المأخوذة في تلك المطلقات، أعني حفظ
النفس والمال لنفسه أو لأخيه كلها لاغية، وأما لو قدمنا المطلقات
وحفظنا العناوين المذكورة فيها فإنه لا يلزم منه إلا إلغاء المفهوم فقط عن
رواية سماعة وما في معناها، ونتيجة ذلك أنه يجوز الحلف كاذبا لانجاء
النفس المحترمة ولحفظ مال نفسه أو مال أخيه على وجه الاطلاق،
فيقيد بها ما دل على حرمة الكذب على وجه الاطلاق.
لا يقال: إن حرمة الكذب ذاتية لاستقلال العقل بقبحه فليست قابلة
للتخصيص، وأما ارتكابه في موارد الضرورة فلأن العقل يستقل بوجوب
ارتكاب أقل القبيحين.
فإنه يقال: قد عرفت آنفا أن العقل لا يستقل بقبح الكذب في نفسه إلا
إذا ترتبت عليه المفسدة، فلا تكون حرمته ذاتية لا تقبل التخصيص،
فيكشف من تجويز الشارع الكذب في بعض الموارد أنه ليس بقبيح، لا أنه
من باب حكم العقل بارتكاب أقل القبيحين.
وقد وجه المصنف كلام المشهور بوجهين:
1 - إن الكذب حرام ومع التمكن من التورية لا يحصل الاضطرار إليه
فيدخل تحت العمومات.
2 - إن قبح الكذب عقلي فلا يسوغ إلا مع عروض عنوان حسن عليه
يغلب على قبحه، وهذا لا يتحقق إلا مع العجز عن التورية.
ولكن قد ظهر لك مما قدمناه آنفا ضعف الوجهين المذكورين.
وأما المطلقات الدالة على جواز الكذب للاصلاح فلا معارضة بينها
وبين رواية سماعة وما في معناها، ووجه ذلك أن تلك المطلقات إنما
دلت على جواز الكذب للاصلاح، ورواية سماعة وما في مضمونها إنما
626

دلت على حرمة الحلف كاذبا في غير موارد الاكراه والاضطرار
والخوف، فلا وجه لوقوع المعارضة بينهما كما يرومه المصنف.
لا يقال: إن ما دل على جواز الحلف كاذبا لحفظ النفس والمال دل
على جواز الكذب لهما بطريق الأولوية كما أشرنا إليه سابقا، وعليه فتقع
المعارضة بينهما وبين رواية سماعة وما في مضمونها في مطلق الكذب
أيضا.
فإنه يقال: لا منافاة بين جواز الكذب لحفظ النفس والمال وبين مفهوم
رواية سماعة، من تخصيص حرمة الحلف كاذبا بغير موارد الاكراه
والاضطرار.
قوله: ثم إن أكثر الأصحاب مع تقييدهم جواز الكذب بعدم القدرة على التورية -
الخ.
أقول: حاصل كلامه إن أكثر الأصحاب قيدوا جواز الكذب بعدم
التمكن من التورية، ومع ذلك فقد أطلقوا القول بفساد ما أكره عليه من
العقود والايقاعات ولم يقيدوا ذلك بعدم القدرة على التورية، وصرح
الشهيد الثاني (رحمه الله) في الروضة (1) والمسالك (2) في باب الطلاق بعدم اعتبار
العجز عنها (3)، بل في كلام بعضهم دعوى الاتفاق عليه (4).
وقد أورد المصنف على ذلك بأن المكره على البيع إنما أكره على
التلفظ بصيغة البيع ولم يكره على حقيقته، فالاكراه على البيع الحقيقي

1 - الروضة البهية 6: 21.
2 - المسالك 2: 3 (الطبعة الحجرية).
3 - أنظر النهاية: 510، السرائر 2: 665، شرايع الاسلام 2: 14، المختصر النافع 1: 197،
التنقيح 3: 294، الكفاية: 198، رياض المسائل 2: 169.
4 - الجواهر 32: 15.
627

يختص بغير القادر على التورية، كما أن الاضطرار على الكذب مختص
بالعاجز عنها، وعليه فإذا أكره على البيع فلم يور مع قدرته على التورية
فقد أوجد البيع بإرادته واختياره فيكون صحيحا.
وأجاب عن هذا الايراد بوجود الفارق بين المقامين، وحاصله: أن ما
أكره عليه في باب المعاملات إنما هو نفس المعاملة وواقعها، والأخبار
الدالة على رفع ما استكره عليه كحديث الرفع ونحوه لم تقيد ذلك بعدم
القدرة على التورية، فإذا أوجد المكره المعاملة فقد أوجد نفس ما أكره
عليه ويرتفع أثره بالاكراه، وهذا بخلاف الكذب، فإنه لا يجوز إلا في
مورد الاضطرار، ومن المعلوم أن الاضطرار لا يتحقق مع التمكن من
التورية.
وفيه أولا: أنه لا فارق بين الاكراه والاضطرار، لأن الاكراه في اللغة
حمل المكره على أمر واجباره عليه من غير رضى منه، ولا شبهة في أن
هذا المعنى لا يتحقق إذا أمكن التفصي كما هو الحال في الاضطرار.
وثانيا: إنا لو لم نعتبر في مفهوم الاكراه أن لا يتمكن المكره من التفصي
فإن لازم ذلك جواز ارتكاب المحرمات إذا أكره عليها وإن كان قادرا على
التخلص، كما إذا أكرهه أحد على شرب الخمر وكان متمكنا من هراقتها
على جيبه، وكما إذا أكرهه جائر على أخذ أموال الناس بالظلم والعدوان
وكان متمكنا من أن يدفع مال الظالم إليه ويوهمه أنه إنما يعطيه من مال
غيره، ولا شبهة في حرمة الارتكاب في أمثال هذه الصورة.
هذا كله بناء على المشهور كما نسبه المصنف إلى ظاهرهم، من تقييد
جواز الكذب بعدم القدرة على التورية، والتحقيق أن يفصل بين الأحكام
التكليفية وبين الأحكام الوضعية في باب المعاملات، العقود منها
والايقاعات.
أما الأحكام التكليفية وجوبية كانت أم تحريمية، فإن تنجزها على
628

المكلفين و وصولها إلى مرتبة الفعلية لتبعثهم على الإطاعة والامتثال
مشروطة بالقدرة العقلية والشرعية، واختلاف الدواعي في ترك
الواجبات وارتكاب المحرمات لا يؤثر في تبديلها أو في رفعها بوجه،
ومثال ذلك أن شرب الخمر مع التمكن من تركه حرام، وإن كان شربه
بداعي رفع العطش أو غيره من الدواعي عدا الاسكار.
كما أن المناط في رفع الأحكام التكليفية هو عدم القدرة على الامتثال
ولو بالتورية ونحوها، مثلا إذا أكره الجائر أحدا على شرب الخمر
ولم يتمكن المجبور من تركه بالتورية أو بطريق آخر، فإن الحرمة ترتفع
بحديث الرفع ونحوه، وأما إذا تمكن من موافقة التكليف بالتورية أو بجهة
أخرى فلا موجب لسقوط الحرمة.
نعم ظاهر جملة من الروايات الماضية وجملة أخرى من الروايات
الآتية هو جواز الكذب والحلف الكاذب في موارد خاصة على وجه
الاطلاق حتى مع التمكن من التورية، وعليه فيمتاز حكم الكذب بذلك
عن بقية الأحكام التكليفية.
ومن هنا ظهر ضعف قول المصنف: إن الضرر المسوغ للكذب هو
المسوغ لسائر المحرمات.
وأما الأحكام الوضعية في المعاملات كصحة العقود والايقاعات أو
فسادهما، فهي تدور من حيث الوجود والعدم مدار أمرين:
1 - كون المتعاملين قادرين على المعاملة بالقدرة التي هي من الشرائط
العامة المعتبرة في جميع الأحكام.
2 - صدور انشاء المعاملة عن الرضي وطيب النفس، لآية التجارة عن
تراض والروايات الدالة على حرمة التصرف في مال غيره إلا بطيب
النفس والرضى.
فإذا انتفى أحد الأمرين فسدت المعاملة ولم تترتب عليها الآثار،
629

وعليه فلو أكره الظالم أحدا على بيع أمواله فباعها بغير رضى وطيب نفس
كان البيع فاسدا، سواء تمكن المكره في دفع الاكراه من التورية أم
لم يتمكن، وإذا باعها عن طيب نفس كان البيع صحيحا.
وعلى الاجمال فالمناط في صحة المعاملات صدورها عن طيب
النفس والرضى.
تذييل:
لا شبهة في عدم ثبوت أحكام المكره على المضطر في باب
المعاملات، ووجه ذلك أن حديث الرفع إنما ورد في مقام الامتنان على
الأمة، وعلى هذا فلو اضطر أحد إلى بيع أمواله لأداء دينه أو لمعالجة
مريضه أو لغيرهما من حاجاته، فإن الحكم بفساد البيع حينئذ مناف
للامتنان، وأما الاكراه فليس كذلك، كما عرفت.
قوله: نعم يستحب تحمل الضرر المالي الذي لا يجحف.
أقول: حاصل كلامه أنه يستحب تحمل الضرر المالي الذي
لا يجحف والتجنب عن الكذب في موارد جوازه لحفظ المال، وحمل
عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: علامة الايمان أن تؤثر
الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك (1).
وفيه: أنه لا دليل على ثبوت هذا الاستحباب، فإن الضرر المالي إن بلغ
إلى مرتبة يعد في العرف ضررا جاز الكذب لدفعه وإلا فهو حرام،
لانصراف الأدلة المجوزة عن ذلك، فلا دليل على وجوب الواسطة بينهما
لكي تكون مستحبة، وأما قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة فأجنبي عن الكذب
الجائز الذي هو مورد كلامنا، بل هو راجع إلى الكذب المحرم، وأن

1 - نهج البلاغة 3: 261، الرقم: 458، عنه الوسائل 12: 255.
630

يتخذه الانسان وسيلة لانتفاعه، ومن الواضح جدا أن ترك ذلك من علائم
الايمان.
ويؤيد ما ذكرناه تقابل الصدق المضر مع الكذب النافع فيه، لأن الظاهر
من الكذب النافع هو ما يكون وسيلة لتحصيل المنافع ويكون المراد من
الصدق المضر حينئذ عدم النفع لكثرة اطلاق الضرر عليه في العرف،
وعليه فشأن الحديث شأن ما ورد من أنه: لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن (1).
نعم يمكن الاستدلال على الاستحباب بناء على التسامح في أدلة
السنن بقوله (عليه السلام): اجتنبوا الكذب وإن رأيتم فيه النجاة، فإن فيه
الهلكة (2)، ولكن مفاد الحديث أعم مما ذكره المصنف.
الأقوال الصادرة عن الأئمة (عليهم السلام) تقية:
لا خلاف بين المسلمين بل بين عقلاء العالم في جواز الكذب لانجاء
النفس المحترمة، قال الغزالي: فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ
مسلم فالكذب فيه واجب (3).
وقد تقدمت (4) دلالة جملة من الآيات والروايات على هذا، بل هو من
المستقلات العقلية ومن الضروريات الدينية التي لا خلاف فيها بين
المسلمين.

1 - الكافي 2: 116، عنه الوسائل 15: 325.
2 - لب اللباب، مخطوط، عنه المستدرك 9: 88، مرسلة.
3 - راجع احياء العلوم بيان ما رخص فيه من الكذب 3: 121.
4 - في البحث عن جواز الكذب لدفع الضرورة.
631

وعلى ذلك فمن أنكره كان منكرا لإحدى ضروريات الدين ولحقه
حكم منكر الضروري من الكفر، ووجوب القتل وبينونة الزوجة وقسمة
الأموال.
وإذا عرفت ذلك فقد اتضح لك الحال في الأقوال الصادرة عن الأئمة
(عليهم السلام) في مقام التقية، فإنا لو حملناها على الكذب السائغ لحفظ أنفسهم
وأصحابهم لم يكن بذلك بأس، مع أنه يمكن حملها على التورية أيضا
كما سيأتي.
وبذلك يتجلى لك افتضاح الناصبي المتعصب أمام المشككين حيث
لهج بما لم يلهج به البشر، وقال في خاتمة محصل الأفكار حاكيا عن
الزنديق سليمان بن جرير: إن أئمة الرافضة وضعوا القول بالتقية لئلا يظفر
معها أحد عليهم، فإنهم كلما أرادوا شيئا تكلموا به، فإذا قيل لهم: هذا
خطأ أو ظهر لهم بطلانه قالوا: إنما قلناه تقية.
على أن التفوه بذلك افتراء على الأئمة الطاهرين الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا، قال الله تعالى: إنما يفتري الكذب الذين لا
يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون (1).
قوله: الأقوال الصادرة عن أئمتنا في مقام التقية.
أقول: حاصل مراده أن ما صدر عن الأئمة (عليهم السلام) تقية في بيان الأحكام
وإن جاز حمله على الكذب الجائز حفظا لأنفسهم وأصحابهم عن
الهلاك، ولكن المناسب لكلامهم والأليق بشأنهم حمله على إرادة
خلاف ظاهره من دون نصب قرينة على المراد الجدي، كأن يراد من

1 - النحل: 107.
632

قولهم: لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر (1)، جواز الصلاة في الثوب
المذكور مع تعذر غسله والاضطرار إلى لبسه.
ويؤيده تصريحهم (عليهم السلام) بإرادة المحامل البعيدة في بعض المقامات،
ففي رواية عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: ما تقول في
النوافل، قال: فريضة، قال: ففزعنا وفزع الرجل، فقال أبو عبد الله: إنما
أعني صلاة الليل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (2).
وفيه: أنك قد عرفت آنفا عدم استقلال العقل بقبح الكذب في جميع
الموارد وإنما هو تابع للدليل الشرعي، وعليه فمهما حرمه الشارع
يكشف منه أنه قبيح ومهما ورد الدليل على جوازه يكشف منه أنه ليس
بقبيح، وحينئذ فالكذب الجائز والتورية سواء في الإباحة، ولا ترجيح
لحمل الأخبار الموافقة للتقية على الثاني.
قوله: ومن هنا يعلم أنه إذا دار الأمر في بعض المواضع - الخ.
أقول: ملخص كلامه أنه إذا ورد عن الأئمة (عليهم السلام) أمر وترددنا بين أن
نحمله على الوجوب بداعي التقية أو على الاستحباب بداعي بيان الواقع
تعين الحمل على الثاني، بأن يراد من الأمر معناه المجازي أعني
الاستحباب من دون نصب قرينة ظاهرة.
ومثاله أن يرد أمر بالوضوء عقيب ما يعده العامة (3) حدثا وناقضا
للوضوء، كالمذي والودي ومس الفرج الأنثيين، وغيرها من الأمور التي

1 - التهذيب 1: 280، عنه الوسائل 3: 471.
2 - التهذيب 2: 242، عنه الوسائل 4: 68.
3 - راجع سنن البيهقي، جماع أبواب الحدث، نقل العلامة في التذكرة 1: 10،
المنتهى 1: 35، مضمون هذه الأحاديث عن العامة.
633

يراها العامة أحداثا ناقضة للوضوء (1)، فإنه يدور الأمر حينئذ بين حمله
على الوجوب بداعي التقية، وبين حمله على الاستحباب بداعي بيان
الواقع، ومن المعلوم أن الحمل على الثاني أولى، إذ لم يثبت من مذهب
الشيعة عدم استحباب الوضوء عقيب الأمور المذكورة، ولكن ثبت
عندهم أنها لا تنقض الوضوء جزما، وعليه فتتأدى التقية بإرادة المجاز
واخفاء القرينة.
أقول: لله در المصنف حيث أشار بكلامه هذا إلى قاعدة كلية وضابطة
شريفة تتفرع عنها فروع كثيرة، ومن شأنها أن يبحث عنها في علم
الأصول في فصل من فصول أبحاث الأوامر.
وتحقيق الكلام فيها: أن ما يدور أمره بين الحمل على التقية وبين
الحمل على الاستحباب على ثلاثة أقسام:
1 - أن يكون ظهوره في بيان الحكم الوضعي المحض، كما إذا ورد
عنهم (عليهم السلام): أن الرعاف أو الحجامة مثلا من النواقض للوضوء (2)، فإنه
لا ريب في حمل هذا القسم على التقية، بأن يكون المراد أنها ناقضة حقيقة
للوضوء، ولكن صدور هذا الحكم بداعي التقية لا بداعي الإرادة الجدية.
2 - أن يدل بظهوره على الحكم التكليفي المولوي المحض، كما إذا

1 - عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قبل الرجل المرأة من شهوة أو مس فرجها
أعاد الوضوء (التهذيب 1: 22، الإستبصار 1: 88، عنهما الوائل 1: 272).
عن عمار بن موسى عن أبي عبد الله (عليه السلام)، سئل عن الرجل يتوضأ ثم يمس باطن دبره،
قال: نقض وضوؤه، وإن مس باطن إحليله فعليه أن يعيد الوضوء (التهذيب 1: 348، الإستبصار
1: 88، عنهما الوسائل 1: 272).
2 - عن الوشاء قال: سمعته يقول: رأيت أبي وقد رغف بعد ما توضأ دما سائلا، فتوضأ
(التهذيب 1: 13، الإستبصار 1: 85).
634

فرضنا أن قراءة الدعاء عند رؤية الهلال واجبة عند العامة ومستحبة
عندنا، ووردت رواية من أئمتنا (عليهم السلام) ظاهرة في الوجوب، فإن الأمر
حينئذ يدور بين حمل هذه الرواية على الوجوب بداعي التقية، وبين
حملها على الاستحباب بداعي الجد، غاية الأمر أن الإمام (عليه السلام)
لم ينصب قرينة على مراده الجدي.
وعلى هذا فبناء على مسلك المصنف من كون الأمر حقيقة في
الوجوب ومجازا في غيره يدور الأمر بين حمله على التقية في بيان
الحكم ورفع اليد عن المراد الجدي أعني الاستحباب، أو حمله على
الوجوب الخاص أعني الوجوب حال التقية، ورفع اليد عن ظهور الأمر
في الوجوب المطلق، بأن يكون المراد أن قراءة الدعاء عند رؤية الهلال
واجبة حال التقية، أو حمله على الاستحباب ورفع اليد عن ظهور الكلام
في الوجوب من دون نصب قرينة على ذلك، وحيث لا مرجح لأحد
الأمور الثلاثة بعينه فيكون الكلام مجملا.
وأما بناء على ما حققناه في محله، من أن الأمر موضوع لواقع الطلب،
أعني إظهار الاعتبار النفساني على ذمة المكلف، فما لم يثبت الترخيص
من الخارج فإن العقل يحكم بالوجوب، وإذا ثبت الترخيص فيه من
القرائن الخارجية حمل على الاستحباب، وعليه فلا مانع من حمل الأمر
بقراءة الدعاء عند رؤية الهلال على الاستحباب للقطع الخارجي بعدم
وجوبها عند رؤية الهلال فيتعين الاستحباب، إذ ليس هنا احتمال آخر
غيره لكي يلزم الاجمال.
3 - أن يكون الكلام الصادر عن الإمام (عليه السلام) ظاهرا في بيان الحكم
التكليفي إلا أنه في الواقع بيان للحكم الوضعي الصرف، كما إذا ورد الأمر
بالوضوء عقيب المذي والودي ومس الفرج والأنثيين، أو غيرها من
635

الأمور التي يراها العامة أحداثا ناقضة للوضوء، فإن الأمر في هذه الموارد
ارشاد إلى ناقضية الأمور المذكورة للوضوء، كما أن الأمر بالوضوء عقيب
البول والنوم ارشاد إلى ذلك أيضا.
وحينئذ فيدور الأمر بين حمله على ظاهره من الناقضية بداعي التقية
لا الجد، وبين حمله على الاستحباب، فالظاهر هو الأول، فإن حمله على
الثاني يستلزم مخالفة الظاهر من جهتين: الأولى: حمل ما هو ظاهر في
الإرشاد إلى الناقضية على خلاف ظاهره من إرادة الحكم التكليفي، الثانية:
حمل ما هو ظاهر في الوجوب على الاستحباب.
وأما لو حملناه على التقية فلا يلزم منه إلا مخالفة الظاهر في جهة
واحدة، وهي حمل الكلام على غير ظاهره من المراد الجدي.
2 - جواز الكذب لإرادة الاصلاح:
قوله: الثاني من مسوغات الكذب إرادة الاصلاح.
أقول: لا شبهة في جواز الكذب للاصلاح بين المتخاصمين في
الجملة عند الفريقين نصا (1) وفتوى، وتفصيل ذلك:

1 - عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الكلام ثلاثة: صدق وكذب واصلاح
بين الناس - الحديث (الكافي 2: 255، عنه الوسائل 12: 254)، مرسل.
وعن عيسى بن حسان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كل كذب مسؤول عنه صاحبه
يوما إلا كذبا في ثلاثة: رجل كايد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا
بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الاصلاح فيما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئا وهو لا يريد أن يتم
لهم (الكافي 2: 256، عنه الوسائل 12: 253)، مجهولة بعيسى بن حسان.
وعن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المصلح ليس بكذاب (الكافي 2: 256،
عنه الوسائل 12: 253)، صحيحة.
وغير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المذكورة.
وفي سنن البيهقي: ليس الكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا (سنن
البيهقي 10: 197)، وغير ذلك من أحاديث العامة.
636

أن النزاع والبغضاء بين المتخاصمين تارة يكون من كلا الطرفين، بأن
يكون كل منهما حربا للآخر وقاصدا لايقاع الضرر به، وأخرى يكون
الحقد والنفاق من طرف واحد كأن وشى إليه نمام على أخيه كاذبا فحقد
عليه، وكلا القسمين مشمولان لاطلاق ما دل على جواز الكذب في
مورد الاصلاح.
ويمكن الاستدلال على جواز الكذب للاصلاح بقوله تعالى: إنما
المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، أي أصلحوا بين المؤمنين إذا
تخاصموا وتقاتلوا، واتقوا الله في ترك العدل والاصلاح لعلكم
ترحمون (1)، فإن اطلاق الآية يشمل الاصلاح بالكذب أيضا.
وحينئذ فتكون الآية معارضة لعموم ما دل على حرمة الكذب
بالعموم من وجه، وبعد تساقطهما في مادة الاجتماع، أعني الكذب
للاصلاح، يرجع إلى البراءة أو إلى عموم: المصلح ليس بكذاب، فإنه
ينفي الكذب عن المصالح على سبيل الحكومة.
ولا فرق في جواز الكذب للاصلاح بين أن يكون المصلح أحد
المتخاصمين أو غيرهما.
ويدل على تأكد الحكم في الأول بعض الأحاديث الواردة في حرمة
هجران المؤمن فوق ثلاثة أيام، كقوله (عليه السلام) في رواية حمران: ما من
مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا برأت منهما في الثالثة، قيل: هذا حال
الظالم فما بال المظلوم، فقال: ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول:

1 - الحجرات: 10.
637

أنا الظالم حتى يصلحا (1).
ومن الواضح جدا أن قول المظلوم: أنا الظالم، كذب وقد ذمه الإمام
(عليه السلام) على تركه، فيكون مستحبا مؤكدا.
قوله: ورد في أخبار كثيرة جواز الوعد الكاذب مع الزوجة بل مطلق الأهل.
أقول: إن كان الوعد على سبيل الانشاء فهو خارج عن الكذب موضوعا
على ما عرفته سابقا، وإن كان على سبيل الأخبار ولم يحرز المتكلم
تحقق المخبر به في ظرفه فهو كذب محرم على صورة الوعد كما عرفت
في البحث عن حكم خلف الوعد.
ولكن ظاهر جملة من الروايات التي تقدم بعضها في البحث عن جواز
الكذب للاصلاح هو جواز الوعد الكاذب للزوجة بل لمطلق الأهل،
وعليه فيقيد بها ما دل على حرمة الكذب، كما يقيد بها أيضا ما دل على
وجوب الوفاء بالوعد لو قلنا به، والله العالم، إلا أن يقال بعدم صلاحية
ذلك للتقييد لضعف السند.
المسألة (19)
حرمة الكهانة
قوله: التاسعة عشرة: الكهانة.
أقول: ما هي الكهانة، وما حكم الرجوع إلى الكاهن، وما حكم
الاخبار عن الأمور المستقبلة؟
أما الكهانة فهي في اللغة (2) الاخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان،

1 - الخصال: 183، الرقم: 251، عنه الوسائل 12: 263، مجهولة بمحمد بن حمران.
2 - قال ابن الأثير: الكاهن الذي يتعاطي الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي
معرفة الأسرار، فمنهم من يزعم أن له تابعا من الجن ورئيا يلقى إليه الأخبار، ومنهم من كان
يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها، وهذا يخصونه باسم العراف
الذي يدعي معرفة الشئ المسروق ومكان الضالة ونحوها (النهاية 4: 214).
وفي مجمع البحرين: أن الكهانة كانت في العرب قبل البعث، فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله) حرست
السماء وبطلت الكهانة، وعمل الكهانة قريب من السحر أو أخص منه (مجمع البحرين
4: 306).
638

وقيل هي عمل يوجب طاعة الجان للكاهن، ومن هنا قيل (1): إن الكاهن من
كان له رئي (2) من الجن يأتيه الأخبار، وهي قريبة من السحر أو أخص منه،
والعراف (3) هو المنجم والكاهن، وقيل: العراف كالكاهن إلا أن العراف
يختص بمن يخبر عن الأحوال المستقبلة والكاهن بمن يخبر عن الأحوال
الماضية.
وكيف كان فالكهانة على قسمين:
1 - أن يخبر الكاهن عن الحوادث المستقبلة، لاتصاله بالشياطين
القاعدين مقاعد استراق السمع من السماء فيطلعون على أسرارها ثم
يرجعون إلى أوليائهم لكي يؤدوها إليهم.
2 - أن يخبر الكاهن عن الكائنات الأرضية والحوادث السفلية،
لاتصاله بطائفة من الجن والشياطين التي تلقى إليه الأخبار الراجعة إلى

1 - حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 74، عن القواعد 1: 121، التحرير 1: 161،
التنقيح 2: 13.
2 - في النهاية: رئي - على فعيل - من رأي، يقال: فلان رئي القوم أي صاحي رأيهم
(النهاية 2: 178).
3 - قال ابن الأثير: العراف المنجم أو الذي يدعي علم الغيب (النهاية 3: 216).
وفي مفردات الراغب: العراف كالكاهن، إلا أن العراف يختص بمن يخبر بالأحوال
المستقبلة، والكاهن بمن يخبر عن الأحوال الماضية (المفردات: 331).
639

الحوادث الأرضية فقط، لأن الشياطين قد منعت عن الاطلاع إلى السماء
وأخبارها بعد بعثة النبي (صلى الله عليه وآله).
وفي خبر الإحتجاج (1) أطلق لفظ الكاهن على كلا القسمين، أما اطلاقه
على القسم الأول فهو صريح جملة من فقراته، وأما اطلاقه على القسم
الثاني فقد وقع منه في فقرتين:
الأولى: قوله (عليه السلام): لأن ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة
فذلك يعلم الشياطين ويؤديه إلى الكاهن ويخبره بما يحدث في المنازل
والأطراف.
الثانية: قوله (عليه السلام) بعد ما ذكر أن الشياطين كانوا يسترقون أخبار السماء
ويقذفونها إلى الكاهن: فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة، واليوم إنما يؤدي الشيطان إلى كهانها أخبارا للناس مما
يتحدثون به - إلى أن قال: - ما يحدث في البعد من الحوادث.
فقد أطلق الكاهن في هاتين الفقرتين على المخبر عن الكائنات السفلية
بواسطة الشياطين.
ولا ينافيه قوله (عليه السلام): انقطعت الكهانة، فإن المراد منها هو الكهانة
الكاملة أعني القسم الأول.
وتدل على حرمة كلا القسمين، مضافا إلى خبر الاحتجاج المتقدم،
جملة من الروايات من طرق الخاصة (2) ومن طرق العامة (3)، وقد تقدم

1 - الإحتجاج: 339 فيما احتج الصادق (عليه السلام) على الزنديق، مرسلة.
2 - في حديث المناهي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عن اتيان العراف وقال: من أتاه وصدقه
فقد برئ مما أنزل الله على محمد (صلى الله عليه وآله) (الفقيه 4: 3، عنه الوسائل 17: 149)، ضعيفة لشعيب
ابن واقد.
وعن الخصال عن الصادق (عليه السلام): من تكهن أو تكهن له فقد برئ من دين محمد (صلى الله عليه وآله)
(الخصال: 19، عنه الوسائل 17: 149)، ضعيفة لأبي حمزة.
عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) جعل من السحت أجر الكاهن (الكافي 5: 126،
التهذيب 6: 368، تفسير القمي 1: 170، الخصال: 329، عنهم الوسائل 17: 93)، موثقة
للسكوني.
في الأمالي عن الصادق (عليه السلام): أربعة لا يدخلون الجنة: الكاهن - الخ (الأمالي للصدوق
: 330، عنه الوسائل 12: 309)، ضعيفة بأبي سعيد هاشم.
3 - راجع سنن البيهقي باب ما جاء في النهي عن الكهانة 8: 138.
640

بعضها في البحث عن حرمة التنجيم والسحر.
حرمة الرجوع إلى الكاهن:
وأما الرجوع إلى الكاهن والعمل بقوله، وترتيب الأثر عليه في الأمور
الدينية، والاستناد إليه في اثبات أمر أو نفيه، فلا شبهة في حرمته، بل
لا خلاف فيها بين المسلمين، لكونه افتراء على الله وعملا بالظن الذي
لا يغني من الحق شيئا.
وتدل على الحرمة أيضا جملة من روايات الفريقين الناهية عن اتيان
الكاهن والعراف، فإن الاتيان إليهم كناية عن تصديقهم والعمل بقولهم،
كما في تاج العروس قال: من أتى كاهنا أو عرافا - الخ، أي صدقهم، وقد
عرفت أن العراف يصدق عليه الكاهن.
وفي رواية الخصال أن: من تكهن أو تكهن له فقد برئ من دين محمد
(صلى الله عليه وآله)، أي من جاء إلى الكاهن وأخذ منه الرأي فليس بمسلم، وقد
تقدمت الإشارة إلى هذه الروايات في الحاشية.
641

حكم الاخبار عن الأمور المستقبلة:
وأما الاخبار عن الأمور المستقبلة جزما، فيقع البحث عن حكمه تارة
من حيث القاعدة وأخرى من حيث الرواية.
أما بحسب القاعدة، فقد يكون المخبر عن الحوادث الآتية شاكا في
وقوعها في مستقبل الزمان، وقد يكون جازما بذلك.
أما الأول فلا شبهة في حرمته لكونه من الكذب المحرم ومن القول
بغير علم، وقد عرفت في البحث عن حكم خلف الوعد أن المخبر ما
لم يكن جازما بوقوع المخبر به في الخارج فهو كاذب في اخباره، نعم لو
صادف الواقع في هذه الحال كان حراما من جهة التجري.
وأما الثاني فلا وجه لحرمته، فإنه خارج عن الكذب وعن القول بغير
علم موضوعا وحكما.
أما بحسب الرواية، فقد التزم المصنف بحرمته لروايات:
1 - خبر الهيثم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عندنا بالجزيرة
رجلا ربما أخبر من يأتيه يسأله عن الشئ يسرق أو شبه ذلك فنسأله،
فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذاب يصدقه
فيما يقول فقد كفر بما أنزل الله من كتاب (1).
بدعوى أن الاخبار عن الغائبات على سبيل الجزم محرم مطلقا، سواء
أكان بالكهانة أم بغيرها، لأنه (عليه السلام) حصر المخبر بالشئ الغائب بالساحر
والكاهن والكذاب وجعل الكل حراما.
وفيه أولا: أن الرواية بقرينة السؤال ظاهرة في الاخبار عن الأمور
الماضية من السرقة والضالة ونحوها، و لا اشكال في جواز الاخبار عن
الأمور الماضية إذا كان المخبر جازما بوقوعها، وإنما الكلام في الاخبار

1 - مستطرفات السرائر: 83، عنه الوسائل 17: 150.
642

على سبيل الجزم عن الحوادث الآتية، فمورد الرواية أجنبي عن محل
الكلام.
وثانيا: لا دلالة في الرواية على انحصار المخبر عن الأمور المغيبة
بالكاهن والساحر والكذاب، بل الظاهر منها أن الاخبار المحرم منحصر
باخبار هذه الطوائف الثلاث، فالإمام (عليه السلام) بين ضابطة حرمة الاخبار عن
الغائبات.
ونظيره ما إذا سئل أحد عن حرمة شرب العصير التمري فأجاب بأن
الحرام من المشروبات إنما هو الخمر والنبيذ والعصير العنبي إذا غلى،
فإن هذا الجواب لا يدل على حصر جميع المشروبات بالمحرم وإنما
يدل على حصر المشروبات المحرمة بالأمور المذكورة.
وإذن فلا دلالة في الرواية على حرمة مطلق الاخبار عن الأمور
المستقبلة ولو من غير الكاهن والساحر والكذاب.
وثالثا: أن غاية ما تدل عليه الرواية أن تصديق المخبر في أخباره حرام
لأنه غير حجة، وأما حرمة اخبار المخبر فلا تدل الرواية على حرمته،
كما هو الحال في اخبار الفاسق وغيره فيما لا يكون قوله حجة.
2 - قوله (عليه السلام) في حديث المناهي المتقدم في الهامش: أنه نهى عن
اتيان العراف وقال: من أتاه وصدقه فقد برئ مما أنزل الله على محمد
(صلى الله عليه وآله) (1)، بدعوى أن المخبر عن الغائبات في المستقبل كاهن ويختص
باسم العراف.
وفيه أولا: أنه ضعيف السند.
وثانيا: أن اتيان العراف كناية عن العمل بقوله وترتيب الأثر عليه، كما
عرفته آنفا، فلا دلالة فيه على حرمة الاخبار عن الأمور المستقبلة بأي

1 - الفقيه 4: 3، عنه الوسائل 17: 149، ضعيفة لشعيب بن واقد.
643

نحو كان.
3 - قوله (عليه السلام) في بعض الأحاديث: لئلا يقع في الأرض سبب يشاكل
الوحي - الخ (1)، فإن الاخبار عن الغائبات و الكائنات في مستقبل الزمان
من الأمور تشاكل الوحي، ومن المقطوع به أنه مبغوض للشارع (2).
وفيه: أن الممنوع في الرواية هو الاخبار عن السماء بوساطة
الشياطين، فإنهم كانوا يقعدون مقاعد استراق السمع من السماء ويطلعون
على مستقبل الأمور ويحملونها إلى الكهنة ويبثونها فيهم، وقد منعوا
عن ذلك بالشهاب الثاقب، لئلا يقع في الأرض ما يشاكل الوحي، وأما
مجرد الاخبار عن الأمور الآتية بأي سبب كان فلا يرتبط بالكهانة.
قوله: فتبين من ذلك - الخ.
أقول: حاصل كلامه أن المتحصل مما ذكرناه هو حرمة الاخبار عن
الغائبات من غير نظر في بعض ما صح اعتباره، كنبذ من الرمل والجفر.
وفيه: أن المناط في جواز الاخبار عن الغائبات في مستقبل الزمان إنما
هو حصول الاطمئنان بوقوع المخبر به كما عرفت، وعليه فلا فرق بين
الرمل والجفر وغيرهما من موجبات الاطمئنان.
ثم إن ظاهر عبارة المصنف هو اعتبار بعض أقسام الرمل والجفر،
ولكنه عجيب منه (رحمه الله) إذ لم يقم دليل على اعتبارهما في الشريعة
المقدسة، غاية الأمر أنهما يفيدان الظن، وهو لا يغني من الحق شيئا.
المسألة (20)
حرمة اللهو في الجملة

1 - الإحتجاج: 339، فيما احتج به الصادق (عليه السلام) على الزنديق، مرسل.
2 - كما في مفاتيح الشرايع 2: 23.
644

قوله: العشرون: اللهو حرام.
أقول: لا خلاف بين المسلمين قاطبة في حرمة اللهو في الجملة، بل
هي من ضروريات الاسلام، وإنما الكلام في حرمته على وجه الاطلاق.
فظاهر جملة من الأصحاب بل صريح بعضهم وظاهر بعض العامة أن
اللهو حرام مطلقا، فعن المحقق في المعتبر (1): قال علمائنا: اللاهي بسفره
كالمتنزه بصيده بطرا لا يترخص، لنا أن اللهو حرام فالسفر له معصية (2).
وقال العلامة (3): حرم الحلبي (4) الرمي عن قوس الجلاهق، والاطلاق
ليس بجيد، بل ينبغي التقييد بطلب اللهو والبطر.
وفي كلمات غير واحد من الأصحاب: أن من سفر المعصية طلب
الصيد للهو والبطر، وفي الرياض (5): قد استدل (6) على حرمة المسابقة في
غير الموارد المنصوصة بما دل على حرمة مطلب اللهو.
وعن المالكية (7): إن كان الغرض من المسابقة المغالبة والتلهي فيكون
حراما.
وقد استظهر المصنف من الأخبار الكثيرة حرمة اللهو على وجه
الاطلاق، ثم قال: ولكن الاشكال في معنى اللهو، فإن أريد به مطلق اللهو
كما يظهر من الصحاح والقاموس، فالظاهر أن القول بحرمته شاذ مخالف

1 - المعتبر 2: 471.
2 - أنظر المبسوط 1: 327، السرائر 1: 327، القواعد 1: 325، الذكرى: 258، رياض
المسائل 2: 430، الرسالة الجعفرية (رسائل المحقق الكركي) 1: 123.
3 - المختلف 5: 18.
4 - الكافي في الفقه: 282.
5 - الرياض 2: 41.
6 - كما في المهذب البارع 3: 82، التذكرة 2: 354.
7 - راجع فقه المذاهب الأربعة 2: 51.
645

للمشهور والسيرة، فإن اللعب هي الحركة لا لغرض عقلائي، ولا خلاف
ظاهرا في عدم حرمته على الاطلاق، نعم لو خص اللهو بما يكون من بطر
، وفسر بشدة الفرح كان الأقوى تحريمه.
ولكن الأخبار لا دلالة لها على حرمة اللهو على وجه الاطلاق، فإنها
على أربع طوائف:
1 - هي الروايات الدالة (1) على وجوب الاتمام على المسافر إذا كان
سفره للصيد اللهوي.
فقد يقال: إن هذه الطائفة تدل بالالتزام على حرمة اللهو أيضا، إذ
لا نعرف وجها لاتمام الصلاة هنا إلا كون السفر معصية للصيد اللهوي،
ولكنه ضعيف، إذ غاية ما يستفاد من هذه الأخبار أن السفر للصيد اللهوي
لا يوجب القصر، فلا دلالة فيها على كون السفر معصية، إذ لا ملازمة بين
وجوب الاتمام في السفر وبين كونه معصية، بل هو أعم من ذلك، وإلى
هذا ذهب المحقق البغدادي (رحمه الله).
2 - ما دل على أن اللهو من الكبائر، كما في حديث شرائع الدين عن
الأعمش (2)، قال المصنف: حيث عد في الكبائر الاشتغال بالملاهي التي
تصد عن ذكر الله، كالغناء وضرب الأوتار، فإن الملاهي جمع الملهي
مصدرا أو الملهي وصفا، لا الملهاة آلة، لأنه لا يناسب التمثيل بالغناء.
ولكن يرد عليه أولا: أن هذه الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: لا دلالة فيها على حرمة اللهو المطلق، بل الظاهر منها أن
الحرام هو اللهو الذي يصد عن ذكر الله، كالغناء وضرب الأوتار

1 - التهذيب 3: 217 - 218، الإستبصار 1: 235 - 237، عنه الوسائل 8: 478 - 481.
2 - الخصال: 610، عنه الوسائل 15: 331، ضعيفة لبكر بن عبد الله بن حبيب، ومجهولة
لأحمد بن يحيى بن زكريا القطان، وغيره من رجال السند.
646

ونحوهما.
وثالثا: إن الظاهر من اللغة إن الملاهي اسم الآلات، فالأمر يدور بين
رفع اليد عن ظهوره وحملها على الفعل وبين رفع اليد عن ظهور الغناء
وحمله على الغناء في آلة اللهو، ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر
فتكون الرواية مجملة، بل ربما يرجح رفع اليد عن ظهور الغناء، كما يدل
عليه عطف ضرب الأوتار على الغناء.
ثم إن رواية الأعمش لم يذكر فيها إلا عد الملاهي التي تصد عن ذكر
الله من الكبائر، وأما زيادة كلمة الاشتغال قبل كلمة الملاهي فهي من
سهو قلم المصنف (رحمه الله)، ولو كانت النسخة كما ذكره لما كان له حمل
الملاهي على نفس الفعل، فإن الاشتغال بالملاهي من أظهر مصاديق
الغناء.
3 - الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالة على حرمة استعمال
الملاهي والمعازف، وفي رواية العيون: الاشتغال بها من الكبائر (1)،
وفي رواية عنبسة: استماع اللهو والغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء
الزرع (2)، وقد تقدمت الإشارة إلى جملة منها وإلى مصادرها في مبحث
حرمة الغناء.
وفيه: أن هذه الروايات إنما تدل على حرمة قسم خاص من اللهو،
أعني الاشتغال بالملاهي والمعازف واستعمالها، ولا نزاع في ذلك، بل
حرمة هذا القسم من ضروريات الدين بحيث يعد منكرها خارجا عن زمرة

1 - راجع عيون الأخبار 2: 125، عنه الوسائل 15: 329، فالطريق الأول فهو مجهول لعبد
الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري وعلي بن قتيبة النيسابوري، وأما الثاني فهو مجهول
للحاكم أبي محمد جعفر بن نعيم، وأما الثالث فهو مجهول لحمزة بن محمد العلوي..
2 - الكافي 6: 434، عنه الوسائل 17: 316.
647

المسلمين، وإنما الكلام في حرمة اللهو على وجه الاطلاق وواضح أن
هذه الأخبار لا تدل على ذلك.
4 - الأخبار الظاهرة ظهورا بدويا في حرمة اللهو مطلقا، كقوله (عليه السلام)
في خبر العياشي: كلما ألهى عن ذكر الله فهو من الميسر (1).
وفي بعض روايات المسابقة: كل لهو المؤمن باطل إلا في ثلاث (2).
وفي رواية أبي عباد: أن السماع في حيز الباطل واللهو،
وسنذكرها.
وفي رواية عبد الأعلى في رد من زعم أن النبي (صلى الله عليه وآله) رخص في أن
يقال: جئناكم جئناكم - الخ: كذبوا إن الله يقول: لو أردنا أن نتخذ لهوا
لاتخذناه من لدنا - الخ (3).
وفي جملة من روايات الغناء أيضا ما يدل على أن اللهو من الباطل.

1 - الأمالي للشيخ الطوسي 1: 345، عنه البحار 73: 157، الوسائل 17: 315، ضعيفة لابن
الصلت وغيره.
2 - في حديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كل اللهو باطل إلا في ثلاث: في تأديبه الفرس،
ورميه عن قوسه، وملاعبته امرأته، فإنهن حق (الكافي 5: 50، عنه الوسائل 19: 250،
20: 118، 15: 140)، مرفوعة.
ورواها الشيخ بسند فيه ضعف لعبد الله بن عبد الرحمان (التهذيب 6: 175، عنه الوسائل
15: 141).
ورواها البيهقي الشافعي في سننه الكبرى 10: 14.
3 - عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغناء وقلت: إنهم يزعمون أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) رخص في أن يقال: جئناكم - إلى أن قال (عليه السلام): - كذبوا - الحديث (الكافي 6: 433،
عنه الوسائل 17: 307)، مجهول لعبد الأعلى.
والانكار في هذه الرواية إشارة إلى ما في مصابيح السنة للبغوي باب اعلان النكاح والخطبة
عن عائشة: أن جارية من الأنصار زوجت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ألا أرسلتم معها من يقول: أتيناكم
أتيناكم فحيانا وحياكم.
648

فإذا ضممنا ذلك إلى ما يظهر من الأدلة من حرمة الباطل، كجملة من
الروايات الدالة على حرمة الغناء (1) كانت النتيجة حرمة اللهو مطلقا.
ويرد عليه أن الضرورة دلت على جواز اللهو في الجملة، وكونه من
الأمور المباحة، كاللعب بالسبحة أو اللحية أو الحبل أو الأحجار
ونحوها، فلا يمكن العمل باطلاق هذه الروايات على تقدير صحتها،
وقد أشرنا إليه في مبحث حرمة القمار، وعليه فلا بد من حملها على قسم
خاص من اللهو أعني الغناء ونحوه كما هو الظاهر، أو حملها على
وصول الاشتغال بالأمور اللاغية إلى مرتبة يصد فاعله عن ذكر الله، فإنه
حينئذ يكون من المحرمات الإلهية.
والحاصل أنه لا دليل على حرمة اللهو على وجه الاطلاق، ومما
ذكرناه ظهر أيضا أنا لا نعرف وجها صحيحا لما ذكره المصنف (رحمه الله) من
تقوية حرمة الفرح الشديد.
اللعب واللغو:
قوله: واعلم أن هنا عنوانين.
أقول: قد فرق جمع من أهل الفروق بين اللهو واللعب، ولا يهمنا
التعرض لذلك، وإنما المهم هو التعرض لحكمها، وقد عرفت أنه
لا دليل على حرمة مطلق اللهو.
وأما اللعب فإن كان متحدا في المفهوم مع اللهو فحكمه هو ذلك، وإن

1 - راجع الوسائل 17: باب 99 تحريم الغناء، وباب 100 تحريم استعمال الملاهي،
وباب 101 تحريم سماع الغناء مما يكتسب به: 303 - 312، والمستدرك 13: 212 - 215 هذه
الأبواب.
649

كانا مختلفين مفهوما فلا بد من ملاحظة الأدلة الشرعية، فإن كان فيها ما
يدل على حرمة اللعب أخذ به، وإلا فيرجع إلى الأصول العملية.
وأما اللغو، فذكر المصنف (رحمه الله) أنه إن أريد به ما يرادف اللهو كما يظهر
من بعض الأخبار (1) كان في حكمه، وإن أريد به مطلق الحركات اللاغية
فالأقوى فيها الكراهة.
أقول: لا دليل على حرمة مطلق اللغو، سواء قلنا بكونه مرادفا للهو
والباطل كما هو الظاهر من أهل اللغة أم لا، لما عرفت من عدم الدليل على
حرمة اللهو على وجه الاطلاق.
وأما ما ذكره من ظهور الروايات في مرادفة اللغو مع اللهو، ففيه أن
الروايات المذكورة ناظرة إلى اتحاد قسم خاص من اللغو مع قسم خاص
من اللهو، وهو القسم المحرم، فلا دلالة فيها على اتحاد مفهومهما
مطلقا، على أنها ضعيفة السند.
وقد يقال بحرمة اللغو على وجه الاطلاق لرواية الكابلي (2)، فإن الإمام
(عليه السلام) جعل فيها اللغو المضحك من جملة الذنوب التي تهتك العصم.

1 - في رواية محمد بن أبي عباد وكان مشتهرا بالسماع وبشرب النبيذ، قال: سألت الرضا
(عليه السلام) عن السماع، فقال: لأهل الحجاز فيه رأي وهو في حيز الباطل واللهو، أما سمعت الله
يقول: وإذا مروا باللغو مروا كراما (عيون الأخبار 2: 128، عنه الوسائل 17: 308)، ضعيفة
بأبي عباد وغيره.
ويقرب من ذلك ما عن أبي أيوب الخزاز (الكافي 6: 432، عنه الوسائل 17: 316)، ضعيف
لسهل.
2 - عن زين العابدين (عليه السلام): الذنوب التي تهتك العصم شرب الخمر واللعب بالقمار
وتعاطي ما يضحك الناس من اللغو والمزاح (معاني الأخبار: 270، عنه الوسائل 16: 281)،
مجهولة بأحمد بن الحسن القطان وأحمد بن يحيى، وضعيفة ببكر بن عبد الله بن حبيب.
650

وفيه أولا: أنها ضعيفة السند ومجهولة الرواة.
وثانيا: إن موضوع التحريم فيها هو اللغو الذي يكون موجبا لهتك
عصم الناس وأعراضهم، من الاستهزاء والسخرية والتعيير والهجاء
ونحوها من العناوين المحرمة، على أنه لا دليل على حرمة اضحاك
الناس وادخال السرور في قلوبهم بالأمور المباحة والجهات السائغة،
بل هو من المستحبات الشرعية والأخلاق المرضية فضلا عن كونه موجبا
لهتك العصم وإثارة للعداوة والبغضاء.
وقد ذكر ابن أبي الحديد في مقدمة شرح النهج في علي بن أبي طالب
(عليه السلام): وأما سجاحة الأخلاق وبشر الوجه وطلاقة المحيا والتبسم، فهو
المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه (1).
وكان الأصل في هذا التعييب عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص.
وقد ظهر مما ذكرناه أنه لا يمكن الاستدلال على حرمة اللغو مطلقا
بوصية النبي (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر (2).
ثم إن رواية الكابلي عدت شرب الخمر واللعب بالقمار من جملة
الذنوب التي تهتك العصم، أما الأول فلأنه يجر إلى التعرض لاعراض
الناس بل نفوسهم، فإن شارب الخمر في حال سكره كالمجنون الذي
لا يبالي في أفعاله وحركاته، وأما اللعب بالقمار فلأنه يورث العداوة بين
الناس حيث تؤخذ به أموالهم بغير عوض واستحقاق، وقد أشير إلى

1 - شرح النهج 1: 25.
2 - يا أبا ذر وأن الرجل يتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها، فيهوي في جهنم ما بين
السماء والأرض (الأمالي للشيخ الطوسي 2: 150، عنه الوسائل 12: 281، الاختصاص: 226،
عنه المستدرك 9: 114، مكارم الأخلاق 2: 363، الرقم: 2661)، ضعيفة لأبي المفضل ورجاء
وابن ميمون.
651

كلا الأمرين في الآية (1).
المسألة (21)
مدح من لا يستحق المدح
قوله: الحادية والعشرون: مدح من لا يستحق المدح أو يستحق الذم.
أقول: حكى المصنف أن العلامة (2) عد مدح من لا يستحق المدح أو
يستحق الذم في عداد المكاسب المحرمة، ثم وجه كلامه بوجوه:
1 - حكم العقل بقبح ذلك.
2 - قوله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار (3).
3 - ما رواه الصدوق عن النبي (صلى الله عليه وآله): من عظم صاحب دنيا وأحبه
لطمع في دنياه سخط الله عليه، وكان في درجة مع قارون في التابوت
الأسفل من النار (4).
4 - ما في حديث المناهي، من قوله (صلى الله عليه وآله): من مدح سلطانا جائرا أو
تحفف أو تضعضع له طمعا فيه كان قرينه في النار (5).
ولكن الظاهر أن الوجوه المذكورة لا تدل على مقصود المصنف:
أما العقل، فإنه لا يحكم بقبح مدح من لا يستحق المدح بعنوانه الأولي

1 - إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة - الخ، المائدة: 93.
2 - التذكرة 1: 582، القواعد 1: 121، التحرير 1: 161.
3 - هود: 115.
4 - راجع عقاب الأعمال: 331 و 335 و 337، عنهم الوسائل 17: 181، مجهولة بموسى
ابن عمران النخعي النوفلي ومبشر وأبي عائشة ويزيد بن عمر وغيرهم.
5 - الفقيه 4: 5، عنه الوسائل 17: 183، مجهولة لشعيب بن واقد.
أقول: الحفف - بالحاء المهملة - الضيق وقلة المعيشة، والحفوف الاعتناء بالشئ ومدحه
التضعضع الخضوع.
652

ما لم ينطبق عليه عنوان آخر مما يستقل العقل بقبحها، كتقوية الظالم
وإهانة المظلوم ونحوهما.
وأما الآية فهي تدل على حرمة الركون إلى الظالم والميل إليه،
فلا ربط لها بالمقام، وسيأتي الاستدلال بها على حرمة معونة الظالمين.
وأما النبوي الذي رواه الصدوق، فإنه يدل على حرمة تعظيم صاحب
المال واجلاله طمعا في ماله، فهو بعيد عما نحن فيه.
وأما حديث المناهي، ففيه أولا: أنه ضعيف السند، وثانيا: أنه دال
على حرمة مدح السلطان الجائر وحرمة تعظيمه طمعا في ماله أو
تحصيلا لرضاه.
وعلى الجملة أن الوجوه التي ذكرها المصنف لا تدل على حرمة مدح
من لا يستحق المدح في نفسه، فإن النسبة بينه وبين العناوين المحرمة
المذكورة هي العموم من وجه، وعليه فلا وجه لجعل العنوان المذكور
من المكاسب المحرمة كما صنعه العلامة وتبعه غيره.
ثم إن مدح من لا يستحق المدح قد يكون بالجملة الخبرية، وقد
يكون بالجملة الانشائية، أما الأول فهو كذب محرم إلا إذا قامت قرينة
على إرادة المبالغة، وأما الثاني فلا محذور فيه ما لم ينطبق عليه شئ من
العناوين المحرمة المذكورة، أو كان المدح لمن وجبت البراءة منه
كالمبدع في الدين، وقد تقدم ذلك في مبحث الغيبة ومبحث حرمة سب
المؤمن.
لا يخفى أن حرمة مدح من لا يستحق المدح على وجه الاطلاق أو
فيما انطبق عليه عنوان محرم، إنما هي فيما إذا لم يلتجئ إلى المدح
لدفع خوف أو ضرر بدني أو مالي أو عرضي، وإلا فلا شبهة في الجواز،
ويدل عليه قولهم (عليهم السلام) في عدة روايات: إن شر الناس عند الله يوم
653

القيامة الذين يكرمون اتقاء شرهم (1)، وكذلك تدل عليه أخبار التقية فإنها
تدل على جوازها في كل ضرورة وخوف.
المسألة (22)
حرمة معونة الظالمين
قوله: الثانية والعشرون: معونة الظالمين في ظلمهم حرام بالأدلة الأربعة، وهو من
الكبائر.
أقول: ما هو حكم معونة الظالمين، وما هو حكم أعوان الظلمة، وما
هو حكم إعانتهم في غير جهة الظلم من الأمور السائغة كالبناية والنجارة
والخياطة ونحوها؟
أما معونة الظالمين في ظلمهم، فالظاهر أنها غير جائزة بلا خلاف بين
المسلمين قاطبة بل بين عقلاء العالم، بل التزم جمع كثير من الخاصة
والعامة (2) بحرمة الإعانة على مطلق الحرام وحرمة مقدماته.
ويدل على حرمته العقل، والاجماع المستند إلى الوجوه المذكورة
في المسألة، وقوله تعالى: ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم
النار (3)، فإن الركون المحرم هو الميل إليهم، فيدل على حرمة إعانتهم
بطريق الأولوية، أن المراد من الركون المحرم هو الدخول معهم في

1 - راجع أصول الكافي 2: 327 باب من يتقى شره في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام).
وفي سنن البيهقي: إن شر الناس منزلة يوم القيامة من ودعه أو تركه الناس اتقاء فحشه
(سنن البيهقي 10: 245).
2 - قد تقدم ذلك في البحث عن حكم الإعانة على الإثم، وفي سنن البيهقي: نهى عن
الإعانة على ظلم (سنن البيهقي 10: 234).
3 - هود: 115.
654

ظلمهم.
وأما الاستدلال على حرمتها بقوله تعالى: ولا تعاونوا على الإثم
والعدوان (1)، كما في المستند وغيره فقد تقدم جوابه في البحث عن
حكم الإعانة على الإثم، وقلنا إن التعاون غير الإعانة، فإن الأول من باب
الأفعال والثاني من باب التفاعل، فحرمة أحدهما لا تسري إلى الآخر.
وتدل على حرمة معونة الظالمين أيضا الروايات المستفيضة بل
المتواترة (2).
وأما دخول الانسان في أعوان الظلمة فلا شبهة أيضا في حرمته،
ويدل عليها جميع ما دل على حرمة معونة الظالمين في ظلمهم، وغير
ذلك من الأخبار الناهية عن الدخول في حزبهم وتسويد الاسم في
ديوانهم، وقد أشرنا إلى مصادرها في الهامش.

