الكتاب: كتاب القضاء
المؤلف: السيد الگلپايگاني
الجزء: ١
الوفاة: ١٤١٤
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤٠١
المطبعة: مطبعة الخيام - قم
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني (وفاة ١٤١٤)

كتاب القضاء
تقرير أبحاث
فقيه العصر سماحة آية الله العظمى
السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني
دام ظله الوارف
بقلم
السيد علي الحسيني الميلاني (الجزء الأول)
1

مطبعة الخيام - قم 1401
2

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم، وأفضل صلواته
وأزكى تحياته على أشرف أنبيائه وخاتم رسله وخير خلقه محمد سيد
العرب والعجم، وعلى آله وأصحابه البررة أولى الفضل والكرم. وعلى
أعدائهم اللعن المؤبد الأتم، إلى أن يحيى الله العظام بعد الرمم
وبعد، فإن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء
ومن أتي العلم فقد أوتي خيرا كثيرا. وقد فضل الله مداد العلماء
على دماء الشهداء، وجعلهم ورثة الأنبياء.
ثم ولدنا العلامة الحجة السيد علي الميلاني أيده الله تعالى
قد صرف عمره الشريف وزهرة شبابه في طلب العلم وكسب الفضيلة
وكتب محاضراتنا وأبحاثنا في الفقه من (كتاب القضاء) وعرض
علينا ما كتب، فاطلعنا عليه ووجدناه جامعا للمسائل، حاويا
للمطالب، محتويا على النكات والدقايق، وافيا بالمراد.
وقد استجازنا في طبعه ونشره، فأجزنا له ذلك، سائلين
المولى جل شأنه أن يوفقه لمراضيه، ويكثر في العلماء والمجدين
أمثاله، فلله تعالى دره، وعليه سبحانه أجره. والسلام عليه
وعلى سائر العلماء العاملين ورحمة الله وبركاته
قم المقدسة في 28 / شهر رمضان المبارك ه‍ / 1401
محمد رضا الموسوي الگلپايگاني
3

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله
الطاهرين، لا سيما خليفة الله في الأرضين الإمام الثاني عشر الحجة
ابن الحسن العسكري أرواحنا فداه، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
من الأولين والآخرين.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الاسلام وأهله
وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة
إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة.
وبعد:
فإن لكل موجود من الموجودات التي يشاهدها الانسان نظاما
دقيقا متقنا يسير عليه ولا يحيد عنه وذلك " صنع الله الذي أتقن كل
شئ "، كما يشاهد الانسان كذلك نظاما كليا محكما، وسننا إلهية
ثابتة تخضع لها الكائنات بأسرها، وتلك سنة الله " ولن تجد لسنة
الله تبديلا ".
5

ولم يكن الانسان الذي خلقه الله تعالى وكرمه وفضله على كثير
ممن خلق كما قال عز من قائل: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم
في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا
تفضيلا " 1) بدعا من سائر الموجودات من هذه الناحية، بل إن
الانسان أحق وأولى منها في أن يكون له نظام، لأن الموجودات
الأخرى قد خلقت لأجله وسخرت له وجعلت تحت سلطنته لتعينه على
السير قي الصراط المستقيم المرسوم له حتى يصل إلى الغاية
المنشودة التي لأجلها خلق.
فكان لا بد للانسان أيضا من نظام يحدد له تصرفاته في مختلف
شؤونه الخاصة منها والعامة، ويتناسب مع شتى حالاته، وذلك
النظام هو الذي يعبر عنه ب‍ " الدين "، ويعرف بأنه " ما شرع الله
لعباده على لسان رسله "، حتى بعث سيدنا ومولانا محمد المصطفى
صلى الله عليه وآله وكان ما جاء به هو النظام الأتم والقانون
الأدق، ومن ثم كان هذا الدين خاتمة الأديان.
إن الدين الاسلامي هو النظام الوحيد الذي يستحب لنداء
الانسان ويتلائم مع فطرته التي خلق عليها، وأنه النظام الذي يتكفل
سعادة الانسان ورقيه إلى أعلى درجات الكمال ويأخذ بيده إلى ما فيه
خيره في عاجله وآجله.
لقد اهتم الدين الاسلامي بكل ناحية من نواحي الحياة الانسانية
بالقدر اللازم من الاهتمام، وعلى هذا الأساس بذل بالنسبة إلى صيانة

(1) سورة الإسراء: 70.
6

حقوق الانسان وحفظ النظام العام بالغا للأهمية البالغة لهذه
الناحية من حياة الانسان، فشرع لها القوانين الحقوقية الثابتة، وحدد
علاقة الانسان وما يجب له وعليه تجاه الآخرين، وصلة
الفرد بالمجتمع وحدود المسؤوليات الفردية والاجتماعية، إلى غير
ذلك من المسائل المتعلقة بهذا المجال من مجالات الحياة.
وقد أشارت الآية الكريمة: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا
معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس
شديد ومنافع للناس. " 1) إلى طريقة الاسلام في معالجة
المشاكل التي تعرض الانسان والمجتمع في هذا المقام. وتوضيح
ذلك بإيجاز هو: إن الغرض من خلق الانسان هو ايصاله عن اختيار
إلى الكمال المعنوي والفوز برضى الله عز وجل والقرب منه، وذلك
لا يتحقق إلا بتنمية الروح الانسانية المودعة فيه وفطرته السليمة التي
خلق عليها، وتعديل الغرائز المختلفة الكائنة فيه، فأرسل الله سبحانه
رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والحكمة والميزان لتحقيق هذا
الغرض، وقال النبي صلى الله عليه وآله: " إنما بعثت لأتمم
مكارم الأخلاق "، فجاء " ص " بتعاليم أخلاقية سامية وعلم الكتاب
والحكمة، ودعا إلى تهذيب النفوس، وأمر بالعدل والاحسان،
ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد نجح - إلى حد بعيد -
في هذا المجال، فكان في نفس كل انسان مسلم متأدب بآدابه وازع
داخلي يمنعه من الاقتراب من أموال الآخرين والنيل من أعراضهم

(1) سورة الحديد: 25.
7

والتعدي على حقوقهم.
وقد جعل في الشريعة الاسلامية إلى جانب ذلك الأحكام القضائية
والقوانين الجزائية لتكون سدا أمام من لم ينتفع بالآيات والحكم
ولم تؤثر فيه المواعظ والآداب، فمال مع غرائزه النفسانية التي
تحمل الانسان على أن لا يقتنع بحقوقه وتدفعه إلى الظلم والتعدي على
حقوق الآخرين، فجعل " القاضي " لأن يكون مرجعا للناس لفصل
الخصومات وقطع المنازعات، وجعل " الحديد " فيه بأس شديد
تستأصل به جذور الفساد وعناصر البغي في المجتمع.
ومن وقف على جزئيات تلك التشريعات في الفقه الجعفري
عرف مدى الدقة المبذولة فيها من جهة ومدى تلائمها مع الفطرة
الانسانية من جهة أخرى، ولا عجب فإنها تشريعات متخذة من أخبار
أهل بيت الوحي والرسالة، وهي مستمدة من جدهم عن الله عز
وجل العالم الخبير بما يصلح شأن العباد وينظم أمورهم، وذلك قوله
تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " 1). وحينئذ يسقط
عن الاعتبار والاعتماد سائر التشريعات المنسوبة إلى السماء فكيف
بالقوانين الوضعية الحديثة؟.
فشكر الله سعي علمائنا الأبرار الذين نقحوا هذه المسائل ورووا
أخبارها وجمعوا آثارها، كتبوا هذه البحوث العلمية الراقية
ودرسوها وخلدوها إلى يومنا الحاضر.
وعندما انبثقت الثورة في بلادنا ضد النظام الإمبراطوري وأطاحت

(1) سورة الملك: 14.
8

به وطالبت الأمة بالعودة بها إلى أحكام الاسلام وأقيمت المحاكم
الشرعية، قام سيدنا الأستاذ الأكبر فقيه الأمة وزعيم الحوزة العلمية،
المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى الحاج السيد محمد رضا
الموسوي الگلپايگاني دام ظله الوارف بتدريس " كتاب القضاء " 1)
لاعداد ثلة من الفضلاء للتأهل بتولي هذا المنصب الخطير.
والحق أنها بادرة منه دام ظله جديرة بالتقدير، فإن القضاة إذا
صلحوا وساروا على النهج الصحيح، وحكموا بالحق وهم يعلمون،
وأقاموا العدل. قام المجتمع بالقسط وساده الأمن وانتشر فيه الصلاح،
وأما إذا تولى القضاء من ليس أهلا له، أو اتبع هواه عند الحكم
أو جار فيه انتشر الفوضى واختل النظام وفسدت البلاد والعباد.
هذا وقد وفقت لتدوين ما يلقيه سيدنا الأستاذ في بحثه الشريف،
وعرضته عليه فلاحظه وأقره، فلما اكتمل جزء استأذنته قي نشره -
نزولا عند رغبة بعض الزملاء الأفاضل - فأذن بذلك. وإني إذ أقدم
هذا المجهود العلمي - مع تعليقات على بعض مواضعه - إلى زملائي
الفضلاء وإخواني العلماء أسأل الله عز وجل أن يمن علينا بدوام
وجود سيدنا الأستاذ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه
سميع مجيب.
قم المقدسة 18 رمضان 1401 علي الحسيني الميلاني

(1) وقد كان بحثه سابقا في كتاب البيع، وقد طبع الجزء الأول
منه بتقريرنا باسم (بلغة الطالب في التعليق على بيع المكاسب).
9

كتاب القضاء
القضاء في اللغة والاصطلاح
هو لغة لمعان كثيرة ولا حاجة إلى بيانها فليراجع كتب اللغة 1)
أما قي عرف الأصحاب فقد قيل: هو فصل الخصومة بين
المتخاصمين وتطبيق الأحكام على مواردها الجزئية، بأن يحكم
بأن هذه الدار لزيد، كما أن الفتوى عبارة عن الحكم الكلي الإلهي
بغض النظر عن تطبيقه.

1) كالصحاح والقاموس وتاج العروس وغيرها، فمن تلك
المعاني: الحكم والصنع والحتم والبيان والاتمام. ولكل
واحد منها شواهد في الكتاب والسنة وكلمات العرب، وقد تكون له
معان أخرى بحسب اختلاف موارد الاستعمال أو أداة التعدية
الواردة في الكلام.
والظاهر - كما عن بعض اللغويين - أن تلك المعاني كلها ترجع
إلى معنى واحد وهو انقطاع الشئ، بمعنى تحتمه وتمامه.
10

وقيل: هو الولاية على تطبيق الحكم الجزئي في الموارد
الجزئية 1).
أقول: والظاهر أن القضاء هو " الحكم "، وهو أحد معانيه
المذكورة في اللغة، وهو الأنسب بموارد استعماله، قال تعالى:

1) وفي المسالك: " عرفوه شرعا بأنه: ولاية الحكم شرعا
لمن له أهلية الفتوى بجزئيات القوانين الشرعية على أشخاص معينة
من البرية باثبات الحقوق واستيفائها للمستحق ". وفي المستند:
" ولاية حكم خاص أو حكم خاص في واقعة مخصوصة وعلى شخص
مخصوص باثبات ما يوجب عقوبة دنيوية شرعا أو حق من حقوق
الناس بعد التنازع فيه أو بنفي واحد منهما ". وفي الكفاية: " ولاية
عامة بالنيابة عن النبي " ص " والإمام " ع " خصوصا أو عموما ". وفي
الدروس: " ولاية شرعية على الحكم والمصالح العامة من قبل
الإمام عليه السلام ".
وهذه التعاريف مشتملة على " الولاية " مع أن القضاء ليس
ولاية، كما أن القضاء ليس فصل الخصومة.. إذ قد يتحقق ذلك
بالصلح ونحوه.
ومما ذكرنا يظهر أن الأولى هو ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله
من أنه نفس الحكم. أي عند التنازع والخصومة لغرض رفعها، سواء
كان في اثبات حق أو نفيه لأشخاص معينين في نزاع خاص أو في
المصالح العامة للمسلمين كالحكم بالهلال ونحوه.
11

" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه.. " 1).
أن هذا الحكم الذي يجب إطاعته وتنفيذه لا بد أن يكون ممن
نصب لذلك من قبل الله تعالى، قال عز وجل: " يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس " 2).
أو من قبل النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام عليه السلام
إما خصوصا أو عموما كما في رواية أبي خديجة: " ولكن انظروا
.. " 3).
وهو حكم مطابق للحكم الإلهي، فليس فصل الخصومة من
القاضي بفتوى الفقيه أو الفقهاء، بل إنه حكم يصدره ومن آثاره
وخواصه وجوب تنفيذه على الكل حتى الفقهاء، - وهذه حيثية
أخرى للتفريق بين المفتي والحاكم 4) إلا إذا قطع أحدهم بعدم تمامية

1) سورة الإسراء: 23، بل " الحكم " أول المعاني المذكورة
للقضاء في القاموس والصحاح، فيكون المراد من " القضاء " نفس
الحكم الصادر من القاضي من باب الولاية، فإنه الذي يقطع النزاع
ويتم الأمر ويحتمه إن كان صدوره بالشرائط المعتبرة شرعا، ومن هنا
يعبر عن القاضي بالحاكم، ويؤمر بالتحاكم إليه.
2) سورة ص: 26.
3) وسائل الشيعة: 18 / 4.
4) إن " القاضي " يغاير " المفتي " و " المجتهد " و " الفقيه "
بالحيثية وإن كانت الأوصاف هذه كلها مجتمعة - بناءا على اعتبار
الاجتهاد - فيه، لأن القاضي يسمى قاضيا وحاكما باعتبار الزامه
بالحكم الذي يصدره، وأما إذا كان ما يصدره مجردا عن هذا الاعتبار
فإنه يسمى مفتيا لأنه حينئذ يخبر عن الحكم فقط، وهو باعتبار مجرد
الاستدلال على الأحكام يسمى مجتهدا وباعتبار علمه بتعين ما توصل
إليه ظنه حكما شرعيا في حقه وحق مقلديه يسمى فقيها.
12

بعض مقدمات حكم من الأحكام، أو لم يقل بولاية الفقيه 1).
وبالجملة فالمراد من الحكم هنا هو ما يصدره القاضي بعنوان
الولاية والسلطنة الشرعية 2) لا بعنوان الاخبار عن فتوى أو اجتهاد
لنفسه أو غيره، ولهذا الحكم آثار شرعية كعدم جواز نقضه حتى
من مجتهد آخر، وعدم ضمان القاضي مع عدم تقصيره في مقدمات
الحكم - إلى غير ذلك.
القضاء في الشريعة:
ثم إن القضاء أمر ثابت في الشريعة لا يمكن المناقشة فيه، وتدل
عليه الآيات 3).

1) أو كان حكمه مخالفا لدليل قطعي من الأدلة الشرعية.
2) المجعولة له من قبل المعصوم عليه السلام خصوصا أو عموما.
3) كقوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك.. "
وقوله: " إنا أنزلنا الكتاب بالحق لتحكم بين الناس.. "
وقوله: ".. فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول.. "
وقوله: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن
يكون لهم الخيرة.. " وغيرها من آيات الكتاب.
13

والروايات البالغة حد التواتر عندنا 1)، فإنها تدل على ثبوت أصل
القضاء في الشريعة الغراء من قبل الله عز وجل بين الناس.
والعقل أيضا يحكم بوجوبه، فكما أن قاعدة اللطف تقضي
بوجود أحكام بين الناس من قبل الله عز وجل، كذلك تقضي بوجود
ولي يقضي بينهم في موارد الاختلاف حسما للنزاع ودفعا للخصومة،
وأنه لا يجوز على الله سبحانه أن يترك الناس سدى من غير ولي
يرجعون إليه عند الخصومة والنزاع ليرفعها ويأخذ للمظلوم حقه من
الظالم.
بل إن القضاء أمر ضروري من ضروريات الدين، ولذا نرى
المحقق " قده " في الشرائع لا يتعرض لهذه الناحية لأنه أمر مسلم
مفروغ عنه.
وجوب القضاء:
هذا ولا يجوز التصدي للقضاء لمن لم يكن واجدا للشرائط
المعتبرة الآتية 2) وأما الواجد فهل يجب عليه ذلك؟ أما الوجوب:

1) وسيأتي ذكر نصوص بعضها التعليق على قول المحقق
".. ينفذ قضاء الفقيه.. ".
2) بل إن الواجد لها على خطر عظيم، فعن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: " من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين " وعنه
أيضا: " لسان القاضي بين جمرتين من نار حتى يقضي بين الناس
فإما في الجنة وإما في النار " وفي الخبر: " من حكم في درهمين
فأخطأ كفر " وفي آخر: " القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في
الجنة " وفي آخر: " أي قاض قضى بين اثنين فأخطأ سقط أبعد من
السماء ". بل في بعض الأخبار إن القاضي إذا حكم بالحق وهو لا
يعلم فهو في النار.
14

فإنه واجب كفائي، لأن الغرض حفظ النظام به كسائر الواجبات
الكفائية المتوقف عليها حفظ نظام المجتمع الاسلامي، وقد يجب
عينا في صورة عدم تصدي أحد له، ومتى لم يتوفر الواجد للشرائط
أو وجد ولم يتصد له فهل يجب تحصيلها أو حمل الغير على ذلك؟
الظاهر ذلك لتوقف حفظ النظام عليه أولا 1). ولأنه لو لم يكن
ذلك لتصداه غير أهله وهو ينافي الإرادة التشريعية لله عز وجل ثانيا.
وهذا الواجب كفائي ومع عدم قيام أحد به فالكل معاقبون.

1) أي ولو في الجملة، لأن حفظ النظام يتحقق به وبأمور
أخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحل المنازعات بالصلح
ونحو ذلك.
15

صفات القاضي
البلوغ. العقل. الايمان. العدالة. طهارة المولد
العلم. الضبط. الكتابة. الذكورة. السمع والبصر
والنطق. الحرية.
17

صفات القاضي:
الأصل: عدم نفوذ حكم أحد في حق أحد، لكن قام
الدليل - نقلا وعقلا - على نفوذ حكم أشخاص. فالنبي صلى
الله عليه وآله وسلم لا ريب في نفوذ حكمه لأنه خليفة الله في الأرض
وصاحب الولاية الكبرى المقتضية لنفوذ حكمه.. وقد قال عز وجل
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا
في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " 1) كما لا ريب في ولاية
الأئمة من أهل بيته وعترته ونفوذ حكمهم للأدلة المعتبرة الدالة
على ذلك كتابا وسنة، ومن ذلك قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ
فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. " 2).

1) سورة النساء: 65.
2) فالمراد من " أولي الأمر " فيها - كما في الأخبار المعتبرة -
هم الأئمة المعصومون من أهل بيت الوحي والرسالة دون غيرهم.
19

ولا ريب في أنه صلى الله عليه وآله قد تصدى لذلك
وكان ينصب أو يرسل بعض أصحابه لفصل الخصومات وقطع
المشاجرات.. وكذلك فعل مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة
والسلام.. وهذا يدل على أنه يمكن اعطاء هذا المنصب لبعض
الأشخاص وتوليتهم القضاء 1) فمن يصح نصبه لهذا الأمر؟ ومن
الذي ينفذ حكمه وإن لم يكن منصوبا بالخصوص؟ وما هي صفاته؟
1 - البلوغ
قال المحقق قدس سره: " ويشترط فيه البلوغ ".
أقول: لا ريب ولا خلاف في اشتراط البلوغ في القاضي فلا

1) فالحاصل: إن الحكم في الأصل لله عز وجل كما قال: " إن
الحكم إلا لله " ثم إنه جعله لأشخاص معينين ونصبهم له وهم الأنبياء
والأوصياء، وقد أمر الناس بالرجوع إلى هؤلاء فيما شجر بينهم
ورضي بحكم هؤلاء، أما غيرهم فقد نهى عن الرجوع إليهم،
قال سبحانه: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن
يكفروا به ". ومن هنا قال أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: " قد
جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي ".
ثم إن هذا المنصب الجسيم قد أذن للتصدي له من قبل الأئمة
عليهم السلام لمن توفرت فيه الصفات المذكورة في أدلة الإذن،
ومن هنا نشرع في بيان تلك الصفات على ضوء تلك الأدلة.
20

ينعقد القضاء لغير البالغ 1)، لأنه قاصر محتاج إلى الولي ولا تنفذ
أعماله في حق نفسه ولا ولاية له عليها، فكيف يكون وليا على غيره؟
2 - العقل:
قال: " وكمال العقل "
أقول: لا ريب ولا خلاف في اشتراطه كذلك ولا حاجة إلى
الاستدلال عليه 2).
3 - الايمان:
قال: " والايمان ".
أقول: قد يراد به الايمان المقابل للكفر، فلا ينعقد القضاء

1) أي حتى المراهق الجامع للشرائط - عدا البلوغ - ويدل
عليه الاجماع المصرح به في كلمات جماعة من الأصحاب وهو العمدة
بعد معتبرة أبي خديجة: " أنظروا إلى رجل.. ". وأما كونه قاصرا
محتاجا إلى الولي في تصرفاته فقاصر عن الدلالة على المنع، إذ يمكن
لهذا الشخص المفروض جامعيته للشرائط عدا البلوغ أن يتصدى
للحكم بإذن وليه.
ثم إن الأدلة الأخرى الظاهرة في العموم تخصص بالمعتبرة
المذكورة ومثلها الأخرى: " اجعلوا بينكم رجلا.. ".
2) بالاجماع والاعتبار لوضوح الأمر، وأن أدلة الإذن في
الحكم منصرفة عن المجنون قطعا، واطلاق معقد الاجماع يعم من
كان جنونه دوريا، وأما تعليل بعضهم بمثل ما ذكر في المتن في
البلوغ فغير تام كذلك والعمدة الاجماع.
21

لكافر، قال الله تعالى: " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت
وقد أمروا أن يكفروا به.. " 1) وقال صلى الله عليه وآله:
" الاسلام يعلو ولا يعلى عليه " 2).
وقد يراد به الايمان بالمعنى الأخص، وهو كونه إماميا اثني
عشريا. قال في الجواهر: هو من ضروريات مذهبنا، ويدل على
اشتراطه النصوص الكثيرة البالغة حد الاستفاضة بل التواتر، الناهية
عن الترافع إلى قضاة الجور وحكام المخالفين - إلا عند التقية -
والمقتضية عدم جواز التصرف في ما حكم به قاضي الجور وإن
كان حقا 3).

1) سورة النساء: 60.
2) وسائل الشيعة: 17 / 376.
3) وتجد طائفة من هذه النصوص في الباب الأول من أبواب
صفات القاضي من وسائل الشيعة، وأول تلك النصوص ما رواه
عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " أيما مؤمن
قدم مؤمنا في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر فقضى عليه بغير حكم
الله فقد شركه في الإثم ".
وإلى اشتراطه يشير الإمام عليه السلام في معتبرة أبي خديجة
بقوله " رجل منكم ".
22

4 - العدالة:
قال: " والعدالة ".
قال بعض علمائنا المعاصرين: هذا الشرط يغني عن اشتراط
" الايمان ". ويمكن الاستدلال لاشتراط العدالة بقوله سبحانه:
" لا ينال عهدي الظالمين " 1) لأن الولاية على القضاء ونفوذ الحكم
عهد من الله تعالى والفاسق ظالم فلا يناله عهده 2).
ويدل عليه النصوص الكثيرة 3).
5 - طهارة المولد:
قال: " وطهارة المولد ".
أقول: لا دليل يدل عليه بالخصوص. قال في الجواهر: هو واضح

1) سورة البقرة: 124.
2) ولأنه منع من الركون إلى الظالم في قوله عز وجل " ولا
تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار "، والفاسق ظالم لنفسه
والتحاكم إليه والاستناد إلى حكمه ركون عرفا وأن تنظر بعض أعلام
العصر في الاستدلال بالآية الكريمة في هذا المقام.
3) كخبر سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل
في المسلمين لنبي [كنبي] أو وصي نبي ".
ويدل عليه ما دل على اعتبار الايمان.
ولأن الفاسق قاصر عن مرتبة الولاية على الصبي فكيف بهذه
المرتبة الجليلة، ولأن شهادته مردودة فالقضاء أولى.
23

بناءا على كفره 1) أما على غيره فالعمدة الاجماع المحكي وفحوى
ما دل على المنع من إمامته وشهادته إن كان وقلنا به.. " ولكن
لا يحضرني الآن دليل له هذا الفحوى بحيث يستدل به ويعتمد عليه
لذلك، اللهم إلا بتنقيح المناط أو اثبات الأولوية، والانصاف إن
كل ذلك مشكل، فالعمدة الاجماع المحكي عن جماعة 2).
6 - العلم:
قال: " والعلم ".
أقول: لا ريب في عدم نفوذ حكم الجاهل بالأحكام الشرعية
وأنه يشترط كون القاضي عالما، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنة: رجل قضى بجور
وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار
ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق

1) كما في بعض الأخبار، وقد حملت على معان أخرى كما هو
مذكور في محله.
2) والأصل الأولى المذكور سابقا، وفي مباني تكملة المنهاج:
" هذا مضافا إلى أن قوله عليه السلام في صحيحة الجمال المتقدمة:
ولكن انظروا إلى رجل منكم. ينصرف إلى غير ولد الزنا جزما ".
24

وهو يعلم فهو في الجنة " 1).
فهل المراد من العلم 2) في هذا الخبر ونحوه الاجتهاد المطلق
أو يعم المتجزي وعلم المقلد الذي يحكم بفتوى مقلده أو ناصبه أيضا؟

1) وسائل الشيعة: 18 / 11.
2) البحث في هذا الشرط في جهات نذكرها باختصار ونقتصر
على الأقوال وبيان الخلاف فيها:
الجهة الأولى: إنه لا ريب ولا خلاف في اشتراط العلم في
القاضي، فلا ينعقد القضاء للجاهل ولا ينفذ حكمه، ويدل عليه
- قبل الاجماع - الكتاب والنصوص المستفيضة بل المتواترة من
السنة الشريفة، وقد عقد في الوسائل " باب عدم جواز القضاء
والافتاء بغير علم بورود الحكم عن المعصومين عليهم السلام ".
ومن أخباره ما ذكر في المتن، وما رواه أبو عبيدة عن أبي جعفر
عليه السلام قال: " من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه ".
والثانية: قال أكثر الأصحاب بأنه يشترط في هذا العالم أن يكون
مستقلا بأهلية الفتوى، قال المحقق: " ولا ينعقد لغير العالم المستقل لأهلية
الفتوى ولا يكفيه فتوى العلماء، ولا بد أن يكون عالما بجميع ما
وليه " وقال العلامة قي القواعد: " فلا ينعقد قضاء.. الجاهل بالأحكام
ولا غير المستقل بشرائط الفتوى ولا يكتفي بفتوى العلماء ويجب
أن يكون عالما بجميع ما وليه " وفي المسالك: " والمراد بالعالم هنا
المجتهد في الأحكام الشرعية، وعلى اشتراط ذلك في القاضي اجماع
علمائنا، ولا فرق بين حالة الاختيار والاضطرار، ولا فرق فيمن
نقص عن مرتبته بين المطلع على فتوى الفقهاء وغيره، والمراد
بكونه عالما بجميع ما وليه كونه مجتهدا مطلقا، فلا يكفي اجتهاده
في بعض الأحكام دون بعض على القول بتجزي الاجتهاد ".
وصريح كلام المسالك دعوى الاجماع على اشتراط الاجتهاد
المطلق، وقد حكي الاجماع على اشتراط الاجتهاد عن جماعة وبه
صرح في الرياض، ومن قبلهم الشيخ " قده " وستأتي عبارته في
المتن. ومن هنا يظهر أن ما ذكره الشيخ في المبسوط بقوله: " وفي
الناس من أجاز أن يكون القاضي عاميا ويستفتي العلماء ويقضي به "
ليس قولا لأحد من قدماء أصحابنا.
نعم عن المحقق الأردبيلي نفي الشك عن عدم نفوذ قضاء غير
المجتهد مع وجود المجتهد، واستشكل المحقق القمي في جامع
الشتات الحكم باشتراط الاجتهاد على الاطلاق ولم يستبعد جواز
المرافعة للعالم العادل المطلع على جميع المسائل المتعلقة بالواقعة
تقليدا في حال الاضطرار، وفي الجواهر: " بل قد يقال: إن المستفاد
من الكتاب والسنة صحة الحكم بالحق والعدل والقسط من كل
مؤمن.. ".
والثالثة: هل يشترط في المجتهد أن يكون مجتهدا مطلقا أم
يكفي التجزي؟ فيه أقوال - فالأول: ما عرفته من العبارات المزبورة
في الجهة الثانية من اشتراط كونه مجتهدا مطلقا، كما قد عرفت
دعوى الاجماع عليه في المسالك. والثاني: جواز المرافعة للمجتهد
المتجزي مطلقا. وإليه ذهب صاحب المستند تبعا لغيره. والثالث:
التفصيل بين صورة التمكن من المرافعة عند المجتهد المطلق وصورة
فقده. وهو مختار صاحب الكفاية حيث قال: " ولا يبعد القول
بالاكتفاء بالتجزي عند فقد المجتهد المطلق ".
25

لقد حكي الاجماع على لزوم كون القاضي مجتهدا، والقدر
المتيقن منه " المجتهد المطلق " وأما بالنسبة إلى غيره فنقول: تارة
يقال بأن حكم الحاكم موضوع للنفوذ ووجوب الامتثال، وأخرى
يقال بأنه بيان لحكم الإمام عليه السلام فيكون كناقل الحكم، فبناء
على الثاني ينفذ حكمه سواء كان مقلدا أو مجتهدا مطلقا أو متجزيا
وعلى الأول يكون لحكمه موضوعية فيتوقف جواز الرجوع إلى
المقلد والمتجزي ونفوذ حكمهما على حجة شرعية، ومع الشك
فالأصل عدم النفوذ.
وقد استدل لجوازه برواية أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال:
قال أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: " إياكم أن
يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن انظروا إلى رجل منكم
يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا
إليه " 1) فإن كلا من المقلد والمجتهد المتجزي " يعلم شيئا.. "

1) وسائل الشيعة: 18 / 4.
27

وقوله عليه السلام: " فإني. " يكشف عن أن القضاء منصب وليس
وجوبه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرواية تعم
زمان الغيبة والحضور معا، لكن قال المجلسي " قده " هي خاصة
بزمان الحضور، ولم يكن القضاة في ذلك الزمان مجتهدين بل
كانوا يروون أحكام الأئمة ويرجعون إليهم، وفيه: أن ظاهر قوله
عليه السلام: " يعلم شيئا.. " اشتراط كونه عالما سواء مع الواسطة
أو بدونها فلا اختصاص بزمان الحضور، وسواء علم بالكبريات
وعرف تطبيقها على الموارد الجزئية باجتهاده أو لم يكن كذلك
خلافا للعلامة المذكور حيث استظهر منها الدلالة على اعتبار الاجتهاد..
والرواية مشتهرة بين الأصحاب كما في المسالك. وهو يجبر
ضعف سندها لو كان - يرويها الشيخ الكليني " قده " عن أحمد بن
محمد بن خالد، وطريقه إليه صحيح، وأحمد ثقة و " أبو خديجة "
ضعفه الشيخ ووثقه النجاشي والعلامة في المختلف وأبو علي في
كتاب الرجال الكبير، ولدى التعارض بين الجرح غير المفسر
والتعديل فالتعديل مقدم 1).

1) ما ذكره السيد الأستاذ دام ظله الشريف هو أحد الأقوال في
المسألة وقد ذكر جدنا العلامة المامقاني " قده " فيها سبعة أقوال
في مقباس الهداية في علم الدراية فليراجع.
أقول: بل ينبغي أن ليرتاب في وثاقة الرجل، لأن المنقول عن
الشيخ " قده " توثيقه في موضع آخر، فإذن يتعارض قولاه ويتساقطان
ويبقى توثيق النجاشي " قده " بلا معارض. هذا مضافا إلى ما ذكره
علماء الرجال في محله من أن للشيخ اشتباهات والنجاشي لم يشاهد
له اشتباه وقد كرر توثيقه.
28

إلا أن مقتضى قول صاحب الزمان أرواحنا له الفداء: " وأما
الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم
وأنا حجة الله " 1) ومقبولة عمر بن حنظلة ظلة: " سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث
فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم
إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما
يأخذ سحتا وإن كان حقا ثابتا له لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله
أن يكفر به، قال الله تعالى: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت
وقد أمروا أن يكفروا به.
قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى
حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما
فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما
استخف بحكم الله وعلينا رد والراد علينا كالراد على الله وهو على
حد الشرك بالله " 2) لزوم كون القاضي مجتهدا.
وهذه الرواية أيضا مشتهرة بين الأصحاب كما في المسالك

1) وسائل الشيعة: 18 / 101.
2) وسائل الشيعة 18 / 98.
29

كذلك، ويكفي لاعتبارها اشتهارها بالمقبولة بينهم، بل لا يوجد
في سندها من توقف في توثيقه إلا " داود بن الحصين " قال الشيخ:
واقفي، لكن وثقه النجاشي، فهي موثقة معتبرة 1).

(1) هي في الوسائل: " محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى
عن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن
داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة.. " قال: " ورواه الشيخ
باسناده عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن بن شمون عن
محمد بن عيسى. وبإسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن محمد
ابن عيسى نحوه " فطرقها تنتهي إلى " داود بن الحصين " وقد وثقه
النجاشي، واستظهر في تنقيح المقال من عبارته كونه إماميا اثني
عشريا لأن من عادة النجاشي التعرض لمذهب من كان غير اثني
عشري، فيعارض قوله قول الشيخ بأنه واقفي فيتقدم عليه لأنه أضبط
من الشيخ في علم الرجال. هذا من ناحية داود بن الحصين.
وإنما ضعف الرواية من ضعفها من جهة " عمر بن حنظلة " نفسه
لأن أصحاب الرجال لم ينصوا فيه بجرح ولا تعديل، لكن عن
الشهيد الثاني أنه قال: " لكن أمره عندي سهل لأني حققت توثيقه
من محل آخر وإن كانوا قد أهملوه " وقد أشار بذلك إلى ما روي
في الكافي في باب وقت الصلاة عن علي بن إبراهيم عن محمد بن
عيسى عن يونس عن يزيد بن خليفة قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام:
إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت. فقال أبو عبد الله عليه السلام:
إذا لا يكذب علينا "، لكن أشكل في سندها بأن راويها " يزيد بن
خليفة " ولم تثبت وثاقته. وأجاب في تنقيح المقال مع تصريحه
بعدم ثبوت وثاقته في ترجمته - بتلقي الأصحاب لها بالقبول في بابها
حيث لم يردها أحد منهم فتدبر.
وقد ذكر رواية أخرى في توثيق عمر بن حنظلة وهي في
التهذيب في باب العمل في ليلة الجمعة ويومها عن الحسين بن سعيد
عن فضالة عن أبان عن إسماعيل الجعفي عن عمر بن حنظلة قال قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: القنوت يوم الجمعة. فقال: أنت رسولي
إليهم في هذا إذا صليتم. الحديث. قلت: لكن الراوي لها هو ابن
حنظلة نفسه.
وكيف كان فإن وثاقة الرجل محل تأمل، فالعمدة في اعتبار
روايته هذه بالخصوص أمران: أحدهما ما ذكر في المتن من تلقي
الأصحاب إياها بالقبول حتى اشتهرت بالمقبولة، بناء على اعتبار
ما كان بهذه المثابة من الأخبار. والثاني: كون صفوان بن يحيى في
سندها قبل داود بن الحصين، وهو ممن نقل اجماع العصابة على
تصحيح ما يصح عنه بناء على تمامية الكبرى في محلها.
30

أقول: ويمكن الجمع بين روايتي أبي خديجة وعمر بن حنظلة
بأن يقال: بأنه لا تنافي بين منطوقيهما، وإنما التنافي بين مفهوم
رواية ابن حنظلة ومنطوق رواية أبي خديجة، فإن مفهوم تلك: من
لم يرو حديثنا ولم ينظر في حلالنا وحرامنا فغير مجعول للقضاء،
ومنطوق هذه: ".. يعلم شيئا.. " لكن التنافي هو بالاطلاق
31

والتقييد، فالمنطوق مقيد والمفهوم مطلق، وحينئذ يتقدم خبر أبي
خديجة لأنه منطوق أولا، 1) ولأنه مقيد ثانيا، فتكون النتيجة:
".. قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا " وهو " يعلم شيئا
من قضايانا..
وقد يقال: إن رواية أبي خديجة مطلقة كذلك، لأنها تدل على نفوذ
حكم من يعلم شيئا " سواء كان " راويا " و " ناظرا في الحلال
والحرام " أو لا، فلا يتم الجمع بينهما بما ذكر، إلا أن يقال: بأن
الميزان هو " العلم " كما في رواية " القضاة أربعة " وأن الرواية "
و " النظر " ليس لهما موضوعية بل اعتبرا كمقدمة وطريق لحصول
" العلم ". وبعبارة أخرى: التقييد ب‍ " الرواية " و " النظر " محمول
على الغلبة لا الاحتراز، لأنه ظاهر في الطريقية لا الموضوعية حتى
يكون وصفا يحترز به عن الظن ليسقط حكم غير المجتهد عن درجة
الاعتبار، ويؤيد الحمل المذكور أنه يبعد جدا أن لا ينفذ حكم
من " عرف الأحكام " ولكن لم يرو شيئا من حديثهم، فلو كان
التقييد ب‍ " الرواية " احترازيا كان المعنى: من لم يرو شيئا من أحاديثنا
فلا ترجعوا إليه وإن كان عارفا بأحكامنا وعالما بشئ من قضايانا.
ويؤيد ما ذكرنا أن بعض الرواة كانوا يتعلمون الحكم من الإمام

1) أي بناء على أن المنطوق أظهر من المفهوم، وأما بناء على
عدم التفاوت بينهما من هذه الجهة فلا وجه لهذا الوجه، وتفصيل
المطلب في الأصول.
32

عليه السلام في الواقعة ثم يقضون به، كما في رواية عبد الله بن طلحة
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته عن رجل دخل على امرأة..
فقال أبو عبد الله عليه السلام: اقض على هذا كما وصفت لك:
فقال: يضمن مواليه.. " (1.
وفي أخرى: " عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما ولى أمير
المؤمنين عليه السلام شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء
حتى يعرضه عليه ".
وحينئذ فمن " يعلم شيئا.. " سواء عن اجتهاد أو تقليد مجعول.
من قبل الإمام عليه السلام حاكما، ويكون حكمه نافذا، وحاصل
ذلك نفوذ حكم القاضي العالم بالأحكام تقليدا فضلا عن المجتهد
المتجزي.
إلا أن يجمع بين الخبرين بنحو آخر فيقال: إن المعتبرة تشترط
" العلم بشئ من قضاياهم " أي الأحكام وكيفية القضاء بين المتخاصمين،
والمقبولة تشترط " الرواية " و " النظر في الحلال والحرام " و " معرفة
الأحكام "، إي: الاجتهاد، فيكون الشرط المعتبر: الاجتهاد مع
العلم بشئ من قضاياهم. جمعا بين الخبرين بناء على ظهورهما في
المعنيين المذكورين، فلا ينفذ حكم المتجزي فضلا عن المقلد.
هذا كله بناء على ظهور معتبرة أبي خديجة في جعل منصب

1) وسائل الشيعة: 19 / 45.
2) وسائل الشيعة: 18 / 6.
33

القضاء لمن " يعلم شيئا " من قضاياهم عليهم السلام كما هو الصحيح
خلافا لبعض علمائنا المعاصرين حيث قال: " إن الرواية غير ناظرة
إلى نصب القاضي ابتداءا وذلك لأن قوله عليه السلام فإني قد جعلته
قاضيا متفرع على قوله عليه السلام فاجعلوه بينكم وهو القاضي
المجعول من قبل المتخاصمين. فالنتيجة من المستفاد منها أن من
جعله المتخاصمان بينهما حكما هو الذي جعله الإمام عليه السلام
قاضيا، فلا دلالة فيها على نصب القاضي ابتداءا.. " 1).
أقول: ما ذكره يخالف ظاهر الرواية، لأن قوله عليه السلام
" فإني قد جعلته.. " تعليل، أي: لا ترجعوا إلى من ليس منكم
بل ارجعوا إلى من جعلته قاضيا منكم وهو الذي ينفذ فيكم حكمه
وترضون به، وأن المعنى: إذا تراضيتم بحكم رجل منكم فإني
قد جعلت ذلك الرجل قاضيا. فالحاصل أن جعل الإمام عليه السلام
هو علة نفوذ حكمه وجواز الرجوع إليه.
هذا والعجب من صاحب الجواهر " قده " قوله بعد استظهار
إرادة الأعم من المجتهد من معتبرة أبي خديجة: " نعم قد يقال
بتوقف صحة ذلك على الإذن منهم عليهم السلام.. " مع أن
نفس هذه الرواية دالة على الإذن.
ثم قال: " ولو سلم عدم ما يدل على الإذن فليس في شئ من
النصوص ما يدل على عدم جواز الإذن لهم في ذلك " وفيه: أن

1) مباني تكملة المنهاج: 1 / 8.
34

مجرد عدم وجود نص على عدم الإذن لا أثر له، وقد ذكرنا أن
الأصل عدم نفوذ حكم أحد في حق أحد، فالنفوذ محتاج إلى الدليل
وعدم ما يدل على عدم الإذن ليس بدليل.
قال: " بل عموم ولايتهم تقتضي ذلك " ولولا كلمة " بل "
لارتفع الاشكال ودل الكلام صدرا وذيلا على أن عموم ولايتهم
- مع فرض عدم الدليل على الإذن - دليل، وبه يخرج عن مقتضى
الأصل المذكور، لكن ظاهر العبارة أن عموم الولاية دليل آخر.
قال: " بل قد يدعى أن الموجودين في زمن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ممن أمر بالترافع إليهم قاصرون عن مرتبة الاجتهاد
وإنما يقضون بين الناس بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم ".
أقول: وهذا يتم بناء على عدم الفرق بين زمن الحضور وزمن
الغيبة. نعم إذا كان المناط تعلم الحكم سواء من السماع منهم
عليهم السلام أو الاستنباط من الأدلة أو الأخذ من المجتهد - لم
يفرق بين الزمنين.
ثم قال: " ويمكن بناء ذلك بل لعله الظاهر على إرادة النصب
العام.. ".
أقول: يعني أن مقتضى " فإني جعلته حاكما " و " فإنهم حجتي
عليكم " أن للمجتهد أن ينصب العامي، لأن له ما للإمام عليه السلام
فيكون للعامي ما للمجتهد. قلت: لكن هذا المعنى يستفاد من
35

الخبر الثاني منهما فقط.
هذا ما يتعلق بالمسألة حسب الروايات الواردة في الباب، وبقي
الاجماع:
قال في الجواهر: " وأما دعوى الاجماع التي سمعتها فلم
أتحققها، بل لعل المحقق عندنا خلافها، خصوصا بعد أن حكى في
التنقيح عن المبسوط في المسألة أقوالا ثلاثة.. ".
أقول: هذه عبارة الشيخ في شرائط القضاء من المبسوط:
" لا ينعقد لأحد إلا بثلاث شرائط: أن يكون من أهل العلم والعدالة
أو لكمال. وعند قوم بدل كونه عالما أن يكون من أهل الاجتهاد،
ولا يكون عالما حتى يكون عارفا بالكتاب والسنة والاجماع ولسان
العرب وعندهم القياس. وفي الناس من أجاز أن يكون القاضي
عاميا. والأول هو الصحيح ".
وقال في الخلاف: " لا يجوز أن يتولى القضاء إلا من كان
عارفا بجميع ما ولي، ولا يجوز أن يشذ عنه شئ من ذلك ولا يجوز
أن يقلد غيره ثم يقضي به. وقال الشافعي: ينبغي أن يكون من أهل
الاجتهاد ولا يكون عاميا ولا يجب أن يكون عالما بجميع ما وليه.

1) قد ذكرنا أن هذا القول ليس لأحد من أصحابنا الإمامية،
ويتضح من عبارته في الخلاف أن مراده من " وفي الناس من أجاز "
هو " أبو حنيفة " ويؤكد ذلك شيوع التعبير عن العامة أو علمائهم
ب‍ " الناس " في الأخبار وكلمات الفقهاء.
36

وقال في القديم مثل ما قلناه، وقال أبو حنيفة يجوز أن يكون جاهلا
بجميع ما وليه إذا كان ثقة ويستفتي الفقهاء ويحكم به. ووافقنا في
العامي أنه لا يجوز أن يفتي.
دليلنا: اجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضا تولية الولاية لمن
لا يحسنها قبيحة في العقول بأدلة ليس هذا موضع ذكرها بيناها في
غير موضع، وأيضا ما اعتبرناه مجمع على جواز توليته وليس على ما
قالوه دليل.. ".
فالشيخ قدس سره يدعي الاجماع على اشتراط الاجتهاد مرتين.
فما نسب إليه في الجواهر عن التنقيح لا وجه له.
وقد ادعى هذا الاجماع أيضا جماعة منهم الشهيد الثاني " قده ".
نعم إن مثل هذا الاجماع - حيث يوجد على معقده أخبار -
لا يعتمد عليه، إذ يحتمل أن تكون تلك الأخبار هي المدرك له،
فهي المرجع وقد استظهرنا منها عدم الاشتراط.
هذا ولا أقل من دلالة الاجماع وغيره على شهرة القول بالاشتراط
بين الأصحاب، وذهاب المشهور إلى هذا القول يدل على وجود
قرائن لديهم تمنع من انعقاد ظهور تلك الأدلة في المعنى الذي استظهرناه
منها حتى ادعوا الاجماع على الاشتراط، وهذا ما يمنعنا من الجزم

1) ويقويه قول الشيخ " دليلنا اجماع الفرقة وأخبارهم " هذا
مضافا إلى أنه اجماع منقول وقد تقرر عدم حجيته، مع أن في
خصوص اجماعات الشيخ بحثا ذكر في محله.
37

بما استظهرناه ويرجح القول باشتراط كونه مجتهدا مطلقا أو في خصوص
مسائل القضاء، مع أن التصدي للقضاء مع الجهل بالمسائل التي
سيبتلى بها والأدلة التي يحتاج إليها خلاف ما هو المرتكز في أذهان
المتشرعة.
وأما الجاهل العامي فلا يجوز له التصدي قطعا. * * *
وهنا مسائل:
(الأولى) هل للمجتهد أن ينصب مقلده للقضاء؟
قد يقال بالعدم لعدم الدليل، ونصب المعصوم " ع " القاصر
عن درجة الاجتهاد لا يقتضي جوازه للمجتهد، لأن له الولاية العظمى
الثابتة له من الله تعالى 1).
وقد يقال بالجواز، لعموم أدلة ولاية الفقيه 2) الدالة على ثبوت

1) وذلك هو المخرج عن الأصل، لأن موضوع أدلة الإذن هو
" العالم " و " الراوي للحديث ونحو ذلك، والمقلد العامي لا يصدق عليه
شئ من هذه العناوين، ولأن الأصل عدم تأثير نصب المجتهد. فإن قيل:
فقد نصب المعصوم عليه السلام من كان قاصرا عن مرتبة الاجتهاد.
قلنا: إن الكلام إنما هو في زمان الغيبة، وأما إذا نصب الإمام عليه السلام
في زمان حضوره القاضي غير المجتهد فإن فعله " ع " حق لأنه معصوم
وله الولاية الكبرى.
(2) كالتوقيع الشريف: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها
إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم " و " مجاري
الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه "
و " اللهم ارحم خلفائي. قيل: ومن خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين
يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي ".
وهذه الأدلة فيها بحث سندا ودلالة، وقد أجاب المانعون عن
الاستدلال بها في المقام صغرى وكبرى فليراجع. واكتفى المحقق
النراقي في المستند بأن قال: " ربما يحكى عن بعض الفضلاء المعاصرين
جوازه ولم أ تحققه ولم أره في كتابه ولا أرى له وجها أصلا.. وتوهم
أن عموم الولاية فيما للإمام فيه الولاية ثابت للمجتهد ومنها الإذن
الخاص في القضاء مدفوع بأن للإمام الإذن للآهل والقابل، فالجواز
للمجتهد أيضا يكون مقصورا على من له الأهلية وهي لغير المجتهد
غير ثابتة، ومن ثبت له لا يحتاج إلى النائب لثبوت الإذن له عن
المنوب عنه.. ".
38

كل ما للإمام عليه السلام للمجتهد، ومن ذلك نصب القضاة، فله أن
ينصب مقلده للقضاء بين الناس حسب فتاواه، أو استنادا إلى ولايته
على النصب للقضاء خاصة، أو يقال: بأن المجتهد منصوب للقضاء
ولنصب غيره له.
وتحقيق الكلام في هذه المسألة موكول إلى ما تقرر في مبحث
ولاية الفقيه، وكيف كان فإن فتوى المشهور باشتراط الاجتهاد في
القاضي تمنعنا من الجزم بالوجه الثاني.
39

(الثانية) قال بعض المعاصرين: حكم القاضي في الشبهة الحكمية -
وهي القضية التي يكون منشأ الترافع فيها الاختلاف في الفتوى،
كما إذا تنازع الورثة في الأراضي فادعت الزوجة ذات الولد الإرث
منها وادعى الآخرون حرمانها فتحاكما إلى القاضي - ارشادي
لا مولوي، لأنه حينئذ تنجيز للمتنجز وهو تحصيل للحاصل وهو
محال، فلا يتصور الحكم في الشبهات الحكمية. وعليه يكون المراد
من رواية عمر بن حنظلة هو الفتوى لا الحكم، وحينئذ تبقى رواية
أبي خديجة بلا معارض. 1)
وفيه: أولا - أنه لا ظهور لرواية عمر بن حنظلة في الشبهة
الحكمية بل النزاع في " الدين " من حيث الشبهة الموضوعية
أكثر وأظهر، وكذا " الميراث " فقد يترافع حوله بنحو الشبهة
الموضوعية.
وثانيا: أن الحكم يعتبر فيه النفوذ عند العقلاء، فهو أمر اعتباري
ينتزع وجوب الامتثال، فالفرق بين " الفتوى " و " الحكم " ظاهر
وليست المقبولة ظاهرة في الأولى.
(الثالثة) ما المراد من معرفة الأحكام والعلم المعتبر في القاضي؟
إن كان المراد من " عرف أحكامنا " هو معرفة الأحكام الواقعية
كان المعنى نفوذ حكم من علم بأن حكمه هذا هو حكم الله الواقعي
فقط، ومع الشك فلا يجوز الرجوع إليه ولا ينفذ حكمه، لأنها

1) المدارك: 6 / 6.
40

شبهة مصداقية كما إذا قال: اقتد بالعادل، فشك في عدالة زيد، فلا يجوز
له الائتمام به.
وإن كان المراد كون الخصمين عالمين بأنه عارف بأحكامهم
عليهم السلام فما هو الحكم في صورة اختلافهما في معرفة هذه
الجهة فيه؟ وبعبارة أخرى: هل ينفذ حكم الحاكم في القضية مع
العلم بالخلاف؟
أقول: لم تلحظ الخصوصيات في " الرجل " العالم بشئ من
قضايا الأئمة عليهم السلام، والعارف بأحكامهم، من حيث أنه عالم
بالحكم الواقعي أو أنه عالم حسب علمه هو أو علم المتخاصمين..
فإن هذه الدقائق لم تكن ملحوظة عند الأمر بالرجوع إلى هكذا
عالم، بل يكفي كون الرجل عالما مشارا إليه بالعلم، وعلى هذا
عمل الناس في هذه الأزمنة أيضا، وليس معنى الروايات هذه مجملا
عندهم.
وأما في موارد العلم بالخلاف فنقول: إن حكم الحاكم ملزم
ونافذ، إلا في صورة كون أحد الطرفين عالما بالخلاف، فلو كان المدعي
يعلم بأن المال الذي يدعي تملكه ليس له - بل لخصمه - لكن أحضر
لدى القاضي شاهدين فحكم بأنه له، فإن هذا الحكم لا يجوز له
التصرف في هذا المال، لأنه عالم بالخلاف وبكذب دعواه، وليس
عدم نفوذ حكم القاضي حينئذ ردا لحكمه بل إنه رد لدعواه نفسه
واقرار بكذبه فيها.
ولو علم المحكوم عليه بمخالفة الحكم للواقع كما إذا علمت
41

المرأة بأنها ليست بزوجة لزيد لكن حكم القاضي بزوجيتها له، فلا ينفذ
هذا الحكم - حتى لو قيل بنفوذ الحكم مع العلم بالخلاف فيما
إذا كان مورد الترافع مالا - فلا يجوز لزيد، وطؤها، وعلى المرأة
أن لا تمكنه من نفسها ما أمكن، لأن حكم الحاكم ليس محللا
للحرام.
فالحاصل: إن حكم الحاكم لا يغير الواقع عما هو عليه فيما
إذا خالفه.
* * *
7 - الضبط:
قال المحقق قدس سره: " ويدخل فيه أن يكون ضابطا،
فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه ".
أقول: هذا مما لا يحتاج إلى الدليل، فلا بد من أن يكون القاضي
ضابطا - بالإضافة إلى العلم - بهذا المعنى 1).

1) وقد اشترطه العلامة في القواعد والشهيدان في الدروس
والروضة والسبزواري في الكفاية، وفي الرياض: الظاهر عدم
الخلاف فيه، لكن في مفتاح الكرامة: قد خلا من هذا الشرط كثير
من كتب الأصحاب كالتحرير وظاهر غيره، وعن الأردبيلي: ما نجد
مانعا لحكم من لا ضبط له كثير وضبط هذه الواقعة، وفي الجواهر
والعروة لا دليل عليه بالخصوص. قال في الثاني: إلا دعوى انصراف
أدلة الإذن كما لا يبعد في الضبط ونحوه أو الشك في الشمول حيث
أن الأصل عدم الإذن.
وظاهر عبارة المحقق هنا وفي النافع الجواز لمن تساوى فيه
الذكر والنسيان، لكن في القواعد كغيره: ولو غلب النسيان أو
ساوى ذكره لم يجز توليته.
42

8 - الكتابة:
قال: " وهل يشترط علمه بالكتابة؟ فيه تردد.. " والأقرب:
اشتراط ذلك.. " 1).
أقول: إن كان عدم علم القاضي الجامع للشرائط بالكتابة موجبا
لوقوع الخلل في الحكم أو مقدماته فهو، وإلا فإن الكتابة بنفسها
لا ضرورة لها، وعلى هذا عمل أصحاب الحوانيت والكسبة، فإنهم
يكتبون مطالباتهم في الدفاتر حذرا من الضياع والنسيان، وأما إذا
كان أحدهم متمكنا من حفظ ذلك فلا يكتب.

1) وقد نسبه في المسالك إلى الأكثر وفي شرح اللمعة إلى
الأشهر بل عن السرائر إلى مقتضى مذهبنا، لكن لم يذكروا على
اعتبار هذا الشرط دليلا بالخصوص، ودعوى تبادر اشتراطه من
أدلة الإذن أو انصرافها إلى العالم بها محل نظر. فما ذهب إليه السيد
الأستاذ دام ظله من الاشتراط في صورة توقف الضبط عليها دون
غيرها هو الوجه.
43

ومع اخلال الجهل بالكتابة في الحكم أو مقدماته يشترط العلم
بالكتابة في القاضي مع عدم وجود عارف بها يطمئن إليه ويستعين
به وإلا فلا حاجة.
9 - الذكورة:
قال المحقق " قده ": " ولا ينعقد القضاء للمرأة وإن استكملت
الشرائط ".
أقول: ادعي عدم الخلاف بل الاجماع على عدم انعقاد القضاء
للمرأة، واستدل بوجوه:
الأول: قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء " فإنه ظاهر
في قيمومية الرجال على النساء، ولازمها سلطنة الرجال وحكومتهم
عليهن دون العكس.
فإن قيل: الآية واردة في مورد الزوجين.
قلنا: وهل يجوز أن لا تكون المرأة ذات سلطنة في شؤونها
مع زوجها وتكون لها السلطنة في خارج دارها، وعلى غير زوجها
من الرجال؟
فإن قيل: الآية المباركة تنفي ولاية النساء على الرجال، وأي
مانع من ولاية المرأة على النساء؟ فإنه يقال: بأن ذلك مقتضى
الاجماع المركب.
" بما فضل الله بعضهم على بعض " 1) قال الفاضل الجواد " قده ":

1) سورة النساء: 34.
44

" أي الرجال على النساء، وذلك بالعلم والعقل وحسن الرأي والتدبير
والعزم ومزيد القوة في الأعمال والطاعات والفروسية والرمي، وإن
منهم الأنبياء والأئمة والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة
والصغرى وهي الاقتداء بهم في الصلاة، وأنهم أهل الجهاد والأذان
والخطبة. إلى غير ذلك مما أوجب الفضل عليهن.
قال في الكشاف: وفيه دليل على أن الولاية إنما يستحق بالفضل
لا بالتغليب والاستطالة والقهر. قلت: هذا مما أجراه الله على لسانه،
فإنا لم نجد فيمن تقدم على علي عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فضيلة يستحق بها الولاية كما عرف في محله. 1)
ولا ريب في أن جهات الفضيلة موجودة في نوع الرجال - سواء
في ذلك الصفات الخلقية والخلقية - وليست في نوع النساء..
ويشهد بذلك ما ذكره الفاضل المذكور من أن فيهم النبوة والإمامة
والولاية، ولم نجد إلى الآن انعقاد القضاء لامرأة، ولو كان ذلك
جائزا لتصدي له بعض النساء الفاضلات كالصديقة الطاهرة وعقلية
بني هاشم عليهما السلام ولو بالنسبة إلى النساء خاصة، بل إن حضور
النساء عند القاضي الرجل - في حال جواز انعقاده لامرأة - مرجوح
مرغوب عنه شرعا.
على أنا قد استشكلنا في إمامة المرأة للنساء واقتدائهن بها في

1) مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: 3 / 257.
45

الصلاة لعدم وجود دليل معتبر يدل عليه 1)
هذا والآية نازلة بعنوان حكم إلهي في قضية رواها الطبرسي 2)
وهي تدل على أن للرجال الولاية على النساء، وليس لهن عليهم
ولاية.
فهي مخصصة لعمومات الحكومة بالعدل. 3).
الثاني - قوله تعالى: " ولهن مثل الذي عليهن وللرجال عليهن
درجة " 4) فإن هذه الآية ظاهرة في أن للنساء على الرجال حقوقا ولكن

1) قال سيدنا الأستاذ في التعليق على قول صاحب العروة " يجوز
إمامة المرأة لمثلها " قال: " في غير صلاة الميت اشكال ". وهذه
المسألة قد اختلف فيها كلمات الأصحاب تبعا للأخبار الواردة فيها.
راجع الصلاة من مصباح الفقيه وغيره.
2) مجمع البيان في تفسير القرآن: 2 / 42.
3) كقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " وقوله تعالى: " يا أيها
الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم
على أن لا تعدلوا اعدلوا.. " وقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن
تعدلوا.. ". "
4) سورة البقرة: 228.
46

" للرجال عليهن درجة ".
الثالث - قوله تعالى: " وقرن في بيوتكن " 1) استلزام تصدى
المرأة القضاء للخروج عن البيت واسماع صوتها الرجال وغير ذلك
من الأمور المنهي عنها في الشرع في غاية الوضوح، وتعيير الأصحاب
والصحابيات عائشة بنت أبي بكر على خروجها من بيتها إلى البصرة
- من هذه الجهة - ونهيهم إياها عن الخروج وتذكيرهم لها بأمر
الله وحكمه بأن تقر في بيتها مشهور.
الرابع - قوله عليه السلام في معتبرة أبي خديجة: " أنظروا
إلى رجل ". لا يقال: إنه ليس للرجل موضوعية، لأنه لا يمكن
الغاء الخصوصية في مثل هذا المقام، وأن مناسبة الحكم والموضوع
تقتضي الموضوعية، فالرواية هذه مقيدة للروايات المطلقة إن لم
تكن منصرفة عن النساء.
الخامس - ما ورد في وصية النبي صلى الله عليه وآله
لأمير المؤمنين عليه السلام المروية في الفقيه باسناده عن حماد بن
عمرو وأنس بن محمد عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم
السلام - " يا علي ليس على المرأة جمعة - إلى أن قال - ولا تولي
القضاء " 2) وهذا النفي وضعي كما لا يخفى، والرواية وإن كانت غير
تامة سندا 3) إلا أن رواية الأصحاب لها واستدلالهم بها يجبر ضعفها

1) سورة الأحزاب: 33.
2) وسائل الشيعة: 18 / 6.
3) لأن رواتها بين مجهول ومهمل.
47

كما تقرر هذا المعنى بالنسبة إلى حديث " على اليد.. " ونظائره.
وربما يقال: إن قوله صلى الله عليه وآله ليس على النساء..
ولا تولي القضاء " لا يدل على المنع، بل ظاهره عدم الوجوب.
وفيه: ليس الأمر كذلك في كل مورد، فإن هناك موارد جاء
فيها " ليس على.. " بمعنى " لا يجوز.. ".
السادس - النبوي " لا يفلح قوم وليتهم امرأة " 1).
السابع - ما عن مكارم الأخلاق: " إن الإقامة للصلاة..
ولا تتولى المرأة القضاء " 2) وهي مطلقة تعم الحكم الوضعي
والتكليفي معا. 3)

1) حديث نبوي رواه العامة.
2) بحار الأنوار 103 / 254.
3) ويستدل له أيضا بما يلي:
1 - ما رواه جابر بن يزيد الجعفي قال سمعت أبا جعفر محمد
ابن علي الباقر عليه السلام يقول: " ليس على النساء أذان ولا إقامة
ولا جمعة ولا جماعة.. ولا تولى المرأة القضاء ولا تلي الإمارة
ولا تستشار " وسائل الشيعة: 7 / 161.
2 - ما روي في الوسائل عن الكليني بسند عن أبي جعفر وبآخر
عن أبي عبد الله عليهما السلام قال: " في رسالة أمير المؤمنين عليه
السلام إلى الحسن عليه السلام: لا تملك المرأة من الأمر ما يجاوز
نفسها.. " قال في الوسائل: " ورواه الرضي في نهج البلاغة
مرسلا نحوه " وسائل الشيعة: 7 / 120.
3 - ما رواه الشيخ الكليني في الكافي مسندا عن أمير المؤمنين
عليه السلام قال: " كل أمر تدبره امرأة فهو ملعون " وسائل الشيعة:
7 / 131.
4 - ما دل على ترك طاعة النساء والنهي عن مشاورتهن. وسائل
الشيعة: 7 / 130.
5 - ما دل على نقصان عقلها ودينها.
6 - ما دل على عدم صلاحيتها للإمامة في الصلاة للرجال أو
مطلقا.
7 - دعوى انصراف الأدلة المطلقة عن المرأة.
8 - الأصل، فقد تقرر أنه عدم الإذن.
والحق أن هذه الأدلة من الكتاب والسنة والاجماع وغير ذلك
بمجموعها تشرف الفقيه على القطع بالحكم في هذه المسألة.
48

10 - 11 - 12 - السمع، البصر، النطق:
وهل يشترط السمع والبصر والنطق؟ قيل: نعم، واستدل له
بأنه لولاها لتعذر القضاء، وبأنه مقتضى الاطلاقات فإنها منصرفة عن
الأصم والأعمى والأبكم، ولا أقل من الشك في شمول أدلة الإذن لهم.
أقول: لا ينبغي الاشكال في الاشتراط فيما إذا توقف القضاء
على ذلك.
49

13 - الحرية:
وهل يشترط الحرية؟ قال في المبسوط: نعم، وقال المحقق:
الأقرب: أنه ليس شرطا.
وقد استدل للأول في المبسوط والمسالك وغيرهما بأمرين:
أحدهما: إن من كان لغيره ولاية عليه لا يكون ذا ولاية: والثاني:
إن القضاء منصب عظيم والعبد قاصر عن نيل هذا المنصب.
والجواب: أما عن الأول فبأنه متى اجتمعت الشرائط المعتبرة
فيه وأذن له المولى في تصدي القضاء فلا مانع.
وأما عن الثاني: فبأن مقتضى الاطلاقات جوازه للعبد إن كان
واجدا للشرائط المعتبرة كالحر. 1)

1) لكن قد يجاب عن الجواب الأول بأنه إذا جاز ذلك فليجز
بالنسبة إلى غير البالغ - ولا سيما المراهق - وعن الثاني باحتمال
انصراف تلك الاطلاقات عن العبد.
هذا ولا أقل من الشك والأصل هو العدم.
لكن الذي يسهل الأمر انتفاء الموضوع في هذه الأزمنة.
50

مسائل
في قاضي التحكيم * حكم تولى القضاء هل يجوز
الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل عند التعدد؟
هل يجوز للقاضي الاستخلاف؟. حكم ارتزاق
القاضي من بيت المال * بم تثبت ولاية القاضي؟
جواز نصب قاضيين في البلد الواحد * ما يتعلق
بانعزال القاضي وعزله * هل ينعزل بموت الإمام؟
هل تنعقد الولاية لفاقد الشرائط لو نصبه الإمام
مصلحة؟ هل ينفذ حكم من لا تقبل شهادته؟ *
51

المسألة الأولى
(في الكلام في قاضي التحكيم)
قال المحقق " قده ": " يشترط في ثبوت الولاية إذن الإمام
عليه السلام أو من فوض إليه الإمام ".
أقول: لا ريب ولا خلاف في هذا، وقد أشرنا إلى ما يدل
على ثبوته، وهذه الكلمة من المحقق " قده " كمقدمة لقوله بعده:
" ولو استقضى أهل البلد قاضيا لم يثبت ولايته. نعم لو تراضى
خصمان بواحد من الرعية.. ".
أقول: أما عدم نفوذ حكم من استقضاه أهل البلد فإنه بالنسبة
إلى زمن حضور المعصوم وبسط يده واضح، لأن النبي وأمير
المؤمنين صلى الله عليهما وآلهما وسلم كانا يرسلان القضاة إلى
البلاد، فلا ينفذ حكم قاض آخر مع وجود القاضي المنصوب من
قبل المعصوم. وأما في زمن الغيبة - أو الحضور مع عدم بسط
53

اليد - فإن الإذن العام الصادر منهم عليهم السلام - كما تدل عليه
الروايات - يقتضي نفوذ حكم القاضي الذي استقضاه أهل البلد
وطلبوا منه النظر في مرافعاتهم على الخلاف في الصفات المعتبرة
فيه، والقدر المتيقن هو المجتهد المطلق.
فعليه: لا ينفذ حكم من استقضاه الناس من دون مراجعة الإمام
المبسوط اليد وكسب إذنه، وأما في زمن الغيبة أو عدم بسط اليد
فالإذن العام يكفي لنفوذ حكم من كان هذا الإذن شاملا له.
ولقد أشكل الأمر هنا على الأصحاب فقالوا: إن كان من رجع
إليه أهل البلد مجتهدا فالإمام قد أذن في الرجوع إليه مطلقا، وإن
لم يكن مجتهدا فلا اعتبار بحكمه مطلقا، فأي ثمرة لهذا الكلام؟
لكن بما ذكرنا ظهرت الفائدة في العبارة وعلم المراد من عنوان
المسألة.
وقيل: المراد من قوله: " لو استقضى " هو القاضي العام في
البلد لعموم أهله. ومن قوله " نعم.. " هو من استقضاه الخصمان
في واقعة خاصة من غير أن يعرف بأنه قاضي البلد. أقول: لكن
الأولى ما ذكرناه.
هل يشترط الرضا بالحكم بعده؟
قال المحقق " قده ": " ولا يشترط رضاهما بعد الحكم ".
أقول: في المسألة قولان، فالمشهور هو النفوذ وكفاية الرضا
قبل الحكم فليس لهما الرجوع عن حكمه ولا يشترط رضاهما بعد
54

الحكم، وقيل: يشترط رضاهما بعد الحكم أيضا.
أقول: مقتضى الدليل التعبدي تأثير رضاهما بالحكم بعده في
بعض الموارد مثل كون الدية على العاقلة، 1) وفي بعض الموارد
لا يتوقف الحكم على الرضا أصلا كما إذا تنازعا في الرضاع مثلا
بأن قال أحدهما بتحقق الرضاع الموجب للحرمة في مورد وقال
الآخر بعدمه، فحكم الحاكم حسب القواعد والأدلة، فإنه لا أثر
لرضاهما بعدئذ. والحاصل: إن تأثير رضاهما على القاعدة إلا إذا
دل الدليل في مورد على العدم أو التأثير بأثر بالنسبة إلى غير
المتخاصمين.
ويمكن أن يستدل لكفاية الرضا السابق في جميع الموارد برواية
الحلبي قال: " قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ربما كان بين الرجلين
من أصحابنا المنازعة في الشئ فيتراضيان برجل منا. فقال: ليس
هو ذاك إنما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف والسوط " 2)
بأن يقال: فرق بين لسانها ولسان معتبرة أبي خديجة التي جاء فيها:
" فإني قد جعلته قاضيا " فتلك تعلل نفوذ الحكم بالجعل وهذه بالرضا

1) يعني: أنهما لو تنازعا في قتل فقال أحدهما بكونه عن عمد وقال
الآخر هو عن خطأ فحكم بكونه خطأ، فلو رضيا بهذا الحكم بعده
وجبت الدية على العاقلة، فأثر رضاهما به بعده لزوم الدية على طرف
ثالث وهو العاقلة.
2) وسائل الشيعة: 18 / 5. وهي صحيحة.
55

وظاهرها نفوذ حكم من رضي المتخاصمان من الأصحاب بحكمه
إذ ليس من أولئك الذين يجبر الناس على حكمهم بالسيف والسوط..
نعم يشترط كونه واجدا للشرائط المعتبرة، وحينئذ يكون الرضا
دليلا على النفوذ كالإذن مطلقا، وعلى هذا فلا تبقى ثمرة لهذا البحث
بالنسبة إلى زمن الغيبة حيث تحقق الإذن منهم بنفوذ حكم المجتهد
من دون أثر للرضا.. إلا أن يدعى دلالة ما في ذيلها وهو قوله
عليه السلام " إنما هو الذي.. " على لزوم الرضا بعد الحكم،
أي بأن يكونان مطيعين للحكم ومنفذين له بدون اجبار، فلو كان
كذلك لم ينفذ الحكم.
هذا ويدل قول المحقق: " ولا يشترط رضاهما بعد الحكم "
على جواز الرجوع عن الرضا بالحكم قبله.
هل يشترط فيه ما يشترط في المنصوب؟
قال: " ويشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب عن الإمام ".
أقول: أشكل عليه بأن هذا الكلام لا ثمرة له أصلا، لأنه بعد
اشتراط كونه واجدا للشرائط المعتبرة في القاضي المنصوب من
الاجتهاد وغيره يكون قاضي التحكيم المستجمع لها منصوبا من قبل
الإمام عليه السلام ومأذونا له في الحكم.
وقال جماعة: بأن هذا الفرع يجري في زمن حضور الولي
الذي بيده الحكم ونصب القاضي لأجل الحكم، فإنه ينفذ حكم من
تراضى الخصمان بالترافع عنده مع كونه واجدا للشرائط المعتبرة
56

وإن لم يأذن له الإمام بالحكم، سواء كان في زمن الحضور مع بسط
اليد كزمن النبي وأمير المؤمنين عليهما الصلاة والسلام أو مع عدمه
فلا ثمرة للبحث عن قاضي التحكيم في زمن الغيبة، لأنه إن لم يكن
واجدا للشرائط فلا أثر لحكمه وإن كان واجدا لها فقد دلت المقبولة
وغيرها على أن من كان كذلك كان مأذونا من قبل الإمام في الحكم.
وعن بعض المعاصرين تصوير المسألة بحيث يكون لها ثمرة
في زمن الغيبة كذلك، لدلالة رواية الحلبي المتقدمة على أنه لا مانع
من الترافع عند من تراضيا بالترافع عنده، وإنما منع الإمام عليه
السلام من الترافع عند من يجبر الناس على الترافع عندهم بالسوط
والسيف، فالرواية ظاهرة في أنه حيث لا جبر يصح الترافع وإن
لم يكن واجدا للشرائط، فيكون حاصل البحث: إن الإمام عليه
السلام يقول بأن تلك الشرائط إنما تعتبر فيما إذا كان هناك اجبار على
قبول الحكم بعد اصداره - وإن الحاكم الحق أيضا قد يلتجأ إلى
السيف والسوط لتنفيذ أحكامه - فمفاد قوله إذا لم يكن سيف وسوط
أنه ينفذ حكمه وإن لم يكن مجتهدا ويكفي علمه بالحكم في الواقعة
المتخاصم فيها.
وكذا معتبرة أبي خديجة فإنها ظاهرة في عدم لزوم الاجتهاد بل
يكفي كونه عالما ببعض القضايا، والرضا بالحكم علة لجواز
الرجوع إليه.
وقوله تعالى: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
57

وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " يشمل باطلاقه العامي
غير المأذون بالحكم الذي تراضيا بالترافع عنده.
أقول: وفي هذا القول نظر، فإن الآية وأمثالها لم نتمسك باطلاقها
لأجل نفوذ حكم غير المجتهد المطلق بل أخذنا بالقدر المتيقن منها
وهو المجتهد المطلق، فكيف يكون لها اطلاق بالنسبة إلى العامي
الذي تراضيا بالترافع عنده؟
وأما رواية أبي خديجة فليس المستظهر منها ما ذكر، بل تقدم
أنها ظاهرة في أن من كان كذلك فتراضوا بالرجوع إليه لأنه مجعول
حاكما من قبلي فإذا حكم فقد حكم بحكمنا، ومع التسليم بما ذكره
فإن النسبة بين هذه الرواية والمقبولة العموم من وجه فيقع التعارض
ويتساقطان ويرجع إلى الأصل المذكور في أول الكتاب.
ولكن الصحيح هو ما استظهرناه سابقا، وأنه يتقدم المنطوق على
مفهوم تلك الرواية الأخرى لأن المنطوق يتقدم على المفهوم، ولأنه
خاص أيضا، بل لقد احتملنا سابقا كون المقبولة بصدد بيان اعتبار
المعرفة والنظر في الأحكام، والمعتبرة بصدد بيان العلم بالقضايا،
فتكون إحداهما مؤكدة للأخرى. نعم لا يشترط الإحاطة بجميع
الأحكام والقضايا بل يكفي كونه مجتهدا متجزيا 1).
فالحاصل إن كان المستفاد من المقبولة والمعتبرة هو اشتراط
كونه مجتهدا كما تقدم فنقول بنفوذ حكم المجتهد المطلق والمجتهد

1) أي بغض النظر عن الاجماع على اعتبار الاجتهاد المطلق.
58

المتجزي، وأما إذنهما لغيرهما للتصدي فيحتاج إلى دليل.
ولو فرض الاطلاق في " يعلم شيئا " فإن المشهور قد أعرضوا
عنه وأفتوا بخلافه ولعله لقرينة موجودة عندهم مفقودة عندنا، فالقول
بجواز جعل العامي قاضيا للتحكيم مشكل جدا 1).

1) وحاصل الكلام في هذه المسألة في مقامات:
الأول: في مشروعية التحكيم، والمشهور كما في المسالك
والرياض والكفاية جوازه، بل لم يذكروا فيه خلافا، بل عن الخلاف
والمجمع الاجماع عليه صريحا، واستدلوا عليه بعموم قوله تعالى: " ومن
لم يحكم بما أنزل الله " وبعموم ما دل على وجوب الأمر بالمعروف،
وبخصوص " من حكم بين اثنين فتراضيا به فلم يعدل فعليه لعنة الله تعالى "
وهو خبر نبوي عامي. قال في مفتاح الكرامة: " واستدل عليه أيضا في
الخلاف بأخبار الفرقة، ويشير إليه حسن أبي بصير يزيد بن إسحاق
وغيره من الأخبار. فكأن من أنكر الدليل عليه من الأخبار لم يلحظ
أخبار الكتب الثلاثة بكمال التأمل ولم يظفر بأخبار ا لخلاف ".
هذا وصريح عبارة المحقق والعلامة في أول القواعد كغيرهما
نفوذ حكم قاضي التحكيم في كل الأحكام، قال في المسالك: لوجود
المقتضي في الجميع وعموم الخبر، وعن العلامة أنه استشكل ثبوته
في الحبس واستيفاء العقوبة.
الثاني: قد نص المحقق والعلامة والشهيد وغيرهم على أنه
يشترط فيه ما يشترط في القاضي المنصوب، بل في المسالك
- كغيره - وقوع الاتفاق عليه، وهو مختار سيدنا الأستاذ دام ظله خلافا
لبعض أعلام العصر في مباني تكملة المنهاج.
وقد بحثوا بناء على الاشتراط عن تصوير قاضي التحكيم
في حال الغيبة وعدمه، لأنه إن استجمعها كان مأذونا وإن فقدت فيه
لم يجز له القضاء.
والثالث: هل يشترط رضا الخصمين بالحكم بعده؟ قال في
الروضة: قولان أجودهما العدم عملا باطلاق النصوص. وقد نسب
هذا القول إلى المشهور ونقل الخلاف عن العلامة في بعض كتبه
وعلى المشهور يجوز الرجوع قبل تمام الحكم حتى لو أقام المدعي
شاهديه فقال المدعى عليه للقاضي عزلتك لم يكن له أن يحكم.
59

وهل يشترط الأعلمية؟
لا دليل على اعتبار هذا القيد، والأدلة مطلقة، على أنه يستلزم
العسر والحرج.
وهل يشترط الأعلمية في البلد؟
يمكن اشتراط ذلك في البلاد الصغيرة، وأما الكبيرة فإنه يستلزم
العسر والحرج والأدلة مطلقة.
وأما قول أمير المؤمنين عليه السلام في عهده لمالك رضي الله
عنه: " اختر أفضل رعيتك " 1) فظاهر في الأولوية.

1) وسائل الشيعة: 18 / 163 وعهد الإمام أمير المؤمنين عليه
السلام إلى مالك الأشتر رضي الله عنه مذكور في نهج البلاغة.
60

وقال صاحب الجواهر " قده " باشتراط أن لا يكون الحاكم
المجتهد انسداديا، لأن الانسدادي غير عالم وقد اعتبر الشارع كونه
عالما بالأحكام. إلا إذا كان عالما وقاطعا بحكم الله تعالى وإن كان
عن طريق ظني لأن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم، وأما مع كونه
ظانا بالحكم في حينه فلا يجوز الرجوع إليه ولا ينفذ حكمه.
أقول: وهذا متين إلا إذا صادف كون جميع الفقهاء في عصر
من العصور انسداديين.
قال المحقق " قده ": " ويعم الجواز كل الأحكام ".
أقول: هذا إشارة إلى مذهب بعض العامة الذين خالفوا في هذا
الحكم أو من فصل فقال بنفوذه في بعض الأحكام فقط.
نفوذ قضاء الفقيه في الغيبة:
قال المحقق: " ومع عدم 1) الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل
البيت.. " 2).