1 - المائدة: 2.
2 - عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمالهم فقال لي: يا أبا محمد لا، ولا مدة
بقلم، إن أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينه مثله (الكافي 5: 106، التهذيب
6: 331، عنهما الوسائل 17: 179)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
عن ابن بنت الوليد: من سود اسمه في ديوان ولد سابع - مقلوب عباس - حشره الله يوم
القيامة خنزيرا (التهذيب 6: 32، عنه الوسائل 17: 183)، مجهولة بابن بنت الوليد.
عن الكافي عن أبي حمزة عن السجاد (عليه السلام) قال: إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين
ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم وتباعدوا عن ساحتهم (الكافي 8: 14، الرقم: 2، عنه
الوسائل 17: 177)، صحيحة.
وغير ذلك من الروايات الكثيرة المذكورة في المصادر المتقدمة.
عن طلحة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: العالم بالظلم، والمعين له، والراضي به شركاء
ثلاثتهم (الكافي 2: 250، عنه الوسائل 17: 178)، ضعيفة بطلحة ومحمد بن سنان.
655

حرمة إعانة الظالمين في غير جهة ظلمهم:
وأما إعانة الظالمين في غير جهة ظلمهم، بالأمور السائغة كالبناية
والخبازة ونحوهما فلا بأس بها، سواء أكان ذلك مع الأجرة أم بدونها،
بشرط أن لا يعد بذلك من أعوان الظلمة عرفا، وإلا كانت محرمة كما
عرفت.
وقد يستدل على حرمتها بروايات:
منها: رواية محمد بن عذافر، عن أبيه (1) الظاهرة في حرمة المعاملة مع
الظلمة.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أن قوله (عليه السلام): يا عذافر نبئت أنك تعامل أبا أيوب والربيع فما
حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة، ظاهر في أن عذافر كان يدأب
على المعاملة مع الظلمة بحيث ألحقه بأعوانهم، وعليه فمورد الرواية
أجنبي عن المقام.
ومنها: رواية ابن أبي يعفور (2) الظاهرة في ردع السائل عن إعانة
الظالمين في الجهات السائغة.
وفيه: أن الظاهر من قول السائل: ربما أصاب الرجل منا الضيق
والشدة فيدعي إلى البناء - الخ، إن الرجل منهم تصيبه الشدة فيلتجئ
إلى الظالمين ويتدرج به الأمر حتى يكون من أعوان الظلمة، بحيث يكون
ارتزاقه من قبلهم، ولذلك طبق الإمام (عليه السلام) عليهم، قوله: إن أعوان
الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد.

1 - الكافي 5: 105، عنه الوسائل 17: 178)، ضعيفة بسهل.
2 - الكافي 5: 107، التهذيب 6: 331، عنهما الوسائل 17: 179)، مجهولة ببشير.
656

فهذه الرواية أيضا خارجة عن مورد الكلام، على أنها ضعيفة السند،
ومع الاغضاء عن ذلك فقوله (عليه السلام): ما أحب أني عقدت لهم عقدة - الخ،
لو لم يكن ظاهرا في الكراهة فلا ظهور له في الحرمة، فتكون الرواية
مجملة.
ومنها: رواية العياشي (1) الدالة على أن السعي في حوائج الظالمين
عديل الكفر، والنظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحق بها النار.
وفيه: أولا: أنها ضعيفة السند.
وثانيا: أن الظاهر من إضافة الحوائج إلى الظالمين ولو بمناسبة الحكم
والموضوع كون السعي في حوائجهم المتعلقة بالظلم.
ومن هنا ظهر الجواب عن رواية السكوني، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة ومن لاق لهم دوات، أو
ربط كيسا، أو مد لهم مدة فاحشروهم معهم (2).
وكذلك ظهر الجواب عن رواية أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام)
قال: إياكم وصحبة العاصين ومعونة الظالمين (3)، وقد تقدمت هذه
الرواية في الحاشية.
ومنها: رواية الشيخ عن ابن أبي عمير، عن يونس بن يعقوب قال: قال
لي أبو عبد الله (عليه السلام): لا تعنهم علي بناء مسجد (4).
وفيه: أن المنع عن إعانتهم علي بناء المسجد لهم نحو من تعظيم

1 - تفسير العياشي 1: 238، عنه الوسائل 17: 191، مرسلة.
2 - عقاب الأعمال: 309، عنه الوسائل 17: 180)، موثقة بالسكوني.
3 - الكافي 8: 14، عنه الوسائل 17: 177.
4 - التهذيب 6: 338، عنه الوسائل 17: 180، طريقه إلى ابن أبي عمير ثلاث طرق حسنات
في المشيخة والفهرست.
657

شوكتهم، فيكون كمسجد الضرار الذي ذكره الله في الكتاب (1)، وتبعد
الرواية عما نحن بصدده.
ومنها: رواية صفوان الظاهرة في ردعه عن اكراء الجمال من هارون
الرشيد (2).
وفيه: أولا أنها ضعيفة السند.
وثانيا: أن الرواية أدل على الجواز، فإن الإمام (عليه السلام) إنما ردعه عن محبة
بقائهم، ويدل على هذا من الرواية قوله (عليه السلام): أتحب بقاءهم حتى
يخرج كراؤك، قلت: نعم، قال: من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان
منهم كان وروده إلى النار.
ومع الاغضاء عن جميع ذلك وتسليم دلالة الروايات المذكورة على
الحرمة، فالسيرة القطعية قائمة على جواز إعانة الظالمين بالأمور المباحة
في غير جهة ظلمهم، فتكون هذه السيرة قرينة لحمل الروايات على غير
هذه الصورة.
والحاصل أن المحرم من العمل للظلمة على قسمين: الأول: إعانتهم
على الظلم، والثاني: صيرورة الانسان من أعوانهم بحيث يعد في العرف
من المنسوبين إليهم، بأن يقال: هذا كاتب الظالم، وهذا معماره، وذاك
خزانه، وقد عرفت حرمة كلا القسمين بالأدلة المتقدمة، وأما غير ذلك
فلا دليل على حرمته.
ثم إن المراد من الظالم المبحوث عن حكم إعانته ليس هو مطلق
العاصي الظالم لنفسه، بل المراد به هو الظالم للغير، كما هو ظاهر جملة

1 - قوله تعالى: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا، التوبة: 108.
2 - رجال الكشي 2: 740، الرقم: 828، عنه الوسائل 17: 182، مجهولة بمحمد بن
إسماعيل الرازي.
658

من الروايات التي تقدم بعضها، بل هو صريح جملة أخرى منها، وعليه
فمورد الحرمة يختص بالثاني، على أنه قد تقدم في البحث عن حكم
الإعانة على الإثم إنه لا دليل على حرمتها على وجه الاطلاق ما لم يكن
في البين تسبيب، وقلنا في المبحث المذكور إن الإعانة على الظلم حرام
للأدلة الخاصة، فلا ربط لها بمطلق الإعانة على الإثم.
المسألة (23)
حرمة النجش
قوله: الثالثة والعشرون: النجش - بالنون المفتوحة والجيم الساكنة أو المفتوحة -
حرام.
أقول: الظاهر أنه لا خلاف بين الشيعة والسنة (1) في حرمة النجش في
الجملة، وقد فسروه بوجهين، كما يظهر من أهل اللغة (2):

1 - في فقه المذاهب: من البيوع المنهي عنها نهيا لا يستلزم بطلانها بيع النجش، وهو
حرام، نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) (فقه المذاهب 2: 273).
وفي شرح فتح القدير: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن النجش (شرح فتح القدير 5: 239).
وفي سنن البيهقي في جملة من الأحاديث: نهى عن النجش و التناجش (سنن البيهقي 5:
343 و 344).
2 - في تاج العروس: النجش أن تواطئ رجلا إذا أراد بيعا أن تمدحه، أو هو أن يريد
الانسان أن يبيع بياعة فتساومه فيها بثمن كثير لينظر إليك ناظر فيقع فيها، وقال أبو عبيد:
النجش في البيع أن يزيد الرجل ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها ولكن ليسمعه غيره فيزيد
بزيادته، وقال ابن شميل: النجش أن تمدح سلعة غيرك ليبيعها، أو تذمها لئلا تنفق عنه، وقال
الجوهري: النجش أن تزايد في المبيع ليقع غيرك وليس من حاجتك، وقال إبراهيم الحربي:
النجش أن تزيد في ثمن مبيع أو تمدحه فيرى ذلك غيرك فيغتر لك، والأصل فيه إثارة الصيد
من مكان إلى مكان أو البحث عن الشئ.
659

1 - أن يزيد الرجل في البيع ثمن السلعة وهو لا يريد شراءها، ولكن
ليسمعه غيره فيزيد بزيادته، وهذا هو المروي عن الأكثر (1).
2 - أن تمدح سلعة غيرك وتروجها ليبيعها أو تذمها لئلا تنفق عنه (2).
وظاهر الوجهين هو تحقق النجش بهما، سواء أكان ذلك عن مواطاة
مع البائع أم لا.
أما الوجه الأول فإن كان غرض الناجش غش المشتري وتغريره في
المعاملة، فإن مقتضى القاعدة حينئذ هو حرمة الغش مع تحقق المعاملة
في الخارج، فقد عرفت في البحث عن حرمة الغش أن غش المؤمن في
المعاملة حرام لاستفاضة الروايات عليه، وإن لم تقع المعاملة في الخارج
أو وقعت فيه بغير غش وتغرير فلا دليل على حرمته، إلا من حيث
التجري.
وقد يقال بحرمة النجش بهذا المعنى لكونه اضرارا للمشتري، وهو
حرام.
وفيه أولا: أن المشتري إنما أقدم على الضرر بإرادته واختياره، وإن
كان الدافع له على الاقدام هو الناجش.
وثانيا: أن الدليل أخص من المدعي، فإن الناجش إنما يوقع المشتري
في الضرر إذا كان الشراء بأزيد من القيمة السوقية، وأما إذا وقعت
المعاملة على السلعة بأقل من القيمة السوقية أو بما يساويها، فإن النجش
لا يوجب اضرارا للمشتري، إلا أن يمنع من صدق مفهوم النجش على
ذلك، كما يظهر من غير واحد من أهل اللغة، كالمصباح وتاج العروس

1 - أنظر جامع المقاصد 4: 39، مجمع الفائدة 8: 139، جواهر الكلام 22: 476.
2 - حكاه كاشف الغطاء في شرح القواعد (مخطوط): 31.
660

وغيرهما، وقد تقدمت كلماتهم في الهامش.
وقد يستدل (1) على حرمة النجش في هذه الصورة بقول النبي (صلى الله عليه وآله):
لعن الناجش والمنجوش له (2)، وبقوله (صلى الله عليه وآله): ولا تناجشوا (3).
وفيه أولا: أن هذين النبويين ضعيفا السند، ودعوى انجبارهما
بالاجماع المنقول كما في المتن دعوى غير صحيحة، فإنه إن كان حجة
وجب الأخذ به في نفسه وإلا فإن ضم غير الحجة إلى مثله لا يفيد
الحجية.
وثانيا: أنهما مختصان بصورة مواطاة الناجش مع البائع على النجش،
كما هو الظاهر من لعن المنجوش له في النبوي الأول، والنهي عن
التناجش في النبوي الثاني، وكلامنا أعم من ذلك.
وأما الوجه الثاني، أعني مدح السلعة لترغيب الناس فيها، فإن كان
المدح بما ليس فيها من الأوصاف كان حراما من جهة الكذب، وإن كان
مدحه للسلعة بما فيها من الأوصاف ولكن بالغ في مدحها مع قيام القرينة
على إرادة المبالغة فلا بأس به، فقد ذكرنا في مبحث حرمة الكذب أن
المبالغة جائزة في مقام المحاورة والمحادثة ما لم تجر إلى الكذب.
وأما الروايتان المتقدمتان، فمضافا إلى ضعف السند فيهما كما
عرفت، أنهما راجعتان إلى الصورة الأول، إذ لا وجه لحرمة مدح السلعة
إلا إذا انطبق عليه عنوان محرم من الكذب أو الغش أو غيرهما من العناوين

1 - كما في جامع المقاصد 4: 39، منتهى المطلب 2: 1004.
2 - الكافي 17: 458، عنه الوسائل 17: 458، وقد تقدم في البحث عن وصل شعر المرأة
بشعر غيرها.
3 - معاني الأخبار: 284، عنه الوسائل 17: 459، مجهولة لعلي بن عبد العزيز وغيره.
دعائم الاسلام 2: 30، عنه المستدرك 13: 286، مرسل.
661

المحرمة، فيكون محرما من تلك الجهة لا من جهة كونه مدحا للسلعة (1).
والحاصل أنه لا دليل على حرمة النجش في نفسه إلا إذا انطبق عليه
عنوان آخر محرم، فإنه يكون حراما من هذه الجهة.
المسألة (24)
حرمة النميمة
قوله: الرابعة والعشرون: النميمة (2) محرمة بالأدلة الأربعة.
أقول: لا خلاف بين المسلمين في حرمتها، بل هي من ضروريات
الاسلام، وهي من الكبائر المهلكة، وقد تواترت الروايات من طرق
الشيعة (3) ومن طرق العامة (4) على حرمتها، وعلى كونها من الكبائر، بل
يدل على حرمتها جميع ما دل على حرمة الغيبة، وقد استقل العقل
بحرمتها لكونها قبيحة في نظره.
وأما الاجماع فهو بقسميه وإن كان منعقدا على حرمتها، ولكن
الظاهر أن مدرك المجمعين هو الوجوه المذكورة في المسألة، وليس
اجماعا تعبديا، وقد تقدم نظيره مرارا.

1 - حكي الكراهة عن بعض، حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 106، عن الشرايع
2: 21، المختصر النافع 1: 120، الإرشاد 1: 359، التنقيح 2: 40.
2 - فسروا النميمة في اللغة بأنها نقل الحديث من قوم إلى قوم على وجهة الافساد والشر،
بأن يقول: تكلم فلان فيك بكذا، وهي مأخوذة من نم الحديث بمعنى السعي لايقاع الفتنة
وإثارة الفساد.
3 - في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا
أنبئكم بشراركم، قالوا: بلي يا رسول الله، قال: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة
(الكافي 2: 274، الزهد: 6، الفقيه 4: 271، عنهم الوسائل 12: 306 2.
4 - راجع سنن البيهقي 10: 246.
662

وقد يستدل على حرمتها بجملة من الآيات:
منها: قوله تعالى: ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في
الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار (1)، بدعوى أن النمام قاطع لما
أمر الله بصلته ويفسد في الأرض فسادا كبيرا فتلحق له اللعنة وسوء
الدار.
وفيه: أن الظاهر من الآية ولو بمناسبة الحكم والموضوع هو توجه
الذم إلى الذين أمروا بالصلة والتوادد، فأعرضوا عن ذلك.
ومن هنا قيل (2): إن معنى الآية أنهم أمروا بصلة النبي والمؤمنين
فقطعوهم، وقيل: أمروا بصلة الرحم والقرابة فقطعوها، وقيل: أمروا
بالايمان بجميع الأنبياء والكتب ففرقوا وقطعوا ذلك، وقيل: أمروا
أن يصلوا القول بالعمل ففرقوا بينهما، وقيل: معنى الآية أنهم أمروا
بوصل كل من أمر الله بصلته من أوليائه والقطع والبراءة من أعدائه، وهو
الأقوى لأنه أعم، ويدخل فيه جميع المعاني.
وعلى كل حال فالنمام لم يؤمر بالقاء الصلة والتوادد بين الناس لكي
يحرم له قطع ذلك فالآية غربية عنه.
وأما الاستدلال على الحرمة (3) بقوله تعالى: ويفسدون في الأرض -
الخ، فإنه وإن كان صحيحا في الجملة، كما إذا كانت النميمة بين العشائر
والسلاطين، فإنها كثيرا ما تترتب عليها مفسدة مهمة، ولكن الاستدلال
بها أخص من المدعي، إذ لا تكون النميمة فسادا في الأرض في جميع
الموارد وإن أوجبت العداوة والبغضاء غالبا.

1 - الرعد: 25.
2 - راجع مجمع البيان ط صيدا 1: 70، سورة البقرة: 187.
3 - كما عن كاشف الغطاء في شرح القواعد: 20 (مخطوط)، أنظر الجواهر 22: 73.
663

ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بقوله تعالى: والفتنة أشد من
القتل (1)، فإن النميمة قد تجر إلى قتل النفوس المحترمة وهتك
الأعراض ونهب الأموال، ولكنها ليست كذلك في جميع الأحوال، بل
المراد من الفتنة هو الشرك كما ذكره الطبرسي (2)، وإنما سمي الشرك فتنة
لأنه يؤدي إلى الهلاك، كما أن الفتنة تؤدي إلى الهلاك.
ثم إن النسبة بين النميمة والغيبة هي العموم من وجه، ويشتد العقاب
في مورد الاجتماع.
وقد تزاحم حرمة النميمة عنوان آخر مهم في نظر الشارع فتجري
فيها قواعد التزاحم المعروفة، فقد تصبح جائزة إذا كان المزاحم أهم
منها (3)، وقد يكون واجبة إذا كانت أهميته شديدة (4)، ويتضح ذلك
بملاحظة ما تقدم (5).
المسألة (25)
النياحة
قوله: الخامسة والعشرون: النوح بالباطل.
أقول: اختلفت كلمات الأصحاب في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

1 - البقرة: 187.
2 - راجع مجمع البيان 1: 286.
3 - راجع المحجة البيضاء 5: 277.
4 - كما في ايقاع الفتنة بين المشركين، كما عن صاحب الجواهر في الجواهر 22: 73،
والسيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 68.
5 - تقدم في نصح المستشير من مستثنيات الغيبة.
664

1 - القول بحرمة النوح مطلقا، وقد ذهب إليه جمع من الأصحاب (1).
2 - القول بالكراهة مطلقا وهو المحكي عن مفتاح الكرامة.
3 - القول بالتفصيل بين النوح بالباطل فيحرم والنوح بالحق فيجوز (2)،
وقد اختاره المصنف.
ثم إنه اختلف أصحاب القول بالتفصيل، فذهب بعضهم إلى جواز
النوح بالحق من غير كراهة، وذهب بعضهم إلى جواز ذلك على كراهة،
وذهب بعضهم إلى أن النوح بالحق إذا اشترطت فيه الأجرة كان مكروها
وإلا فلا بأس به.
والتحقيق أن الأخبار الواردة في مسألة النياحة على طوائف شتى:
1 - ما دل (3) على المنع من النياحة مطلقا، سواء كانت بالباطل أم بالحق.
2 - ما دل (4) على جوازها وجواز أخذ الأجرة عليها كذلك مطلقا.

1 - المبسوط 1: 189، الوسيلة: 69.
2 - المقنعة: 588، النهاية: 365، المراسم: 170، السرائر 2: 222، شرايع الاسلام 2: 10،
الإرشاد 1: 357، قواعد الأحكام: 121، الدروس 3: 162.
3 - عن الزعفراني عن أبي عبد الله (عليه السلام): ومن أصيب بمصيبته فجاء عند تلك المصيبة
بنائحة فقد كفرها (الكافي 6: 432، عنه الوسائل 17: 127)، ضعيفة بسلمة بن الخطاب.
وفي رواية الخصال: أن النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من
قطران (الخصال: 226، عنه الوسائل 17: 128)، مجهولة لسليمان بن جعفر البصري.
وفي حديث المناهي: نهى عن النياحة (الفقيه 4: 3، عنه الوسائل 1: 128)، مجهولة لشعيب
ابن واقد.
وفي المستدرك: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) النائحة (لب اللباب، مخطوط، عنه المستدرك
13: 94)، مرسلة.
وفي سنن البيهقي 10: 246 ما يدل على كفر النياحة على الميت.
665

3 - ما دل (1) على جواز كسب النائحة إذا قالت صدقا وعدم جوازه إذا
قالت كذبا.
4 - ما يدل (2) بظاهره على الكراهة، وهي روايتان تضمنت إحداهما أن
السائل سأل عن النياحة، والأخرى عن كسب النائحة، فكرههما الإمام
(عليه السلام)، على أنهما غير ظاهرتين في الكراهة المصطلحة، فكثيرا ما يراد
بالكراهة في الأخبار التحريم، وحينئذ فتكون هاتان الروايتان من الطائفة
الأولى الدالة على المنع مطلقا.
ومقتضى الجمع بينها حمل الأخبار المانعة على النوح بالباطل،
وحمل الأخبار المجوزة وما هو ظاهر في الكراهة على النوح بالصدق
وعليه، فالنتيجة هي جواز النياحة بالصدق على كراهة محتملة.
وبتقريب آخر: أن قوله (عليه السلام): لا بأس بكسب النائحة إذا قالت
صدقا، وما في معناه يدل بالالتزام على جواز نفس النوح بالحق، فيقيد
به اطلاق الروايات المانعة، وبعد تقييدها تنقلب نسبتها إلى الروايات

1 - كصحيحة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي
من مالي كذا وكذا للنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيام منى (الكافي 5: 117، التهذيب
6: 358، عنهما الوسائل 17: 125).
وكصحيحة الثمالي (الكافي 5: 117، عنه الوسائل 17: 125).
وفي جملة من الروايات: لا بأس بأجر النائحة (الفقيه 3: 98، التهذيب 6: 359، الإستبصار
3: 60، عنهم الوسائل 17: 127).
2 - عن الفقيه قال: قال (عليه السلام): لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقا (الفقيه 3: 98، عنه
الوسائل 17: 128)، مرسل.
3 - عن سماعة قال: سألته عن كسب المغنية والنائحة فكرهه (التهذيب 6: 359،
الإستبصار 3: 60، عنهما الوسائل 17: 128)، ضعيفة بعثمان بن عيسى.
عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: سألته عن النوح على الميت أيصلح؟ قال: يكره
(مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 156، قرب الإسناد: 221، عنهما الوسائل 17: 129) صحيحة.
666

الدالة باطلاقها على الجواز، فتكون مخصصة لها، فيكون النوح بالباطل
حراما والنوح بالحق جائزا على الكراهة المحتملة، هذا ما يرجع إلى
حكم النياحة.
وقد يقال بأنها حينئذ معارضة بما دل على حرمة الكذب، وحرمة
الغناء، وحرمة اسماع المرأة صوتها للأجانب، وحرمة النوح في آلات
اللهو، والمعارضة بينها بنحو العموم من وجه. ولكنها دعوى جزافية،
فإن هذه الروايات تدل على جواز النوح بعنوانه الأولي مع قطع النظر عن
انطباق العناوين المحرمة عليه، فلا تكون معارضة لها بوجه.
وأما كسب النائحة، فما دل على جوازه مطلقا مقيد بمفهوم ما دل
على جوازه إذا كان النياح بالحق، ولكن هذه الرواية الظاهرة في تقييد ما
دل على جواز كسب النائحة مطلقا ضعيفة السند، نعم يكفي في التقييد ما
تقدم مرارا من أن حرمة العمل بنفسه يكفي في حرمة الكسب مع قطع
النظر عن الأدلة الخارجية.
وقد يقال بتقييد المطلقات بقوله (عليه السلام) في رواية حنان بن سدير:
لا تشارط وتقبل ما أعطيت (1)، وعليه فالنتيجة أن كسب النائحة جائز
إذا قالت حقا ولم تشارط.
-
1 - الكافي 5: 117، التهذيب 6: 358، الإستبصار 3: 60، قرب الإسناد: 58، عنهم الوسائل
17: 126، موثقة بحنان بن سدير.
667

وفيه: أنه قد تقدم في البحث عن كسب الماشطة أن النهي عن الاشتراط
في أمثال هذه الصنائع والأمر بقبول ما يعطي صاحبها إنما هو ارشاد إلى
أن الاشتراط فيها لا يناسب شؤون نوع الناس، وأن المبذول لهؤلاء لا
يقل عن أجرة المثل، وهذا لا ينافي جواز رد المبذول إذا كان أقل من
أجرة المثل، وعلى هذا فلا دلالة فيها على التقييد.
هذا كله مع الاغضاء عن أسانيد الروايات وصونها عن الطرح، وإلا فإن
جميعها ضعيف السند، غير ما هو ظاهر في جواز النياح على وجه
الاطلاق، وما هو ظاهر في الكراهة، وما هو ظاهر في جواز كسب
النائحة إذا لم تشارط كرواية حنان المتقدمة، وإذن فتبقى هذه الروايات
سليمة عن المعارض.
المسألة (26)
حرمة الولاية من قبل الجائر
قوله: السادسة والعشرون: الولاية من قبل الجائر، وهي صيرورته واليا علي قوم
منصوبا من قبله محرمة.
أقول: الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في حرمة الولاية من قبل
الجائر في الجملة، وتدل عليه الأخبار المستفيضة بل المتواترة (1)، وقد
تقدم بعضها في البحث عن حرمة معونة الظالمين، كقوله (عليه السلام): من سود
اسمه في ديوان ولد سابع - مقلوب عباس - حشره الله يوم القيامة
خنزيرا، وغير ذلك من الروايات.
ويدل على الحرمة أيضا ما في رواية تحف العقول، من قوله (عليه السلام):

1 - راجع الكافي 5: 105 - 109، التهذيب 6: 330 - 332، الوسائل 17: 187 - 192.
668

إن في ولاية الوالي الجائر دروس الحق كله، واحياء الباطل كله،
واظهار الظلم والجور والفساد، وابطال الكتب وقتل الأنبياء، وهدم
المساجد وتبديل سنة الله وشرايعه، فلذلك حرم العمل معهم
ومعونتهم والكسب معهم إلا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم
والميتة.
وهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند، كما تقدم الكلام عليها في أول
الكتاب، إلا أن تلك التعليلات المذكورة فيها تعليلات صحيحة،
فلا بأس بالتمسك بها.
ثم إن ظاهر جملة من الروايات كون الولاية من قبل الجائر بنفسها
محرمة، وهي أخذ المنصب منه وتسويد الاسم في ديوانه وإن لم ينضم
إليها القيام بمعصية عملية أخرى، من الظلم وقتل النفوس المحترمة،
وإصابة أموال الناس وأعراضهم، وغيرها من شؤون الولاية المحرمة.
فأي وال من ولاة الجور ارتكب شيئا من تلك العناوين المحرمة يعاقب
بعقابين: أحدهما من جهة الولاية المحرمة، وثانيهما من جهة ما ارتكبه
من المعاصي الخارجية.
وعليه فالنسبة بين عنوان الولاية من قبل الجائر وبين تحقق هذه
الأعمال المحرمة هي العموم من وجه، فقد يكون أحد واليا من قبل
الجائر ولكنه لا يعمل شيئا من الأعمال المحرمة، وإن كانت الولاية من
الجائر لا تنفك عن المعصية غالبا، وقد يرتكب غير الوالي شيئا من هذه
المظالم الراجعة إلى شؤون الولاة تزلفا إليهم وطلبا للمنزلة عندهم، وقد
يجتمعان، بأن يتصدى الوالي نفسه لأخذ الأموال وقتل النفوس
وارتكاب المظالم.
669

ما استثني من حرمة الولاية:
1 - أخذها للقيام بمصالح العباد:
قوله: ثم إنه يسوغ الولاية المذكورة أمران: أحدهما القيام بمصالح العباد بلا خلاف
- الخ.
أقول: قد استثني من الولاية المحرمة أمران: الأول أن يتولاها للقيام
بمصالح العباد، الثاني أن يتولاها مكرها على قبولها والعمل بأعمالها.
أما الأمر الأول، فقد استدل المصنف عليه بوجوه:
1 - أن الولاية إن كانت محرمة لذاتها كان ارتكابها لأجل المصالح ودفع
المفاسد التي هي أهم من مفسدة انسلاك الشخص في أعوان الظلمة
بحسب الظاهر وإن كانت لاستلزامها الظلم على الغير، فالمفروض عدم
تحققه هنا.
وفيه: إن كان المراد من المصالح حفظ النفوس والأعراض ونحوهما،
فالمدعى أعم من ذلك، وإن كان المراد منها أن القيام بأمور المسلمين
والاقدام على قضاء حوائجهم وبذل الجهد في كشف كرباتهم من الأمور
المستحبة والجهات المرغوب بها في نظر الشارع المقدس، فلا شبهة أن
مجرد ذلك لا يقاوم الجهة المحرمة، فإن المفروض أن الولاية من قبل
الجائر حرام في نفسها، وكيف ترتفع حرمتها لعروض بعض العناوين
المستحبة عليها.
على أنه (رحمه الله) قد اعترف آنفا بأن الولاية عن الجائر لا تنفك عن
المعصية، وعليه فلا يجوز الاقدام على المعصية لرعاية الأمور
المستحبة، وقد اعترف أيضا في البحث عن جواز الغناء في قراءة القرآن
بأن أدلة الأحكام الالزامية لا تزاحم بأدلة الأحكام الترخيصية، وقد
أوضحنا المراد في المبحث المذكور.
670

2 - الاجماع.
وفيه: أنه وإن كان موجودا في المقام ولكنه ليس بتعبدي.
3 - وهو العمدة، الأخبار المتظافرة (1) الظاهرة في جواز الولاية من
الجائر للوصول إلى قضاء حوائج المؤمنين، وبعضها وإن كان ضعيف
السند ولكن في المعتبر منها غنى وكفاية.
وبهذه الأخبار نقيد المطلقات الظاهرة في حرمة الولاية من قبل الجائر
على وجه الاطلاق.
لا يقال: إن الولاية عن الجائر محرمة لذاتها كالظلم ونحوه، فلا تقبل
التخصيص بوجه ولا ترفع اليد عنها إلا في موارد الضرورة.
فإنه يقال: إن غاية ما يستفاد من الأدلة هي كون الولاية بنفسها محرمة،
وأما الحرمة الذاتية فلم يدل عليها دليل من العقل أو النقل، وإن ذهب إليه
العلامة الطباطبائي في محكي الجواهر (2).
وقد يستدل (3) على جواز الولاية عن الجائر في الجملة بقوله تعالى
حاكيا عن يوسف (عليه السلام): اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ
عليم (4).

1 - عن الفقيه عن علي بن يقطين قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): إن لله مع السلطان أولياء
يدفع بهم عن أوليائه (الفقيه 3: 108، الكافي 5: 112، عنهما الوسائل 17: 192)، صحيحة.
وفي خبر آخر: أولئك عتقاء الله من النار (الفقيه 3: 108، عنه الوسائل 17: 192)، وغير
ذلك من الروايات الكثيرة.
راجع الكافي 5: 109 - 111، التهذيب 3: 333 - 335، الفقيه 3: 108، الوسائل 17: 192 -
199.
2 - الجواهر 22: 159.
3 - كما عن الراوندي في فقه القرآن 2: 24.
4 - يوسف: 55.
671

وفيه أولا: أنه لم يظهر لنا وجه الاستدلال بهذه الآية على المطلوب.
وثانيا: أن يوسف (عليه السلام) كان مستحقا للسلطنة وإنما طلب منه حقه
فلا يكون واليا من قبل الجائر.
أقسام الولاية من قبل الجائر:
إذا جازت الولاية عن الجائر فهل تتصف بالكراهة والرجحان أم هي
مباحة؟
فنقول: قد عرفت أنه لا اشكال في جواز الولاية عن الجائر إذا كان
الغرض منه الوصول إلى قضاء حوائج المؤمنين، فشأنها حينئذ شأن
الكذب للاصلاح على ما تقدم الكلام عليه، وإنما الكلام في اتصافها
بالرجحان تارة وبالمرجوحية أخرى، الذي ظهر لنا من الأخبار أن الولاية
الجائزة قد تكون مباحة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون مستحبة، وقد
تكون واجبة.
أما المباح فهو ما يظهر من بعض الروايات (1) المسوغة للولاية عن الجائر
في بعض الأحوال كما ذكره المصنف.
وأما المكروه فيستفاد من رواية أبي نصر (2) الدالة على أن الوالي عن

1 - عن الحلبي قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن رجل مسلم وهو في ديوان هؤلاء وهو
يحب آل محمد (عليهم السلام) ويخرج مع هؤلاء فيقتل تحت رايتهم، قال: يبعث الله على نيته
(التهذيب 6: 338، عنه الوسائل 17: 201)، صحيحة.
وفي غير واحد من الروايات ما يدل على إباحة الولاية عن الجائر مع المواساة والاحسان
إلى الإخوان.
2 - عن أبي نصر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما من جبار إلا ومعه مؤمن
يدفع الله به عن المؤمنين، وهو أقلهم حظا في الآخرة، يعني أقل المؤمنين حظا لصحبة الجبار
(الكافي 5: 111، التهذيب 6: 336، عنهما الوسائل 17: 186)، مجهولة بمهران بن محمد بن أبي
نصر.
672

الجائر الذي يدفع الله به عن المؤمنين أقل حظا منهم يوم القيامة، فإن
الظاهر منها أن الولاية الجائزة عن الجائر مكروهة مطلقا.
وأما المستحبة، فتدل عليه جملة من الروايات، إذ الظاهر من رواية
محمد بن إسماعيل (1) وغيرها أن الولاية الجائزة عن الجائر مستحبة على
وجه الاطلاق، فيقع التنافي بينها وبين ما تقدم من دليل الكراهة.
وجمعهما المصنف (رحمه الله) بحمل رواية أبي نصر على من تولى لهم
لنظام معاشه قاصدا للاحسان في خلال ذلك إلى المؤمنين ودفع الضرر
عنهم، وحمل ما هو ظاهر في الاستحباب على من لم يقصد بدخوله إلا
الاحسان إلى المؤمنين، إلا أنه لم يذكر وجهه.
والتحقيق أن رواية أبي نصر ظاهرة في مرجوحية الولاية الجائزة
مطلقا، سواء كانت لنظام المعاش مع قصد الاحسان إلى المؤمنين أم كانت
لخصوص اصلاح شؤونهم، ورواية محمد بن إسماعيل ظاهرة في
محبوبية الولاية عن الجائر إذا كانت لأجل ادخال السرور على المؤمنين
من الشيعة.

1 - في رجال النجاشي حكي بعض أصحابنا عن ابن الوليد قال: وفي رواية محمد بن
إسماعيل بن بزيع قال أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نور الله له
البرهان ومكن له في البلاد ليدفع بهم عن أوليائه، ويصلح الله به أمور المسلمين إليهم يلجأ
المؤمن من الضرر وإليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، وبهم يؤمن الله روعة المؤمن في دار
الظلمة، أولئك المؤمنون حقا، أولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيتهم يوم القيامة،
ويزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الدرية لأهل الأرض، أولئك من نورهم يوم
القيامة تضئ منهم القيامة، خلقوا والله للجنة، وخلقت الجنة لهم - الحديث (رجال النجاشي
: 331، ذيل ترجمة محمد بن إسماعيل بن بزيع، الرقم: 893، مرسل.
673

ويدل على ذلك من الرواية قوله (عليه السلام): فهنيئا لهم ما على أحدكم أن
لو شاء لنال هذا كله، قال: قلت: بماذا جعلني الله فداك، قال: تكون
معهم فتسرنا بادخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكن معهم يا
محمد.
وعليه فتقيد هذه الرواية رواية أبي نصر، وحينئذ فتختص الكراهة
بما إذا قصد بالولاية عن الجائر حفظ معاشه وكان قصد الاحسان إلى
الشيعة ضمنا في خلال ذلك، وإذا فتنقلب النسبة وتصبح رواية أبي نصر
مقيدة لما هو ظاهر في رجحان الولاية الجائزة، سواء كانت لحفظ
المعاش أم لدفع الضرر عن المؤمنين من الشيعة، كروايتي المفضل (1)
وهشام بن سالم (2).
وتكون النتيجة أن الولاية من قبل الجائر إن كانت لحفظ المعاش مع
قصد الاحسان إلى المؤمنين فهي مكروهة، وإن كانت للاحسان إليهم
فقط فهي مستحبة هذا.
ولكن رواية أبي نصر لضعف سندها قاصرة عن اثبات الكراهة إلا على
القول بشمول قاعدة التسامح لأدلة الكراهة، وأما روايتا المفضل وهشام
فإنهما وإن كانتا ضعيفتي السند إلا أنهما لا تقصران عن اثبات الاستحباب
على وجه الاطلاق، بناء على قاعدة التسامح في أدلة السنن المعروفة.

1 - وعن المفضل قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما من سلطان إلا ومعه من يدفع الله به عن
المؤمنين، أولئك أوفر حظا في الآخرة (المجموع الرائق: 176، عنه المستدرك 13: 136)،
مرسل.
2 - في المستدرك عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن لله مع ولاة الجور
أولياء يدفع بهم عن أوليائه أولئك هم المؤمنون حقا (المجموع الرائق: 176، عنه المستدرك
13: 136)، مرسل.
674

وقد ظهر من مطاوي ما ذكرناه ما في كلام المحقق الإيرواني (1)، حيث
حمل الروايات الدالة على أن في أبواب السلاطين والجائرين من يدفع
الله بهم عن المؤمنين على غير الولاية، من وجوه البلد وأعيانه الذين
يختلفون إليه لأجل قضاء حوائج الناس.
وأعجب من ذلك دعواه أن العمال في الغالب لا يستطيعون التخطي
عما نصبوا لأجله وفوض إليهم من شؤون الولاية.
ووجه العجب أنه لا شبهة في تمكنهم من الشفاعات واقتدارهم على
المسامحة في المجازات واطلاعهم على طريق الاغماض عن
الخطيئات، ولا سيما من كان من ذوي المناصب العالية.
وأما الواجب من الولاية فهو على ما ذكره المصنف ما يتوقف عليه
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبان، فإن ما لا يتم الواجب إلا به
واجب مع القدرة، ثم استظهر من كلمات جماعة عدم الوجوب في هذه
الصورة أيضا (2)، بل في الجواهر (3) أنه لم يحك عن أحد التعبير بالوجوب إلا
عن الحلي في سرائره (4).
والذي يهمنا في المقام هو بيان مدرك الحكم بالوجوب، والكلام يقع
فيه تارة من حيث القواعد وأخرى من حيث الروايات.
أما الناحية الأولى، ففي الجواهر: يمكن أن يقال ولو بمعونة كلام
الأصحاب بناء على حرمة الولاية في نفسها، أنه تعارض ما دل على الأمر

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 46.
2 - النهاية: 356، الشرايع 2: 12، المسالك 3: 138، المناهل: 316.
3 - جواهر الكلام 22: 164.
4 - السرائر 2: 202.
675

بالمعروف وما دل على حرمة الولاية من الجائر، ولو من وجه، فيجمع
بينهما بالتخيير المقتضي للجواز، رفعا لقيد المنع من الترك مما دل على
الوجوب والمنع من الفعل مما دل على الحرمة (1).
وفيه: أن ملاك التعارض بين الدليلين هو ورود النفي والاثبات على
مورد واحد بحيث يقتضي كل منهما نفي الآخر عن موضوعه، ومثاله
أن يرد دليلان على موضوع واحد فيحكم أحدهما بوجوبه والآخر
بحرمته، وحيث إنه لا يقع اجتماع الحكمين المتضادين في محل واحد
فيقع بينهما التعارض ويرجع إلى قواعده، ومن المقطوع به أن الملاك
المذكور ليس بموجود في المقام.
والوجه فيه أن موضوع الوجوب هو الأمر بالمعروف أو النهي عن
المنكر، وموضوع الحرمة هو الولاية من قبل الجائر، وكل من
الموضوعين لا مساس له بالآخر بحسب طبعه الأولي، فلا شئ من أفراد
أحد الموضوعين فردا للآخر.
نعم المقام من قبيل توقف الواجب على مقدمة محرمة، وعليه فيقع
التزاحم بين الحرمة المتعلقة بالمقدمة وبين الوجوب المتعلق بذي
المقدمة، نظير الدخول إلى الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق أو انجاء
الحريق، ويرجع إلى قواعد باب التزاحم المقررة في محله.
وعلى هذا فقد تكون ناحية الوجوب أهم فيؤخذ بها، وقد تكون ناحية
الحرمة أهم فيؤخذ بها، وقد تكون إحدى الناحيتين بخصوصها محتمل
الأهمية فيتعين الأخذ بها كذلك، وقد يتساويان في الملاك فيتخير
المكلف في اختيار أي منهما شاء، هذا ما تقتضيه القاعدة، إلا أن كشف

1 - جواهر الكلام 22: 164.
676

أهمية الملاك والعلم بوصوله إلى حد الالزام في غاية الصعوبة.
وأما الكلام في الناحية الثانية، فقد دلت الآيات المتظافرة والروايات
المتواترة من الفريقين على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
وكذلك دلت الروايات المستفيضة بل المتواترة على أنه لا بأس بالولاية
من قبل الجائر إذا كانت لاصلاح أمور المؤمنين من الشيعة، وقد تقدم
بعضها، وبها قيدنا ما دل على حرمة الولاية عن الجائر مطلقا.
ومن الواضح أن الأمور الجائزة إذا وقعت مقدمة للواجب كانت واجبة
شرعا كما هو معروف بين الأصوليين أو عقلا كما هو المختار، وعليه
فلا مانع من اتصاف الولاية الجائزة بالوجوب المقدمي إذا توقف عليها
الواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
على أنه إذا جازت الولاية عن الجائر لاصلاح أمور المؤمنين جازت
أيضا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بالفحوى أو لأن ذلك من
جملة اصلاح أمورهم، وقد أشار المحقق الإيرواني إلى هذا (1).
وقد اتضح أن المقام من صغريات باب التزاحم دون التعارض، كما
يظهر من صاحب الجواهر بعد كلامه المتقدم (2).
ثم إن الظاهر من بعض الروايات أن الدخول في الولاية غير جائز
ابتداءا إلا أن الاحسان إلى المؤمنين يكون كفارة له.
ومما يدل على ذلك قوله (عليه السلام) في مرسلة الصدوق عن الصادق (عليه السلام)
قال: كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الإخوان (3).

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 46.
2 - الجواهر 22: 165.
3 - راجع الفقيه 3: 108، عنه الوسائل 17: 193.
677

وقوله (عليه السلام) في رواية زياد بن أبي سلمة: فإن وليت شيئا من أعمالهم
فأحسن إلى إخوانك تكون واحدة بواحدة (1).
ولكن هذا الرأي على اطلاقه ممنوع، فإن الظاهر من هاتين الروايتين
ومن غيرهما من الأخبار هو اختصاص ذلك بما إذا كان الدخول في
الولاية حراما ابتداءا ثم أصبح جائزا بعد ذلك، ثم تبدل قصده إلى
اصلاح أمور المؤمنين والاحسان إلى إخوانه في الدين، كيف وقد عرفت
اطباق الروايات على استحباب الولاية عن الجائر لقضاء حوائج المؤمنين
واصلاح شؤونهم، على أن الروايتين ضعيفتا السند.
ولا يخفى أن كلمات الأصحاب هنا في غاية الاختلاف، حيث ذهب
بعضهم إلى الوجوب، وبعضهم إلى الاستحباب، وبعضهم إلى مطلق
الجواز.
وقد جمع المصنف (رحمه الله) بين شتات آرائهم، بأن من عبر بالجواز (2) مع
التمكن من الأمر بالمعروف إنما أراد به الجواز بالمعنى الأعم، فلا ينافي
الوجوب، ومن عبر بالاستحباب (3) إنما أراد به الاستحباب التعييني، وهو
لا ينافي الوجوب الكفائي، نظير قولهم: يستحب تولي القضاء لمن يثق
بنفسه (4) مع أنه واجب كفائي، أو كان مرادهم ما إذا لم يكن هنا معروف

1 - الكافي 5: 109، التهذيب 6: 333، عنهما الوسائل 17: 194، ضعيفة بزياد بن أبي سلمة
وصالح بن أبي حماد، ومجهولة بالحسين بن الحسن الهاشمي.
2 - كالعلامة في القواعد 1: 122.
3 - كالمحقق في الشرايع 2: 12.
4 - قاله المحقق في الشرايع 4: 68، والعلامة في التحرير 2: 179، القواعد 2: 201،
والمحقق السبزواري في الكفاية: 262، وغيرهم.
678

متروك أو منكر مفعول لتجب الولاية مقدمة للأمر بالمعروف أو النهي عن
المنكر.
وعلى الجملة لا شبهة في وجوب الولاية عن الجائر إذا توقف عليها
الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر الواجبين.
2 - قبول الولاية من قبل الجائر مكرها:
وأما الأمر الثاني، وهو قبول الولاية من قبل الجائر مكرها، فلا خلاف
فيه ولا شبهة في أن هذه المسألة من المسائل المهمة التي يبتلي بها أكثر
الناس، ويتفرع عنها فروع كثيرة، وهي من صغريات جواز مخالفة
التكليف بالاكراه أو الاضطرار، بحيث يشق على المكره أو المضطر أن
يتحمل الضرر المتوعد به، سواء كان ماليا أم عرضيا، أم نفسيا أم اعتباريا،
وسواء تعلق بنفسه أم بعشيرته الأقربين.
وهذه الكبرى مما لا خلاف فيها بين الفريقين نصا وفتوى، ويدل على
صدقها في الجملة قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة (1)، وقوله تعالى:
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان (2)، وقد تقدم الكلام عليهما في
البحث عن جواز الكذب لدفع الضرورة.
أما الصغرى فتدل عليها جملة من الروايات الخاصة (3) الواردة في قبول
الولاية عن الجائر مكرها.

1 - آل عمران: 28.
2 - النحل: 106.
3 - راجع الكافي 5: 111، التهذيب 6: 335، عيون الأخبار 2: 140، عنهم الوسائل
17: 201 - 207.
679

التنبيهات:
1 - حكم الاضرار بالناس مع الاكراه:
قوله: وينبغي التنبيه على أمور، الأول.
أقول: قد عرفت أنه لا شبهة في أن الاكراه يسوغ الدخول في الولاية
من قبل الجائر، وكذلك لا شبهة في جواز العمل للمكره بما يأمره الجائر
من المحرمات ما عدا هراقة الدم، فإن التقية إنما شرعت لتحقن بها الدماء
فإذا بلغت الدم فلا تقية فيه.
وإنما الاشكال في أنه هل يجوز الاضرار بالناس إذا أكره على الاضرار
بهم، كنهب أموالهم وهتك أعراضهم، وايقاع النقص في شؤونهم
وعظائم أمورهم، سواء كان الضرر الذي توعد به المكره أقل من الضرر
الذي يوجهه إلى الغير أم أكثر، أو لا بد من الاقدام على أقل الضررين
وترجيحه على الآخر.
ذكر المصنف (رحمه الله) أنه قد يقال بالأول، استنادا إلى أدلة الاكراه ولأن
الضروريات تبيح المحظورات، وقد يقال بالثاني، إذ المستفاد من أدلة
الاكراه أن تشريع ذلك أنما هو لدفع الضرر، وواضح أنه لا يجوز لأحد أن
يدفع الضرر عن نفسه بالاضرار بغيره حتى فيما إذا كان ضرر الغير أقل
فضلا عما إذا كان أعظم.
والوجه في ذلك أن حديث رفع الاكراه والاضطرار مسوق للامتنان
على الأمة، ومن المعلوم أن دفع الضرر عن نفسه بالاضرار بغيره على
خلاف الامتنان، فلا يكون مشمولا للحديث، ثم إنه (رحمه الله) اختار الوجه
الأول، واستدل عليه بوجوه سنذكرها.
وتحقيق المقام يقع في ثلاث نواحي:
680

الناحية الأولى: أن يتوجه الضرر ابتداءا إلى أحد من غير أن يكون
لفعل الآخر مدخل فيه، كتوجه السيل إلى داره أو بستانه، وكتوجه
الظلمة أو السراق إلى نهب أمواله أو هتك أعراضه، ولا شبهة في أن هذا
القسم من الضرر لا يجوز دفعه بالاضرار بغيره، تمسكا بأدلة نفي الاكراه
والضرر والحرج، بداهة أنها مسوقة للامتنان على جنس الأمة، وبديهي
أن دفع الضرر المتوجه إلى أحد بالاضرار بغيره خلاف الامتنان على
الأمة، فلا يكون مشمولا للأدلة المذكورة.
على أنه لو جاز لأحد أن يدفع الضرر عن نفسه ولو بالاضرار بالغير
لجاز للآخر ذلك أيضا، لشمول الأدلة لهما معا، فيقع التعارض في
مضمونها، وحينئذ فالتمسك بها لدفع الضرر عن أحد الطرفين بالاضرار
بالآخر ترجيح بلا مرجح، وعليه فلا بد من رفع اليد عن اطلاقها في مورد
الاجتماع ويرجع فيه إلى أدلة حرمة التصرف في أموال الناس.
نعم إذا كان الضرر المتوجه إلى الشخص مما يجب دفعه على كل أحد
كقتل النفس المحترمة وما يشبهه، وأمكن دفعه بالاضرار بالغير كان
المقام حينئذ من صغريات باب التزاحم فيرجع إلى قواعده.
الناحية الثانية: أن يتوجه الضرر ابتداءا إلى الغير على عكس الصورة
السابقة، وقد ظهر حكم ذلك من الناحية الأولى كما هو واضح.
الناحية الثالثة: أن يتوجه الضرر إلى الغير ابتداءا وإلى المكره على
تقدير مخالفته لما أمر به الجائر، وكان الضرر الذي توعده المكره -
بالكسر - أمرا مباحا في نفسه، كما إذا أكرهه الظالم على نهب مال غيره
وجلبه إليه، وإلا فيحمل أموال نفسه إليه.
وفي هذه الصورة لا بد للمكره من تحمل الضرر بترك النهب، ومن
الواضح أن دفع المكره أمواله للجائر مباح في نفسه حتى في غير حال
681

الاكراه، ونهب أموال الناس وجلبه إلى الجائر حرام في نفسه ولا يجوز
رفع اليد عن المباح بالاقدام على الحرام.
وقد استدل المصنف (رحمه الله) على عدم وجوب تحمل الضرر بوجوه:
1 - إن دليل نفي الاكراه يعم جميع المحرمات حتى الاضرار بالغير ما
لم يجر إلى إراقة الدم.
2 - إن تحمل الضرر حرج عظيم، وهو مرفوع في الشريعة المقدسة.
وجواب الوجهين يتضح مما قدمناه في الجهة الأولى.
3 - الأخبار (1) الدالة على أن التقية إنما جعلت لتحقن بها الدماء، فإذا
بلغت الدم فلا تقية، فالظاهر هنا جواز التقية في غير الدماء بلغت ما بلغت.
وفيه: أن الظاهر من هذه الأخبار أن التقية إنما شرعت لحفظ بعض
الجهات المهمة كالنفوس وما أشبهها، فإذا أدت إلى اتلاف ما شرعت
لأجله فلا تقية، لأن ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال، وليس مفاد
الروايات المذكورة هو جواز التقية في غير تلف النفس لكي يترتب عليه
جواز اضرار الغير لدفع الضرر عن نفسه.
والغرض من تشريع التقية قد يكون حفظ النفس، وقد يكون حفظ
العرض، وقد يكون حفظ المال ونحوه، وحينئذ فلا يشرع بها هتك
الأعراض ونهب الأموال، لانتهاء آمادها بالوصول إلى هذه المراتب.