1) أي عدم حضوره، وفي نسخة: ومع غيبة الإمام..
2) من الأخبار التي يستدل بها على نفوذ حكم الفقيه من فقهاء
أهل البيت عليهم السلام في زمن الغيبة - بغض النظر عن البحث
في المراد من " الفقيه " فيها خبر أبي خديجة الذي ذكره المحقق
في المتن.
ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة الذي جاء فيه: " ينظران إلى
من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا
فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا
فلم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا رد والراد علينا الراد على
الله وهو على حد الشرك بالله. قال: فإن كان كل واحد اختار رجلا
من أصحابنا.. فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما
في الحديث وأورعهما.. ".
ومنها: خبر داود بن الحصين: " في رجلين اتفقا على عدلين
جعلاهما بينهما في الحكم وقع بينهما فيه اختلاف.. فقال:
ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت
إلى الآخر ".
ومنها: خبر النميري، فقد جاء فيه: " ينظر إلى أعدلهما
وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه ".
ومنها: التوقيع الشريف: " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا
فيها إلى رواة أحاديثنا.. ".
راجع أبواب صفات القاضي من وسائل الشيعة.
61

ولو عدل والحال هذه إلى قضاة الجور كان مخطئا " (1).
أقول: وفي الجواهر: نعم لو توقف حصول حقه عليه ولو

1) للنهي عن ذلك في النصوص المعتبرة الكثيرة كخبر أبي
خديجة ومقبولة عمر بن حنظلة وخبر أبي بصير ونحوها مما هو
مذكور في الباب الأول من أبواب صفات القاضي من وسائل الشيعة.
62

لامتناع خصمه عن المرافعة إلا إليهم جاز. وقال السيد " قده " في
العروة: لا يجوز الترافع إلى قضاة الجور اختيارا ولا يحل ما أخذه
بحكمهم إذا لم يعلم بكونه محقا إلا من طرف حكمهم، وأما إذا
علم بكونه محقا واقعا فيحتمل حليته.
أقول: لكن الرواية 1) تدل على عدم جواز الأخذ بحكمهم وإن
كان حقا، إلا أن تحمل الرواية على صورة شكه بكونه محقا وأن
أخذه بحكمهم حال كونه شاكا غير جائز، فإن تم هذا الحمل لم تشمل
الرواية صورة العلم ولم يبعد كلام السيد قدس سره.
وعن الكفاية: إن حكم الجائر بينهما فعل محرم والترافع إليه
يقتضي ذلك فيكون إعانة على الإثم وهي منهي عنها. وأجاب في
الجواهر بمنع كونه إعانة أولا ومنع حرمتها ثانيا..
أقول: أما الحكم فإنه يصدر من القاضي اختيارا وليس الترافع
إليه إعانة عليه لأنه ليس له أثر في تحققه - فليس من قبيل اعطاء السوط

1) يعني رواية عمر بن حنظلة قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى
السلطان أو إلى القضاة أ يحل ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في
حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما يحكم له فإنما يأخذ
سحتا وإن كان حقه ثابتا لأنه أخذه بحكم الطاغوت وقد أمر الله أن
يكفر به، قال الله تعالى: " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد
أمروا أن يكفروا به " الحديث. وسائل الشيعة 18 / 4. وقد تقدم
الكلام فيما يتعلق بسندها.
63

لأجل الضرب ظلما - وإن كان لولاه لما صدر الحكم منه، فهو كأن
يقول لزيد: أقتل عمرا، فإن كلامه هذا ليس مؤثرا في تحقق القتل مع
فرض اختيار زيد وقدرته على الترك. هذا وجه ما ذكره أولا.
ووجه ما ذكره ثانيا هو: دعوى انصراف رواية ابن حنظلة
المشار إليها إلى صورة عدم توقف انقاذ الحق واحقاقه على الترافع
إليه، فيكون حكمه في هذا المورد الخاص غير محرم وإن كان في
سائر الموارد حراما، وإذ ليس هذا الحكم إثما فليس الترافع إليه
إعانة على الإثم.
هذا إن أراد عدم حرمة الحكم، ويمكن أن يراد عدم حرمة
هذه الإعانة على هذا الإثم، نظير ما إذا رجع إلى جائر لانقاذ حقه
من غاصب، فلو ضرب الجائر الغاصب واسترجع الحق منه كان
رجوعه إليه إعانة على الإثم - إذ لو لم يرجع إليه لما ضربه - ولكنها
والحال هذه ليست إعانة محرمة، نظير ضرب اللص المتوقف عليه
دفعه وحفظ المال.
أقول: لكن مقتضى ذلك هو القول بعدم حرمة هذا الضرب
أيضا.
هذا واستدل في الجواهر بخبر علي بن محمد قال: " سألته
هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منا في أحكامهم؟ فكتب
عليه السلام: يجوز لك ذلك أن شاء الله إذا كان مذهبكم فيه التقية
والمداراة لهم " (1) قال: بناءا على ما في الوافي من أن: المراد هل

1) كذا في الجواهر المطبوع، وفي الوسائل:.. عن علي
ابن مهزيار عن علي بن محمد عليهما السلام قال: سألته.. باختلاف
يسير، 18 / 165.
64

يجوز لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضاتهم كما يأخذون منا بحكم
قضاتهم. يعني إذا اضطر إليه كما إذا قدمه الخصم إليهم.
أقول: إن كان هذا معنى الرواية كانت هذه الرواية معارضة
لرواية ابن حنظلة الدالة على أن المأخوذ بحكمهم سحت وإن كان
حقا ثابتا، إلا أن تحمل تلك على صورة التمكن من انقاذ الحق من
طريق آخر وتحمل هذه على صورة الانحصار والضرورة، أو تحمل
هذه على صورة العلم بكونه محقا وتلك على صورة الجهل أو الشك
بكونه حقا له كما تقدم.
ويحتمل أن يكون المراد: أنهم يقولون - مثلا - بصحة الطلاق
ثلاثا في المجلس الواحد ونحن نقول ببطلانه، فهل يجوز لنا أن
نحكم عليهم طبق أحكامهم وفتاواهم ونعاملهم بحسبها؟ فتكون نظير
" ألزموهم ما ألزموا به أنفسهم.. " 1) وتخرج بذلك عن مبحث
القضاء.
وعن علي بن الحسين عليهما السلام: " إذا كنتم في أئمة الجور
فامضوا في أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا وإن تعاملتم بأحكامنا
كان خيرا لكم " 2).

1) التهذيب: 2 / 210.
2) وسائل الشيعة: 18 / 5 وهو للصدوق " قده " باسناده عن
عطاء بن السائب عن علي بن الحسين عليه السلام. وفي تنقيح المقال:
وقع الرجل في طريق الصدوق في باب من يجوز التحاكم إليه،
وهو غير مذكور في الكتب الرجالية لأصحابنا.
65

ومورد هذه الرواية خصوص حال التقية، والعبادات في تلك
الحال صحيحة نصا وفتوى، أما المعاملات فلو عامل طبق أحكامهم
تقية فهل تصح حال كونها باطلة عندنا؟ قال في الجواهر: لم يحضرني
الآن كلام للأصحاب بالخصوص. أقول: وكيف كان فهي واردة
في حال التقية ولا مناسبة لها بمورد انحصار طريق الاستنقاذ بذلك،
إلا إذا كان الانحصار من جهة التقية فهي دالة على الجواز حينئذ.
وفي المسالك: " يستثنى منه ما لو توقف حصول حقه عليه
فيجوز كما يجوز الاستعانة على تحصيل الحق بغير القاضي، والنهي
في هذه الأخبار وغيرها محمول على الترافع إليهم اختيارا مع
امكان تحصيل الغرض بأهل الحق وقد صرح به في خبر أبي بصير 1)
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " في رجل كان بينه وبين أخ له
مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى
إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل: ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به. الآية ".
أي فإنها ظاهرة بل صريحة في اختصاص النهي عن الترافع

1) وسائل الشيعة: 18 / 3.
66

إليهم بصورة التمكن من الترافع إلى القاضي العدل، وقد وافقه
في الجواهر على ذلك وأضاف: بأن الإثم حينئذ على الممتنع.
وقد استدل لجواز الترافع إلى الجائر حتى مع التمكن من
العادل إن كان عالما بكونه محقا بخبر ابن فضال قال: " قرأت
في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه السلام وقرأته بخطه
سأله: ما تفسير قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
وتدلوا بها إلى الحكام؟ فكتب بخطه: الحكام: القضاة. ثم كتب
تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي، فهو غير
معذور في أخذه ذلك الذي قد حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم " 1).
أقول: والتحقيق أنه لولا أدلة النهي المطلقة لحكمنا بجواز
الترافع إلى قضاة الجور مع العلم بالحق أو الشك سواء تمكن
من الترافع إلى العادل أو لا بمقتضى الآية الكريمة والرواية الواردة
في ذيلها، لكن الآية مطلقة وتلك الأدلة واردة في خصوص قضاة
الجور وأنه لا يجوز الترافع إليهم حتى مع العلم بالحق أو الشك
فيه، فمقتضى الجمع جواز الرجوع إلى الحاكم الجائر في صورة
العلم أو الشك بكونه محقا مع عدم التمكن من الترافع إلى القاضي
العادل، وأما في صورة العلم بالخلاف فلا يجوز مطلقا كما لا يجوز
الترافع إلى قضاة الجور في صورة التمكن من العادل حتى مع
العلم بكونه محقا.

1) وسائل الشيعة: 18 / 5.
67

واستدل المحقق الآشتياني للجواز في صورة توقف أخذ
الحق على التحاكم إلى قضاة الجور بقاعدة نفي الضرر والضرار
في الشريعة. وفيه: أن قاعدة نفي الضرر لا ترفع الضرر، أي:
إن الحكم بحرمة الترافع إليهم في صورة التوقف ضرري ولكن
لا دلالة للقاعدة على كون عدم نفوذ حكمه حينئذ ضرريا كذلك،
فلا تقتضي القاعدة هذه إلا رفع الحرمة التكليفية، وأيضا: إن كان
معنى " السحت " في قوله عليه السلام: " وما يحكم له فإنما يأخذ
سحتا وإن كان حقه ثابتا " بمعنى الإثم رفعته قاعدة نفي الضرر، وأما
إن كان بمعنى حرمة الأكل فإنه حكم ضرري مجعول، ومن المعلوم
أن القاعدة لا ترفع الحكم الضرري المجعول.
68

المسألة الثانية
(في حكم تولي القضاء)
قال المحقق " قده ": " تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه
بالقيام بشرائطه وربما وجب ووجوبه على الكفاية.. ".
أقول: فيه مطالب: الأول: تولي القضاء مستحب، وظاهر
كلامه أنه مستحب ذاتا. الثاني: إنه لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه.
الثالث: إنه قد يجب. الرابع: وجوبه حينئذ كفائي.
وفي الدروس: ولو وجد غيره ففي استحباب تعرضه للولاية
نظر من حيث الخطر وعظم الثواب إذا سلم، والأقرب ثبوته لمن
يقق من نفسه القيام به.
وفي الروضة: وفي استحبابه مع التعدد عينا قولان: أجودهما
ذلك مع الوثوق.
وفي كشف اللثام: ويستحب التولية على الأعيان إلا من وجبت
عليه عينا، لأنه أمر مرغوب عقلا وشرعا.
69

وفي الرياض: استحبابه - أي قبوله - عيني، فلا ينافي ما
قدمناه من أنه واجب كفائي 1).

1) وفي القواعد: ويستحب التولية لمن يثق من نفسه بالقيام
بشرائطها على الأعيان وتجب على الكفاية.
وفي الكفاية: تولي القضاء مستحب لمن يثق من نفسه القيام
بالشرائط المعتبرة فيه، وهو من الواجبات الكفائية، وقد يتعين
وجوته عند الأمر من الإمام عليه السلام أو الانحصار فيه.
وفي مفتاح الكرامة بشرح عبارة عبارة القواعد المتقدمة " ويستحب
التولية لمن يثق من نفسه " أي بأن لا يخرج عن الشرع. وقد أجمعت
الأمة كما في المبسوط - ما عدا أبا قلابة لأنه كان يحتمل أنه غير فقيه -
على أنه طاعة وأمر مرغوب عقلا ونقلا، والاستحباب العيني لا ينافي
الوجوب الكفائي.
فالدليل على الاستحباب بعد العمومات وبعض الأخبار - هو
الاجماع المذكور، وفي الرياض: لا خلاف في شئ من ذلك عندنا
خلافا لبعض العامة.
وأما دليل الوجوب على الكفاية ففي مفتاح الكرامة: يدل عليه
بعد مرسل ابن أبي عمير والخبر النبوي عموم ما أوجب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجماع كما في المجمع، والاعتبار
من تحصيل النظام ودفع المفاسد.
وفي الرياض: هو من فروض الكفاية بلا خلاف فيه بينهم أجده.
ثم إنهم تصدوا لرفع التنافي الظاهر بين الحكمين، فذكروا
وجوها لأجل تعدد موضوع الاستحباب والوجوب، والسيد الأستاذ
مد ظله لم يرتض بشئ منها.
70

أقول: المنافاة أو عدمها يتوقف على بيان الواجب الكفائي،
وهو: ما وجب اتيانه على الكل ويسقط باتيان البعض بخلاف العيني
وسقوط الوجوب يكون إما بالإطاعة وإما بالعصيان وإما بارتفاع
الموضوع، ومحل الكلام من قبيل الثالث، نظير ما إذا صلى أحد
المكلفين على لميت فإنه لا يبقى موضوع للوجوب، إذ لا يجب
إلا صلاة واحدة عليه، ولما كان الوجوب والاستحباب ضدين فكيف
يكون الشئ الواحد واجبا ومستحبا معا؟ المستحب ما يجوز تركه
فإذا كان مستحبا عينيا كيف يكون واجبا لا يجوز تركه وأنه إذا ترك
فالكل معاقبون على ذلك؟
وقيل: الواجب الكفائي ما يجب فعله على المجموع. ولم
يتضح لنا وجه الفرق بين هذا التعريف وما ذكرناه..
فالحاصل: دعوى عدم التنافي بينهما غير واضحة عندنا.
فالقائلون بعدم المنافاة في سعة من توجيه عبارة المحقق، وأما
الذين لا يوافقون على ذلك فقد حاولوا توجيهها، ففي المسالك:
وظيفة القضاء من فروض الكفاية لتوقف النظام عليه أو لما يترتب
عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولعظم فائدته تولاه
النبي صلى الله عليه وآله ومن قبله من الأنبياء بأنفسهم لأمتهم
71

ومن بعدهم من خلفائهم، وحينئذ فحكم المصنف باستحبابه لمن
يثق بنفسه محمول على طلبه من الإمام ممن لم يأمره به إذا كان من
أهله، أو على فعله لأهله في حال الغيبة حيث لا يتوقف على إذن
خاص. وقوله " وربما وجب " يتحقق الوجوب فيما ذكرناه من
طلب الإمام له وفيما إذا انحصر الأمر فيه ولم يعلم الإمام به أو لم
ينحصر بالنظر إلى الوجوب الكفائي أو على تقدير توقف حصول
الحق عليه أو الأمر بالمعروف في حال الغيبة. وقوله " ووجوبه على
الكفاية " يعني به على تقدير وجوبه عنده، وإنما يكون على الكفاية
إذا أمكن قيام غيره مقامه ولم يعينه عليه الإمام وإلا كان وجوبه عينيا
كغيره من فروض الكفايات إذا لم يحصل منها إلا فرد واحد..
أقول: إن كان مراد المحقق " قده " تولي القضاء والتصدي لهذا
المنصب فإنه يختص بزمان حضور الإمام، لأنه الزمن الذي لا حكم
وجوبي عليه - إلا في حال تعيين الإمام ونصبه - فيستحب له الحضور
عند الإمام لأخذه منه، ولا مورد للاستحباب غيره، فإن نصبه كان
واجبا عينيا وإن نصب جماعة كان كفائيا، ولا يجتمع الاستحباب
مع الوجوب الكفائي.
وإن كان المراد أن يجعل نفسه في عرض ترافع الناس إليه
- وإن كان هناك قاض - فإن كان التصدي واجبا عليه كان تعريض نفسه
لذلك واجبا كذلك من باب المقدمة، وإن كان واجبا عليه وعلى
غيره كفاية كان ذلك واجبا عليه من باب المقدمة كذلك إذ لا يكون
72

ذو المقدمة واجبا والمقدمة مستحبة.
وإن كان لمراد من التولي نفس القضاء وفصل الخصومة فإن
كان في زمن الحضور وقد نصب لذلك وأمر به كان واجبا عينيا عليه
ومع الإذن العام يكون واجبا كفائيا فلا يتصور الاستحباب.
وإن كان القضاء وجوبه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر كان واجبا عليه من باب مقدمة الواجب.
فالحاصل: أن من كان حكمه في زمن الغيبة نافذا كان وجوب
القضاء عليه كفائيا سواء وجد غيره أيضا لوضوح الأمر حينئذ، أو
لم يوجد غيره لأن الواجب الكفائي لا ينقلب معه إلى العيني، بل
يتعين عليه القضاء بحكم العقل، وهذا هو مراد من عبر بالواجب
العيني حينئذ.
فظهر أنه لا يتصور الاستحباب.
وخالف في استحبابه أو وجوبه بعض العامة فحكم بكراهته
لعظم خطره ونظرا إلى الأحاديث المحذرة.. وأجيب عنه في
المسالك وغيره بأن المقصود من التحذير بيان عظم خطره ولزوم
شدة الاحتياط فيه.
ثم إن الأحكام التي ذكرها المحقق " قده " في هذه المسألة
بالنسبة إلى زمن الحضور 1) لا ثمرة للبحث عنها بالنسبة إلينا، نعم

1) وهو قوله: وإذا علم الإمام أن بلدا خال من قاض لزمه أن
يبعث له، ويأثم أهل البلد بالاتفاق على منعه، ويحل قتالهم طلبا
للإجابة.
73

يحتمل وجود الثمرة في قوله: " ولو وجد من هو بالشرائط فامتنع
لم يجبر مع وجود مثله، ولو ألزمه الإمام: قال في الخلاف: لم
يكن له الامتناع.. ".
أقول: وجه ما ذهب إليه المحقق " قده ": أن الإمام لا يوجب
ما وجب كفاية بالوجوب العيني، فلو خاطب الإمام أحد المكلفين
في واجب كفائي لم يخرج بذلك عن كونه كفائيا ولا يلزم بامتثاله
مع وجود غيره.
ووجه ما ذكره الشيخ " قده " في الخلاف: أن المصالح قد
توجب اختلاف الحكم وتغيره - لا أنه يجتمع حينئذ حكمان -
فيكون كحال الاضطرار وطرو العنوان الثانوي.
فظهر أنه لا اختلاف بين المحقق والشيخ في المسألة لاختلاف
الموضوع، وأن الإمام عليه السلام لا يجعل الواجب الكفائي عينيا
بالعنوان الأولي.
قال المحقق: " ولو لم يعلم به الإمام وجب أن يعرف نفسه.. "
أقول: علم الإمام عليه السلام بالأمور يكون في ظرف إرادته
واشاءته لأن يعلم به 1)، فعلم الإمام كبصر البصير، ودليل الوجوب
في حال عدم وجود غيره أن القضاء من باب الأمر بالمعروف فيكون
- بناء عليه - واجبا من باب المقدمة.. وهذه العبارة كالتمهيد
لقوله:

1) تدل على ذلك النصوص الواردة عنهم عليهم السلام والمخرجة
في أصول الكافي في الباب الذي عقده بنفس هذا العنوان.
74

هل له أن يبذل مالا ليلي القضاء؟
" وهل يجوز أن يبذل مالا ليلي القضاء؟ قيل: لا لأنه كالرشوة ".
أقول: أما في الحضور فلا مورد لهذا الفرع كما هو
واضح، وأما في زمن الغيبة حيث الأمر بيد السلطان ولا قاضي يقضي
بالحق فإن راجعه فاشترط عليه بذل مال فهل له أن يبذله لتصدي
ذلك لغرض الحكم بالحق واجراء الأحكام الإلهية وأداء الواجب
عليه؟
لا يبعد الجواز بل الوجوب مقدمة للواجب، نظير الضرائب
التي تعينها الحكومات لأداء بعض الفرائض كالحج حيث يجب
دفعها مع الامكان لأجل التمكن من أداء الواجب. هذا مع انحصار
القاضي به وإلا فلا وجوب، ويشترط - على أي حال - أن يثق من
نفسه القيام بالحق والالتزام بالأحكام، وليس هذا رشوة ولا كالرشوة.
نعم يحرم هذا المال على آخذه.
75

المسألة الثالثة
(هل يجوز الرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل)؟
قال المحقق " قده ": " إذا وجد اثنان متفاوتان فالفضيلة مع
استكمال الشرائط المعتبرة فيهما، فإن قلد الأفضل جاز ".
أقول: لا خلاف ولا اشكال في ذلك، وفي الجواهر: وإن كان
المفضول أورع، لأن الملاك - وهو العدالة المانعة من الاقتحام في
المحرمات وترك الواجبات - موجود في كليهما، والشرائط المعتبرة
متوفرة فيهما، والأعلم مقدم على غيره.
قال المحقق " قده ": " وهل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه
تردد، والوجه الجواز، لأن خلله ينجبر بنظر الإمام ".
أقول: وجه الجواز: اشتراك المفضول والأفضل معا في الأهلية
ولزوم العسر والحرج على العامي في معرفة الأفضل، وأن الصحابة
كانوا يتصدون لذلك من غير توقف ولا انكار مع أنهم كانوا متفاوتين
76

في الفضيلة، فكأنهم قد أجمعوا على جواز ذلك.
وأجيب عن الأول: بأن الأهلية لكل منهما تجوز التصدي وتوجب
نفوذ الحكم، ولكن جواز رجوع المترافعين إلى المفضول مع
وجود الأفضل أول الكلام.
وعن الثاني: بأنه إن كانت معرفة أصل الأهلية ممكنة له فإن
معرفة الأعلمية ممكنة أيضا.
وعن الثالث: بأن الأصحاب الذين أعرضوا عن أمير المؤمنين
عليه السلام وهو الأفضل من جميع الجهات وصاحب الولاية العظمى
بنص من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله ليس عملهم
حجة عندنا.
ووجه المنع: أنه مقتضى مقبولة عمر بن حنظلة 1).

1) إذ جاء فيها: " قال: فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا
فرضيا أن يكون الناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما وكلاهما
اختلفا في حديثكم فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأصدقهما
في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر " قال في
المسالك: إنها نص في المطلوب. لكنه خدش فيها سندا بقوله:
لكن قد عرفت ما في طريقها. فإن تم الاستدلال بها لانجبار ضعفها
بالشهرة فهي العمدة وإلا فلا.
أقول: لكن القرينة الداخلية المشتملة عليها هي المانعة عن
الاستدلال بها للمدعى كما ذكر الأستاذ دام بقاه.
77

وفيه: أن هذا في ظرف المعارضة، وأما في غيره فلا دليل على
تقدم قول الأعلم. بل يفهم من المقبولة نفسها أن لكليهما صلاحية
الحكم وأهليته، وإنما حكم الإمام عليه السلام بتقدم قول الأعلم
لدى الاختلاف بينهما. ويشهد بهذا قوله عليه السلام في معتبرة أبي
خديجة: " أنظروا إلى رجل منكم يعلم.. " وإلا لقال من أول الأمر:
.. إلى رجل أعلم..
وأن الظن الحاصل من حكم الأفضل أقوى من الظن الحاصل
من حكم المفضول فيجب اتباعه بحكم العقل دونه.
وفيه: إن هذا أول الكلام، فربما يكون الظن الحاصل من حكم
المفضول أقوى. سلمنا ولكن ما الدليل الشرعي على تقدم ما يفيد
الظن الأقوى؟. 1)
وقد رتب في المسالك القولين على أن المقلد هل يجب عليه
تقليد أعلم المجتهدين أم يتخير في تقليد من شاء منهم؟ وفيه: أن

1) واستدل للمنع أيضا بالاجماع المحكي عن بعضهم، قال في
مفتاح الكرامة بشرح قول العلامة: " ولو كان أحدهم أفضل تعين
الترافع إليه حال الغيبة وإن كان المفضول أزهد " دليل هذا الحكم
الاجماع الذي حكاه المرتضى في ظاهر الذريعة والمحقق الثاني
في حواشي كتاب الجهاد من الشرائع.
والجواب عنه: إنه موهون بتحقق الخلاف في المسألة، وإن
تم فهو اجماع مستند وليس بحجة.
78

الظاهر كون الملازمة من طرف واحد كما سيتضح ذلك قريبا، وكأن
صاحب الجواهر " قده " وافقه على هذه الملازمة - وإن لم يصرح
بها - لاستدلاله بنفس هذه الأدلة للقول بجواز العدول عن الأفضل
وإن أجاب عنها بعد ذلك بمثل ما تقدم منا في الجواب.
لكن ظاهر المحقق عدم القول بتلك الملازمة فإنه قال: الوجه
الجواز لأن خلله ينجبر بنظر الإمام، وهذا يرتبط بحال حضور الإمام
عليه السلام ونصبه للمفضول ولا يفيد بالنسبة إلى حال الغيبة، فيكون
فرض المسألة خاليا عن الثمرة ضرورة أنه عليه الصلاة والسلام أعلم
بما يفعل حينئذ ولا يحق لنا أن نتكلم عن جواز ذلك له وعدمه 1).
وفي المستند اختار الجواز للأصل والاطلاقات.
أقول: لم يتضح لنا مراده من " الأصل "، لأن مورد الشك إن
كان جواز التصدي للمفضول وعدم جوازه فلا ريب في أن الأصل

1) أي لا ثمرة في أن نبحث عن جواز نصب الإمام القاضي
المفضول وعدم جوازه مع وجود الأفضل، لكن مراد المحقق أنه
يجوز العدول إليه والتحاكم لديه لو فعل الإمام عليه السلام ذلك،
لأن خطأ هذا القاضي ينجبر بنظر الإمام الذي نصبه، وهذا
المعنى وظاهر القواعد أيضا حيث قال: ولو كان أحدهم أفضل
تعين الترافع إليه حال الغيبة وإن كان المفضول أزهد إذا تساويا في
الشرائط. أما حال ظهور الإمام عليه السلام فالأقرب جواز العدول
إلى المفضول لأن خطأه ينجبر بنظر الإمام.
79

هو البراءة، وإن كان نفوذ حكم المفضول وعدم نفوذه فلا ريب
في أن مقتضى الأصل عدم النفوذ.
وأما التمسك باطلاقات الروايات فلا بأس به، لأن الروايات
الواردة في الباب مطلقة، ففي إحداها: ".. يعلم شيئا.. "
وفي أخرى: ".. عرف أحكامنا ونظر في حلالنا وحرامنا.. ".
لا يقال: إن هذه الأخبار في مقام الردع عن الترافع إلى قضاة
الجور والأمر بالترافع إلى قضاة الحق والعدل فلا اطلاق فيها.
لأنا نقول: إن الراوي يسأل الإمام عليه السلام قائلا: " فكيف
يصنعان "؟ فلو أراد الإمام خصوص الأعلم لبين ذلك وإلا لزم تأخير
البيان عن وقت الحاجة، لا سيما مع التفات الراوي إلى الجهات
المختلفة وأنه لو اختلفا فكيف يصنع؟ ثم إن الرواي لم يسأل الإمام
عليه السلام عن اشتراط الأعلمية وعدمه وهذا يشهد بفهمه الاطلاق
من كلام الإمام عليه السلام.
اللهم إلا أن يدعى تقييدها بما ورد في ذيل المقبولة وهو قوله
عليه السلام ".. أفقههما.. ". لكن يجاب عن ذلك بأنه ناظر
إلى خصوص حال التعارض كما تقدم، أي: إنها مقيدة في موردها
لا بنحو الاطلاق، بمعنى أنه يقدم حكم الأفضل منهما لدى الاختلاف
فقط.
وقال السيد " قده ": لا يبعد قوة هذا القول - يعني: تقديم الأعلم -
لكون الاطلاقات مقيدة بالأخبار الدالة على الرجوع إلى
المرجحات عند اختلاف الحاكمين من الأفقهية والأصدقية والأعدلية
80

مع امكان دعوى عدم كونها إلا في مقام بيان عدم جواز الرجوع إلى
قضاة الجور فلا اطلاق فيها.. ودعوى: أن مورد أخبار المرجحات
التي هي العمدة في المقام خصوص صورة اختيار كل من المترافعين
حاكما أو صورة رضاهما بحكمين - فاختلفا، فلا دلالة فيها على
وجوب الرجوع إلى الأعلم مطلقا - مدفوعة: بأن الظاهر منها أن
المدار على الأرجح عند التعارض مطلقا كما هو الحال في الخبرين
المتعارضين، بل في صورة عدم العلم بالاختلاف أيضا لوجوب
الفحص عن المعارض، لكن هذا إذا كان مدرك الحكم هو الفتوى
وكان الاختلاف فيها بأن كانا مختلفين في الحكم من جهة اختلاف
الفتوى، وأما إذا كان أصل الحكم معلوما وكان المرجع اثبات الحق
بالبينة واليمين والجرح والتعديل ونحو ذلك فلا دلالة في الأخبار
على تعين الأعلم.
أقول: فتكون الأقوال في المسألة ثلاثة: أحدها: تقدم قول
الأعلم مطلقا. والثاني تقدم قوله لدى الاختلاف، والثالث: أنهما
إذا رجعا إليهما فحكما بحكمين مختلفين قدم قول الأعلم، وإلا فيجوز
الرجوع إلى المفضول ابتداء حتى مع العلم أو احتمال الاختلاف
بينهما في الحكم.
والروايات المقيدة واردة في مورد الترافع إلى كليهما ثم وجد أن
الاختلاف بينهما، وهي غير متعرضة إلى صورة المراجعة ابتداء.
إلا أن يقال: إنه لما كان قول الأعلم هو المقدم حكم الإمام عليه
السلام بتقدمه في صورة التعارض وإلا لما حكم بذلك في تلك الصورة.
81

بل إن السيد " قده " يقول بعدم جواز المراجعة إلى غير الأعلم
لو لم يعلم بموافقة فتواه لقول الأعلم، لأن ذلك كالخبرين المتعارضين
حيث يجب الأخذ بالخبر الراجح منهما.
وعلى هذا يجب على المراجع إلى غير الأعلم مراجعة الأعلم
من ذي قبل، فإن لم يجده مخالفا لفتوى غيره جاز رجوعه إلى غير
الأعلم، ولكن هذا المعنى يتوقف تماميته على استفادته من الأخبار
وإلا فلا وجه له، ولعله من هنا قال في الجواهر بمنعه كل المنع.
هذا والتوسعة في الترافع وعدم وجوبه إلى الأفضل لا يلازم
التوسعة في الفتوى، فهناك يكون رجوع الجاهل إلى العالم لغرض
الوصول إلى الأحكام الإلهية، ويكون فتوى الأعلم هناك أقرب إلى
الواقع، أما هنا فإن اشتراط ذلك يؤدي إلى التضييق على المكلفين،
فالتوسعة هنا نظير التوسعة في مورد الشك أو الظن بنجاسة شئ
حيث تجري أصالة الطهارة توسعة على الأمة، ولأنه ليس الغرض
هنا الوصول إلى الواقع فقط. وعلى هذا الأساس يمكن أن يقال
بنفوذ حكم غير الأعلم في حق الأعلم إذا كان طرفا في النزاع وعدم
جواز الرد عليه، لأن الغرض فصل الخصومة لا كون القضاء طريقا
إلى الواقع حتى يقال بوجوب الأخذ بالقول الأقرب إليه.
ومما ذكرنا يظهر ما في قولهم: إن قول الأعلم يفيد الظن
الأقوى قياسا على الدليل في مورد التعارض، ففيه كما تقدم سابقا
لو سلمنا كون الظن الحاصل من قول الأعلم أقوى - أنه ليس الغرض
82

هنا تحصيل الواقع.
وكذا قولهم: إن تقديم المفضول على الفاضل قبيح، ولذا
نقول بقبح تقدم من تقدم على أمير المؤمنين عليه السلام، لأن ذلك
في الإمامة العامة والرئاسة الكبرى حيث الغرض منها اجراء الأحكام
الواقعية والوصول إلى الواقع، لكن الغرض هنا فصل الخصومة
وحسم النزاع وقد اقتضت المصلحة التوسعة فيه فلا قبح.
83

المسألة الرابعة
هل يجوز للقاضي الاستخلاف؟
قال المحقق " قده ": " إذا أذن له الإمام في الاستخلاف جاز.. ".
أقول: تارة يبحث عن ذلك في زمن الحضور، وأخرى في
زمن الغيبة، أما بالنسبة إلى زمن الحضور فإن نصب الإمام أحدا
وأذن له في الاستخلاف فلا كلام في الجواز وإن صرح بالمنع فلا كلام
في عدمه، وإن أطلق فإن كان هناك شاهد حال مثلا على الإذن فيه
كارسال الوالي إلى بلاد واسعة بحيث لا تضبطها اليد الواحدة فهو
وإلا فلا 1).
ولا ثمرة عملية لنا في البحث عن ذلك، نعم فيه ثمرة علمية،

1) والدليل على ذلك هو أن الحكومة حق للإمام عليه السلام،
فهو مسلط عليها تسلط المالك على ملكه، فله الإذن في قيام غيره بها وله
المنع، ومع اطلاقه يتوقف الجواز على أمارة تدل على إذنه.
84

فقد ذكروا في كتاب الوكالة أن كل ما اشترطت فيه المباشرة شرعا
فلا يقبل الوكالة وكل ما لم يشترط فيه ذلك جاز التوكيل فيه 1).
وجعل الإمام القاضي في زمن الحضور يدل على أن القضاء من
الأمور القابلة لقيام الغير بها ولا يشترط فيه المباشرة، فيقع الكلام
في أن ذلك توكيل منه عليه السلام - أي: أن القاضي المنصوب
من قبله إنما يقضي وكالة عنه - أو أنه تولية منه له على الحكم، كما
جعل الأب والجد له وليا على الصغير، فيجوز له التوكيل لغيره
في الأمور التي تخصه كما يجوز له جعل الولي عليه بعد الموت
ليقوم بأموره؟ إن كان جعله من باب الوكالة تم ما ذكره المحقق " قده "
من أنه إذا أذن له في الاستخلاف جاز، لأنه يكون حينئذ وكيلا في
القضاء ووكيلا في التوكيل فيه، وإن كان جعله من باب الولاية
فلا حاجة إلى الإذن في استخلاف غيره للقضاء فيجوز له استخلاف
من كان واجدا للشرائط المعتبرة في القاضي، نظير من جعلت له
الولاية في أمور الصغير من قبل وليه ليكون وليا عليه بعد موته،
فإنه يجوز له حينئذاك توكيل غيره في القيام بالأمور من قبله.
وكذا الأمر بالنسبة إلى من عين لأجل القيام بأمور وقف من قبل

1) فمن الأول العبادات التي تعلق غرض الشارع بايقاعها من
المكلف مباشرة، ومن الثاني البيع والطلاق ونحوهما من العقود
والايقاعات التي تعلق غرضه بوقوعها سواء كان المباشر المالك
والزوج بأنفسهما أو غيرهما.
85

حاكم الشرع، فإن كان وكيلا في ذلك لم يجز له استخلاف غيره
إلا مع الإذن الصريح أو شاهد الحال، ولو مات الحاكم بطلت
وكالته، وأما إذا جعل الولاية له عليها لم يجب عليه الاستيذان في
الاستخلاف، ولا معنى لأن يكون وليا بشرط المباشرة، ولم تبطل
بموت الحاكم.
فظهر أن ثمرة البحث، أنه إن كان الجعل بنحو الوكالة فعليه
احراز الإذن في الاستخلاف، وإن كان بنحو الولاية فلا يجب.
هل القضاء قابل للوكالة؟
وأما بالنسبة إلى زمن الغيبة فهل للفقيه أن يستخلف غيره إذنا
أو وكالة أو ولاية؟ فيه خلاف، فعن جامع المقاصد: إن القضاء من
الأمور القابلة للتوكيل، ومال إليه في الجواهر، وعن المسالك
عدم الجواز. أقول: لا نص في المسألة ولا يمكن الجزم بوجوب
المباشرة في القضاء أو بعدم وجوبها عن طريق دليل آخر، فلا بد
من المراجعة إلى الأصل. قال في وكالة الجواهر: إن المستفاد من
كلمات الأصحاب كون الأصل جواز الوكالة في كل شئ، ثم ذكر
الأصل وعموم أدلة الوكالة. قلت: أما الأصل الذي ذكره - وهو
عدم اشتراط المباشرة في القضاء - فإنه معارض بأصالة عدم ثبوت
جواز القضاء بالوكالة، وما أفاده في الجواب من أن أصالة عدم
جريان الوكالة فيه منقطعة بمشروعية الوكالة، مندفع بأن المشروعية
لها موارد هي القدر المتيقن من ذلك، وهناك موارد لا تجوز فيها
86

الوكالة قطعا، وموارد أخرى أصل المشروعية فيها مشكوك فيه، فلا
ينقطع أصالة عدم الوكالة بمشروعية الوكالة بنحو الاهمال، لأنه مع
الشك في أصل المشروعية فالأصل عدمها.
والحاصل: إن المباشرة ليست من قيود المكلف به بل الحاكم
بها هو العقل، وحينئذ لا يمكن رفعها بالأصل عند الشك، ولو سلمنا
جريانه فالأصل عدم جواز توكيل الحاكم غيره في أمر القضاء.
وأما الأدلة العامة فإن ارجاع القاضي أمر القضاء إلى المقلد
إما يكون عن طريق جعل التولية له كما هو المشهور بين الفقهاء من
جواز ذلك للحاكم كأن يجعله متوليا على موقوفة أو وليا على الصغار
للقيام بأمورهم، وإما يكون عن طريق التوكيل. بأن يوكله في أمر
القضاء كما تجوز الوكالة في أمور أخرى كالبيع والطلاق ونحوهما.
لكن الولاية إن كانت من جهة أن لازم جعل الحكومة صلاحية
الحاكم لتفويضها إلى غيره فإن هذا يتوقف على استفادة هذه الناحية
من أدلة الجعل وهي غير متحققة، لأن الإمام عليه السلام يذكر صفات
القاضي " كالرواية " و " النظر " وغير ذلك وهذا تحديد من الإمام
وكون القاضي متمكنا من جعل من ليس متصفا بتلك الصفات معناه
أن تكون دائرة صلاحيته أوسع من الإمام وهذا لا يقول به أحد.
ونحن في التولية على الأوقاف لا نقول بجواز تولية المتولي
غيره، لأن جعل الحاكم إياه متوليا لا يستلزم جواز جعله غيره متوليا
عليها بعد موته.
87

وإن كانت من جهة تنزيل الإمام الحاكم منزلته واثبات الولاية
العامة له فله أن يجعل مقلده كما للإمام عليه السلام أن ينصب للقضاء
غير المجتهد، ففيه: أن الإمام قد تتعرض لأمر القضاء وللنصب له
كلا على حدة وانفراد، وهذا يدل على عدم شمول التنزيل لأمر
القضاء وأنه لم يجعل القاضي نازلا منزلته، ومع الشك في جعل
الولاية له على نصب غيره فالأصل العدم كما هو واضح.
فالحاصل: عدم تمامية ارجاع أمر القضاء إلى المقلد عن طريق
الولاية.
وأما الوكالة فهي ثابتة وجائزة في كثير من العقود، ولكن ثبوتها
في القضاء يتوقف على وجود دليل خاص على جواز التوكيل فيه
أو دليل عام يدل على أن كل أمر يجب صدوره من المكلف يجوز
التوكيل فيه إلا ما استثني كالنذر والأيمان ونحوهما. أما الدليل
الخاص فغير موجود، نعم هناك دليل يمكن الاستدلال باطلاقه
وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " من وكل رجلا على امضاء أمر
من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه
بالدخول فيها " 1).