1 - عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا
بلغ الدم فليس تقية (الكافي 2: 174، المحاسن: 259، عنهما الوسائل 16: 234)، صحيحة.
وعن الثمالي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية
الدم فلا تقية (التهذيب 6: 172، عنه الوسائل 16: 235)، موثقة لابن فضال.
عن الصدوق في الهداية مرسلا: والتقية في كل شئ حتى يبلغ الدم، فإذا بلغ الدم فلا تقية
(الهداية: 9، عنه المستدرك 12: 274).
682

وبعبارة أخرى المستفاد من الروايات المذكورة أن الغرض من التقية
هو حفظ الدماء وإن توقف ذلك على ارتكاب بعض المعاصي، ما
لم يصل إلى مرتبة قتل النفس.
على أنه لو جازت التقية بنهب مال الغير وجلبه إلى الظالم لدفع الضرر
عن نفسه لجاز للآخر ذلك أيضا، لشمول أدلة التقية لها معا، فيقع
التعارض في مضمونها، وحينئذ فلا يجوز الاستناد إليها في دفع الضرر
عن أحد الطرفين بايقاع النقص بالطرف الآخر لأنه ترجيح بلا مرجح،
وعليه فنرفع اليد عن اطلاقها في مورد الاجتماع ويرجع فيه إلى عموم
حرمة التصرف في مال الغير وشؤونه.
4 - ما ذكره من الفرق بين الاكراه والاضطرار، حيث التزم بحرمة دفع
الضرر عن نفسه بالاضرار بغيره في مورد الاضطرار دون الاكراه.
وحاصل كلامه أن الضرر في موارد الاضطرار قد توجه ابتداءا إلى
الشخص نفسه، كما إذا توجه السيل إلى داره فلا يجوز له دفعه بالاضرار
بغيره، لأن دفع الضرر عن النفس بالاضرار بالغير قبيح، ولا يصح
التمسك بعموم رفع ما اضطروا إليه، فإن حديث الرفع قد ورد في مورد
الامتنان، ولا شبهة أن صرف الضرر عن نفسه إلى غيره مناف له، فيختص
الحديث بغير الاضرار بالغير من المحرمات.
وأما في موارد الاكراه، فإن الضرر قد توجه إلى الغير ابتداءا بحسب
إلزام الظالم واكراهه، ومن المعلوم أن مباشرة المكره - بالفتح - لايقاع
الضرر بالغير ليست مباشرة استقلالية ليترتب عليها الضمان، كما
يترتب على بقية الأفعال التوليدية، بل هي مباشرة تبعية وفاعلها بمنزلة
الآلة فلا ينسب إليه الضرر، نعم لو تحمل الضرر ولم يضر بالغير فقد
صرف الضرر عن الغير إلى نفسه عرفا، ولكن الشارع لم يوجب هذا.
683

ولكن ما أفاده المصنف غير تام صغرى وكبرى، أما عدم صحة
الصغرى فلأن الضرر في كلام الموردين إنما توجه إلى الشخص نفسه
ابتداءا، فإن الاكراه لا يسلب الاختيار عن المكره ليكون بمنزلة الآلة
المحضة، بل الفعل يصدر منه بإرادته واختياره، ويكون فعله كالجزء
الأخير من العلة التامة لنهب مال الغير مثلا حتى أنه لو لم يأخذه
ولم يجلبه إلى الظالم لكان المال مصونا وإن توجه الضرر حينئذ إلى نفسه
فمباشرته للاضرار بالغير لدفع الضرر المتوعد به عن نفسه مباشرة
اختيارية، فتترتب عليها الأحكام الوضعية والتكليفية.
وبعبارة أخرى أن مرجع الاكراه إلى تخيير المكره بين نهب مال الغير
وبين تحمل الضرر في نفسه على فرض المخالفة، وحيث كان الأول
حراما وضعا وتكليفا فتعين عليه الثاني، نعم لو كان الضرر متوجها إلى
الغير ابتداءا ولم يكن له مساس بالواسطة أصلا فلا يجب عليه دفعه عن
الغير باضرار نفسه.
ومن هنا ظهر الجواب عما ذكره المصنف أخيرا، من أن الفارق بين
المقامين هو أدلة الحرج، وأما عدم صحة الكبرى فلأنه لا وجه للمنع عن
وجوب دفع الضرر عن الغير بايقاعه بنفسه، بل قد يجب ذلك فيما إذا
أوعده الظالم بأمر مباح في نفسه، وكان ما أكرهه عليه من اضرار الغير
حراما، فإنه حينئذ يجب دفع الضرر عن غيره بالاضرار بنفسه كما عرفته
آنفا لأنه بعد سقوط أدلة نفي الضرر والاكراه والحرج فأدلة حرمة
التصرف في مال الغير بدون إذنه محكمة.
5 - ما أفاده المصنف أيضا، من أن أدلة نفي الحرج كافية في الفرق بين
المقامين، فإن الضرر إذا توجه إلى المكلف ابتداءا ولم يرخص الشارع
في دفعه عن نفسه بتوجيهه إلى غيره، فإن هذا الحكم لا يكون حرجيا،
684

أما إذا توجه الضرر إلى الغير ابتداءا فإن إلزام الشارع بتحمل الضرر لدفعه
عن الغير حرجي قطعا، فيرتفع بأدلة نفي الحرج.
وفيه: أنه ظهر جوابه مما ذكرناه من المناقشة في الصغرى، ووجه
الظهور هو عدم الفارق بين توجه الضرر إلى الغير ابتداءا وعدمه.
الناحية الرابعة: أن يتوجه الضرر ابتداءا إلى الغير وإلى المكره على
تقدير مخالفته حكم الظالم، كما إذا أكرهه على أن يلجئ شخصا آخر
إلى فعل محرم كالزناء، وإلا أجبره على ارتكابه بنفسه، وحينئذ
فلا موضع لأدلة نفي الاكراه والاضطرار والحرج والضرر، بداهة أن
الاضرار بأحد الطرفين مما لا بد منه جزما، فدفعه عن أحدهما بالاضرار
بالآخر ترجيح بلا مرجح، وإذن فتقع المزاحمة ويرجع إلى قواعد باب
التزاحم.
الناحية الخامسة: أن يتوجه الضرر إلى أحد شخصين ابتداءا وإلى
المكره على فرض مخالفته الظالم، ولكن فيما إذا كان الضرر المتوعد به
أعظم مما يترتب على غيره، كما إذا أكرهه على أن يأخذ له ألف دينار أما
من زيد وأما من عمرو، وإلا أجبره على إراقة دم محترم مثلا، وفي هذه
الصورة يجب على المكره أن يدفع الضرر عن نفسه بالاضرار بأحد
الشخصين، فإن حفظ النفس المحترمة واجب على كل أحد، ويدور
الأمر بين الاضرار بأحد الشخصين، ويرجع في ذلك إلى قواعد باب
التزاحم.
2 - جواز قبول الولاية من الجائر لدفع الضرر عن الغير:
قوله: الثاني: إن الاكراه يتحقق بالتوعد بالضرر.
أقول: الكراهة في اللغة هي ضد الحب، والاكراه هو حمل الرجل
685

على ما يكرهه، وهذا المعنى يتحقق بحمل الشخص على كل ما يكرهه
بحيث يترتب على تركه ضرر عليه، أو على عشيرته، أو على الأجانب من
المؤمنين وإذا انتفى التوعد بما يكرهه انتفى الاكراه.
وعليه فلا نعرف وجها صححيا لما ذكره المصنف من تخصيص
الاكراه ببعض ما ذكرناه، قال: إن الاكراه يتحقق بالتوعد بالضرر على ترك
المكره عليه ضررا متعلقا بنفسه، أو ماله أو عرضه أو بأهله، ممن يكون
ضررا راجعا إلى تضرره وتألمه، وأما إذا لم يترتب على ترك المكره عليه
إلا الضرر على بعض المؤمنين ممن يعد أجنبيا من المكره - بالفتح -
فالظاهر أنه لا يعد ذلك اكراها عرفا، إذ لا خوف له يحمله على فعل ما أمر
به (1).
نعم يختلف موضوع الكراهة باختلاف الأشخاص والحالات، فإن
بعض الأشخاص يكره مخالفة أي حكم من الأحكام الإلهية في جميع
الحالات، وبعضهم يكره ذلك في الجهر دون الخفاء، وبعضهم يكره
مخالفة التكاليف المحرمة دون الواجبات، وبعضهم بالعكس، وبعضهم
لا يكره شيئا من مخالفة التكاليف حتى قتل النفوس فضلا عن غيره.
ثم إن الفارق بين الأمرين أن الضرر المتوعد به متوجه إلى المكره -
بالفتح - في الأول، وإلى غيره من الأجانب في الثاني، الذي أنكر المصنف
(رحمه الله) تحقق مفهوم الاكراه فيه.
وتحقيق الكلام هنا في جهات ثلاث، كلها مشتركة في عدم ترتب
الضرر على المكره، لو ترك ما أكره عليه، ولاية كانت أم غيرها.

1 - صرح باختصاص الاكراه بصورة وجود الخوف في الشرايع 3: 13، التحرير 2: 51،
الروضة البهية 2: 19، نهاية المرام 2: 11، الحدائق 25: 159، رياض المسائل 2: 169.
686

1 - أن يخشى من توجه الضرر إلى بعض المؤمنين، ويتوقف دفعه
على قبول الولاية من الجائرين، والدخول في أعمالهم، والحشر في
زمرتهم للتقية فقط، من دون أن يكون هناك اكراه على قبول الولاية،
ولا ضرر يتوجه عليه لو لم يقبلها، ومن دون أن يتوقف دفع الضرر عن
المؤمنين على ارتكاب أمر محرم.
والظاهر أنه لا شبهة في جواز الولاية عن الجائر حينئذ تقية، فإن التقية
شرعت لحفظ المؤمنين عن المهالك والمضرات، بل تعد التقية في
مواردها من جملة العبادات التي يترتب عليها الثواب، ولا ريب أن تلك
الغاية حاصلة في المقام.
ومما يدل على جواز الولاية هنا لأجل التقية الروايات الكثيرة (1) الآمرة
بالتقية، صونا لنفوس المؤمنين وأعراضهم وأموالهم عن التلف، بل ورد
في عدة من الروايات (2) جواز التقية بالتبري عن الأئمة (عليهم السلام) لسانا، إذا كان
القلب مطمئنا بالايمان.
ومما يدل على ذلك أيضا تجويز الأئمة (عليهم السلام) في جملة من
الأحاديث لعلي بن يقطين (3) وغيره أن تقبلوا الولاية عن الجائر تقية
لاصلاح أمور المؤمنين ودفع الضرر عنهم.
ويضاف إلى ذلك كله أن ظاهر غير واحدة من الروايات مشروعية
التقية لمطلق التوادد والتحبب، وإن لم يترتب عليها دفع الضرر عن نفسه
أو عن غيره، فيدل بطريق الأولوية على جواز الولاية عن الجائر تقية لدفع
الضرر عن المؤمنين.

1 - قد تقدمت الإشارة إلى مصادرها قبيل هذا.
2 - راجع الوسائل: 16، باب 29 جواز التقية في إظهار كلمة الكفر من الأمر بالمعروف
: 225.
3 - قد تقدمت الإشارة إليها وإلى مصادرها في أول هذا المبحث.
687

قوله: لكن لا يخفى أنه لا يباح بهذا النحو من التقية الاضرار بالغير.
أقول: الوجه فيه هو ما تقدم آنفا من كون الأدلة الواردة في نفي الاكراه
وشبهه واردة في مقام الامتنان على الأمة بعمومها، فلا يصح التمسك بها
لدفع الضرر عن أحد بتوجيه الضرر إلى غيره، لأن ذلك على خلاف
الامتنان في حق ذلك الغير، وليس الوجه فيه هو ما ذكره المصنف من
عدم تحقق الاكراه إذا لم يتوجه الضرر على المكره، فقد عرفت أن مفهوم
الاكراه أوسع من ذلك.
2 - أن يكون قبول الولاية من الجائر عاصما عن توجه الضرر إلى
المؤمنين، وسببا لنجاح المكروبين منهم، من دون أن يلحق المكره ضرر
لو لم يقبلها.
ومثاله ما لو أكره الجائر على قبول الولاية من قبله وأوعده على تركها
باضرار المؤمنين وهتكهم والتنكيل بهم وما أشبه ذلك، ولا شبهة هنا
أيضا في جواز الولاية عن الجائر لدفع الضرر عن المؤمنين.
وتدل على ذلك الروايات المتقدمة الدالة على جواز الولاية عن
الجائر لاصلاح أمور المؤمنين، بل دلالتها على الجواز هنا أولى من
وجهين: الأول وجود الاكراه، والثاني القطع بتوجه الضرر على المؤمنين
مع رد الولاية.
3 - أن يكره الظالم أحدا على ارتكاب شئ من المحرمات الإلهية،
سواء كانت هي الولاية أم غيرها، من غير أن يترتب عليها في تركها ضرر
أصلا، ولكن الظالم أوعده على ترك ذلك العمل باجبار غيره على معصية
من حرمات الله، ومرجع ذلك في الحقيقة إلى دوران الأمر بين اقدام
المكره - بالفتح - على معصية لا يتضرر بتركها وبين اقدام شخص آخر
عليها.
688

ومثاله ما إذا أكرهه الجائر على شرب الخمر وإلا أكره غيره عليه،
والظاهر أنه لا ريب في حرمة ارتكاب المعصية في هذه الصورة، فإنه
لا مجوز للاقدام عليها من الأدلة العقلية والنقلية إلا أن يترتب على
ارتكاب المعصية حفظ ما هو أهم منها كصيانة النفس عن التلف وما أشبه
ذلك، وحينئذ يكون المقام من صغريات باب التزاحم فتجري فيه
قواعده.
قوله: وكيف كان فهنا عنوانان الاكراه ودفع الضرر المخوف - الخ.
أقول: توضيح كلامه: إن الشارع المقدس قد جعل الاكراه موضوعا
لرفع كل محرم عدا اتلاف النفوس المحترمة كما تقدم، بخلاف دفع
الضرر المخوف على نفسه أو على غيره من المؤمنين، فإنه من صغريات
باب التزاحم، ولكنك قد عرفت أن دليل الاكراه لا يسوغ دفع الضرر عن
النفس بالاضرار بغيره، وعليه فكلا العنوانين من صغريات باب التزاحم.
وعلى كل حال فتجوز الولاية عن الجائر في كلا المقامين لدفع الضرر
عن نفسه وعن سائر المؤمنين، وأما احراز ملاكات الأحكام وكشف
أهمية بعضها من بعض فيحتاج إلى الاطلاع على أبواب الفقه والإحاطة
بفروعه وأدلته، وقد تعرض الفقهاء (قدس سرهم) لعدة من فروع المزاحمة في
الموارد المناسبة، ولا يناسب المقام ذكره.
3 - حكم اعتبار العجز عن التفصي في الاكراه:
قوله: الثالث: أنه قد ذكر بعض مشائخنا المعاصرين (1) - الخ.

1 - لعل المراد به السيد المجاهد، لكنه لم يسند الأقوال الثلاثة إلى ظاهر الأصحاب، بل
قال - بعد طرح المسألة -: فيه أقوال - إلى أن قال: الثاني ما استظهره في المصابيح من كلام بعض
الأصحاب من التفرقة بين التولية وفعل المحرم...، أنظر المناهل: 318، والمصابيح: 53
(مخطوط).
689

أقول: حاصل كلامه أن بعض المعاصرين استظهر من كلمات
الأصحاب في اعتبار العجز عن التخلص أن لهم في ذلك أقوالا ثلاثة،
ثالثها التفصيل بين الاكراه على الولاية فلا يعتبر فيه العجز عن التخلص
وبين غيرها من المحرمات فيعتبر فيه ذلك.
ولعل منشأ الخلاف ما ذكره في المسالك (1) في شرح قول المحقق: إذا
أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول والعمل بما يأمره مع عدم
القدرة على التفصي (2).
وحاصل ما ذكره في المسالك أنه يمكن أن يكون غرض المحقق هو
تعدد الشرط والمشروط، بأن تكون الولاية عن الجائر بنفسها مشروطة
بالاكراه فقط، ويكون العمل بما يأمره الجائر بانفراده مشروطا بعدم قدرة
المأمور على التفصي.
ويرد عليه أنه لا وجه لاشتراط الولاية مطلقا بالاكراه، فإن جواز قبولها
لا يتوقف على الاكراه إذا انفردت عن العمل بما يأمره الجائر، ولذا قد
تكون مباحة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون
واجبة، وأما العمل بما يأمر به الجائر فقد صرح الأصحاب في كتبهم أنه
مشروط بالاكراه خاصة ولا يشترط فيه الالجاء إليه، بحيث لا يقدر على
خلافه.
ويمكن أن يكون المشروط في كلام المحقق أمرا وحدانيا مركبا من
أمرين: الولاية والعمل بما يأمره الجائر، ويكون مشروطا بشرطين:
الاكراه وعدم القدرة على التفصي.

1 - المسالك 3: 139.
2 - شرايع الاسلام 2: 12.
690

ويرد عليه أنه يكفي الاكراه بانفراده في امتثال أمر الجائر مع خوف
الضرر حتى في فرض التمكن من التخلص، فلا وجه للشرط الثاني.
وقد تجلى من ذلك أن مرجع ما ذكره في المسالك إلى ثلاثة
محتملات:
1 - أن الولاية عن الجائر غير مشروطة بالاكراه، وإنما المشروط به هو
العمل بما يأمره الجائر.
2 - أن المجموع المركب من الأمرين مشروط بالاكراه فقط دون العجز
عن التخلص بحيث لا يقدر على خلافه.
3 - التفصيل بين الولاية وبين العمل بما يأمره الجائر، فيقيد الأول
بالاكراه والثاني بالالجاء إليه والعجز عن التخلص، وكان المتوهم جعل
كل محتمل قولا برأسه.
أقول: يرد على هذا المتوهم أولا: أن مجرد الاحتمال لا يستلزم
وجود القائل به.
وثانيا: أنا لا نعرف وجها صحيحا للقول بالتفصيل، فإن الظاهر من
كلمات الفقهاء (قدس سرهم) في باب الاكراه أنه لا خلاف بينهم في اعتبار العجز عن
التفصي في ترتب أحكام الاكراه، أما إذا أمكن التفصي فلا تترتب تلك
الأحكام إلا إذا كان التفصي حرجيا، ولم يفرقوا في ذلك بين الولاية
المحرمة وبين العمل بما يأمره الجائر من الأعمال المحرمة المترتبة على
الولاية وبين بقية المحرمات، فإن أدلة المحرمات محكمة، ولا نحتمل
أن يجوز أحد شرب الخمر بمجرد الاكراه حتى مع القدرة على التخلص.
وكذلك لا خلاف بين الفقهاء أيضا في أنه لا يعتبر في باب الاكراه
العجز عن التفصي إذا كان في التفصي ضرر كثير على المكره، كما أنهم
لم يشترطوا في ترتب الأحكام أن يلجأ إلى المكره عليه، بحيث لا يقدر
691

على خلافه، كما صرح به في المسالك (1)، فإن مرجع ذلك إلى العجز
العقلي ولم يعتبره أحد في الاكراه جزما.
نعم قد تترتب على المعصية التي أكره عليها مصلحة هي أهم منها،
ولا يعتبر في هذه الصورة العجز عن التفصي، ومثاله ما إذا أكره الجائر
أحدا على معصية، وكان المجبور متمكنا من التخلص منها بخروجه عن
المكان الذي يعصى الله فيه، إلا أن ارتكابه لتلك المعصية مع الظالم يتيح
له الدخول في أمر يترتب عليه حفظ الاسلام أو النفس المحترمة أو ما
أشبه ذلك.
4 - أن جواز الولاية عن الجائر مع الضرر المالي رخصة لا عزيمة:
قوله: الرابع: إن قبول الولاية مع الضرر المالي الذي لا يضر بالحال رخصة لا
عزيمة.
أقول: إذا أجبر الجائر أحدا على الولاية من قبله أو على عمل محرم،
وكان المجبور متمكنا من التخلص ولو بتحمل الضرر المالي، وإن بلغ ما
بلغ، جاز له ذلك، فإن أدلة نفي الاكراه إنما هي مسوقة لرفع الالزام فقط
عن مورد الاكراه، وليست ناظرة إلى بيان حكم المورد.
وعليه فلا بد من تعيين حكمه من الرجوع إلى القواعد الأخر، فقد
يكون المكره عليه من قبيل قتل النفس وما يشبهه، فيحرم الاقدام عليه،
وقد يكون من قبيل الضرر المالي على نفسه فيجوز تحمله، لأن الناس
مسلطون على أموالهم، ومن هنا يعلم أن تقييد الضرر المالي بعدم اضراره
بالحال كما في المتن لا يخلو عن مسامحة.
وبعبارة أخرى أن أدلة الاكراه لا تشمل المقام، وعليه فإن كان المورد

1 - المسالك 3: 139.
692

كقتل النفوس ونحوه مما اهتم الشارع بحفظه فيحرم الاقدام عليه، بل
يجب دفعه، وإن كان من قبيل الضرر المالي فيجوز التحمل به لدليل
السلطنة.
لا يقال: إن بذل المال للجائر دفعا للولاية المحرمة إعانة على الإثم.
فإنه يقال: لا وجه له صغرى وكبرى، أما الأولى، فلأن ذلك من قبيل
مسير الحاج والزوار وتجارة التجار مع اعطاء المكوس والكمارك
والضرائب، ولا يصدق على شئ منها عنوان الإعانة على الإثم، وأما
الثانية فقد تقدم في البحث عن بيع العنب ممن يجعله خمرا أنه لا دليل
على حرمة الإعانة على الإثم.
5 - حرمة قتل المؤمن بالاكراه أو بالتقية:
قوله: الخامس: لا يباح بالاكراه قتل المؤمن ولو توعد على تركه بالقتل اجماعا.
أقول: هل يشرع بالتقية أو بالاكراه قتل النفوس المحترمة أو لا؟
أما التقية، فهي في اللغة اسم لاتقى يتقي، بمعنى الخوف والتحذير
والتجنب، والمراد بها هنا التحفظ عن ضرر الظالم بموافقته في فعل أو
قول مخالف للحق.
والظاهر أنه لا خلاف في جوازها لحفظ الجهات المهمة الشرعية، بل
قد عرفت في مبحث الكذب عند البحث عن أقوال الأئمة (عليهم السلام) الصادرة
تقية اجماع الفريقين وضرورة العقلاء، وتظافر الآيات والروايات على
جواز الكذب لانجاء النفس المحترمة.
على أنه ورد في بعض الأحاديث: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم،
693

فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية (1)، فإن الظاهر من ذلك أنه إذا توقف حفظ
النفس على ارتكاب أي محرم فإنه يصبح مباحا، مقدمة لصيانة النفس
المحترمة عن التلف، إلا أن التقية إذا اقتضت إراقة دم محترم لحفظ دم
آخر فإنها لا تشرع حينئذ، لما عرفت آنفا أن كلا من الشخصين مشمول
للحديث، فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح (2).
بل قد عرفت سابقا أن الغرض الأقصى من جعل التقية في الشريعة
المقدسة إنما هو حفظ أموال المؤمنين وأعراضهم ونفوسهم، وما أشبه
ذلك من شؤونهم، فإذا توقف حفظ شئ منها على اتلاف عديله من
شخص آخر ارتفعت التقية حينئذ لارتفاع الغاية منها.
ومثاله ما إذا اقتضت التقية اتلاف مال شخص لحفظ مال شخص آخر،
فإنه لا يجوز اتلافه تقية.
والوجه فيه: أن شمول أخبار التقية لهما على حد سواء، وإذن
فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح كما عرفت، فيرجع في
ذلك إلى الأدلة الدالة على حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه،
وهكذا الحال في جميع موارد التقية.
غاية الأمر أن ما دل على أن التقية إنما شرعت ليحقن به الدم ناظر إلى
بيان المرتبة العليا من التقية، وليس فيه ظهور في اختصاص الحكم بهذه
المرتبة فقط.
ومن هنا ظهر ما في كلام المحقق الإيرواني حيث قال: ويقرب عندي
أن المراد من هذه الأحاديث أمر وجداني يدركه العقل، وهو أن التقية لما

1 - قد تقدمت هذه الرواية في البحث عن الاضرار بالناس مع الاكراه عليه.
2 - كما صرح به في الرياض 1: 510، الجواهر 22: 169.
694

شرعت لغاية حفظ النفس، فإذا لم تكن هذه الغاية موجودة، بل كان
الشخص مقتولا لا محالة، اتقي أو لم يتق، فلا تقية، لانتفاء ما هو الغرض
من تشريع التقية (1).
ومع الاغضاء عما ذكرناه، فإن ما أفاده إنما يلائم قوله (عليه السلام) في رواية
محمد بن مسلم: إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس
تقية، فإنه يمكن أن يتوهم منها أن الغاية من التقية هي حفظ الدم، وإذا
كان لا بد للظالم من إراقة الدم فلا موضوع للتقية.
ولكن يبائنه قوله (عليه السلام) في رواية أبي حمزة الثمالي: إنما جعلت
التقية ليحقن بها الدم، فإذا بلغت التقية الدم فلا تقية، فإن هذه الرواية
ظاهرة بل صريحة في أن التقية إذا توقفت على إراقة الدم فلا تقية، فتكون
هذه الرواية قرينة لبيان المراد من الرواية الأولى أيضا.
ثم إنه لا فرق بين أفراد المؤمنين من حيث الصغر والكبر، ولا من حيث
الرجولة والأنوثة، ولا من حيث العلم والجهل، ولا من حيث الحرية
والعبودية، لاطلاق قوله (عليه السلام): إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم، فإذا
بلغت التقية الدم فلا تقية.
وأما الاكراه، وقد تقدم معناه في الأمر الثاني، فهو لا يسوغ قتل
النفس المحترمة بلا خلاف بين الفريقين، والوجه فيه هو ما تقدم، من أن
الأدلة الدالة على نفي الاكراه والضرر والحرج واردة في مقام الامتنان،
ومن الواضح أن الاضرار بالغير مناف للامتنان فلا يكون مشمولا لها،
فتبقى الأدلة الدالة على حرمة قتل النفس المحترمة سليمة عن المزاحم.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 47.
695

نعم إذا أجبر الظالم أحدا على قتل أحد شخصين محقوني الدم أو
اضطر إليه نفسه، كما إذا وقع من شاهق وكان لا بد له من الوقوع على رأس
أحدهما، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى قواعد التزاحم.
ويتضح ذلك بلحاظ ما حققناه في دوران الأمر بين انقاذ أحد الغريقين،
فإنه لم يستشكل أحد في وجوب المبادرة لانقاذ الأهم منهما وترك
الآخر، وهذا نظير الاكراه على ايقاع الضرر المالي على أحد الشخصين،
وقد تقدم الكلام فيه.
لا يقال: قد نطق القرآن الكريم في آية محكمة (1) بالتكافؤ بين الدماء
المحترمة، ومعه فأي معنى لملاحظة الأهم والمهم في ذلك، وقد ورد
ذلك في الأخبار المستفيضة المذكورة في أبواب القصاص.
فإنه يقال: نعم ولكن مورد التكافؤ الذي دلت عليه الآية والروايات
إنما هو القصاص فقط، فلا مساس له بما نحن فيه، ومن هنا اتضح حكم ما
لو أكره الجائر أحدا أما على قتل نفسه وأما على قتل غيره.
وقد انجلى الصبح وانكشف الظلام وظهر الفارق بين التقية والاكراه
موضوعا وحكما، والله العالم بالحقائق والأسرار.
إن المستحق للقتل قصاصا محقون الدم بالنسبة إلى غير ولي الدم:
قوله: وأما المستحق للقتل قصاصا، فهو محقون الدم بالنسبة إلى غير ولي الدم.
أقول: مستحق القتل قد يكون مهدور الدم لكل أحد لكونه مسلوب
الاحترام، كالنواصب الذين يظهرون العداوة والبغضاء لآل محمد

1 - قوله تعالى: وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس، المائدة: 49.
696

(عليهم السلام)، وقد يكون مهدور الدم بالنسبة إلى جميع الناس ولكن بإجازة
حاكم الشرع، كمن ثبت عليه الحد الشرعي الموجب للقتل، وقد يكون
مهدور الدم لفريق معين، كمن قتل مؤمنا عن عمد واختيار.
أما الأول فلا شبهة في خروجه عن حد النفوس المحترمة قطعا، لأن
الشارع المقدس سلب احترام دمه عند كل من اطلع على خبثه ورذالته،
فيكون مهدور الدم لجميع الناس، ولا يكون مشمولا لقوله (عليه السلام): فإذا
بلغت التقية الدم فلا تقية.
وعليه فلو اقتضت التقية أو الاكراه قتل ناصبي فلا محذور في الاقدام
عليه لثبوت جوازه قبل التقية والاكراه فمعهما يكون أولى بالجواز، إلا أن
تترتب الفتنة على قتله فإنه لا يجوز حينئذ الاقدام على قتله لوجوب سد
أبواب الفتن.
وأما الثاني فحكمه حكم بقية النفوس المحترمة، فلا يجوز قتله بدون
إذن الحاكم الشرعي حتى مع التقية والاكراه لكونه محقون الدم بالنسبة
إلى غير الحاكم الشرعي.
ومن هنا يعلم حكم الثالث أيضا، فإن الكتاب العزيز (1) إنما أثبت السلطنة
على دم القاتل لولي المقتول فلا يسوغ لغيره الاقدام عليه في حال من
الحالات إلا مع الإذن الشرعي.
وقد انجلى مما ذكرناه ما في كلام المحقق الإيرواني (2)، فإنه (رحمه الله)
استظهر من الروايات أن المراد من محقون الدم ما يكون محقونا بقول
مطلق، ويرجع في غيره إلى عموم رفع ما استكرهوا عليه (3).

1 - قوله تعالى: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا، بني إسرائيل: 35.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 47.
3 - راجع الكافي 2: 335، التوحيد: 353، عنهما الوسائل 15: 369.
697

حكم التقية والاكراه في قتل المخالفين:
قوله: ومما ذكرنا ظهر سكوت الروايتين عن حكم دماء أهل الخلاف.
أقول: قد أشرنا آنفا إلى أن الغرض الأقصى من التقية هو حفظ دماء
الشيعة وأن حدها بلوغ التقية إلى الدم، وحينئذ فما دل على عدم جريان
التقية في الدماء المحترمة ساكت عن حكم التقية فيما إذا أدت إلى قتل
غير الشيعة من أي فرق المسلمين.
وعليه فحكم قتل المخالفين بالتقية أو بالاكراه حكم سائر المحرمات
التي ترتفع حرمتها بهما.
قوله: بقي الكلام في أن الدم يشمل الجرح وقطع الأعضاء أو يختص بالقتل،
وجهان (1).
أقول: إن الظاهر من قوله (عليه السلام): إنما جعلت التقية ليحقن بها الدم،
وإن كان هو الدم الذي كان علة لبقاء الحياة إلا أنه مع ذلك لا يمكن الحكم
بجواز جرح الغير أو قطع أعضائه للتقية، فإن دليل جواز التقية كدليل رفع
المستكره عليه إنما ورد في مقام الامتنان، فلا يشمل ما إذا كان شموله
منافيا له.
وعليه فيجري في موردها ما ذكرناه في مورد الاكراه، فراجع.
قوله: فيما ينبغي للوالي العمل به في نفسه وفي رعيته.
أقول: قد ورد في الروايات الكثيرة (2) حكم الوالي في نفسه، وحكمه

1 - من اطلاق الدم، وهو المحكي عن الشيخ في كتاب الاقتصاد: 240، عنه المسالك
3: 141، ومن عمومات التقية ونفي الحرج والاكراه، وهو المحكي عن المناهل: 317،
والروضة البهية 2: 420، والمصابيح: 52، والرياض 1: 510.
2 - راجع الوسائل: 17، باب ما ينبغي للوالي العمل به في نفسه مما يكتسب به: 207 - 211.
698

مع رعيته، فلا بد وأن يلاحظها المتقمص بمنصب الولاية لكي لا يكون
في عداد الظالمين، بل يتصدى لأعمال الولاية بالقسط والعدل.
المسألة (27)
حرمة هجاء المؤمن
قوله: السابعة والعشرون: هجاء المؤمن، حرام بالأدلة الأربعة.
أقول: الهجو في اللغة عد معائب الشخص والوقيعة فيه وشتمه (1)،
ولا خلاف بين المسلمين في حرمة هجاء المؤمن، وإن اختلفت الشيعة مع
غيرهم فيما يراد بكلمة المؤمن، بل في كلام بعض العامة (2) تعميم الحرمة
إلى هجاء أهل الذمة أيضا.
وقد استدل المصنف على حرمته بالأدلة الأربعة، بدعوى أنه ينطبق
عليه عنوان الهمز واللمز وأكل اللحم والتعيير وإذاعة الستر، وكل ذلك
كبيرة موبقة وجريمة مهلكة، بالكتاب والسنة والعقل والاجماع.
وتحقيق المقام أن الهجو قد يكون بالجملة الانشائية، وقد يكون
بالجملة الخبرية.
أما الأول فلا شبهة في حرمته لكونه من اللمز والهمز والإهانة
والهتك، وقد دلت الروايات المتواترة (3) على حرمة هتك المؤمن وإهانته،
ونطق القرآن الكريم بحرمة الهمز واللمز (4).

1 - ظاهر المحقق في الجامع المقاصد 4: 26 باختصاصه بالشعر.
2 - في فقه المذاهب: ولا يحل التغني بالألفاظ الدالة على هجاء الناس مسلمين كانوا أو
ذميين (فقه المذاهب الأربعة 2: 42).
3 - راجع الوسائل: 12، باب 146 تحريم إهانة المؤمن وخذلانه: 265.
4 - قوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة، الهمزة: 1.
699

وأما الثاني فإن كان الخبر مطابقا للواقع، كهجو المؤمن بما فيه من
المعائب كان حراما، من جهة الغيبة والهتك والإهانة والتعيير والهمز،
وإن كان الخبر مخالفا للواقع كان حراما أيضا من نواحي شتى، لكونه كذبا
وبهتانا وإهانة وظلما وهمزا ولمزا.
ولا فارق في أفراد المؤمن بين العادل والفاسق غير المعلن، وقد تقدم
الكلام عليه في مبحث الغيبة (1).
بل يمكن أن يقال بحرمة هجو الفاسق المعلن بفسقه، فقد تقدم في
البحث عن مستثنيات الغيبة أن عمدة الدليل على جواز غيبة المتجاهر
في الفسق خروج ذلك عن دائرة الغيبة موضوعا، فإنها أن تقول في أخيك
ما ستره الله عليه، وما ارتكبه الفاسق المتجاهر من المعائب والمعاصي
ليس مما ستره الله عليه، ولكن لا قصور في شمول ما دل على حرمة
الهجو لانتقاص المتجاهر وذكره بما فيه من العيوب، عدا ما دل على
حرمته من حيث كونه غيبة.
نعم يجوز هجو الفاسق المتجاهر في الفسق إذا ترتبت على هجوه
مصلحة أهم من مصلحة احترامه، أو كان ممن لا يبالي بما قيل فيه،
وبذلك يحمل ما ذكره المصنف من الخبر: محصوا ذنوبكم بذكر
الفاسقين.
وأما هجو المخالفين أو المبدعين في الدين فلا شبهة في جوازه، لأنه
قد تقدم في مبحث الغيبة أن المراد بالمؤمن هو القائل بإمرة الأئمة الاثني
عشر (عليهم السلام)، وكونهم مفترضي الطاعة، ومن الواضح أن ما دل على حرمة
الهجو مختص بالمؤمن من الشيعة، فيخرج غيرهم عن حدود حرمة
الهجو موضوعا.

1 - قد تقدم في البحث عن اشتراط الايمان في حرمة الغيبة.
700

وقد تقدم في المبحث المذكور ما يرضيك في المقام ويقنعك،
بتخصيص حرمة الهجو بما ذكرناه.
وهل يجوز هجو المبدع في الدين أو المخالفين بما ليس فيهم من
المعائب، أو لا بد من الاقتصار فيه على ذكر العيوب الموجودة فيهم.
أما هجوهم بذكر المعائب غير الموجودة فيهم من الأقاويل الكاذبة،
فهي محرمة بالكتاب والسنة، وقد تقدم ذلك في مبحث حرمة الكذب،
إلا أنه قد تقتضي المصلحة الملزمة جواز بهتهم والازراء عليهم،
وذكرهم بما ليس فيهم افتضاحا لهم، والمصلحة في ذلك هي استبانة
شؤونهم لضعفاء المؤمنين، حتى لا يغتروا بآرائهم الخبيثة وأغراضهم
المرجفة، وبذلك يحمل قوله (عليه السلام): وباهتوهم كي لا يطمعوا في
الاسلام (1).
وكل ذلك فيما إذا لم تترتب على هجوهم مفسدة وفتنة، وإلا فيحرم
هجوهم حتى بالمعائب الموجودة فيهم.
وقد ظهر من مطاوي ما ذكرناه أن هجو المخالفين قد يكون مباحا،
وقد يكون مستحبا، وقد يكون واجبا، وقد يكون مكروها، وقد يكون
حراما، وبهذا الأخير يحمل قوله (عليه السلام) في رواية أبي حمزة عن قذف
المخالفين: الكف عنهم أجمل (2).

1 - قد تقدمت هذه الرواية في البحث عن حرمة سب المؤمن، وفي البحث عن جواز
الاغتياب لحسم مادة الفساد.
2 - عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: إن بعض أصحابنا يفترون ويقذفون
من خالفهم، فقال لي: الكف عنهم أجمل - الحديث (الكافي 8: 285، الرقم 431)، مجهولة
للحسن بن عبد الرحمان، وضعيفة لعلي بن العباس.
701

المسألة (28)
حرمة الهجر
قوله: الثامنة والعشرون: الهجر.
أقول: الهجر - بالضم - هو الفحش والقبيح من القول، ولا خلاف بين
المسلمين بل بين العقلاء في مبغوضيته وحرمته.
وقد ورد في الروايات المتواترة (1) أن البذاء والفحش على المؤمن
حرام، وفي رواية سليم بن قيس: أن الله حرم الجنة على كل فحاش
بذي، قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له (2).
وفي صحيحة عبد الله بن سنان: ومن خاف الناس لسانه فهو في
النار (3).
وفي صحيحة أبي عبيدة: البذاء من الجفاء، والجفاء في النار (4).
وفي موثقة ابن فضال: من علامات شرك الشيطان الذي لا شك فيه
أن يكون فحاشا لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه (5).
وفي بعض الأحاديث: من فحش على أخيه المسلم نزع الله منه بركة
رزقه، ووكله إلى نفسه، وأفسد عليه معيشته (6).
وفي أصول الكافي بسند صحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: كان

1 - راجع الوسائل: 16، باب 72 تحريم البذاء من جهاد النفس: 34.
2 - الكافي 2: 244، عنه الوسائل 16: 35.
3 - الفقيه 4: 254، عنه الوسائل 16: 34.
4 - الكافي 2: 245، عنه الوسائل 16: 35.
5 - الكافي 2: 243، عنه الوسائل 16: 31.
6 - الكافي 2: 245، عنه الوسائل 16: 32.
702

في بني إسرائيل رجل فدعا الله أن يرزقه غلاما ثلاث سنين، فلما رأى أن
الله لا يجيبه، فقال: يا رب أبعيد أنا منك فلا تسمعني أم قريب أنت مني
فلا تجيبني، قال: فأتاه آت في منامه فقال: إنك تدعو الله منذ ثلاث
سنين بلسان بذي وقلب عات غير تقي، ونية غير صادقة، فاقلع عن
بذائك، وليتق الله قلبك، ولتحسن نيتك، قال: ففعل الرجل ذلك ثم دعا
الله، فولد له غلام (1).
وفي وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: يا علي أفضل الجهاد من
أصبح لا يهم بظلم أحد، يا علي من خاف الناس لسانه فهو من أهل النار،
يا علي شر الناس من أكرمه الناس اتقاء شره وأذى فحشه، يا علي شر
الناس من باع آخرته بدنياه وشر منه من باع آخرته بدنيا غيره (2).

1 - الكافي 2: 324.
رواه في قصص الأنبياء: 181، عنه البحار 14: 490، 93: 370، المستدرك 5: 188.
2 - الكافي 2: 327.
703

النوع الخامس
ما يجب على الانسان فعله عينا أو كفاية تعبدا أو توصلا على المشهور
أخذ الأجرة على الواجبات
قوله: الخامس مما يحرم التكسب به: ما يجب على الانسان فعله عينا أو كفاية تعبدا
أو توصلا على المشهور.
أقول: اختلفت كلمات الأصحاب في هذه المسألة على أقوال:
1 - ما ذكره المصنف من المنع مطلقا (1).
2 - ما حكاه المصنف عن المصابيح عن فخر المحققين، من التفصيل
بين التعبدي فلا يجوز، وبين التوصلي فيجوز (2).
3 - ما نقله المصنف عن فخر المحققين في الإيضاح، من التفصيل بين
الكفائي التوصلي فيجوز، وبين غيره فلا يجوز (3).
4 - ما ذكره في متاجر الرياض، من التفصيل بين الواجبات التي تجب
على الأجير عينا أو كفاية وجوبا ذاتيا فلا يجوز، وبين الواجبات الكفائية
التوصلية فيجوز، كالصناعات الواجبة كفاية لانتظام المعاش (4).

1 - أنظر المسالك 3: 130، مجمع الفائدة 8: 89، جامع المقاصد 4: 37، الرياض 1: 505.
2 - المصابيح: 59 (مخطوط).
3 - الإيضاح 2: 264.
4 - الرياض 1: 505.
704

5 - ما نسب إلى السيد المرتضى من القول بالجواز في الكفائي كتجهيز
الميت (1).
وهذه النسبة موهونة بما ذكره المصنف، من أن السيد مخالف في
وجوب تجهيز الميت على غير الولي لا في حرمة أخذ الأجرة على
تقدير الوجوب عليه، فهو مخالف في الموضوع لا في الحكم.
6 - التفصيل بين ما كان الغرض الأهم منه الآخرة فلا يجوز، وبين ما
كان الغرض الأهم منه الدنيا فيجوز، وقد ذهب إليه مفتاح الكرامة (2).
7 - ما حكاه في البلغة عن جده في المصابيح، من التفصيل بين التعبدي
منه والتوصلي، فمنع في الأول مطلقا وفصل في الثاني بين الكفائي منه
والعيني، فجوز في الأول مطلقا وفصل في الثاني بين ما كان وجوبه
للضرورة أو لحفظ النظام، فجوز في الأول ومنع في الثاني مطلقا، سواء
كان الواجب ذاتيا أم غيريا.
8 - ما يظهر من المصنف من التفصيل بين العيني التعييني والكفائي
التعبدي فلا يجوز، وبين الكفائي التوصلي والتخييري فيجوز، ويظهر
منه التردد في التخييري التعبدي.
9 - ما هو المختار عندنا، من جواز أخذ الأجرة على الواجب مطلقا.
وقد وقع الخلاف أيضا في هذه المسألة بين فقهاء العامة (3).

1 - لم نقف عليه فيما بأيدينا من كتب السيد ورسائله، نعم حكاه عنه الشهيد في الدروس
3: 172.
2 - مفتاح الكرامة 4: 93.
3 - في فقه المذاهب عن الحنفية: لا يصح الاستئجار على كل طاعة يختص بها المسلم،
ولكن المتأخرين منهم جوزوا أخذ الأجرة على الأذان وتعليم القرآن والإمامة والوعظ، وعن
المالكية: لا يصح الاستئجار على طاعة مطلوبة من الأجير طلب عين إذا لم تقبل النيابة،
كالصلاة وإلا فيصح، وأما الأعمال المطلوبة كفاية فتجوز الإجارة عليها بلا خلاف، والتزموا
بجواز أخذ الأجرة على الإمامة مع الأذان، وعن الشافعية لا تصح الإجارة على الطاعات، وقد
استثني منها الإجارة على بعض الأمور المستحبة، كالإمامة والتدريس والأذان وتعليم القرآن
والفقه والحديث، وعن الحنابلة: لا تصح الإجارة على فعل قربي كالصلاة والأذان وغيرهما،
نعم يصح أخذ الجعل عليها بعنوان الجعالة (فقه المذاهب 3: 169 - 188).
705

ولا يخفى أن غير واحد من أرباب الأقوال المذكورة قد ادعى الاجماع
على رأيه، ولكنه ليس من الاجماع التعبدي، فإن من المحتمل القريب
أن المجمعين قد استندوا في فتياهم بالحرمة إلى غير الاجماع من الوجوه
المقررة في المسألة، على أنه يصعب على الفقيه دعوى الاجماع على
نحو الموجبة الكلية مع ما اطلعت عليه من الاختلافات والتفاصيل.
نعم قد نقل الاجماع تلويحا أو تصريحا في بعض الموارد الجزئية،
كالقضاء والشهادة، وتعليم صيغة النكاح أو القائها على المتعاقدين.
مقدمة نافعة في بيان موضوع أخذ الأجرة على الواجب:
قبل التعرض لحكم المسألة وبيان الحقيقة فيها نقدم أمرا لبيان
موضوعها، واجماله أن موضوع البحث في المقام إنما هو جهة العبادة
وجهة الوجوب فقط ومانعيتهما عن صحة الإجارة وعدمها، بعد الفراغ
عن سائر الجهات والحيثيات التي اعتبرها الشارع المقدس في عقد
الإجارة، كأن لا يكون العمل المستأجر عليه مما اعتبرت المجانية فيه
عند الشارع.
وهذا لا يختص بالواجب بل يجري في المستحبات أيضا، كاستئجار
المؤذن للأذان، واستئجار المعلم للتدريس، واستئجار الفقيه للافتاء،
706

واستئجار القاري لقراءة القرآن، وقد يجري في المكروهات أيضا،
كاستئجار فحل الضراب للطروقة.
وهذه الأمثلة مبنية على تعلق غرض الشارع بمجانية الأمور المذكورة
وحرمة أخذ الأجرة عليها أو كراهته.
ثم إن بعضهم ذكر أن من شرائط الإجارة أن تكون منفعة العين
المستأجرة عائدة إلى المستأجر، ورتب عليه بطلان إجارة المكلف
لامتثال فرائضه من الصلاة والصوم والحج وغيرها، وبطلان الإجارة
للاتيان بالمستحبات لنفسه، كالنوافل اليومية والليلية، وغير ذلك من
الموارد التي يكون النفع فيها راجعا إلى الأجير أو إلى شخص آخر غير
المستأجر.
والوجه في ذلك، أن حقيقة الإجارة هي تبديل منفعة معلومة بعوض
معلوم، فلا بد من وصول المنفعة إلى المستأجر، لأنه الدافع للعوض
المعلوم وإلا انتفت حقيقة الإجارة، إذ يعتبر في التبديل أن يقوم كل من
العوض والمعوض مكان الآخر، بحيث يدخل كل منهما في المكان
الذي خرج منه الآخر، وسيأتي اعتبار ذلك أيضا في حقيقة البيع.
وفي البلغة: أن الإجارة بدون هذا الشرط سفهية وأكل للمال بالباطل،
ولذا لا تصح الإجارة على الأفعال العبثية وابداء الحركات اللاغية،
كالذهاب إلى الأمكنة الموحشة ورفع الأحجار الثقيلة - انتهى ملخص
كلامه.
والتحقيق أن يقال: إن حقيقة الإجارة لا تقتضي إلا دخول العمل في
ملك المستأجر قضاء لقانون المبادلة، وأما كون المنفعة راجعة إليه
فلا موجب له.
707

وأما حديث سفهية المعاملة فيرد عليه أولا: أنك قد عرفت مرارا
وستعرف في مبحث البيع إن شاء الله أنه لا دليل على بطلان المعاملة
السفهية، وإنما الدليل على بطلان معاملة السفيه، والدليل هو كونه
محجور التصرف في أمواله.
وثانيا: قد تقدم في البحث عن بيع الأبوال وغيره، وسنعود عليه في
مبحث البيع أن آية التجارة غريبة عن شرائط العوضين، بل هي راجعة إلى
حصر أسباب المعاملة في الصحيح والباطل.
هذا، مع أن الدليل أخص من المدعى، فإن المستأجر قد ينتفع بعود
النفع إلى غيره، كما إذا استأجر شخصا على امتثال فرائض نفسه لكي
يتعلم المستأجر منه أحكام فرائضه، أو كان المستأجر من الأمرين
بالمعروف والناهين عن المنكر، وأراد باستئجار المكلفين على امتثال
فرائضهم إظهار عظمة الاسلام واخضاع المتمردين والعاصين.
وعلى الجملة أن البحث هنا يتمحض لبيان أن صفة الوجوب أو صفة
العبادية مانعة عن انعقاد الإجارة أم لا، بعد الانتهاء عن سائر النواحي التي
اعتبرت في عقد الإجارة.
أن صفة العبادية لا تنافي الإجارة:
مقتضى القاعدة جواز أخذ الأجرة على مطلق العبادات، سواء أكان
الأخذ بعنوان الإجارة أم بعنوان الجعالة، إذا تم سائر الشروط المعتبرة
فيهما، ولا شبهة أن صفة العبادية لا تنافي الإجارة والجعالة، وإذن
فعمومات صحة المعاملات محكمة.
وقد أورد على هذا الرأي بوجوه:
708

1 - إن العبادات لا بد وأن تؤتى بقصد القربة، وأخذ الأجرة عليها
ينافي القربة والاخلاص، والوجه فيه أن عقد الإجارة يوجب انقلاب
داعي الاخلاص في العمل المستأجر عليه إلى داعي أخذ الأجرة، ومن
الواضح أن قيد الاخلاص مأخوذ في العمل المستأجر عليه، فيلزم من
صحة الإجارة فسادها.
وفيه: أن هذا الوجه لا يرجع عند التحقيق إلى محصل، وتوضيح ذلك أنه يدعى تارة أن العمل الخارجي إنما يؤتى به بداعي تملك الأجرة وهو
ينافي قصد الاخلاص، وأخرى يدعى أنه يؤتى به بداعي تسلم الأجرة
خارجا، وثالثة يدعى أنه يؤتى به بداعي استحقاق مطالبتها.
أما الدعوى الأولى فهي واضحة البطلان، ضرورة أن تملك الأجرة
إنما يكون بنفس الايجار لا بالعمل الخارجي، فالعمل أجنبي عنه بالمرة.
وأما الدعوى الثانية فهي أيضا كذلك، ضرورة أنه يتمكن الأجير من
التسلم بغير العمل في بعض الموارد، وبالعمل الخالي من قصد القربة في
جميعها، فلا يكون الداعي إلى العمل بما هو عبادي غير قصد القربة،
ولو من جهة خوفه من العذاب، لأجل عدم تسليمه العمل إلى مالكه.
وأما الدعوى الثالثة فهي وإن كانت صحيحة في بعض الموارد، وهو
ما إذا أمتنع المستأجر من التسليم قبل العمل، إلا إن الاتيان به لأجل ذلك،
أي لأجل أن يستحق المطالبة شرعا، لا ينفك عن قصد القربة في العمل،
وذلك من جهة تمكن المكلف من الاتيان به بغير قصد القربة والزامه
المستأجر تسليم الأجرة، فاتيانه بالعمل لأجل الاستحقاق شرعا لا ينفك
عن قصد القربة.
وعلى الجملة بعد ما كان الأجير متمكنا من المطالبة وتسليم الأجرة
بغير العمل الصحيح فلا يكون داعيه إلى الاتيان بالعمل الصحيح غير
709

قصد القربة، ولعله إلى ذلك نظر من أجاب عن الاشكال المزبور بأن دعوة
أخذ الأجرة في طول دعوة الأمر لغو من باب الداعي إلى الداعي.
2 - إنه يعتبر في دواعي امتثال العبادات كونها جهات قريبة، بحيث
تنتهي سلسلة العلل والدواعي فيها بجميع حلقاتها إلى الله تعالى، ومتى
كان فيها داعي غير قربي خرج العمل عن العبادية وعن تمحضه لله، وإن لم يكن الداعي غير القربى في عرض الداعي الإلهي.
وفيه: إنا قد حققنا في مبحث النية من كتاب الصلاة أنه يشذ في العباد
من يأتي بالعبادة بجميع مقدماتها ومقارناتها ومؤخراتها ودواعيها
خالصة لوجه الله الكريم، وطلبا لرضاه، وكونه أهلا للعبادة والإطاعة،
بل يقصد غالب الناس في عباداتهم الجهات الراجعة إليهم من المنافع
الدنيوية والأخروية.
ولا تنافي هذه الدواعي الراجعة إليهم عبادية العبادة، إلا إذا دل دليل
على ابطال بعضها للعبادة كما في الرياء، فقد ورد في الأخبار المتظافرة (1)
أن الرياء لا يدخل عملا إلا وأفسده.
و توضيح الجواب اجمالا: أن الغاية القصوى من العبادة قد تكون هي
الله فقط، من دون أن يشوبها غرض آخر من الأغراض الدنيوية أو
الجهات الأخروية، وضروري أن هذا النمط من الامتثال منحصر في
الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) والأنبياء المرسلين (عليهم السلام)، فقد قال أمير المؤمنين
(عليه السلام): ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك، لكن وجدتك أهلا
للعبادة فعبدتك (2).