1) وسائل الشيعة: 6 / 285: " محمد بن علي بن الحسين
باسناده عن معاوية بن وهب وجابر بن يزيد جميعا عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه قال: من وكل..
محمد بن الحسن باسناده عن محمد بن علي بن محبوب عن
محمد بن خالد الطيالسي عن عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد
ومعاوية بن وهب جميعا مثله ".
88

وتقريب الاستدلال: إنه لا ريب في أنه إذا لم يكن المتكلم في
مقام بيان جهة من جهات الكلام لم يجز التمسك بالاطلاق بالنسبة
إليها، وهذه الرواية تدل على مضي الوكالة في كل أمر يجوز فيه
التوكيل، وأن الوكالة باقية حتى الاعلام بالعزل، وليست في مقام
الدلالة على صحة الوكالة بأي نحو كانت، إلا أنه قد يكون لتلك
الجهة التي ينظر إليها المتكلم في الكلام لازم فيجوز أن يتمسك
بالكلام بالنظر إلى ذلك اللازم، مثلا قوله تعالى: ".. فإن لم
تجدوا ماء فتيمموا.. " في مقام تشريع التيمم عند فقدان الماء،
فيجب على فاقد الماء التيمم، ولكن يجوز التمسك باطلاق " الماء "
فيها - بأن يقال المراد عدم وجدان مطلق ما يصدق عليه الماء - وإن
لم تكن الآية الكريمة ناظرة إلى هذا الحيث، لأن لازم تشريع
التيمم بيان أنه متى يجب التيمم، فنقول: إن الآية باطلاقها تدل على
أنه متى لم يوجد ما يصدق عليه الماء يجب التيمم.
وهنا كذلك، فإن الإمام عليه السلام في مقام بيان أن الوكالة إذا
ثبتت كان عمل الوكيل في ما وكل فيه ماضيا حتى يعلمه بالعزل،
ولكنه قال قبل ذلك " على امضاء أمر من الأمور " ولازم هذا جواز
الوكالة في كل أمر لم يقم دليل على عدم جوازها فيه، وإلا لبين ذلك
في نفس الكلام، فيجوز التمسك باطلاق هذا الكلام بأن يقال بجواز
89

الوكالة في القضاء لأنه أمر من الأمور عند العرف ولم يقم دليل شرعي
على عدم قابلية القضاء للوكالة.
فالظاهر تمامية هذا الاطلاق وأنه لا مانع من التمسك به 1) إلا إذا
قيل بأن القضاء من الأمور التي يعتبر فيها أهل العرف المباشرة ولا
يقبل التوكيل عندهم لكن مذهب جماعة من الأصحاب صحة الوكالة
فيه، ووجه المنع عند غيرهم عدم تمامية الاطلاق لا عدم القابلية عرفا.
هذا، وقد جوز بعض المانعين التوكيل في مقدمات الحكم كاستماع
الشهادة والتحليف، وأشكل عليه في الجواهر بأنه إذا كان استماع
الشهادة قابلا للوكالة فالحكم بالأولوية. ووجه ذلك ما ذكرناه سابقا
من أن أهل العرف يقسمون الأمور إلى ما يقبل الوكالة وما لا يقبلها،
فمن الأول: البيع والشراء، ومن الثاني: الأكل والشرب، فصاحب
الجواهر يقول إنه إن جازت الوكالة في استماع الشهادة والتحليف
- مع أن الحاكم نفسه هو المكلف باستماعها وبتحليف المنكر -
كانت جائزة في نفس الحكم بالأولوية.
والصحيح: أن كل أمر كان للوكالة عرفية فيه ولا منع من قبل
الشرع كان مشمولا ل‍ " الأمور " في الرواية المذكورة، والله العالم.

1) كما أجاز في العروة التمسك بعموم قوله تعالى: " أوفوا
بالعقود " ونحوه بدعوى شموله للوكالة، بناءا على أن المراد من
الوفاء بالعقود هو العمل بمقتضاها إن لازما فلازما وإن جائزا فجائزا.
90

المسألة الخامسة
في حكم ارتزاق القاضي من بيت المال
قال المحقق " قده ": " إذا ولي من لا يتعين عليه القضاء فإن
كان له كفاية من ماله فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال 1)،
ولو طلب جاز لأنه من المصالح، وإن تعين عليه القضاء ولم يكن
له كفاية جاز له أخذ الرزق، وإن كان له كفاية قيل: لا يجوز له أخذ

1) المراد من بيت المال - كما يستفاد من كلمات الفقهاء - هو
البيت الذي يجمع فيه ما يشترك فيه جميع المسلمين من الأموال
ويصرف في مصالح جميعهم كبناء المسجد ونحو ذلك، وأما ما يجمع
فيه الزكاة والخمس وغيرهما مما يكون مختصا بطائفة منهم فلا يكون
من بيت المال في شئ ولا يجوز صرف ذلك في المصالح العامة بل
يعطى لمستحقيه. فما يظهر من بعض من أن المراد هو الأعم ليس
على ما ينبغي - قاله المحقق الآشتياني.
91

الرزق لأنه يؤدي فرضا ".
أقول: ارتزاق القاضي من بيت المال إن لم يكن له كفاية من
ماله جائز سواء كان القضاء متعينا عليه أو لا، فله أخذ مؤنته من بيت
المال، والحاكم يعطيه منه لا بعنوان الأجرة على القضاء، بل
بعنوان أن ذلك من مصالح المسلمين التي أعد لها بيت المال. وإن
كان عنده ما يكفي المؤنة فأخذه من بيت المال يكون بعنوان الأجرة
على القضاء قهرا، فيدخل في مبحث 1) جواز أخذ الأجرة على
الواجبات وعدم جوازه، فنقول:
موجز الكلام في أخذ الأجرة على الواجبات:
إن العمل الذي يقوم بها الانسان المكلف تارة يكون ذا منفعة
وأخرى يكون بلا منفعة، فإن كان بلا منفعة فلا معنى لأن يطالب
بالعوض سواء كان واجبا أو لا، وإن كان العمل الذي يقوم به لغيره
ذا منفعة له جاز له المطالبة بالعوض منه في صورة عدم منافاة أخذ

1) محصل كلام سيدنا الأستاذ هو دخوله في هذا البحث فيما
إذا كان له كفاية من ماله في كلا الصورتين: توليه القضاء بعنوان
الواجب الكفائي، وتوليه بعنوان الواجب العيني بتعيين الإمام عليه
السلام أو لعدم وجود غيره خلافا للمحقق حيث جوز له الأخذ من
بيت المال في الصورة الأولى - وإن جعل الأفضل الترك - وقال
بالنسبة إلى الثانية: قيل لا يجوز له أخذ الرزق لأنه يؤدي فرضا.
92

العوض للعمل المطلوب منه اتيانه، فلو أمره زيد بالخروج للصلاة
على ميت ت فطالبه بشئ في مقابل امتثاله - الذي أثره لزيد سقوط
خروجه إليها وقد كان واجب عليه كذلك - جاز، ولكنه يتنافى مع
قصد القربة المعتبر في الصلاة على الميت، فيشكل أخذ الأجرة
على فعله هذا، إلا بأن يتصور ايجاد الداعي إلى الداعي، نظير ما إذا
أعطى مالا لغيره لأجل أن يطيع أمر زيد بالقيام بعمل، فإن قام بالعمل
إطاعة لزيد جاز أخذ الأجرة وإن كان لا بقصد ذلك لم يجز، وحينئذ
فلو أعطاه مالا لأن يطيع الله ويمتثل أوامره، فإن اعتبر قصد القربة
في العمل لم يجز له الأخذ لعدم صلاحية هذا العمل للمقربية، وإن
قلنا بأن كونه داعيا إلى الداعي لا يضر بقصد القربة وأنه يكفي كون
الأمر الإلهي هو الداعي ولا يضر في ذلك وجود واسطة دنيوية تدعو
إليه جاز له أخذ الأجرة على العمل.
وفصل بعضهم الداعي الراجع نفعه إلى الفاعل بين ما إذا كان
منفعة من الله سبحانه فلا يضر بالقصد وإلا لما كان لذكر الأجور التي
في القرآن للذين آمنوا وعملوا الصالحات وجه، وإن كان منفعة
من غيره عز وجل فيضر بالقصد.
هذا، وفرق بين الواجب التعبدي والواجب التوصلي، ففي
التوصلي يمكن أن يوجب الشارع أصل العمل وأن لا يمنع من أخذ
الأجرة عليه كسائر الصنائع والحرف، فإنها واجبات توصلية ويجوز
أخذ الأجرة عليها، لكن قيل: هذا ما دام الوجوب فيه كفائيا، وأما
93

إذا كان تعيينا فلا يجوز، فلو انحصر الطبيب في واحد كان معالجة
المرضى واجبا عينيا بالنسبة إليه لوجوب حفظ النفوس المحترمة
فلا يجوز له أخذ الأجرة، ومن هنا كان الأطباء المتدينون سابقا
يتقاضون الأجور عوضا عن الحضور لدى المرضى ويعبرون عن
ذلك ب‍ " حق القدم ".
وظاهر قول العلامة في القواعد: " ويجوز أخذ الأجرة على عقد
النكاح ويحرم الأجر على الإمامة والشهادة وأدائها " هو أن الواجب
المعين لا يجوز أخذ الأجرة عليه. وقال في إجارة القواعد " هل
يجوز على تعليم الفقه؟ الوجه المنع مع الوجوب " أي: إذا كان
واجبا عينيا " والجواز لا معه " أي: لا مع التعيين وكونه كفائيا.
وفصل الفخر في الإيضاح بين ما يشترط فيه القربة فلا يجوز
كالصلاة على الميت وما لا يشترط فيجوز..
وفي جامع المقاصد معلقا على " هل يجوز " من عبارة القواعد
المزبورة: إن كان واجبا على المعلم والمتعلم عينا أو كفاية لم يجز
أخذ الأجرة عليه لأن المعلم مأخوذ بالتعليم ومؤديه، فيمتنع أخذ
الأجرة كسائر الواجبات " وتنظر في كلام الفخر قائلا بأن الوجوب
مطلقا مانع عن أخذ الأجرة عليه كما تقدم في كتاب التجارة وهو
صريح كلام الأصحاب، وما ذكره من الجواز إذا لم يكن الواجب
مشروطا بالنية مخالف لما عليه الأصحاب ".
أقول: أما الكفائي فسيأتي الكلام عليه، وأما العيني توصليا كان
94

أو تعبديا فوجه المنع من أخذ الأجرة عليه هو أن أخذ الأجرة إنما
يصح حال كونه مالكا لما يعطيه في مقابل الأجر، فلا مانع من أن
يملك الانسان ما يملكه عينا أو عملا ويأخذ العوض، ولذا لا يجوز
له أن يؤجر نفسه لثالث في ذلك الزمان المعين أو العمل المعين،
وأما إذا كان العمل واجبا عليه شرعا ولا يجوز له تركه فإنه لا يملك
ذاك العمل بل عليه اتيانه وتسليمه لله، وحيث لا يملكه بل كان ملكا
لله سبحانه فلا قدرة له على أن يملكه الغير سواء كان تعبديا أو توصليا،
وأضاف في الجواهر بأنه لو أخذ عوضا عنه لزم الجمع بين العوض
والمعوض، لكن الأولى أن يقال: بأنه عوض بلا معوض فهو آكل
للمال بالباطل.
وفي الواجب الكفائي صرح الأكثر بأنه لو تعين بالانحصار لم يجز
أخذ الأجرة عليه وإلا جاز لقدرته على الترك، لكن الواجب الكفائي
- عندنا - يتعلق بالمكلفين، أي بكل واحد منهم كالواجب العيني
سواء كان عباديا أو لا، والفرق بينهما حينئذ أن العيني لا يسقط بقيام
الغير به بخلاف الكفائي فإنه يسقط بقيام الغير به بحكم العقل، وعليه
فقبل قيام أحد المكلفين بالواجب لا يملك أحد منهم العمل فلا يجوز
له أخذ الأجرة عليه لكونه أكلا للمال بالباطل، فظهر أنه لا فرق بين
الواجب الكفائي المتعين وغيره في عدم جواز أخذ الأجرة.
وذهب جماعة من الأصحاب إلى جواز أخذ الأجرة وقالوا في
وجه الجواز: بأن هذه الأعمال صالحة لأن تقع عليها المعاملة
- بقطع النظر عن الوجوب - لأن لها مالية ويبذل بإزائها المال
95

لرفع الحاجة، ويجوز أخذ المال في مقابلها لأنها مملوكة لأصحابها،
ومع الوجوب يكون للمسألة وجوه: أحدها: وجوب العمل مجانا،
والثاني: وجوب العمل مع جواز أخذ الأجرة، وقد يجب الأخذ
للانفاق على من يجب الانفاق عليه، والثالث: وجوب العمل مع
الخيار في أمر أخذ الأجرة عليه.
قالوا: ولا منافاة بين الوجوب وأخذ الأجرة على العمل، نعم
لو صرح بوجوب اتيانه مجانا لم يجز، وأما مع عدم التصريح أو
التصريح بالاختيار أو وجوب الأخذ للانفاق الواجب أخذ، وذلك
لا ينافي وجوب العمل، ومع الشك في اشتراط المجانية في هذا
الواجب وعدمه كان له الأخذ كذلك جميعا بين دليل وجوب العمل
ودليل حرمة عمل المسلم، لما تقدم من عدم المنافاة.
واختار السيد في العروة الجواز مطلقا 1) قال: " للأصل والاطلاقات

1) أي بعد أن ذكر الأقوال في المسألة، ولا بأس بايراد نص عبارته:
" اختلفوا في جواز الأجرة على القضاء من المتخاصمين أو أحدهما
أو غيرهما مطلقا أو مع الضرورة أو مع عدم التعين عليه أو مع الأمرين
وعدم جوازه مطلقا على أقوال، فعن جماعة الجواز مطلقا كما حكي
عن القواعد والنهاية والقاضي وعن المفاتيح نقله عن بعضهم، وعن
شرحه اسناد جواز الأخذ إلى المشهور، وظاهره اطلاق الجواز،
وعن جماعة المنع مطلقا، بل عن المبسوط أنه قال: عندنا لا يجوز
بحال وظاهره الاجماع عليه، وعن المعتمد الاجماع عليه مع عدم
الحاجة، وعن الكفاية نفي الخلاف فيه مع وجود الكفاية في بيت
المال قال: ومع عدمها ووجود الحاجة قولان أشهرهما المنع،
وكذا عن المسالك، وعن بعضهم الجواز مع عدم التعين والضرورة
ومع التعين والكفاية لا يجوز قولا واحدا، وفي المستند دعوى
ظهور الاجماع على عدم الجواز مع الكفاية ".
96

وعدم الدليل على المنع سوى دعوى الاجماع والشهرة أو عدم
الخلاف، ولا حجية في شئ منها لا سيما مع ما مر من وجود الخلاف
بل دعوى الشهرة على الجواز، وسوى ما هو المشهور المدعى
عليه الاجماع من المحقق الثاني من عدم جواز أخذ الأجرة على
الواجبات، وقد بين في محله عدم الدليل عليه، لمنع الاجماع
- مع أن القدر المتيقن منه على فرضه الواجب العيني التعيني التعبدي -
ولضعف سائر ما استدلوا به عليه ".
وقد استدل على المنع بوجوه: منها: إنه مناف لقصد القربة.
وفيه: أنه يختص بالتعبدي ولا يشمل التوصلي، وهل القضاء من
التعبديات أو التوصليات؟ إن نتيجة القضاء كنتيجة الطهارة من الخبث،
فكما أن الطهارة من الخبث حصولها لا يتوقف على قصد القربة فإن
أثر القضاء هو فصل الخصومة وهو يتحقق من غير حاجة إلى قصد
القربة، فكون القضاء من التعبديات غير معلوم، إلا أن يقوم دليل
على اعتبار قصد القربة فيه حتى مع تحقق الغرض منه بدونه.
وقد اختلفوا في العبادات، هل يكفي فيها قصد امتثال الأمر أو
لا بد من قصد القربة أيضا؟
97

وقصد الامتثال يكون على أنحاه، تارة: يعبد الله ويمتثل أوامره
لأنه خالقه ورازقه، وأخرى: يعبده ويطيعه خوفا من عذابه، وثالثة:
طمعا في جنته، ورابعة: طلبا للمزيد من فضله. ونحو ذلك،
وقد يعبد الله تعالى لأنه أهل للعبادة وتلك عبادة أمير المؤمنين عليه
السلام والأئمة المعصومين عليهم السلام.
فإن كان المعتبر عدم وجود شئ من الدواعي النفسانية والأمور
المادية كان الأخذ منافيا ولم يكن عمله مقربا ومسقطا للتكليف،
وإن كان المعتبر الامتثال والقيام بالعمل وتحققه في الخارج - وإن
كان الداعي إليه الأجرة - جاز أخذها، وكأنه يأخذ الأجر على إطاعة
الله وامتثاله، لكن المانعين لا يصححون الداعي إلى الداعي، فأما
الامتثال خوفا فغير مضر.
ومنها: التنافي بين الوجوب وأخذ الأجرة، لأن ايجاب العمل
مقتضاه سلب اختيار العبد في العمل والغاء ملكيته له، فهو ليس له
حتى يأخذ شيئا بإزائه أو لا يأخذ، بل إن العمل حينئذ يوجد في
الخارج مملوكا لله، وهذا نظير ما إذا كان أجيرا لزيد في خياطة
مثلا فإنه لا يجوز له أن يملك نفس هذه الخياطة لعمرو.
وأجاب عنه السيد " قده " بعد قوله: " إنه مختص بالواجب
العيني " بوجهين أحدهما: " منع كون الوجوب من الله تعالى موجبا
للملكية نظير الملكية للناس ".
وتوضيحه: إن الايجاب لا يوجب سلب ملكية الانسان لعمله،
98

فمثلا عندما ينذر دفع كذا من المال في سبيل الله، يجب عليه ذلك
عند تحقق مطلوبه لكن ذلك لا يخرجه عن ملكه فلو باعه كان البيع
صحيحا وضعا، فالوجوب التكليفي لا يقتضي سلب الملكية، وكذلك
العمل إن وجب لا يخرج عن ملك العبد.
والثاني: " لا مانع من اجتماع المالكين إذا كان إحدى الملكيتين
في طول الأخرى فإن الله تعالى مالك لذلك الفعل والمستأجر أيضا
مالك له لكن لا لنفسه بل لله تعالى ".
وتوضيحه: إن سلمنا كون الفعل ملكا لله فإنه لو كانت ملكيته
عرضية ورد الاشكال بأنهما لا يجتمعان لأن اعتبار الملكيتين كذلك
غير معقول، لكن إحدى الملكيتين في طول الأخرى نظير ملكية
العبد التي هي في طول ملكية مولاه، فإنه يملك ما وهب مثلا لكنه
مع ما في يده لمولاه، كما أن العقلاء يعتبرون الملكية لما يحصل
من الطرق المعينة، والشارع قد أمضى هذه الملكية ووافق على هذا
الاعتبار إلا بالنسبة إلى أشياء مخصوصة كالخمر والخنزير، وبالنسبة
إلى طرق معينة كالمنابذة والربا، بل الملكية من ضروريات جميع
الأديان. مع أن الله عز وجل مالك السماوات والأرضين، وسنخ
ملكه للأشياء غير سنخ ملكيتنا لها إلا في المورد الذي جعل هو سنخ
ملكيتنا لنفسه، حيث قال تعالى في آية الخمس: " واعلموا أنما
غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل " الآية 1).

1) سورة الأنفال: 41.
99

والحاصل: إن الملكية الطولية موجودة للعبد بالنسبة إلى ماله
وعمله وهي ممضاة من قبل الله سبحانه، فيجوز له بيع ماله وعمله
وأخذ العوض وإن كان هو وما يملكه لله تعالى.
أقول: هذا توضيح الجواب وتقريبه، فأما أن يقال بأن ذات
العمل الواجب لله وأنه عندما يؤجر الشخص نفسه لهذا العمل يؤجر
نفسه لايجاده موصوفا بكونه لله ويأخذ الأجر عليه، فغير واضح لعدم
اعتبار ملكية ما كان موصوفا بكونه لله لا حد عرفا.
ومنها: إن أخذ المال على الفعل الواجب أكل للمال بالباطل،
والعقلاء لا يعتبرون الملكية في هذه الصورة، لأن الالزام الشرعي
كالالزام الطبيعي.
وأجاب السيد " قده " عنه بوجهين أحدهما: اختصاصه بالواجب
العيني التعييني، والثاني: امكان أن يكون للمستأجر غرض عقلائي
في ذلك لا أقل من حب كون معبوده مطاعا.
ومنها: إن أخذ الأجرة على الواجب معناه توقيف الواجب
على شرط ولا يجوز توقيف الواجب على شرط بل يجب اتيانه مطلقا.
وأجاب بأن هذا الاشكال يتوجه فيما إذا جاء بالفعل في مقام
العمل مشروطا، وأما إذا جاء به بنحو الاطلاق وقصد ذات العمل
- لا العمل الذي كان بإزائه كذا - فلا مانع.
على أن هذا - لو تم - يتمشى في التعبديات فقط.
ما ورد في خصوص القضاء:
ثم إنه قد وردت نصوص عديدة في خصوص أخذ الأجرة على
100

القضاء كالصحيحة التي رواها في الوسائل عن عبد الله بن سنان
قال: " سئل أبو عبد الله عليه السلام عن قاض بين قريتين يأخذ من
السلطان على القضاء الرزق. فقال عليه السلام: ذلك السحت " 1).
أقول: فهل إنه " سحت " لأن السلطان حاكم جور أو أنه سحت
لأنه في مقابل القضاء؟ وجهان، قال السيد: إن ظاهره خلاف الاجماع،
فإنه لا مانع من ارتزاقه من بيت المال. أي: فلا بد من حمل الرواية
على الوجه الأول، إلا أن ظاهر " على القضاء " هو الوجه الثاني.
على أنه إن كان من جهة كون السلطان جائرا فإن للإمام عليه
السلام الولاية على الإذن في القضاء في سلطنة السلطان الجائر.
وكالصحيحة عن الشيخ الصدوق في الخصال عن عمار بن
مروان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: " كل شئ غل من الإمام
فهو سحت، والسحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة
الظلمة، ومنها أجور القضاة، وأجور الفواجر، وثمن الخمر والنبيذ
المسكر، والربا بعد البينة. فأما الرشا يا عمار في الأحكام فإن ذلك
الكفر بالله العظيم وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم " 2).
فقال المانعون: بأن الصحيحة هذه ظاهرة في أن المراد من
" أجور القضاة " فيها ما يأخذه القضاة في مقابل القضاء وإن لم يكن

1) وسائل الشيعة: 18 / 161.
2) وسائل الشيعة: 12 / 64.
101

ما يأخذونه من " الولاة الظلمة ": كأن يأخذوا من المتخاصمين
مثلا، فيكون ذلك من " السحت " كأجور الفواحش وثمن الخمر..
وأجاب المجوزون كالسيد " قده " - بأن الظاهر أنها ناظرة
إلى الأجور التي كان القضاة يأخذونها من " الولاة الظلمة "، فأجورهم
إن كانت مما أصيب من أولئك فهي سحت لا مطلقا، من جهة أن
الظاهر كون الضمير في " ومنها " راجعا إلى " ما " في " ما أصيب "
فتكون الحرمة من هذا الحيث.
أقول: والظاهر أنه إن كان هذا الضمير راجعا إلى ما ذكر لجاء بلفظ
المذكر لا المؤنث، فما ذكره خلاف الظاهر، ومجرد عدم تكرار
" منها " لكل واحد من الأنواع لا يكون دليلا على ما ذكر. وبالجملة:
إن " أجور القضاة " قسيم ل‍ " ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة "،
فظهورها في الدلالة على حرمة أخذ الأجرة على القضاء تام.
نعم لا تدل على حرمة الارتزاق من بيت المال لا بعنوان الأجر،
ولا سيما مع الحاجة والضرورة، فإن ذلك لا مانع منه، ويكون القاضي
حينئذ كسائر العمال، لكن لا بمعنى كون ذلك في مقابل العمل
" القضاء " بل يكون نظير تحصيل الطلاب للعلوم الدينية قربة إلى
الله تعالى مع أن الحاكم الشرعي يرزقهم من بيت المال، ولقد
كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقسم الغنائم على من اشترك
في الحروب والغزوات ويعطي كلا حسب جهده ومقامه. لكن
لا بعنوان العوض 1).

1) واختار في مباني تكملة المنهاج 1 / 5 الجواز واستدل عليه
بقول أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر رضي
الله عنه: " وأكثر تعاهد قضاتك وافسح له بالبذل ما يزيح علته وتقل
معه حاجته إلى الناس. قال: وطريق الشيخ إلى عهده " ع " إلى
مالك الأشتر معتبر.
102

قال المحقق: " أما لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف. ".
أقول: وبناءا على الجواز فهل له أن يأخذه من المدعي أو
المحكوم له أو المتخاصمين معه؟ إن كان بعنوان الأجر فهو إما جعل
وإما إجارة، وحينئذ يجب دفعه على الجاعل أو المستأجر، وإن كان
قد قضى ولم يقصد كونه مجانا ضمن أجره، فهل يضمنه المحكوم
له لأنه المنتفع بحكمه أو كلاهما لأنه قد عمل للمحكوم عليه أيضا
وعمله محترم ولا يشترط في وجوب دفع العوض وجود المنفعة؟
وجهان.
هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة؟
قال المحقق: " أما الشاهد فلا يجوز له أخذ الأجرة.. ".
أقول: لا اشكال في حرمة أخذ الأجرة على الشاهد بناءا على
حرمة أخذ الأجرة على الواجبات مطلقا، لأن الشهادة واجبة عليه،
فيكون الشاهد كالقاضي في حرمة الأخذ بناءا عليه بلا فرق بينهما، فلا
وجه لا يكون أخذ الأجرة عليها أشد حرمة منه على القضاء. نعم
يحصل الفرق فيما إذا كان الوجوب على الشاهد عينيا والقضاء
كفائيا.
103

وهل يجوز أخذها على تحمل الشهادة؟ قال في الجواهر:
قد يقال بجواز الأخذ عليه مع عدم تعينه عليه، لكن الأولى تركه.
وهل يجوز أخذها مقدمات أداء الشهادة؟ وجهان، من
أن الواجب إقامة الشهادة لا تحصيل المقدمات، ومن أن الشهادة
واجبة وتحصيل مقدماتها مقدمة للواجب فهو واجب فلا يجوز أخذ
شئ في مقابل مقدمة الشهادة.
أقول: أداء الشهادة من الواجبات البدنية لا المالية، فلا يجب
عليه بذل المال لتحصيل المقدمات المتوقف عليها أداء الشهادة كأجرة
السيارة التي تقله إلى بلد آخر لأجل الحضور في مجلس الشهادة
والقضاء مثلا، إلا أن يقال بوجوبها عليه حتى مع بذل ما يلزم من
المال في سبيلها.
قال المحقق: " ويجوز للمؤذن والقاسم وكاتب القاضي والمترجم
وصاحب الديوان ووالي بيت المال أن يأخذوا الرزق من بيت المال
المعد للمصالح، وكذا من يكيل للناس ويزن ومن يعلم الآداب
والسنن ".
أقول: الأمر في ذلك كله واضح بعد ما ذكرنا. والله العالم.
104

المسألة السادسة
في طريق ثبوت ولاية القاضي
قال المحقق " قده ": " تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة ".
أقول لم يتعرض رحمه الله إلى ثبوت ولاية القاضي بالعلم
والبينة، لأن ثبوتها بهما لا ريب فيه 1)، فالولاية تثبت بشهادة عدلين
بها وإن لم يحكم بها حاكم كما في المسالك وغيرها، فتكون نظير
الاجتهاد، فإنهم ذكروا أن الاجتهاد والأهلية للمرجعية في الأحكام
الشرعية تثبت بشهادة عدلين من أهل الخبرة من دون توقف على
حكم مجتهد آخر بها، لاطلاق أدلة البينة الشامل للمورد. نعم لو
أنكر منكر ولاية القاضي مدعيا عدم نصب الحاكم إياه للقضاء، أو

1) ولعله لهذا السبب أيضا لم يتعرض إلى ثبوتها بسماع التولية
من الإمام عليه السلام نفسه وباقراره " ع " بها وبحكم الحاكم بها
بناءا على ثبوتها به.
105

أنكر اجتهاده بناءا على اشتراطه فيه - وقعت المرافعة وتوقف ثبوت
الولاية على حكم الحاكم فيها حينئذ.
وحيث لا علم ولا بينة تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة، ومع
عدم ثبوتها فلا يجوز الترافع عنده والتحاكم إليه.
وهل المراد من الاستفاضة الخبر المفيد للعلم أو الشياع المفيد
للظن المتاخم للعلم أو يكفي في صدقه إفادته للظن؟
في المسالك: هي اخبار جماعة لا يجمعهم داعية التواطي عادة
يحصل بقولهم العلم بمضمون خبرهم على ما يقتضيه كلام المصنف
هنا، أو الظن الغالب المقارب له على قول.
وفي الجواهر فسر الاستفاضة بالشياع الذي يحصل غالبا منه
سكون النفس واطمئنانها بمضمونه، قال: بل لعل ذلك هو المراد
بالعلم في الشرع موضوعا أو حكما.
فإن أراد المحقق الشياع المفيد للظن كان نظير خبر الواحد والبينة،
غير أنه في البينة يشترط العدالة والعلم الحسي بالموضوع وغير ذلك
ولا يشترط ذلك في المستفيض، فلو جاء جماعة - فيهم الكبير
والصغير والمسلم وغير المسلم - بنبأ أفاد المجموع الظن وإن لم
يفد كل واحد من الأخبار الظن بوحده.
والظاهر أن المحقق لا يريد ما ذكر في المسالك والجواهر، لأن
إرادته ما يفيد العلم أو ما كان كالعلم بعيدة بعد أن لم يتعرض إلى العلم
والبينة في طريق ثبوت الولاية، فكأنه يريد أن ثبوت ذلك بالعلم
106

أو الاطمينان مسلم ولذا تعرض إلى الاستفاضة غير المفيدة لأحدهما
رأسا.. بل الظاهر أن مراده من الاستفاضة هو الشياع المفيد
للظن، فهو الحجة في ثبوت الولاية للقاضي 1).
ولعل وجه كلام الشهيد الثاني حيث ينسب المعنى المذكور
إلى المحقق هو قول المحقق في آخر المسألة: " ولا يجب على
أهل الولاية قبول دعواه مع عدم البينة وإن شهدت له الأمارات ما لم

1) الاستفاضة من: فاض الماء يفيض فيضانا بمعنى " كثر "،
فإذن يعتبر في الخبر المستفيض تكثر رواته، ولذا عبر في المسالك
بأنها اخبار جماعة، وفي الجواهر بالشياع. ثم اختلفت كلماتهم في
حد هذه الكثرة المعتبرة. وقد يستظهر من عبارة المسالك ونحوها
اعتبار اتحاد لفظ جميع المخبرين في صدق " المستفيض " على
خبرهم، بخلاف عبارة الجواهر ونحوها فإنها ظاهرة في تحقق
صدقه باتحاد المعنى وإن تعددت الألفاظ.
ثم هل المعتبر في الخبر المستفيض حصول العلم بمضمون
الخبر أو الظن الغالب المتاخم للعلم أو مطلق الظن؟ أقوال قد عرفت
نسبة الشهيد الثاني الأول إلى المحقق ولكنها غير تامة وقد قال رحمه
الله في آخر المسألة: وسيأتي رجوع المصنف عن الجزم باعتبار
العلم إلى الاكتفاء بمتاخمه على تردد فيه وعلى القولين الآخرين
يكون الخبر المستفيض من أخبار الآحاد، ويؤيد ذلك قول الأصحاب
في الكتب الفقهية: هذا الخبر مستفيض بل متواتر.
107

يحصل اليقين "، ولكن الذي يقوى في النظر أنه قد تطرق إلى هذا
الحيث على فرض عدم تحقق الاستفاضة إذ قال قبل ذلك: " ولو
لم يستفض.. أشهد الإمام عليه السلام أو من نصبه الإمام على
ولايته شاهدين.. " فلا يدل كلامه المذكور على أن مراده من
الاستفاضة ما يحصل منه العلم واليقين.
ثم قال في المسالك في بيان وجه كلام المحقق: إن كان المراد
من الاستفاضة ما يوجب العلم فإنها تفيد ذلك لأنها أولى من البينة،
وإن أريد ما يفيد الظن فهو حجة في كل مورد لا طريق إلى إقامة البينة
عليه ولا طريق إلى العلم فيه، ففي مثل ذلك قامت السيرة على الاعتماد
على الاستفاضة..
والشيخ " قده " ذكر في المبسوط ثبوت ذلك بالاستفاضة، ثم
استدل لحجية الاستفاضة في مورد آخر بالأخبار، وذلك يدل على
أن مراده من الاستفاضة ما يفيد الظن وإلا لم يستدل بالأخبار.
وصاحب الجواهر تمسك بالسيرة والأخبار لحجية الاستفاضة
بغض النظر عن إفادتها للعلم أو الظن، فظاهر كلامه " قده " أنها حجة
عند العقلاء مطلقا.
ومما استدل به فيها: مرسلة يونس عن بعض رجاله عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: " سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق
أيحل للقاضي أن يقضي بقول البينة إذا لم يعرفهم من غير مسألة؟
فقال: خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم:
108

الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات، فإذا كان
ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه " 1).
قال المجلسي والكاشاني " قدمهما " في شرحه: إن المستفاد من
الخبر الحكم بظاهر دعوى متولي الأمر وأنه لا يجب الفحص عن باطن
الأمر، فإذا ادعى الولاية وتولى الأمر فلا يجب السؤال عن باطنه.
قال أحدهما: المدعي للتزويج يقبل منه، وكذا القصاب بالنسبة
إلى الذبيحة فلا يسأل عن باطن اللحم، والشاهد كذلك فإنه يحكم
بحسب ظاهره ولا يسأل عن باطن حاله، فكأن جواب الإمام
عليه السلام في خصوص الشاهد: إنه يحكم بحسب ظاهر الأمر ولا حاجة
إلى السؤال عن باطن الشاهد وحقيقة حاله إن كان ظاهره ظاهرا
مأمونا.
أقول: لكن هذا المعنى لا يساعده لفظ الرواية، ففي الرواية:
" فإذا كان ظاهره " وهو ضمير مفرد لا يصح عوده إلى الشهادات
والبينة، إلا أن يجعل مرجعه أحد الفردين أو الأفراد وهو خلاف
الظاهر.
وجعل صاحب الجواهر مرجع الضمير " الحال " و " المطلب "
أي: فإذا كان ظاهر المطلب ظاهرا مأمونا. فتكون الرواية واردة في
مورد الشياع، وأما على ما ذكراه فتكون أجنبية عن محل الكلام،

1) وسائل الشيعة: 18 / 212. وقد روي هذا الخبر مع اختلاف
في بعض ألفاظه.
109

لكن ما ذكره في الجواهر مشكل أيضا.
وفي الرواية احتمالات أخرى، والحاصل إنه لا دلالة تامة لها
على الحكم 1).
ومما استدل به منها: صحيحة حريز قال: " كانت لإسماعيل
ابن أبي عبد الله عليه السلام دنانير وأراد رجل من قريش أن يخرج
إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبه إن فلانا يريد الخروج إلى اليمن

1) أي لاجمال لفظ الرواية. وأما سندا فهي مرسلة، إلا أن
" يونس " فيها هو يونس بن عبد الرحمن كما جاء في الوسائل عن
الصدوق، ويونس بن عبد الرحمن من أصحاب الاجماع، فتكون
الرواية معتبرة بناءا على تصحيح ما يصح عن أحدهم. لكن راويها
عن يونس هو " محمد بن عيسى " وهو: ابن عبيد بن يقطين أبو
جعفر العبيدي الأسدي الرواية عن يونس حتى قيل له " اليونسي "
نسبة إليه. وهذا الرجل قد وثقه النجاشي قائلا: جليل من أصحابنا
ثقة عين كثير الرواية حسن التصانيف. وضعفه الشيخ قائلا: ضعيف
استثناه أبو جعفر ابن بابويه من رجال نوادر الحكمة وقال: لا أروي
ما يختص بروايته، وقيل: إنه يذهب مذهب الغلاة.
إلا أنه قد تقرر تقدم رأي النجاشي على رأي الشيخ عند التعارض،
ولا سيما وأن الظاهر هنا كون سبب تضعيف الشيخ ما ذكره عن
الصدوق تبعا لشيخه ابن الوليد، على أنه قد تقرر أيضا اعتبار خبر
الثقة وإن كان فاسد المذهب.
110

وعندي كذا وكذا دينارا، أفترى أن أدفعها يبتاع لي بها بضاعة من
اليمن؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا بني أما بلغك أنه يشرب الخمر؟
فقال إسماعيل: هكذا يقول الناس: فقال: يا بني لا تفعل.
فعصى أباه ودفع إليه دنانيره، فاستهلكها ولم يأت بشئ منها،
فخرج إسماعيل، وقضي أن أبا عبد الله عليه السلام حج، وحج إسماعيل
تلك السنة فجعل يطوف البيت وهو يقول: اللهم أجرني وأخلف
علي. فلحقه أبو عبد الله عليه السلام فهمزه بيده من خلفه وقال له:
مه يا بني. فلا والله ما لك على الله هذا ولا لك أن يأجرك ولا يخلف
عليك وقد بلغك أنه يشرب الخمر فائتمنته.
فقال إسماعيل: يا أبه إني لم أره يشرب الخمر إنما سمعت
الناس يقولون.
فقال: يا بني إن الله عز وجل يقول في كتابه " يؤمن بالله ويؤمن
للمؤمنين " يقول: يصدق لله ويصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك
المؤمنون فصدقهم ولا تأتمن شارب الخمر فإن الله تعالى يقول " ولا
تؤتوا السفهاء أموالكم " فأي سفيه أسفه من شارب الخمر، إن شارب
الخمر لا يزوج إذا خطب ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة، فمن
ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره
ولا يخلف عليه " 1).

1) وسائل الشيعة: 13 / 230. رواها الكليني عن علي بن
إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد بن عيسى عن حريز.
وهي صحيحة أو حسنة بإبراهيم بن هاشم.
111

فإنها صريحة في اعتبار الشياع بين الناس وترتيب الأثر عليه
بأن لا يأتي الانسان بما يخالف مقتضاه، ولكن لو كان هذا الشياع
كالبينة في الحجية للزم اجراء الحد عليه وهو خلاف الاجماع بل
الضرورة.
فمراد الإمام عليه السلام هو الاحتياط من هكذا شخص وإن
لا يسلم الانسان ماله ولا يأتمن أحدا على شئ إلا بعد الوثوق بدينه
وأمانته، بل الشياع لا يقتضي التفسيق، والغالب في الشياعات عدم
الاستناد إلى الحسن، فإن الحكم بفسق من شاع عنه أنه يشرب الخمر
واجراء حد شرب الخمر عليه بالاستناد إليه غير جائز. نعم ترك
تزويجه في محله، لأنه محل شبهة وإن لم يكن العقد لشارب الخمر
باطلا.
وبالجملة: إن أفاد الشياع العلم أو الاطمينان العقلائي - وهو
الذي يعبرون عنه بالعلم ويرتبون عليه أثره أو يجعلونه موضوعا -
فهو وإلا فليس بحجة إلا أن تقوم السيرة على جعل الشياع كخبر
الواحد في ترتيب أثره عليه، ولا يبعد تحقق هذه السيرة عند عموم
الناس - ما عدا المحتاطين منهم - ولكن في اتصالها بزمن المعصوم
وامضائه لها تأمل.
أمور أخرى تثبت بالاستفاضة:
قال المحقق: " وكذا يثبت بالاستفاضة النسب والملك المطلق
والموت والنكاح والوقف والعتق ".
112

أقول: يكفي في ثبوت النسب - كما لو شك في كون زيد
هاشميا مثلا - شياع ذلك في بلده حيث لا طريق آخر إلى اثباته،
وكذا الأمر في الوقف، فلو شاع أن القرية الفلانية موقوفة للجهة
الكذائية كفى ذلك في ثبوت الوقف حيث لا طريق مفيدا للعلم بذلك،
وكذا الموت، فإنه قد يشهد بذلك شاهدان عادلان أو يحصل العلم
الوجداني بالموت، وأما مع عدمهما كالموت في السفر - مثلا - فلا
فلا طريق إلى الثبوت إلا الشياع، فتقسم الأموال وتترتب الآثار..
وكذا الأمر في الملك المطلق، فإنه لا طريق إلى اثباته إلا بالأخذ
بالشياع، لأن تواطئ الناس على ذلك محال عادة، وكذا النكاح
والعتق.
والدليل على كفاية الاستفاضة في ثبوت هذه الأمور هو السيرة،
- كما أنها الدليل المعتمد عليه في حجية خبر الواحد - فإن أهل
العرف يرتبون الأثر في مثل هذه الأمور على الاستفاضة فيها لأنها
مفيدة للوثوق النوعي عندهم.
أقول: ونفس إقامة الدليل على الاعتماد على الاستفاضة دليل
على أنهم لا يريدون من الاستفاضة ما يفيد العلم أو الاطمينان المتاخم
له، وإلا فنفس حصول العلم أو الاطمينان دليل.
وفي المسالك: الاستفاضة المفيدة للعلم دليل حجيتها هو العلم،
والمفيدة للظن دليل حجيتها السيرة، ولكن السيرة لا تتحقق إلا في
موارد مخصوصة ومنها الولاية على القضاء، لأنه لولا الاستناد إليها
يلزم العسر والحرج لعدم امكان إقامة البينة
113

وعن بعضهم دليل آخر على حجية الاستفاضة وهو: إن الحجة
لا تقام عند الحاكم وإلا لزم الدور، مثاله: إذا كان في البلد قاض
وقد نصب الحاكم قاضيا آخر ولم يعتبر الشياع ولا البينة إلا بحكم
وتوقف قبول البينة على ولاية الثاني على الحكم، فإن كان الحاكم
بثبوت ولاية الثاني هو القاضي الأول فإن المفروض سبق عزله ثبوت
ولاية القاضي الجديد بناءا على القول بسقوط ولايته بمجرد نصب
الثاني فلا ينفذ حكمه، وكذلك الأمر بناءا على القول بانعزاله ببلوغه
خبر نصب الثاني لأنه مع وصول الخبر ينعزل فلو أراد أن يحكم لم
ينفذ حكمه بولاية الثاني. وإن كان الحاكم بثبوت الولاية هو القاضي
الثاني نفسه فإن ثبوت ولايته يتوقف على حكمه وحكمه يتوقف على
ثبوت ولايته، وهذا دور ظاهر.
أقول: هذا يتم فيما إذا لم يكن هناك قاض آخر غير الأول
المعزول أو لم يكن في بلد آخر قاض يمكنهم الرجوع إليه لأجل
الحكم.
وقال في المسالك: " وهذا يتم على القول بعدم جواز تعليق العزل
على شرط وقد جوزه العلامة في القواعد ".
أقول: لكن فيه: إنه لا يوافق قواعد الأصحاب وقد حكموا
ببطلان الوكالة المعلقة، أي: لا يصح تعليق الوكالة على شرط ولا بد
من كونها منجزة، فإذا كان التعليق مبطلا لها مع كونها من العقود
الإذنية فإن ابطاله للولاية التي ليست منها يكون بطريق أولى.
114

وقيل بالفرق بين الولاية والوكالة لأن الوكالة من العقود. فلا بد
لها من الصيغة الممتنع فيها التعليق شرعا والولاية ليست من العقود
بل هو جعل للمنصب نظير جعل الوجوب والحرمة، فيجوز في
الولاية ما لا يجوز في الوكالة، فيجوز أن يكون الأول معزولا عن الولاية
في ظرف ثبوت ولاية الثاني، فحينئذ يحكم بولاية الثاني وينعزل
هو عن القضاء.
وهذه بحوث علمية بحتة ليست محلا للابتلاء فعلا، نعم يجري
البحث لو قلنا بقبول القضاء للوكالة كأن الثاني ويرسله إلى
البلد، فإنه بوصوله إليه ينعزل الأول، ومن البحوث العلمية قول
المحقق: " ولو لم يستفض إما لبعد موضع ولايته عن موضع
عقد القضاء له أو لغيره من الأسباب أشهد الإمام عليه السلام أو من
نصبه الإمام على ولايته شاهدين بصورة ما عهد إليه و سيرهما معه
ليشهدا له بالولاية ".
وكيف كان: " لا يجب على أهل الولاية قبول دعواه مع عدم
البينة وإن شهدت له الأمارات ما لم يحصل اليقين ".
115

المسألة السابعة
في جواز نصب قاضيين في البلد الواحد
قال المحقق: " يجوز نصب قاضيين في البلد الواحد لكل
منهما جهة على انفراده ".
أقول: لا ريب في جواز نصب قاضيين في البلد الواحد على
أن يكون لكل منهما جهة على انفراده، كجعل أحدهما قاضيا في الأموال
والآخر في الدماء والفروج ونحو ذلك.
قال: " وهل يجوز التشريك بينهما في الجهة الواحدة؟.. ".
أقول: وهل يجوز التشريك بينهما في الولاية الواحدة؟
قولان، اختار المحقق " قده " الجواز، والصحيح: المنع، لأن
الولاية من الأمور ذات الإضافة فلا يمكن التشريك فيها، إلا أن يراد
من التشريك إناطة نفوذ حكم أحدهما بموافقة الآخر..
ومع التعدد فحيث أن كل واحد منهما جعله الشارع قاضيا
116

بالاستقلال وليس نفوذ حكمه مشروطا - في زمن الغيبة - بموافقة
الآخر وامضاء حكمه كان النافذ حكم السابق منهما في الحكم في
الواقعة، فلا يجوز للآخر نقضه - إلا مع طلب المترافعين أو العلم
بالاشتباه في الحكم - كما هو الحال في اجراء العقد للصبي من قبل
كل من الأب والجد..
لو اختلف المترافعان في تعيين القاضي:
فإن اختلف المترافعان في تعيين القاضي فهل يلزم المنكر بالترافع
عند من شاء المدعي الترافع عنده؟ قيل: نعم وادعي عليه الاجماع،
لأن المدعي هو صاحب الحق. وفيه نظر وفاقا للسيد صاحب العروة
" قده "، إذ ليس للمدعي الحق لا على القاضي - لأنه لو كان ذا حق
لجاز له اسقاطه والحال إن نظر القاضي في المرافعة حكم واجب
- ولا على المدعي عليه لأنه ما لم يثبت صدق دعواه بحسب القواعد
لم يثبت الحق وإن أمكن ثبوته في علم الله سبحانه.
على أنه لو كان من حق فهو للمترافعين معا، فإن للمدعى عليه
الترافع عند من شاء من القاضيين حتى يخلصه من دعوى المدعي
وكذا احضاره عنده ليثبت عدم صدق دعواه، وحينئذ قالوا: يرجع
إلى القرعة لتعيين القاضي لأنها المرجع عند التداعي كما سيأتي.
فتحصل سقوط هذا الوجه لتقديم قول المدعي ويبقى الاجماع
إن كان، وإلا فالقرعة هي المرجع أيضا.
وأما في صورة التداعي بأن يكون كل منهما مدعيا ومنكرا، كأن
117

يدعي أحدهما البيع فيثبت لنفسه الخيار والآخر الصلح فلا خيار،
فإن توافقا على الترافع عند أحد الحاكمين فهو، وإن سبق أحدهما
إلى الحاكم نفذ حكمه بناءا على نفوذ الحكم الغيابي، وإن رجع
كل واحد من المترافعين إلى واحد من الحاكمين وحكم كل منهما
غيابا قال الأكثر بالقرعة لأن أحد الحكمين المتنافيين مطابق للواقع
فيعين بها، لكن مقتضى القاعدة بطلان الحكمين معا، لأنه إن أريد
بالقرعة العثور على الواقع كترافع الرجلين على مال في يد ثالث
فيقترع فهو، ولكن في المورد حيث مقدمات الحكم في كلا الطرفين
تامة ويراد ترتيب الأثر على كل واحد باعتباره حكما مطابقا للواقع
كان الحكمان متضادين ومقتضى القاعدة سقوطهما، لكن لم أجد
من أفتى بذلك.
وتفصيل المسألة: أنه إذا حكم كل من الحاكمين لكل من
المتخاصمين بنحو التقارن فالوجه سقوط الحكمين، وإنما يتصور
ذلك في الحكم الغيابي، والحكم الغيابي يتصور في حالين:
الأول: أن يحضر أحد المترافعين عند الحاكم فيرسل الحاكم
خلف الآخر فتارة يمتنع عن الترافع عند هذا الحاكم وأخرى يمتنع
عنه مطلقا، فإن أبى عن الحضور مطلقا طلب الحاكم من المدعي
الشهود ثم يحكم حكما غيابيا على الخصم وينفذ هذا الحكم في
حقه بلا كلام، وإن أبى عن الحضور عند هذا الحاكم مع الموافقة
على الترافع عند غيره فهل يسمع كلامه أو لا فيحكم عليه غيابا؟
الصحيح: أنه لا وجه لالزامه بل يرجع إلى القرعة.
118

الثاني: أن يكون الحكم غيابيا بالنسبة إليهما ما (بأن يكون
أحدهما في بلد والآخر في بلد آخر، فيرجع كل منهما إلى حاكم بلده
- بعد عدم اجتماعهما في بلد واحد للمرافعة لجهة من الجهات -
فيحكم كل واحد من الحاكمين حكما غيابيا على الخصم الآخر)
فأي الحكمين النافذ؟
إن علم الأسبق منهما زمانا فهو المقدم، ومع عدمه فالقرعة هي
الطريق لتعيين الحكم السابق النافذ، ومع العلم بوقوعهما في زمان
واحد فمقتضى القاعدة سقوطهما، لأنهما كالسببين المتمانعين،
وبعبارة أخرى: هما حكمان لموضوع واحد ودليل اعتبارهما واحد
فحيث لا يمكن اجتماعهما يسقطان.
وقيل: إنهما كالخبرين المتعارضين فيحكم بالتخيير.
قلت: إنما يحكم بالتخيير بين الخبرين المتعارضين في صورة
الامكان لا في كل خبرين متعارضين، وفيما نحن فيه لو كان مقتضى
أحد الحكمين كون المال المتنازع فيه لزيد ومقتضى الآخر كونه
لعمرو كيف يحكم بالتخيير؟
قال السيد " قده ": إن أدلة نفوذ حكم الحاكم منصرفة عن
مورد التعارض بين الحكمين، فدليل اعتبار الحكم لا يشمله.
قلت: إذا كان كذلك ارتفع فرض التعارض في كل مورد،
على أنه لو قيل بحجية حكم الحاكم في صورة عدم وجود حكم
معارض كان لازمه جعل حال الحكم قيدا للموضوع وهو محال.
119

واحتمل السيد الرجوع إلى حاكم ثالث فيكون حكمه رافعا
للنزاع.
قلت: وهل يجب ذلك أو هما بالخيار فيرجع البحث؟
والصحيح: سقوط الحكمين معا، فإن تراضيا بعدئذ بالترافع
عند حاكم ثالث فهو وإلا فيرجع إلى القرعة لتعيين الحاكم.
ثم إن التداعي يكون تارة في الشبهة الحكمية كأن تعقد البنت
الباكرة العاقلة الرشيدة نفسها لرجل - بناءا على صحته - ويعقدها
الولي لرجل آخر - بناءا على استقلاله في ذلك - فيقع النزاع بين
الرجلين..
وكما لو وقع النزاع في الحبوة بين الولد الأكبر وسائر الورثة
فاختلف الطرفان في الحكم تبعا لمقلديهما - مثلا -.
وأخرى في الشبهة الموضوعية كأن يتنازعا على مال فإن كان
في يد أحدهما كان الآخر مدعيا وصاحب اليد منكرا، فإن أثبت
المدعي ملكيته له فهو، وإلا حلف المنكر على أنه ليس للمدعي
وأبقي في يده، وإن لم يكن لأحدهما يد على المال كان التداعي.
وقد أجرى في المستند هذا التفصيل في الشبهة الحكمية أيضا
والحق وفاقا للسيد " قده " كونهما متداعيين في تلك الشبهة وإن كان
لأحدهما يد، لأن اليد حجة في صورة الجهل بمدركها فيحتمل أن
تكون على وجه صحيح، وأما مع العلم بكون مستند اليد فتوى
المجتهد مثلا فليست بحجه.. فلو كانت المرأة تحت من عقد له
الأب وجاء من يدعي سبق عقد الجد له عليها ووقع النزاع حول
120

الأقدم كان احتمال صحة اليد في محله فيطالب الخصم بالبينة فإن
جاء بها وإلا حلف صاحب اليد وبقيت تحته، ففي هذه الصورة
حيث النزاع على الأسبقية وليس المنشأ هو الاختلاف في الحكم
يحتمل صحة اليد وكان من قبيل المدعي والمنكر لا المتداعيين.
121

المسألة الثامنة
فيما يتعلق بانعزال القاضي وعزله
قال المحقق " قده ": " إذا حدث به ما يمنع الانعقاد انعزل
وإن لم يشهد الإمام بعزله كالجنون والفسق، ولو حكم لم ينفذ حكمه ".
أقول: إذا فقد القاضي أحد الشروط المعتبرة سقط حكمه
عن الاعتبار ولم ينفذ، لأن أدلة اعتبار الصفات تقتضي وجودها فيه
ابتداءا واستدامة، فلا وجه للاستصحاب لأنه أصل وهو لا يعارض
الأدلة، فإن ارتفع المانع فهل تعود التولية أو لا بد من نصب جديد؟
اختار في المسالك الثاني ووافقه في الجواهر قال: لا تعود بزوال
هذه العوارض للأصل. أقول: والمراد من الأصل إما استصحاب
حال الجنون - مثلا - وإما أن التولية تحتاج إلى دليل وبعد زوال
الجنون فلأصل عدم التولية، فيكون نظير الوكالة إذا جن الوكيل..
والحق: أنه إن نصب شخص الإمام عليه السلام أحدا بخصوصه
122

للقضاء كان حاله حال الوكيل فيما ذكر، وأما إذا كان حكم النصب
كليا سواء في زمن الحضور أو الغيبة كما في معتبرة أبي خديجة
فإنه مع زوال العارض يشمله الحكم الكلي وينفذ حكمه، نظير:
" لا تصل إلا خلف من تثق بدينه "، فلو حدث في إمام الجماعة فسق
لم تجز الصلاة خلفه، فإن تاب وعاد جاز الائتمام به لقوله " ع " " صل "
لأن معناه: جواز الصلاة خلفه في كل زمان حصل الوثوق بدينه
وعدالته.. ولعل كلمات الأصحاب ناظرة إلى المنصوب من قبل
الإمام " ع " بشخصه، وهذا جار في المنصوب من قبل المجتهد
أيضا بناء على أن له ذلك.
هذا كله في الانعزال القهري، فإن القاضي ينعزل بحدوث ما
يمنع انعقاد القضاء له وإن لم يعلم الإمام عليه السلام بذلك لأنهم إذا
شاءوا علموا..
وربما فرق بين ما إذا كان العارض سريع الزوال كالاغماء وبين
غيره كالجنون فتعود في الأول قياسا على السهو والنسيان دون الثاني.
أقول: وفيه أنه يشترط في القاضي العقل، وأن زواله يوجب
العزل سواء كان بالاغماء أو الجنون، إذ لا أثر لقلة زمان الزوال
حتى يفرق بين الاغماء والجنون، وأما في حال النوم والسهو
والنسيان ونحو ذلك فلا يزول العقل، فهو قياس مع الفارق.
قال المحقق " قده ": " وهل يجوز أن يعزل اقتراحا؟ الوجه
لا، لأن ولايته استقرت شرعا فلا تزول تشهيا ".
123

أقول: إن كان في العزل مصلحة فلا اشكال في جوازه، ومورد
البحث ما إذا أراد عزله لا لمصلحة بل تشهيا، وقد استدل المحقق
" قده " للعدم بما سمعت لكنه مصادرة محضة. وقيل: لأنه عبث والإمام
عليه السلام لا يفعله، وفيه: أنه إن عزله فلا يكون عبثا، وقيل: إنه
يعرض بذلك للقدح من ليس بمقدوح فيه، وفيه: إن عزله مع رفع
هذه الشبهة فلا اشكال، على أن لزوم ذلك أمر ثانوي، والعنوان
الثانوي قد يحصل حتى من النصب، فقد ينصب الحاكم للقضاء
ويترتب على ذلك المفسدة، فلا بد من البحث في جهة أخرى وهي
أنه هل يجوز عزل القاضي عن القضاء أو لا؟
لقد ذكرنا سابقا أن الولاية على القضاء أمر اعتباري عرفي قابل
للجعل كالزوجية والملكية ونحوهما، فهي موجودة بين أهل العرف
وقد جعل الشارع هذه الولاية للنبي والإمام عليهما الصلاة والسلام
ثم رخص المجتهد في ذلك أيضا، فهل يستفاد من نفس التمكن من
الجعل التمكن من العزل كذلك؟ أما بالنسبة إلى الإمام عليه السلام
فلا ريب في انعزال من يعزله، وأما بالنسبة إلى المجتهد فهذا مشكل
بل لا بد من دليل آخر، كما ليس لحاكم الشرع عزل من جعله
متوليا على وقف أو نصبه وليا على أمر من الأمور من غير سبب
يقتضي ذلك شرعا، إلا أن يدعى النيابة العامة للمجتهد بأن يكون
له فعل كل ما فعله الإمام عليه السلام.. وهذا يتوقف بالإضافة إلى
اثبات ذلك من ناحية الأدلة على اثبات فعل الإمام عليه السلام ذلك،
124

إلا أن يقال بأن أمير المؤمنين عليه السلام كان قد نصب وعزل بعض
القضاة، ولكن هذا يحتاج إلى الاثبات، فلعله أرجع القاضي من
ذاك البلد ليرسله إلى بلد آخر.
وكيف كان فيحتاج إلى دليل آخر غير ما دل على جواز
النصب.
نعم كل شئ يتوقف على الإذن - لا الجعل - جاز الرجوع
فيه عن الإذن.
ولو عين الواقف أحدا للتولية على الوقف فليس له عزله عن
التولية، لأن ذلك كالرجوع عن الوقف وقد ثبت أن الوقوف على
ما يوقفها أهلها، على أن بعض الفقهاء يفتون بعدم جواز عزله حتى
مع الخيانة، قالوا: بل يجب حينئذ ضم أحد إليه. وهذا كله مما
يشهد بأن جواز الجعل بوحده لا يكفي للدلالة على جواز العزل.
هذا وليس من شأننا البحث عن حكم الإمام عليه السلام لثبوت
عصمته، على أن نفس إرادة الإمام مرجحة، إذ لا يتصور التوقف
له في مورد التعارض بين طرفي الفعل والترك، ولا يشترط أن يكون
لفعله مرجح، بل يكفي عدم المرجوحية للفعل.
وعلى فرض جواز العزل فهل ينعزل القاضي بمجرد العزل أو
بعد بلوغ الخبر إليه كالوكيل؟ قال في المسالك: قولان أظهرهما
الثاني لعظم الضرر في رد قضيته بعد العزل وقبل بلوغ الخبر فيكون
الحكم فيه أولى من الوكيل.
125

وفي الأول: إن الضرر اللازم كما يمكن أن يكون متوجها
إلى من كان له الحق كذلك يحتمل أن يتوجه إلى مدعي الباطل منهما
ودليل " لا ضرر " لا ينفي مثل هذا الضرر، فيكون المورد شبهة
مصداقية له فلا يجوز التمسك به، فيكون حكم هذا القاضي حينئذ
نظير حكم من حكم بتوهم كونه منصوبا لذلك من قبل الإمام ثم بان
له أنه لم يكن له ذلك فإن حكمه باطل، وكذا من باع مال غيره
متخيلا أنه وكيله ثم ظهر العدم.
وفي الثاني: إن الأولوية ممنوعة، إلا أن يقال بأن الولاية على
القضاء وكالة مع زيادة السلطنة أو يصحح ذلك بتنقيح المناط.
وبما ذكرنا ظهر أنه لا مجال للتمسك باستصحاب بقاء نفوذ
الحكم.
قالوا: هذا إذا عزل القاضي لفظا أو كتب إليه: أنت معزول
- مثلا - وأما إذا كتب إليه: إذا قرأت كتابي فأنت معزول ففيه فروع
منها: أنه لا ينعزل إلا بعد قراءة الكتاب سواء وصل إلى يده أو لا
فلو وصل إليه الكتاب وحكم في قضية قبل أن يقرأه نقد حكمه بلا
اشكال. ومنها: أنه لا يشترط قرائته للكتاب مباشرة بل الظاهر أن
المراد فهمه بما فيه ولو بقراءة غيره له، ومنها: أنه هل يشترط قراءة
الكتاب كله أو يكفي العلم بحاصل المراد؟ وتظهر الفائدة فيما لو
ذهب بعض الكتاب أو تعذر عليه قراءته..
قال في الجواهر إن هذه احتمالات باردة أطنب فيها العامة
126

في كتبهم لغرض صيرورة الكتاب ضخما.
قلت: ويمكن أن تثمر هذه الفروع في الإجازات والوكالات
التي يكتبها الفقهاء للأشخاص.. ولكنها قليلة الجدوى.
127

المسألة التاسعة
هل ينعزل القاضي بموت الإمام؟
قال المحقق " قده ": " إذا مات الإمام عليه السلام قال الشيخ:
الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع. وقال في المبسوط:
لا ينعزلون، لأن ولايتهم ثبتت شرعا فلا تزول بموته. والأول أشبه ".
أقول: علل في المسالك القول الأول بقوله: لأنهم نوابه
وولايتهم فرع ولايته فإذا زال الأصل زال الفرع، ووافقه في الجواهر
فيه وأضاف: فإن أمر كل عصر إلى إمام ذلك العصر. أي: إن قضاة
ذلك العصر ينعزلون بموته ثم ينصبهم الإمام اللاحق مرة أخرى أو
ينصب غيرهم.
واستدل للقول الثاني: بأن ولاية القضاة قد ثبتت شرعا فلا تزول
بموت الإمام ومع الشك تستصحب، وقد أيد ذلك في الجواهر
وغيره بما في الانعزال من الضرر العام للخلق بخلو البلدان من
128

الحكام إلى أن يجدد الإمام اللاحق نوابا فتعطل الأحكام.
والصحيح أن يقال: إن كل فرد من الناس إذا وكل أحدا أو
أنابه أو أذن له في شؤونه الخاصة والأمور التي بيده فإنه إذا مات
ينعزل الوكيل والنائب والمأذون بلا كلام، من غير فرق في ذلك
بين الإمام وغيره، فإن كان القضاء كذلك بمعنى أن يكون أمر القضاء
للإمام وأن القاضي ينوب عنه في القضاء أو يقوم بذلك وكالة عنه
انعزل القضاة بموته، لأن من قواعد المذهب انعزال الوكيل والنائب
بموت الموكل والمنوب عنه.
وإن كان القضاء نظير نصب المتولي على الموقوفة أو الولاية
على الصغار فلا ينعزل بموت من نصبه، لأنه يقوم بالأمر بعنوان
السلطنة لا بعنوان الوكالة والإذن.
وبما ذكرنا يظهر الحال في التمسك بالاستصحاب لعدم انعزالهم
بموت الإمام، لأن ولايتهم إن كانت من باب الوكالة فقد بطلت،
وإن كانت من باب الولاية فلا شك في بقائها حتى تستصحب، بل
لو شك يستصحب عدم جعل الولاية، ولا يعارضه استصحاب عدم
كونه وكالة لعدم الأثر.
ويمكن تقريب الاستدلال بأن يقال: إن الولاية قد يكون جعلها
مقيدا بزمان حياة الإمام فلا ريب في انقطاعها بالموت، وقد يكون
غير مقيد بذلك فهي مطلقة ولا ريب في بقائها بعد موت الإمام، ومع
الشك في كونها مقيدة أو مطلقة يستصحب كلي الولاية فلا ينعزل
129

القاضي بموته وينفذ حكمه.
ولكن يشكل بأنه يبتني على القول بجريان الاستصحاب مع
الشك في المقتضي.
ويمكن أن يكون المستصحب عدم وجود القيد في الولاية،
وليس هذا الاستصحاب مثبتا لخفاء الواسطة، وحينئذ يسند بقاء
الولاية المطلقة إلى الشارع.
وأما استصحاب نفوذ الحكم، ففيه: إن استصحاب الحكم مع
الشك في تحقق موضوعه غير جائز، كما لا يجوز استصحاب قيام
قيام زيد مع الشك في وجوده.
وأما استدلالهم بلزوم الضرر العام بالانعزال، فيرد عليه: إن
لزوم الضرر لا يفيد لاثبات عدم الانعزال، فلو أن ماء حكم بطهارته
الظاهرية بالاستصحاب وتوضأ به مدة من الزمن وغسلت به الثياب
ونحو ذلك ثم انكشف الخلاف لم يكن الضرر العظيم المترتب
على ذلك موجبا للقول بعدم نجاسة الماء.
إلا أن يقال بأن لزوم الضرر يقتضي القول بعدم سقوط أحكام
هؤلاء القضاة، وأما أصل ولايتهم على الحكم فلا تثبته قاعدة نفي
الضرر لأنه أمر تكويني.
قال في المسالك: " والأظهر هو الأول، وقد يقدح هذا في
ولاية الفقيه حال الغيبة وأن الإمام الذي قد جعله قاضيا وحاكما قد
مات، فيجري في حكمه ذلك الخلاف المذكور، إلا أن الأصحاب
130

مطبقون على استمرار تلك التولية، فإنها ليست كالتولية الخاصة بل
حكم بمضمون ذلك، فاعلامه بكونه من أهل الولاية على ذلك
كاعلامه بكون العدل مقبول الشهادة وذي اليد مقبول الخبر وغير
ذلك وفيه بحث ".
قلت: وهو خلاف ظاهر المعتبرة حيث قال عليه السلام فإني
جعلته حاكما " ولم يقل: فحكمه نافذ - مثلا - فلو كان حكما إلهيا
لم يكن متوقفا على جعل من الإمام، بل ظاهر الرواية أن الحكومة
لغير النبي والإمام متوقفة على الجعل وهو بيد الإمام " ع "، فيكون
الحاصل: إن من كان معنونا بتلك العناوين مجعول وليا من قبل
الإمام، وليس هذا الجعل مقيدا بزمان حياته، بل هو نظير جعل
التولية على المسجد لإمام الجماعة من قبل الواقف، فليس من شك
حتى يستصحب. وأما كون المسألة نظير الوكالة أو الحكم فكل
ذلك خلاف الظاهر.
وبالجملة: إن كان توليهم للقضاء مستندا إلى النيابة من ناحية الإمام
أو إلى الوكالة عنه كانت ولايتهم فرع ولاية الإمام وبموته ينعزلون،
وإن كان جعلا من قبله وسلطنة لهم على الحكم فلا ينعزلون بموت
الإمام.
فالحق في المسألة ما ذكرناه 1).

1) من الخلاف فيها على كيفية الاستظهار من أدلة الإذن،
ومقتضى استظهار الجعل غير المقيد بزمن الحياة من معتبرة أبي
خديجة ونحوها من تلك الأدلة هو اختيار القول بعدم الانعزال بموت
الإمام، وهذا البحث يختص بزمان الحضور، ولذا جعل في المسالك
القول بالانعزال قادحا في ولاية الفقيه الذي قد مات الإمام الذي
جعله قاضيا وحاكما وغاب الإمام المتأخر عنه، لأن المفروض هو
الانعزال بموت السابق وعدم النصب المجدد من اللاحق لغيابه، لكن
المحقق والجماعة جعلوا المعتبرة من أدلة النفوذ في زمن الغيبة
كما تقدم.
131

لو مات القاضي الأصلي فهل ينعزل النائب عنه؟
ثم قال المحقق " قده ": " ولو مات القاضي الأصلي لم ينعزل
النائب عنه لأن الاستنابة مشروطة بإذن الإمام عليه السلام فالنائب
عنه كالنائب عن الإمام فلا ينعزل بموت الواسطة. والقول بانعزاله
أشبه ".
أقول: لو أذن الإمام للقاضي الأصلي في نصب القضاة بأن
يكونوا وكلاء عن الإمام أو يكونوا نوابه أو مأذونين من قبله في الحكم
لم ينعزلوا بموت القاضي الأصلي لكونه واسطة في النصب فحسب
وهذا واضح، ولو كان ذلك من قبل نفسه لا الإمام فلا ريب في انعزالهم
بموته، وهذا واضح أيضا، ولو أمره الإمام بانشاء النصب وجعل
الولاية على القضاء فلا ينعزلون لا بموته ولا بموت الإمام لما تقدم
في الفرع السابق.
132

هذا كله في مقام الثبوت.
وفي مقام الاثبات: إن علم الأمر من الإمام عليه السلام أو بالقرائن
الحافة بالكلام فلا بحث، وإن شك في كيفية الأمر وفي نفوذ حكم
القضاة المنصوبين بعد موت القاضي الأصلي فلا مجال لاستصحاب
كلي الوكالة أو النيابة لعدم جريانه مع الشك في المقتضي، مضافا
إلى أنه مسبب عن الشك في كون الجعل من قبل الإمام والأصل عدمه
كما أن الأصل عدم جعل الولاية والسلطنة، فلا وجه لنفوذ حكمهم
بعد موت القاضي الأصلي.
وأما في حال الغيبة في ريب في نفوذ قضاء الفقيه الجامع للشرائط
لأن له الولاية على القضاء، فإن قلنا بأنه لا يجوز له نصب غيره
للقضاء فلا كلام، وإن قلنا بأن له ما للإمام جاء فيه التفصيل المذكور
في الفرع السابق.
وأما في الأمور الحسبية فتارة ما يأذن أو يو كل أو ينيب من يثق به
فيها فإن أعماله نافذة ما دام الفقيه الناصب له حيا وينعزل بموته البتة
وأخرى يجعل الولاية له بالاستقلال فلا ينعزل بموته.
وأشكل المحقق الآشتياني في أن يكون للفقيه ما للإمام من
التصرف في الأمور المستقبلة لعدم الدليل على ذلك. وفيه: إن هذا
صحيح ولكن الفقيه يجعل الولاية في حال حياته ثم تبقى بعد موته
حتى يحدث ما يزيلها أو يموت - نظير علقة الزوجية التي لا تزول
بموت العاقدين - لأن ذات الولاية المجعولة قابلة للبقاء بمجرد
انشائها حتى يقوم الدليل على زوالها.
133

وهل للنائب أو الوكيل جعل الولاية الخاصة لثالث؟ الظاهر: لا،
لأن غرض الشارع في الأمور الحسبية يتحقق بالإذن. وتظهر الفائدة
في أنه مع الجعل لا يمكن العزل. وقد تدعو الضرورة إلى العزل
بخلاف الإذن، فلذا يكون التصرف بنحو الإذن حتى يتمكن
من ذلك.
134

المسألة العاشرة
هل تنعقد الولاية لفاقد الشرائط لو نصبه الإمام مصلحة؟
قال المحقق: " إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط
انعقدت ولايته مراعاة للمصلحة في نظر الإمام عليه السلام كما اتفق
لبعض القضاة في زمن علي عليه السلام. وربما منع من ذلك.. ".
أقول: اختلف الأصحاب في المسألة على قولين، ومنشأ الخلاف
أن أمير المؤمنين عليه السلام نصب شريحا للقضاء مع أنه لم يكن
جامعا للشرائط المعتبرة في القاضي، فالمستفاد من بعض الروايات
أنه لم يكن عالما حتى بأحكام القضاء، كما أنه لم يكن عادلا كما هو
واضح، فيدور الأمر في الحقيقة بين رفع اليد عن بعض الشرائط
في حال تولية الإمام أو حمل فعل الإمام على بعض الوجوه، وقد
حمل بعضهم نصب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام شريحا على
التقية، لأنه كان منصوبا من قبل في الكوفة، فلو عزله عليه السلام
135

لخالف القوم كما وقع بالنسبة إلى بعض الأمور التي أراد عليه السلام
تغييرها أو رفعها كصلاة التراويح حيث ارتفعت أصوات القوم وجعلوا
ينادون " واعمراه ".
وقيل: إن الأئمة عليهم السلام مهما كانوا في تقية وشدة لم يكونوا
يتقون في أمر القضاء، وكانوا ينهون عن التحاكم إلى قضاة الجور
والمخالفين، فكيف بنصب القاضي الجائر؟ على أن أمير المؤمنين
عليه السلام لو كان في حال تقية لما عزل معاوية عن الشام.
أقول: أما النقض بعزل معاوية فغير تام، لأن معاوية لم يبايع
الإمام مع بيعة سائر المسلمين والولاة له، وأما شريح فإن الإمام لم
يوله ولم يتمكن من عزله حتى خاطبه قائلا: " يا شريح جلست
مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي ".
وقيل: إن الإمام لم يفوض إليه أمر القضاء، بل شاركه فيما
ينفذه. وهذا هو المستفاد من الروايات، وهو أحسن الوجوه في
المسألة.
وقيل: إنه كان يحكم ولكن لا يترتب على حكمه أثر. وهو
خلاف الظاهر.
وفي المسالك: المروي من حال شريح معه عليه السلام خلاف
ذلك وفي حديث الدرع الغلول ما يرشد إلى ما ذكرناه.
أقول: ولنذكر بعض الروايات التي أشرنا إليها، ثم حديث
الدرع:
منها - ما عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
136

" لما ولى أمير المؤمنين عليه السلام شريحا القضاء اشترط عليه أن
لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه " 1).
ومنها - ما رواه المشايخ الثلاثة عن سلمة بن كهيل قال: سمعت
عليا عليه السلام يقول لشريح: " وإياك أن تنفذ قضية في قصاص
أو حد من حدود الله أو حق من حقوق المسلمين حتى تعرض ذلك
علي إن شاء الله.. " 2).
وأما حديث الدرع الغلول فهذا نصه عن الكليني " قده " بسنده
عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: " دخل الحكم بن عتيبة وسلمة بن
كهيل على أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد ويمين. فقال: قضى به
رسول الله صلى الله عليه وآله وقضى به علي عليه السلام عندكم
بالكوفة. فقالا: هذا خلاف القرآن. فقال: وأين وجدتموه خلاف
القرآن؟ قالا: إن الله يقول " وأشهدوا ذوي عدل منكم ". فقال:
قول الله: وأشهدوا ذوي عدل منكم، هو لا تقبلوا شهادة واحد ويمينا!
ثم قال: إن عليا عليه السلام كان قاعدا في مسجد الكوفة، فمر به عبد الله
ابن قفل التميمي ومعه درع طلحة. فقال علي عليه السلام: هذه
درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة. فقال له عبد الله بن قفل: اجعل
بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين. فجعل بينه وبينه شريحا.

1) وسائل الشيعة: 18 / 6.
2) وسائل الشيعة: 18 / 155.
137

فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة.
فقال له شريح: هات على ما تقول بينة. فأتاه بالحسن فشهد أنها
درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة. فقال شريح: هذا شاهد واحد
ولا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر. فدعا قنبر فشهد أنها
درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة. فقال شريح: هذا مملوك
ولا أقضي بشهادة مملوك.
قال: فغضب علي عليه السلام وقال: خذها فإن هذا قضى بجور
ثلاث مرات. قال: فتحول شريح وقال: لا أقضي بين اثنين حتى
تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات؟ فقال له: ويلك - أو
ويحك - إني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة
فقلت: هات على ما تقول بينة وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: حيث ما وجد غلول أخذ بغير بينة. فقلت: رجل لم
يسمع الحديث. فهذه واحدة. ثم أتيتك بالحسن فشهد. فقلت:
هذا واحد ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر وقد قضى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة واحد ويمين، فهذه
ثنتان. ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة
فقلت: هذا مملوك وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا. ثم قال:
ويلك - أو ويحك - إن إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو
أعظم من هذا " 1).