1 - راجع الوسائل: 1، باب 12 بطلان العبادة بالرياء من مقدمة العبادة: 70، والمستدرك
1: 109.
2 - مرآة العقول 2: 101.
710

وقد تكون الغاية من العبادة هي الله، ولكن بداعي التملق والخضوع
لحفظ الجهات الدنيوية، بأن يجعلها العبد وسيلة لازدياد النعمة والعزة
وسببا لارتفاع الشأن والمنزلة، وترسا لدفع النقمة والهلكة، وقد أشير
إلى هذا في الكتاب بقوله تعالى: لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن
عذابي لشديد (1).
وقد تكون الغاية من العبادة هي الله بداعي الخشية من غضبه والخوف
من ناره التي أعدت للعاصين، وبداعي التعرض لرحمته الواسعة،
والوصول إلى الحور والقصور والجنة، التي عرضها كعرض السماوات
والأرض، وهذه المرتبة أرقى من المرتبة الثانية، وقد أشار إلى هذا بقوله
تعالى: وادعوه خوفا وطمعا (2)، وبقوله تعالى: ويدعوننا رغبا
ورهبا (3)، وقد ورد في كثير من الأدعية، كدعاء أبي حمزة الثمالي وغيره
، تعليل الايمان بالله والعبادة له بالخوف والخشية والطمع، وهذا واضح
لا غبار عليه.
وقد تكون الغاية من العبادة هي التقرب إلى الله وتحصيل رضاه، من
غير أن يقترن بها غرض آخر من الأغراض الدنيوية أو الأخروية، وهذه
المرتبة أرقى من المرتبة الثانية والثالثة، وهي مختصة بالعارفين بالله
والسالكين إليه، ولا يناله إلا القليل من الموحدين، كسلمان والمقداد
وأبي ذر وفريق من الأكابر.
وقد اتضح مما ذكرنا أن الغرض من العبادة في هذه الدرجات الثلاث
الأخيرة هو انتفاع العبد حتى في الدرجة الأخيرة، أعني المرتبة الرابعة،

1 - إبراهيم: 7.
2 - الأعراف: 54.
3 - الأنبياء: 90.
711

فإن مآل تحصيل رضى الله والتقرب إليه هو صيرورة العبد محبوبا لدى
الله، لكي يجيب دعوته ويدفع شدته ويقضي حوائجه.
وعلى هذه المناهج المذكورة في السير إلى الله والتوجه إلى رحمته
وغفرانه، والفوز بنعمه ورضوانه لا تخلو عبادة إلا وقد قصد العبد فيها
أن يصل إليه نفع من المنافع حسب اختلافها باختلاف الأغراض، وقد
عرفتها، نعم الدرجة الأولى، وهي عبادة الأئمة (عليهم السلام) خالية عن هذا
القصد، ولكنها مختصة بهم (عليهم السلام).
وقد انجلى أن رجوع شئ من دواعي العبادة لغير الله لا ينافي
الاخلاص فيها والتقرب إلى الله بها.
ويشير إلى ما ذكرناه ما رواه الكليني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال:
العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز وجل خوفا فتلك عبادة العبيد، وقوم
عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا
الله حبا له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة (1).
ومن هنا اتضح بطلان ما ذهب إليه بعضهم من فساد العبادة المأتي بها
لأجل الثواب ودفع العقاب (2).
3 - إن دليل صحة الإجارة هو عموم: أوفوا بالعقود (3)، ويستحيل

1 - الكافي 2: 68، عنه الوسائل 1: 62، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
2 - نقل في البحار عن الفخر الرازي في تفسيره الكبير أنه نقل اتفاق المتكلمين على أن
من عبد الله لأجل الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب لم تصح عبادته، وأورده عند تفسير
قوله تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية.
وعن المحقق البهائي: أنه ذهب كثير من العلماء الخاصة والعامة إلى بطلان العبادة إذا قصد
بفعلها تحصيل الثواب أو الخلاص من العقاب، وقالوا إن هذا مناف للاخلاص.
3 - المائدة: 1.
712

شموله للمقام، لأن الوفاء بالشئ عبارة عن اتمامه وانهائه، فالوفاء بعقد
الإجارة هو الاتيان بالعمل المستأجر عليه أداء لحق المستأجر، وواضح
أن هذا لا يجتمع مع الاتيان به أداء لحق الله وامتثالا لأمره، وإذن فلا بد
من قصد أحد الأمرين: إما الوفاء بالعقد، أو الامتثال لأمر المولى، وحيث
لا يعقل اجتماعهما في محل واحد، فلا بد من رفع اليد من الأمر بالوفاء
فتصبح الإجارة بلا دليل على الصحة.
وفيه أولا: إن الوفاء بالعقد وإن كان عبارة عن اتمامه وانهائه إلا أن هذا
المعنى لا يتوقف على عنوان خاص، بل يكفي فيه ايجاد متعلق العقد
فقط في الخارج بأي نحو اتفق، وعليه فلا مانع في كون العمل الواحد
الذي تعلقت به الإجارة مصداقا لعنواني العبادة والعمل المستأجر عليه
معا.
نعم لو كان الظاهر من دليل وجوب الوفاء بالعقد هو ايجاد العمل
المستأجر عليه في الخارج بداعي اختصاصه بالمستأجر من جميع
الجهات لاستحال اجتماع قصد الوفاء بالعقد مع قصد التقرب إلى الله،
ولكنه دعوى جزافية.
وثانيا: إن دليل صحة الإجارة لا ينحصر بآية الوفاء بالعقد، لكي يلزم
من عدم شمولها للمقام بقاؤه خاليا عن دليل الصحة، بل في آية التجارة
عن تراض غنى وكفاية.
فإن قيل: إن الأمر الإجاري المتعلق بالفعل المستأجر عليه توصلي
والأمر العبادي المتعلق به عبادي، وعليه فيلزم أن يكون فعل واحد
مأمورا به بأمرين متخالفين، وهو محال.
قلنا: إن الأمر الجاري المتعلق بالعبادة أيضا أمر عبادي، فإن وجوب
تسليم العمل المستأجر عليه إلى مالكه حكم كلي انحلالي من غير أن
713

يكون له شأن من التعبدية أو التوصلية، بل يتصف بهما بلحاظ وصف
متعلقه، وعليه فإن كان متعلق الأمر الإجاري توصليا فهو توصلي، وإن
كان تعبديا فهو تعبدي.
وعلى هذا فإذا تعلقت الإجارة بعبادة كان الأمر الناشئ منها عباديا
أيضا، فأصبح مؤكدا للأمر العبادي المتعلق بها في نفسها مع قطع النظر
عن الايجار، كما ذهب إليه كاشف الغطاء وتلميذه صاحب الجواهر.
وتوضيح ذلك: إنا قد ذكرنا في البحث عن التعبدي والتوصلي من علم
الأصول أن قصد القربة مأخوذ في متعلق الأمر الأول على ما قويناه، وفي
متعلق الأمر الثاني على ما اختاره شيخنا الأستاذ.
وعلى كل حال فالأمر قد تعلق بامتثال العمل بقصد القرية، ومن
الواضح أن الأمر الإجاري قد تعلق بهذا أيضا، إذ المفروض كون العمل
المذكور موردا للإجارة، فمتعلق الأمرين شئ واحد، فلا محالة يندك
أحدهما في الآخر، ويكون الوجوب مؤكدا كما في غير المقام.
وقد اتضح مما ذكرناه أنه لا وجه لما ذكره بعض مشائخنا المحققين
من استحالة التأكد حتى في النذر ونحوه، وحاصل ما ذكره:
أن الأمر الصلاتي متعلق بذات العمل والأمر الإجاري أو النذري أو
نحوهما متعلق بالعمل الواجب المقيد بقصد القرية والامتثال، ومن
الواضح أنه لا يعقل التأكد في ذلك - الذي معناه خروج الطلب في
موضوعه عن مرتبة الضعف إلى مرتبة الشدة - لأن الالتزام به يستلزم تعلق
الأمر بالوفاء بما هو غير وفاء، بداهة أنه لا يعقل أن يكون الأمر الإجاري
بمنزلة: صل، بل هو بمنزلة: صل عن قصد القربة، فيكون توصليا
دائما.
ويدل على ما اخترناه من صحة تعلق الإجارة بالعبادة أمور:
714

1 - إن المؤجر كما عرفت إنما يملك الأجرة بعقد الإجارة من غير أن
يتوقف ذلك على ايجاد العمل المستأجر عليه في الخارج، وإنما
اشتغلت ذمة الأجير بايجاد متعلق الإجارة، ولو كان الغرض في الاتيان
بالعمل المستأجر عليه هو تملك الأجرة فقط لكان ايجاد العمل لأجل
ذلك تحصيلا للحاصل، وعليه فالداعي إلى الاتيان بما اشتغلت به ذمة
الأجير من العبادة ليس إلا أمر المولى والخوف الإلهي دون تملك
الأجرة.
ولا يفرق في ذلك بين مراقبة المستأجر على الأجير للاتيان بالعمل
وعدم مراقبته عليه، فإن شأن العبادات ليس شأن الأفعال الخارجية
المحضة، كالخبازة والبناية والنجارة ونحوها لكي يكون حضور
المستأجر دخيلا في تحقق العمل واتقانه، بل العبادات مشروطة بالنية
وهي أمر قلبي لا يطلع عليها في أفق النفس إلا علام الغيوب، أو من
ارتضاه لغيبه.
2 - إنه لا شبهة في صحة تعلق النذر أو العهد أو اليمين بالنوافل
وصيرورتها لازمة بذلك، كما لا شبهة في صحة اشتراطها في العقود
اللازمة وكونها واجبة بذلك، ولم يستشكل أحد في كون هذه الأوامر
الطارئة عليها منافية للاخلاص المعتبر فيها، وواضح أنه لا فارق بين ذلك
وبين ما نحن فيه.
3 - قد ورد في الأخبار المستفيضة بل المتواترة الترغيب إلى
العبادات، بذكر فوائدها ومثوباتها، والترهيب عن تركها بذكر مستتبعاتها
من الهلكة والعقوبة، ويتجلي لك من هذه الأخبار أنه لا بأس بامتثال
العبادات لجلب المنافع المترتبة على فعلها ودفع المضرات المترتبة
على تركها، ولا فرق في هذه الجهة بين المقام وبينها.
715

ومن هذا القبيل ما وردت في الشريعة المقدسة عبادات من الأدعية
والنوافل لشتى الأغراض الدنيوية، كسعة الرزق وقضاء الحوائج، وأداء
الدين وارتزاق الولد، ودفع الشرور وعلاج المصاب، وغيرها من
الجهات الدنيوية، ولم يتوهم أحد منافاتها للاخلاص، مع أنها من
المنافع الدنيوية، والظاهر أنه لا فارق بينها وبين المقام.
وقد أشكل عليه المصنف (رحمه الله) بأنه فرق بين الغرض الدنيوي المطلوب
من الخالق الذي يتقرب إليه بالعمل، وبين الغرض الحاصل من غيره،
وهو استحقاق الأجرة، فإن طلب الحاجة من الله سبحانه ولو كانت
دنيوية محبوب عند الله، فلا يقدح في العبادة، بل ربما يؤكدها.
وقد سجل هذا الاشكال غير واحد من الأعاظم، كصاحب البلغة
وغيره.
وفيه: أن غرض المكلف من الاتيان بالصلاة مثلا قد يكون سعة الرزق
وغيرها، بحيث لا يتوسط التقرب في البين أصلا، فلا شبهة في بطلان
هذا النحو من العبادة، من غير فرق بين ما نحن فيه وبين العبادات ذات
النتائج الدنيوية كصلاة جعفر (عليه السلام) وغيرها، وقد تكون غاية المكلف
غاية من العبادة والتقرب من الله، بحيث يكون طالبا لها بعبادته وتقربه من
المولى، فهذا لا ينافي العبادية، وما نحن فيه من هذا القبيل، وعليه
فلا فارق بين المقامين.
وقد يتوهم أن قصد التقرب إنما يتمشى في خصوص الإجارة، لأنك
قد عرفت أن الأجرة فيها تملك بمجرد العقد وأن امتثال العبادات
المستأجر عليها يستند إلى أمر المولى، إلا أن ذلك لا يجري في الجعالة،
إذ العامل فيها لا يستحق الجعل ولا يملكه إلا باتمام العمل، فيستند
امتثال العبادة إلى داعي تحصيل الجعل، وهو مناف للاخلاص فيها.
716

وجوابه يظهر مما تقدم، فإن تحصيل الجعل وإن كان داعيا إلى
الامتثال، ولكن الداعي إلى الاتيان بالعبادة على وجهها الصحيح هو أمر
الشارع والخوف الإلهي، إذ لولا ذلك فإن العامل يمكنه أن يأتي بالعمل
خاليا عن بعض الشرائط التي لا يطلع عليها غير علام الغيوب، ويخيل إلى
الجاعل أنه امتثله على وجه صحيح.
وعلى الجملة لا نعرف وجها صحيحا لبطلان العبادات التي تنتهي
بالآخرة إلى استحقاق الأجرة، ولا نرى فيها جهة مخالفة للاخلاص
والتقرب.
إن صفة الوجوب لا تنافي الإجارة:
قد انقسم الواجب إلى تخييري وكفائي وعيني، فإن وقع أحد
القسمين الأولين موضوعا للإجارة أو الجعالة، وكان مصب الإجارة أو
الجعالة هو مصب الوجوب، كان المقام من صغريات أخذ الأجرة على
الواجب، وسيتضح لك حكمه.
وإن كان مصب الإجارة أو الجعالة هو خصوص الفرد بحيث يعين فرد
من أفراد التخييري أو شخص من أشخاص المكلفين للامتثال، فإنه
لا شبهة في جواز أخذ الأجرة والجعل عليه، بل هو خارج عن موضوع
أخذ الأجرة على الواجب.
والوجه في ذلك أن ما تعلق به الوجوب في الواجبين التخييري
والكفائي إنما هو الجامع، أعني عنوان أحد الأفراد في الأول، وعنوان
أحد المكلفين في الثاني.
ومن الواضح أن ايقاع الإجارة أو الجعالة على الاتيان بفرد خاص أو
على مباشرة شخص معين وأخذ الأجرة أو الجعل على تلك الخصوصية
717

ليس من قبيل أخذ الأجرة على الواجب، فإن ما أخذت عليه الأجرة ليس
بواجب وما هو واجب لم تؤخذ عليه الأجرة.
وبما ذكرناه يظهر الحال فيما إذا انحصر الواجب الكفائي في شخص
أو الواجب التخييري في نوع، فإنهما وإن تعينا في ذلك النوع أو على
ذلك الشخص حينئذ، ولكن الواجب على المكلف هو طبيعي الدفن مثلا
في الكفائي وطبيعي العتق مثلا في التخييري، بحيث له أن يدفن الميت
في أي مكان يريد، وله أن يعتق أي فرد من أفراد الرقاب، فإذا وقعت
الإجارة أو الجعالة على تعيين فرد خاص منهما صح ذلك ولم يكن أخذ
الأجرة عليه من قبيل أخذ الأجرة على الواجب.
ثم إنه لا فارق فيما ذكرناه بين كونهما تعبديين وكونهما توصليين.
وقد اتضح من ذلك كله أنه لا جدوى لتطويل الكلام في تحقيق
الواجبين التخييري والكفائي، كما فعله بعض مشائخنا المحققين
وغيره.
وقد يقال: إن الخصوصيات الفردية وإن لم تكن واجبة بالأصالة على
الفرض إلا أنها واجبة بوجوب تبعي مقدمي، فيكون أخذ الأجرة عليها
من قبيل أخذ الأجرة على الواجب.
وفيه: أنا قد حققنا في علم الأصول أن وجوب المقدمة إنما هو
وجوب عقلي فلا يقاس بالوجوب الشرعي، ويضاف إلى ذلك أن مقدمية
الفرد للكلي ليست من المقدمية المصطلحة كما هو واضح.
وأما الواجب العيني، فإن كان مصب الإجارة أو الجعالة فيه
الخصوصية الفردية صح ذلك بلا شبهة، وقد تقدم نظيره في الواجبين
التخييري والكفائي، وإن كان مصبهما مصب الوجوب فقد علمت
اختلاف فقهائنا وفقهاء العامة في حكم أخذ الأجرة على الواجب،
718

فمقتضى القاعدة هو الجواز مطلقا، للعمومات الدالة على صحة العقود
والمعاملات.
ولكن أشكل عليه بوجوه:
1 - إن علم الحر في حد ذاته ليس بمال، وإنما يقابل بالمال لاحترام
عمل المسلم، ومع الوجوب يسقط عن الاحترام.
ولكنك قد عرفت في أول الكتاب أن أعمال كل شخص مملوكة له
ملكية ذاتية تكوينية، وله واجدية له فوق مرتبة الواجدية الاعتبارية
ودون مرتبة الواجدية الحقيقية لمكون الموجودات، وعليه فدعوى أن
عمل الحر ليس بملك دعوى جزافية، ولا شبهة أن هذه الأعمال
المضافة إلى الحر موضع لرغبات العقلاء ومنافساتهم، فتكون أموالا في
نفسها، وتجوز مقابلتها بالمال.
ومع الاغضاء عن ذلك، فإنها تكون أموالا بمجرد وقوع المعاملة
عليها، وشأنها حينئذ شأن الكلي، إذ الكلي قبل إضافته إلى شخص
خاص لا يتصف بالمملوكية والمالية كلتيهما، وإذا أضيف إليه ولو حين
قوله: بعتك منا من الحنطة مثلا اتصف الكلي بالمالية والملكية، ومن هنا
يجوز بيع الكلي في الذمة ويحكم بضمان عمل الحر إذا فوته أحد بعد أن
ملكه الغير بالإجارة وغيرها.
2 - ما ذكره المصنف، من أن عمل الحر وإن كان مالا ولكن الانسان إذا
تكلف بذلك العمل من قبل الشارع فقد زال احترامه، لأن عامله مقهور
على ايجاده، فيكون أخذ الأجرة عليه أكلا للمال بالباطل.
وفيه أولا: أن آية النهي عن أكل المال بالباطل غريبة عن شرائط
العوضين، وقد تقدم بيان ذلك مرارا عديدة.
وثانيا: أن المقهورية على الفعل من قبل الشارع وكونه واجبا بأمره
719

لا تنافي المقهورية عليه من قبل الإجارة أيضا، فيكون لازم الامتثال من
ناحيتين، وهذا نظير شرط امتثال الواجب في ضمن العقد.
وتظهر الثمرة فيما إذا خالف الأجير عن أمر ربه ولم يمتثل الواجب،
ولم يمكن اجباره على الامتثال من ناحية الأمر بالمعروف، فإنه يجوز
للمستأجر أن يجبره على الامتثال ولو بمراجعة المحاكم المختصة.
3 - ما أفاده شيخنا الأستاذ، من أن الإجارة والجعالة قد اعتبر فيهما أن
لا يكون العامل أو الأجير مسلوب الاختيار بايجاب أو تحريم شرعي، بل
لا بد من أن يكون الفعل أو الترك تحت سلطنته واختياره، وإلا فلا يكون
مالا في نظر العرف.
ولكنك قد عرفت في البحث عن معنى حرمة البيع أنه لا تجوز
المعاملة على الأفعال المحرمة، كالكذب والغيبة والزناء وغيرها، فإن
الأدلة الدالة على حرمتها لا تجتمع مع العمومات الدالة على صحة
المعاملات ولزومها، فإن مقتضى هذه العمومات نفوذ المعاملة الواقعة
على الأفعال المحرمة ولزومها، وأدلة المحرمات تقتضي المنع عن
ايجادها في الخارج، فهما متناقضان.
ومع الاغضاء عن ذلك فهما لا يجتمعان في نظر العرف، وهذا
المحذور لا يجري في الواجبات، فإنه لا تنافي بينها وبين العمومات
المذكورة، كما لا منافاة بينها وبين الأوامر العبادية، وقد أوضحنا ذلك
آنفا.
وعليه فالتكاليف التحريمية وإن كانت تسلب القدرة الشرعية عن
المكلف ولكن التكاليف الوجوبية لا تنافيها بل تساعدها وتضاعفها.
وقد يتوهم أنه لا فارق في عدم القدرة على التسليم بين تعلق الإجارة
بالمحرمات والواجبات، فإن المكلف في كليهما يكون عاجزا شرعا عن
720

ايجاد متعلق التكليف، إذ القدرة لا بد وأن تكون متساوية النسبة إلى
الطرفين الفعل أو الترك.
وفيه: أن اعتبار القدرة على التسليم إن كان مدركه الاجماع، فإنه على
فرض تحققه فإن المتيقن منه امكان وصول العمل المستأجر عليه إلى
المستأجر، فلا يدل على اشتراط كونه تحت اختيار الأجير فعلا وتركا،
وإن كان مدركه اقتضاء العقد بداهة وجوب الوفاء بتسليم العمل، فقد
عرفت أن الوجوب لا ينافيه، بل يتأكد كل منهما بالآخر، وإن كان مدركه
النبوي المشهور: نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر.
ففيه أولا: أن الاستدلال به غير تام من حيث السند والدلالة، وسيأتي
بيان ذلك في البحث عن بيع الغرر.
وثانيا: أنه لا غرر في المقام، لأن العمل ممكن الوصول إلى المستأجر
ولا دليل على اعتبار القدرة على التسليم أزيد من ذلك.
4 - ما نسب إلى شيخ المشائخ كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (1)،
من أن التنافي بين صفة الوجوب وأخذ العوض على الواجب ذاتي، لأن
العمل الواجب مملوك لله كالعمل المملوك للغير، فلا يصح أن يكون
موردا للإجارة، لأن تمليك المملوك ثانيا غير معقول، ولذا لا يجوز أخذ
الأجرة على عمل خاص قد وقعت عليه الإجارة قبل ذلك.
وفيه: إنا لو سلمنا استحالة توارد الملكين على مملوك واحد، فإنما
هي في الملكيتين العرضيتين، بأن يكون شئ واحد مملوكا لاثنين في
زمان واحد على نحو الاستقلال، ولا تجري هذه الاستحالة في الملكيتين
الطوليتين، بأن تكون سلطنة أحد الشخصين في طول سلطنة الآخر.

1 - شرح القواعد: 27 (مخطوط).
721

فإن هذا لا محذور فيه، بل هو واقع في الشريعة المقدسة، كسلطنة
الأولياء والأوصياء والوكلاء على التصرف في مال المولى عليهم
والصغار والموكلين، فإن ملكية هؤلاء في طول ملكية الملاك.
ومن هذا القبيل مالكية العبيد على أموالهم، بناء على جواز تملك
العبد، فإن مالكيتهم في طول مالكية مواليهم.
وكذلك في المقام، فإن مالكية المستأجر للعمل المستأجر عليه في
طول مالكيته تعالى لها، بل مالكية الملاك لأموالهم في طول مالكيته
تعالى لها، فإنه تعالى مالك لجميع الموجودات ملكية تكوينية ايجادية،
وهي المعبر عنها في اصطلاح الفلاسفة بالإضافة الاشراقية، وقد سلط
الانسان على سائر الموجودات وجعله مالكا لها، أما مالكية ذاتية كملك
الشخص لأعماله وذمته، وأما مالكية اعتبارية كمالكيته لأمواله.
ولعل إلى ما ذكرناه يرجع ما أفاده المصنف (رحمه الله)، من أنه: ليس
استحقاق الشارع للفعل وتملكه المنتزع من طلبه من قبيل استحقاق
الآدمي وتملكه، الذي ينافي تملك الغير واستحقاقه.
5 - ما نسب إلى الشيخ الكبير أيضا (1)، وهو أن من لوازم الإجارة أن
يملك المستأجر العمل المستأجر عليه بحيث يكون له الابراء والإقالة
والتأجيل لدليل السلطنة، وكل ذلك مناف لوجوب العمل المستأجر
عليه.
وفيه: أنك قد عرفت من مطاوي ما ذكرناه أن للواجب المستأجر عليه
ناحيتين: إحداهما حيثية وجوبه من قبل الله بأمر مولوي تكليفي،
وثانيتهما حيثية تعلق الأمر الإجاري به، ومن المقطوع به أن عدم صحة

1 - شرح القواعد: 27 (مخطوط).
722

الإقالة والابراء والتأجيل في الواجب إنما هو من ناحيته الأولى،
ولا ينافي ذلك أن تجري فيه تلك الأمور من ناحيته الثانية.
6 - ما ذكره شيخنا الأستاذ ثانيا، من أن الإجارة أو الجعالة الواقعة على
الواجب العيني من المعاملات السفهية، فتكون باطلة من هذه الجهة، فإن
من شرائط الإجارة أو الجعالة أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر
وفي الواجب العيني ليس كذلك.
ولكنك قد عرفت مرارا أنه لا دليل على بطلان المعاملة السفهية،
فتكون العمومات محكمة، على أنه لا شبهة في امكان الانتفاع بالواجب
المستأجر عليه، وإذن فتخرج المعاملة عن السفهية، وقد تقدم بيان ذلك
في المقدمة التي مهدناها للبحث عن أخذ الأجرة على الواجب.
7 - ما احتمله بعض مشائخنا المحققين ونسبه إلى أستاذه في مبحث
القضاء، وهو أن بذل العوض بإزاء ما تعين فعله على الأجير لغو محض،
فلا يكون مشمولا للعمومات.
8 - ما نسبه إلى بعض الأعلام، من أن الايجاب ينبعث عن مصلحة تعود
إلى المكلف، وأخذ الأجرة على ما يعود نفعه إليه أكل للمال بالباطل.
وقد ظهر جواب هذين الوجهين من الأجوبة المتقدمة.
وقد تجلى مما حققناه أن الاشكالات المذكورة لا ترجع إلى معنى
محصل تركن إليه النفس، والعجب من هؤلاء الأعلام فإنهم ناقشوا في
جواز أخذ الأجرة على الواجب، وأضافوا إليه شبهة بعد شبهة ونقدا بعد
نقد، حتى تكونت منها أمواج متراكمة، يندهش منها الناقد البصير في
نظرته الأولى: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في
الأرض (1).

1 - الرعد: 17.
723

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه سقوط جميع الأقوال المتقدمة غير ما
بنينا عليه من القول بالجواز على وجه الاطلاق، والله العالم.
قوله: ثم إن صلح ذلك الفعل المقابل بالأجرة لامتثال الايجاب المذكور أو اسقاطه
به أو عنده سقط الوجوب مع استحقاق الأجرة، وإن لم يصلح استحق الأجرة، وبقي
الواجب في ذمته لو بقي وقته، وإلا عوقب على تركه.
أقول: لا يخفى ما في هذه العبارة من القلق والاضطراب، وحاصل
مرامه أن الاتيان بالواجب المستأجر عليه قد يترتب عليه امتثال أمر
المولى واستحقاق الأجرة كلاهما، كما إذا استأجر أحدا لتطهير
المسجد فطهره بقصد امتثال أمر المولى، فإنه حينئذ يستحق الأجرة
ويعد ممتثلا، وكذلك الحال في الواجبات التعبدية على مسلكنا، إذ قد
عرفت أن أخذ الأجرة عليها لا ينافي جهة عبادتها.
وقد يكون الاتيان بالواجب المستأجر عليه موجبا لاستحقاق الأجرة
وسقوط الوجوب بغير امتثال، كتطهير المسجد وانقاذ الغريق والجهاد
وغيرها من الواجبات التوصلية، فإن الأجير حين ما يأتي بها بغير داعي
الأمر يستحق الأجرة، ولا يكون عمله هذا امتثالا للواجب على الفرض،
نعم يسقط عنه الواجب لفرض كونه توصليا، كما أنه يسقط عن بقية
المكلفين إذا كان الواجب كفائيا.
وقد يكون الاتيان بذلك العمل موجبا لاستحقاق الأجرة وسقوط
الوجوب، لا من جهة الاتيان بالواجب بل لارتفاع موضوع الوجوب، كما
إذا أوجب الشارع عملا بعنوان المجانية فأتى به العبد مع الأجرة، وهذا
كدفن الميت بناء على أنه واجب على المكلفين مجانا، فلو أتى به لا مجانا
لم يتحقق الواجب، فلا يكون مصداقا لواجب في الخارج، لأن
المفروض أنه مقيد بالمجانية وقد أتى به مع الأجرة، إلا إن الوجوب
724

يسقط عند ذلك لارتفاع موضوعه، ففي جميع هذه الصورة يتحقق
سقوط الوجوب واستحقاق الأجرة.
وهناك صورة رابعة لا يسقط الوجوب بالاتيان بالعمل المستأجر عليه
فيها، وإن كان الآتي بالعمل مستحقا لأخذ الأجرة على عمله، لكونه
محترما، وهذا كالعبادات الواجبة على المكلفين عينا، فإنه إذا أتى بها
المكلف بإزاء الأجرة وقلنا بمنافاتها لقصد القرية والاخلاص كما عليه
المصنف وجمع آخر لم يمتثل الواجب، وإن كان يستحق الأجرة
لاحترام عمله، وعليه فإن بقي وقت الواجب وجبت عليه الإعادة وإلا
عوقب على تركه، إذا لم يدل دليل على تداركه بالقضاء.
حقيقة النيابة على العبادات:
قد ذكرنا في مبحث التعبدي والتوصلي من علم الأصول أن الأصول
اللفظية والعملية تقتضي عدم سقوط التكاليف العبادية عن كل مكلف
باتيان غيره بها، فلا بد لكل مكلف أن يمتثل تكاليفه العبادية بالمباشرة،
وعليه فنيابة الشخص عن غيره في امتثال عباداته مع التقرب والاخلاص
تحتاج إلى الدليل، وإن ثبت امكانها في مقام الثبوت.
ولا شبهة في وقوع النيابة في العبادات الواجبة والمستحبة، بضرورة
الفقه نصا وفتوى (1).
ولا بأس بالتعرض للبحث عن تصوير امكانها في ذلك دفعا لما توهمه
بعض الأجلة من استحالة التقرب من النائب وحصول القرب للمنوب عنه،
نظرا إلى أن التقرب المعنوي كالتقرب الحسي المكاني لا يقبل النيابة.

1 - القواعد 1: 228، الذكرى: 75، جامع المقاصد 7: 152، مفتاح الكرامة 7: 164.
725

وقد ذكر غير واحد من الأعلام وجوها في تصوير النيابة عن الغير في
امتثال وظائفه بقصد التقرب والاخلاص:
1 - ما ذكره المصنف وحاصله: أن الأجير يجعل نفسه بدلا عن الميت
في الاتيان بتكاليفه متقربا بها إلى الله تعالى، فالمنوب عنه يتقرب إليه
تعالى بفعل نائبة وتقربه.
ولا شبهة أن هذا التنزيل في نفسه مستحب وإنما يصير واجبا
بالإجارة وجوبا توصليا، من غير أن يعتبر فيه قصد القربة في ذاته، بل
اعتباره فيه من جهة اعتباره في وظيفة المنوب عنه، لأن الأجير لا يخرج
عن عهدة التكليف إلا بالاتيان بالعمل المستأجر عليه بقصد الاخلاص،
فالأجير يجعل نفسه نائبا عن الغير في امتثال وظائفه متقربا بها إلى الله،
وإنما يأخذ الأجرة للنيابة فقط دون الاتيان بالعبادات.
فإن للنائب حين ما يأتي بالعمل فعلين: أحدهما قلبي من أفعال
الجوانح، وهو النيابة، وثانيهما خارجي من أفعال الجوارح، وهو العمل
المنوب فيه كالصلاة مثلا، وإذا تعدد الفعل ذاتا ووجودا فإنه لا بأس
بتعدد الغاية المترتبة عليهما، ولا تنافي بين أخذ الأجرة على النيابة وبين
الاتيان بالعبادات متقربا بها إلى الله تعالى.
وفيه: أن أخذ الأجرة أما لتنزيل نفسه منزلة الميت ونيابته عنه في
الاتيان بوظائفه، وأما للاتيان بالعمل في الخارج، فعلى الأول يلزم
استحقاق الأجرة بمجرد النيابة القلبي، سواء أتى بالعمل في الخارج
أم لا، وهو بديهي البطلان، وعلى الثاني فيعود المحذور، وهو أخذ
الأجرة على الأمر العبادي، فإن الموجود في الخارج ليس إلا نفس
العبادة.
2 - ما ذكره المصنف في رسالة القضاء، من أن النية مشتملة على قيود،
726

منها كون الفعل خالصا لله سبحانه، ومنها كونه أداء وقضاء عن نفسه أو
عن الغير بأجرة أو بغيرها، وكل من هذه القيود غير مناف لقصد الاخلاص
، والأجرة فيما نحن فيه إنما وقعت أولا وبالذات بإزاء القيد الثاني، أعني
النيابة عن زيد، بمعنى أنه مستأجر على النيابة عن زيد بالاتيان بهذه
الفريضة المتقرب بها، وقيد القربة في محله على حاله لا تعلق للإجارة إلا
من حيث كونه قيدا للفعل المستأجر عليه، نعم لو اشترط في النيابة عن
الغير التقرب زيادة على التقرب المشروط في صحة العبادة اتجه منافاة
الأجرة لذلك إلا أنه ليس بشرط اجماعا.
وفيه أولا: أن أخذ الأجرة في مقابل العمل المقيد بقصد القربة يستلزم
وقوع الأجرة بإزاء نفس العمل أيضا، وعليه فيعود المحذور المذكور.
وثانيا: ما ذكره بعض مشائخنا المحققين، من أن الفعل القلبي والفعل
الخارجي وإن كانا متغايرين ماهية ووجودا، ولكل منهما غاية خاصة،
إلا أنه لا شك في أنه لولا الفعل القلبي بما له من الغاية، وهي استحقاق
الأجرة، لم يصدر الفعل الخارجي بما له من الغاية، وهي القربة،
فالاخلاص الطولي غير محفوظ بمجرد تعدد الفعل مع ترتب الفعل
الخارجي بغايته على الفعل القلبي بغايته.
3 - ما ذكره شيخنا الأستاذ توجيها لكلام المصنف في المكاسب،
وملخصه: أنه لا شبهة في عدم اعتبار المباشرة في فعل المنوب عنه، بل
جاز للغير الاتيان بالفعل عنه نيابة، ويجوز التبرع عنه في ذلك، من دون
أن يعتبر قصد القربة في الأمر التبرعي، بل اعتباره في فعل النائب لأجل
اعتباره في المنوب فيه.
ثم إنه لا ريب في أن هذا الأمر التبرعي يصبح واجبا إذا وقعت عليه
الإجارة، وحينئذ لا يخرج النائب عن عهدته بامتثاله بقصد القربة
727

والاخلاص، وواضح أنه لا تنافي بين اعتبار التقرب فيه وبين جواز أخذ
الأجرة للنيابة، فإن الأجرة إنما هي بإزاء قصد النائب النيابة في عمله عن
المنوب عنه لا على نفس العمل، بحيث إذا قصد النائب الاتيان بذات
العمل المستأجر عليه للأجرة أو قصد الاتيان به بداعي أمره سبحانه بإزاء
الأجرة كان عمله باطلا.
ولكن يرد عليه أولا: ما ذكرناه في جواب المصنف.
وثانيا: أن الأوامر المتوجهة إلى شخص غريبة عن شخص آخر،
وعليه فلا معنى لسقوطها عن المنوب عنه بامتثال النائب، كما أنه لا معنى
لاعتبار قصد التقرب في الأمر المتوجه إلى النائب بلحاظ اعتباره في
الأمر المتوجه إلى المنوب عنه، والتوجيه المذكور أشبه شئ بدعوى
سقوط الأمر بالصوم بامتثال الأمر المتعلق بالصلاة، وأشبه شئ أيضا
بدعوى اعتبار قصد التقرب في الأمر بغسل الثوب بلحاظ الأمر العبادي
المتعلق بالحج.
وثالثا: إنا لو سلمنا صحة ذلك ولكنه إنما يجري في النيابة عن
الأحياء، فإن الأوامر المتوجهة إلى الأموات في حياتهم قد انقطعت
بالموت فلا يبقى هنا أمر لكي يقصد النائب في امتثال العمل المنوب فيه
ويأتي به بقصد التقرب والاخلاص، وهذا لا ينافي اشتغال ذمة الميت
بالعبادات الفائتة كما هو واضح.
ورابعا: إنا لو أغمضنا عن ذلك أيضا ولكنه إنما يتم مع توجه الأمر إلى
المنوب عنه، مع أنا نرى بالعيان ونشاهد بالوجدان صحة النيابة عنه حتى
فيما لم يتوجه إليه أمر أصلا، كنيابة أشخاص غير محصورين عن الميت
أو عن غيره في جهات مستحبة كالطواف ونحوه، بداهة انتفاء الأمر
حينئذ عن المنوب عنه، فإن توجهه عليه مشروط بالقدرة، وواضح أن
728

المنوب عنه لا يقدر على الاتيان بأمور غير مصورة، وكذلك تجوز النيابة
في الحج عمن لا يقدر عليه، مع أنه لا أمر حينئذ للمنوب عنه أصلا.
والتحقيق أن الأمر الاستحبابي (1) متوجه إلى جميع الناس للنيابة في
العبادة عن الميت بل الحي في بعض الموارد، ولا شبهة أن هذا الأمر
الاستحبابي المتوجه إلى كل أحد أمر عبادي، فيعتبر فيه قصد التقرب
والاخلاص، وقد يكون واجبا إذا تعلقت به الإجارة، وقد تقدم بيان ذلك
آنفا.
وعليه فالنائب عن الغير في امتثال عباداته إنما يتقرب إلى الله تعالى
بالأمر المتوجه إلى نفسه، من دون أن يكون له مساس بالأمر العبادي
المتوجه إلى المنوب عنه، بل لا يعقل أن يقصد النائب تقرب المنوب
عنه ويمتثل أمره، أو يتقرب إلى الله بأمر المنوب عنه ويمتثله.
وعلى ما ذكرناه، فمورد الإجارة هو الواجبات أو العبادات المنوب
فيها، وقد تقدم أن صفة الوجوب أو صفة العبادة لا تنافي الإجارة.
جواز أخذ الأجرة على المستحبات:
قوله: وأما المستحب.
أقول: العمل المستأجر عليه قد يكون حراما، وقد يكون واجبا،
وقد يكون مكروها، وقد يكون مباحا، وقد يكون مستحبا، أما الحرام
والواجب فقد تقدم الكلام عليهما، وأما المكروه والمباح فلم يستشكل
أحد في صحة الإجارة لهما.

1 - راجع الوسائل: 8، باب 12 استحباب التطوع بجميع العبادات عن الميت من أبواب
القضاء من كتاب الصلاة: 277.
729

وأما المستحب فالمعروف بين الشيعة والسنة (1) هو جواز أخذ الأجرة
عليه، بل هو مقتضى القاعدة الأولية، إذ لا نرى مانعا عن شمول
العمومات الدالة على صحة المعاملات لذلك، فقد عرفت آنفا أن صفة
العبادية وكذا صفة الوجوب لا تنافي الإجارة أو الجعالة، وكذلك صفة
الاستحباب، فإنها لا تنافيهما بطريق الأولوية.
وعلى هذا فلا وجه لتطويل الكلام في تصوير النيابة في المستحبات،
كما لا وجه للفرق فيها بين ما يتوقف ترتب الثواب على قصد التقرب
والاخلاص، كالاتيان بالنوافل والزيارات، وبين ما لا يتوقف ترتب
الثواب على ذلك، كبناء المساجد والقناطر ونحوهما.
من كان أجيرا لغيره في الطواف لم يجز له أن يقصده لنفسه:
قوله: فلو استؤجر لإطافة صبي أو مغمى عليه فلا يجوز الاحتساب في طواف نفسه.
أقول: قد ذكر الأصحاب هنا وجوها بل أقوالا:
1 - جواز الاحتساب مطلقا، وقد استظهره المصنف من الشرائع
والقواعد على اشكال في الثاني (2).
2 - عدم جواز الاحتساب مطلقا حتى في صورة التبرع، وقد حكاه
بعض الأعاظم عن بعض الشافعية.

1 - في فقه المذاهب عن المالكية: جوزوا أخذ الأجرة على بعض الأمور المستحبة، وعن
الشافعية: تصح الإجارة على كل مسنون كالأذان والإقامة وعلى ذكر الله كالتهاليل، وعن
الحنابلة: لا تصح الإجارة على كل فعل قربي (فقه المذاهب 3: 181 - 195).
وقد تقدم رأي الحنفية في الإجارة على الطاعة.
2 - الشرايع 1: 232، القواعد: 411، الدروس 1: 322.
730

3 - عدم جواز الاحتساب عن نفسه فيما إذا استؤجر للإطافة بغيره أو
لحمله في الطواف، وقد نسبه المصنف إلى جماعة منهم الإسكافي.
4 - ما ذكره العلامة في المختلف (1)، من الفرق بين الاستئجار للطواف به
وبين الاستئجار لحمله في الطواف، فإنه منع عن احتساب ذلك لنفسه في
الأول دون الثاني.
5 - ما ذكره في المسالك (2)، من أنه إذا كان الحامل متبرعا أو حاملا
بجعالة أو كان مستأجرا للحمل في طوافه أمكن أن يحتسب كل منهما
طوافه عن نفسه، وأما لو كان مستأجرا للحمل مطلقا لم يحتسب، لأن
الحركة المخصوصة قد صارت مستحقة عليه لغيره فلا يجوز صرفها إلى
نفسه.
والتحقيق أن المؤجر قد يكون أجيرا عن الغير في الطواف ونائبا عنه
في ايجاد العمل المعين في الخارج، وقد يكون أجيرا للإطافة به، وقد
يكون أجيرا لحمله في الطواف.
أما الصورة الأولى فإنه لا يجوز للأجير أن يقصد الطواف لنفسه حين
ما يأتي بالعمل المستأجر عليه، لأن الإجارة تقتضي اختصاص العمل
المستأجر عليه بالمستأجر، ولذا لو فوته أحد يضمنه له، والأمر
بالطواف المتوجه إلى الأجير يقتضي الاتيان به عن نفسه وعدم اجزائه عن
غيره، كما هو مقتضى القاعدة في جميع الأوامر المسوقة لبيان الأحكام التكليفية.
وبعبارة أخرى أن المستأجر إنما يستحق الحركات المخصوصة على

1 - المختلف 4: 186.
2 - المسالك 2: 177.
731

الأجير لكونها مملوكة له، فلا يجوز للأجير أن يحتسبها عن نفسه، ولعله
إلى هذا أشار في المسالك في عبارته المتقدمة.
وأما إذا كان أجيرا لحمل غيره في الطواف أو للإطافة به، فهل يجوز له
أن يقصد الطواف لنفسه حين ما يحمل المستأجر للطواف أم لا، فقد يقال
بالثاني، لأن الحركات المخصوصة الصادرة من الأجير مملوكة
للمستأجر، فلا تقع عن الأجير نظير الصورة السابقة، ولكن الظاهر هو
الجواز تبعا لجم غفير من الأصحاب، وقد تقدم رأيهم.
والوجه في ذلك أن ما يستحق به المستأجر على الأجير إنما هو
الحمل فقط، ومن الواضح أنه حاصل على كل حال، لأن شأن الأجير في
هذه الصورة شأن الدابة التي يركبها العاجز عن المشي للطواف، وعليه
فلا تنافي بين كون شخص أجيرا لحمل غيره في الطواف، وبين أن يقصد
الطواف لنفسه في هذه الحالة.
والذي يدلنا على ذلك أمران:
1 - أنه إذا لم يتصف الحامل في هذه الصورة بما اعتبر في الطائف من
الشرائط كالمشي على القهقرى مثلا، لم يضر بطواف المحمول إذا كان
واجدا لشرائط الطواف، ومن المقطوع به أنه لو كان مصب الإجارة هو
الطواف عن الغير بعنوان النيابة لما حصل العمل المستأجر عليه في
الخارج.
2 - أنه ورد في جملة من الأخبار (1) جواز حمل الغير في الطواف مع

1 - عن الهيثم التميمي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل كانت معه صاحبته لا تستطيع
القيام على رجلها، فحملها زوجها في محمل فطاف بها طواف الفريضة بالبيت وبالصفا والمروة،
أيجزيه ذلك الطواف عن نفسه طوافه بها؟ قال: أيها الله إذا (التهذيب 5: 398، عنه الوسائل
13: 395)، حسنة لإبراهيم بن هاشم.
قوله: أيها - الخ، معناه: أي والله يكون ذا، فالهاء عوض عن واو القسم، كما ذكره جمع من
النحاة.
وعن حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المرأة تطوف بالصبي وتسعى به هل
يجزي ذلك عنها وعن الصبي؟ قال: نعم (الكافي 4: 429، التهذيب 5: 125، عنهما الوسائل
13: 396)، حسنة لإبراهيم.
732

العجز عنه، فهي باطلاقها تدل على ما ذكرناه، على أنه لو كان مورد هذه الأخبار
غير الإجارة فإنها تدل أيضا على صحة ذلك، لأنها ظاهرة في أن
حمل غيره في الطواف لا ينافي قصد الحامل الطواف لنفسه لكون كل
منهما بعيدا عن الآخر.
حرمة أخذ الأجرة على الأذان:
قوله: لا يجوز أخذ الأجرة على أذان المكلف لصلاة نفسه.
أقول: المعروف بين الأصحاب (1) حرمة أخذ الأجرة على الأذان، بل
في المستند حكى الاجماع عليها، وعلى هذا النهج بعض فقهاء العامة (2).
والتحقيق أن مقتضى القاعدة هو جواز أخذ الأجرة على الواجبات
وعلى المستحبات، تعبدية كانت أم توصلية، لكونها من الأعمال
المحترمة التي تقابل بالمال، فتكون المعاملة عليها مشمولة للعمومات،
وأن صفة الوجوب أو صفة العبادية، أو اقتران العمل العبادي بالدواعي
غير القربية لا تنافي التقرب والاخلاص إلا مع الدليل الخارجي، كامتثال
العبادات بداعي الرياء، وقد عرفت ذلك كله آنفا.
ومن هنا يتجلى لك جواز أخذ الأجرة على الأذان وعلى الإمامة، إذا
كانا مما يرجع نفع من ذلك إلى الغير، بحيث يصح لأجله الاستئجار،

1 - الخلاف 1: 291، المختلف 2: 134، الذكرى: 173، مفتاح الكرامة 1: 291.
2 - قد تقدمت الإشارة إلى آرائهم في أخذ الأجرة على الواجبات.
733

كالاعلام بدخول الوقت أو الاجتزاء به في الصلاة، والاقتداء بالإمام.
ولكن قد سمعت في مقدمة البحث عن أخذ الأجرة على الواجب أن
مورد الكلام فيما إذا كان العمل المستأجر عليه حاويا لشرائط
الاستئجار، مع قطع النظر عن كونه واجبا أو مستحبا، وعن كونه تعبديا أو
توصليا، وعليه فلو منع الشارع عن أخذ الأجرة على عمل خاص وتعلق
غرضه بكونه مجانيا فإنه خارج عن حريم البحث، ولا يختص ذلك
بالعبادات، ولا بالواجبات والمستحبات.
ومن الواضح جدا أنه ثبت في الشريعة المقدسة عن أهل بيت العصمة
(عليهم السلام) حرمة أخذ الأجرة على الأذان وعلى الإمامة (1).

1 - في رواية السكوني قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): ولا تتخذن مؤذنا يأخذ على أذانه
أجرا (الفقيه 1: 184، التهذيب 2: 283، عنهما الوسائل 5: 447)، موثقة للسكوني.
في حسنة حمران بابن هاشم الواردة في فساد الدنيا واضمحلال الدين: ورأيت الأذان
بالأجر والصلاة بالأجر (الكافي 8: 36، عنه الوسائل 16: 275).
عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن علي (عليه السلام) أنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين
والله إني أحبك لله، فقال له: لكني أبغضك لله! قال: ولم؟ قال: لأنك تبغي في الأذان وتأخذ
على تعليم القرآن أجرا (التهذيب 6: 376، الإستبصار 3: 65، عنهما الوسائل 17: 157)، ضعيفة
بعبد الله بن منبه والحسين بن علوان.
ورواها الصدوق مرسلا إلا أنه قال تبتغي في الأذان كسبا (الفقيه 3: 109، عنه الوسائل
17: 157).
عن محمد مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا تصلي خلف من يبغي على الأذان والصلاة
بالناس أجرا ولا تقبل شهادته (الوسائل: 27، باب 32 من لا تقبل شهادته من أبواب
الشهادات)، صحيحة.
وفي المستدرك: 4، باب 30 عدم جواز أخذ الأجرة على الأذان من أبواب الأذان: 51، ما
يدل على ذلك.
734

قوله: وعلى الأشبه كما في الروضة (1).
أقول: هذا سهو من قلمه الشريف، فإنه ذكر الشهيد (رحمه الله) في الروضة:
والأجرة على الأذان والإقامة على أشهر القولين.
أخذ الأجرة على الشهادة:
قوله: ثم إن من الواجبات التي يحرم أخذ الأجرة عليه عند المشهور تحمل الشهادة،
بناء على وجوبه.
أقول: ذهب المشهور من فقهائنا وفقهاء العامة إلى وجوب الشهادة
تحملا وأداء، كما يظهر لمن يراجع إلى كلماتهم في مواردها، وهذا هو
الظاهر من الكتاب الكريم (2) ومن الروايات المذكورة في أبواب
الشهادات، وعليه فأخذ الأجرة على الشهادة من صغريات أخذ الأجرة
على الواجب، وقد عرفت سابقا ذهاب المشهور إلى حرمة أخذها عليه،
ولكن قد علمت فيما تقدم أن مقتضى القاعدة هو جواز أخذ الأجرة على
الواجبات مطلقا ما لم يثبت منع من الخارج.
ومن المعلوم إنا لم نجد في أدلة وجوب الشهادة ما يمنع عن ذلك، بل
الظاهر من بعض الروايات (3) الواردة في قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا
ما دعوا (4)، أن المنفي في الآية هو أن يقول المدعو إلى الشهادة: لا أشهد
على الواقعة، وواضح أن هذا لا ينافي جواز أخذ الأجرة على الشهادة،

1 - الروضة البهية 3: 217.
2 - قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، البقرة: 282.
قوله تعالى: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، البقرة: 283.
3 - راجع الوسائل: 27، باب 1 وجوب تحمل الشهادة من أبواب الشهادات.
4 - البقرة: 282.
735

نعم لو امتنع المشهود له عن اعطاء الأجرة وجب على الشاهد أن يشهد
بالواقعة مجانا.
هذا كله إذا كان تحمل الشهادة أو أدائها واجبا عينيا، وأما إذا كان كل
منهما واجبا كفائيا فقد تقدم أن أخذ الأجرة على الواجب الكفائي مع
عدم الانحصار خارج عن محل الكلام، فإنه واجب على جميع المكلفين
لا على شخص واحد معين.
ثم إنه لا يستفاد من أدلة وجوب الشهادة إلا كونها واجبة على نهج بقية
الأحكام التكليفية الكفائية أو العينية، من غير أن يستفاد منها كون التحمل
أو الأداء حقا للمشهود له.
ثم إنه قد يقال بحرمة أخذ الأجرة على مطلق التعليم أو على تعليم
القرآن، ولكنه فاسد، فقد ثبت جواز ذلك في جملة من الأخبار (1)، وفي
بعضها وقع الازراء على القائلين بالحرمة ورميهم إلى الكذب وعداوة
الحق.