1) وسائل الشيعة: 18 / 194.
138

المسألة الحادية عشر
هل ينفذ حكم من لا تقبل شهادته؟
قال المحقق قده ": " كل من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه
كالولد على الوالد والعبد على مولاه والخصم على خصمه. ويجوز
حكم الأب على والده وله، والأخ على أخيه وله ".
أقول: هذا مذهب الأكثر، بل ادعي عليه الاجماع لكنه غير
معلوم، واستدل على ذلك بأن الحكم شهادة وزيادة، فكل من
لا تقبل شهادته في حق أحد لا ينفذ حكمه فيه، وقد أنكر جماعة كون
الحكم كذلك، فلا مانع من شمول الاطلاقات ونفوذ حكم من ذكر
كالولد على الوالد والعبد على مولاه، وفي أصل قبول هذه الشهادة
أخبار متعارضة سيأتي التعرض لها في محلها إن شاء الله تعالى.
وكذلك حكم الحاكم على خصمه أو له إلا إذا رجع حكمه
إلى الاقرار وهذا بحث آخر، ويدل عليه - مضافا إلى الاجماع
139

المدعى - انصراف الأدلة عن ذلك، بل المتبادر منها الرجوع إلى
الغير، فإن قوله عليه السلام " أنظروا إلى رجل منكم.. فتحاكموا
إليه " ظاهر في وجوب ترافع الخصمين عند من كان واجدا للشرائط
المعتبرة وإن كان أحدهما كذلك.
قال السيد صاحب العروة " قده ": نعم له أن ينقل حقه إلى
غيره ثم يرجع ذلك الغير مع الخصم إليه، فإنه حينئذ ينفذ حكمه
لذلك الغير وإن انتقل إليه بعد ذلك بإقالة أو نحوها..
وهل ينفذ حكمه لمن له عليه ولاية خاصة كالأبوة والوصاية؟
قيل: نعم لأن الحكم ليس لنفسه، وقيل: لا، لأنه هو المنازع في
الحقيقة، واختاره السيد وهو الأظهر.
وأما المولى عليه بالولاية العامة فالصحيح نفوذ حكمه وإلا لم
يرتفع النزاع في هذه الموارد لأن كل قاض ولي الأيتام والمجانين
ونحو ذلك.
وإذا كان للحاكم شركة مع غيره في مال ووقع النزاع فيه
بينهما وبين غيرهما كما إذا تنازع أخوه مع غيره في مال مشترك
بينه وبين أخيه من جهة الإرث فليس للحاكم أن يطالب الغير بالترافع
عند نفسه، لكن لأخيه مطالبته بالترافع عنده، وهل ينفذ حكمه
حينئذ؟ ذكروا أنه إذا حكم لأخيه نفذ في حصة أخيه ولا ينفذ في
حصة نفسه. وهذا فيه بحث، لأنه إذا ثبت كون المال إرثا كان النصف
الآخر للحاكم في الفرض المذكور وإلا لزم التفكيك بين اللازم
والملزوم.
140

وأجاب المحقق النراقي " قده " بأن اللوازم الشرعية ليست
كالعقلية بل هي قابلة للاستثناء.
وفيه: إنه لا يمكن المساعدة عليه، لأن الواقع لا ينقلب عما
هو عليه، لأن هذا المال إن كان لأبيهما واقعا كان الحاكم وأخوه
شريكين فيه، وإن لم يكن له فليس لأحدهما فيه شئ. نعم يمكن
التفكيك في فصل الخصومة بأن ترفع بالنسبة إلى حصة أخيه ويترافع
هو والغير عند حاكم آخر لفصل الخصومة في حصته خاصة.
ولما كانت الملازمة المذكورة بحسب واقع الأمر فإنه يمكن
التفكيك بين السهمين بحسب الظاهر، وذلك في حال الشك في
كون المال إرثا، نظير ما إذا تيقن زيد بتنجس ماء معين وشك عمرو
فيجب على الأول الاجتناب عنه دون الثاني فله البناء على طهارته الظاهرية
فحصل التفكيك في الحكم بينهما مع وجود الملازمة بينهما بحسب
الواقع، لأنه إن كان ظاهرا واقعا جاز لهما شربه، وإن كان متنجسا
واقعا وجب عليهما الاجتناب عنه.
فظهر امكان التفكيك في الحكم الظاهري في حال الشك في
كون ذلك المال إرثا، وأما مع احراز كونه كذلك فلا يمكن التفكيك
بين السهمين.
وقد فرق السيد في مسألة الشركة في صورة كون مورد الدعوى
عينا بين ما إذا كانت الدعوى بعد افراز الحاكم حصته عن حصة
أخيه وبين ما إذا كانت بعده، قال: إذا كان للحاكم شركة مع غيره
141

في مال ووقع النزاع فيه بينهما وبين غيرهما نفذ حكمه في حصة
شريكه لا في حصة نفسه. مثلا: إذا تنازع أخوه مع غيره في مال
مشترك بينه وبين أخيه من طرف الإرث وترافعا إليه فحكم لأخيه
نفذ في حصة أخيه ولا ينفذ في حصة نفسه، ولا يشترك مع أخيه في
تلك الحصة التي ثبتت لأخيه، إلا إذا كانت الدعوى في عين وقد
قسمها أخوه مع ذلك الغير وأفرز حصته، إذ حينئذ يشترك معه في
تلك الحصة لاقراره بالشركة. وأما قبل القسمة فلا يشترك معه،
فلأخيه أن ينقلها إلى غيره على إشاعتها. وأما إذا كانت الدعوى دينا
فلا يشاركه مطلقا ولو بعد القبض على الأقوى.
وفيه نظر، لأنه إن استلزم الاقرار لم يكن فرق بين العين والدين
وإن لم يستلزمه فكذلك، فالتفريق بينهما لا وجه له.
ولو تنازع جماعة مشتركون في مال مع غيرهم فأقاموا شاهدا
واحدا وحلف بعضهم دون بعض، فإنه يثبت حصة الحالف دون
غيره، لأن يمين كل واحد منهم جزء، ولولاه فالخصومة باقية.
142

آداب القاضي والقضاء
وهي قسمان: الآداب المستحبة،
الآداب المكروهة
143

آداب القاضي والقضاء
قال المحقق " قده ": " النظر الثاني في الآداب *) وهي قسمان:
مستحبة ومكروهة.
فالمستحب: أن يطلب 1) من أهل ولايته من يسأله عما يحتاج

* لم يتعرض السيد الأستاذ دام ظله في الدرس إلى الآداب
توفيرا للوقت، لكنا نذكر متن عبارة المحقق قدس سره مع بعض
الفوائد الأخرى التي ذكرها الأصحاب في هذا المقام لئلا يخلو
الكتاب من هذا المبحث، وقد صرحوا بأن كثيرا من هذه الآداب
لا دليل عليها بالخصوص.
1) في المسالك: أن يطلب قبل قدومه إلى البلد. فإن لم
يتيسر له ذلك قبل الدخول سأل حين يدخل. قال: قيل: ويستحب
أن يكون الدخول يوم الاثنين تأسيا بالنبي صلى الله عليه وآله
حيث دخل المدينة في ذلك اليوم. قال في الجواهر: وهو كما ترى.
قال: نعم في كشف اللثام: ينبغي له أن يقصد الجامع إذا قدم ويصلي
ركعتين ويسأل الله العصمة والإعانة.
145

إليه في أمور بلده، وأن يسكن عند وصوله في وسط البلد ليرد
الخصوم عليه ورودا متساويا، وأن ينادى بقدومه إن كان البلد واسعا
لا ينتشر خبره فيه إلا بالنداء، وأن يجلس للقضاء في موضع بارز
مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه، وأن يبدأ بأخذ ما في يد
الحاكم المعزول من حجج الناس وودائعهم 1).
ولو حكم في المسجد صلى عند دخوله تحية المسجد، ثم يجلس
مستدبر القبلة ليكون وجه الخصوم إليها، وقيل: يستقبل القبلة لقوله
عليه السلام: خير المجالس ما استقبل به القبلة، والأول أظهر 2).
ثم يسأل عن أهل السجون ويثبت أسماءهم وينادى في البلد
بذلك ويجعل له وقتا، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد ويسأله

1) لأنها كانت في يد الأول بحكم الولاية، وقد انتقلت الولاية
إليه فيتوصل بذلك إلى تفاصيل أحوال الناس ومعرفة حقوقهم
وحوائجهم.
2) وفاقا للأكثر ومنهم الشيخ في النهاية، ولم يظهر وجه كونه
الأظهر مع وجود النص المذكور على استحباب الجلوس مستقبل
القبلة، قال في جامع المدارك: والجلوس مستدبر القبلة لا دليل
على استحبابه، بل المستحب بنحو الاطلاق الجلوس مستقبل القبلة
وذكر في وجه ذلك كون الخصوم مستقبلي القبلة لعلهم يخافون الله
ويرجعون عن الظلم. ولا يخفى أن هذا لا يوجب استحباب استدبار
القبلة للقاضي.
146

عن موجب حبسه ويعرضه على خصمه، فإن ثبت لحبسه موجب أعاده
وإلا أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه 1).

1) في الجواهر: " وجواب المحبوس يفرض على وجوه:
منها - أن يعترف بالحبس بالحق، فإن كان ما حبس به ما لا أمر
بأدائه، فإن قال: أنا معسر فعلى ما عرفته في الفلس، فإن لم يؤد
ولم يثبت اعساره رد إلى الحبس، وإن أدى أو ثبت اعساره نودي
عليه فلعل له خصما آخر، فإن لم يظهر خلي سبيله، وإن كان ما حبس
عليه حدا أقيم عليه وخلي. ومنها - أن يقول: شهدت علي البينة
فحبسني القاضي، يبحث عن حال الشهود، فإن كان مذهبه أنه
يحبس بذلك تركه أيضا محبوسا وبحث وإلا أطلقه. ومنها - وأن
يقول: حبست ظلما ففي المسالك: إن كان الخصم معه فعلى الخصم
الحجة، والقول قول المحبوس بيمينه. وفيه: إنه يمكن العكس
عملا بأصالة الصحة في فعل القاضي، وإن كان للمحبوس خصم
غائب ففي اطلاقه وابقائه في الحبس وجوه: الاطلاق لأنه عذاب
وانتظار الغائب قد يطول، والابقاء مع الكتابة إلى خصمه فإن لم
يحضر أطلق. والاطلاق مع المراقبة إلى أن يحضر خصمه ويكتب
إليه أن يعجل، فإن تأخر لا لعذر تركت المراقبة. وعن الشهيد
التخيير بينها وبين الكفيل وهو جيد إذ المدار على الجمع بين
الحقين ".
وأورد عليه في جامع المدارك بأنه: كيف يكون من المستحبات!
فإن المدين مع اظهار العسر يحبس حتى يتبين حاله، ومع تبين اعساره
لا مجوز لحبسه فكيف يكون السؤال عن حاله وموجب حبسه مستحبا!
147

وكذا لو أحضر محبوسا وقال: لا خصم لي فإنه ينادى في
البلد، فإن لم يظهر له خصم أطلقه. وقيل: يحلفه مع ذلك 1).
ثم يسأل عن الأوصياء وعن الأيتام ويعمل معهم ما يجب من
تضمين أو انفاذ أو اسقاط ولاية إما لبلوغ اليتيم أو لظهور خيانة أو
ضم مشارك إن ظهر من الوصي عجز.
ثم ينظر في أمناء الحاكم الحافظين لأموال الأيتام الذين يليهم
الحاكم ولأموال الناس من وديعة ومال محجور عليه، فيعزل الخائن
ويسعد الضعيف بمشارك أو يستبدل به بحسب ما يقتضيه رأيه.
ثم ينظر في الضوال واللقط، فيبيع ما يخشى تلفه وما يستوعب
نفقته ثمنه، ويتسلم ما عرفه الملتقط حولا إن كان شئ من ذلك
في يد أمناء الحاكم، ويستبقي ما عدا ذلك مثل الأثمان والجواهر
محفوظة على أربابها لتدفع إليهم عند الحضور على الوجه المحرر.
ويحضر من أهل العلم 2) من يشهد حكمه فإن أخطأ نبهوه، لأن

1) في الجواهر: استحسنه بعضهم. وفيه أنه لا وجه مع عدم
خصم له والأصل البراءة ولذا نسبة المصنف إلى القيل مشعرا بتمريضه.
2) في المسالك: المراد بأهل العلم المجتهدون في الأحكام
الشرعية لا مطلق العلماء، وخالفه في الجواهر حيث قال: ولا يعتبر
فيهم الاجتهاد لأنه ليس المراد تقليدهم. وفي المستند: إنه لا ينحصر
من ينبغي باحضاره بالمجتهدين إذ يجوز لغير المجتهد تنبيه المجتهد
فما في المسالك ليس بجيد. لكن في جامع المدارك: وكذلك
احضار أهل العلم حال الحكم لكونه في معرض السهو والخطأ،
فمع الاطمئنان بعدم السهو والخطأ يكون معذورا إذا أخطأ، ومع
عدم الاطمئنان كيف يجوز له الحكم حتى يقال: يستحب احضارهم
للتنبيه على الغفلة والخطأ.
148

المصيب عندنا واحد. ويخاوضهم فيما يشتبه من المسائل النظرية
لتقع الفتوى مقررة.
ولو أخطأ فأتلف لم يضمن وكان على بيت المال 1).
وإذا تعدى أحد الغريمين عرفه خطأه برفق، فإن عاد زجره،
فإن عاد أدبه بحسب حاله مقتصرا على ما يوجب لزوم النمط.

1) قد تقدم في الكتاب أنه مع عدم تقصير القاضي في الحكم
وتحصيل مقدماته لا يضمن شيئا لو أخطأ في الحكم، بل يكون
على بيت المال. قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه نصا وفتوى.
وفي الوسائل: باب إن أرش خطأ القاضي في دم أو قطع على بيت
المال. وفيه عن الأصبغ بن نباتة قال: " قضى أمير المؤمنين عليه
السلام: أن ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال
المسلمين " وهو كما ترى وارد في مورد دية الدم والقطع لكن
عباراتهم مطلقة، وقد ذكر السيد في العروة في صورة كون مورد
الحكم مالا تفصيلا فراجعه.
149

والآداب المكروهة أن يتخذ حاجبا وقت القضاء 1) وأن يجعل
المسجد مجلسا للقضاء دائما، وقيل: لا يكره مطلقا التفاتا إلى ما
عرف من قضاء علي عليه السلام بجامع الكوفة 2)، وأن يقضي وهو

1) للنبوي العامي: " من ولي شيئا من الناس فاحتجب دون
حاجتهم احتجب الله تعالى دون حاجته وفاقته وفقرة " قال في الجواهر:
بل ربما قيل بالحرمة، بل عن الفخر أنه قربه مع اتخاذه على الدوام
بحيث يمنع أرباب الحوائج ويضربهم، بل في المسالك هو حسن
لما فيه من تعطيل الحق الواجب قضاؤه على الفور. قال: وإن كان
الجميع كما ترى ضرورة كون المراد كراهة اتخاذه من حيث كونه
حاجبا فلا ينافي الحرمة من جهة أخرى. وفي جامع المدارك: لا يخفى
أن المستفاد من هذا الحديث الحرمة أو الكراهة لنفس الاحتجاب
وليس من المكروهات أو المحرمات لنفس القضاء.
2) في المستند: " القضاء في المسجد مكروه مطلقا وفاقا للأكثر
كما في المعتمد، لمرسلة ابن أسباط: جنبوا مساجدكم الشرى
والبيع والمجانين والصبيان والأحكام والضالة والحدود ورفع الصوت
ومرسلة الفقيه: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم
وشرائكم وبيعكم والضالة والحدود والأحكام. والاستدلال بالنبوي:
جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم منظور فيه.
وقيل باستحبابه كذلك، لأن المسجد للذكر ومنه القضاء ولكونه
أفضل الأعمال اللائق بأشرف البقاع.
وقيل بالإباحة للأصل وفعل علي عليه السلام، حتى أن دكة
قضائه مشهورة.
وقيل: بكراهة الدائم دون غيره، جميعا بين أدلة المنع
والجواز.. "
150

غضبان 1) وكذا يكره مع كل وصف يساوي الغضب في شغل النفس
كالجوع والعطش والغم والفرح ومدافعة الأخبثين وغلبة النعاس 2)

1) يدل عليه ما رواه السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من ابتلي بالقضاء فلا يقضي
وهو غضبان ".
وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لشريح:
". وإن غضبت فقم ولا تقضين وأنت غضبان ". أنظر باب كراهة
القضاء في حال الغضب من وسائل الشيعة 18 / 156.
2) يدل على ذلك ما رواه الشيخ الكليني باسناده عن سلمة بن كهيل
في وصية أمير المؤمنين " ع " لشريح: " ولا تقعد في مجلس القضاء
حتى تطعم " وسائل الشيعة 18 / 155. وما رواه العامة في النبوي:
" لا يقضي إلا وهو شبعان ريان " وما ذكروه في آخر عنه: " لا يقضي
وهو غضبان مهموم ولا مصاب محزون ". قال في المستند: وقد
صرحوا بكراهة سائر ما يشبه المذكورات من شاغلات النفس
ومشوبات الخاطر، ولا بأس به وإن لم أعثر على نص عام. ويمكن
استنباط الجميع من التعليل المذكور في المروي عن الأمالي.
151

فلو قضى والحال هذه نفذ إذا وقع حقا، وأن يتولى البيع والشراء
لنفسه 1)، وكذا الحكومة 2)، وأن يستعمل الانقباض المانع من اللحن
بالحجة، وكذا يكره اللين الذي لا يؤمن معه جرأة الخصوم.
ويكره أن يرتب للشهادة قوما دون غيرهم، وقيل يحرم لاستواء
العدول في موجب القبول ولأن في ذلك مشقة على الناس بما يلحق
من كلفة الاقتصار 3).

1) في الجواهر: " في مجلس الحكم وغيره مع من يعلم أنه
يحاسبه وغيره.. بل الظاهر الحاق غير البيع والشراء من المعاملات
بهما.. ".
2) في الجواهر: بأن يقف بنفسه مع خصمه عند قاض آخر..
وما اتفق وقوعه منه عليه السلام أو من النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إنما كان لبيان بعض الأحكام الشرعية التي أخطأ فيها من نصب
نفسه قاضيا للناس أو لغير ذلك من المصالح.
3) نسب القول بالحرمة إلى الشيخ " قده " في المبسوط. وقد
نقل في الجواهر عبارته ثم قال: ومن ذلك يعلم أن الشيخ غير مخالف
في مفروض المتن.. فراجعه.
152

مسائل
هل للقاضي أن يحكم بعلمه؟ * حكم ما لو لم
يعرف الحاكم عدالة البينة * هل للحاكم الثاني
نقض حكم الأول؟ * في تتبع الحاكم حكم من
قبله * في دعوى إن المعزول حكم عليه بشهادة
فاسقين * في تعدد وعدالة مترجم الحاكم * في
شرائط كاتب القاضي. فروع حول عدالة الشاهدين *
في تفريق الشهود عند الشهادة * فيما يعتبر في
الشهادة بالجرح * في الحكم باستمرار العدالة حتى
تبين ما ينافيها * في كتابة الحاكم قضايا كل أسبوع *
هل يجب عليه كتابة المحضر؟ * يكره له أن يعنت
الشهود * لا يجوز له أن يتعتع الشاهد * يكره له
أن يضيف أحد الخصمين * في حرمة الرشوة * في
احضار الخصم إلى مجلس القضاء *
153

المسألة الأولى
(هل للقاضي أن يحكم بعلمه؟)
قال المحقق: " وهنا مسائل - الأولى: الإمام عليه السلام يقضي
بعلمه مطلقا، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس، وفي
حقوق الله تعالى على قولي أصحهما القضاء. ويجوز أن يحكم في
ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد الحكم ".
أقول: أما حكم قضاء الإمام بعلمه فلا ثمرة للبحث عنه 1) إلا من

1) ذكروا أن للإمام أن يقضي بعلمه مطلقا أي في حق الله وحق
الناس، واستدلوا لذلك بالكتاب والسنة والاجماع، فمن الكتاب
قوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق ". ومن السنة بأخبار منها: ما رواه الصدوق باسناده إلى
قضايا أمير المؤمنين عليه السلام - وقد وصفوه بالشهرة - قال: " جاء
أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله فادعى عليه سبعين درهما
ثمن ناقة باعها منه. فقال: قد أوفيتك. فقال: اجعل بيني وبينك
رجلا يحكم بيننا. فأقبل رجل من قريش فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: أحكم بيننا. فقال للأعرابي: ما تدعي على رسول
الله " ص "؟ فقال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه. فقال: ما تقول
يا رسول الله؟ فقال: قد أوفيته، فقال للأعرابي: ما تقول؟ قال:
لم يوفني. فقال لرسول لله " ص ": ألك بينة أنك قد أوفيته؟ قال:
لا. فقال للأعرابي: أتحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال:
نعم. فقال رسول الله: لأتحاكمن مع هذا إلى رجل يحكم بيننا
بحكم الله. فأتى علي بن أبي طالب عليه السلام ومعه الأعرابي،
فقال علي عليه السلام: ما لك يا رسول الله؟ قال: يا أبا الحسن أحكم
بيني وبين هذا الأعرابي. فقال علي " ع ": يا أعرابي ما تدعي على
رسول الله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه. فقال: ما تقول
يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته ثمنها. فقال: يا أعرابي أصدق رسول
الله فيما قال؟ قال الأعرابي: لا ما أوفاني شيئا. فأخرج علي سيفه
فضرب عنقه. فقال رسول الله " ص ": لم فعلت يا علي ذلك؟ فقال:
يا رسول الله نحن نصدقك على أمر الله ونهيه وعلى أمر الجنة والنار
والثواب والعقاب ووحي الله عز وجل ولا نصدقك على ثمن ناقة
الأعرابي، وإني قتلته لأنه كذبك لما قلت له: أصدق رسول الله.
فقال: لا ما أوفاني شيئا. فقال رسول الله: أصبت يا علي فلا تعد إلى
مثلها: ثم التفت إلى القرشي وكان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لا ما
حكمت به ".
ومنها: ما رواه الصدوق باسناده عن ابن عباس وذكر قضاء عن
أمير المؤمنين عليه السلام نحو القضية المذكورة.
ومنها: ما رواه الصدوق باسناد عن عمارة بن خزيمة بن ثابت
عن عمه: " أن النبي صلى الله عليه وآله ابتاع فرسا من أعرابي
فأسرع ليقضيه ثمن فرسه فأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون
الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون بأن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم ابتاعها حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم فنادى الأعرابي
فقال: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه وإلا بعته، فقام النبي " ص "
حين سمع الأعرابي. فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ فطفق الناس
يلوذون بالنبي " ص " وبالأعرابي وهما يتشاجران. فقال الأعرابي:
هلم شهيدا يشهد أني قد بايعتك. ومن جاء من المسلمين قال للأعرابي:
إن النبي " ص " لم يكن يقول إلا حقا. حتى جاء خزيمة بن ثابت
فاستمع لمراجعة النبي " ص " للأعرابي فقال خزيمة: إني أنا أشهد
أنك قد بايعته، فأقبل النبي على خزيمة فقال: بم تشهد؟ فقال:
بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله شهادة خزيمة بن ثابت
شهادتين وسماه ذا الشهادتين ".
وهذه الأخبار تجدها في الوسائل: 18 / 200 - 202.
ومنها خبر الدرع طلحة المذكور سابقا.
واستدل له أيضا بفحوى الأدلة على قضاء غير الإمام بعلمه
وبأن عصمة الإمام تمنع من التهمة، وبوجوب تصديق الإمام في
كل ما يقول.
وأما الاجماع فقد حكي عن كتب جماعة من الأصحاب كالانتصار
والخلاف والغنية والايضاح وغيرها.
هذا، وربما نقل الخلاف في هذه المسألة عن بعض القدماء.
155

جهة أنه إذا ثبت أن الإمام عليه السلام لا يقضي بعلمه ثبت عدم جواز
القضاء لغيره من القضاة بعلمه بالأولوية، ولكن قد وجدنا أنه عليه
السلام قد قضى بعلمه في بعض الموارد، إلا أن هذا بوحده لا يكفي
للقول بجوازه لغيره كما لا يخفى، بل لا بد من ملاحظة الأدلة
بالنسبة إليه.
وأما غير الإمام من القضاة فلا كلام ولا اشكال في حكمه بعلمه
في الشبهات الحكمية، فلو تنازع الولد الأكبر مع سائر الورثة في
حكم الحبوة لاختلاف فتوى مقلديهما في المسألة فتراضيا بالترافع
عند مجتهد ثالث حكم بينهما بما رآه ولزم على الطرفين قبول
حكمه.
وإنما الكلام في الشبهات الموضوعية كما إذا تنازع زيد مع
عمرو في مال وعلم القاضي بأنه لزيد فهل له أن يحكم بعلمه من
دون بينة أو اقرار أو لا؟ الحق هو الأول - وفاقا للمشهور بل حكي
الاجماع عليه عن جماعة من الأكابر، وقد حكي عن بعضهم التفصيل
بين حق الله وحق الناس فأجازه في الأول دون الثاني، وعن آخر
158

التفصيل على عكسه - لما تقرر في محله في القطع الموضوعي من
أنه إذا أخذ القطع في موضوع الحكم بما هو طريق له قامت الأمارة
مقامه في العمل، (بخلاف ما إذا أخذ بما هو صفة خاصة قائمة
بالشخص)، فإذا كان الظن الحاصل من البينة بما هي طريق يترتب
عليه الأثر لحجيتها فإن العلم أقوى من البينة فيجب ترتيب الأثر عليه
بالأولوية 1).
ويدل عليه - بعد الاجماع - ما ذكروه من استلزام عدم القضاء
به فسق الحاكم أو ايقاف الحكم واستلزامه عدم وجوب انكار المنكر
وعدم وجوب اظهار الحق مع امكانه أو الحكم بعلمه.
ويدل عليه أيضا عموم ما دل على الحكم بالحق والقسط والعدل
فإذا علم بكون المال لزيد وجب عليه الحكم بذلك وكان على عمرو
قبوله.
وأشكل المحقق العراقي " قده " على الاستدلال بهذه العمومات
بأن التمسك بها فرع كون المراد من الحكم والحق والقسط والعدل
هو الحكم والحق وأخويه في نفس الواقعة، ولازمه حينئذ كون
القضاء من آثار نفس الواقع لا من آثار الحجة عليه، ولكن لا يخفى
أن مثل هذا المعنى ينافي ما في قوله: " رجل قضى بالحق وهو
لا يعلم "، إذ الظاهر منه عدم جواز مثل هذا القضاء لا وضعا

1) وأشكل عليه بعدم معلومية العلة في البينة حتى يقاس عليها
العلم.
159

ولا تكليفا..
ويمكن رفع المنافاة بأنه وإن كان ظاهر العمومات كون الواقع
تمام الموضوع للحكم لكن هذه الرواية تقضي باعتبار أمر آخر مع
ذلك وهو كون القاضي عالما بالواقع، فيكون مجموع الأمرين هو
الموجب لنفوذ الحكم وفصل الخصومة.
وأما حمل الرواية على بيان شرطية العلم في أصل القضاء،
أو اثبات العقوبة على مثل هذا القاضي من جهة تجريه على القضاء
بغير علم وإن كان نافذا فخلاف الظاهر.
فيكون حاصل الجمع: إن الحكم النافذ هو الحكم المطابق
للواقع مع علم الحاكم بهذه المطابقة وإن كان هذا العلم جهلا
مركبا في نفس الأمر، ومع شك المتخاصمين بكون الحاكم عالما
بالواقع فلا ينفذ، لكن لا يشترط علمهما بالمطابقة، ومع علمهما
بعدم المطابقة فيؤثر الحكم في رفع الخصومة خاصة. فظهر
أن العلم بوصف الطريقية جزء لموضوع الحكم، وتقوم البينة
والأيمان مقامه مع عدمه، مع الفرق بينهما من جهة أن العلم حجة
بذاته ولا سبيل للجعل إليه بخلافهما.
هذا، ولكن المستفاد من طائفة من آيات الكتاب العظيم كقوله
تعالى: " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " 1) وقوله تعالى: " وأن احكم بينهم بما

1) سورة المائدة: 47.
160

أنزل الله.. " 1) أن على الحاكم أن يحكم " بما أنزل الله "، وظاهر
ذلك أن " ما أنزل الله " هو موضوع الحكم بين الناس، ومع العلم
به يجب الحكم بحسبه عقلا وإلا لم يجز الحكم لأنه افتراء على الله
تعالى، فموضوع الحكم هو الواقع فقط، فإن علم به حكم بحسبه
ومع عدم العلم لم يجز له الحكم عقلا ولا شرعا.
وأما البينات والأيمان فلا تحمل على ما هو الغالب كما في الجواهر
بل إنها طريق شرعي لاحراز الموضوع - وهو الواقع - عند عدم
العلم به، فلا دخل للعلم ولا للبينات والأيمان في فصل الخصومة.
وأما قوله صلى الله عليه وآله في قضية الملاعنة: " لو كنت
راجما من غير بينة لرجمتها " الظاهر في توقف الرجم على البينة
بالرغم من علمه " ص " بالواقع فلا يمكن حمله على مورد الشك.
فقد أجيب عنه بعدم ثبوته من طرقنا، ومع التسليم فلا مانع من قيام
الدليل على عدم ترتيب الأثر على العلم في اجراء بعض الحدود،
بل للشارع أن لا يرتب الأثر على الواقع في مورد وإن كان المستفاد
من آيات الكتاب كون الحكم من آثار الواقع.
وأما المتخاصمان فلا يحكم عليهما بالعمل بما أنزل الله، بل
عليهما العمل بالحكم وتنفيذه، نعم لا يكلفان بذلك في صورة
علمهما بالخلاف، نعم الحكم يفصل الخصومة بينهما.
هذا وقد استثنى القائلون بالمنع صورا من القضاء بالعلم فأفتوا

1) سورة المائدة: 49.
161

فيها بالجواز:
(منها) تزكية الشهود وجرحهم. قلت: قد يقال بترتب
الأثر هنا شرعا على إقامة البينة للتعديل وأنه لا يكفي علم القاضي
بالعدالة، ولكن يندفع هنا باستلزامه للدور أو التسلسل، على أنه
قد حكي الاجماع على الجواز في هذه المسألة.
(ومنها) تعزير من أساء الأدب في مجلس القضاء وإن لم يعلم
به غير القاضي حتى لا تقل أبهة القضاء.
(ومنها) الاقرار ففي مجلس القضاء وإن لم يسمعه غير الحاكم.
أقول: أما نحن في سعة من إقامة الدليل على الجواز في هذه
الموارد إذ المختار هو الجواز مطلقا، لكن على من استثناها بيان
ذلك 1).

1) وأما قول المحقق في آخر المسألة: ويجوز أن يحكم..
فالمراد منه أنه لا يشترط في حكمه بعلمه حضور شاهد يشهد الحكم.
وهو إشارة إلى خلاف بعض العامة. وفي القواعد: لكن يستحب.
قال شارحوه: دفعا للتهمة. لكن في الجواهر: لم نتحقق دليله..
162

المسألة الثانية
(حكم ما لو لم يعرف عدالة البينة)
قال المحقق " قده ": " إذا أقام المدعي بينة ولم يعرف الحاكم
عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعدلها. قال الشيخ رحمه
الله: يجوز حبسه لقيام البينة بما ادعاه. وفيه اشكال من حيث لم
يثبت بتلك البينة حق يوجب العقوبة ".
أقول: في المسألة قولان، وقد جعل بعضهم الخلاف في
المسألة مبينا على الخلاف في أن العدالة في البينة شرط فما لم يحرز
الشرط لا يعتبر بها فيكون قيام البينة غير المعلوم عدالتها كالعدم،
أو أن فسقها مانع عن الحكم فيكفي في ثبوت الحق بها عدم العلم
بفسقها ومع الشك فيه فالأصل عدمه.
وقد يؤيد الأول بأن الأصل في الأشخاص هو العدالة حتى
يثبت الخلاف، وبأن الأصل في فعل المسلم هو الصحة فتحمل
الشهادة على الصحة ويحكم على طبقها.
163

وفي ذلك كله نظر إذ لا يقتضي شئ من هذه الوجوه جواز
حبسه ولا سيما في حال استلزام ذلك بقائه في السجن مدة من الزمن
فأما أصالة الصحة فهي تجري في فعل المسلم لا بالنسبة إلى شخصه،
وأما كون الأصل في كل شخص مسلم هو العدالة فليس هذا أصلا
عقلائيا يبني العقلاء، عليه أمورهم، واجراء أصالة الاسلام بالنسبة إلى
من شك في كونه مسلما في بلد أكثر أهله مسلمون هو من باب الغلبة،
وليست العدالة في هذا الحد بين المسلمين.
فالحق - وفاقا للمشهور - عدم جواز حبسه قبل ثبوت الحق
بل هو كذلك حتى على القول بمانعية الفسق، لأنه ولو سلم تمامية
قاعدة المقتضي والمانع لا يحصل القطع بالحق ما لم يقطع بعدم
المانع، على أن مقتضى القول بتمامية القاعدة في المقام هو الحكم
رأسا لا الحبس ريثما يثبت الحق.
وبالجملة فما لم تثبت عدالة البينة لا يجوز الحبس.
164

المسألة الثالثة
(هل للحاكم الثاني نقض حكم الأول)
قال المحقق " قده ": " لو قضى الحاكم على غريم بضمان
مال وأمر بحبسه فعند حضور الحاكم الثاني ينظر، فإن كان الحكم
موافقا للحق لزم وإلا أبطله، وكذا كل حكم قضى به الأول وبان
للثاني فيه الخطأ فإنه ينقضه، وكذا لو حكم هو ثم تبين الخطأ.. ".
أقول: لو قضى الحاكم على غريم بضمان مال وأمر بحبسه
حتى يستوفى منه الحق ثم حضر الحاكم الثاني بعد موت الأول أو
انعزاله مثلا، قال المحقق " قده ": ينظر الثاني في حكم الأول،
فإن كان الحكم موافقا للحق أمضاه وألزمه بدفع المال، وإن وجده
مخالفا للحق أبطله. وفي المسألة فروع كثيرة.
حكم تجديد المرافعة:
فنقول: لا ريب في أن حكم الحاكم نافذ بالنسبة إلى المحكوم
165

عليه فلا يجوز له بعد الحكم الإباء عن قبوله أو المطالبة بتجديد
المرافعة عنده أو عند حاكم آخر لأنه رد عليه والراد عليه كالراد على
الإمام عليه السلام.
ولا اشكال في عدم جواز الزام المحكوم له بالحضور عند حاكم
آخر للترافع مرة أخرى، ولو رضي المحكوم له بذلك فقيل:
لا مانع من ذلك، وقيل: لا يجوز كذلك لعدم الأثر لرضا المحكوم
له. ومنشأ الخلاف هو هل يدق الرد بذلك أو لا؟ والأقوى هو
القول الثاني لصدقه حينئذ، على أنه لو جاز للزم التسلسل، نعم
لو ادعى المحكوم عليه تقصير الحاكم الأول في الحكم أو في بعض
مقدماته كان له الترافع معه عند حاكم آخر..
هذا كله بالنسبة إلى المحكوم عليه.
حكم نظر الثاني في حكم الأول:
وأما بالنسبة إلى الحاكم الثاني فقيل بوجوب النظر عليه في
حكم الأول، وقيل: لا يجب عليه ذلك، وقيل: بل لا يجوز.
ومنشأ الخلاف هو الخلاف في صدق الرد على النظر كذلك، لكن
الظاهر العدم، كما أن جريان أصالة الصحة في حكم الحاكم الأول
لا يقتضي حرمة النظر والسؤال عن الواقع في ذلك المورد ولا دليل
على وجوب العمل بهذا الأصل، فلو أوقع عقدا وشك في صحته
لم يمنع الاحتياط باجرائه مرة أخرى جريان أصالة الصحة فيه،
فالظاهر جواز النظر في الحكم وإن أمكن حمله على الوجه الصحيح،
166

نعم لو استلزم النظر نقض حكم صحيح لم يجز له ذلك، وأما
القول بالوجوب فمشكل جدا، لأن الشك في صحة حكم الحاكم
الأول الواجد للشرائط لا يقتضي وجوب النظر كما لا يخفى.
وهل يجب على الحاكم الثاني النظر في الأمور الجارية في
البلد؟ الظاهر: لا إلا إذا طالبه أحد من الناس بالنظر في قضية، أو
كانت له دعوى بالنسبة إلى الحاكم الأول فحينئذ يجب عليه النظر
لفصل الخصومة.
أما قول المحقق " ينظر " فظاهره وجوب النظر، وبه صرح
في الجواهر وقال في المسالك بوجوب النظر في صورتين إحداهما:
دعوى المحكوم عليه جور الحاكم الأول في حكمه، والثانية:
كون الغريم محبوسا ولم يفصل الأمر بعد.
أقول: إن كان النظر في مورد لم تفصل الخصومة فيه فلا مانع
منه بل هو واجب، وإن كان بعد تمام حكم الحاكم الأول لكن
امتنع المحكوم عليه من أداء الحق فأمر بحبسه فلا وجه للقول
بوجوب النظر ولا جوازه، لأن المفروض تمام الحكم فالرد عليه
غير جائز، لا سيما مع عدم دعوى المحكوم عليه تقصير الحاكم
الأول في الحكم. نعم على الحاكم الثاني حينئذ مراجعة الغريم،
فإن كان عنده ما يجب عليه أداؤه وجب عليه اجباره على الأداء من
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأما النظر في الحكم
فلا وجه له. وحمل عبارة المحقق عليه غير صحيح، ولذا استشكل
167

في الجواهر في الفتوى بوجوبه، وحمل في المسالك كلام المحقق
على مورد دعوى المحكوم عليه جور الحاكم الأول، وحمله في
الجواهر على إرادة النظر إن شاء. وفيه إن أدلة حرمة النقض وانفاذ
الحكم تعم المورد الذي احتمل صدقه فيه فلا يجوز النظر، بل
يحمل الحكم حينئذ على الصحة.. فظهر أنه لا بد من حمل عبارة
المحقق " قده " على معنى آخر لا وجوب النظر، وما ذكره الشهيد
الثاني هو الأولى.
بل لا يجوز النظر حتى مع تراضي الخصمين خلافا لصاحب
الجواهر " قده " إذ لا وجه لذلك أيضا، مع صدق النقض والرد
على هذا النظر، وحمل عبارة المحقق على هذا الوجه في غير محله،
ولا ينافي ذلك ما ذكره الأصحاب في آداب القضاء من نظر الحاكم
الثاني في المحبوسين، إذ لا منافاة بين استحباب النظر وعدم جواز
تجديد الحكم بمعنى أن ينظر في المحبوسين فمن وجده محبوسا
بحكم حاكم تركه في الحبس..
نعم يجب تجديد النظر في صورة دعوى المحكوم عليه كون
حكم الحاكم الأول على خلاف القواعد والأحكام المقررة في
القضاء، فإن كان حكمه عن تقصير فهو ضامن، وإن كان عن قصور
فضمانه من بيت المال.
فالحاصل: إنه مع حكم الحاكم الأول وفصل الخصومة بحكمه
وحبس المحكوم عليه لا يجوز تجديد النظر بمجرد امتناع المحكوم
168

عليه عن أداء الحق وإن رضي المحكوم له بذلك، وقد ظهر بما
ذكرنا أنه لا مجال للقول بتجديد النظر إلا في صورة دعوى المحكوم
عليه مخالفة الحاكم الأول لأحكام القضاء في حكمه فإنها مورد البحث
والكلام، فقيل بلزوم النظر وإن أمكن حمله على الوجه الصحيح،
وأنه ينفذ حكم الحاكم الثاني وإن استلزم النقض. أقول: إن
استلزم نقض الحكم مع امكان حمله على الوجه الصحيح فهو مشكل
وإلا وجب النظر إذ لا وجه لعدم سماعها حينئذ.
وأما التتبع لحكم الحاكم الأول والتفحص عن دليل حكمه
للوقوف عليه والبحث عن صحته وعدم صحته من غير موجب
لذلك فغير جائز إلا أن يدعى بأن حكم الحاكم الأول بوحده لا يكفي
للحمل على الصحة، فلو حكم على الغريم بأداء الحق وأخذه منه
وأعطاه لمن له الحق فحينئذ لا يجوز النظر فيه، لأنه نقض لحكمه
أو لأنه ليس موردا للابتلاء، وأما مع صدور الحكم المجرد عن
استيفاء الحق فالنظر واجب، لكون الحكم الأول ناقصا، فعندما
حضر الحاكم الثاني وأراد استيفاء الحق فلا بد من تجديد النظر في
أصل الحكم ليكون مسوغا لاستنقاذ الحق، لكن عبارة المحقق
تأبى الحمل على هذا المعنى فإن ظاهرها تمام الحكم لا نقصانه.
وكيف كان فلا يشترط في حكم الحاكم استيفاء الحق، بل الحكم
بدونه تام، إلا أن تقوم دعوى أخرى لأجل استيفاء الحق، فلو ادعى
المحكوم عليه الاعسار سمعت دعواه وطولب بالبينة وأمهل حتى
169