1 - في رواية حسان المعلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): لا تأخذ على التعليم أجرا (الكافي
5: 121، التهذيب 6: 364، الإستبصار 3: 65، عنهم الوسائل 17: 154)، ضعيفة بحسان وفضل
ابن كثير.
وفي رواية الفضل عنه (عليه السلام): أن هؤلاء يقولون إن كسب المعلم سحت، فقال: كذبوا أعداء
الله - الحديث (الكافي 5: 121، الفقيه 3: 93، التهذيب 6: 364، الإستبصار 3: 65، عنهم
الوسائل 17: 154)، ضعيف بفضل.
عن الصدوق قال (عليه السلام): من أخذ على تعليم القرآن أجرا كان حظه يوم القيامة (الفقيه
3: 109، عنه الوسائل 17: 156)، مرسل.
وفي المستدرك 13: 116، ما يدل على حرمة تعليم القرآن (فقه الرضا (عليه السلام): 34)، ولكنه
ضعيف السند.
وقد أخرج البيهقي في سننه أحاديث تدل على جواز أخذ المعلم الأجرة للتعليم، وأحاديث
أخرى تدل على كراهة أخذها لتعليم القرآن (السنن للبيهقي 6: 124).
736

نعم لا نضائق من القول بالكراهة لورود النهي عن ذلك في بعض
الأخبار المحمول على الكراهة، وعلى هذا المنهج المشهور من العامة (1)،
على أن الروايات الواردة في حرمة كسب المعلم وجوازه ضعيفة السند،
فيرجع إلى عمومات ما دل على جواز الكسب.
ثم إنه لا يجوز أخذ الأجرة على القضاء للروايات الخاصة (2)، وأن
الظاهر من آية النفر (3) الآمرة بالتفقه في الدين وانذار القوم عند الرجوع
إليهم أن الافتاء أمر مجاني في الشريعة المقدسة، فيحرم أخذ الأجرة
عليه.
ويؤيده قوله تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في
القربى (4).
الارتزاق من بيت المال:
قوله: بقي الكلام في شئ - الخ.

1 - قد تقدمت الإشارة إلى آرائهم فيما سبق.
2 - في صحيحة عمار بن مروان جعل الإمام (عليه السلام) من السحت أجور القضاة (الكافي
5: 126، التهذيب 6: 368، عنهما الوسائل 17: 92).
وفي المستدرك عن الجعفريات عن علي (عليه السلام) أنه جعل من السحت أجر القاضي
(الجعفريات: 180، عنه المستدرك 13: 69).
وفي حسنة ابن سنان بابن هاشم: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قاض بين قريتين يأخذ من
السلطان على القضاء الرزق، فقال: ذلك السحت، وقد تقدمت الإشارة إلى مصادرها في البحث
عن جواز ارتزاق القاضي من بيت المال.
3 - التوبة: 123.
4 - الشورى: 22.
737

أقول: حاصل كلامه إن معظم الأصحاب (1) قد صرحوا بجواز الارتزاق
من بيت المال لكل من يحرم عليه أخذ الأجرة على الاتيان بالواجبات،
كالقضاء والافتاء وتجهيز الميت، أو الاتيان بالمستحبات كالأذان
ونحوه.
والوجه في ذلك أن بيت المال معد لمصالح المسلمين، وهذه الموارد
من جملتها، لعود النفع إليهم، فإن أي شخص إذا أتى بأي شئ يرجع
إلى الجهات الراجعة إلى مصالح المسلمين، كالأمور المذكورة وغيرها
جاز لولي الأمر أن يدر عليه من بيت المال ما يرفع به حاجته.
ولا يفرق في ذلك بين أن يكون المقدار المقرر لهم أقل من أجرة المثل
أو مساويا لها أو أكثر منها، ولا بين أن يكون تعيين ذلك قبل قيام هؤلاء
بالوظائف المقررة عليهم أو بعده، بل يجوز لولي المسلمين أن يقول
لأحد منهم: اقض في البلد أو أذن وأنا أكفيك مؤونتك من بيت المال،
ولا يكون ذلك إجارة ولا جعالة.
نعم يشترط في جواز الارتزاق من بيت المال أن يكون المتصدي
للمناصب المذكورة والوظائف المقررة من ناحية الشرع محتاجا إليه،
بحيث لا يقدر على قوت نفسه وعياله ولو بالتكسب، وإلا فلا يجوز له
الارتزاق من بيت المال فإنه تضييع لحقوق المسلمين.
أقول: لو قلنا بحرمة أخذ الأجرة على الواجبات أو المستحبات، فإن
الأدلة الدالة على الحرمة مختصة بعنوان الأجرة والجعل فقط،
فلا تشمل بقية العناوين المنطبقة على المتصدين لتلك الوظائف،

1 - كالشيخ في المبسوط 8: 160، والحلي في السرائر 1: 215، 2: 217، والمحقق في
الشرايع 2: 11، 4: 69، والعلامة في القواعد 1: 121، 2: 202، والشهيد في الدروس 3: 172،
راجع مفتاح الكرامة 4: 95 - 99.
738

كالارتزاق من بيت المال، فإنه معد لمصالح المسلمين، فيجوز صرفه في
أي جهة ترجع إليهم وتمس بهم.
بل يجوز لهؤلاء المتصدين للجهات المزبورة أن يمتنعوا عن القيام بها
بدون الارتزاق من بيت المال، إذا كان العمل من الأمور المستحبة، وعليه
فلا وجه لاعتبار الفقر والاحتياج في المرتزقة، كما ذهب إليه جمع كثير
من أعاظم الأصحاب.
لا يقال: إذا صار القضاء وأمثاله من الواجبات العينية، كان شأن ذلك
شأن الواجبات العينية الثابتة على ذمم أشخاص المكلفين، كالصلاة
والصوم والحج ونحوها، ومن الواضح جدا أنه لا يجوز الارتزاق من بيت
المال بإزائها.
فإنه يقال: إن القضاوة ونحوها وإن كانت من الواجبات العينية فيما إذا
انحصر القاضي بشخص واحد، ولكنها مما يقوم به نظام الدين، فتكون
من الجهات الراجعة إلى مصالح المسلمين، فقد عرفت أن مصرف بيت
المال إنما هو تلك المصالح، فلا يقاس القضاء وأمثاله بالواجبات العينية
ابتداء، خصوصا إذا أراد القاضي أن ينتقل من بلده إلى بلد آخر، بل الأمر
كذلك في جميع الواجبات العينية إذا توقف على الاتيان بها ترويج الدين
ومصلحة المسلمين.
739

الخاتمة
المسألة (1)
بيع المصحف
قوله: خاتمة: تشتمل على مسائل: الأولى صرح جماعة.
أقول: ذهب المشهور من أكابر أصحابنا (1) إلى حرمة بيع المصحف،
وذهب جمع آخر كصاحب الجواهر (2) وغيره إلى الجواز.
والمراد بالمصحف الأوراق المشتملة على الخطوط كبقية الكتب،
دون الخط فقط كما اختاره المصنف (رحمه الله) تبعا للدروس (3)، فإن الخط بما
هو خط غير قابل للبيع لكونه عرضا محضا تابعا لمعروضه، فلا يمكن
انفكاكه عنه حتى يبحث فيه بأنه يقابل بالثمن أم لا، وعلى تقدير كونه من
قبيل الجواهر كالخطوط المخطوطة بالحبر ونحوه، فإنه لا يقبل النقل
والانتقال.
وكيف كان فلا وجه للبحث عن جواز بيع الخط الخالي عن الأوراق
وعدم جوازه، نعم شأن الخطوط بالنسبة إلى الأوراق شأن الصور النوعية
العرفية التي يلزم من انتفائها انتفاء المبيع رأسا كما سيأتي.

1 - أنظر النهاية: 368، السرائر 2: 218، التذكرة 1: 582، الدروس 3: 165، جامع المقاصد
4: 33، نهاية الحكام 2: 472، مفتاح الكرامة 4: 82.
2 - الجواهر 22: 125.
3 - الدروس 3: 165.
740

. وأما حسن الخط وجودته فذلك من قبيل الأوصاف الكمالية فتوجب
زيادة في الثمن ولا يلزم من انتفائها انتفاء المبيع لكي يترتب عليه بطلان
البيع، بل يثبت الخيار للمشروط له، إلا إذا كان الخط بمرتبة من الجودة
صار مبائنا لسائر الخطوط في نظر العرف، كخط المير المعروف،
وحينئذ فتكون صفة الحسن أيضا من الصور النوعية العرفية، ويلزم من
انتفائها انتفاء المبيع فيحكم ببطلان البيع.
ونظير ذلك ما إذا باع فراشا على أنه منسوج بنسج قاسان، فبان أنه
منسوج بنسج آخر، فإن الأول لجودة نساجته يعد في نظر العرف مبائنا
للثاني، فيبطل البيع، لأن ما جرى عليه العقد غير واقع وما هو واقع غير ما
جرى عليه العقد.
وعلى الجملة متعلق البحث في بيع المصحف، إما الأوراق المجردة
عن الخطوط أو العكس، أو هما معا، وحيث لا سبيل إلى الأول والثاني
فيتعين الثالث.
ثم إن الروايات الواردة في بيع المصحف على طائفتين:
1 - ما دل (1) على حرمة بيعه، أي الأوراق المقيدة بالخطوط، وتدل

1 - عن عبد الرحمان بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن المصاحف
لن تشتري، فإذا اشتريت فقل إنما أشتري منك الورق وما فيه من الأدم وحليته وما فيه من
عمل يدك بكذا وكذا (الكافي 5: 121، عنه الوسائل 17: 157)، مجهولة لعبد الرحمان.
عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن بيع المصاحف وشرائها، قال: لا تشتر
كتاب الله عز وجل، ولكن اشتر الحديد والورق والدفتين، وقل: اشتريت منك هذا بكذا وكذا
(الكافي 5: 121، عنه الوسائل 17: 157)، ضعيفة لعثمان بن عيسى.
ورواها الشيخ في التهذيب بأدنى تفاوت (التهذيب 6: 366).
عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) في بيع المصاحف قال: لا تبع الكتاب ولا تشتره،
وبع الأديم والورق والحديد (التهذيب 6: 366، عنه الوسائل 17: 159)، ضعيفة لقاسم بن
سليمان وجراح.
عن سماعة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لا تبيعوا المصاحف فإن بيعها حرام، قلت:
فما تقول في شرائها، قال: اشتر منه الدفتين والحديد والغلاف وإياك أن تشتري الورق وفيه
القرآن مكتوب، فيكون عليك حراما وعلى من باعه حراما (التهذيب 7: 231، عنه الوسائل
17: 160)، ضعيفة لعبد الله الرازي وابن أبي حمزة البطائني.
741

هذه الطائفة على جواز بيع غلافه وحديدته وحليته.
2 - ما دل (1) على جواز بيعه، فتقع المعارضة بينهما.
وقد جمع المصنف بينهما، بأن الطائفة المجوزة وإن كانت ظاهرة في
جواز البيع ولكنها لم تتعرض لبيان كيفيته، فلا تعارض ما دل على حرمة
بيعه المتضمن للبيان.
واحتمل في الجواهر حمل الأخبار المجوزة على إرادة شراء الورق
قبل أن يكتب بها على أن يكتبها فيكون العقد في الحقيقة متضمنا لمورد

1 - عن عنبسة الوراق قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف فإن
نهيتني لم أبعها، فقال: ألست تشتري ورقا وتكتب فيه، قلت: بلى وأعالجها، قال: لا بأس به
(الكافي 5: 122، عنه الوسائل 17: 159)، مجهولة بعنبسة.
عن روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن شراء المصاحف وبيعها، قال:
إنما كان يوضع الورق عند المنبر وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمر الشاة أو رجل منحرف،
قال: فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك ثم إنهم اشتروا بعد ذلك، قلت: فما ترى في ذلك، قال:
أشتري أحب إلى من أن أبيعه، قلت: فما ترى أن أعطي على كتابه أجرا، قال: لا بأس ولكن
كذلك كانوا يصنعون (الكافي 5: 121، التهذيب 6: 366، عنهما الوسائل 17: 158)، ضعيفة
بغالب بن عثمان.
عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن بيع المصاحف وشرائها، فقال (عليه السلام): إنما
كان يوضع عند القامة والمنبر - إلى أن قال (عليه السلام): - اشتريه أحب إلى من أن أبيعه (التهذيب
6: 366، عنه الوسائل 17: 160)، صحيحة.
742

البيع ومورد الإجارة، بقرينة قوله (عليه السلام): وما عملته يدك بكذا، ضرورة
عدم صلاحية العمل موردا للبيع، فلا بد من تنزيله على الإجارة (1).
ويرد على الوجهين أن كلا من النفي والاثبات في الروايات الواردة في
بيع المصاحف إنما ورد على مورد واحد، وعليه فلا ترتفع المعارضة بين
الطائفتين بشئ من الوجهين، لأنهما من الجمع التبرعي المحض
ولا شاهد لهما من العقل والنقل.
ويرد على خصوص ما في الجواهر أنه لا وجه لجعل العقد الواحد
متضمنا لموردي الإجارة والبيع معا، تمسكا برواية عبد الرحمان بن
سليمان المذكورة في الحاشية، فإنه مضافا إلى كونها ضعيفة السند، أنه
لا دلالة فيها على مقصود صاحب الجواهر، إذ الظاهر من عمل اليد في
قوله (عليه السلام): فقل: إنما أشتري منك الورق وما فيه من الأدم، وحليته وما
فيه من عمل يدك بكذا وكذا، هو الأثر الحاصل من العمل لا نفس الفعل،
فإنه لا وجه لكون العمل بعد وقوعه متعلقا للإجارة.
والتحقيق أن تحمل الطائفة المانعة من الروايات على الكراهة،
بدعوى أن الغاية القصوى من النهي عن بيع المصحف إنما هو التأدب
والاحترام لكلام الله عز وجل، فإنه أجل من أن يجعل موردا للبيع كسائر
الكتب والأمتعة، وأرفع من أن يقابل بثمن بخس دراهم معدودة، إذ الدنيا
وما فيها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فكيف يمكن أن يقع جزء من
ذلك ثمنا للقرآن الذي اشتمل على جميع ما في العالم، ويدور عليه
مدار الاسلام.
ومن هنا تعارف من قديم الأيام أن المسلمين يعاملون على المصاحف

1 - الجواهر 22: 128، كذا في المصابيح: 62.
743

معاملة الهدايا ويسمون ثمن القرآن هدية، وعليه فيحمل النهي الوارد
عن بيعه على الكراهة، لارشاده إلى ما ذكرناه.
ويدلنا على ذلك قوله (عليه السلام) في رواية روح بن عبد الرحيم: أشتري
أحب إلى من أن أبيعه، وقوله (عليه السلام) في صحيحة أبي بصير: اشتريه
أحب إلي من أن أبيعه، وقد ذكرناهما في الهامش.
فإن كون الشراء أحب عند الإمام (عليه السلام) من البيع يدل على كراهة البيع،
وكونه منافيا لعظمة القرآن، ولو كان النهي تكليفيا لم يفرق فيه بين البيع
والشراء.
ولو سلمنا دلالة الروايات المانعة على الحرمة، ولكنها ظاهرة في
الحرمة التكليفية فلا دلالة فيها على الحرمة الوضعية، أعني فساد البيع
وعدم نفوذه، لعدم الملازمة بينهما وقد تقدم ذلك مرارا.
ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أن الطائفة المانعة كلها ضعيفة السند،
وغير منجبرة بشئ فلا يجوز الاستناد إليها.
لا يقال: إن ما دل على جواز بيع الورق أيضا معارض بما دل على عدم
جواز بيعه، كرواية سماعة المتقدمة في الحاشية المصرحة بحرمة بيع
الورق الذي فيه القرآن، فإنه يرد عليه مضافا إلى ضعف السند في رواية
سماعة أنها صريحة في المنع عن بيع الورق الذي فيه القرآن، لا الورق
المجرد، فلا معارضة بينهما.
ثم إذا قلنا بحرمة بيع المصحف أو بكراهته للروايات المتقدمة، فإنه
لا اشعار فيها بأن القرآن لا يملك، وأنه لا يقبل النقل والانتقال مطلقا،
وعليه فمقتضى القاعدة أنه كسائر الأموال يجري عليه حكمها من أنحاء
النقل والانتقال، حتى الهبة المعوضة، لوقوع العوض في مقابل الهبة
دون المصحف إلا البيع فقط.
744

ويدل على ما ذكرناه جريان السيرة القطعية على معاملة المصاحف
معاملة بقية الأموال.
وتدل على ذلك أيضا الروايات (1) الدالة على أن المصحف من الحبوة
ينتقل إلى الولد الأكبر بموت الوالد، وإذا لم يكن للميت ولد أكبر ينتقل
إلى سائر الورثة، فلو لم يكن المصحف مملوكا أو لم يكن قابلا للانتقال
لم تصح الأحكام المذكورة.
ويدل على ما ذكرناه أيضا أنه لو أتلف أحد مصحف غيره أو أحدث فيه
نقصا ضمن ذلك لصاحبه، ومن الواضح أنه لو لم يكن مملوكا فإنه لا وجه
للحكم بالضمان.
ومما تقدم يظهر ضعف ما قاله المحقق الإيرواني، من أن مورد
الأخبار المانعة هو البيع، ويمكن جعلها كناية عن مطلق النواقل
الاختيارية، بل إشارة إلى عدم قبوله للنقل ولو بالأسباب الغير الاختيارية
كالإرث.
ثم إنه على القول بحرمة بيع المصحف أو بكراهته فلا يجري ذلك في
مبادلة مصحف بمصحف آخر، لانصراف أدلة المنع عن هذه الصورة كما
ذكره السيد (رحمه الله)، لامكان منعه باطلاق الأدلة على أنه لا منشأ للانصراف
المذكور، بل لما عرفت سابقا، من أن المنع عن بيع القرآن إنما هو لعظمته
وأنه يفوت عن الانسان متاع ثمين بإزاء ثمن بخس، فإذا كانت المبادلة بين
المصحفين لم يجر ذلك المحذور موضوعا.
ثم إنه لا ملازمة بين بيع المصحف وبين أخذ الأجرة على كتابته،

1 - راجع الوسائل: 27، باب 3 ما يحبى به الولد الذكر الأكبر من تركة أبيه دون غيره، من
أبواب ميراث الأبوين والأولاد.
745

فلا يلزم من حرمة الأول أو كراهته حرمة الثاني أو كراهته، بل مقتضى
القاعدة هو الإباحة، وتدل عليه جملة من الروايات (1).
معنى حرمة بيع المصحف وشرائه:
قوله: بقي الكلام في المراد من حرمة البيع والشراء.
أقول: حاصل كلامه أنه لا شبهة في أن القرآن يملك ولو بكتابته في
الأوراق المملوكة، وعليه فإما أن تكون النقوش من الأعيان المملوكة
أو لا.
وعلى الثاني فلا حاجة إلى النهي عن بيع الخط، إذ لم يقع بإزائه جزء
من الثمن ليكون ذلك بيعا.
وعلى الأول فإما أن يبقى الخط في ملك البايع أو ينتقل إلى المشتري،
وعلى الأول فيلزم أن يكون المصحف مشتركا بين البايع والمشتري،
وهو بديهي البطلان ومخالف للاتفاق، وعلى الثاني فإن انتقلت هذه
النقوش إلى المشتري في مقابل جزء من الثمن فهو البيع المنهي عنه،
وإن انتقلت إليه تبعا لغيره كسائر ما يدخل في المبيع قهرا من الأوصاف
التي تتفاوت قيمته بوجودها وعدمها، فهو خلاف مفروض المتبايعين.
والتحقيق أن نقوش القرآن وخطوطه من قبيل الصور النوعية العرفية،

1 - عن علي بن جعفر (عليه السلام) قال: وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يكتب المصحف
بالأجر، قال: لا بأس (قرب الإسناد: 121، عنه البحار 92: 34، الوسائل 17: 161)، صحيح.
ورواه ابن إدريس في آخر السرائر نقلا عن جامع البزنطي صاحب الرضا (عليه السلام) (
مستطرفات السرائر: 55).
وقريب منه خبر قرب الإسناد (قرب الإسناد: 115، عنه الوسائل 17: 161).
وتقدم في رواية روح بن عبد الرحيم ما يدل على ذلك.
746

وهي مملوكة لمالك الأوراق ملكية تبعية، ودخيلة في مالية الورق كبقية
الأوصاف التي هي من الصور النوعية في نظر العرف، وعليه فمورد
الحرمة أو الكراهة هو بيع الورق الذي كتب فيه كلام الله.
وتوضيح ذلك أنك قد عرفت في بعض المباحث السابقة وستعرف إن
شاء الله تعالى في مبحث الشروط، أن كيفيات الأشياء وإن كانت بحسب
الدقة الفلسفية من مقولة الأعراض، ولكنها تختلف في نظر أهل العرف،
فقد يكون نظرهم إلى الأشياء أنفسها بالأصالة وإلى أوصافها بالتبع،
كالأوصاف التي هي من لوازم الوجود.
وقد يكون نظرهم فيها إلى الهيئة بالأصالة وإلى المادة بالتبع، لكون
الهيئة من الصور النوعية في نظرهم كما في الكأس والكوز المصنوعين
من الخزف، فإنهما في نظر العرف نوعان متبائنان، وإن كانا من مادة
واحدة.
وقد يكون نظرهم إلى كلتيهما، كالفراش المنسوج من الصوف، فإن
الاعتبار في نظر أهل العرف بمادته وهيئته، فهو مبائن في نظرهم مع
العباءة المنسوجة من الصوف، ومع الفراش المنسوج من القطن.
أما القسم الأول، فالمالية فيه من ناحية المواد، لخروج أوصافها عن
الرغبات، وأما القسم الثاني فالمالية فيه لخصوص الهيئات، لكون المادة
ملحوظة بالتبع، وأما القسم الثالث فالمالية فيه للهيئة والمادة معا، فإن
النظر فيه إلى كل منهما.
وعليه فإذا تخلفت أوصاف المبيع، فإن كانت من الصور النوعية بطل
البيع، كما إذا باع كوزا فبان كأسا، أو باع فراشا فظهر عباءة، ووجه
البطلان هو أن الواقع غير مقصود والمقصود غير واقع.
وإن كانت من الأوصاف الكمالية، فإن كان لوجودها دخل في زيادة
747

الثمن ثبت عند تخلفها الخيار، وإلا فلا يترتب عليه شئ، نعم لا يجوز
للبايع تغير الهيئة لكونه تصرفا في مال الغير بدون إذنه، وهو حرام، إلا إذا
كانت الهيئة مبغوضة كهياكل العبادة الباطلة.
وإذا عرفت ذلك فنقول: إن النقوش في المصاحف، سواء كانت من
الأعراض الصرفة أم من الجواهر، وإن لم تكن مالا ولا مملوكة بنفسها،
ولكنها دخيلة في مالية الأوراق، فإن هذه النقوش في نظر أهل العرف من
الصورة النوعية التي يدور عليها مدار التسمية، بحيث لو باع أحد
مجموع ما بين الدفتين على أنه مصحف، فبان أوراقا خالية عن الخطوط،
أو كتابا آخر، بطل البيع، لعدم وجود المبيع في نظر العرف، فالمصحف
وكتاب المفاتيح مثلا نوعان، والجواهر والبحار متبائنان.
وقد ظهر من جميع ما ذكرناه أن مورد الحرمة أو الكراهة في بيع
المصحف هو الورق المنقوش الذي يسمى مصحفا.
ويؤيد ذلك ما في رواية سماعة من قوله (عليه السلام): وإياك أن تشتري
الورق وفيه القرآن مكتوب.
ثم إذا قلنا بحرمة بيع المصحف فيمكن توجيه المعاملات الواقعة عليه
في الخارج بأحد وجهين، وهما اللذان يمكن استفادتهما من الروايات
المانعة:
1 - أن يكون المبيع هو الجلد والغلاف والحديد والحلية، ولكن
يشترط المشتري على البايع في ضمن العقد أن يملكه الأوراق التي كتب
فيه القرآن مجانا، ولا يلزم التصريح بذلك الشرط، فإنه بعد البناء على
حرمة بيعه فالقرينة القطعية قائمة على اعتبار ذلك الشرط في العقد،
بداهة أن غرض المشتري ليس هو شراء الأديم والحديد والغلاف فقط،
وإلا لاشتري غيرها، بل غرضه تملك المصحف.
748

2 - أن يكون المبيع بالأصالة هو الأمور المذكورة ولكن تنتقل
الخطوط إلى المشتري تبعا وقهرا، فتكون مملوكة له ملكية تبعية، إذ
لا يعقل انفكاك الصورة عن المادة، لكي تبقى الهيئة في ملك البايع وتنتقل
المادة إلى المشتري.
لا يقال: إذا كان المبيع هو الأمور المذكورة لزم القول بصحة بيع
المصحف ولزومه على وجه الاطلاق، حتى إذا ظهر عيب في النقوش
الموجودة في الأوراق.
فإنه يقال: لا بأس بالالتزام بذلك إلا إذا اشترط المشتري على البائع
صحة الخطوط، فيثبت للمشتري حينئذ خيار تخلف الشرط.
حكم بيع أبعاض المصحف:
إذا قلنا بحرمة بيع المصحف أو بكراهته، فهل يختص الحكم
بمجموع ما بين الدفتين أو يسري إلى الأبعاض أيضا؟
ربما قيل بالثاني لقوله (عليه السلام) في رواية سماعة المتقدمة: وإياك أن
تشتري الورق وفيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراما وعلى من باعه
حراما، فإن هذه الرواية ظاهرة في شمول الحكم لأي ورق كتب فيه
القرآن، وعليه فيشمل الحكم لكتب التفسير، ولكل كتاب رقم فيه بعض
الآيات للاستشهاد والاستدلال، ككتب الفقه واللغة والنحو وغيرها، أو
ذكرت فيه لمناسبة الأبواب كبعض كتب الحديث.
ولكن الذي يسهل الخطب أن السيرة القطعية قائمة على جواز بيع
الكتب المزبورة وشرائها من غير نكير، حتى من المتورعين في أفعالهم
ومعاملاتهم، بل لم نر ولم نسمع من متفقه أنه أفتى فيها بكراهة البيع فضلا
عن الفقيه.
749

وإذن فلا بأس بالالتزام بجواز بيع كل كتاب مشتمل على الآيات
القرآنية، كالكتب المزبورة وغيرها.
بل قد يقال: إنه إذا جاز بيع كتاب مشتمل على أبعاض القرآن جاز بيع
أبعاض القرآن بنفسها، لاتحاد الملاك فيهما، بل يجوز بيع مجموع
القرآن حينئذ، فإن دليل المنع أعني به رواية سماعة لم يفرق فيه بين
مجموع القرآن وأبعاضه، وحيث قامت السيرة القطعية على جواز البيع
في الأبعاض كان ذلك كاشفا عن جواز بيع المجموع، ويكون ذلك وجها
آخر لحمل الأخبار المانعة على الكراهة.
ولكن الذي يعظم الخطب أن السيرة دليل لبي فيؤخذ منها بالمقدار
المتيقن، فلو تمت الأدلة المانعة عن بيع المصحف لم يجز الخروج عنها
إلا بمقدار ما قامت عليه السيرة، أعني به الكتب المشتملة على الآيات
القرآنية، ولا يمكن التعدي منها إلى الأبعاض المأخوذة من المصحف،
فضلا عن التعدي إلى مجموع ما بين الدفتين والحكم بجواز بيعه.
بيع المصحف من الكافر:
قوله: ثم إن المشهور بين العلامة (رحمه الله) ومن تأخر عنه (1)
عدم جواز بيع المصحف من الكافر على الوجه الذي يجوز بيعه من المسلم.
أقول: تحقيق الكلام هنا يقع في ناحيتين: الأولى جواز تملك الكافر
للمصحف وعدم جوازه، الثانية أنه بناء على جواز بيعه من المسلم فهل
يجوز بيعه من الكافر أو لا؟ وأما على القول بحرمة بيعه منه فيحرم بيعه
من الكافر بالأولوية القطعية.

1 - قواعد الأحكام 1: 121، الإيضاح 1: 407، الدروس 3: 175، جامع المقاصد 4: 33،
المسالك 3: 88.
750

أما الناحية الأولى، فالظاهر هو الجواز للأصل، فإن مقتضاه جواز
تملك كل شخص لأي شئ إلا ما خرج بالدليل، ومن الواضح جدا أنا
لم نجد ما يدل على حرمة تملك الكافر للمصحف، بل الظاهر مما ذكرناه
آنفا هو جواز ذلك لأي أحد من الناس.
ويلوح ذلك أيضا من كلام الشيخ (رحمه الله) في فصل ما يغنم وما لا يغنم من
المبسوط (1) أن ما يوجد في دار الحرب من المصاحف والكتب التي ليست
بكتب الزندقة والكفر داخل في الغنيمة ويجوز بيعها، إذ مع عدم تملك
الكافر للمصاحف فلا وجه لدخولها في الغنيمة، بل تكون من قبيل
مجهول المالك.
وأما الوجوه المذكورة لحرمة بيع المصحف من الكافر فلا دلالة فيها
على عدم تملكه إياه كما سيأتي.
وأما الناحية الثانية، فقد استدل المصنف على حرمة بيع المصحف
من الكافر بوجوه:
1 - فحوى ما دل على عدم تملك الكافر للمسلم.
وفيه أولا: أنه لا دليل على ذلك بل ما دل على وجوب بيعه يدل
بالالتزام على تملكه إياه، إذ لا بيع إلا في ملك، وأيضا ذكر الفقهاء أنه
لو اشترى الكافر أحد عموديه المسلم فإنه ينعتق عليه، مع أنه لا عتق إلا
في ملك، وسيأتي تفصيل ذلك في البحث عن شرائط العوضين.
وثانيا: لو سلمنا ثبوت الحكم في العبد المسلم فلا نسلم قياس
المصحف عليه، فإنه مضافا إلى بطلان القياس في نفسه أن في تملك
الكافر للمسلم ذلا عليه بخلاف تملكه للمصحف، فإنه ربما يزيد في

1 - المبسوط 2: 30.
751

احترامه، كما إذا جعله في مكتبة نظيفة للاطلاع على آياته وبراهينه، بل
قد تترتب على ذلك هدايته إلى الاسلام.
2 - النبوي المعروف: الاسلام يعلو ولا يعلى عليه (1)، بدعوى أن
تملك الكافر للمصحف يوجب الاستعلاء على الاسلام، فلا يجوز.
وفيه أولا: أن النبوي المذكور ضعيف السند.
وثانيا: أنه مجمل فلا يجوز الاستدلال به على المطلوب، إذ يمكن
أن يراد به أن الاسلام يغلب على بقية الأديان في العالم، ويمكن أن يراد
به أن الاسلام أشرف من سائر المذاهب، ويمكن أن يراد به علو حجته
وسمو برهانه، لأن حقيقة الاسلام مستندة إلى الحجج الواضحة
والبراهين اللائحة بحيث يفهمها كل عاقل مميز حتى الصبيان.
ويتضح ذلك جليا لمن يلاحظ الآيات القرآنية وكيفية استدلاله تعالى
على المبدء والمعاد وغيرهما ببيان واضح يفهمه أي أحد بلا احتياج إلى
مقدمات بعيدة، بخلاف سائر الأديان فإنها تبتني على خيالات واهية
وتوهمات باردة تشبه بأضغاث الأحلام.
3 - إن بيع المصحف من الكافر يوجب هتكه لعدم مبالاته بهتك
حرمات الله.
وفيه: أن بين هتك القرآن وبين بيعه من الكافر عموما من وجه، فقد
لا يوجب بيعه من الكافر هتكا له، كما إذا اشتراه وجعله في مكتبة نظيفة
واحترمه فوق ما يحترمه نوع المسلمين، وقد يتحقق الهتك حيث
لا يتحقق بيعه من الكافر، كما إذا كان تحت يد مسلم لا يبالي بهتك

1 - راجع الوسائل: 27 باب 1 إن الكافر لا يرث المسلم من كتاب الإرث.
ذكره في المبسوط 2: 167.
رواه في كنز العمال 1: 17 عن الدارقطني والبيهقي والضياء عن عائذ بن عمر.
752

حرمات الله، فيجعله في مكان لا يناسبه ويعامله معاملة المجلات
والقراطيس الباطلة، وقد يجتمعان، كما إذا اشتراه الكافر ونبذه وراء
ظهره.
على أن الهتك إنما يترتب على تسليط الكافر على المصحف خارجا
لا على مجرد بيعه منه، وعليه فإذا وكل مسلما في بيعه وشرائه
والتصرف فيه والانتفاع به، فإنه لا يترتب عليه الهتك من ناحية تملك
الكافر إياه.
4 - إن بيع المصحف من الكافر يستلزم تنجسه، للعلم العادي بمس
الكافر إياه بالرطوبة، فيكون حراما من هذه الجهة.
وفيه أولا: أن بيعه منه لا يلازم تنجسه، فإن بينهما عموما من وجه،
كما هو واضح.
وثانيا: إن ذلك من صغريات الإعانة على الإثم، وقد علمت في
البحث عن بيع العنب ممن يجعله خمرا أنه لا دليل على حرمتها إلا في
موارد خاصة.
ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أن المستفاد من الوجوه المذكورة هو
حرمة البيع تكليفا، وقد تقدم مرارا أنه لا ملازمة بينها وبين الحرمة
الوضعية.
ثم إن الوجوه المذكورة لو تمت دلالتها على حرمة بيع المصحف من
الكافر، فإنها تقتضي حرمة بيع الأدعية والروايات منه أيضا، خصوصا إذا
كانت مشتملة على أسماء الله وأسماء الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
ثم إن المصنف (رحمه الله) ذكر أن أبعاض المصحف في حكم الكل إذا كان
مستقلا، وأما المتفرقة في تضاعيف غير التفاسير من الكتب للاستشهاد
بلفظه أو معناه فلا يبعد عدم اللحوق، لعدم تحقق الإهانة والعلو.
753

ويرد عليه أن لازم ذلك جواز بيع المصحف منه تماما، إذا كان جزء من
كتاب آخر والمفروض حرمته.
المسألة (2)
جوائز السلطان
قوله: الثانية: جوائز السلطان وعماله، بل مطلق المال المأخوذ منهم مجانا أو
عوضا.
أقول: إن مورد البحث هنا كل مال أخذ من أي شخص يأكل فريقا من
أموال الناس بالظلم والعدوان، وتخصيص الكلام بجوائز السلطان
وعماله إنما هو من جهة الغلبة، وعليه فيعم البحث المال المأخوذ منهم
بعنوان المعاملة، والمال المأخوذ ممن يأخذ أموال الناس بالسرقة أو
الغصب.
ثم إن المال المأخوذ من الجائر لا يخلو من أربعة أقسام: لأن الأخذ إما
أن لا يعلم ولو اجمالا بوجود مال محرم في أموال الجائر، أو هو يعلم
بذلك، وعلى الثاني فإما أن لا يعلم بوجود الحرام في خصوص المال
المأخوذ، أو هو يعلم بذلك، وعلى الثاني فإما أن يعلم بوجود الحرام فيه
تفصيلا أو اجمالا، فهنا أربع صور:
الأول: جواز أخذ المال منه مع الشك في وجود الحرام في أمواله:
الصورة الأولى: أن يأخذ المال من الظالم مع الشك في وجود الحرام
في أمواله.
ولا شبهة في جواز ذلك لعموم قاعدة اليد المتصيدة من الأخبار
754

الكثيرة الواردة في موارد عديدة، وللروايات الخاصة الواردة في
خصوص المقام (1).
وقد استدل المصنف (رحمه الله) على ذلك، مضافا إلى الروايات الخاصة
بالأصل والاجماع.
أما الاجماع فيحتمل قريبا أن يكون مستنده قاعدة اليد، والأخبار
الخاصة الواردة في المقام، فلا يكون اجماعا تعبديا.
وأما الأصل فإن كان المراد به قاعدة اليد، وإنما عبر عنها بالأصل
للمساهلة والمسامحة، فهو متين، لأنها من القواعد المسلمة بين الفقهاء،
فحال الجائر في هذه الصورة حال بقية الناس، فإن الاحتمال المذكور
موجود حتى في أموال العدول من المسلمين، بل يمكن شمول قاعدة
اليد للكفار أيضا، وإن أراد بالأصل غير قاعدة اليد فلا نعلم له وجها
صحيحا.
وقد يقال: إن المراد به أصالة الصحة، فإن القاعدة تقتضي حمل فعل

1 - عن أبي ولاد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان
ليس له مكسب إلا من أعمالهم وأنا أمر به فأنزل عليه فيضيفني ويحسن إلى، وربما أمر لي
بالدراهم والكسوة وقد ضاق صدري من ذلك، فقال لي: كل وخذ منه، فلك المهنا وعليه الوزر
(الفقيه 3: 108، التهذيب 6: 338، عنهما الوسائل 17: 213)، صحيحة.
عن أبي المعزا قال: سأل رجل أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده فقال: أصلحك الله أمر بالعامل
فيجيزني بالدراهم أخذها؟ قال: نعم، قلت: وأحج بها؟ قال: نعم (الفقيه 3: 108، التهذيب
6: 338، عنهما الوسائل 17: 213)، صحيحة.
عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): أن الحسن والحسين (عليهما السلام)
كانا يقبلان جوائز معاوية (التهذيب 6: 337، عنه الوسائل 17: 214)، مجهولة ليحيى.
عن محمد بن مسلم وزرارة قالا: سمعناه يقول: جوائز العمال ليس بها بأس (التهذيب
6: 336، عنه الوسائل 17: 214)، مضمرة، ومجهولة بعلي بن السندي، وغير ذلك من الروايات.
755

المسلم على الصحة، والمفروض أن الجائر من المسلمين فيعامل معاملة
بقية المسلمين.
ولكن يرد عليه أنه لم يقم دليل لفظي على اعتبار أصالة الصحة، لكي
يتمسك باطلاقه في كل مورد يشك فيه، ودليلها إنما هو السيرة، وهي
من الأدلة اللبية، فيؤخذ بالمقدار المتيقن منها، وهو نفس العقود
والايقاعات مع احراز أهلية المتصرف للتصرف.
وعليه فإذا شك في أن العقد الفلاني تحقق صحيحا أو فاسدا لخلل في
ايجابه أو قبوله فإنه يحمل على الصحة، وأما إذا شك فيه من جهة أخرى
فلا دليل على حمل فعل المسلم على الصحة.
ومن هنا لو أشار أحد إلى دار معينة وقال: بعتك هذه الدار بكذا، فإنه
لا يمكن الحكم بصحة هذه المعاملة اعتمادا على أصالة الصحة إذا انتفت
قاعدة اليد، أو إذا قطعنا النظر عنها.
ومن هنا أيضا لو شك في أن البائع أصيل أو فضولي، فإنه لا وجه
لحمله على الأول بمقتضى أصالة الصحة.
وقد يقال: إن المراد بالأصل هو أصالة الإباحة الثابتة بالأدلة العقلية
والنقلية.
وفيه: أن أصالة الإباحة إنما تجري في الأموال إذا لم تكن مسبوقة بيد
أخرى، كالمباحات الأصلية التي ملكها الجائر بالحيازة، وأما إذا كانت
مسبوقة بيد أخرى فإن أصالة الإباحة محكومة بأصل آخر، وهو عدم
انتقال الأموال المذكورة إلى الجائر من مالكها السابق، فيحرم تناول تلك
الأموال من الجائر، إذ ليس هنا أصل موضوعي يثبت مالكيته لما في يده
إلا قاعدة اليد، والمفروض أنها لا تجري في المقام.
756

وقد احتمل المصنف (رحمه الله) أنه لا يجوز أخذ الجوائز من الجائر إلا مع
العلم باشتمال أمواله على مال حلال، لكي يحتمل أن يكون المال
المأخوذ من المال الحلال، وقد استند في ذلك إلى رواية الحميري (1).
ويرد عليه أولا: أن الرواية مرسلة فلا يجوز الاستناد إليها.
وثانيا: أنها غريبة عن محل البحث، فإن مورد كلامنا هي الصورة
الأولى، وهي ما إذا لم يعلم باشتمال أموال الجائر على مال محرم،
ومفروض الرواية عكس ذلك، فتكون راجعة إلى الصورة الآتية.
ولعل ذلك اشتباه من الناسخ، فكتبها في غير موضعها، وقد وقع
نظيره في كتب الشيخ، والله العالم.
الثاني: جواز أخذ المال من الجائر مع العلم الاجمالي بوجود الحرام في
أمواله:
الصورة الثانية: أن يعلم الأخذ اجمالا باشتمال أموال السلطان على
الحرام، ولكن لا يعلم باشتمال الجائزة عليه، فيقع الكلام هنا في
ناحيتين: الأولى أن لا تكون الأصول والأمارات معارضة في أطراف العلم
الاجمالي، والثانية أن تقع المعارضة بينهما في ذلك.
أما الناحية الأولى فذكر المصنف أن التصرف في المال المأخوذ من
السلطان الجائر في هذه الصورة جائز بأحد شرطين على سبيل مانعة
الخلو:

1 - عن الحميري أنه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام) يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف
مستحلا لما في يده، ولا يرع عن أخذ ماله، ربما نزلت في قرية وهو فيها أو أدخل منزله وقد
حضر طعامه - الخ، الجواب: إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه وأقبل
بره وإلا فلا (الإحتجاج: 458، الغيبة للشيخ الطوسي: 235، عنهما الوسائل 17: 217)، مرسلة.
757

1 - أن تكون الشبهة في أطراف العلم الاجمالي غير محصورة.
2 - أن يكون أحد الأطراف خارجا عن محل الابتلاء وإن كانت الشبهة
محصورة، كما إذا دفع الجائر إلى أحد جارية وعلم المدفوع إليه بأن
إحدى الجاريتين مغصوبة، أما هذه الجارية وأما الجارية الأخرى التي
اختص بها الجائر، بحيث أصبحت أم ولد له ومن خواص نسائه، ومن
الواضح أن أم ولد الجائر خارجة عن محل ابتلاء غيره، فلا يكون العلم
الاجمالي منجزا في أمثال ذلك.
وقد استدل على هذا الرأي في فرائده بوجوه شتى، وأشار هنا إلى
واحد منها، وحاصله: أن العلم الاجمالي إنما يوجب التنجيز إذا كان
التكليف المتعلق بالواقع فعليا علي كل تقدير، من غير أن يكون مشروطا
بالابتلاء في بعض الأطراف، وإلا فتكون الشبهة بدوية بالنسبة إلى ما هو
في معرض الابتلاء.
ويرد عليه ما ذكرناه مفصلا في علم الأصول، وحاصله: أن كون
الشبهة محصورة أو غير محصورة، أو خروج بعض أطرافها عن محل
الابتلاء، ليس مناطا في تنجيز العلم الاجمالي، لعدم الدليل عليه من
العقل أو النقل، بل الحجر الأساسي في تنجيزه أن يكون ارتكاب كل فرد
من أطراف الشبهة مقدورا للمكلف بالقدرة العقلية، وإلا فهو لا يوجب
التنجيز لقبح التكليف بأمر غير مقدور للمكلف.
وعليه فإن كان جميع أطراف الشبهة هنا مقدورا للمكلف كان العلم
الاجمالي منجزا للتكليف وإلا فلا، سواء أكانت الشبهة محصورة أم غير
محصورة، وسواء أكان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء أم لا،
وعلى هذا فلا وجه لتفصيل المصنف في المقام.
والتحقيق أنه لا مانع من التصرف في هذه الصورة أيضا، سواء كان أخذ
758

المال من الجائر مجانا أم مع العوض، وذلك من جهة الاعتماد على قاعدة
اليد، فإن من المحتمل أن يكون الحرام منطبقا على ما بيد الجائر دون ما
أعطاه للغير.
ولا فرق فيما ذكرناه بين ما كان المناط في تنجيز العلم الاجمالي نفس
العلم أو تعارض الأصول، والوجه في ذلك أن جريان قاعدة اليد في
المال المأخوذ لا مانع عنه، وأما المال الآخر الباقي تحت يد الجائر فهو
غير مشمول للقاعدة، للعلم بحرمة التصرف فيه على كل من تقديري
كونه غصبا وعدمه، وسيجئ بيان ذلك قريبا.
ومن هنا ظهر أنه لو كان للجائر مركوبان وأن أحدهما غصب فأباح
أحدهما لشخص وأبقى الآخر في يده، فإنه جاز للمباح له أن يتصرف
في ذلك، وأما لو أباح أحدهما وملكه الآخر ببيع ونحوه، فإنه يحرم عليه
التصرف في كليهما.
ما استدل به على كراهة أخذ المال من الجائر مع العلم بوجود الحرام في أمواله
والجواب عنه:
قوله: ثم إنه صرح جماعة بكراهة الأخذ (1).
أقول: كره جماعة أخذ الجائزة من الجائر مع قيام الحجة على الجواز،
واستدلوا عليه بوجوه:
1 - أنه يحتمل أن يكون المأخوذ منه حراما واقعا، لكن قام الدليل
على جواز تناوله ظاهرا فيكون مكروها.

1 - كالعلامة في المنتهى 2: 1026، والشهيد الثاني في المسالك 3: 141، والمحقق
الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 86، والمحدث البحراني في الحدائق 18: 261، والسيد
الطباطبائي في الرياض 1: 509، والسيد المجاهد في المناهل: 303.
759

وفيه: أنه لو كان الاحتمال موجبا لكراهة التصرف في المأخوذ من
الجائر لوجب الالتزام بكراهة التصرف فيما أخذ من أي أحد من الناس
حتى المتورعين في أمورهم، لوجود الاحتمال المذكور في أموالهم،
مع أنه لم يلتزم بها أحد في غير جوائز السلطان.
2 - الأخبار الكثيرة (1) الدالة على حسن الاحتياط، كقوله (عليه السلام): دع ما
يريبك إلى ما لا يريبك، وقولهم (عليهم السلام): فمن ترك الشبهات نجا من
المحرمات، وكقوله (عليه السلام): الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في
الهلكة، وكقول علي (عليه السلام) لكميل بن زياد: أخوك دينك فاحتط لدينك
بما شئت، وفي الحديث: إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه،
فمن رتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه، وغير ذلك من الروايات.
وفيه: أنه إن كان المراد بالريب أو الشبهة التي جعلت موضوعا للحكم
في هذه الأخبار الريب في الحكم الظاهري، بأن كانت واقعة خاصة
مشتبهة في حكمها الظاهري، فهو ممنوع في المقام، لارتفاعه بقاعدة
اليد التي ثبت اعتبارها في الشريعة المقدسة.
وإن كان المراد به الريب في الحكم الواقعي، فالأموال كلها إلا ما شذ
وندر مشتبهة من حيث الحكم الواقعي، حتى الأموال الموجودة في
أيدي عدول المؤمنين، لوجود احتمال الحرمة الواقعية في جميع ذلك،
ولازم ذلك أن يحكم بكراهة التصرف في جميع الأموال غير ما أخذ من
المباحات الأصلية.
وعلى هذا فطريق التخلص من الكراهة أن يعامل بها معاملة مجهول
المالك، كما كان ذلك دأب بعض الأعلام من السادة.

1 - راجع الوسائل: 26، باب 12 وجوب التوقف والاحتياط من أبواب صفات القاضي.
760

نعم يختلف الاحتياط من حيث الشدة والضعف بحسب الموارد،
فالاحتياط في أموال الجائرين أشد من الاحتياط في أموال بقية الناس.
وعلى الجملة لا طريق لنا إلى اثبات الكراهة في جوائز السلطان، لأنه
إن كان المراد بالكراهة الكراهة الشرعية، فالأخبار المذكورة غريبة عنها،
وإن كان المراد بها الكراهة الارشادية الناشئة من حسن الاحتياط،
فلا اختصاص لها بالمقام.
3 - إن أخذ المال منهم يوجب محبتهم، فإن القلوب مجبولة على
حب من أحسن إليها، وقد نهي في الأخبار المتواترة عن موادتهم
ومعاشرتهم، وقد أشرنا إليها في البحث عن حرمة معونة الظالمين.
وفيه: أنه لا شبهة في ورود النهي، إما تحريميا كما في جملة من
الأخبار، أو تنزيهيا كما في جملة أخرى منها عن صحبة الظالمين
وموادتهم ومجالستهم، ولكن بين ذلك وبين أخذ جوائزهم عموما من
وجه، إذ قد يكون أحد محبا للظلمة وأعوانهم من دون أن يأخذ شيئا
منهم، كالذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، حتى صاروا من
أولياء الظلمة ومحبيهم.
وقد يأخذ أحد جوائزهم وأموالهم وهو لا يحبهم، بل ربما أوجب
ذلك بغضهم وعداءهم، كما إذا كان أجيرا للظالم وأعطاه أقل من أجرة
المثل، ودعوى كون الإجارة خارجة عن مورد البحث دعوى جزافية،
فقد عرفت أن مورد البحث أعم من أن يكون الأخذ مجانا أو مع العوض.
4 - قوله (عليه السلام) في رواية الفضل: والله لولا أنني أرى من أزوجه بها من
عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها أبدا (1).