اليسار كي يؤدي الحق، فظهر أن القول بالنظر في هذه الصورة
مشكل.
وأما لو ادعى المحكوم عليه جور الحاكم الأول في الحكم
فهل يكون سماعها ردا على الحكم أو لا؟ التحقيق: أنه إن كان
المراد من الحكم الواجب انفاذه والمحرم نقضه هو الحكم الصادر
بحسب القواعد والأدلة الشرعية، فكل حكم لا يكون كذلك فليس
حراما نقضه، فلا وجه لقول صاحب الجواهر " وإن اقتضى نقض
الأول " وأما إذا صدق عليه النقض فلا مناص من الالتزام بتخصيص
أدلة سماع الدعوى لأدلة نفوذ الحكم، فلا يجوز نقض الحكم
إلا إذا كان عن جور أو تقصير.
ويكون المسوغ لأصل النظر في الحكم مع وجود الأدلة الآمرة
بحمله على الوجه الصحيح هو دعوى المحكوم عليه جور الحاكم
الأول فإن ذلك يوجب النظر في الحكم مع وجود الأصل المذكور
لأن هذا الأصل لا يقتضي عدم جواز النظر.
فتلخص: إن الحق وجوب النظر في هذه الصورة وعليه يحمل
عبارة المحقق كما في المسالك، وأما حمله على صورة تراضي
الخصمين أو صورة صدور الحكم من الحاكم الأول من غير استنقاذ
للحق كما في الجواهر فغير صحيح كما تقدم، وقد عدل هو " قده "
عن ذلك أيضا وحمله على إرادة النظر إن شاء وقد تقدم ما فيه أيضا.
170

متى يجوز النقض؟
وكيف كان فمع جواز النظر يجوز نقض الحكم بالدليل
الاجتهادي المعتبر، ولا يختص جواز النقض بصورة مخالفة الحاكم
الأول للاجماع أو الدليل المعتبر كالخبر المتواتر. وبعبارة أخرى:
إن كان الحكم الأول طبق الموازين الشرعية فلا يجوز نقضه سواء
بالقطع النظري أو غيره من الأدلة المعتبرة أو الظن الاجتهادي، وأما
إذا كان الحاكم الأول مقصرا في اجتهاده أو قد حكم غافلا عن
دليل معتبر في المسألة فأخطأ على أثر ذلك في الحكم جاز نقض
الثاني حكمه سواء كان عن قطع أو غيره.
والأوضح أن يقال: إن أمكن للحاكم الثاني أن يعذر الأول
في حكمه - وإن كان مخالفا له في الرأي - فلا يجوز نقضه، وإن
لم يمكنه ذلك نقضه بلا اشكال، بل إن هذا ليس نقضا في الحقيقة
وإنما يكون تنبيها على الخطأ في الحكم.
ولا فرق في هذا بين العقود والايقاعات وغيرها حتى الأحكام الوضعية
كالطهارة والنجاسة ونحوهما. ولا بين حق الله سبحانه وحق الناس.
وأما دعوى الاجماع من بعضهم على عدم جواز نقض الحكم
الناشئ عن اجتهاد صحيح باجتهاد كذلك، وإنما يجوز نقضه
بالقطعي من اجماع أو سنة متواترة أو نحوهما. فمندفعة أولا بأنه
اجماع منقول وثانيا: بأن المفروض بطلان ذاك الاجتهاد عنده بعد
تبدل رأيه أو عند الحاكم الثاني، فلا يكون حجة حينئذ ولا يصدق
171

عليه النقض لعدم وجوب تنفيذه بعد ثبوت بطلانه.
وحيث لم يجز النقض وجب على الحاكم الثاني انفاذ حكم
الحاكم الأول وإن خالفه في الرأي، ولكن هل يجب عليه متابعة
الحاكم الأول حينئذ عملا بالنسبة إلى نفسه ومقلديه أو يكتفي في
التنفيذ بمقدار فصل الخصومة به؟ ظاهر الجواهر الأول، والمختار
هو الثاني لئلا يلزم القول بالتصويب.
وكما لا يجوز نقض الحكم بالحكم، كذلك لا يجوز نقضه
بالفتوى، بل يبقى الحكم في مورد النزاع على قوته ونفوذه وإن تبدل
رأيه. ولا فرق هنا أيضا بين العقود والايقاعات والأحكام الوضعية،
وكذا الأمر في العبادات، فلو توضأ بماء محكوم بالطهارة صح
وضوؤه وصلاته به. قالوا: والدليل هو الاجزاء. أقول: الاجزاء
تارة يكون بالحكم الظاهري وأخرى بالحكم الاضطراري
الثانوي. أما في الثاني فمع كشف الخلاف يكون الحكم متغيرا
حقيقة، وأما في الأول فمعه يبتني الحكم بصحة الصلاة على القول
بالاجزاء. وكيف كان فإنه بقاء الحكم حينئذ يختص بمورده فقط
كما هو واضح.
وأما الفتوى فيجوز نقضها بالحكم وحينئذ يجب على غير الحاكم
من المجتهدين ومقلديهم تنفيذ هذا الحكم وامضاؤه فلو كان مذهبه
- اجتهادا وتقليدا - نجاسة عرق الجنب من الحرام مثلا واشترى
مائعا فتبين أنه كان ملاقيا لعرق الجنب من الحرام فتنازع مع البائع
172

في صحة البيع وعدمها وترافعا إلى مجتهد كان مذهبه عدم نجاسته
وصحة البيع فحكم بصحته لزم على المشتري العمل بحكمه وجاز
له التصرف في ذلك المائع، ففي هذا المورد بالخصوص يعمل
بمقتضى الطهارة ويبني عليها وينقض الفتوى بالنسبة إليه بذلك الحكم.
وأما بالنسبة إلى سائر الموارد فيعمل على طبق مذهبه وهو القول
بالنجاسة، وحتى أنه إذا لاقى ذلك المائع بعد حكم الحاكم بالطهارة
عرق الجنب من الحرام مرة أخرى يبقى على ذلك ما لم يقع نزاع
ولم يرجع إلى الحاكم.
وحيث حكم بطهارة هذا المائع فلو لاقاه مائع آخر فهل يحكم
بطهارة الملاقي كذلك أو لا؟ إن كان النزاع في صحة البيع وبطلانه
فحكم الحاكم بصحة البيع دون طهارة المائع فقيل في هذه الصورة
يحكم بصحة البيع وطهارة المائع الأول دون الملاقي.
وإن كان النزاع في نفس الطهارة والنجاسة فمع الحكم بالطهارة
يترتب جميع آثار الطهارة عليه.
وسيجئ تتمة لهذا الفرع إن شاء الله تعالى.
وبالجملة فإن الحكم ينقض الفتوى من غير فرق بين أن يكون
الحكم في العقود والايقاعات والأحكام الوضعية، فيجب تنفيذ الحكم
مطلقا إلا في صورة القطع بمخالفته للواقع.
وأما انتقاض الفتوى بالفتوى فالظاهر ذلك، فلو عقد بنتا لمن
ارتضع معها عشر رضعات، ثم تبدل رأيه في المسألة واختار القول
173

بنشر هذا العدد الحرمة قال في الجواهر ببقاء الزوجية، وهو مشكل
لأنه بناء على الطريقية فقد انكشف الخلاف وظهر له بطلان هذا
العقد من أصله، وبناء على السببية حيث يحكم باستمرار الحكم ففيه
أنه مع كشف الخلاف ينكشف له عدم تحقق علقة الزوجية بينهما،
فالعقد باطل من أصله فكيف يستمر الحكم؟
وكذا الكلام في ثوب غسل بماء أفتى بطهارته سابقا ثم تبدل رأيه
وأفتى بنجاسته الآن، فإنه يجب عليه تطهير الثوب الآن وإلا لم تصح
الصلاة فيه. وتفريق صاحب الجواهر بين النكاح حيث اختار فيه
العدم وبين الثوب حيث اختار فيه النقض. غير واضح وإن ادعى
في منية الطالب الاجماع على عدم النقض وتمسك في الجواهر
بالسيرة، لأنه لو تم ذلك كان لازمه رفع اليد عن الحكم الواقعي
في ذاك المورد ونظائره، وقد ذكرنا في الحاشية على العروة في
مسألة عدول المجتهد عن فتواه أن الأحوط أن يرتب المقلد ما أمكنه
من آثار الفتوى اللاحقة إلا أن يدعى العسر والحرج. وفيها اشكال
آخر، فإن الحرج يرفع التكليف ولكنه لا يغير الحكم الشرعي.
بم يتحقق الحكم؟
وهل يشترط في وجوب امتثال الحكم كونه صادرا في مورد
نزاع وتخاصم؟ لا اشكال في صدق الحكم إن كان في مورد النزاع
كما لا اشكال في نفوذ الحكم الصادر في غير المورد المذكور
كالهلال - مثلا -، وأما إذا حكم في مورد نزاع قبل التحاكم إليه
174

ففي نفوذه اشكال، إلا أن يقال بأن نفوذ حكمه هو من جهة كونه
منصوبا من قبل الإمام عليه السلام وأنه كما ينفذ حكم الإمام من غير
تخاصم فهو كذلك، ولكن في صدور مثل هذا الحكم من الإمام
تأمل، على أن المعروف كون الحكم بعد التحاكم.
ولا اشكال في تحقق الحكم بلفظ " حكمت " و " أنفذت "
ونحوهما كقوله: " ادفع إليه ماله " بقصد الانشاء. وهل يتحقق
بقوله: ثبت عندي؟ الظاهر: العدم ولذا يمكنه نقضه بعدئذ.
وهل يتحقق الحكم بالفعل كأن يعطي الشئ لمستحقه بعد ثبوت
الحق بقصد الحكم؟ فيه اشكال، للشك في شمول الاطلاقات له. والقدر
المتيقن من الحكم كل لفظ ظاهر في انشاء الحكم فلا يكفي الفعل
والكتابة ونحوهما.
هل يجب على المجتهد الاعلام بتغير رأيه؟
هذا ومع تغير رأي المجتهد يجب عليه اعلام مقلديه بذلك؟
أقول: أما بالنسبة إلى المجتهد فإنه مع تغير رأيه - بحيث يكون
الرأي الثاني مقتضيا لفساد الأول من الآن - على الأقل - يجب الاعلام
لأمرين أحدهما: إن لازم تغير رأيه كذلك بطلان عمل مقلديه بالرأي
السابق، والآخر: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وارشاد الجاهل، فبناء على هاتين المقدمتين يجب على المجتهد
اعلام مقلديه بتغير رأيه.
وأما مع العدول لدليل ظني لا يقتضي فساد الاجتهاد الأول فقيل:
175

لا يجب الاعلام، وهو مشكل، لأنه بعد حصول الظن المعتبر عنده
على خلاف الرأي السابق لا يبقى له ظن بذلك الرأي بل ينقلب إلى
الشك، فالحق أنه لا فرق بين العدول بدليل قطعي أو بدليل ظني
فإن كلا منهما يرفع طريقية الظن السابق ويوجب سقوطه عن التأثير
ودعوى القطع بعدم وجوب الاعلام غير واضحة، والتمسك بسيرة
العلماء واختلاف فتاواهم في الكتاب الواحد يتوقف تماميته على
استمرارها واتصالها بزمن المعصوم عليه السلام
. وأما بالنسبة إلى المقلد فإن المقلد إذا لم يعلم بتغير رأي المجتهد
يعمل بالفتوى التي تعلمها، فإن لم يطابق الواقع فهو معذور وغير
آثم، ومعه فلا يجب على المجتهد الاعلام إذ لا موضوع للنهي عن
المنكر والأمر بالمعروف بالنسبة إليه، وإن كان شاكا في تغير رأي
مقلده كان له استصحاب بقاء الرأي السابق، أو استصحاب عدم
تغيره، وحينئذ فلا أثم عليه فلا موضوع للنهي عن المنكر والأمر
بالمعروف بالنسبة إليه كذلك، وإن علم بتغير الرأي وجب عليه العمل
بالرأي اللاحق.
وأما مع ترك التفحص والعمل بالفتوى السابقة وقد كان الرأي
متغيرا في الواقع، فإن أفتى المجتهد بصحة عمله فهو، وإلا فقد
قيل يجريان الاستصحاب هنا، وتوضيحه: إذا تيقن سابقا بأن الواجب
في الصلاة ثلاث تسبيحات ثم شك في صحة هذا اليقين كان مقتضى
دليل الاستصحاب العمل على طبق اليقين السابق، وهنا المقلد متيقن
من صحة صلاته - مثلا - ومع الشك في صحة يقينه بالصحة يستصحب.
176

قال: فإن تم استفادة هذا المعنى من دليل الاستصحاب كانت
صلاته بدلا عن الواقع. وأما على قول جماعة من بعد استفادة
هذا المعنى من الدليل فلا سبيل إلى تصحيحها إلا ما تقدم من أن
الاجتهاد اللاحق لا يوجب بطلان الاجتهاد السابق فلا يجب الاعلام،
وأعمال المقلد صحيحة لأن كلا من الرأيين مستند إلى دليل ظني.
وعن المحقق القمي " قده " إن المقلد إن عمل بلا تقليد ثم
ظهر مطابقته لرأي مجتهد صح عمله، لكن في العروة: عمل الجاهل
المقصر الملتفت باطل وإن كان مطابقا للواقع، وقد ذكرنا في التعليقة
إن هذا إن كان عباديا ولم تتمش منه القربة 1)، وأما التوصلي
فصحيح، وأما إذا اتفق مطابقته للواقع وتمشى منه قصد القربة فلا تجب
الإعادة.
وعنه " قده ": إن طابق العمل فتوى المجتهد وشك في مطابقة
الفتوى للواقع فيحمل على الصحة بعد العلم. قلت: الحمل على
الصحة " بعد العمل " له صور:
1 - أن يشك بعد العمل، كأن يشك بعد الفراغ من الوضوء
في تحريك خاتمه مثلا، فهنا يحمل على الصحة عند الكل.
2 - أن يعلم - في المثال المذكور - بعدم تحريكه للخاتم في
حال الوضوء لكن يحتمل نفوذ الماء إلى تحته. وهذه الصورة
خلافية.

1) أنظر: العروة الوثقى، المسألة 16 من مسائل التقليد.
177

3 - أن يعلم بعدم التحريك وعدم النفوذ معا، فلو أن مجتهدا
أفتى بعدم اخلال ذلك في صحة الوضوء وشك في مطابقة هذه الفتوى
للواقع فهل يحمل الوضوء على الصحة الواقعية؟ مقتضى كلام القمي:
نعم. وهو مشكل جدا.
كالاشكال فيما قد يقال بصحة العقد من المجتهد أو مقلده إذا
أوقعاه على خلاف الاجتهاد أو التقليد وكان موافقا لأحد الآراء في
المسألة، بل الأصل في العقود هو الفساد. هذا في صورة الاحتمال
وأما مع وجود الطريق عنده إلى بطلان هذا العقد فلا يحكم بصحته
بالأولوية.
وأما لو أتى بالأعمال مدة من الزمن من غير تقليد، فإنه بعد
الالتفات إلى وجوب التقليد يجب عليه ذلك، ثم إن كل ما طابق
من أعماله السابقة فتوى المجتهد الذي يريد تقليده فصحيح، لأن
فتوى المجتهد تكون طريقا إلى الواقع، وإلا فإن أمكن الحكم
بصحتها على بعض القواعد فهو وإلا لزمته الإعادة..
ولو أوقعا العقد وتنازعا في صحته تبعا لفتوى مقلديهما وجب
الرجوع إلى حاكم ثالث وحكمه نافذ في حقهما.
والحاصل في مسألة الاعلام بتغير الرأي: أنه إن كان المجتهد
يرى صحة أعمال المقلد حسب الفتوى السابقة فلا يجب الاعلام،
وأما مع القطع ببطلانها فيجب. قال في الجواهر: " بل الظاهر
اتحاد الحكم والفتوى في ذلك " يعني: أنه ينكشف له بطلان الحكم
178

من حينه لا أنه ينقضه الآن.
والمقلد إذا شك في تغير رأي المجتهد استصحب وكان عمله
صحيحا، والمراد من الصحة أنه إن طابق الواقع فهو وإن كان على
خلافه كان معذورا وقد أدرك مصلحة العمل بالحكم الظاهري بناء
على الاجزاء، وليس المراد من الصحة هو صحة عمله سواء
طابق أو لا. وإذا كان الأمر كذلك لم يجب على المجتهد اعلامه
بتغير رأيه.
نعم يمكن أن يقال بأنه حينئذ يفوت المصلحة على المقلد.
إلا أنه قد يجاب بأن ذلك غير معلوم. لكن قد يقال: هل يجوز للمجتهد
السكوت في مقابل اجراء المقلد هذا الاستصحاب الذي لا يراه
المجتهد مطابقا للواقع؟ الأقوى: أنه لا يجوز له السكوت، لأنه
هو السبب في وقوع المقلد في خلاف الواقع (وأما إذا لم يكن
السبب فلا يجب الاعلام والمنع عن اجراء الاستصحاب إلا في
الدماء والفروج لأهميتها) فيجب عليه الاعلام من هذه الجهة لا من
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وكذا الأمر في صورة تيقن المقلد بعدم تغير فتوى مقلده وكون عمله
طبق الفتوى السابقة مع تغيرها في الواقع، فهنا جهل مركب ولا حكم
ظاهري فإن الأقوى حينئذ وجوب الاعلام وإن طابق العمل فتوى
من يجوز تقليده، لأن هذا المجتهد لما تغير رأيه فقد قام عنده الدليل
على بطلان تلك الأعمال.
179

وأما ما عن القمي من صحة عمله لو كان بلا تقليد عن تقصير
فوافق فتوى من يجوز تقليده، فمبني على ما ذكروا في الأصول من
أنه إذا قامت حجة وكان عمل الشخص بلا التفات إليها ثم صادف
العمل تلك الحجة صح عمله وجاز للعبد الاحتجاج بتلك الحجة
وإن كان حين عمله جاهلا بها، لكن فيه نظر. نعم مطابقة العمل
للواقع اتفاقا تكفي لصحة العمل، أما مطابقته للحجة التي لا يعلمها
لا توجب صحة العمل عقلا، بل العقل يجوز مؤاخذة المولى للعبد
في مثل المورد.
ثم إنه لو كان من الصحيح والفاسد معلوما ثم شك في
صحة عمله جرت أصالة الصحة، وأما مع الجهل بالصحيح فلا أصل
ليتمسك به.
180

المسألة الرابعة
(في تتبع الحاكم حكم من قبله)
قال المحقق " قده ": " ليس على الحاكم الثاني تتبع حكم
من كان قبله ".
أقول: ليس على الحاكم الثاني تتبع حكم الأول حملا لذلك
الحكم على الصحة، وإن جاز له ذلك سواء طلب المحكوم عليه
ذلك أو لا للأصل. وأشكل في الجواز بأن التتبع قد يظهر خطأ
الحاكم الأول، فعليه ترك التتبع لئلا يؤدي إلى ذلك وحمل الحكم
على الصحة وانفاذه، نعم إذا طولب بالحكم في المسألة كان عليه
الفحص والتتبع. وفيه: إن العثور على خطأ الحاكم الأول لا يوجب
القدح فيه البتة حتى لا يجوز، إذ لا يسلم من الخطأ إلا أهل العصمة
عليهم الصلاة والسلام.
نعم لو علم بأن تفحصه سيؤدي إلى العلم بفسق الحاكم الأول
لم يجز له التتبع إلا إذا توقف عليه احقاق حق أو انجاء نفس
181

محترمة مثلا.
وبالجملة فإن النظر في حكم الأول يحتاج إلى مسوغ كأن
يطلب المحكوم عليه ذلك أو يتوقف عليه احقاق حق أو انجاء نفس
محترمة أو نحو ذلك، والعثور على الخطأ ليس بقادح.
وقد حمل في الجواهر قول بعضهم بلزوم النظر على الثاني
على صورة عدم تمام حكم الحاكم الأول أو تراضي الخصمين
بتجديد النظر.
نعم لو علم الثاني بفساد حكم الأول وجب عليه التتبع سواء
كان من حقوق الله تعالى أو حقوق الناس، وقيل: لو رضي المحكوم
له بذلك في حقوق الناس.
قال المحقق: " لكن لو زعم المحكوم عليه أن الأول حكم
عليه بالجور لزمه النظر ".
قال في الجواهر: بلا خلاف أجده بين من تعرض له منا،
وأوضحه بقوله: لأنها دعوى لا دليل على عدم سماعها، فتبقى مندرجة
في اطلاق ما دل على قبول كل دعوى من مدعيها من قوله صلى الله
عليه وآله وسلم " البينة على المدعي " وغيره.
أقول: وأي دلالة لهذا الحديث على وجوب استماع الدعوى
والنظر؟ فالصحيح التمسك بأدلة وجوب القضاء.
فإن قيل: لعل وجه الدلالة أنه لما يدعي على الأول الحكم
بالجور فإن الحاكم الثاني يطالبه بالبينة وينظر في القضية، فنقول:
182

إن الأمر الاجتهادي والحكم الشرعي ليس من الأمور التي تقام
البينة عليها، بل يجب عليه النظر في حكم الأول وأدلته - عند
دعوى الجور - ثم الحكم في القضية عن علم.
فظهر أن مورد النظر في حكم الأول دعوى المحكوم عليه
حكمه بالجور أو علم الثاني بفساد حكمه، ومن هنا قال المحقق:
" وكذا لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأول أبطله سواء 1) كان من حقوق
الله تعالى أو حقوق الناس ".
وقيل: إن الحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام خصوصا
أو عموما له الولاية على الناس وحكمه نافذ، فكما لا تسمع دعوى
المولى عليه على وليه لا تسمع دعوى المحكوم عليه على الحاكم.
هذا ما قاله بعضهم ولذا حمل كلام المحقق على صورة كون الحاكم
الأول معزولا ولا ولاية له على المحكوم عليه حين الدعوى.
لكن فيه: إن النظر في حكم الأول في صورة العلم بفساده أو
دعوى المحكوم عليه الجور ليس نقضا لحكمه وردا عليه، وهو
وإن كان له الولاية إلا أنه قد ولي لأن يحكم بالحق ومع الجور في
الحكم أو العلم بفساده فلا مانع من النظر فيه، والمولى عليه إن علم

1) قول المحقق " سواء كان من حقوق الله تعالى أو حقوق
الناس " إشارة إلى ما عن الشيخ - وتبعه بعضهم - من أنه لا ينقض
حق الآدمي إلا مع المطالبة، لأن صاحب الحق ربما أسقطه وأما إذا
كان حقا لله تعالى فإنه ينقضه لأن له النظر في حقوق الله تعالى.
183

بفساد عمل من أعمال وليه المتعلقة بأموره يجوز له الرد عليه، فلو
عقد له امرأة وظهر له فساد العقد لم يقبل هذه الزوجية، لأنه كان
وليا عليه لأن يوقع عقدا صحيحا وحيث لم يكن عقده كذلك لم يكن
عليه القبول، وترتب الأثر على رده عندما يكون متمكنا منه.
184

المسألة الخامسة
(في دعوى أن المعزول حكم عليه بشهادة فاسقين)
قال المحقق: " إذا ادعى رجل أن المعزول قضى عليه بشهادة
فاسقين وجب احضاره وإن لم يقم المدعي بينة، فإن حضر واعترف
ألزم ".
أقول: إذا ادعى أن له عند الحاكم المعزول حقا من دين ونحوه
أو قال: ارتشى مني، وجب احضاره للفصل بينهما بحسب الموازين
الشرعية كغيرها من الدعاوي.
وإن ادعى أنه قضى عليه بشهادة فاسقين عنده وعادلين عند الحاكم
لم يكن على الحاكم شئ، لأن المفروض حكمه بشهادة شاهدين
عادلين، فإن جاء المدعي بالبينة لجرحهما فهو وإلا فلا تسمع دعواه.
وإن ادعى أنه قد حكم عليه بالجور لأنه قد حكم بشهادة فاسقين
عنده أيضا ففي هذه الصورة قال المحقق: يجب على الحاكم احضار
الحاكم الأول وإن لم يقم المدعي البينة، ثم بعد احضاره يطالب
185

المدعي بالبينة، فإن أقامها فهو وإلا فإن اعترف الحاكم الأول بما
يدعيه المدعي ألزم، وما قطع به " قده " هو مذهب الأكثر. وقيل:
لا يحضر الحاكم إلا أن يذكر المدعي أن له بينة بذلك.
وعلى تقدير احضاره - سواء قلنا بجوازه مطلقا أو بعد ذكر
المدعي وجود البينة - فإن أقام المدعي البينة حكم الحاكم في القضية
بحسب الموازين الشرعية، وإن اعترف الحاكم ألزم، وإن قال:
ما حكمت عليك بشهادة فاسقين كان منكرا والخصم هو المدعي
" وإن قال: لم أحكم إلا بشهادة عادلين قال الشيخ: يكلف البينة
لأنه اعترف بنقل المال وهو يدعي بما يزيل الضمان عنه " ويكون
خصمه المنكر، فإن أقام البينة فهو وإلا حلف الخصم.
قال المحقق: " ويشكل بما أن الظاهر استظهار الحكام في
أحكامهم فيكون القول قوله مع يمينه لأنه يدعي الظاهر " وهذا
مذهب الأكثر فعلى من ادعى خلاف الظاهر - وهو الخصم -
إقامة البينة على دعواه كما هي القاعدة المقررة في نظائر المسألة.
ومورد البحث في هذه المسألة هو الحاكم المنصوب من قبل
الإمام عليه السلام في زمن الحضور والمعزول من قبله، وأما قبل
العزل فلا تسمع دعوى المولى عليه، وبه صرح فخر المحققين
في شرح القواعد، ومن هنا قيد المحقق ب‍ " المعزول " 1).

1) والحاصل أن في المسألة خلافا في موضعين أحدهما: في
وجوب احضار الحاكم الثاني للحاكم الأول المعزول، فقال المحقق
والعلامة في القواعد: وجب احضاره وإن لم يقم المدعي بينة، ونسبه
في المسالك إلى الأكثر وقال: وهو الأقوى. وقد أستدل له بأنها
دعوى شرعية يشملها عموم: " البينة على المدعي واليمين على من
أنكر " فيجب سماعها وترتيب الأثر عليها باحضار المدعى عليه وهو
الحاكم المعزول والنظر في المرافعة وإن لم يقم المدعي بينة له
بذلك. قال في الجواهر: بل وإن صرح بعدمها بناء على أن له
اليمين، ولاحتمال اقراره، وأبهة القضاء لا تنافي ذلك. وعن بعضهم:
لا تسمع مطلقا - وقيل: لا تسمع إلا أن يذكر المدعي أن له بينة
عليه بذلك، لأن الحاكم أمين الشرع والظاهر أن أحكامه وقعت
على وفق الصواب فيعمل بهذا الظاهر إلى أن تقوم الحجة بخلافه
ولأن فتح هذا الباب موجب للطعن في الحكام. وهذا القول اختيار
فخر المحققين.
والثاني: وأنه على تقدير احضار الحاكم المعزول وجوابه عن
الدعوى بقوله لم أحكم إلا بشهادة عدلين فهل يتقدم قوله مطلقا أو
مع اليمين أو يفتقر إلى البينة وإلا قدم قول المدعي؟ اختار الشيخ
في المبسوط الثالث، لأنه اعترف بنقل المال وهو يدعي بما يزيل
الضمان عنه، فعليه البينة حينئذ. واختار في المسالك الثاني قائلا:
وهو الذي مال إليه المصنف والعلامة وأكثر المتأخرين، وهو قول
الشيخ أيضا في الخلاف وابن الجنيد، لادعائه الظاهر كسائر الأمناء
إذا ادعى عليهم خيانة. وقد أشكل المحقق على قول الشيخ بما
سمعت، وفي القواعد: وفيه نظر لأن الظاهر من الحكام الاستظهار
في حكمهم فيجب عليه اليمين لادعائه الظاهر. وقد رد دليل الشيخ:
بمنع كون مطلق نقله المال موجبا للضمان، بل إنما يكون سببا
للضمان مع التفريط والأصل عدمه، وبأن هذا يؤدي إلى امتهان الحكام
وزهدهم في الأحكام. وقيل: إنه يصدق بغير يمين، لأنه كان أمين
الشرع فيصان منصبه عن التحليف والابتذال. وقد حكى الشيخ هذا
القول في المبسوط، قال في المسالك: واستحسنه الشيخ فخر الدين
في شرحه بعد أن رجح القول الثاني ولا يعلم به قائلا من الأصحاب
وفي مفتاح الكرامة: حكاه الشيخ وهو الصواب.
هذا وظاهر السيد الأستاذ موافقة المحقق في كلا الموضعين.
186

المسألة السادسة
(في تعدد وعدالة مترجم الحاكم)
قال المحقق " قده ": " إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل
إلا شاهدان عادلان ولا يقنع بالواحد عملا بالمتفق عليه ".
أقول: إذا افتقر الحاكم إلى المترجم، فقد حكي الاجماع
على اشتراط كون المترجم بالغا عادلا وإن كانت السيرة قائمة على
القبول وترتيب الأثر مع الوثوق والاطمينان وإن لم يكن المترجم
بالغا عاقلا، فالناس في حوائجهم الشخصية يكتفون بالطريقية النوعية
لكلام المترجم ولا يشترطون فيه ذلك.
إنما الكلام في التعدد فهل يكفي المترجم الواحد البالغ العاقل
أو لا بد من التعدد؟ فهل هو كالبينة حيث يشترط التعدد أو كخبر
الواحد فيكفي الواحد؟
إن كانت الترجمة شهادة فلا بد من التعدد لقوله تعالى: " وأشهدوا
189

ذوي عدل منكم " 1) وإن كانت اخبارا أمكن القول بكفاية الواحد
بناء على شمول أدلة حجية خبر الواحد لجميع الاخبارات، قال
المحقق بلزوم التعدد لأنه القدر المتيقن من الحجة، وكأنه " قده "
غير جازم بكون الترجمة خبرا أو شهادة، إذ لو كان جازما بكونه
خبرا لأفتى بكفاية الواحد، وإن كان جازما بكونه شهادة لأفتى
بالتعدد، فلم يجزم بأحد الوجهين وأفتى بعدم قبول الواحد من باب
الأخذ بالقدر المتيقن لعدم وجود اطلاق أو أصل يقتضي عدم لزوم
التعدد مع الشك في حجية ترجمة الواحد.
وقيل: الرواية خبر والشهادة خبر ولكن اشترط في حجية
الثاني أن يكون المخبر متعددا، فأدلة حجية خبر الواحد تقتضي
حجيته إلا في مورد الشهادة حيث قام الدليل على لزوم التعدد، ومع
الشك في كون الترجمة شهادة يتمسك بعموم أدلة حجية خبر الواحد
أخذا بالقدر المتيقن من الدليل المخصص المجمل 2).

1) سورة الطلاق: 2.
2) ويمكن توجيه هذا القول بأن عمدة الأدلة على حجية خبر
الواحد هي السيرة وهي قائمة على اعتبار خبر الثقة في الأحكام
والموضوعات على السواء، لما كان اعتبار السيرة متوقفا على عدم
ردع الشارع، فإنه في كل مورد قام الدليل الشرعي على اشتراط
التعدد كان ذاك الدليل رادعا في ذاك المورد، وحيث لم يرد نص
في اعتبار التعدد في خصوص الترجمة ليكون رادعا عن السيرة
جاز الاكتفاء بترجمة الواحد وبما ذكرنا يظهر الجواب عما أجاب
به في الجواهر عن هذا القول.
190

وأجاب في الجواهر بأن الشهادة غير الخبر عند العرف، فهما
مفهومان متباينان وليست الشهادة خبرا مقيدا بتعدد المخبر حتى يقال
فيه ذلك. هذا أولا.
وثانيا: إن عمدة الأدلة لحجية خبر الواحد هو السيرة، وهو
دليل لبي يؤخذ منه بالقدر المتيقن وهو غير الترجمة.
فإن قيل: إن آية النبأ 1) مطلقة ومفهومها عدم وجوب التبين عند
اخبار العادل، والمترجم العادل يخبر فلا يشترط فيه التعدد. وأجاب
في الجواهر: بأن التبين غير واجب، ولكن التعدد أمر آخر لا تنفيه
الآية، ولا منافاة بين عدم وجوب التبين ولزوم تعدد المخبر لدليل
خاص.
وأيضا: آية النبأ واردة في مورد موضوع خاص يحتاج إلى
البينة.
وأيضا: آية النبأ يمكن أن نقول بأنها ليست في مقام وجوب
العمل بخبر العادل، بل هي في مقام بيان عدم جواز ترتيب الأثر
والتعويل على قول الفاسق، وبعبارة أخرى: ينكر أن يكون للآية
مفهوم.

1) وهي قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " سورة
الحجرات: 6.
191

والحاصل: أنه لا اطلاق للآية الكريمة.
والأولى أن نقول: إن لم تكن الترجمة في مورد الحكم ومقام
الترافع - نظير الواعظ الذي يقرأ الرواية على المنبر ويترجمها -
كفى الواحد، والسيرة قائمة على قبول هذه الترجمة، بل الترجمة
في هذه الحالة نظير الرجوع إلى أهل الخبرة عرفا، وإن كانت في
مورد الحكم وتوقف القضاء عليها اشترط فيه التعدد. وبالجملة:
إن كليهما اخبار غير أنه في مورد الترافع شهادة فيعتبر التعدد وفي
مورد غيره اخبار، وحيث تكون الترجمة للشهادة في مورد الترافع
فإنها تكون شهادة على الشهادة، وعليه ففي الشهادة على الزنا حيث
يشترط أن يكون الشهود أربعة يكفي أن يكون المترجم اثنين.
وكذا في مورد لا يسمع الحاكم الشهادة، فمع الحاجة إلى
مسمع الحاكم يكفي الاثنان وإن لزم أن يكون الشهود أربعة.
192

المسألة السابعة
(في شرائط كاتب القاضي)
قال المحقق " قده ": " إذا اتخذ القاضي كاتبا وجب أن يكون
بالغا عاقلا مسلما عدلا بصيرا ليؤمن انخداعه، وإن كان مع ذلك
فقيها كان حسنا ".
أقول: ويشترط أن يكون مع ذلك مؤمنا. وقد قال المحقق:
" إذا اتخذ " لكن في المسالك: ينبغي للحاكم أن يتخذ كاتبا لمسيس
الحاجة إلى كتب المحاضرات والسجلات والكتب الحكمية، والحاكم
لا يتفرغ لها غالبا، ومن المشهور أنه كان لرسول الله " ص " كتاب
وكذا لغيره من الخلفاء. وذكر في المسالك أوصافا أخرى اشترطها
في الكاتب استحبابا حيث قال: ويستحب أن يكون مع ذلك وافر
العقل، عفيفا عن المطامع الفاسدة، لكيلا يخدع من غيره بمال
وغيره، وأن يكون فقيها لا يؤتى من جهل. وأن يكون جيد الخط
ضابطا للحروف لئلا يقع في الغلط والاشتباه.
193

وعن بعض العامة: إن الكتابة هي للتذكر فلا يشترط في الكاتب
وجود شئ من هذه الأوصاف بل يحوز أن يكون غير مسلم ولا عادل.
أقول: يحتاج إلى هذه الأوصاف في الكاتب حتى على القول
بعدم الاعتبار للقرطاس، وذلك من جهات أخرى كاشتمال المكاتبات
على أمور يجب أن يكون كاتبها مسلما عدلا لكي يتمكن من استئمانه
عليها ويحصل الاطمئنان بها.
194

المسألة الثامنة
(فروع حول عدالة الشاهدين)
قال المحقق: " الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين حكم وإن
عرف فسقهما اطرح وإن جهل الأمرين بحث عنهما ".
بحث الحاكم عن عدالة الشاهدين:
أقول: إذا طرح المدعي دعواه وطالبه الحاكم بإقامة البينة
فإن عرف الحاكم عدالة الشاهدين حكم ولا حاجة إلى التزكية،
وإن عرف فسقهما أطرح الدعوى، لما تقدم من أن للحاكم أن يحكم
بعلمه، وإن جهل حال الشاهدين بحث عنهما بنفسه - إذا لم يوجد هناك
شاهدان عادلان يزكيانهما - فعن تفسير الإمام العسكري عليه السلام
عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: " كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدعي: ألك
حجة؟ فإن أقام بينة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدعى عليه
وإن لم يكن له بينة حلف المدعى عليه بالله ما لهذا قبله ذلك الذي
195

ادعاه ولا شئ منه. وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر قال
للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان، أين سوقكما، فيصفان، أين منزلكما؟
فيصفان. ثم يقيم الخصوم والشهود بين يديه ثم يأمر فيكتب أسامي
المدعي والمدعى عليه والشهود ويصف ما شهدوا به، ثم يدفع ذلك
إلى رجل من أصحابه الخيار، ثم مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار
أصحابه، ثم يقول: ليذهب كل واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر
إلى قبائلهما وأسواقهما ومحالهما والربض الذي ينزلانه فيسأل عنهما،
فيذهبان ويسألان، فإن أتوا خيرا وذكروا فضلا رجعوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله فأخبراه، أحضر القوم الذي أثنوا عليهما
وأحضر الشهود، فقال للقوم المثنين عليهما: هذا فلان ابن فلان،
وهذا فلان ابن فلان أتعرفونهما؟ فيقولون: نعم، فيقول: إن فلانا
وفلانا جاءني عنكم فيما بيننا بجميل وذكر صالح أنهما قالا، فإن
قالوا: نعم، قضى حينئذ بشهادتهما على المدعى عليه، فإن رجعا
بخبر سيئ وثناء قبيح دعا بهم، فيقول: أتعرفون فلانا وفلانا؟
فيقولون: نعم. فيقول: اقعدوا حتى يحضرا فيقعدون فيحضرهما
فيقول للقوم: أهما هما؟ فيقولون: نعم، فإذا ثبت عنده ذلك لم
يهتك سرا بشاهدين ولا عابهما ولا وبخهما، ولكن يدعو الخصوم
إلى الصلح، فلا يزال بهم حتى يصطلحوا لئلا يفتضح الشهود ويستر
عليهم، وكان رؤوفا رحيما عطوفا على أمته، فإن كان الشهود من
أخلاط الناس غرباء لا يعرفون ولا قبيلة لهما ولا سوق ولا دار،
196

أقبل على المدعى عليه فقال: ما تقول فيهما؟ فإن قال ما عرفنا إلا خيرا
غير أنهما قد غلطا فيما شهدا علي أنفذ شهادتهما، وإن جرحهما
وطعن عليهما أصلح بين الخصم وخصمه وأحلف المدعى عليه وقطع
الخصومة بينهما " 1).
قال: " وكذا لو عرف اسلامهما وجهل عدالتهما.. وقال في
الخلاف: يحكم وبه رواية شاذة ".
أقول: لو جهل الحاكم اسلام الشاهدين أو عدالتهما من جهة
الشك في اسلامهما فلا خلاف في وجوب التوقف عن الحكم والتفحص
عن حالهما، وكذا لو عرف اسلامهما وجهل عدالتهما عند المشهور
لأن الواجب على الحاكم أن يحكم بالحق عند التخاصم إليه، ومن
شرائط الحكم بالحق عدالة الشاهدين في مورد قيام البينة، فمع
الجهل بها لا يكون الحكم بالحق، ومذهب المشهور أن العدالة
أمر زائد على الاسلام بل الايمان أيضا، واستدلوا لذلك بقوله تعالى:
" وأشهدوا ذوي عدل منكم " 2) فإنه ظاهر في أن العدالة وصف
زائد على الاسلام، إذ لو كان الاسلام كافيا لما قيد بالعدالة مع وجود
كلمة " منكم "، وهذه الآية المباركة تقيد الآية الأخرى: " واستشهدوا
شهيدين من رجالكم " 3) بالمنطوق أو بمفهوم الوصف، والظاهر

1) وسائل الشيعة: 18 / 174 وليصحح النص على التفسير.
2) سورة الطلاق: 2.
3) سورة البقرة: 282.
197

من الآية - لكونها في مورد الشهادة - بيان الحكم الوضعي، أي:
إن شرط قبول الحكم موقوف على كون البينة عادلة.
وعن الشيخ في الخلاف والمفيد وابن الجنيد عدم وجوب
الفحص عن عدالة الشاهدين مع العلم باسلامهما، قالوا: والآيتان تدلان
على قبول شهادة المسلم والتقييد المذكور غير تام لعدم حجية مفهوم
الوصف، وقال تعالى: " إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا.. " 1) وهو ظاهر
في أن وجوب التبين مشروط بالعلم بالفسق، فمع الشك في كونه
فاسقا لا وجوب للفحص والتبين.
أقول: إنا لو سلمنا ما ذكروا بالنسبة إلى الآيتين فإن هذه الآية
الثالثة الدالة على عدم قبول قول الفاسق تقيدهما، فيكون الحاصل:
استشهدوا شهيدين غير فاسقين من رجالكم، فإن أرادوا التمسك
باطلاق الآيتين كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وحيث أن الدليل الدال على اشتراط العدالة لا يوضح معنى العدالة
كان للقائل بعدم وجوب الفحص والتحقيق عن حال الشاهدين المسلمين
أن يقول بأن الاسلام عدالة، لكنا نقول: لا اشكال في أن أحكام
الاسلام مبنية على العدالة، وأن من كان مسلما واقعا كان عادلا لأنه
يأتي بجميع الأحكام ويطيعها فعلا وتركا، فإن أرادوا من قولهم:
" الاسلام عدالة " هذا المعنى فهو صحيح، وإن أرادوا من " الاسلام "
مجرد التفوه بالشهادتين، فإن أثر التفوه بالشهادتين - كما في الروايات -
هو أن له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وهذا أمر تعبدي

1) سورة الحجرات: 6.
198

لا يفيد العدالة كما هو واضح.
نعم قيل: إن الأصل في المسلم أن يكون عادلا، لأن الاعتقاد
إن كان كاملا جاء العمل بالأحكام قهرا، فلا يعصي هذا المسلم ربه
إلا نادرا، وحينئذ فمع الشك في عدالة مسلم أخذ بالأصل المذكور
وحكم بعدالته من باب أن الظن يلحق الشئ بالأعم الأغلب، وهذا
الأصل يبتني على القول بأن الاسلام غير العدالة وأن العدالة ملكة
أو أنها فعل الواجبات وترك المحرمات، أو كفاية حسن الظاهر.
ولكن الحق أنه مع وجود الدواعي الكثيرة المختلفة إلى
المعصية لا غلبة حتى يلحق بها، بل قد يكون الأصل والغالب في
بعض الأزمنة هو الفساد وبه رواية 1) وكذلك زماننا.
قال في المسالك بالنسبة إلى مذهب الشيخ " قده ": إن هذا
القول وإن كان أمتن دليلا.. لكن المشهور الآن بل المذهب
خلافه..