1 - عيون الأخبار 1: 91، عنه الوسائل 17: 216، مجهولة بمحمد بن الحسن المدني
وعبد الله بن الفضل.
761

فإن هذه الرواية صريحة في أن الإمام (عليه السلام) إنما قبل هدية الرشيد
ليزوج بها العزاب من آل أبي طالب لئلا ينقطع نسله، ولولا هذه الناحية
المهمة لكان الرد أولى، فتدل على الكراهة ما لم تكن في الأخذ مصلحة
راجحة.
ولكن يرد عليه أن اشمئزاز الإمام (عليه السلام) عن قبول هدية الرشيد ليس من
جهة كونها من أموال الظلمة بل لاستلزامها المنة، فإن من أشق الأحوال أن
يغصب أحد حق غيره ثم يهدي إليه هدية بعنوان التفضل واظهار
العظمة.
والوجه فيما ذكرناه أن ما أعطاه الرشيد للإمام (عليه السلام) لا يخلو إما أن
يكون من أمواله الشخصية، أو من بيت المال، أو من مجهول المالك، أو
من معروف المالك، فإن كان من الأول فلا شبهة في جواز أخذه، وهو
واضح، وكذلك أن كان من الثاني أو الثالث، فإن ولاية بيت المال
ومجهول المالك للإمام (عليه السلام)، وإن كان من الرابع فللأمام (عليه السلام) أن يأخذه
ويوصله إلى مالكه، وله أن لا يأخذه أصلا، إما أن يأخذه ويزوج به
عزاب بني أبي طالب فذلك غير جائز.
اللهم إلا أن يقال: إنه من جهة كون الإمام (عليه السلام) أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، ولكن هذا بعيد عن مراد الإمام (عليه السلام) في الرواية.
ما استدل به على رفع الكراهة عن جوائز السلطان والجواب عنه:
قوله: ثم إنهم ذكروا ارتفاع الكراهة بأمور، منها اخبار المجيز.
أقول: ذكر الفقهاء (قدس سرهم) موارد لارتفاع الكراهة، بناء على ثبوتها في
جوائز الظالمين:
منها: اخبار الظالم بحلية الجائزة وكونها من أمواله الشخصية، كأن
762

يقول: هذه الجائزة من تجارتي أو من زراعتي أو نحو ذلك، مما يحل
للأخذ التصرف فيه.
ويرد عليه أن ارتفاع الكراهة بذلك بناء على ثبوتها، وإن كان مشهورا
بين الأصحاب بل مما لا خلاف فيه على ما حكاه المصنف عن ظاهر
الرياض تبعا لظاهر الحدائق (1)، إلا أنا لم نجد له مستندا صحيحا، وقد
اعترف بذلك صاحب المناهل.
وقد يتوهم أن المستند في رفع الكراهة هنا ما دل على حجية قول ذي
اليد، فيكون اخباره بذلك كسائر الأمارات المعتبرة شرعا.
وفيه: أن اخباره بحلية ماله لا يزيد على يده، فكما أن اخباره يدل على
الملكية الظاهرية فكذلك يده، واحتمال مخالفة الواقع متحقق في
كليهما.
وعليه فحسن الاحتياط يقتضي الاجتناب في كلا الموردين، ولكنه
لا تثبت به الكراهة المصطلحة الناشئة من الحزازة في الفعل.
منها: اخراج الخمس، نقل المصنف حكايته عن المنتهى والمحقق
الأردبيلي (2)، بل عن ظاهر الرياض (3) عدم الخلاف فيه، وقد استدل على
كونه رافعا للكراهة عن الجوائز بوجوه:
1 - فتوى النهاية والسرائر (4) باستحباب الخمس في الجوائز، بدعوى
أن اخبار من بلغ تشمل ما كان بلوغه بفتوى الفقيه، بل ذكر المصنف أن

1 - أنظر الرياض 1: 509، مفتاح الكرامة 4: 117، الحدائق 18: 261، المناهل: 303،
مجمع الفائدة 8: 86.
2 - المنتهى 2: 1025، مجمع الفائدة 8: 87.
3 - رياض المسائل 1: 509.
4 - النهاية: 357، السرائر 2: 203.
763

فتوى النهاية والسرائر كالرواية، وعليه فلا نحتاج إلى ذلك التعميم.
وفيه: أن استحباب الخمس فيها لا يلازم رفع الكراهة عن التصرف في
البقية.
2 - ما حكاه المصنف عن المنتهى (1)، من أن المال الذي اختلط بالحرام
قطعا يطهر بالتخميس، فما احتمل وجود الحرام فيه يطهر به بالأولوية
القطعية.
ويرد عليه أولا: ما ذكره المصنف، من أن اخراج الخمس من المال
المختلط بالحرام بمنزلة البدل عن الحرام الواقعي، فيكون ذلك نظير
المصالحة في نظر الشارع، فيرتفع به أثر الحرام، أعني به وجوب
الاجتناب، وأما المال الذي يحتمل أن يكون حراما كله وقذرا في ذاته
فلا معنى لتطهره باخراج خمسه، فإنه لو كان المال بمجموعه حراما في
الواقع لم يصح أن يكون الخمس بدلا عنه، لكي يكون ذلك بمنزلة
المصالحة في نظر الشارع.
وثانيا: أن مقتضى القياس هو وجوب الخمس فيما يشك في حرمته
وحليته من الأموال لا استحبابه، فإن اتحاد الملاك في الموردين يقتضي
اتحاد الحكم فيهما، وعليه فتوهم وجوب الخمس في مورد واستحبابه
في مورد آخر مع فرض وحدة الملاك فيهما شبيه بالمتناقضين.
وثالثا: أن هذا الوجه قياس لا يفيد إلا الظن بالواقع، وهو لا يغني من
الحق شيئا.
ورابعا: لو سلمنا جميع ذلك فإنما يدل على طهارة المال باخراج
الخمس، ولا منافاة بين ذلك وبين كراهة التصرف في الباقي.

1 - المنتهى 2: 1025.
764

3 - الأخبار الدالة على وجوب الخمس في مطلق الجوائز، وحيث إن
المشهور لم يلتزموا بوجوب الخمس فيها، فتحمل تلك الأخبار على
الاستحباب.
وفيه أولا: إن اعراض المشهور عن الرواية المعتبرة لا يوجب رفع اليد
عنها، وعليه فمقتضى العمل بتلك الروايات إنما هو وجوب الخمس في
الجائزة لا استحبابه.
وثانيا: إن الظاهر من هذه الأخبار إنما هو وجوب الخمس في الهدايا
لكونها من الغنائم والفوائد والأرباح التي تصل للانسان يوما فيوما،
فشأنها شأن أرباح المكاسب التي يجب فيها الخمس بعد اخراج المؤونة
ومضي السنة، ولازم ذلك أن نقول بوجوب الخمس أو باستحبابه في
الجائزة بعنوانها لا من حيث اندراجها في الأرباح، فلا بد من الالتزام
بثبوته فيها مرتين ولم يلتزم بذلك فقيه.
على أن اخراج الخمس عن الجوائز لا يرفع احتمال الحرمة عن الباقي
إلا مع الالتزام بكون التخميس بمنزلة المصالحة في نظر الشارع، وقد
عرفت جوابه آنفا.
ويضاف إلى ما ذكرناه إنا لم نجد في الروايات ما يدل على وجوب
الخمس في الجائزة بعنوانها حتى نحمله على الاستحباب.
نعم ذكرت الجائزة والهدية في بعض الأحاديث (1) ولكن لا على نحو

1 - في صحيحة علي بن مهزيار قال: كتب إليه أبو جعفر (عليه السلام) وقرأت أنا كتابه إليه في
طريق مكة - إلى أن قال (عليه السلام): - قال الله تعالى: واعلموا إنما غنمتم - الآية، إلى أن قال
(عليه السلام): والغنائم والفوائد يرحمك الله فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من
الانسان للانسان التي لها خطر (التهذيب 4: 141، الإستبصار 2: 60، عنهما الوسائل 9: 501).
عن يزيد قال: كتبت جعلت لك الفداء تعلمني ما الفائدة وما حدها رأيك أبقاك الله أن تمن
على بيان ذلك لكي لا أكون مقيما على حرام لا صلاة لي ولا صوم، فكتب: الفائدة مما يفيد
إليك في تجارة من ربحها، وحرث بعد الغرام أو جائزة (الكافي 1: 457، عنه الوسائل 9: 503)،
ضعيفة بيزيد.
765

الموضوعية، بل لكونهما من أفراد الغنائم والفوائد ومن الأرباح الحاصلة
يوما فيوما.
ومن جميع ما ذكرناه ظهر الجواب عن الموثقة (1) الدالة على وجوب
الخمس فيما حصل للانسان من خصوص عمل السلطان.
4 - ما ذكره المصنف، من أن المستفاد مما تقدم - من اعتذار الكاظم
(عليه السلام) من قبول الجائزة بتزويج عزاب الطالبيين لئلا ينقطع نسلهم، ومن
غيره - أن الكراهة ترتفع بكل مصلحة هي أهم في نظر الشارع من الاجتناب
عن الشبهة.
وقد تقدم أن الوجه في إبائه (عليه السلام) عن قبول هدية الرشيد لزوم المنة،
وإلا فلا شبهة في جواز أخذ الإمام (عليه السلام) إياها.
ثم إنا لو سلمنا كراهة أخذ الجائزة من الجائر فلا رافع لها إلا معاملتها
معاملة مجهول المالك، كما هو كذلك في جميع الأموال التي لم تثبت
حليتها بالعلم الوجداني، وقد كان ذلك دأب بعض الأعاظم من السادة
(رحمه الله).
وأما الناحية الثانية، وهي ما كانت الأصول معارضة في أطراف

1 - عن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل، قال: لا
إلا أن لا يقدر على شئ ولا يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شئ
فليبعث بخمسه إلى أهل البيت (التهذيب 6: 330، عنه الوسائل 9: 506)، موثقة لعمار ومصدق
وغيرهما.
766

الشبهة، فتفصيل الكلام فيها يقع تارة من حيث القواعد، وأخرى من
حيث الروايات.
أما من حيث القواعد، إن الجائر قد يحيز التصرف في شئ معين من
أمواله أو يعطيه لأحد مجانا أو مع العوض، وقد يجيز التصرف في جميع
أمواله على نحو العموم الاستيعابي، وقد يجيز التصرف في شئ منها
على نحو العموم البدلي.
أما القسم الأول فلا شبهة في انحلال العلم الاجمالي فيه إلى شك
بدوي وعلم تفصيلي، لأن الأخذ يعلم تفصيلا بحرمة التصرف في بقية
أموال الجائر، إما لكونها مغصوبة أو لأنه لم يجز التصرف فيها، وأما
خصوص ما أخذه من الجائر فيجوز له التصرف فيه استنادا إلى يد الجائر
التي هي أمارة الملكية، ولا تكون معارضة بيده في الطرف الآخر لما
عرفت من حرمة التصرف فيه على كل تقدير.
ومع الاغضاء عن الاستناد إلى قاعدة اليد فلا بد من التفصيل بين
الأموال التي كانت مسبوقة بيد أخرى، وبين الأموال التي أخذت من
المباحات الأصلية، فإن أصالة عدم الانتقال في الأول حاكمة على أصالة
الحل.
وأما القسم الثاني فلا ريب في تنجيز العلم الاجمالي فيه لتعارض
الأصول وتساقطها في أطرافه، وكون التكليف منجزا على كل تقدير،
كما إذا كان للجائر عشرون دينارا، فأجاز لأحد أن يتصرف في جميعها
وكان المجاز يعلم أن أحد هذه الدنانير حرام، فإنه يحرم عليه التصرف في
جميعها.
وأما القسم الثالث فقد يتوهم فيه انحلال العلم الاجمالي إلى شك
بدوي وعلم تفصيلي على التقريب المتقدم في القسم الأول، ومثاله إذا
767

أعطى الجائر كيسه لشخص وقال له: خذ منه دينارا، وكان الأخذ يعلم
اجمالا باشتمال الكيس على دينار محرم، فإن اختياره دينارا خاصا إنما
يعين متعلق إذن الجائر، فكأنه من الأول إنما أذن في التصرف في ذلك
الدينار المعين، فيجري في هذا القسم جميع ما ذكرناه في القسم الأول.
ولكن التحقيق أنه لا فرق في تنجيز العلم الاجمالي بين القسم الثاني
والثالث، والوجه في ذلك ما فصلناه في علم الأصول، ومجمله أن العلم
الاجمالي بالتكليف الثابت بين الأطراف المعينة التي هي بأجمعها في
معرض الابتلاء يقتضي الاجتناب عن الجميع.
وعليه فالترخيص في ارتكاب ما يختاره المكلف ترخيص في مخالفة
الحكم المنجز من غير وجود مؤمن في البين، وأصالة عدم كون ما يختاره
المجاز حراما معارضة بأصالة عدم كون الباقي حراما، واذن فيجب
الاجتناب عن الجميع.
وبعبارة أخرى أن المناط في تنجيز العلم الاجمالي إنما هو تعارض
الأصول في أطرافه، سواء أكان المكلف مع ذلك متمكنا من ارتكابها على
نحو العموم الشمولي أو على نحو العموم البدلي، بأن لا يتمكن من
ارتكاب المجموع، كما إذا قال المولى لعبده يحرم عليك السكنى في
الدرا المعينة عند طلوع الفجر فاشتبه عليه متعلق التكليف بين دارين فإنه
يجب عليه الاجتناب من كلتا الدارين مع أنه غير متمكن من السكنى فيهما
معا عند طلوع الفجر، فإن عدم تمكن المكلف من ارتكاب مجموع
الأطراف لا يمنع عن تنجيز العلم الاجمالي إذا تمكن من ارتكابها على
البدل.
768

وقد يقال بانحلال العلم الاجمالي أيضا في هذا القسم لوجوه (1):
1 - قاعدة اليد.
وفيه: أن قاعدة اليد إنما توجب الانحلال إذا أجاز الجائر التصرف في
مال معين كما تقدم في القسم الأول، وأما إذا أذن في التصرف في مال غير
معين على نحو العموم البدلي، فإن قاعدة اليد في أي فرد اختاره المجاز
معارضة لها في الطرف الآخر، فلا توجب انحلال العلم الاجمالي.
2 - قاعدة من ادعى شيئا ولم يعارضه أحد في دعواه يحكم بكون
الشئ ملكا له.
وفيه: أن القاعدة المذكورة وإن وردت في بعض الأحاديث (2) ولكنها
غريبة عن المقام، للعلم بوجود الحرام فيما بيد الجائر، على أن الرواية
واردة في قضية شخصية فلا يمكن التعدي منها إلى غيرها للجهل
بخصوصياتها.
3 - إن حمل فعل المسلم على الصحة يقتضي معاملة ما بيد الجائر
معاملة الملكية.
وفيه: مضافا إلى ما أوردناه على الوجه الأول، أنه قد يراد من أصالة
الصحة حمل فعل المسلم على الصحيح فيما إذا كان ذا وجهين: الحلال
والحرام، ولا شبهة أن حمله على الوجه الحلال لا يوجب ترتب آثاره
عليه، كما إذا تكلم المسلم بكلام احتملنا أنه سلام أو سباب فحمل فعله

1 - أنظر الشرايع 2: 12، نهاية الإحكام 2: 525، الدروس 3: 170، الكفاية: 88، الرياض
1: 509.
2 - عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: عشرة كانوا جلوسا وسطهم
كيس فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضا: ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم: لا، وقال واحد منهم:
هو لي، فلمن هو؟ قال: للذي ادعاه (الوسائل 26، باب 16 أنه إذا كان جماعة جلوسا من أبواب
كيفية الحكم)، مرسلة.
769

على الصحة يقتضي أن لا يكون سبابا، ولكن ذلك لا يثبت كونه سلاما
فيجب رد جوابه، فإذا حملنا فعل الجائر على الصحة بهذا المعنى لم يفد
ذلك شيئا ولم تترتب عليه آثار الصحة من الحكم بملكية المأخوذ
وجواز التصرف فيه.
وقد يراد بها أصالة الصحة في العقود، ولا ريب أنها لا تثبت كون
العوضين ملكا للمتبايعين، وإنما تثبت بها صحة العقود إذا شك فيها لأمر
يرجع إلى الصيغة، لعدم الدليل أزيد من ذلك، فأصالة الصحة إما أن
لا تكون جارية أو لا تثبت بها لوازمها.
وأما من حيث الروايات، فقد استدل على جواز التصرف في المأخوذ
إذا علم اجمالا باشتمال مال الجائر على الحرام بطوائف من الروايات:
1 - الأخبار الواردة في باب الرباء (1)، الدالة على وجوب رد الزائد عن
رأس المال إلى مالكه إذا كان معلوما، وأما إذا كان المالك مجهولا فهو
حلال للأخذ، وقد استدل بها السيد في حاشيته (2) على جواز التصرف في
الجائزة ولو مع العلم اجمالا باشتمالها على الحرام.
وفيه: أن هذه الأخبار غريبة عما نحن فيه، لأنها راجعة إلى حلية الرباء
بعد التوبة ودالة على عفو الله عن ذلك، تسهيلا لمكلفين وترغيبا في
التوبة، وعليه فالتوبة شرط متأخر لحلية الرباء مع الجهل بصاحبه.
وقد ورد (3) في تفسير قوله تعالى: فله ما سلف (4) ما يدل على العفو
عن الرباء وضعا وتكليفا بعد التوبة.

1 - راجع الوسائل: 18، باب 5 حكم من أكل الرباء بجهالة ثم تاب من أبواب الرباء: 128.
2 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 32.
3 - التهذيب 7: 15، عنه الوسائل 18: 131.
4 - البقرة: 276.
770

وحينئذ فشأن الرباء شأن الموارد التي أذن الشارع في التصرف في
أموال الناس بدون إذنهم، كأكل طعام الغير في المجاعة، والتصرف في
اللقطة بعد التعريف، وفي الأراضي المتسعة والأنهار الكبار،
وكالتصرف في الأراضي المغصوبة لانقاذ الغريق إلى غير ذلك من
الموارد.
2 - الأخبار الدالة على حلية الأشياء ما لم تثبت حرمتها (1)، فإنها تدل
باطلاقها على جواز التصرف فيما أخذ من الظالم ما لم تعلم حرمته
تفصيلا.
ولكن يرد عليها أن العمل باطلاقها يقتضي الحكم بجواز ارتكاب
جميع الشبهات، سواء كانت مقرونة بالعلم الاجمالي أم لا، وسواء كانت
الشبهة محصورة أم لا، ومن الضروري أن هذا مما لا يمكن الالتزام به،
وعليه فلا بد من حمل تلك الأخبار على فرض كون الشبهة بدوية.
وبعبارة أخرى أن تلك الأخبار منصرفة عن موارد العلم الاجمالي إذا
كانت في معرض الابتلاء، فإن شمولها لجميع الأطراف يستلزم المخالفة
القطعية، ولأحدهما المعين ترجيح بلا مرجح، وعنوان أحدهما من غير
تعيين ليس له مصداق غير الأفراد الخارجية، والفرد المردد لا وجود له
حتى في علم الله.
على أن القائلين بجواز أخذ الجائزة من الجائر كالشهيدين والمحقق
وغيرهم لم يقولوا بجواز المخالفة القطعية في أطراف العلم الاجمالي.
قوله: وقد تقرر حكومة قاعدة الاحتياط على ذلك.

1 - راجع التهذيب 9: 79، الفقيه 3: 216، قرب الإسناد: 117، مستطرفات السرائر: 84،
الوسائل: 24، باب 64 حكم السمن والجبن وغيرهما من أبواب الأطعمة المحرمة: 235،
والوسائل: 17، باب 34 عدم جواز الانفاق من الحرام مما يكتسب به: 87.
771

أقول: العجب من المصنف فإنه قد أسس المباني الأصولية وشيد
أساس تقديم أدلة البراءة على أدلة الاحتياط، ومع ذلك التزم هنا
بحكومة قاعدة الاحتياط على البراءة.
قوله: على أن اليد لا نؤثر فيه.
أقول: الوجه في ذلك ما تقدم، من أن جريان قاعدة اليد في بعض
الأطراف معارض بجريانها في الطرف الآخر، للعلم بمخالفتها للواقع في
أحد الطرفين.
قوله: فهو على طرف النقيض مما تقدم عن المسالك (1).
أقول: الوجه فيه أن القول بعدم وجوب الاحتياط يناقض القول
بوجوبه، كما أن القول بخروج جوائز الظالم عن مورد الشبهة المحصورة
تخصصا يناقض القول بخروجها عن ذلك تخصيصا.
3 - الأخبار الدالة على جواز أخذ الجوائز من الجائر، سواء كان الأخذ
مع العوض أم بدونه، وقد تقدمت جملة من هذه الروايات (2).
وفيه: أن المستدل بهذه الأخبار إما أن يدعي ظهورها في الحلية
الواقعية، أو يدعي ظهورها في الحلية الظاهرية.
أما الدعوى الأولى فحاصلها أن الشارع قد حكم بأن أخذ المال من
الجائر يوجب حليته واقعا، نظير تخميس المال المختلط بالحرام بناء
على كونه مطهرا للمال المذكور واقعا.
وهذه الدعوى وإن كانت لا غرابة فيها في نفسها، لأن الشارع قد أباح
التصرف في مال الغير بدون إذنه إباحة واقعية في موارد كثيرة، كأكل

1 - المسالك 3: 141.
2 - قد تقدمت ذكرها في البحث عن أخذ المال من الجائر مع الشك في وجود الحرام في
أمواله.
772

طعام الغير في المجاعة، والتصرف في أرضه لانجاء الغريق، وأكل
المارة من ثمرته، وأكل اللقطة بعد التعريف المقرر في الشريعة،
والتصرف في الأراضي المتسعة والأنهار الكبار، وكالتصرف فيما يؤخذ
ممن لا يعتقد الخمس، فإن الأئمة (عليهم السلام) قد جعلوا شيعتهم في حل من
ذلك واقعا ليطيب نسلهم، ولكن لا يمكن الذهاب إلى ذلك في مقام
الاثبات إلا فيما دل الدليل عليه كما في الموارد المذكورة.
نعم يظهر ذلك من اطلاق جملة من الروايات، كقوله (عليه السلام) في رواية
أبي ولاد المتقدمة: فلك المهنا وعليه الوزر (1)، وغير ذلك من الأخبار،
ولكن العمل باطلاقها يقتضي إباحة أخذ الجائزة من الجائر حتى مع
العلم التفصيلي باشتمالها على الحرام ولم يتفوه به أحد، وعليه فلا بد من
رفع اليد عن اطلاقها وحمله على الشبهات البدوية أو المقرونة بالعلم
الاجمالي الذي لا يوجب التنجيز.
ولنا أن نمنع دلالة تلك الروايات على جواز أخذ الجائزة من الجائر
مطلقا، فإن السؤال فيها من جهة ما هو مرتكز في أذهان الناس، من أن
الجائر لا يبالي بالحرام، وحينئذ فتكون أمواله مشتبهة بالحرام، إذ
ليست أموال الجائرين مقطوعة الحرمة ليكون ذلك احتمالا موهونا في
حقهم.
ويلوح هذا المعنى من بعض تلك الروايات، كصحيحة أبي ولاد التي
تقدمت، بل الظاهر من بعضها تقييد الحكم بصورة الشك فقط، كرواية
إسحاق بن عمار (2).

1 - التهذيب 6: 338، الفقيه 3: 108، عنهما الوسائل 17: 213، وقد مر قبيل هذا.
2 - عن إسحاق بن عمار قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم، قال:
يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا (التهذيب 7: 132، عنه الوسائل 17: 221)، موثقة
بإسحاق بن عمار.
773

وأما الدعوى الثانية، فحاصلها أن المال المأخوذ من الجائر على
تقدير كونه حراما فهو باق على حرمته الواقعية، ولكنه حلال في الظاهر
بترخيص الشارع كبقية الأحكام الظاهرية.
ويرد على ذلك أن تلك الأخبار لا يمكن شمولها لجميع الأطراف،
فإنه ترخيص في مخالفة حكم الشارع فهو حرام، ولبعضها دون بعض
ترجيح بلا مرجح، وإذن فتخرج موارد العلم الاجمالي الذي يوجب
التنجيز عن حدود تلك الأخبار تخصصا.
الثالث: ما علم تفصيلا بكون الجائزة محرمة:
قد ظهر حكمها من الصورة السابقة فلا نحتاج إلى الإعادة، وإنما
المهم هو التعرض للأمور التي ذكرها المصنف في ذيل هذه الصورة:
ألف - ما هو حكم الجائزة إذا علم الأخذ تفصيلا بأنها مغصوبة؟
أقول: إن علم الآخذ بحرمة الجائزة تارة يكون قبل استقرارها في يده
وأخرى بعده.
أما الجهة الأولى فيحرم عليه أخذها اختيارا بقصد التملك، للعلم
بكونها مال الغير وأنه يحرم التصرف في مال الغير بدون إذن صاحبه، بل
يحرم التصرف حتى مع قصد ارضاء مالكه بعده، فإن التصرف في مال
الغير أنما يجوز إذا كان المالك راضيا به حال التصرف، وأما الرضاء
المتأخر فلا يؤثر في مشروعية التصرف المتقدم، فيكون الآخذ ضامنا
للمالك مع التلف، لأن يده يد عدوان.
774

نعم يجوز أخذه لايصاله إلى مالكه إذا كان معلوما، أو ليطبق عليه
حكم مجهول المالك إذا كان المالك مجهولا، هذا كله إذا لم يخش ضررا
من الجائر لعدم أخذه، وإلا فلا شبهة في جوازه للأخبار (1) الدالة على
مشروعية التقية عند كل ضرورة.
ثم إنه هل يجوز أخذ الجائزة عند التقية مطلقا، أم لا يجوز أخذها إلا
بنية الرد إلى مالكها، ذهب المصنف إلى الثاني بدعوى أن أخذه بغير نية
الرد تصرف في مال الغير بدون إذنه، وأما التقية فلا ريب أنها تتأدى بقصد
الرد.
وتوضيح مرامه: أن عدم المندوحة وإن لم يعتبر في التقية بالنسبة إلى
أصل العمل، ولكن لا شبهة في اعتباره حال العمل، مثلا إذا اقتضت
التقية أن يكفر في صلاته مع سعة الوقت وتمكن المكلف من الاتيان بها
بغير تكفير في بيت مظلم لا يراه أحد، لصحت صلاته لاطلاق الروايات
الدالة على مشروعية التقية، فإن موضوعها متحقق حين الاتيان بالعمل
على وجه التقية.
وأما إذا كانت له مندوحة حال العمل فتمكن من ايقاعه على غير وجه
التقية، فلا شبهة في فساد عمله إذا أوقعه على وجه التقية، فإذا تمكن
المصلي مثلا من السجود على الأرض وعلى الفراش كليهما، فلا ريب
في وجوب السجود على الأرض وعدم كفاية السجود على الفراش،
وكذلك إذا تمكن المتوضئ من المسح على الرجل وعلى الخف
كليهما، بأن كانت عنده فرقتان من العامة فرقة تجوز المسح على الخف
وفرقة لا تجوزه عليه، فإنه لا ريب في وجوب المسح على الرجل لوجود
المندوحة.

1 - قد تقدمت الإشارة إلى مصادرها في البحث عن حكم الاضرار بالناس مع الاكراه.
775

والوجه في ذلك أنه لا يكون مشمولا لأخبار التقية، لعدم تحقق
موضوعها إذا وجدت المندوحة حال العمل.
وأما الاكراه على أخذ الجائزة من الجائر، فقد تقدم في البحث عن
الاكراه على الولاية من الجائر أن الاكراه لا يتحقق مع وجود المندوحة،
فإذا أكره الجائر شخصا على شرب أحد إنائين: أحدهما خل والآخر
خمر، فإنه لا يجوز للمكره - بالفتح - أن يشرب الخمر بتوهم أنه مكره
عليه، إذ الاكراه إنما هو على الجامع لا على الفرد الخاص، ومن هنا ظهر
حكم الاضطرار أيضا.
وعلى هذا فإذا اقتضت التقية أو الاكراه والاضطرار أخذ الجائزة من
الجائر مع العلم التفصيلي بكونها مغصوبة، جاز أخذها بل وجب في
بعض الأحيان، ولكن التقية وأمثالها تتأدى بأخذها بنية الرد إلى مالكها،
فلا يسوغ أخذها بغير هذه النية.
ثم إذا أخذت لا بنية الرد ضمن الآخذ ما أخذه ووجب عليه عند
التلف أداء مثلها أو قيمتها لمالكها، لأن يده مشمولة لقاعدة اليد الحاكمة
بضمان ما أخذت.
وأما إذا كان الأخذ بنية الرد إلى المالك فهو لا يخلو عن إحدى ثلاث
صور: لأن الآخذ قد يكون عالما بعدم رضاء المالك بأخذ ماله من الجائر،
وقد يكون عالما برضاه بذلك، وقد يكون شاكا فيه.
فعلى الأول لا يجوز أخذ المال من الجائر، فإن دليل سلطنة الناس
على أموالهم يقتضي كون زمام المال بيد مالكه وليس لغيره أن يعارضه
في سلطنته على ماله، مثلا إذا أطلق أحد عنان فرسه ليذهب إلى البيداء
لغرض عقلائي ولم يرض برده، فإنه لا يجوز لأحد أن يأخذه ويحفظه
لمالكه، بزعم أنه احسان إليه، لأنه تصرف في مال الغير بدون إذنه فهو
776

حرام، وعلى هذا فلو أخذه أحد وجب عليه أن يرده إلى صاحبه لقاعدة
ضمان اليد.
وعلى الثاني لا شبهة في جواز الأخذ بنية الرد إلى المالك، ولا يكون
الأخذ حينئذ منافيا لسلطنته، ويكون المال المأخوذ أمانة مالكية
لا شرعية كما يظهر من المصنف، والوجه في ذلك أن أخذ المال من
الجائر مع العلم برضاء المالك يكون شأنه شأن الوديعة المأخوذة من
نفس المالك.
ثم لا يخفى أنه ليس لقصد الرد إلى المالك وعدمه موضوعية لعنواني
الاحسان والظلم، كسائر الموارد التي يكون القصد موضوعا للحكم،
وليس مأخوذا على نحو الطريقية كما هو واضح.
وعلى الثالث لا ريب في جواز الأخذ بنية الرد إلى صاحبه، لكونه
عدلا واحسانا، ويكون المأخوذ حينئذ أمانة شرعية عند الأخذ،
فلا يضمنه مع التلف بغير تفريط لأنه محسن، وما على المحسنين من
سبيل، ولا يكون المورد مشمولا لقاعدة ضمان اليد، لا من جهة اعتبار
التعدي في مفهوم الأخذ كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ، لكون مفهوم
الأخذ أوسع من ذلك، بل من جهة تخصيص القاعدة بالروايات الدالة على
عدم الضمان في الأمانة.
نعم لو أخذه بغير قصد الرد إلى المالك فتلف عند الآخذ ضمن
للمالك، لأن الآخذ حينئذ تعد على مال الغير ومعارضة لسلطانه، فهو
حرام وضعا وتكليفا.
وقد يقال بحرمة التصرف فيما أخذ من الجائر مع العلم بكونه مغصوبا،
سواء كان الأخذ بنية الرد إلى المالك أم لا، لقوله: لا يحل دم امرئ
777

مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه (1)، وقوله: فلا يحل لأحد أن يتصرف
في مال غيره بغير إذنه (2)، فإن الأخذ تصرف في مال الغير مع عدم احراز
إذنه فيه، فهو حرام وظلم لا عدل واحسان.
ونظير ذلك ما إذا أراد المالك بيع متاعه من شخص بخمسة دنانير،
وأراد غيره بيع ذلك المتاع من شخص آخر بثمانية دنانير مع عدم رضى
المالك، فإن ذلك لا يجوز بزعم أنه احسان إليه.
وهو ضعيف، أما الرواية الأولى فإن الحلية والحرمة فيها حكمان
لموضوع واحد، وسبب الاختلاف إنما هو إذن المالك وعدمه، ومن
الواضح أن الموضوع المذكور إنما هو منافع المال التي تعود إلى

1 - عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من كانت
عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس
منه (الكافي 7: 273، الفقيه 4: 66، عنهما الوسائل 5: 120)، موثقة لزرعة وسماعة الواقفيين.
2 - في الإحتجاج عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي، قال: كان فيما ورد على من
الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري قدس الله روحه في جواب مسائل إلى صاحب الزمان
(عليه السلام)، إلى أن قال (عليه السلام): وأما ما سألت عنه عن أمر الضياع التي لناحيتنا هل يجوز القيام
بعمارتها وأداء الخراج منها وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتسابا للأجر وتقربا إليكم
، فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحل ذلك في مالنا، من فعل ذلك
بغير أمرنا فقد استحل منا ما حرم عليه، ومن أكل من أموالنا شيئا فإنما يأكل في بطنه نارا و
سيصلى سعيرا (الإحتجاج: 480).
وعن تحف العقول عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في خطبة حجة الوداع: أيها الناس إنما
المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه (تحف العقول: 34، عنه
الوسائل 5: 120)، مرسلة.
عن عوالي اللئالي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المسلم أخو المسلم، لا يحل ماله إلا عن طيب
نفسه (عوالي اللئالي 3: 473، عنه المستدرك 3: 331)، مرسلة.
778

المتصرف، من الأكل والشرب والبيع والهبة ونحوها، فوضع اليد على
مال الغير بنية الرد إلى المالك خارج عن حدود الرواية، فإنه ليس من
المنافع العائدة إلى الآخذ بل هو من المنافع التي تعود إلى المالك، وليس
للأخذ منها إلا العناء والكلفة.
وأما الرواية الثانية، فإنا نمنع صدق التصرف على مجرد الأخذ بنية
الرد إلى المالك، إذ التصرف عبارة عن التقليب والتقلب، ولا نسلم صدقه
على ذلك، وإذا سلمنا صدقه عليه لغة فإنه منصرف عنه عرفا، فيكون
المأخوذ أمانة شرعية عند الآخذ فتترتب عليه أحكامها الوضعية
والتكليفية.
وعلى الجملة إن وضع اليد على مال الغير لحفظه وايصاله إلى مالكه
خارج عن الروايتين موضوعا وحكما، وهذا معنى يحكم به الوجدان
وأهل العرف، ويؤيده ما في موثقة أبي بصير من أن: حرمة مال المؤمن
كحرمة دمه (1).
نعم إذا منع المالك عن وضع اليد على ماله حتى بقصد الرد إليه كان
ذلك حراما أيضا، كما أن دق أبواب الناس جائز للسيرة القطعية، فإذا منع
المالك عنه كان حراما.
وأما قياس المقام ببيع مال الغير بدون إذنه فواضح البطلان.
وأما الجهة الثانية، وهي ما إذا أخذ المال من الجائر ثم علم بعد ذلك
بكونه مغصوبا، فظاهر المصنف وصريح السيد في حاشيته (2) أن هنا
مسألتين:

1 - قد تقدم هذه الرواية في البحث عن حرمة سب المؤمن.
2 - حاشية العلامة الطباطبائي: 39.
779

1 - هل الأخذ من الجائر بنية التملك مع الجهل بكون المأخوذ من
أموال الغير موجبا للضمان أم لا؟
2 - إذا حكمنا بالضمان بذلك فهل يبقى هذا الحكم، حتى إذا نوى
الآخذ حفظ المال وايصاله إلى مالكه بعد العلم بالحال أم لا يبقى ذلك
الحكم بل يتغير بتغير العنوان؟
أما المسألة الأولى، فالظاهر أن القول بالضمان هو المشهور بين
الأصحاب وظاهر المسالك (1) عدم الضمان مع القبض جاهلا، قال: لأنه
يد أمانة فيستصحب.
إلا أنه لا يفهم وجها صحيحا لهذا الاستصحاب، إذ ليس ذلك مسبوقا
بيد الأمانة حتى نستصحبها، و يمكن توجيه كلامه بأحد وجهين:
1 - إن معنى الضمان عندنا عبارة عن انتقال القيمة أو المثل إلى ذمة
الضامن، ومن الضروري أن هذا المعنى لا يتحقق إلا بالتلف، وحيث أن
يد الآخذ كانت يد أمانة لا توجب الضمان لكونه جاهلا بالحال، فإذا شك
في تغير الحكم بعد حصول العلم كان مقتضى القاعدة هو الاستصحاب.
وهذا التوجيه بديهي البطلان ولا يناسب مقام الشهيد، بداهة أن
الضمان يتحقق بالاستيلاء على مال الغير بدون سبب شرعي، من غير
فرق بين العلم والجهل، وبين كون المستولي كبيرا أو صغيرا، عاقلا أو
مجنونا، نعم تنتقل العين إلى المثل أو القيمة حين التلف، ولكن هذا
الانتقال أجنبي عن أصل الضمان، ولم يثبت في المقام كون اليد يد أمانة
حتى تستصحب.
2 - إن الشارع قد رخص في أخذ الجائزة عند الجهل بكونها مغصوبة،

1 - المسالك 3: 142، أنظر الجواهر 22: 179، المصابيح: 55 (مخطوط).
780

فتكون يد الآخذ يد أمانة شرعية، فإذا شك في ضمان العين بعد تلفها كان
المرجع هو استصحاب يد الأمانة.
ولكن يرد عليه أن ترخيص الشارع في ذلك ترخيص ظاهري في
ظرف الجهل لا ترخيص واقعي، أما حكم الشارع بالضمان فهو حكم
واقعي ثابت في حالتي العلم والجهل، ولا منافاة بين الحكمين على ما
حققناه في علم الأصول، وعليه فوضع اليد على مال الغير بنية التملك
يوجب الضمان، فإذا انكشف الواقع فإن كانت العين باقية فلا بد من ردها
إلى مالكها وإلا فلا بد من رد مثلها أو قيمتها إليه.
ويدل على ما ذكرناه حكمهم بالضمان في مسألة تعاقب الأيدي على
المال المغصوب مع الجهل بالحال، ولم يقل أحد فيها بعدم الضمان
حتى صاحب المسالك (رحمه الله).
وأما المسألة الثانية، وهي أنه إذا كان وضع اليد على المال موجبا
للضمان فهل يرتفع هذا الحكم بنية الرد إلى المالك بعد العلم بالحال أم
لا؟ فيه وجهان: الضمان، كما ذهب إليه المصنف (رحمه الله)، وعدمه، كما
ذهب إليه السيد في حاشيته (1).
وقد استدل المصنف (رحمه الله) على الضمان بما حاصله: أن أخذ الجائزة
من الجائر بنية التملك وإن كان جائزا بمقتضى الحكم الظاهري، إلا أنه
يوجب الضمان واقعا لقاعدة ضمان اليد، فإذا انكشف الخلاف وتبدل
قصد الآخذ وبنى على حفظ المال للمالك ورده إليه شككنا في ارتفاع
الضمان الثابت بقاعدة ضمان اليد وعدمه، فنستصحب بقاءه.
وأشكل عليه السيد بأن علة الضمان وإن كانت هي الأخذ العدواني

1 - حاشية العلامة الطباطبائي: 40.
781

إلا أنها قد زالت بنية الرد إلى المالك في مسألتنا وأمثالها، لأن اليد قد
انقلبت من العدوان والخيانة إلى الاحسان والأمانة، فيكون المال أمانة
شرعية عند الآخذ، فلا يترتب عليه الضمان عند التلف، لأن قاعدة
ضمان اليد مخصصة بما دل على عدم الضمان في الأمانة، و بان الودعي
محسن وما على المحسنين من سبيل، وعليه فلا مجال لاستصحاب
الضمان لعدم بقاء موضوعه.
والتحقيق هو ما ذكره المصنف (رحمه الله) من الضمان، وليس الوجه فيه هو
الاستصحاب، لما بنينا عليه من عدم جريانه في الشبهات الحكمية، بل
الوجه في ذلك أن وضع اليد على مال الغير بقصد التملك علة لحدوث
الضمان وبقائه، سواء تبدلت بعد ذلك بيد الأمانة أم لا، لأن ضمان اليد
لا يرتفع إلا بحصول غايته، وهي الأداء، فما لم تتحقق الغاية لم يسقط
الضمان.
وعليه فكون اليد الفعلية الحادثة يد أمانة لا تزاحم اليد السابقة
المقتضية للضمان بقاء، فإن يد الأمين لا تقتضي الضمان لا أنها تقتضي
عدم الضمان، ومن البديهي أن ما لا اقتضاء له لا يزاحم ما له الاقتضاء،
ومجرد نية الرد إلى المالك لا يرفع الضمان الثابت باليد ابتداء، كما أن
الأحكام الثابتة على الأشياء بعناوينها الأولية لا تنافي الأحكام الثابتة
عليها بعناوينها الثانوية.
ب - رد المأخوذ من الجائر إلى أهله:
الأمر الثاني: في رد ما أخذ من الجائر إلى أهله، وتحقيق الكلام هنا
يقع في ناحيتين: الأولى أن يكون المأخوذ من الجائر معلوم المالك،
والثانية أن يكون مجهول المالك.
782

أما الناحية الأولى فلا شبهة في وجوب رد المأخوذ منه إلى مالكه
المعلوم لكونه أمانة في يد الآخذ، وقد دلت الآية (1) على وجوب رد
الأمانات إلى أهلها، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون علم الآخذ بالحال قبل
وقوع المال في يده أو بعده، وإنما الكلام في معنى الأداء، فهل هو مجرد
اعلام المالك بذلك والتخلية بينه وبين ماله، أم حمله إليه واقباضه منه؟
قد يستظهر الثاني من الآية، فإن الظاهر من رد الأمانات إلى أهلها هو
الرد الحقيقي، أي حملها إليهم واقباضها منهم، ولكن المرتكز في أذهان
عامة أهل العرف والظاهر من ملاحظة موارد الأمانات أن المراد بأداء
الأمانة إنما هو التخلية بينها وبين صاحبها، كما عليه أكثر الفقهاء (2).
ويؤيد ما ذكرناه بل يدل عليه أن المودع إذا طلب من الودعي حمل
الوديعة إليه ذمه العقلاء، خصوصا إذا بعد موضع أحدهما عن الآخر
واحتاج النقل إلى المؤونة، بل ربما يستلزم الحمل الحرج والضرر،
وهما منفيان في الشريعة المقدسة، فافهم.
نعم لو نقلها الودعي من بلد الايداع إلى بلد آخر بغير داعي الحفظ
وبدون إذن المالك وجب عليه ردها إلى بلد الوديعة.
وأما الناحية الثانية، أعني ما إذا كان المالك مجهولا، فيقع الكلام فيها
من جهات شتى:
1 - وجوب الفحص عن المالك:
الجهة الأولى: هل يجب الفحص عن المالك أم لا؟

1 - قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، النساء: 61.
2 - التذكرة 2: 205، المسالك 5: 97، جامع المقاصد 6: 43، الحدائق 21: 426، الرياض
1: 622، الكفاية: 133.
783

قد يقال بعدم الوجوب، كما احتمله المصنف، فيجوز التصدق
بمجهول المالك بغير فحص عن مالكه استنادا إلى اطلاق جملة من
الروايات (1).

1 - عن ابن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتاب بني أمية، فقال لي: استأذن لي على
أبي عبد الله (عليه السلام)، فاستأذنت له عليه، فأذن له، فلما أن دخل سلم وجلس ثم قال: جعلت فداك
إني كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالا كثيرا وأغمضت في مطالبه - ثم قال: -
الفتى جعلت فداك فهل لي مخرج منه؟ قال: إن قلت لك تفعل، قال: أفعل، قال له: فاخرج من
جميع ما اكتسبت في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله ومن لم تعرف تصدقت له،
وأنا أضمن لك على الله الجنة - الخبر (الكافي 5: 106، التهذيب 6: 331، عنهما الوسائل
17: 200)، ضعيف بإبراهيم بن إسحاق وعلي بن أبي حمزة البطائني.
عن علي بن ميمون الصايغ قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عما يكنس من التراب فأبيعه فما
أصنع به، قال: تصدق به فأما لك وأما لأهله - الحديث (الكافي 5: 250، التهذيب 7: 111،
عنهما الوسائل 18: 202)، ضعيف لعلي الصايغ.
عنه قال: سألته عن تراب الصواغين وإنا نبيعه، قال: أما تستطيع أن تستحله من صاحبه؟
قال: قلت: لا إذا أخبرته اتهمني، قال: بعه، قلت: فبأي شئ نبيعه، قال: بطعام، قلت: فأي
شئ أصنع به، قال: تصدق به أما لك وأما لأهله - الخبر (التهذيب 6: 383، عنه الوسائل
18: 202)، ضعيف للصايغ المذكور ومضمر.
عن أبي علي بن راشد قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) قلت: جعلت فداك اشتريت أرضا إلى
جنب ضيعتي بألفي درهم، فلما وفيت المال خبرت أن الأرض وقف، فقال (عليه السلام): لا يجوز شراء
الوقف ولا تدخل الغلة في مالك وادفعها إلى من وقفت عليه، قلت: لا أعرف لها ربا؟ قال:
تصدق بغلتها (الكافي 7: 37، عنه الوسائل 17: 364)، مهملة بمحمد بن جعفر الرزاز.
عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل ترك غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو
عصيرا، فانطلق الغلام فعصر خمرا ثم باعه، قال: لا يصلح ثمنه - إلى أن قال (عليه السلام): - إن أفضل
خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنه (الكافي 5: 230، التهذيب 7: 136، عنهما
الوسائل 18: 223)، حسنة بإبراهيم.
وفي المستدرك ما يدل على ذلك (دعائم الاسلام 2: 458، عنه المستدرك 13: 139).
784

وقد يقال بوجوب الفحص لوجهين:
1 - الأخبار الدالة على وجوب الفحص عن المالك، فإن مقتضى
القاعدة تقييد المطلقات بهذه الأخبار.
فمنها: ما ورد (1) في ايداع اللص دراهم أو متاعا عند مسلم، فإنه دل
على أن الوديعة بمنزلة اللقطة فيعرفها الودعي حولا فإن أصابا صاحبها
ردها إليه وإلا تصدق بها عنه.
ومنها: ما دل (2) على وجوب الفحص عن الأجير لايصال حقه إليه.
ومنها: الأخبار (3) الواردة في وجوب تعريف اللقطة.
ومنها: ما دل (4) على وجوب الفحص عن رجل كان له على رجل حق

1 - عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل
من اللصوص دراهم أو متاعا واللص مسلم هل يرد عليه؟ فقال: لا يرده، فإن أمكنه أن يرده
على أصحابه فعل وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرفها حولا، فإن أصاب صاحبها
ردها عليه وإلا تصدق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر
فله الأجر فله الأجر، وإن اختار الغرم غرم له، وكان الأجر له (الكافي 5: 308، الفقيه 3: 190،
المقنع: 128، التهذيب 6: 396، الإستبصار 4: 123، عنهم الوسائل 25: 364)، ضعيفة بقاسم بن
محمد وحفص بن غياث.
2 - عن هشام بن سالم قال: سأل حفص الأعور أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا عنده جالس، قال:
إنه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه وله عندنا دراهم وليس له وارث، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
تطلب له وارثا، فإن وجدت له وارثا وإلا فهو كسبيل مالك، ثم قال: ما عسى أن يصنع بها، ثم
قال: توصي بها، فإن جاء لها طالب وإلا فهي كسبيل مالك (التهذيب 7: 177، عنه الوسائل
18: 364)، موثقة بابن سماعة وغيره، إلى غير ذلك من الروايات.
3 - راجع التهذيب 6: 389 - 397، الإستبصار 3: 68، والوسائل: 25، باب 2 وجوب
تعريف اللقطة من كتاب اللقطة: 441.
4 - عن ابن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل كان له على رجل حق ففقده ولا يدري
أين يطلبه ولا يدري أحي هو أم ميت، ولا يعرف له وارثا، ولا نسبا ولا ولدا، قال: اطلبه، قال:
إن ذلك طال فأتصدق به، قال: اطلبه (التهذيب 6: 188، عنه الوسائل 18: 362)، صحيحة.
785

ففقده الرجل المديون.
ومنها: رواية يونس بن عبد الله، قال: سئل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) وأنا
حاضر - إلى أن قال: - فقال: رفيق كان لنا بمكة فرحل منها إلى منزله
ورحلنا إلى منازلنا، فلما أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا،
فأي شئ نصنع به، قال: تحملونه حتى تحملوه إلى الكوفة، قال: لسنا
نعرفه ولا نعرف بلده ولا نعرف كيف نصنع، قال: إذا كان كذا فبعه
وتصدق بثمنه، قال له: على من جعلت فداك، قال: على أهل الولاية (1).
فإن قوله (عليه السلام): إذا كان كذا فبعه وتصدق بثمنه، مترتب على اليأس
من الوصول إلى المالك، ويدل مفهومه على عدم جواز التصدق به قبل
اليأس، وهذه الروايات وإن كانت خاصة بحسب الموارد إلا أن الملاك
فيها هو عدم امكان ايصال المال إلى مالكه، فيتعدى منها إلى مطلق
مجهول المالك.
ولكن الظاهر أنها بعيدة عما نحن فيه:
أما ما ورد في قضية ايداع اللص، ففيه أولا: أنه ضعيف السند،
ودعوى انجباره بعمل المشهور كما في الجواهر (2) دعوى غير صحيحة،
لما حققناه في علم الأصول وأشرنا إليه مرارا فيما تقدم، من أن الشهرة
الفتوائية لا تجبر ضعف الرواية، وثانيا: أنه وارد في قضية خاصة،
فلا وجه للتعدي منها إلى غيرها.
وأما ما ورد في تعريف اللقطة حولا والتصدق بها بعده، فهو

1 - الكافي 5: 309، التهذيب 6: 395، عنهما الوسائل 25: 451، صحيح.
2 - جواهر الكلام 38: 359.
786

مخصوص باللقطة ولا يعم غيرها.
وأما بقية الروايات، فهي واردة في معلوم المالك الذي يتعذر
الوصول إليه، ومورد بحثنا إنما هو مجهول المالك، وعلى الجملة
لا نعرف وجها للتعدي عن مورد الروايات إلى غيره.
ودعوى اتحاد الملاك بين مواردها وبين مجهول المالك، وهو عدم
الوصول إلى المالك دعوى جزافية، إذ لا طريق لنا إلى كشف ذلك.
2 - إن الآية المتقدمة في أول المسألة تقتضي وجوب الفحص عن
المالك مقدمة للرد الواجب، سواء أكانت الأمانة مالكية كالوديعة
والعارية ونحوهما، أم شرعية كاللقطة ومجهول المالك ومال السرقة
والخيانة والغصب، والمال المأخوذ من الجائر مع العلم بكونه مغصوبا،
ولكنه مقيد بالتمكن العقلي من الأداء والفحص، لقبح التكليف بغير
المقدور.
وعليه فلا يجب الفحص مع عدم التمكن منه، والمطلقات المتقدمة
ظاهرة في وجوب التصدق بمجهول المالك على وجه الاطلاق حتى مع
التمكن من الفحص، وإذن فالنسبة بينهما هي العموم من وجه.
فإن الآية أعم من حيث المورد، لشمولها الأمانات المالكية والشرعية،
وأخص من حيث وجوب الفحص، لاختصاصها بصورة التمكن منه،
والمطلقات المتقدمة أعم من جهة الفحص، لشمولها صورتي التمكن من
الفحص وعدمه، وأخص من حيث المورد لاختصاصها بمجهول
المالك، فتقع المعارضة بينهما في مجهول المالك مع التمكن من
الفحص، فمقتضى الآية هو وجوب الفحص عن المالك مع التمكن منه،
ومقتضى الروايات هو جواز التصدق به قبل الفحص عنه، سواء تمكن
منه أم لا.
787

وقد حققنا في مبحث التعادل والترجيح من علم الأصول أنه إذا
تعارض الخبر مع الكتاب معارضة العموم من وجه ترفع اليد عن الخبر
ويؤخذ بعموم الكتاب أو باطلاقه.
وعليه فلا بد من الأخذ باطلاق الآية والحكم بوجوب الفحص مع
التمكن منه ورفع اليد عن المطلقات الظاهرة في عدم وجوبه.
ومع الاغضاء عما ذكرناه والحكم بالتساقط، يرجع إلى ما دل على
حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه.
2 - لا يجوز اعطاء مجهول المالك لمن يدعيه إلا بعد الثبوت شرعا:
الجهة الثانية: هل يجوز أو يجب اعطاء مجهول المالك لمن يدعيه بعد
الفحص عن مالكه واليأس من العلم به، استنادا إلى ما دل على سماع قول
المدعي إذا لم يعارضه أحد في دعواه، أو لا يجوز اعطاؤه إلا مع
التوصيف الحاقا له باللقطة، أو يعتبر الثبوت الشرعي لبطلان الوجهين
المتقدمين، فإنه بعد وضع اليد على مال لا يجوز دفعه إلا إلى مالكه
الواقعي أو إلى مالكه الشرعي.
والوجهان المذكوران لا يفيدان ذلك:
أما الوجه الأول فيرده أن ترتيب الأثر على دعوى المدعي إذا كانت بلا
معارض إنما هو فيما لم تثبت يد على المال، أما إذا ثبتت على المال يد
فلا تسمع دعوى أحد عليه إلا بالطرق الشرعية، ضرورة أن ذا اليد قد
اشتغلت ذمته بالمال بمجرد وضع يده عليه، فلا يخرج من عهدته إلا
بايصاله إلى مالكه أو صرفه فيما قرره الشارع، وعلى هذا جرت السيرة
788

القطعية، على أنه لا دليل على هذه القاعدة إلا رواية منصور (1)، وقد تقدم
الاشكال فيها.
وأما الوجه الثاني فيرده أن التوصيف ليس له موضوعية لاعطاء اللقطة
لمن يدعيها، بل هو لحصول الاطمئنان بصدق المدعي في دعواه، وأما
الاكتفاء بالتوصيف أو بالدعوى المجردة وإن لم تقارن بالتوصيف
فلا دليل عليه، وحينئذ فلا يترتب الأثر على توصيف المدعي إلا بعد
حصول الاطمئنان بصدق دعواه.
وأما حمل فعل المسلم على الصحة فغاية ما يفيده أن يعامل المدعي
معاملة الكاذب لا أن تترتب على دعواه آثار الواقع.
وأما الوجه الأخير الأخير، فهو الموافق للتحقيق، لاشتغال ذمة ذي
اليد بمجرد وضع يده على مال الغير، فلا تبرأ ذمته إلا بايصاله إلى مالكه
الواقعي أو الشرعي، وقد عرفت ذلك كله آنفا.
3 - مقدار الفحص عن المالك وكيفيته:
الجهة الثالثة: في مقدار الفحص عن المالك وبيان كيفيته:
أما مقدار الفحص، فهل يكفي فيه طبيعي الفحص عن المالك، أم
يجب ذلك بمقدار يقطع الواجد أو يطمئن بعدم امكان الوصول إليه، أو
يجب الفحص عنه سنة كاملة (2).
أما الوجه الأول فهو وإن كان غير بعيد في نفسه لكفاية الاتيان بصرف
الوجود من الطبيعة في امتثال الأمر، ولكنه بعيد عن المتفاهم العرفي

1 - قد تقدمت الرواية والجواب عن الاستدلال بها في البحث عن أخذ المال من السلطان
مع العلم الاجمالي بوجود الحرام في أمواله.
2 - كما في السرائر 2: 203، المنتهى 2: 1027، المناهل: 305.
789

والمرتكز الشرعي، على أن الأمر قد ورد بتكرار الطلب عن المالك في
رواية ابن وهب المتقدمة (1).
وأما تقدير الفحص بالسنة أو بالأقل، فلا موجب له بعد وجود
الاطلاقات الواردة في جواز التصدق بمجهول المالك أو وجوبه، على أن
تقديره بزمان خاص دون غيره ترجيح بلا مرجح، نعم ورد تحديد
التعريف بالسنة في جملة من روايات اللقطة، وفي رواية حفص
المتقدمة (2)، إلا أنها غريبة عن مطلق مجهول المالك.
أما روايات اللقطة، فهي مختصة بها فلا يجوز التعدي منها إلى غيرها.
وأما رواية حفص بن غياث ففيها أولا: أنها ضعيفة السند وغير
منجبرة بشئ كما تقدم، وثانيا: أنها واردة في خصوص ايداع اللص
فلا يتعدى إلى غيره، وإن سلمنا عدم اختصاصها بموردها فإنه لا يجوز
التعدي عنه إلا إلى خصوص ايداع الغاصب أو إلى كل ما يؤخذ منه ولو
بغير عنوان الوديعة، وأما التعدي عن موردها إلى مطلق مجهول المالك
فلا وجه له أصلا.
تنبيه:
قد ذكرنا أنه ورد في جملة من روايات اللقطة وجوب التعريف بها سنة
كاملة، وقد أفيدت هاهنا أمور ثلاثة:
1 - ما ذكره السيد في حاشيته، من أن تحديد الفحص بالسنة تحديد
للمنتهى، بمعنى أنه لا يجب الفحص أكثر من سنة وإن لم يحصل اليأس
من وجدان المالك، وعليه فلو حصل اليأس من الأول أو في أثناء

1 - قد مر قبيل هذا.
2 - قد مر قبيل هذا.
790

التعريف لم يجب الفحص (1).
2 - إن المناط في تعريف اللقطة إنما هو حصول اليأس عن الوصول إلى
المالك، وأما التحديد بالسنة فمحمول على الغالب لحصول اليأس عن
الوصول إلى المالك بعد السنة غالبا.
3 - إن التحديد بالسنة أمر تعبدي فلا بد من العمل به، سواء حصل
اليأس عن الظفر بالمالك قبل مضي السنة أم بعده.
أما الأول والثاني فلا وجه لهما، إذ لا مجوز لرفع اليد عن الرواية
الظاهرة في اعتبار السنة في تعريف اللقطة، وإذن فيتعين الوجه الثالث،
سواء حصل الاطمئنان باليأس عن الظفر بالمالك قبل مضي السنة أم
بعده، فإن الاطمئنان حجة عقلائية فيما إذا لم تقم أمارة شرعية على
خلافه، وقد عرفت أن الشارع قد اعتبر السنة في وجوب الفحص عن
مالك اللقطة.
ثم إنه قد ذكر في بعض الروايات (2) أن اللقطة يعرف بها ثلاثة أيام،
وظاهره المعارضة مع الروايات الدالة على اعتبار السنة، ولكن لا بد من
حمله إما على صورة اليأس عن المالك، أو على جواز التصدق به مع
الالتزام بالمال ووجوب التعريف به إلى سنة، فإذا مضت السنة ولم يجد
المالك سقط الضمان عنه.
ويمكن أن يقال: إن تعريفها ثلاثة أيام مقدمة للتصدق، ووجوب
التعريف إلى سنة كاملة مقدمة لجواز التملك، على أن ما دل على كفاية
ثلاثة أيام في التعريف ضعيف السند.

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 37.
2 - كرواية أبان بن تغلب (التهذيب 6: 397، عنه الوسائل 25: 443)، ولكنها ضعيفة السند
بمحمد بن موسى الهمداني.
791

4 - إن أجرة الفحص عن المالك هل هي على ذي اليد أو على المالك؟
الجهة الرابعة: إذا احتاج الفحص عن الملك إلى بذل أجرة، فهل هي
على من وضع يده على مجهول المالك أو على المالك؟
قال المصنف: لو احتاج الفحص إلى بذل كأجرة دلال صايح عليه،
فالظاهر عدم وجوبه على الواجد بل يتولاه الحاكم ولاية عن صاحبه
ويخرج عن العين أجرة الدلال، ثم يتصدق بالباقي إن لم يوجد صاحبه،
ويحتمل وجوبه عليه لتوقف الواجب عليه.
وتحقيق المسألة: أن الاستيلاء على مجهول المالك قد يستند إلى
أسباب غير شرعية، بأن يأخذ أحد أموال الناس بغير سبب شرعي،
كالغصب والسرقة والخيانة ونحوها ثم يندم، ولكن لا يقدر على ايصاله
إلى مالكه.
وقد يستند إلى وجه شرعي، كأخذ المال من السارق أو الجائر أو
الصبي الذي لا يعرف له ولي، وكأخذ المال المشرف على التلف
وكاللقطة ونحوها، فإن أخذ المال في جميع هذه الموارد لحفظه لمالكه
وايصاله إليه جائز من جهة الحسبة.
أما الصورة الأولى، فلا شبهة في أن مؤونة الفحص على الغاصب
لوجوب رد المغصوب إلى مالكه وإن توقف ذلك على بذل الأجرة.
ودعوى أن ايجاب أجرة الفحص على ذي اليد ضرر عليه، وهو منفي
في الشريعة دعوى جزافية، لأن حديث نفي الضرر إنما ورد في مقام
الامتنان، ومن الضروري أن كون مؤونة الفحص على المالك على خلاف
الامتنان فلا يكون مشمولا للحديث، وحيث إن الغاصب وضع يده على
مال الغير بسوء اختياره على سبيل الظلم والعدوان، فإن الشارع يلزمه
792

رغما لأنفه برد المغصوب إلى مالكه حتى مع الاحتياج إلى بذل الأجرة.
وقد ورد في بعض الروايات (1) أنه لو غصب أحد حجرا ووضعه في
أساس البناء، فإنه يجب عليه رده إلى مالكه وإن توقف ذلك على هدم
البناء وتضرر الغاصب، ومن هنا اشتهر أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال.
وأما الصورة الثانية، وهي أن يستند الاستيلاء على مجهول المالك
إلى سبب شرعي، فالظاهر أن مؤونة الفحص على المالك، بمعنى أن
الواحد يصرفها من كيسه عن المالك، فإذا وجده أخذها منه وإلا فمن
المال الذي في يده.
والوجه فيه أن يده يد أمانة واحسان، وما على المحسنين من سبيل،
على أن كون أجرة الفحص على الواجد ضرر عليه وهو منفي، ولا يقاس
ذلك بالصورة الأولى، فإن اليد فيها كانت يد عدوان لا يد أمانة واحسان
كما عرفت.
لا يقال: إن الفحص عن المالك واجب على الواجد، ومن الواضح أن
اعطاء الأجرة من مقدماته فتحسب عليه.
فإنه يقال: الفحص واجب على الواجد ومقدمته طبيعي بذل المال،
سواء كان من كيسه أم من كيس المالك، وإذن فلا يتعين البذل على الواجد
إلا بدليل خاص، وهو منفي في المقام، وعليه فإذا بذل الواجد أجرة
الفحص من كيسه رجع على المالك مع الامكان، وإلا أخذها من المال
الذي هو تحت يده، وإن امتنع الواجد من بذل أجرة الفحص رجع إلى
الحاكم الشرعي فيعطيها من بيت المال أو من مجهول المالك.

1 - في النهج، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحجر المغصوب في الدار رهن على خرابها
(النهج 3: 206، الحكمة: 240، عنه الوسائل 25: 386)، مرسلة.
793

هذا، مع أن دليل المقدمية المذكور لو تم فإنما يتم فيما لو كان الفحص
يتوقف دائما على بذل المال، مع أنه ليس كذلك، بل هو أمر قد يكون
وقد لا يكون، وعليه فإذا توقف الفحص على بذل المال ارتفع وجوبه عن
الواجد بدليل نفي الضرر، كسائر التكاليف الضررية التي ترتفع به.
هذا كله إذا لم تقم قرينة على عدم رضاء المالك بأخذ ماله وحفظه له،
وإلا فلا يجوز لأحد أن يضع يده عليه ويحفظه لمالكه، لأن الناس
مسلطون على أموالهم.
ج - مصرف مجهول المالك:
الأمر الثالث: ما هو مصرف مجهول المالك، فهل يتصدق به أو يحفظه
الواجد ما دام حيا لمالكه، ويوصي به بعد مماته، أو يتملكه، أو يعطيه
للحاكم الشرعي، أو هو للإمام (عليه السلام) وجوه:
1 - أن يكون ذلك للإمام، لقوله (عليه السلام) في رواية ابن أبي يزيد: والله ما
له صاحب غيري (1).
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند.
وثانيا: أنها وردت في قضية شخصية فلا تكون مستندا لكبري كلية،
إذ من المحتمل أن يكون المال في تلك الواقعة مفقودا من الإمام نفسه،
فيكون حلفه (عليه السلام) في محله لكون المال له واقعا، وأما أمره (عليه السلام) بتقسيم
ذلك المال فلعله دفع للتهمة عن نفسه أو احسان منه إلى الفقراء،
ويحتمل أن يكون حلفه على أن المال له لعلمه بموت مالكه وأنه لم يترك
وارثا غير الإمام، ويحتمل أن يكون المال المذكور من صفو دار الحرب
الذي هو خاص للإمام (عليه السلام).

1 - الكافي 5: 138، الفقيه 3: 189، عنهما الوسائل 25: 450.
794

ومن الواضح أنه مع هذه الاحتمالات لا يبقى مجال للاستدلال بهذه
الرواية على المقصود.
2 - أن يكون مجهول المالك لمن وضع يده عليه، لقوله (عليه السلام) في
صحيحة علي بن مهزيار التي تبين موارد الخمس: ومثل مال يؤخذ
ولا يعرف له صاحب (1).
وقد استظهر هذا الرأي من الرواية المذكورة المحقق الهمداني، بل
ذكر المحقق الإيرواني (2) أن هذه الصحيحة صريحة في جواز تملك
مجهول المالك بعد اخراج الخمس.
وفيه أولا: أن هذه الرواية واردة في بيان موارد الخمس على نحو
القضية الحقيقية، فيكون مفادها أنه كلما تحقق شئ من تلك الموارد
وجب فيه الخمس، وعليه فلا دلالة فيها على جواز تملك مجهول
المالك لكي يتمسك باطلاقها.
نعم لا ننكر دلالتها على وجوب اخراج الخمس فيما جاز فيه تملك
مجهول المالك كباب اللقطة، فقد دلت الروايات الكثيرة المذكورة في
أبواب اللقطة على أن واجدها مخير بين تملكها وبين التصدق بها عن
مالكها بعد أن يعرف بها سنة واحدة.
ومن هذا القبيل ما ورد في بعض الروايات (3)، من أنه إذا وجد المشتري
مالا في بطن حيوان اشتراه من شخص فإنه يرجع في ذلك المال إلى البايع
وإذا لم يدعه لنفسه تملكه المشتري وأعطى خمسه.

1 - التهذيب 4: 141، الإستبصار 2: 60، عنهما الوسائل 9: 501.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 63.
3 - الكافي 5: 139، التهذيب 6: 392، عنهما الوسائل 25: 452.
795

وكذلك ما ورد في جملة من الأحاديث (1)، من أنه إذا وجد مالا في بطن
سمك اشتراه من الصياد، فإنه يتملكه ويعطي خمسه من غير مراجعة إلى
المالك.
وثانيا: أنا إذا لو سلمنا كون الرواية في مقام البيان من هذه الجهة أيضا،
فلا نسلم كونها صريحة في جواز تملك مجهول المالك بعد اخراج
خمسه، وإنما هي مطلقة بالنسبة إليه، فتقيد بالروايات الدالة على لزوم
التصدق بمجهول المالك.
3 - أنه يجوز للواجد أن يعمل في مجهول المالك ويخرجه صدقة
قليلا قليلا حتى يخرج، ويدل عليه بعض الأحاديث (2).
وفيه: أنه لا دلالة في هذه الرواية على جريان الحكم المذكور في
مجهول المالك، فمن المحتمل أن صاحب المال قد مات ولم يترك وارثا
غير الإمام فانتقل ميراثه إليه، وأنه (عليه السلام) بما هو وارث ومالك أجاز
لصاحب الخان أن يتصرف في ذلك المال ويتصدق به قليلا قليلا حتى
يخرج.
واحتمال وجود وارث له غير الأب والأم مدفوع بالأصل، وجريانه
في الشبهات الموضوعية غير محتاج إلى فحص، وأما احتمال وجود
الأب والأم فلعله كان مقطوع العدم لمضي مدة لا يحتمل بقاؤهما فيها،
ولذا لم يأمر الإمام (عليه السلام) بالفحص عنهما.

1 - الأمالي للصدوق: 367، عنه الوسائل 25: 454.
2 - عن يونس عن نصر بن حبيب صاحب الخان قال: كتبت إلى عبد صالح (عليه السلام): قد
وقعت عندي مائتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة،
فرأيك في اعلامي حالها وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعا، فكتب (عليه السلام): اعمل فيها واخرجها
صدقة قليلا قليلا حتى تخرج (الكافي 7: 153)، مجهولة لنصر.
796

ويؤيد ما ذكرناه قول السائل في هذه الرواية: ولم أعرف له ورثة،
فإن ظاهر هذه العبارة أنه تفحص عن الوارث ولم يجده، فافهم.
ومع الاغضاء عما ذكرناه وتسليم دلالتها على المقصود فالنسبة بينها
وبين الروايات الدالة على التصدق بمجهول المالك هي العموم المطلق،
فلا بد من تقييدها بهذه الروايات.
لا يقال: إن هذه الرواية تنافي رواية الهيثم صاحب الفندق (1) الدالة على
عدم جواز التصرف في مال مات عند صاحبه.
فإنه يقال: لا منافاة بينهما، فإن الظاهر من هذه الرواية أن صاحب
الفندق لم يفحص عن ورثة الميت، وهذا بخلاف الرواية الأولى، فإنك
قد عرفت ظهورها في أن السائل تفحص عن الورثة ولم يصل إليهم،
فمورد كل من الخبرين غير مورد الآخر.
والذي يسهل الخطب أن كلتا الروايتين مجهولة.
4 - أنه يجب حفظ مجهول المالك لمالكه والايصاء به عند الوفاة
للروايات (2) الواردة في مستأجر فقد أجيره ولم يقدر على ايصال حقه
إليه (3).
ويرد عليه أولا: أن هذه الروايات إنما وردت في معلوم المالك الذي
لا يمكن الوصول إليه، فلا صلة لها بمجهول المالك، ودعوى أن الملاك
بين الموردين واحد، وهو تعذر ايصال المال إلى مالكه دعوى جزافية،
فإنه لا طريق لنا إلى كشف هذا الملاك كما عرفت.

1 - عن الهيثم أبي روح صاحب الخان قال: كتبت إلى عبد صالح (عليه السلام): إني أتقبل الفنادق
فنزل عندي رجل فيموت فجأة لا أعرفه ولا أعرف بلاده ولا ورثته، فيبقى المال عندي كيف
أصنع به ولمن ذلك المال، فكتب (عليه السلام): اتركه على حاله (الكافي 7: 154)، مجهولة بهيثم.
2 - قد تقدمت الإشارة إلى مصادرها في البحث عن وجوب الفحص عن المالك.
3 - كما عليه الحلي في السرائر 2: 204.
797

وثانيا: أنها وردت في الحق الكلي الثابت في الذمة، وهو ليس في
معرض التلف لكي يخاف عليه من بقائه، وكلامنا في العين الخارجية.
وثالثا: أنها وردت في قضية شخصية فلا يمكن التعدي عن موردها
إلى غيرها، وإذن فلا دلالة فيها على وجوب حفظ مجهول المالك
لصاحبه ولو بالايصاء به، نعم لا بأس بالالتزام بذلك قبل اليأس عن
الوصول إلى المالك.
لا يقال: إن التصرف في مال الغير حرام مطلقا، فيكون الأمر بالتصدق
بمجهول المالك قد وقع بعد الحظر فلا يدل على الوجوب، وعليه
فلا مانع من كون الواجد مخيرا بين التصدق به وبين حفظه لصاحبه ولو
بالايصاء به عند الموت.
فإنه يقال: الميزان في ورود الأمر مورد توهم الحظر هو أن يتعلق الأمر
بعنوان تعلق به النهي أو كان معرضا له، كالصيد الذي نهي عنه في الاحرام
وأمر به بعد الاحلال، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن النهي قد تعلق
بالتصرف في أموال الناس بدون إذنهم، والأمر قد تعلق بالتصدق
بمجهول المالك بعد الفحص واليأس من الظفر بصاحبه، فلا يرتبط أحد
الأمرين بالآخر.
ولئن سلمنا ذلك في الروايات التي وقع السؤال فيها ابتداء عن الصدقة،
فهو لا يجري في رواية ابن أبي حمزة التي وردت في قصة الفتى الذي
كان من كتاب بني أمية، فإنها صريحة في عدم ورود الأمر بالتصدق في
مقام توهم الحظر، إذ الفتى إنما طلب التخلص عما اشتغلت به ذمته من
أموال الناس، فأجاب الإمام (عليه السلام) بقوله: فاخرج من جميع ما اكتسبت
من ديوانهم، فمن عرفت منهم ردت عليه ماله ومن لم تعرف تصدقت به.
ولكن قد عرفت أنها ضعيفة السند.
798

5 - وجوب التصدق بمجهول المالك.
وهذا الوجه هو الموافق للتحقيق، وتدل عليه المطلقات المتقدمة بل
الروايات الخاصة الواردة في موارد عديدة التي تقدمت الإشارة إليها آنفا،
لأنها وإن وردت في المال المفقود صاحبه إلا أنها تدل على ثبوت
التصدق بمجهول المالك بالأولوية القطعية.
ولا بد من تقييدها باليأس عن الوصول إلى المالك، فقد عرفت فيما
سبق أن مقتضى الآية وجوب رد الأمانة إلى أهلها مع التمكن منه، وأما
صورة اليأس عن الظفر بالمالك فلا تكون مشمولة للآية بل تبقى تحت
الروايات المذكورة.
6 - وجوب دفعه إلى الحاكم، فإنه ولي الغائب، وقد استقربه المصنف
(رحمه الله)، ولكن قد عرفت أن الروايات المتقدمة ظاهرة في أن من وضع يده
على مجهول المالك ابتداء وجب عليه التصدق به، وإذا تصرف فيه
تصرفا آخر ولو بدفعه إلى الحاكم ضمنه.
ودعوى أن الحاكم ولي الغائب، دعوى غير صحيحة، لأن ولايته على
الغائب إنما هي من جهة الحسبة، فلا بد من الاقتصار فيها على المورد
المتيقن، وهو ما إذا لم يكن له ولي آخر غير الحاكم، وقد عرفت أن
الروايات المتقدمة قد أثبتت ولاية مجهول المالك لمن وضع يده عليه
فلا تصل النوبة إلى غيره، كما أنه لا تثبت للحاكم ولاية على اليتيم مع
وجود الجد له.
لا يقال: يجب دفع مجهول المالك إلى الحاكم من حيث إن مصرفه
الفقراء والمساكين، ومن الواضح أن الحاكم وليهم، أو من حيث إنه أعرف
بموارده ممن وضع يده عليه.
فإنه يقال: أما الاحتمال الأول فلا دليل عليه، خصوصا مع ما عرفت من
799

دلالة الروايات هنا على ثبوت الولاية للواجد.
وأما الاحتمال الثاني فإن كان المراد أن الحاكم أعرف بمصرف مجهول
المالك من حيث الشبهة الحكمية فهو مسلم، لأن ذلك وظيفة العالم إلا أن
ذلك لا يدل على وجوب دفعه إليه بل الواجب على العامي أن يسأل
العالم عن حكم الواقعة ويعمل على طبق ما أفتى به، وإن كان المراد كونه
أعرف من حيث الشبهة الموضوعية، فهو ممنوع، إذ قد يكون الواجد
أعرف به لكثرة معاشرته للفقراء واطلاعه على أحوالهم.
وكما لا يجب دفع مجهول المالك إلى الحاكم، فكذلك لا يجب
تحصيل الإجازة منه في ايصاله إلى موارده لاطلاق الروايات المتقدمة،
نعم الأولى اختيار أحد الأمرين لوجود القائل بوجوبه، لكن لا بد وأن
يكون الدفع إلى الحاكم بعنوان أنه يوصله إلى موارده، وإلا ضمنهم
الواجد كما عرفت.
وقد يتوهم وجود الفرق بين الحق الكلي فيجب أما دفعه إلى الحاكم
وأما تحصيل الإذن منه في التصدق به عن المالك، لأن الكلي لا يتعين إلا
بإذن المالك أو وليه، وبين الحق الشخصي فلا يجب فيه ذلك لتعينه في
نفسه.
ولكنه توهم فاسد، لأن مقتضى الاطلاقات المتقدمة هو عدم الفرق
بينهما، وأن الولاية لمن عليه الحق على وجه الاطلاق.
قوله: ثم إن حكم تعذر الايصال إلى المالك.
أقول: المال الذي لا يمكن ايصاله إلى صاحبه قد يكون مجهول
المالك من جميع الجهات، وهو مورد المطلقات المتقدمة (1).

1 - قد تقدمت الإشارة إلى مصادرها في البحث عن رد المأخوذ من الجائر إلى أهله.
800

وقد يكون معلوم المالك مع كونه مشتبها بين أفراد غير محصورين،
وهو أيضا مورد روايات أخرى قد تقدمت (1)، وحكم كلا القسمين قد
تقدم مفصلا.
وقد يكون المالك معلوما من جميع الجهات، ولكن يتعذر ايصال
المال إليه لمانع خارجي، كأن يكون المالك في سجن أو مكان بعيد يتعذر
الوصول إليه، ويجري عليه حكم القسم الثاني للروايات المتقدمة أيضا،
لأن المستفاد منها أن المناط في ذلك أنما هو تعذر ايصال المال إلى
مالكه.
قوله: ثم إن مستحق هذه الصدقة هو الفقير.
أقول: حكي عن صاحب الجواهر (2) جواز التصدق بمجهول المالك
على الفقراء وغيرهم عملا باطلاق الروايات المتقدمة، وبهذا المناط
جوز اعطاء مال الإمام (عليه السلام) للفقراء والأغنياء، بدعوى أن الإمام وإن كان
معلوما إلا أنه يتعذر ايصال ماله إليه للعوارض الخارجية، وقد عرفت أن
حكمه حكم مجهول المالك.
وفيه أولا: أن المتبادر من مفهوم الصدقة واطلاق الأمر بها أنه لا يجوز
اعطاؤها للأغنياء كما ذهب إليه المصنف.
وثانيا: أن قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين (3)، قد بين
مصرف الصدقات، ولم يجعل الغني من ذلك فيكون خارجا عن حدود
أخبار التصدق موضوعا.

1 - قد تقدمت الإشارة إلى مصادرها في البحث عن وجوب الفحص عن المالك.
2 - الجواهر 16: 71.
3 - التوبة: 60.
801

ثم إن وجوب التصدق بمجهول المالك إنما هو مع عدم التمكن من
تحصيل رضى المالك بصرف ماله في مورد خاص، وإلا فلا تصل النوبة
إلى التصدق به.
وعليه فلا وجه لقياس مال الإمام (عليه السلام) بمجهول المالك، لأنا نقطع
برضاء الإمام باعطاء ماله لأهل العلم، والجهات التي توجب ترويج
الدين، ومع ذلك لا يمكن صرفه فيما نشك في رضاه.
قوله: وفي جواز اعطائها للهاشمي قولان.
أقول: لا دليل على حرمة مطلق الصدقات على الهاشميين، وإنما
تحرم عليهم الصدقة الخاصة، أعني زكاة المال والبدن.
ولا يبعد أن تحرم عليهم أيضا الصدقات التي تعطى لدفع البلاء ورد
القضاء، فإن في ذلك مذلة ومهانة لا تناسب الذرية الطاهرة، ومن هنا
كانت زينب الكبرى (عليها السلام) تأخذ الطعام من أطفال أبي عبد الله (عليه السلام)
وترميه إلى أهل الكوفة وتقول: ويلكم يا أهل الكوفة إن الصدقة علينا
حرام.
وعليه فلا بأس بالتصدق بمجهول المالك على الهاشميين لكونه
خارجا عن القسمين المذكورين.
ويضاف إلى ما ذكرناه أن قوله (عليه السلام) في رواية ابن أبي يزيد المتقدمة:
قسم بين إخوانك (1)، يقتضي عدم الفرق بين الهاشمي وغيره.
وأما الصدقة التي تحرم علي بني هاشم، فهي الصدقة الخاصة أعني
بها الزكاة المفروضة.

1 - قد تقدمت الإشارة إلى مصادرها في البحث عن مصرف مجهول المالك.
802

التصدق بمجهول المالك لا يوجب الضمان:
قوله: ثم إن في الضمان لو ظهر المالك.
أقول: هل يضمن مجهول المالك لصاحبه إذا ظهر بعد التصدق به أم
لا؟ فيه وجوه، ثالثها التفصيل بين ما إذا طلب المالك ماله من المتصدق
فيضمن له، وبين ما إذا لم يطلبه فلا ضمان، ورابعها التفصيل بين ما يكون
المال مسبوقا باليد العادية فيحكم بالضمان وبين عدمه فيحكم بعدمه.
وقبل التعرض للوجوه المذكورة لا بأس بالإشارة إلى الفرق بين اللقطة
ومجهول المالك، فنقول:
الفارق بين مجهول المالك واللقطة جهات كثيرة، ونحن نشير هنا إلى
جهتين منها:
1 - أنه يجوز للملتقط أن يقصد حين الالتقاط تملك المال بعد انتهاء
مدة الفحص عن المالك، وقد دلت الروايات الكثيرة المذكورة في أبواب
اللقطة على أن آخذ اللقطة يعرفها سنة فإن جاء لها طالب وإلا فهي
كسبيل ماله.
ولا يجوز ذلك في مجهول المالك، فقد عرفت أنه لا يجوز أخذه
ابتداء إلا بنية الاحسان إلى المالك، بحفظه له وايصاله إليه ثم يتصدق به
عن مالكه بعد التعريف، ومن هنا يتجلى لك أنه لا يجوز أخذ المغصوب
من الغاصب إلا بنية الرد إلى المالك.
2 - إن اللاقط إذا تملك اللقطة بعد التعريف أو تصدق بها عن مالكها
ضمنها له مع المطالبة بها للروايات الكثيرة المذكورة أيضا في أبواب
اللقطة الدالة على ذلك، أما مجهول المالك فقد عرفت أن فيه وجوها
شتى تقدمت الإشارة إليها.
803

إذا عرفت فاعلم أن الكلام هنا يقع في مقامين:
1 - أن تكون اليد الموضوعة على مجهول المالك ابتداء يد أمانة.
2 - أن تكون هذه اليد مسبوقة بالضمان ثم تنقلب إلى يد أمانة واحسان،
كمن أخذه بنية التملك ثم نوى بعد ذلك حفظه لمالكه، وكمن غصبه من
المالك ثم تاب وعزم على ايصاله إليه ولم يتمكن من ذلك لفقد المالك أو
لكونه مجهولا بين أشخاص غير محصورين.
أما المقام الأول، فالظاهر هو عدم الضمان فيها، وليس ذلك من جهة
أن الشارع قد أذن في التصدق بمجهول المالك، وهو ينافي الحكم
بالضمان، لأن إذن الشارع في التصرف بمال الغير يرفع حرمته التكليفية
ولا ينافي ذلك ضمانه، بل من جهة أن دليل الضمان هو أحد الأمور الثلاثة
: أما قاعدة ضمان اليد، وأما قاعدة الاتلاف، وأما قيام دليل خاص عليه.
أما الأولى فهي منتفية هنا قطعا، إذ المفروض أن اليد كانت يد أمانة
واحسان، وما على المحسنين من سبيل.
وأما قاعدة الاتلاف فهي مردودة لوجوه عديدة:
1 - إنها ليست برواية لكي يتمسك بها، وإنما هي قاعدة متصيدة من
موارد شتى، فلا يمكن التمسك بها في غير الموارد المسلمة.
2 - إن الاتلاف إنما يقتضي الضمان إذا لم يكن التصرف لنفع المالك
وإلا فلا يوجب الضمان، ومن هنا إذا أشرف أحد على الهلكة وتوقف
انجاؤه منها على بذل مقدار من ماله، فإن ذلك يكون واجبا من غير ضمان.
3 - إن التصدق بمجهول المالك لو كان موجبا للضمان ببدله لكان
البدل أيضا مجهول المالك ومشمولا لما دل على وجوب التصدق به،
وهكذا فيلزم التسلسل، ومن الضروري أن ذلك مقطوع العدم.
وأما الدليل الخاص فلم نجد في المقام ما يدل على الضمان إلا رواية
804

حفص المتقدمة الواردة في ايداع اللص، فإنها ظاهرة في أن التصدق
بالوديعة التي هي بمنزلة اللقطة يوجب الضمان مع مطالبة المالك، إلا أنها
ضعيفة السند وواردة في قضية شخصية، فلا يمكن التعدي منها إلى
غيرها كما عرفته سابقا.
والحاصل أن التصدق بمجهول المالك لا يوجب الضمان، على أن
الاطلاقات الدالة على وجوب التصدق به بعد التعريف تقتضي عدم
الضمان، ومع الشك في الاطلاق يرجع إلى البراءة.
وأما المقام الثاني، أعني ما إذا كانت يد الأمانة مسبوقة بالضمان، فقد
يقال:
إن اليد الموضوعة ابتداء على مجهول المالك حيث كانت يد ضمان
كما هو المفروض فتكون موجبة للضمان بقاء أيضا ما لم تؤد، لما ذكرناه
سابقا من أن الشارع قد جعل ضمان اليد منوطا بالأداء، فما لم تتحقق
الغاية لم يسقط الضمان، وعرفت أيضا أن نية الرد إلى المالك وإن كانت
توجب صيرورة اليد يد أمانة إلا أن هذه اليد لا توجب ضمانا لا أنها
لا تقتضي عدم الضمان، وواضح أن ما لا اقتضاء فيه لا يزاحم ما فيه
الاقتضاء.
ولكن يرد عليه أولا: ما عرفته آنفا، من أن التصدق بمجهول المالك لو
كان موجبا للضمان للزم منه التسلسل، فيكون ذلك تخصيصا عقليا
لقاعدة ضمان اليد.
وثانيا: أن رواية ابن أبي حمزة المتقدمة (1) كالصريحة في عدم الضمان،

1 - قد تقدمت الإشارة إلى مصادرها في البحث عن رد المأخوذ من الجائر إلى أهله، في
قصة الفتى الذي كان من كتاب بني أمية.
805

فإن الفتى قد طلب المخرج عما أخذه من أموال الناس، فأجابه الإمام
(عليه السلام) بالتصدق بجميع ما تحت يده وضمن له بذلك الجنة، ولو كان
التصدق به موجبا للضمان لما جعله الإمام مخرجا له عن ظلامته، وقد
جعل الله التصدق بمجهول المالك وسيلة للتوبة وسببا لفراغ الذمة
تسهيلا للأمر على الغاصبين التائبين، ولكن الرواية ضعيفة السند.
ويدل على عدم الضمان أيضا اطلاق الروايات المتقدمة، كرواية ابن
أبي حمزة وغيرها الآمرة بالتصدق بمجهول المالك.
ولا فرق في ذلك بين ما كان مجهول المالك عينا خارجية أو دينا ثابتا
في الذمة، فإن الدين وإن كان كليا في الذمة إلا أنه يتشخص بالتصدق
وتبرأ به ذمة المديون.
وتوهم أن نفوذ التصدق يتوقف على إذن المالك توهم فاسد، لاطلاق
تلك الروايات المتقدمة.
ثم إنه لا يجوز للمالك أن يرجع على الفقير لو كانت العين باقية عنده،
لأن آخذ الصدقة هو الله وما كان لله لا يرجع.
وعلى الجملة لا يجري على مجهول المالك حكم اللقطة، لعدم
الدليل عليه إلا في ايداع اللص، وقد عرفت أن النص الوارد فيه ضعيف
السند ووارد في قضية شخصية.
ومن جميع ما ذكرناه ظهر ضعف ما ذهب إليه المصنف، من أن الأوجه
هو الضمان مطلقا، أما تحكيما للاستصحاب حيث يعارض البراءة ولو
بضميمة عدم القول بالفصل، وأما للمرسلة المتقدمة عن السرائر - وهي
ما روي من أنه بمنزلة اللقطة - وأما لاستفادة ذلك من خبر الوديعة.
806

ووجه الضعف أنه لا موضوع للأصل بعد أمر الشارع بالتصدق
بمجهول المالك، وأنك قد عرفت أنه لا دليل على الضمان فيما كانت اليد
مسبوقة به، فضلا عن اثباته في مطلق مجهول المالك بعدم القول بالفصل.
وأما استفادة حكم المسألة مما ورد في ايداع اللص فقد عرفت
جوابه، وأما مرسلة السرائر فهي غير قابلة للاعتماد عليها، على أن من
المظنون أنها بعينها رواية حفص الواردة في ايداع اللص، فيتوجه عليها
ما وجهناه على الاستدلال بهذه الرواية.
قوله: ثم الضمان هل يثبت بمجرد التصدق.
أقول: قد ظهر مما تقدم أن التصدق بمجهول المالك لا يوجب
الضمان، فإذا أغمضنا النظر عن ذلك وقلنا بالضمان أو ثبت ذلك بدليل
خاص كما في اللقطة، فهل يحكم بثبوته من حين الأخذ أو من حين
التصدق، أو من حين مطالبة المالك بماله وعدم رضاه بالتصدق، وجوه.
والتحقيق أن يقال: إن الحكم بالضمان إن كان لقاعدة الضمان بالاتلاف
فاللازم هو الحكم بثبوته من حين التصدق، إلا أنك قد عرفت آنفا أن
القاعدة لا تشمل المقام.
وإن كان مدرك الضمان هو ما ورد في اللقطة، من أن المالك إذا جاء
وطلب ماله فله الغرم أو الرضا بالأجر، فاللازم هو ثبوته من حين مطالبة
المالك.
وإن كان مدرك الضمان هو قاعدة ضمان اليد فاللازم ثبوته من حين
الأخذ، إذا كانت اليد الموضوعة عليه يد ضمان.
قوله: ولو مات المالك.
أقول: توضيح المقام أن الكلام قد يقع في موت المالك، وقد يقع في
موت المتصدق.
وعلى الأول فقد يكون موت المالك بعد التصدق، وقد يكون قبل
التصدق، فإذا كان التصدق بعد موت المالك فإذا جاء الوارث ولم يرض
807

بالتصدق خيره المتصدق بين الغرم والأجر، لقوله (عليه السلام) في رواية حفص
المتقدمة في البحث عن رد المأخوذ من الظالم إلى أهله: فإن جاء طالبها
بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم.
وإن كان التصدق قبل موت المالك فإنه لا شئ للورثة، إذ المالك
لم يبق حيا بعد التصدق حتى يتخير بين الغرم والأجر، والورثة ليسوا
بملاك حتى يجري فيهم هذا الحكم.
لا يقال: إذا وجد المالك بعد التصدق كان مخيرا بين الغرم والأجر،
فيكون هذا حقا من حقوقه، فإذا مات انتقل إلى الورثة، لأن ما تركه الميت
لوارثه.
فإنه يقال: لا دليل على أن كل حق يقبل النقل والانتقال أو الاسقاط إلا
في موارد خاصة، ومع الشك في ذلك فالأصل عدمه.
وأما إذا مات المتصدق ثم وجد المالك فالظاهر من قوله (عليه السلام): خيره
بين الأجر والغرم، أنه لا شئ للمالك حينئذ، إذ لا وجود للمتصدق
حتى يخير المالك بين الأمرين.
نعم يمكن أن يقال بخروج الغرامة من تركته، لأن ضمان الصدقة من
الحقوق المالية اللازمة عليه بفعله ولا غرامة في ذلك، فقد ثبت نظيره في
الفقه كثيرا.
كما إذا رمى أحد رجلا بحجر ومات الرامي قبل وصول الحجر ثم
أصاب الحجر الرجل فقتله، فإن دية المقتول تؤخذ من تركة القاتل
لاستناد القتل إليه.
بل قد يملك الميت من جهة ايجاده سبب الملك قبل موته، كما إذا
نصب شبكة ووقع فيها السمك بعد موته فإنه يكون من تركته.
808

قوله: ولو دفعه إلى الحاكم فتصدق به بعد اليأس.
أقول: ظاهر كلام المصنف أن دفع المال إلى الحاكم إن كان بعنوان
كونه وكيل الغائب أو وليه فلا ضمان على الدافع، لأن دفعه إلى الولي أو
الوكيل كدفعه إلى نفس الأصيل، وإن كان دفعه إليه بعنوان أنه كبقية الناس
فلا تبرأ ذمته بذلك.
وتحقيق الكلام هنا يكون في جهتين: الأولى: هل للحاكم ولاية على
الغائب أم لا؟ الثانية: إذا ثبت للحاكم ولاية على الغائب فهل يعتبر قصد
هذا العنوان في دفع مال الغائب إليه أم لا؟
أما الجهة الأولى فهي ممنوعة صغرى وكبرى:
أما الصغرى فلأنه لم يحرز كون المالك غائبا بل يحتمل كونه حاضرا
عند الواجد وإن لم يعرفه بعينه، ويتفق كثيرا أن الملتقط يتفحص عن
المالك وهو ينادي: يا صاحب المال، ويسمعه المالك، ولا يلتفت إلى
كون اللقطة له.
وأما الكبرى فلعدم الدليل اللفظي على ولاية الحاكم على الغائب لكي
يتمسك باطلاقه، وإنما هي ثابتة بالحسبة، فلا بد من الاقتصار على
المقدار المتيقن، وهو أخذ مال الغائب لحفظه وايصاله إليه، ولا يجوز
اتلافه ولو بالتصدق عنه.
وإن سلمنا ولاية الحاكم على الغائب مطلقا، فإنما هي فيما لم يكن
للغائب ولي خاص، والظاهر من الروايات أن من وضع يده على اللقطة له
الولاية على مالكها في التصدق بها.
وأما الجهة الثانية، فإذا سلمنا ثبوت ولاية الحاكم على الغائب فإنه
لا دليل على دخل قصد الولاية في دفع اللقطة إلى الحاكم، فإن اعتبار
809

القصد في ذلك كاعتبار قصد المالك في دفع ماله إليه، ولا نحتمل أن
يلتزم بذلك أحد.
ويتضح ما ذكرناه بمراجعة الوجدان، وبالنظر إلى سيرة العقلاء،
فإنهم لا يعتبرون القصد المذكور في دفع أموال الموكلين والمولى عليهم
إليهم أو إلى وكلائهم وأوليائهم.
ثم إنه إذا جاز دفع اللقطة إلى الحاكم كان الحاكم مكلفا بجميع أحكامها
من وجوب الفحص وغيره، وإذا ظهر مالكها بعد التصدق أعطي بدلها من
بيت المال، فقد ثبت في الشريعة أن ما أخطأت القضاة فهو من بيت المال
وما نحن فيه من صغرياته.
الرابع: فيما علم اجمالا اشتمال الجائزة على الحرام:
قد ذكر المصنف هنا أن ما علم اجمالا اشتمال الجائزة على الحرام يقع
على وجوه، لأن الاشتباه أما أن يكون موجبا للشركة والإشاعة كخلط
الخل بالخل والسمن بالسمن والحنطة بالحنطة، وأما أن لا يكون موجبا
لذلك كما إذا اشترى فراشا وغصب فراشا آخر واشتبه أحدهما بالآخر.
وعلى الأول فأما أن يكون المالك ومقدار المال معلومين، وأما أن
يكونا مجهولين، وأما أن يكونا مختلفين، فإذا كانا معلومين فلا شبهة في
وجوب رد المال إلى صاحبه، وإن كانا مجهولين فالمورد من صغريات
المال الحلال المختلط بالحرام فيجب فيه الخمس، وإن كانا مختلفين فإن كان القدر معلوما والمالك مجهولا فقد تقدم تفصيله في الصورة السابقة،
وإن كان القدر مجهولا والمالك معلوما وجب التخلص عن اشتغال الذمة
بالمصالحة مع المالك.
810

وعلى الثاني، وهو ما لا يوجب الاشتباه الشركة، فلا بد من الرجوع
إلى القرعة لأنها لكل أمر مشكل، أو يباع المأخوذ من الجائر ويشترك في
ثمنه، ثم ذكر أن تفصيل ذلك كله في كتاب الخمس (1).
أقول: في كلامه نظر من وجهين:
1 - إنه لا وجه للرجوع إلى المصالحة مطلقا فيما إذا كان المالك معلوما
والقدر مجهولا، لأن المال المذكور قد يكون في يد أحد، وقد لا يكون
كذلك.
وعلى الأول فالمقدار الذي يعلم صاحبه يرد إليه والمقدار الذي
لا يعلم صاحبه فهو لذي اليد لأنها أمارة الملكية.
وعلى الثاني فما هو معلوم المالك أيضا يرد إلى صاحبه وفي المقدار
المشتبه يرجع إلى القرعة، ويحتمل الحكم بالتنصيف للمصالحة
القهرية، ويستأنس حكم ذلك مما ورد في الودعي (2)، ولكن الظاهر أن
الرواية غير نقية السند.
2 - إن ظاهر كلام المصنف عدم جريان التقسيم المذكور في القسم
الثاني، أعني ما لا يكون الاشتباه موجبا للشركة والإشاعة، ولذا اكتفى
فيه بالرجوع إلى القرعة أو بيع المال المشتبه والاشتراك في ثمنه.
ولكن الظاهر أن الأقسام المذكورة كلها جارية في القسم الثاني أيضا،
وتقريبه:
أن المأخوذ من الجائر إذا كان مشتبها بالحرام مع عدم كونه موجبا
للشركة، فأما أن يكون المالك والقدر كلاهما معلومين، فلا بد من رد

1 - الخمس: 234 - 256.
2 - الفقيه 3: 23، المقنع: 133، التهذيب 6: 208، 7: 181، عنهم الوسائل 18: 452.
811

المال إلى صاحبه.
وأما أن يكون القدر معلوما والمالك مجهولا، وقد تقدم حكمه في
الصورة الثالثة.
وأما أن يكون القدر مجهولا والمالك معلوما فيرجع إلى القرعة أو
يباع ويشترك في ثمنه، كما ذكره المصنف.
وأما أن يكون القدر والمالك كلاهما مجهولين فيجب فيه الخمس
على المشهور، وذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الخمس، وظاهر المصنف
عدم وجوبه هنا، ولكنه مدفوع باطلاق ما دل (1) على وجوب الخمس في
المال المختلط بالحرام على القول به، ودعوى اختصاصه بصورة
الإشاعة لا شاهد له.
فرع في الشك في كون الحرام بمقدار الخمس أو أقل أو أكثر:
قال السيد (رحمه الله) في حاشيته (2): مقتضى اطلاق أخبار الخمس عدم الفرق
بين ما لو شك في كون الحرام بمقدار الخمس أو أقل أو أكثر، وما لو علم
بنقصانه عنه أو زيادته عليه مع عدم العلم بمقداره، وهو الأقوى وفاقا
لسيد المناهل على ما نقل، وذهب بعضهم إلى الاختصاص بالصورة
الأولى، وأنه لو علم النقص لا يجب اعطاء الخمس، ولو علم الزيادة
لا يكفي بل يجب دفع الأزيد.

1 - الكافي 5: 125، الفقيه 2: 22، التهذيب 6: 230، عنهم الوسائل 9: 506.
2 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 34.
812

ولكن الظاهر هو ما ذهب إليه ذلك البعض، لأن مورد ما دل على ثبوت
الخمس في المختلط بالحرام أنه هو ما لم يعلم كون الحرام زائدا على
مقدار الخمس أو ناقصا عنه.
أما في صورة العلم بالنقصان فلأن الظاهر من قوله (عليه السلام) في رواية
الحسن بن زياد: فإن الله تعالى قد رضي من ذلك المال بالخمس (1)، إن
الرضا بالخمس للامتنان على العباد والتسهيل عليهم، ومن الواضح أنه
لا امتنان إلا مع احتمال زيادة الحرام على الخمس، ويضاف إلى ذلك أنه
لا قائل بوجوب الخمس في هذه الصورة، ذكر ذلك المحقق الهمداني
(قدس سره).
وأما في صورة العلم بزيادة الحرام عنه، فإن الجزء الزائد كبقية
المحرمات فلا ترتفع الحرمة عنه، وإلا كان ذلك حيلة لأكل أموال
الناس.
ويضاف إلى ذلك عدم القول بالفصل بين صورتي العلم بالزيادة والعلم
بالنقيصة، وحيث عرفت عدم وجوب الخمس مع العلم بالنقيصة فلا بد
من القول بعدم وجوبه أيضا مع العلم بالزيادة.
وعلى الجملة أن ظاهر الرواية وقوع المصالحة الشرعية بين الحرام
والخمس، ولا يجري ذلك إلا مع احتمال كونه بمقدار الحرام.
أخذ المال من الجائر ليس له بنفسه حكم من الأحكام الخمسة:
قوله: واعلم أن أخذ ما في يد الظالم ينقسم باعتبار نفس الأخذ إلى الأحكام الخمسة.
أقول: حاصل كلامه أن أخذ المال من الجائر ينقسم بلحاظ نفس
الأخذ إلى الأحكام الخمسة، وبلحاظ نفس المال إلى المحرم والمكروه

1 - التهذيب 4: 124 و 138، الوسائل 9: 506.
813

والواجب، فالمحرم ما علم أنه مال الغير مع عدم رضاه بأخذه،
والمكروه هو المال المشتبه، والواجب هو ما يجب استنقاذه من يد
الجائر من حقوق الناس وحقوق السادة والفقراء ولو كان ذلك بعنوان
المقاصة.
أقول: الظاهر أن الأخذ بنفسه لا يتصف بشئ من الأحكام الخمسة
حتى بالإباحة، بل شأنه شأن سائر الأفعال التي لا تتصف بها إلا باعتبار
العوارض والطوارئ.
فإن الأخذ قد يتصف بالحرمة كأخذ مال الغير بدون إذنه.
وقد يتصف بالوجوب كأخذ حقوق الناس من الجائر.
وقد يتصف بالكراهة كأخذ المال المشتبه منه بناء على كراهته كما
ذهب إليه بعض الأصحاب، وقد تقدم ذلك في البحث عن كراهة أخذ
الجائزة من الجائر مع عدم اشتمال أمواله على الحرام.
وقد يتصف بالاستحباب كأخذ المال منه مع عدم العلم بحرمته لزيارة
المشاهد والتوسعة على العيال، ونحو ذلك من الغايات المستحبة.
وقد يتصف بالإباحة كأخذ المال منه لغير الدواعي المذكورة.
وظيفة الجائر في نفسه بالنسبة إلى ما أخذه من أموال الناس:
قوله: وكيف كان، فالظاهر أنه لا اشكال في كون ما في ذمته من قيم المتلفات غصبا
من جملة ديونه.
قد فصلنا الكلام في حكم أخذ المال من الجائر، وأما وظيفته في
نفسه، فلا شبهة في اشتغال ذمته بما أتلفه من أموال الناس لقاعدة الضمان
بالاتلاف، فيجب عليه أن يخرج من عهدته، ولا شبهة أيضا في أن ما
814

أخذه من الناس بالظلم يجب عليه رده إليهم لقاعدة ضمان اليد.
هذا إذا كان الجائر حيا، وأما إذا مات كانت الأموال المذكورة من جملة
ديونه فتخرج من أصل التركة، لقوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو
دين (1)، وللروايات الواردة في هذه المسألة.
وقد خالف في ذلك الشيخ الكبير كاشف الغطاء (قدس سره) (2) فحكم بكونه من
الثلث مع الايصاء به ومنع كونه من الديون، واستدل على رأيه هذا بعدم
المقتضي وبوجود المانع:
أما الأول، فبأن ذمة الظالم وإن اشتغلت بالحقوق ووجب عليه
الخروج من عهدتها إلا أن الدين الذي يخرج من أصل التركة منصرف إلى
الديون المتعارفة، فلا يكون مورد البحث مشمولا للآية وما بمعناها.
وأما المانع، فلأن الآية الشريفة وإن دلت على اخراج ديون الميت من
أصل التركة وبها خصص ما دل على ما تركه الميت ينتقل إلى وارثه،
ولكن السيرة القطعية قائمة على أن الضمانات الثابتة بقاعدة ضمان اليد
لا تخرج من أصل التركة بل تخرج من الثلث مع الايصاء به، وإلا بقي
الميت مشغول الذمة به إلى يوم القيامة، وعليه فالآية قد خصصت
بالسيرة.
أقول: أما منع المقتضي فقد أشكل عليه المصنف بوجوه:
1 - منع الانصراف، فإنا لا نجد بعد مراجعة العرف فرقا بين ما أتلفه هذا
الظالم عدوانا وبين ما أتلفه شخص آخر من غير الظلمة، فكما أن الأول

1 - النساء: 12.
2 - شرح القواعد: 37 (مخطوط).
815

يخرج من أصل التركة فكذا الثاني.
2 - أنه لا اشكال في جريان أحكام الدين عليه في حال حياته، من جواز
المقاصة من ماله كما هو المنصوص (1) وعدم تعلق الخمس والاستطاعة و
غير ذلك.
3 - أنه لو تم الانصراف لزم إهمال الأحكام المنوطة بالدين وجودا من
غير فرق بين حياته وموته.
ودعوى اطلاق الغني عليه عرفا لا شاهد عليها، لأن أهل العرف ليسوا
مشرعين لكي تكون اطلاقاتهم حجة شرعية، كما أنهم يرون القمار وبيع
المنابذة والحصاة والمعاملة الربوية من المعاملات الصحيحة، وقد نهى
الشارع عنها وأزرى عليهم بها.
وأما وجود المانع، فأشكل عليه المصنف أيضا بأن السيرة المذكورة
ناشئة من قلة مبالاة الناس كما هو ديدنهم في أكثر السير التي استمروا
عليها، ولذا لا يفرقون في ذلك بين الظلمة وغيرهم ممن علموا باشتغال
ذممهم بحقوق الناس من جهة حق السادة والفقراء، أو من جهة العلم
بفساد أكثر معاملاته، وغيرها من حقوق الناس.
فلا يمكن رفع اليد عن القواعد المنصوصة المجمع عليها في الشريعة
المقدسة بمثل هذه السير الواهية، بل سيرة المتدينين على عكس السيرة
المذكورة، فإنهم لا يفرقون في الديون بين المظالم وغيرها.

1 - راجع التهذيب 6: 338 - 347، الوسائل 17: 272.
816

المسألة (3)
ما يأخذه الجائر من الناس يجوز احتسابه من الزكاة
قوله: الثالثة: ما يأخذه السلطان المستحل لأخذ الخراج.
أقول: الحقوق الشرعية الثابتة في أموال الناس أو في ذممهم أربعة:
الخمس والزكاة والخراج والمقاسمة، ولا بأس بجعل الأخيرين قسما
واحدا، وإذن فهي ثلاثة.
أما الخمس، فقد أسقطه عمر بن الخطاب وتبعه قومه، وذكر بعض
المفسرين من العامة أن عمر قد أسقط الخمس في شريعة الاسلام وتبعه
أصحابه، فصارت المسألة اجماعية، وعلى ذلك فلا جدوى في البحث
عن الخمس لعدم اعتقاد الجائر به لكي يأخذه من الناس حتى نبحث في
أحكامه، فيختص الكلام ببقية الحقوق.
ثم لا يخفى أن مورد تلك الحقوق الثلاثة هي: الغلات الأربع والأنعام
الثلاثة وأراضي المسلمين، وأما الأراضي التي أحياها العامل فلا شئ
عليه وإن كان المحيي من غير المسلمين، على ما ذهب إليه بعض
الأصحاب.
ثم إن الكلام هنا يقع في ثلاث نواحي:
1 - ابراء الذمة إذا أخذ الجائر الحقوق المذكورة:
إذا أخذ الجائر الحقوق المذكورة من المسلمين، فهل تبرء ذممهم
عنها أملا؟
مقتضى القاعدة الأولية هو العدم، فإن الشارع قد حكم بثبوت تلك
الحقوق في ذمم هؤلاء فلا تبرء عنها إلا بصرفها فيما عينه الشارع،
وواضح أن الجائر خارج عنه، على أنها لا تتعين في خصوص ما بأخذه
الجائر حتى تسقط عن ذممهم.
817

إلا أن الظاهر من الروايات الآتية في الناحية الثالثة هو جواز أخذ
الصدقات والمقاسمات من الجائر، بل الظاهر من السؤال في رواية
الحذاء الآتية أن ذلك من المسلمات.
فتدل تلك الروايات بالملازمة على أن الأموال التي يأخذها الجائر من
الناس يجوز احتسابها من الصدقات والمقاسمات وإلا لكان على الآخذ
أن يرده إلى صاحبه، فيدل ذلك على تنزيل يد الجائر في زمان الغيبة
منزلة يد السلطان العادل.
ويضاف إلى ما ذكرناه ما في جملة من الروايات (1)، من أن العشور التي
تؤخذ من الرجل يجوز احتسابها من الزكاة، إلا إذا استطاع الرجل دفع
الظالم، كما أشار إليه الإمام (عليه السلام) في رواية عيص بقوله: لا تعطوهم شيئا
ما استطعتم.
وأما ما ورد في صحيحة أبي أسامة زيد الشحام (2) من منع الاحتساب
لأنهم قوم غصبوا ذلك، فيمكن حمله على استحباب الإعادة كما صنعه
الشيخ في التهذيب.

1 - عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العشور التي تؤخذ من الرجل
أيحتسب بها من زكاته، قال: نعم إن شاء (الكافي 3: 543، الفقيه 2: 15، عنهما الوسائل
9: 251)، صحيحة.
عن العيص بن قاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الزكاة قال: ما أخذوا منكم بنو أمية فاحتسبوا
به ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم، فإن المال لا يبقى على هذا أن يزكيه مرتين (الكافي 3: 543،
التهذيب 4: 39، الإستبصار 2: 27، عنهم الوسائل 5: 252)، صحيحة، وغير ذلك من الروايات.
2 - التهذيب 4: 40، الإستبصار 2: 27، عنهما الوسائل 9: 254.
818

2 - لا يجوز للجائر أخذ الصدقات والمقاسمات من الناس:
هل يجوز للجائر أخذ الصدقة والخراج والمقاسمة من الناس أم لا؟
وعلى القول بالجواز فهل تبرء ذمته إذا أعطاها لغير أهلها أم لا؟
قد يقال: إن الولاية في زمان الغيبة وإن كانت راجعة إلى السلطان
العادل الذي وجبت على الناس طاعته وحرمت عليهم معصيته، فإذا
غصبها غاصب وتقمصها متقمص كان عاصيا وآثما، إلا أن هذه الولاية
الجائرة تترتب عليها الأحكام الشرعية المترتبة على الولاية الحقة، من
حفظ حوزة الاسلام وجمع الحقوق الثابتة في أموال الناس وصرفها في
محلها وغير ذلك، لأن موضوع تلك الأحكام هو مطلق السلطنة، سواء
أكانت حقة أم باطلة، كما إذا وقف أحد أرضا وجعل توليتها لسلطان
الوقت.
وعلى الجملة أن المحرم إنما هو تصدي الجائر لمنصب السلطنة
لا الأحكام المترتبة عليها، فإنها لا تحرم عليه بعد غصبه الخلافة
وتقمصها، هذا غاية ما يمكن أن يقال في جواز تصدي الجائر للأمور
العامة.
ولكن يرد عليه: أن هذا الاحتمال وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلا أنه لا دليل عليه، وعلى هذا فالجائر مشغول الذمة بما يأخذه من حقوق
المسلمين ما لم يخرج من عهدتها.
وذهب السيد في حاشيته (1) إلى براءة ذمة الجائر لوجه آخر، وحاصله:
أن الأئمة (عليهم السلام) وهم الولاة الشرعيون، قد أذنوا لشيعتهم في شراء
الصدقة والخراج والمقاسمة من الجائر، ويكون تصرفه في هذه الحقوق
الثلاثة كتصرف الفضولي في مال الغير إذا انضم إليه إذن المالك، وحينئذ

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 44.
819

فيترتب عليه أمران: أحدهما براءة ذمة الزارع بما دفع إلى الجائر من
الحقوق المذكورة، وثانيهما براءة ذمة الجائر من الضمان وإن ترتب عليه
الإثم من جهة العصيان والعدوان، ونظير ذلك ما إذا غصب الغاصب مال
غيره فوهبه لآخر وأجازه المالك.
ويرد عليه: أن إذن الشارع في أخذ الحقوق المذكورة من الجائر إنما
هو لتسهيل الأمر على الشيعة لئلا يقعوا في المضيقة والشدة، فإنهم
يأخذون الأموال المذكورة من الجائر، وأن إذنه هذا وإن كان يدل
بالالتزام على براءة ذمة الزارع، وإلا لزم منه العسر والحرج المرفوعين
في الشريعة، إلا أنه لا اشعار فيه ببراءة ذمة الجائر فضلا عن الدلالة عليها،
وعلى هذا فتصديه لأخذ تلك الحقوق ظلم وعدوان، فتشمله قاعدة
ضمان اليد وتلحقه جميع تبعات الغصب وضعا وتكليفا.
وأما تنظير المقام بهبة الغاصب المال المغصوب مع لحوق إجازة
المالك، فهو قياس مع الفارق، إذ المفروض أن الجائر لم يعط الحقوق
المذكورة لأهلها حتى تبرء ذمته بل أعطاها لغيرهم إما مجانا أو مع
العوض.
وعلى الأول فقد أتلف المال فيكون ضامنا له وإن جاز للآخذ التصرف
فيه، وعليه فالعوض يكون للأخذ وينتقل المال إلى ذمة الجائر، وعلى
الثاني فالمعاملة وإن صحت على الفرض إلا أن ما يأخذه الجائر بدلا عن
الصدقة يكون صدقة ويضمنه الجائر لا محالة.
ونظير ذلك أن الأئمة (عليهم السلام) قد أذنوا لشيعتهم في أخذ ما تعلق به
الخمس أو الزكاة ممن لا يعطيهما أو لا يعتقد بهما، مع أن ذلك يحرم
على المعطي وضعا وتكليفا.
3 - جواز أخذ الصدقات والمقاسمات من الجائر المستحل لذلك:
820

هل يجوز أخذ مال الصدقة والخراج والمقاسمة من الجائر المستحل
لذلك أم لا يجوز؟ وعلى القول بالجواز فهل يملكها الآخذ أم لا؟
المشهور بل المجمع عليه بين الأصحاب هو الأول (1)، وعن المسالك (2)
أنه أطبق عليه علمائنا ولا نعلم فيه مخالفا، وعن المفاتيح (3) أنه لا خلاف
فيه، وفي الرياض (4) أنه استفاض نقل الاجماع عليه، وقد خالف في ذلك
الفاضل القطيفي والمحقق الأردبيلي (5).
ولكن التحقيق يقتضي الأول، لاطلاق الروايات الكثيرة الدالة على
إباحة أخذ الجوائز من الجائر، وقد تقدمت الإشارة إليها في البحث عن
جوائز السلطان.
وتدل عليه أيضا الروايات الخاصة الواردة في خصوص المقام:
منها رواية الحذاء (6)، وهي تدل على المقصود بثلاث فقرات:
الفقرة الأولى: أن السائل جعل جواز أخذ الصدقات من السلطان
الجائر مفروغا عنه، وإنما سأل عما إذا أخذ الجائر من الناس أكثر من
الحق الذي يجب عليهم، فقال الإمام (عليه السلام): لا بأس به حتى تعرف
الحرام بعينه.
وقد أورد عليه المحقق الأردبيلي في محكي كلامه بأن قوله (عليه السلام):
لا بأس به حتى تعرف الحرام منه، لا يدل إلا على جواز شراء ما كان

1 - جامع المقاصد 4: 45، التنقيح الرائع 2: 19.
2 - المسالك 3: 142.
3 - مفاتيح الشرايع 3: 10.
4 - الرياض 1: 508.
5 - الفاضل القطيفي في السراج الوهاج (المطبوع ضمن الخراجيات): 109، مجمع
الفائدة 8: 101.
6 - الكافي 5: 228، التهذيب 6: 375، عنهما الوسائل 17: 220، صحيحة.
821

حلالا بل مشتبها، وعدم جواز ما كان معروفا أنه حرام بعينه، ولا تدل
على جواز شراء الزكاة بعينها صريحا، نعم ظاهرها ذلك، لكن لا ينبغي
الحمل عليه لمنافاته العقل والنقل، ويمكن أن يكون سبب الاجمال منه
التقية (1).
ويرد عليه أولا: أن الرواية صريحة في المطلوب، فإن الضمير في قوله
(عليه السلام): لا بأس به، يرجع إلى شراء إبل الصدقة وغيرها، فلا وجه لانكار
الأردبيلي صراحة هذه الفقرة في المقصود.
وثانيا: أن حكم العقل بقبح التصرف في مال الغير بدون إذنه وإن كان
مما لا ريب فيه، وكذا لا شبهة في دلالة جملة من الروايات (2) على
حرمته، إلا أن إذن الشارع فيه أحيانا يوجب ارتفاع القبح وتخصيص
العمومات.
وعليه فجواز أخذ الصدقات من الجائر لا ينافي حكم العقل والنقل،
لأن أخذ الجائر هذه الحقوق من المسلمين وإن كان على وجه الظلم
والعدوان إلا أن الشارع أجاز لغير الجائر أن يأخذها منه.
ومن هنا لم يتوهم أحد أن إذن الشارع في التصرف في الأراضي
المتسعة والأنهار الكبار وغيرهما ينافي حكم العقل والنقل.
وثالثا: أنه لا وجه لانكاره صراحة هذه الفقرة في المطلوب، ودعواه
ظهورها فيه ثم إنكاره الظهور أيضا لمنافاته العقل والنقل، نعم له انكار
حجيتها من الأول، سواء كانت صريحة في المطلوب أم ظاهرة فيه، كما
هو كذلك في كل دليل ينافي العقل والنقل.

1 - مجمع الفائدة 8: 102.
2 - قد مر قبيل هذا.
822

ورابعا: أنه لا وجه لاحتمال التقية في الرواية وجعلها سبب الاجمال
فيها، لأن مجرد معارضة الرواية لعموم آية أو رواية أو اطلاقهما لا يسوغ
حملها على التقية، بل يلتزم بالتخصيص أو التقييد.
لا يقال: لا وجه لحمل لفظ السلطان الوارد في الرواية على السلطان
الجائر، ولماذا لا يحمل على السلطان العادل، فتبعد الرواية عما نحن
فيه.
فإنه يقال: ظاهر قول السائل: وهو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من
الحق الذي يجب عليهم، أنه فرض الكلام في الجائر، لأن العادل
لا يعمل ذلك.
ويضاف إلى ما ذكرناه أنا لم نسمع بوجود السلطان العادل في زمان
السائل وما يقاربه.
الفقرة الثانية: أن السائل قد أحتمل حرمة شراء الانسان صدقات نفسه
من الجائر، فسأل الإمام (عليه السلام) عنها، فقال (عليه السلام): إن كان قد أخذها
وعزلها فلا بأس.
فهذه الفقرة أيضا صريحة في المطلوب، وإنما قيد الإمام (عليه السلام) جواز
شراء الصدقات بالأخذ والعزل معا ولم يكتف بالعزل فقط لأن الصدقات
لا تتعين بأمر الجائر بالعزل، فإذا اشتراها قبل الأخذ والعزل فقد اشترى
مال نفسه، وهو بديهي البطلان، فإن البيع تبديل المالين في طرفي
الإضافة، وهو غير معقول في شراء الانسان مال نفسه، وسنتعرض لذلك
في أوائل البيع إن شاء الله.
وقد يقال: إن المراد من المصدق في قول السائل: فما ترى في
مصدق يجيئنا - الخ، هو العامل من قبل السلطان العادل، ووجه السؤال
هو احتمال أن لا يكون العامل وكيلا في بيعها، فتكون الرواية أجنبية عن
823

المقام.
ويرده أن الرواية واردة في الجائر، وقد تقدم ما يدل على ذلك.
الفقرة الثالثة: أن السائل قد احتمل عدم كفاية الكيل السابق في الشراء،
فسأل الإمام (عليه السلام) عن ذلك، فقال: إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك
فلا بأس بشرائه منه من غير كيل، لأن الكيل إنما اعتبر طريقا إلى تعيين
مقدار المكيل بأي نحو اتفق، ولا دليل على اعتباره عند البيع، فهذه
الفقرة أيضا صريحة في جواز شراء الصدقات من الجائر.
لا يقال: المراد من القاسم المذكور في السؤال هو الزارع أو وكيله،
فلا مدخل للرواية فيما نحن فيه.
فإنه يقال: اتحاد السياق يقتضي أن يراد من القاسم عامل الصدقة
لا الزارع أو وكيله، على أن الظاهر من اطلاق لفظ القاسم - الذي هو من
المشتقات - هو من كانت القسمة حرفة له، ولا يطلق ذلك على الزارع
للأرض بقسمة حاصله.
وقد يتوهم أن الرواية إنما تعرضت لحكم الصدقة فقط، فلا تشمل
الخراج والمقاسمة.
ولكن يرد عليه أولا: أن مقابلة القاسم بالمصدق في الرواية تدل على
إرادة كل من المقاسمة المصطلحة والصدقات.
وثانيا: أن اطلاق لفظ القاسم يشمل الخراج والمقاسمة الزكاتية،
فلا وجه لصرفه إلى الثاني.
وثالثا: يكفينا تعرض الرواية لخصوص الصدقات فيثبت الحكم في
غيرها بعدم القول بالفصل، لأن كل من قال بجواز أخذ الصدقات من
الجائر قال بجواز أخذ الخراج والمقاسمة منه.
ومنها: رواية إسحاق بن عمار، قال: سألته عن الرجل يشتري من
824

العامل وهو يظلم، قال: يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا (1)، فإن
ظاهر الشراء من العامل هو شراء الحقوق المذكورة منه، فتدل هذه
الرواية أيضا على المطلوب.
وأشكل عليها الفاضل القطيفي بأن المراد من العامل هو عامل الظلمة،
وقد عرفت فيما سبق أنه لا مانع من أخذ أموالهم ما لم يعلم أنها من
الحرام، فتكون الرواية بعيدة عن المقام (2).
وفيه: أن هذه الدعوى وإن لم تكن بعيدة في نفسها، ولكن يدفعها
اطلاق الرواية، وعدم تفصيل الإمام (عليه السلام) بين المقامين.
ومنها: رواية أبي بكر الحضرمي (3)، فإنها ظاهرة في حل ما يعطيه
الجائر للناس من بيت المال، سواء كان ذلك بعنوان البذل أم الأجرة على
عمل، وقد ذكر المحقق الكركي أن هذا الخبر نص في الباب (4).
وقد تعجب منه الأردبيلي وقال: أنا ما فهمت منه دلالة ما، وذلك لأن
غايتها ما ذكر ذلك، وقد يكون شئ من بيت المال ويجوز أخذه
واعطاؤه للمستحقين، بأن يكون منذورا أو وصية لهم، ويعطيهم ابن

1 - قد تقدمت الرواية في البحث عن أخذ المال من السلطان مع العلم الاجمالي بوجود
الحرام في أمواله.
2 - السراج الوهاج (المطبوع ضمن الخراجيات): 107.
3 - عن أبي بكر الحضرمي قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وعنده إسماعيل ابنه،
فقال: ما يمنع ابن أبي شمال أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطي
الناس، ثم قال لي: لم تركت عطاءك؟ قال: قلت: مخافة على ديني، قال: ما منع ابن أبي شمال
أن يبعث إليك بعطائك، أما علم أن لك في بيت المال نصيبا (التهذيب 6: 336، عنه الوسائل
17: 214)، مجهولة لعبد الله بن محمد الحضرمي، في نسخة الوسائل سمال، وفي التهذيب
سماك.
4 - قاطعة اللجاج (رسائل المحقق الكركي) 1: 272.
825

أبي شمال وغير ذلك (1).
ولكن يرد عليه: أنه إذا تحقق للرواية ظهور فإن مجرد الاحتمال على
خلافه لا يسوغ رفع اليد عنه، وإلا لا نسد باب الاجتهاد، فإن كل ظاهر
يحتمل خلافه.
نعم لا يجوز الاستدلال بالرواية المذكورة على المقصود من جهة
أخرى، وهي أن الإمام (عليه السلام) قد علل التعريض على ابن أبي شمال بأنه
لم يبعث إلى أبي بكر الحضرمي بعطائه، حيث قال: أما علم أن لك في
بيت المال نصيبا.
وظاهر هذا التعليل أن جواز الأخذ من جهة ثبوت الحق في بيت
المال، فيجوز له الأخذ بمقدار حقه، إلا أنه لا دلالة فيها على جواز أخذ
الحقوق الثلاثة من الجائر مطلقا، لكون الدليل أخص من المدعى.
ومنها: الأخبار الواردة (2) في جواز تقبل الأراضي الخراجية، وتقبل

1 - مجمع الفائدة 8: 104.
2 - عن الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يتقبل خراج الرجال
وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصائد والسمك والطير، وهو لا يدري
لعل لا يكون أبدا أو يكون أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل به منه، فقال: إذا علمت أن من
ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتره (الفقيه 3: 141، التهذيب 7: 124، عنهما الوسائل 17: 355)،
موثقة لأبان بن عثمان.
ورواها الكليني باختلاف يسير (الكافي 5: 195، عنه الوسائل 17: 355) إلا أن في طريقه
عبد الله بن محمد بن عيسى، وهو مهمل.
راجع الوسائل باب 71 حكم الشراء من أرض الخراج والجزية، وباب 72 أحكام الأرضين
من كتاب الجهاد.
826

خراجها وخراج الرجال والرؤوس من الجائر، فإنها تدل بالملازمة على
جواز شراء الخراج والمقاسمة والصدقة منه.
وتوضيح الدلالة أن التقبل قد يتعلق بالأرض، وقد يتعلق بالخراج.
أما الأول فتشهد به جملة من الروايات، ولعل الوجه في تجويز
الشارع ذلك أن لا تبقى الأرض معطلة، ولا شبهة أن هذه الجهة لا ترتبط
بما نحن فيه.
وأما تقبل الخراج فتدل عليه جملة أخرى من الروايات، ولا ريب في
دلالة هذه الجملة على المطلوب، إذ لا فارق بين شراء الحقوق المذكورة
من الجائر أو أخذها منه مجانا وبين تقبلها، فإن الغرض هو مطلق الأخذ
ولذا نوهنا في صدر المسألة بأن الأخذ أعم من أن يكون مع العوض أو
بدونه.
827

ينبغي التنبيه على أمور:
1 - لا يجوز للجائر قطاع شخص خاص شيئا من الأراضي الخراجية:
هل يجوز للجائر اقطاع شخص شيئا من الأراضي الخراجية
وتخصيصها بها أم لا؟
الظاهر هو الثاني، لدلالة الأخبار (1) الكثيرة على أن الأراضي الخراجية
للمسلمين، فلا يجوز لأحد أن يتولى التصرف عنهم إلا الإمام (عليه السلام) أو من
كان مأذونا من قبله.
وعليه فإن قلنا بكون الجائر ولي الأمر في زمان الغيبة، أو قلنا بكونه
مأذونا من قبل الإمام (عليه السلام) في التصدي للأمور العامة، فلا بأس بتصرفه
في تلك الأراضي من قبل المسلمين على أي نحو شاء، وإن لم نقل بهما،
كما هو الظاهر لعدم الدليل عليهما، فيحرم عليه التصرف فيها وضعا
وتكليفا.
2 - شراء الصدقات من الجائر قبل أخذه إياها من الناس:
هل يجوز شراء الصدقات من الجائر قبل أخذه إياها من الناس، أم
لا يجوز ذلك إلا بعد الأخذ؟

1 - راجع التهذيب 4: 146، الإستبصار 2: 109، الوسائل 15: 155.
828

ظاهر عبارات الأكثر (1) بل الكل أن الحكم مختص بما يأخذه السلطان من
المسلمين، فلا يجوز شراء ما في ذمة مستعمل الأراضي الخراجية أو
الحوالة عليه، وصريح جماعة (2) جواز ذلك للأخبار الواردة في تقبل
الأراضي الخراجية وتقبل خراجها، وجزية الرؤوس من الجائر قبل
أخذه إياها - وقد تقدمت الإشارة إليها آنفا - فإن تقبل الخراج من الجائر
ليس إلا شراؤه منه.
وأما اختصاص عبارات الفقهاء بصورة الشراء بعد الأخذ، فمبني على
الغالب.
لا يقال: إن قوله (عليه السلام) في رواية الحذاء المتقدمة: إن كان قد أخذها
وعزلها فلا بأس، يدل على حرمة الشراء قبل الأخذ والعزل،
ولا اختصاص لذلك بالصدقات لعدم القول بالفصل بينهما وبين الخراج و
المقاسمة.
فإنه يقال: إن الرواية وإن كانت ظاهرة في ذلك إلا أنه ظهور بدوي
يزول بالتأمل فيها، فإنها بعيدة عما نحن فيه، لأن الظاهر من قول السائل:
فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها -
الخ، أن الجابي هو العامل من قبل الجائر، إذ لم يتعارف تصدي الجائر
لذلك بنفسه.
وعلى هذا فكلما أخذه العامل من حقوق المسلمين جاز شراؤه منه،
لقاعدة اليد المقتضية لحمل معاملاته على الصحة، فإنه من المحتمل

1 - أنظر مفتاح الكرامة 4: 247.
2 - منهم الشهيد الأول في الدروس 3: 170، والفاضل المقداد في التنقيح 2: 198،
والشهيد الثاني في المسالك 3: 143، والسيد المجاهد في المناهل: 310، والمحقق الثاني في
جامع المقاصد 4: 45، والسيد الطباطبائي في الرياض 1: 508.
829

أن يكون العامل مأذونا في البيع كما هو مأذون في الجباية.
ولكن ذلك لا يجري فيما قبل الأخذ، لأن حمل فعل المسلم على
الصحة في المعاملات إنما هو في الشرائط العائدة إلى العقد فقط، وأما
شرائط العوضين وأشباهها فلا بد من احرازها بدليل آخر، من قاعدة اليد
ونحوها، وهي منتفية في هذه الصورة.
فإذا باع أحد شيئا ولم نحرز مالكيته له أو كونه وكيلا مفوضا في البيع،
فإن الأثر لا يترتب على بيعه، وقد ظهر مما تقدم أن الرواية إنما وردت
على طبق القواعد.
ويضاف إلى ذلك ما تقدم سابقا من أن الرواية ناظرة إلى عدم جواز
الشراء قبل الأخذ، لأن الصدقات لا تتعين بأمر الجائر بالعزل، فإذا
اشتراها قبل الأخذ فقد اشترى مال نفسه، وهو واضح البطلان.
3 - حكم الأراضي الخراجية حال الغيبة:
لا شبهة في أن الأراضي الخراجية ملك لجميع المسلمين كما عرفت
في الأمر الأول، فلا بد من صرف أجرتها في مصالحهم العامة، كما
لا شبهة في أن أمر التصرف فيها وفي خراجها إلى الإمام (عليه السلام).
وإنما الاشكال في حكمها حال الغيبة، وقد اختلفوا في ذلك على
أقوال قد تعرض لها السيد في حاشيته (1)، ولا يهمنا ذكره، والذي يهمنا
أمره أنه لم يستشكل أحد من الأصحاب في أن السلطان الجائر غاصب
للخلافة وقائم في صف المعاندة لله.

1 - حاشية العلامة الطباطبائي على المكاسب: 46.
830

إلا أنه ذهب جمع منهم (1) إلى حرمة التصرف في تلك الأراضي وفي
خراجها بدون إذنه، بتوهم أنه ولي الأمر في ذلك بعد غصبه الخلافة، لأن
موضوع التصرف فيها هو السلطنة وإن كانت باطلة، فإذا تحققت يترتب
عليها حكمها.
إلا أنك قد عرفت سابقا عدم الدليل على ذلك، بل غاية ما ثبت لنا من
الأخبار الكثيرة التي تقدم بعضها هو نفوذ تصرفات الجائر فيما أخذه من
الناس باسم الخراج والمقاسمة والصدقة، بمعنى أن الشارع قد حكم
بجواز أخذها منه وببراءة ذمة الدافع منها، وإن بقي الجائر مشغول الذمة
بها ما لم يؤدها إلى أهلها، وقد عرفت ذلك فيما سبق.
وتقدم أيضا أن حكم الشارع بنفوذ معاملة الجائر على النحو المذكور
إنما هو لتسهيل الأمر على الشيعة، لكيلا يقعوا في العسر والحرج في
معاملاتهم وأمور معاشهم، ولم يدل دليل على أزيد من ذلك حتى أنه
لو أمكن انقاذ الحقوق المذكورة من الجائر، ولو بالسرقة والخيانة،
وايصالها إلى أهلها وجب ذلك فضلا عن أن ترد إليه.
ثم لا يخفى أن المستفاد من بعض الأخبار (2) إنما هو حرمة دفع
الصدقات إلى الجائر اختيارا، وبعدم القول بالفصل بينها وبين الخراج
والمقاسمة تحكم بحرمة دفعهما إليه أيضا اختيارا، بل يمكن استيناس

1 - منهم الشهيدين في الدروس 3: 170، المسالك 3: 55 و 143، والمحقق الكركي في
قاطعة اللجاج (رسائله): 1: 285 عن شيخه علي بن هلال، وكاشف الغطاء في شرح القواعد
: 38 (مخطوط).
2 - قد تقدمت الإشارة إليها في البحث عما يأخذه الجائر من الناس يجوز احتسابه من
الزكاة.
831

التعميم من رواية علي بن يقطين (1)، حيث إنه كان يأخذ أموال الشيعة
علانية ويردها إليهم سرا.
وأيضا يمكن استيناس التعميم من صحيحة زرارة (2)، فإنها تدل على
أنه اشترى ضريس من هبيرة أرزا بثلاثمائة ألف، وأدى المال إلى بني
أمية، وعض الإمام (عليه السلام) إصبعه على ذلك.
لأن أمرهم كان في شرف الانقضاء وكان أداء المال إليهم بغير اكراه
منهم، بل كان ذلك باختيار ضريس، فيستفاد من ذلك أنه لا يجوز دفع
الخراج إلى الجائر مع الاختيار.
وقال المصنف: فإن أوضح محامل هذا الخبر أن يكون الأرز من
المقاسمة.
4 - حكم شراء ما يأخذه الجائر من غير الأراضي الخراجية:
هل يختص جواز شراء الخراج والمقاسمة بما أخذه الجائر من
الأراضي الخراجية، أو يعم مطلق ما أخذه من الأراضي باسم الخراج
والمقاسمة، وإن لم تكن الأرض خراجية.
وتوضيح ذلك: أن الأرض قد تكون خراجية، كالأراضي التي فتحت
عنوة أو صلحا، فهي لجميع المسلمين، وقد تكون شخصية كالأراضي
المحياة، فإنها ملك للمحيي، وكالأراضي التي أسلم أهلها طوعا فإنها
لمالكها الأول، وقد تكون من الأنفال كالجبال وبطون الأودية ونحوها.
أما القسم الأول، فلا ريب في كونه مشمولا للأخبار المتقدمة الدالة

1 - الكافي 5: 112، الفقيه 3: 108، عنهما الوسائل 17: 192، مجهولة.
2 - التهذيب 6: 337، عنه الوسائل 17: 219.
832

على جواز شراء الحقوق الثلاثة من الجائر على النحو الذي عرفته آنفا.
وأما القسم الثاني، فهو خارج عن حدود تلك الأخبار قطعا، ولم يقل
أحد بثبوت الخراج فيها، وعليه فإذا أخذ الجائر منه الخراج كان غاصبا
جزما ولا يجوز شراؤه منه.
وأما القسم الثالث فهو وإن لم يكن من الأراضي الخراجية إلا أن ما
يأخذه الجائر من هذه الأراضي لا يبعد أن يكون محكوما بحكم الخراج
المصطلح، ومشمولا للروايات الدالة على جواز شراء الخراج من
الجائر، بعد ما كان أخذ الجائر إياه بعنوان الخراج، ولو كان ذلك بجعل
نفسه.
ويرد عليه أن هذا القسم خارج عن موضوع الأخبار المذكورة، فإنها
مسوقة لبيان جواز المعاملة على الحقوق الثلاثة، من التقبل والشراء
ونحوهما، وليس فيها تعرض لموارد ثبوت الخراج وكيفيته ومقداره،
بل لا بد في ذلك كله من التماس دليل آخر، ولا دليل على امضاء ما جعله
الجائر خراجا، وإن لم يكن من الخراج في الشريعة المقدسة.
5 - اختصاص الحكم بالسلطان المدعي للرياسة العامة:
ذكر المصنف أن ظاهر الأخبار ومنصرف كلمات الأصحاب
الاختصاص بالسلطان المدعي للرياسة العامة وعماله، فلا يشمل من
تسلط على قرية أو بلدة، خروجا على سلطان الوقت، فيأخذ منهم
حقوق المسلمين، فلا يكون ذلك مشمولا للأخبار المتقدمة ولا يجوز
شراؤها منه.
والوجه في ذلك أن الأخبار المذكورة لم ترد على سبيل القضايا
الحقيقية، فليس مفادها أن كل متصد لمنصب الخلافة والسلطنة تترتب
833

على دعواه الأحكام المزبورة، بل موردها القضايا الخارجية، أعني
السلاطين الذين يرون أنفسهم أولياء الأمور للمسلمين، بحيث لا يمكن
التخلص عن مكرهم، ويدعون عليهم الولاية العامة في الظاهر، وإن
كانت عقيدتهم على خلاف دعواهم، كجملة من الخلفاء السابقين، ومن
الواضح أن المسؤول عنه في تلك الروايات إنما هو تصرفات هؤلاء
الخلفاء في الحقوق الثابتة على المسلمين.
وعليه فليس في تلك الروايات عموم ولا اطلاق لكي يتمسك به في
الموارد المشكوكة، وفي كل متزعم أطلق عليه لفظ السلطان، وحينئذ
فلا بد من الاقتصار في الأحكام المذكورة على المقدار المتيقن وهي
القضايا الشخصية الخارجية ولا يجوز التعدي منها إلا إلى ما شاكلها في
الخصوصيات.
ومن هنا يظهر عدم شمول الأخبار المزبورة لسلاطين الشيعة الذين
اتصفوا بأوصاف المخالفين، فضلا عن شمولها لمن تسلط على قرية أو
بلدة خروجا على سلطان الوقت، وأخذ من أهلها أموالهم باسم الخراج
والمقاسمة والصدقة، فلا تبرء بذلك ذمم الزارعين ولا يجوز شراؤها
من هؤلاء الظالمين، لأن ذلك يدخل فيما أخذ على سبيل الظلم
والعدوان.
وقد يقال بشمول الأحكام المتقدمة لكل من يدعي الرياسة ومنصب
الخلافة ولو على قرية أو بلدة، لقاعدة نفي العسر والحرج.
ولكن يرد عليه أنه قد يراد بذلك لزوم الحرج على الذين يأخذون
الأموال المذكورة من هؤلاء الظلمة المدعين للخلافة، وهو واضح
البطلان، وأي حرج في ترك شراء ما في يد السراق والغصاب مع العلم
بكونه غصبا وسرقة، على أن ذلك لو صح لجاز أخذ الأموال المحرمة من
834

أي شخص كان، وهو بديهي البطلان.
وقد يراد بذلك لزوم الحرج على الزارعين وأولياء الأراضي إذا وجب
عليهم أداء تلك الحقوق ثانيا، فيرتفع بدليل نفي الحرج ولكنه أيضا بين
الخلل، فإن لازم ذلك أن الانسان إذا أجبره سارق أو غاصب على اعطاء
حقوق الله أو حقوق الناس أن تبرء ذمته بالدفع إليه لتلك القاعدة،
ولم يلتزم بذلك فقيه ولا متفقه.
6 - عدم اختصاص الحكم بمن يعتقد كون الجائر ولي الأمر:
قد عرفت أنه لا شبهة في جواز أخذ الصدقة والخراج من الجائر، فهل
يختص ذلك بالحقوق التي أخذها من المعتقدين بخلافته وولايته، أم
يعم غيرها؟
الظاهر أنه لا فارق بينهما لاطلاق الروايات المتقدمة، بل ورد بعضها
فيما كان المأخوذ منه مؤمنا، كروايتي الحذاء وإسحاق بن عمار، وبعض
ما ورد في تقبل الأرض، وقد تقدمت الإشارة إلى هذه الروايات آنفا،
ومن الواضح أن المؤمن لا يعتقد بخلافة الجائر، وكونه ولي أمر
المسلمين.
7 - تقدير الخراج منوط برضى المؤجر والمستأجر:
ليس للخراج قدر معين بل المناط فيه ما رضي به السلطان ومستعمل
الأرض بحيث لا يكون فيه ضرر على مستعمل الأرض، فإن الخراج هو
أجرة الأرض فيناط تقديره برضى المؤجر والمستأجر، كالنصف
والثلث والربع ونحوها، فإن زاد على ذلك فالزائد غصب يحرم أخذه من
الجائر.
835

ويدل على ما ذكرناه قوله (عليه السلام) في مرسلة حماد الطويلة (1): والأرضون
التي أخذت عنوة بخيل ورجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها
ويحييها ويقوم عليها، على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم
من الحق: النصف والثلث والثلثين وعلى قدر ما يكون صالحا
ولا يضرهم.
8 - شراء الصدقة من الجائر على وجه الاطلاق:
المستفاد من الروايات المتقدمة هو جواز شراء الصدقة والخراج
والمقاسمة من الجائر على وجه الاطلاق، سواء كان المأخوذ بقدر
الكفاف والاستحقاق أم أزيد.
وأما الأخذ المجاني فيحرم من أصله إن كان الأخذ غير مستحق
لذلك، وإلا يحرم الزائد على قدر الاستحقاق.
ويشعر بما ذكرناه قوله (عليه السلام) في رواية الحضرمي: أما علم أن لك في
بيت المال نصيبا، وقد تعرضنا لها سابقا ورميناها إلى الجهالة (2).
نعم لا بأس بأخذها للاستنقاذ، وحينئذ فلا بد من ايصالها إلى الحاكم
الشرعي مع التمكن منه وإلا أوصلها إلى المستحقين.
وقد يتوهم جواز الأخذ مطلقا للأخبار الدالة على حلية أخذ الجوائز
من السلطان (3)، وقد تقدمت جملة منها في البحث عن ذلك، ولكن هذا
التوهم فاسد فإن تلك الأخبار غير متعرضة لحكم الحقوق الثلاثة نفيا
واثباتا.

1 - التهذيب 4: 130.
2 - قد مر في البحث عن جواز أخذ الصدقات والمقاسمات من الجائر المستحل لذلك.
3 - أنظر المسالك 3: 143.
836

9 - شرائط الأراضي الخراجية:
الأراضي الخراجية إنما تثبت بشرائط ثلاثة:
الشرط الأول: أن تكون الأرض مفتوحة عنوة أو صلحا، أو تكون من
الأنفال على الاحتمال المتقدم (1).
ويثبت ذلك بالشياع المفيد للعلم، وبشهادة العدلين، وكذا يثبت
بالشياع المفيد للظن المتاخم للعلم، إذا قلنا بكفايته في كل ما تعسرت
إقامة البينة عليه، كالنسب والوقف والملك المطلق ونحوها، وبقول
العدل الواحد إذا قلنا بحجيته في الموضوعات، وهذه الأمارات حاكمة
على أصالة عدم كون الأرض مفتوحة عنوة.
وقد يقال ثبوت الفتح عنوة بالسيرة، وبحمل فعل الجائر على
الصحة، فإن أصالة الصحة لا تختص بفعل العادل.
أما السيرة، فإن كان المراد بها سيرة الجائرين، فهي مقطوعة البطلان،
لأنهم لا يلتزمون بالأحكام الشرعية بل يرتكبون الأفعال الشنيعة
ولا يفرقون بين الحلال والحرام، فكيف يبقى مع ذلك اطمئنان بالسير
الدائرة بينهم، ويزداد ذلك وضوحا بمراجعة التواريخ وملاحظة أحوال
الخلفاء السابقين وأفعالهم.
وإن كان المراد بها سيرة الفقهاء على معاملة جملة من الأراضي
كمعاملة الأراضي الخراجية فهو متين، ولكن الاشكال في الصغرى فأي
أرض ثبتت كونها مفتوحة عنوة أو صلحا لكي يحكم بكونها خراجية.

1 - قد مر في البحث عن حكم شراء ما يأخذه الجائر من غير الأراضي الخراجية.
837

ومن هنا يتضح أن البحث في ذلك خال عن الفائدة، فإن الجائرين في
يومنا هذا لا يأخذون الخراج بعنوان الولاية والاستحقاق، بل لا يعتقدون
بذلك، ومعه يأخذون فريقا من أموال الناس باسم الخراج، كالمكوس
والكمارك وغيرهما.
وأما حمل فعل الجائر على الصحة، فسيأتي التعرض له عند بيان
الضابطة للأراضي.
والتحقيق أن تحرير البحث في المقام يقع في ثلاث نواحي:
1 - إن الأرض التي تكون بيد الزارع قد توجد فيها علامة تدل على
كونها مسبوقة باليد، وقد لا تكون كذلك، وعلى الأول فقد تمضي مدة
يطمئن الزارع بعدم بقاء المالك عادة، وقد لا يكون كذلك.
فعلى الأول، تكون الأرض وخراجها للإمام (عليه السلام)، لأنه وارث من
لا وارث له، ومع الشك في وجود الوارث فالأصل عدمه، إذا كان هنا علم
عادي بموت الأبوين.
وعلى الثاني تعامل الأراضي وخراجها معاملة مجهول المالك.
ومن هنا يتضح ما في كلام المصنف، من اثبات عدم الفتح عنوة وعدم
تملك المسلمين وغيرهم بأصالة العدم، ووجه الضعف هو أن كون
الأرض معلمة بما يدل على أنها مسبوقة باليد مانع عن الرجوع إلى
الأصل.
وعلى الثالث، وهو ما إذا لم تكن في الأرض علامة تدل على كونها
مسبوقة باليد، فإن ثبت كونها خراجية فلا كلام لنا فيه، وإن لم يثبت ذلك
فهل يمكن اثبات ذلك بحمل فعل الجائر على الصحة أم لا؟ الظاهر هو
الثاني.
838

فقد عرفت فيما سبق أن معنى حمل فعل المسلم على الصحة في غير
المعاملات هو أن لا يعامل معاملة الكاذب، ومن المعلوم أنه لا دلالة في
ذلك على ترتيب آثار الصدق عليه، على أن الحمل على الصحة إنما هو
فيما إذا كان الفاعل على الصلاح والسداد وإلا فلا موجب له كما في
الخبر (1)، ولكنه ضعيف السند.
وقد يقال بحمل فعل الجائر على الصحة من ناحية وضع يده عليها
وأخذه الخراج منها.
ولكن يرد عليه أن وضع اليد إنما يحمل على الصحة فيما إذا احتملت
صحته وأحرز واضع اليد جواز ذلك، ومن المعلوم جزما أن الجائر
لم يحرز كون الأراضي التي هي تحت تصرفه خراجية، فتكون يده عليها
يد غصب وعدوان، وعلى هذا فمقتضى القاعدة أن الأرض ملك للزارع
لأن من أحيى أرضا فهي له.
2 - إن الأرض التي بيد الزارع إما أن تكون معمورة قبل أخذها من
الجائر أو مواتا.
وعلى الثاني فهي لمن أحياها للأخبار الدالة، على أن من أحيى أرضا
فهي له، وقد ذكرت هذه الأخبار في كتاب احياء الموات.
وعلى الأول فإما أن يحتمل بقاء المالك أو لا، وعلى الأول تكون
الأرض من مجهول المالك، وعلى الثاني فهي ملك للإمام، لأنه وارث من
لا وارث له، واحتمال وجود وارث غيره مدفوع بالأصل إلا إذا احتمل
بقاء العمودين فتكون الأرض أيضا من مجهول المالك.

1 - عن الجلاب قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إذا كان الجور أغلب من الحق لم يحل
لأحد أن يظن بأحد خيرا حتى يعرف ذلك منه (الكافي 5: 298، عنه الوسائل 19: 78)، ضعيف
بسهل ومحمد بن الحسن بن شمون، ومجهول بجلاب.
839

3 - أخذ الخراج ممن أخذه من الجائر حكمه حكم أخذه من نفس
الجائر، فإن احتمل في حقه أنه يعرف الأراضي الخراجية، ويعلم أن ما
أخذه الجائر من تلك الأراضي حمل فعله على الصحة وعومل معاملة
المالك، وإلا كان المقام من قبيل تعاقب الأيدي على المال المغصوب.
الشرط الثاني: أن يكون الفتح بإذن الإمام (عليه السلام)، واعتبار هذا الشرط
هو المشهور بين الفقهاء (1)، وذهب صاحب المستند وبعض آخر إلى
عدم اعتباره في كون الأرض خراجية.
وتحقيق ذلك: أن الكلام قد يقع في الشبهة الحكمية، بمعنى أنه هل
يعتبر إذن الإمام (عليه السلام) في الفتح أم لا، وقد يقع في الشبهة الموضوعية
وأنه بعد اعتبار إذن الإمام في ذلك فبأي طريق يثبت كون الأرض خراجية
عند الشك في ذلك؟
أما اعتبار إذن الإمام (عليه السلام) في الفتح فتدل عليه رواية الوراق (2).
ويرد عليه أولا: أن الرواية مرسلة لا يصح الاعتماد عليها.
وثانيا: إن النسبة بينها وبين الروايات (3) الدالة على أن الأرض
الخراجية التي فتحت بالسيوف للمسلمين هي العموم من وجه، لأن
المرسلة أعم من حيث شمولها للمنقولات، وتلك الروايات أعم
لاطلاقها من ناحية إذن الإمام (عليه السلام).

1 - المبسوط 2: 34، مجمع الفائدة 7: 473.
2 - عن الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا غزا قوم بغير أذن الإمام
فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس (التهذيب
4: 135، عنه الوسائل 9529)، مجهولة.
3 - تقدمت الإشارة إليها في مبحث: لا يجوز للجائر قطاع شخص خاص شيئا من
الأراضي الخراجية.
840

فتقع المعارضة بينهما في الأراضي التي أخذت بغير إذن الإمام،
فتكون بمقتضى المرسلة ملكا للإمام (عليه السلام)، وبمقتضى تلك الروايات
ملكا للمسلمين، فيحكم بالتساقط ويرجع إلى عموم قوله تعالى:
واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه (1).
والحاصل أنه لا دليل على اعتبار الشرط الثاني في كون الأراضي
المفتوحة للمسلمين.
ويضاف إلى ذلك خبر محمد بن مسلم (2)، فإن ظاهرها أن الأراضي
المفتوحة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حكمها حكم أرض العراق، وأنها ملك
للمسلمين.
وأما الكلام من حيث الشبهة الموضوعة، فمقتضى الأصل هو عدم
كون الفتح بإذن الإمام (عليه السلام)، ولا يكون هذا مثبتا، فإن الفتح محرز
بالوجدان وعدم كونه بإذن الإمام (عليه السلام) محرز بالأصل، فيترتب الأثر على
الموضوع المركب.
نعم لو قلنا بأن الأثر، أعني كون المفتوح ملكا للمسلمين، يترتب على
الفتح المستند إلى إذن الإمام (عليه السلام) كان الأصل مثبتا، ونتمسك مع ذلك
بالعدم الأزلي، ونقول: إن الأصل عدم الاستناد.
وقد ذكرت وجوه للخروج عن الأصل المذكور:
1 - إن الفتوحات الاسلامية كلها كانت بإذن الإمام (عليه السلام)، وتدل على

1 - الأنفال: 42.
2 - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد رسول الله
(صلى الله عليه وآله)، فقال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سار في أهل العراق بسيرة، فهي إمام لسائر الأرضين -
الخبر (الفقيه 2: 29، التهذيب 4: 118، عنهما الوسائل 15: 154)، صحيح.
841

ذلك رواية الخصال (1) الدالة على أن عمر كان يشاور أمير المؤمنين (عليه السلام)
في غوامض الأمور، ومن الواضح أن الخروج إلى الكفار ودعائهم إلى
الاسلام من أعظم تلك الأمور، بل لا أعظم منه.
ويرد على هذا الوجه أولا: أن الرواية ضعيفة السند، فلا يصح
الاعتماد عليها.
وثانيا: أن عمر كان مستقلا في رأيه ولم يشاور الإمام (عليه السلام) في كثير من
الأمور المهمة، بل في جميعها الراجعة إلى الدين.
وثالثا: أن هذا الوجه إنما يجري في الأراضي التي فتحت في خلافة
عمر، ولا يجري في غيرها.
2 - إن الأئمة (عليهم السلام) راضون بالفتوحات الواقعة في زمن خلفاء الجور،
لكونها موجبة لقوة الاسلام وعظمته.
وفيه: أن هذه الدعوى وإن كانت ممكنة في نفسها، إذ المناط في ذلك
هو الكشف عن رضاء المعصوم (عليه السلام) بأي طريق كان، ولا موضوعية
للإذن الصريح، ولكنها أخص من المدعى، فإنه ليس كل فتح مرضيا
للأئمة (عليهم السلام) حتى ما كان من الفتوح موجبا لكسر الاسلام وضعفه.
3 - ما ذكره المصنف، من أنه يمكن أن يقال بحمل الصادر من الغزات
من فتح البلاد على وجه الصحيح، وهو كونه بأمر الإمام.

1 - عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه أتى يهودي أمير المؤمنين (عليه السلام) في منصرفه عن وقعة نهروان،
فسأله عن المواطن الممتحن بها بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وفيها يقول (عليه السلام): وأما الرابعة يا أخا اليهود
فإن القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمري ويناظرني في
غوامضها، فيمضيها عن رأي لا أعلمه أحدا ولا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري ولا يطمع
في الأمر بعده سواي، فلما أتته منيته على فجأة بلا مرض كان قبله - الحديث (الخصال: 374،
باب السبعة، الرقم: 58)، ضعيفة.
842

وفيه مضافا إلى أن مورد حمل فعل المسلم على الصحة ما إذا كان
الفعل ذا وجهين: الصلاح والفساد، ودار الأمر بين حمله على الصحيح
أو الفاسد، فإنه يحمل على الأول للقاعدة المذكورة، وأما إذا كان كلا
وجهي الفعل صحيحا كما في المقام فلا مورد لها أصلا، فإن الغزوات
الواقعة إن كانت بإذن الإمام (عليه السلام) فالغنائم للمسلمين وإلا فهي للإمام،
ولا شبهة أن كلا الوجهين صحيح، فلا مورد لنفي أحدهما واثبات الآخر
بتلك القاعدة.
الشرط الثالث: أن تكون الأراضي المفتوحة محياة حال الفتح لتدخل
في الغنائم ويخرج منها الخمس أولا على المشهور ويبقى الباقي
للمسلمين، وإن كانت مواتا حين الفتح فهي للإمام (عليه السلام) وقد أباحها
للمسلمين (1).
ويدل على ذلك مضافا إلى الشهرات والاجماعات المنقولة أمران:
1 - إنه ورد في الشريعة المقدسة أن أموال الكفار الحربيين من الغنائم،
فيخرج منها الخمس ويبقى الباقي للمسلمين، ولا شبهة أن هذا الحكم
لا يشمل أموال المسلمين المودعة عند الكفار أو المعارة لهم، أو
المغصوبة عندهم، لأنها ليست من أموالهم.
وقد ثبت أيضا أن الأراضي الموات للإمام (عليه السلام) وقد أباحها
للمسلمين أو لمن أحياها ولو كان كافرا، ونتيجة المقدمتين أن الأراضي
المفتوحة إنما تكون ملكا للمسلمين إذا كانت محياة حال الفتح، وإلا فهي
للإمام (عليه السلام).

1 - أنظر الغنية (الجوامع الفقهية): 540، الخلاف 3: 525، التذكرة 2: 402، كفاية الأحكام
: 239، جامع المقاصد 7: 9.
843

2 - إن الأراضي كلها كانت بيد الكفار وقد أخذها المسلمون بالحرب
ونحوه، فلو لم تكن الموات من تلك الأراضي ملكا للإمام (عليه السلام) لم يبق
مورد للروايات الدالة على أن موات الأرض للإمام (عليه السلام)، فتكون ملغاة،
وقد ذكرت هذه الأخبار في أبواب الأنفال.
قوله: نعم لو مات المحياة حال الفتح فالظاهر بقاؤها على ملك المسلمين (1).
أقول: الأراضي الموات على ثلاثة أقسام:
1 - ما كانت مواتا في الأصل بحيث لم تكن محياة في وقت ما.
2 - ما كانت محياة حال الفتح ثم ماتت بعد ولم يحيها أحد.
3 - ما كانت مواتا حال الفتح ثم أحياها أحد المسلمين ثم تركها
فصارت مواتا.
والظاهر أن هذه الأقسام كلها مشمولة للأخبار الدالة على أن الأراضي
الموات كلها للإمام، ضرورة صدق الميت بالفعل عليها، من غير فرق بين
ما كان ميتا بالأصل أو بالعرض.
لا يقال: الأراضي التي كانت محياة حال الفتح باقية في ملك
المسلمين، سواء عرضها الموت بعد ذلك أم لا، كما أن كل أرض كانت
مواتا حال الفتح ثم أحياها أحد فهي باقية في ملك من أحياها وإن
عرضها الموت بعد ذلك، لأن خروجها بالموت عن ملكه يحتاج إلى
دليل، ومع الاغضاء عن ذلك يرجع إلى الاستصحاب.
فإنه يقال: الأحكام المجعولة على الموضوعات المقدرة إنما تكون
فعلية بفعلية موضوعاتها، فإذا انتفى الموضوع سقط الحكم عن الفعلية
كما ينعدم المعلول بانعدام علته.

1 - كما في السرائر 1: 481، الرياض 1: 496.
844

ومن الواضح أن موضوع الملكية الفعلية حدوثا وبقاء فيما دل على أن
من أحيى أرضا فهي له، إنما هو الأرض مع قيد الحياة، فإذا زالت الحياة
زالت الملكية أيضا، فلا يشمل اطلاق ذلك لما بعد الموت أيضا، وأما
الاستصحاب فهو محكوم بالاطلاقات الدالة على أن كل أرض ميت فهي
للإمام (عليه السلام)، مع أنه لا يجري في الشبهات الحكمية كما حققناه في علم
الأصول.
على أن شمول بعض الروايات الدالة على أن موات الأرض للإمام،
للأراضي التي كانت محياة ثم ماتت بالعموم، وشمول الروايات الدالة
على أن من أحيى أرضا فهي له لذلك بالاطلاق، فيتعارضان بالعموم من
وجه، فيقدم ما كانت دلالته بالاطلاق، وقد حققنا ذلك في علم الأصول.
ثم إن الأمور التي تثبت بها الحياة حال الفتح من الشياع المفيد للعلم
وغيره مما قدمناه آنفا، يثبت بها الفتح عنوة، ومع الشك في ذلك يرجع
إلى الأصل.
ثم إذا علم اجمالا باشتمال الأراضي التي بيد أحد المسلمين على
أرض محياة حال الفتح، بأن كانت لأحد أراضي متعددة في نقاط العراق
كالبصرة والكوفة وكربلاء، وعلم اجمالا باشتمالها على أرض محياة
حال الفتح، فإن ادعى من بيده الأراضي ملكية جميعها مع احتمال كونها
له عومل معاملة المالك، إذ يحتمل أن المحياة حال الفتح ماتت بعد ذلك
ثم طرأت عليها الحياة ثانيا، وإن لم يدع ملكية كلها أو بعضها رجع فيها
إلى حكام، إلا أنه لا يوجد لهذه الصورة مصداق في الخارج.
ثم إذا أحرزنا كون أرض مفتوحة عنوة بإذن الإمام (عليه السلام) وكانت محياة
الفتح، فإنه لا يمكن الحكم أيضا بكونها أرض خراج ملكا للمسلمين مع
ثبوت اليد عليها، لأنا نحتمل خروجها عن ملكهم بالشراء ونحوه، وعلى
هذا فلا فائدة لتطويل البحث في المقام، إذ لا يترتب عليه أثر مهم.
845

وقد تم الجزء الأول من كتاب مصباح الفقاهة في المعاملات بعون الله
وحسن توفيقه، ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله، والحمد لله أولا وآخرا
وظاهرا وباطنا وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين
المعصومين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين، وكان الفراغ
من ذلك صبيحة يوم الثلاثاء ربيع الأول سنة 1373 ه‍.
846