1) في سفينة البحار ج 2 / 111: الدرة الباهرة قال أبو الحسن
الثالث عليه السلام: إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام
أن تظن بأحد سوء حتى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور فيه
أغلب من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيرا حتى يبدو ذلك منه.
نهج - قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا استولى الصلاح
على الزمان وأهله ثم أساء رجل لم تظهر منه خزية فقد
ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن
برجل فقد غرر.
199

أقول: ومراد المحقق من وصف الرواية بالشذوذ هو اعراض
الأصحاب عما يدل على ذلك وإن كانت عليه روايات عديدة 1)،

1) قد أخرج قسم منها في أبواب الشهادات من وسائل الشيعة
ومنها: ما عن علقمة قال " قال الصادق عليه السلام - وقد قلت له:
يا ابن رسول الله أخبرني عمن تقبل شهادته ومن لا تقبل - فقال:
يا علقمة كل من كان على فطرة الاسلام جازت شهادته. قال فقلت له:
تقبل شهادة مقترف الذنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة
المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام
لأنهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب
ذنبا أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر
وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنبا، ومن اغتابه بما فيه فهو
خارج عن ولاية الله داخل في ولاية الشيطان " وسائل الشيعة 18 / 292.
ومنها: ما عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام " في أربعة
شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران.
فقال: إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور
أجيزت شهادتهم جميعا، وأقيم الحد على الذي شهدوا عليه، إنما
عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلى الوالي أن يجيز
شهادتهم إلا أن يكونوا معروفين بالفسق " وسائل الشيعة 18 / 293.
ومنها: مرسلة يونس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته
عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحل للقاضي أن يقضي بقول البينة؟
فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم:
الولايات والمناكح والذبائح والشهادات والأنساب. فإذا كان ظاهر
الرجل ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه " وسائل
الشيعة 18 / 290. وقد ذكر هذا الخبر في الكتاب وبحث عن لفظه
ومعناه.
ومنها: ما عن عبد الله بن المغيرة قال قلت لأبي الحسن الرضا
عليه السلام رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ناصبيين. قال: كل
من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته "
وسائل الشيعة 18 / 290.
وقد أطال في الجواهر البحث عن هذه الأخبار ودلالتها ووجوه
الجواب عن الاستدلال بها في صلاة الجماعة من كتاب الصلاة.
200

حتى أن الشيخ نفسه لم يعمل بها في مواضع أخر، بل إن التفحص
عن الشهادة كان معمولا به في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
كما دلت على ذلك الرواية المذكورة سابقا، وهي وإن كانت ضعيفة
سندا 1) لكن عليها العمل.
وقال السيد في العروة: " لو جهل الحاكم حالهما وجب عليه
أن يبين للمدعي أن له تزكيتهما بالشهود إذا كان جاهلا بذلك ثم

1) لأنها من أخبار التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري
عليه السلام وفي ثبوت هذا التفسير له عليه السلام بحث بين علمائنا
وكلام طويل مذكور في كتب الحديث.
201

يطلبها منه، ولو قال: لا طريق لي إلى ذلك أو قال: يعسر علي أو
قال: لا أفعل وطلب من الحاكم الفحص عن ذلك هل يجب عليه
أو لا؟ قد يقال بوجوبه.. والأقوى عدم وجوبه عليه لمنع كون
الحكم مطلقا وإلا لزم على الحاكم الفحص عن وجود الشاهد
وعدمه أيضا مع أنه ليس كذلك قطعا.
أقول: ليس المراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما
أقضي بينكم بالبينات والأيمان " ترك النظر في الدعوى إذا لم يكن
للمدعي بينة عادلة على دعواه، بل المعنى أنه حينئذ يقضي باليمين،
نظير الصلاة حيث تجب الصلاة مع الوضوء في حال وجدان الماء
وإلا وجبت مع التيمم بعد الفحص واليأس عنه في الحدود المعينة
لذلك شرعا، غير أن الشارع لم يحدد وجود البينة بل أحال الأمر
إلى العرف، وأهل العرف يفحصون عن حال الشاهدين في بلدهما
وعشيرتهما، بل روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله
أيضا، فحاصل معنى الحديث أنه إن كان هناك - مع الجهل بحال
الشاهدين - طريق متعارف إلى معرفة حالهما فالفحص عن ذلك
لازم، وإلا فيكون الحكم بالأيمان.. وهذا تقريب آخر لمذهب
المشهور، بل يجب على الحاكم الارسال خلف الشاهدين - لو
امتنع المدعي عن احضارهما - إن أمكنه ذلك، لأن الحكم واجب
عليه فيجب عليه تحصيل مقدماته بحسب الامكان والمتعارف..
فالحق مع المشهور.
202

انتقاض الحكم بفسقهما وقت الحكم:
قال المحقق " قده ": " ولو حكم بالظاهر ثم تبين فسقهما وقت
الحكم نقض حكمه ".
أقول: لا ريب في هذا ولا يختلف باختلاف الأقوال في حقيقة
العدالة، فإنه بتبين فسق الشاهدين ينتقض الحكم، لكن يشترط
تحقق موجب الفسق منهما قبل صدور الحكم بل قبل أداء الشهادة،
ووجه الانتقاض: أن العدالة شرط واقعي لا علمي فمع انكشاف الخلاف
ينتقض الحكم. وقد يقال بأن الشرط في قبول الشهادة هو كون
الشاهد عادلا في نظر الحاكم وإلا فلا طريق إلى العلم بالعدالة الواقعية
لأحد، بل الاكتفاء بذلك هو المراد من قوله تعالى: " وأشهدوا
ذوي عدل منكم ".
وفيه: أن ظاهر اشتراط شئ لشئ هو اشتراط تحقق مفهومه
الواقعي، وكذا الأحكام تتوجه إلى الأمور الواقعية، فإذا قيل: الغنم
حلال، أو البول نجس أريد الغنم الواقعي، والبول الواقعي، ولو
أريد الاشتراط العلمي لكان بيان ذلك بتعبير آخر، ألا ترى إلى
قول الشارع في مسألة الاقتداء في الصلاة حيث العدالة فيه شرط
علمي لا واقعي: " لا تصل إلا خلف من تثق بدينه " 1) فلو صلى خلف
من وثق بعدالته وانكشف الخلاف لم تجب عليه الإعادة ولا القضاء

1) وسائل الشيعة: 3 / 395.
203

بخلاف ما لو كان الكلام هكذا: صل خلف العادل، فإنه ظاهر
في الشرطية الواقعية ويترتب عليه الإعادة أو القضاء مع انكشاف
الخلاف.
وقد ذكر صاحب الجواهر: أن الأصل الواقعية في الشرائط،
وهذا الأصل غير واضح عندنا ولعله يريد الظاهر، ولقد كان الأولى
التعبير به دونه، لأن الظاهر أمارة.
وقال في الجواهر: الفسق بعد الحكم لا ينقض الحكم، قال:
بل لعله كذلك لو كان بعد الإقامة قبل الحكم، وإن المراد من التبين
هو تبين حاله اتفاقا لا بأن يقول الخصم - بعد احراز الحاكم العدالة -:
لو تفحصتم عن حالهما لبان لكم فسقهما، فليس للحاكم قبول كلامه
والتفحص عن ذلك.
هل يجوز التعويل على حسن الظاهر؟
قال المحقق " قده ": " ولا يجوز التعويل في الشهادة على
حسن الظاهر ".
أقول: أي أنه لا يجوز الاعتماد على حسن الظاهر، بل لا بد
من معرفة باطن الشخص على أثر المعاشرة والمخالطة معه، وهذا
مبني على أن العدالة ملكة فإنه بناء على هذا يشترط الشهادة بوجود
الملكة فيهما ولا يحصل العلم بذلك إلا بالمعاشرة، إذ الأعمال الجوارحية
يمكن الاطلاع عن طريقها إلى الجهات الباطنية لأن الإناء يترشح
بما فيه.
204

وأما بناء على أن العدالة حسن الظاهر - كما عليه جماعة -
فيشهد بحسبها، كما أن الأمر بناء على أن الاسلام عدالة واضح.
وقد شبه صاحب الجواهر العدالة بناء على مذهب المحقق
بالاعسار، فلو ادعى المدين الاعسار لم يقبل منه ولا يثبت الاعسار
بمجرد ظاهر حاله حتى تحرم المطالبة، بل لا بد من التحقيق، فالملكة
أيضا كذلك، فإن كثيرا من المعاصي لا يتظاهر بها أهلها فلا يكفي
حسن الظاهر، وخالفه استنادا إلى الأخبار الكثيرة الدالة على جواز
الشهادة تعويلا على حسن الظاهر.
وسيأتي في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى البحث تفصيلا عن
جواز الشهادة استنادا إلى طريق من الطرق والأمارات الشرعية كاليد
والبينة وعدم جوازه ووجوب العلم بالمشهود به، وملخصه: أنه
لو شك مثلا في كلام لا يعلم هل هو كذب أو لا جاز التكلم به لعدم جواز
التمسك بأدلة حرمة الكذب حينئذ لأنها شبهة مصداقية، وعليه تجري
البراءة عن الحرمة، إلا أن يقال بالاحتياط إن كان ذلك الكلام يتعلق
بما يحتاط فيه كالفروج والدماء، وأما الاخبار عن شئ بنحو الجزم
- مع الشك في تحققه - فلا يبعد كونه افتراء، فالشهادة بما لا يعلم
افتراء، إذن لا بد من العلم في الشهادة، فإن لم يعلم لكن كان له
طريق شرعي فهل يقوم ذلك الطريق مقام العلم في جواز الشهادة؟
الظاهر أن هذا العلم مأخوذ في الموضوع بنحو الكاشف والطريق،
فتجوز الشهادة اعتمادا على الطريق الشرعي، هذا كله أصولا.
205

وأما فقها فإن الروايات الواردة في الجواز كثيرة 1)، وتفصيل
المسألة في كتاب الشهادات. بل في الجواهر إن حسن الظاهر بنفسه
عدالة، فما ذكره المحقق هنا مخالف للروايات، بل قال: إن البحث
هنا علمي مرجعه إلى أن العدالة شرعا هي ملكة يصدر عنها حسن
الظاهر أو أنها عبارة عنه، وإلا فالجميع متفقون على تحققها بذلك
بناء على كون مراد القائلين بحسن الظاهر هو أن جميع ما يظهر منه
حسن بعد الخلطة والصحبة المتأكدة في سره وعلانيته.
أقول: وعندي أن العدالة هي الملكة وحسن الظاهر طريق
إليها، لأن حسن الظاهر أعم من العدالة، لكن الملكة تكون علة
لحسن الظاهر، لأنها حالة نفسانية مستندة إلى الاعتقادات الراسخة
وتوجب ترك المحرمات والعمل بالواجبات، بحيث لو صدر منه
خطأ حملته الملكة على الندم والتوبة.
ولا ريب في أن العلم بحسن الظاهر أيضا يتوقف على المعاشرة
كذلك، فإن الصفات التي ذكرت في الروايات - المستفاد منها
الاكتفاء بحسن الظاهر - لا يمكن الاطلاع عليها إلا بها.. فالحاصل:
إن الآثار تترتب على حسن الظاهر المعلوم بما ذكر عملا بالاخبار
خلافا للمحقق، وليس حسن الظاهر هو العدالة خلافا للجواهر،
بل هو طريق إليها، وعليه تقوم الطرق الشرعية مقام العلم في الشهادة.
ثم إن المستفاد من تلك الأخبار عدم وجوب التعمق الشديد في
حالات الشخص.

1) ذكرنا بعضها في الهامش المتقدم.
206

السؤال عن التزكية وكيفية ثبوتها:
قال المحقق: " وينبغي أن يكون السؤال عن التزكية سرا
فإنه أبعد من التهمة ".
أقول: وهذا واضح، لأنه إن سأل الشخص عن حال الشاهد
في حضوره يصعب عليه الجواب بعدم التزكية إما حياء وإما وفاء
وإما خوفا وإما رجاء، وإن كان يعلم بعدالته فأجاب بالايجاب وشهد
بذلك لاتهم من قبل الخصم بأنه زكاه لأحد الأسباب المذكورة.
قال: " وتثبت مطلقة وتفتقر إلى المعرفة الباطنة المتقادمة ".
أقول: إن التزكية تفتقر إلى المعرفة السابقة بباطن المزكى
على أثر المخالطة ولا تكفي الشهادة تعويلا على حسن الظاهر عند
المحقق، لكن في الجواهر " تفتقر إلى المعرفة الباطنة المتقادمة
المفيدة للعلم أو الظن بحصول الملكة وأن ما يصدر من ذلك من
آثارها، أو بحسن الظاهر بمعنى أنه لا يظهر منه سرا وعلانية إلا
الحسن " أي: إن علم بالعدالة فهو وإلا كفى الظن بحصول الملكة،
وكذا يكفي الشهادة بحسن ظاهره بالمعنى المذكور، فكأنه
يحمل عبارة المحقق الصريحة في عدم كفاية حسن الظاهر على حسن
ظاهر بعض أحواله وأفعاله التي لا يستفاد منها الحسن في جميع ما
يظهر منه سرا وعلانية، قال: وهذا هو مراد القائلين بكفاية حسن
الظاهر فيتحد القولان.
ثم إن الشهادة بالعدالة لا يشترط فيها التفصيل فيكفي أن يشهد
207

بعدالته. وقيل: بل يلزم أن يقول في حقه: عادل مقبول الشهادة
إذ ربما يكون عادل غير مقبول الشهادة كالعادل الكثير الشك وصاحب
الوسوسة، وربما يقال: بكفاية الشهادة بأنه مقبول الشهادة..
وسيأتي لذلك تتمة قريبا إن شاء الله.
كيفية ثبوت الجرح:
قال المحقق: " ولا يثبت الجرح إلا مفسرا وفي الخلاف:
يثبت مطلقا ".
أقول: في هذا المقام أقوال، فقيل: لا تثبت العدالة ولا الجرح
إلا مفسرا بذكر سبب التعديل دون التفسيق، وقيل بالعكس وهو
مختار المحقق " قده ".
ووجه تفصيل المحقق هو: أن تفسير العدالة يحتاج إلى ذكر
جميع الواجبات وأنه يعملها كلها، وذكر جميع المحرمات وأنه
يتركها كلها وهذا أمر يستلزم العسر والحرج، فلذا تكفي الشهادة
بالعدالة مطلقة، بخلاف الجرح لعدم العسر بذكره لأنه يكفي في
ثبوت الفسق فعل كبيرة واحدة من الكبائر.
وأيضا: أسباب الفسق مما وقع الخلاف فيها بين الفقهاء، فلو
كان الشاهد مقلدا لمن يرى حرمة فعل من الأفعال وليس حراما عند
من يقلده الفاعل كانت شهادته بذلك عند الحاكم اغراء له بالجهل،
أو ربما يكون لعمل الفاعل وجه شرعي لا يعلمه الشاهد.. فلا بد
من ذكر السبب حتى يتضح الأمر وترتفع الجهالة.
208

وقد أجيب عن الوجه الأول بالمنع من لزوم الحرج، وعن
الثاني: بوقوع الخلاف في سبب العدالة كذلك، وعليه يكفي
الاطلاق في كلا المقامين أو يجب التفصيل فيهما معا.
ثم إن المعدل أو الجارح يجب أن يكون عالما بمعنى العدالة
وأن أي شئ يضر بها وأي شئ لا يضر بها، وأن يكون عالما بفتوى
الحاكم في المسألة لئلا يلزم الاغراء بالجهل، فإن أحرز الحاكم
معرفة الشاهدين بالأمرين رتب الأثر على شهادتهما سواء في الجرح
والتعديل من غير حاجة إلى ذكر السبب، وإن علم الحاكم
بالاختلاف بين فتواه ونظر الشاهدين أو مقلديهما في معنى العدالة
فلا يرتب الأثر، وكذا إذا احتمل الاختلاف.
وفي الجواهر استوجه حمل عبارة الشاهد على الواقع وإن
اختلف الاجتهاد في تشخيصه، قال: ومن هنا لا يجب سؤاله عن سبب
التملك مع الشهادة به، وكذا التطهير والتنجيس وغيرهما وإن كانت
هي أيضا مختلفة في الاجتهاد، بل يحمل قول الشاهد على الواقع
كما يحمل فعله على الصحيح..
وأورد عليه بالفرق بين المقامين، إذ يكفي في مسألة الطهارة
لأجل ترتيب آثارها على الثوب وجود أصل أو طريق إلى الطهارة،
أما في مسألة الحكم فلا بد من احراز الواقع، وأيضا: أصالة الصحة
جارية في عمل غاسل الثوب فيحمل عمله على الصحة الواقعية ما لم
يعلم بالخلاف بخلاف الأمر في الشهادة، فلو شهدا بمالكية زيد
209

للدار وأراد الحاكم الحكم بمقتضى تلك الشهادة توقف الحكم
على احراز عدالة الشاهدين، فظهر أن بين الطهارة والملكية وما
نحن فيه فرقا.
أقول: في مسألة الشهادة إن شهد بوجود ملكة العدالة في المشهود
له قبلت الشهادة، وإن شهد بالعدالة فلا تقبل لأنه يكون نظير الشهادة
بعدالة زيد مع عدم تعيين زيد المشهود بعدالته، وأما الحمل على
الصحة الواقعية - كما هو الحال في الطهارة والملكية - ففيه تأمل
ويحتاج إلى تتبع كلماتهم في ذلك.
ثم إنه لا بد أن يظهر المطلب بعنوان الشهادة، وبعبارة أخرى:
يشترط أن ينشئ الشهادة لا أن يخبر عن العدالة مثلا، للفرق الواضح
بين مفهومي الشهادة والاخبار لغة وعرفا.
ويجب تعيين المزكى أو المجروح فلا يكفي القول المجمل
بل كان رسول الله صلى الله عليه وآله يسأل الشاهدين في حضور
المدعى عليه هل هو نفسه أو لا؟
وهل يشترط ضم ألفاظ أخرى إلى الشهادة بالعدالة مثل " مقبول
الشهادة " كما عن بعضهم أو " مقبول الشهادة لي وعلي " كما عن
آخر أو لا يشترط؟ الذي يقوى في النظر هو الثاني ووفاقا لصاحب
الجواهر، ولكن لا لما ذكره قدس سره فإنه يبتني على تمامية قاعدة
المقتضي والمانع، وهي محل بحث كما فصل في محله، على أن
تلك القاعدة لا مجال لها في بعض صور المسألة، كما إذا كان المانع
احتمال بنوة الشاهد - بناء على أن شهادة الولد على والده غير
210

مسموعة - فإنه لا معنى للقول بأن الأصل عدم كونه ولدا له.
بل لأن الاطلاقات والعمومات تعتبر العدالة فحسب وتفيد أن
شهادة العادل مقبولة، فمن ادعى العدم فعليه إقامة الدليل المخصص
لكن في موارد الشك كما إذا شك في كون الشاهد خصما للمدعى
عليه فلا بد من احراز عدم الخصومة وإلا لكان التمسك بالعام حينئذ
من التمسك به في الشبهات المصداقية.
قال المحقق " قده ": " ولا يحتاج الجرح إلى تقادم المعرفة
ويكفي العلم بموجب الجرح ".
أقول: هذا واضح، بخلاف الشهادة بالعدالة فهي متوقفة عليه.
حكم ما لو اختلف الشهود بالجرح والتعديل:
قال: " ولو اختلف الشهود بالجرح والتعديل قدم الجرح. ".
أقول: في حال اختلاف الشهود بالجرح والتعديل يتقدم الجرح
لأن حاصل شهادة المعدلين هو عدم العلم بما يوجب الفسق، لكن
الجارحين يقولان: رأينا منه كذا. فتكون الشهادة بالجرح
شهادة بما خفي عن المعدلين فيقدم الجرح ولا تعارض بين الشهادتين.
وعلى هذا الأساس لو قال الجارح: رأيته يفعل كذا يوم كذا،
فقال المعدل: أشهد بأنه قد تاب عن ذلك الفعل والتزم باتيان الواجبات
وترك المحرمات بعد هذا التاريخ قدم التعديل لأنه شهادة بما يخفى
على الجارحين.
إنما الكلام فيما لو شهد الطرفان بنحو لا يمكن الجمع بين
211

الشهادتين، كأن يقول الجارح: رأيته يفعل كذا في مكان كذا يوم
الجمعة، ويقول المعدل: كان معي يوم الجمعة في سفر إلى بلد آخر،
فإنه تتعارض البينتان، قال المحقق: " ولو تعارضت البينتان في
الجرح والتعديل قال في الخلاف: وقف الحاكم، ولو قيل: يعمل
على الجرح كان حسنا ".
أقول: القول بالتوقف في صورة التعارض يكون تارة بمعنى
رفع اليد عن شهادة الطرفين فلا يحكم بالفسق ولا بالعدالة بل يحلف
الخصم، وأخرى لا يحكم بشئ ولا يحلف الخصم، لكن في الخلاف
أيضا: " إذا تعارضت البينتان على وجه لا ترجيح لإحداهما على
الأخرى أقرع بينهما فمن خرج اسمه حلف وأعطي الحق، هذا هو
المعول عليه عند أصحابنا، وقد روي أنه يقسم نصفين ".
أما عدم تحليف الخصم فمن جهة انصراف قوله " ص ": " إنما
أقضي بينكم بالبينات والأيمان عن صورة التعارض بين البينتين
وحينئذ فإن أمكن التنصيف وإلا فالقرعة لأنها لكل أمر مشكل، ويحلف
من خرجت باسمه احتياطا.
وأما لو قال أحدهما: هو الآن عادل، وقال الآخر: هو الآن
فاسق، فهل يقدم قول الجارح أو يتعارضان؟ الظاهر هو الثاني
فيتساقطان.
وقال في الجواهر: وقد يقال أيضا " إن هذا كله مع فرض عدم
أمر سابق يمكن استصحابه من عدالة أو فسق وإلا حكم به ".
212

أقول: إن أراد صورة التعارض بين البينتين فإنه مع جريان
الاستصحاب لا حاجة إلى الجرح والتعديل بل تستصحب الحالة
السابقة ويترتب الأثر، إلا أن الفقهاء لم يتعرضوا إلى الاستصحاب
هنا بل قالوا إن للحاكم أن يحكم بعلمه بالحال على أثر المخالطة،
وظاهر ذلك هو الاعتماد على البينة مع عدم العلم لأنها الكاشفة عن
الواقع. اللهم إلا أن يقال بأن إقامة البينة حكم تعبدي يعامل مع مفادها
معاملة الواقع لا أنها تكشف عنه، وحينئذ يقوم الاستصحاب مقامها
لكن الظاهر أن حجية البينة هي بعنوان تتميم الكشف ولعله لذا ذكر
صاحب الجواهر المطلب بعنوان قد يقال.
ثم نقل عن كاشف اللثام احتمال تقديم شهادة التعديل لدى
التعارض للأصل مع الخلو عن ظهور المعارض خلافا لمن قدم
شهادة الجرح ثم قال: " وهو جيد فيما يرجع إلى ما ذكرناه لا مطلقا "
فإن قول بعضهم بأن الاسلام ملكة تمنع من ارتكاب المحرمات وترك
الواجبات ضعيف، وقد ضعفه كاشف اللثام أيضا واختار أن العدالة
حسن الظاهر كالجواهر.
213

المسألة التاسعة
(في تفريق الشهود عند الشهادة)
قال المحقق " قده ": " لا بأس بتفريق الشهود، ويستحب في
من لا قوة عنده " 1).

1) هذا كلامه " قده " هنا، وسيأتي في المسألة الرابعة عشرة:
يكره للحاكم أن يعنت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان
القوية، مثل أن يفرق بينهم، لأن في ذلك غضاضة لهم، ويستحب
ذلك في موضع الريبة. وقال في النافع في الآداب المستحبة للقاضي:
وتفريق الشهود عند لإقامة فإنه أوثق، خصوصا في موضع الريبة،
عدا ذوي البصائر لما يتضمن من الغضاضة. وقال العلامة " قد "
في القواعد: وينبغي للحاكم إذا طلب الاستظهار في موضع الريبة
أن يفرق الشهود خصوصا في من لا قوة عنده، ويكره إذا كان الشهود من
ذوي البصائر والأديان القوية. وفي الرياض: عدا ذوي البصائر والشأن
من العلماء والصلحاء الأعيان فلا يستحب تفريقهم بل ويكره وربما
حرم لما يتضمن تفريقهم من الغضاضة والمهانة بهم، بل وربما يحصل
في ذلك كسر قلوبهم.
214

أقول: إن الميزان الشرعي للقضاء هو البينات والأيمان كما
في الحديث الشريف، ولكن هل تعبدنا الشارع بالأخذ بذلك أو
يجوز القضاء بالسؤال عن الخصوصيات والنظر في القرائن وغير
ذلك ما يستكشف به الواقع ويتوصل به إلى حقيقة الحال 1)؟ قال
المحقق: " لا بأس بتفريق الشهود ويستحب في من لا قوة عنده ".
أقول: إن اطلاق الآية الكريمة: " واستشهدوا شهيدين من
من رجالكم " 2) وقوله صلى الله عليه وآله: " إنما أقضي بينكم
بالبينات والأيمان " 3) يشمل ما إذا شهدا معا أو شهد كل واحد من
الشاهدين على حدة، فيجوز الأمران، لكن في صورة التفريق بينهما
ربما يظهر كذبهما أو خطؤهما في الشهادة بخلاف ما إذا شهدا معا..
هذا بحسب القاعدة وقطع النظر عن الأخبار الخاصة الواردة، لكن
المحقق أفتى بالاستحباب في صورة كون الشاهد لا قوة عقل عنده
ولعل وجهه عمل النبي وأمير المؤمنين صلى الله عليهما وآلهما في

1) استفاد السيد الأستاذ تبعا لسائر الفقهاء من الخبرين الآتيين
عدم اختصاص التفريق بالشهود وأن للحاكم التوصل إلى معرفة الحق
بما يراه في ذلك الوقت مما لا ينافي الشرع.
2) سورة البقرة: 282.
3) وسائل الشيعة: 18 / 169.
215

بعض الموارد.
وفي الجواهر: قد يقال باختصاص جواز التفريق قبل اثبات
العدالة وطلب المدعي الحكم.
وهذا غير واضح إذ لا أثر لتفريق الشهود واستماع شهادتهما
بعد ذلك إلا التأكد والاطمئنان.. وكيف كان فلا شبهة في الجواز
ويدل على ذلك روايات منها: ما روي عن معاوية بن وهب عن أبي
عبد الله عليه السلام قال: " أتي عمر بن الخطاب بجارية قد شهدوا
عليها أنها بغت، وكان من قصتها أنها كانت يتيمة عند رجل وكان
الرجل كثيرا ما يغيب عن أهله، فشبت اليتيمة فتخوفت المرأة أن
يتزوجها زوجها، فدعت بنسوة حتى أمسكنها، فأخذت عذرتها
بإصبعها، فلما قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة
وأقامت البينة من جاراتها اللائي ساعدنها على ذلك، فرفع ذلك
إلى عمر فلم يدر كيف يقضي فيها، ثم قال للرجل: ايت علي بن
أبي طالب عليه السلام واذهب بنا إليه.
فأتوا عليا عليه السلام وقصوا عليه القصة فقال لامرأة الرجل: ألك
بينة أو برهان؟ قالت: لي شهود هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما
أقول فأحضرتهن، فأخرج علي بن أبي طالب عليه السلام السيف
من غمده فطرح بين يديه، وأمر بكل واحدة منهن فأدخلت بيتا،
ثم دعا بامرأة الرجل فأدارها بكل وجه، فأبت أن تزول عن قولها
فردها إلى البيت الذي كانت فيه، ودعا أحد الشهود وجثى على
216

ركبتيه ثم قال: تعرفيني أنا علي بن أبي طالب وهذا سيفي وقد قالت
امرأة الرجل ما قالت ورجعت إلى الحق وأعطيتها الأمان، وإن لم
تصدقين لأملأن السيف منك، فالتفتت إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين
الأمان علي فقال أمير المؤمنين فاصدقي، فقالت: لا والله إلا أنها رأت
جمالا وهيئة فخافت فساد زوجها عليها، فسقتها المسكر ودعتنا فأمسكناها
فافتضتها بإصبعها، فقال علي عليه السلام: الله أكبر، أنا أول من فرق
بين الشاهدين [الشهود] إلا دانيال النبي. فألزم علي المرأة حد القاذف
وألزمهن جميعا العقر، وجعل عقرها أربعمائة درهم، وأمر امرأة
الرجل أن تنفى من الرجل ويطلقها زوجها، وزوجه الجارية، وساق
عنه علي المهر. فقال عمر: يا أبا الحسن فحدثنا بحديث دانيال،
فقال علي عليه السلام: إن دانيال.. " 1).
وما عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: " إن
شابا قال لأمير المؤمنين عليه السلام: إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي
معهم في السفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه فقالوا: مات
فسألتهم عن ماله فقالوا: ما ترك مالا، فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم
وقد علمت أن أبي خرج ومعه مال كثير، فقال أمير المؤمنين عليه
السلام: والله لأحكمن بينهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلا داود
النبي عليه السلام. يا قنبر أدع لي شرطة الخميس فدعاهم، فوكل

1) وسائل الشيعة: 18 / 202. وهي صحيحة أو حسنة بإبراهيم
ابن هاشم.
217

بكل رجل منهم رجلا من الشرطة، ثم نظر إلى وجوهم فقال: ماذا
تقولون؟ تقولون إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى؟ إني إذا لجاهل.
ثم قال: فرقوهم وغطوا رؤوسهم. قال: ففرق بينهم وأقيم كل رجل
منهم إلى أسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم. ثم
دعا بعبيد الله بن أبي رافع كاتبه فقال: هات صحيفة ودواة، وجلس
أمير المؤمنين عليه السلام في مجلس القضاء، وجلس الناس إليه،
فقال لهم: إذا أنا كبرت فكبروا. ثم قال للناس: أخرجوا. ثم دعا
بواحد منهم فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه. ثم قال لعبيد الله:
أكتب اقراره وما يقول، ثم أقبل عليه بالسؤال فقال له أمير المؤمنين
عليه السلام: في أي يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الفتى معكم؟
فقال الرجل: في يوم كذا وكذا. فقال: وفي أي شهر؟ فقال: في
شهر كذا وكذا، قال: في أي سنة؟ فقال: في سنة كذا وكذا. فقال:
وإلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبو هذا الفتى؟ قال: إلى
موضع كذا وكذا. قال: وفي منزل من مات؟ قال: في منزل فلان
ابن فلان. قال: وما كان مرضه؟ قال: كذا وكذا. قال: وكم يوما
مرض؟ قال: كذا وكذا. قال: ففي أي يوم مات؟ ومن غسله؟ ومن
كفنه؟ وبما كفنتموه؟ ومن صلى عليه؟ ومن نزل قبره؟ فلما سأله
عن جميع ما يريد كبر أمير المؤمنين عليه السلام وكبر الناس
جميعا، فارتاب أولئك الباقون، ولم يشكوا أن صاحبهم قد أقر عليهم
وعلى نفسه، فأمر أن يغطى رأسه وينطلق به إلى السجن. ثم دعا
بآخر فأجلسه بين يديه وكشف عن وجهه وقال: كلا زعمتم أني
218

لا أعلم ما صنعتم؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا إلا واحد من القوم،
ولقد كنت كارها لقتله، فأقر. ثم دعا بواحد بعد كلهم يقر
بالقتل وأخذ المال. ثم رد الذي كان أمر به إلى السجن فأقر أيضا.
فألزمهم المال والدم. ثم ذكر حكم داود عليه السلام بمثل ذلك.. " 1).

1) وسائل الشيعة: 18 / 204. وفي سندها علي بن أبي حمزة
البطائني.
219

المسألة العاشرة
(في ما يعتبر في الشهادة بالجرح)
قال المحقق " قده ": " لا يشهد الشاهدان بالجرح إلا مع
المشاهدة لفعل ما يقدح في العدالة أو أن يشيع ذلك في الناس
شياعا موجبا للعلم.. ".
أقول: يشترط في الشهادة بالجرح مشاهدة الشاهدين لفعل
ما يقدح في العدالة أو أن يشيع ذلك الفعل منه في الناس شياعا
موجبا للعلم واليقين، وإلا فلا تجوز الشهادة به، وأما في الشهادة
بالعدالة فلا يشترط ذلك بل يكفي حسن الظاهر من جهة أنه - كما
في الأخبار - الطريق إلى معرفة العدالة والكاشف عن وجود الملكة
الراسخة وإن كان احتمال الخلاف موجودا فقد ورد في تلك الأخبار 1)

1) قد تقدم ذكر بعضها، ففي مرسلة يونس: ".. فإذا كان
ظاهر الرجل ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه " وفي
رواية عبد الله بن المغيرة: " كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح
في نفسه جازت شهادته " ونحوهما غيرهما.
220

من كان كذلك تقبل شهادته، ومن هنا يقع الفرق بين الشهادة
بالجرح والشهادة بالعدالة.
وقد تقدم أن الشهادة استنادا إلى البينة والاستصحاب جائزة.
وعن المسالك: إن لم يبلغ المخبرون حد العلم لكنه استفاض
وانتشر حتى قارب العلم ففي جواز الجرح وجهان، من أنه ظن في
الجملة وقد نهى الله عن اتباعه إلا ما استثني، ومن أن ذلك ربما
كان أقول من البينة المدعية للمعاينة كما مر في نظائره.
وأورد عليه في الجواهر بقوله: وفيه ما لا يخفى بعد فرض عدم
حصول مرتبة العلم، وعدم الدليل على الاكتفاء بمثله وحرمة
القياس على البينة التي مبناها التعبد، ومن هنا كان ظاهر المصنف
وغيره اشتراط العلم.
أقول: إن البحث هو في الشهادة بالجرح فإن قلنا بعدم جواز
الشهادة استنادا إلى البينة بل ولا بالاستناد إلى العشرة، فنقض المسالك
غير وارد حتى يتوجه الاشكال الجواهر عليه.
هذا وتجوز الشهادة بالعدالة استنادا إلى حكم الحاكم، وحكم
الحاكم بعدالة الشاهدين أو فسقهما حجة بالنسبة إلى الحاكم الآخر،
ولكن ليس للأول ولا غيره الشهادة بالفسق أو العدالة، فحكم
الحاكم حجة وأما شهادته فغير مسموعة.
221

ثم هل للأفعال ظهور كالأقوال بحيث يجب الأخذ به؟ فيه
خلاف والظاهر هو العدم كما عليه أهل العرف. وإنما يحصل له
ظهور من بعض المقارنات، فإن أفادت تلك المقارنات العلم جرى
عليه الحكم، وإلا فهل الظن الحاصل من هذا الظهور حجة أو لا؟
الظاهر هو الأول وفاقا للسيد " قده " 1).

1) إذ قال: إنه يكفي ظهوره بملاحظة الحالات والمنضمات
وأنه من الظنون المعتبرة، وخلافا لصاحب الجواهر " قده " حيث
قال بأنه: من الظن الذي لا دليل على حجيته بل الدليل على خلافه.
222

المسألة الحادية عشرة
(في الحكم باستمرار العدالة حتى ثبوت ما ينافيها)
قال المحقق " قده ": " لو ثبت عدالة الشاهد حكم باستمرار
عدالته. "
أقول: لو ثبتت عدالة الشاهد حكم الحاكم باستمرارها
بالاستصحاب غير أنه لما كان للاستصحاب كاشفية نوعية بنى العقلاء
على العمل بها كما تقرر في الأصول - يشترط عدم الفاصل الطويل
بين زماني اليقين والشك لأن ذلك يؤدي إلى ضعف الظن بالبقاء
والكاشفية النوعية المذكورة.
قال: " وقيل: إن مضت مدة يمكن تغير حال الشاهد فيها
استأنف البحث عنه ولا حد لذلك، بل بحسب ما يراه الحاكم ".
أقول: وهذا قول ثان في المسألة - قال في الجواهر - وإن
223

كنا لم يتحقق القائل بذلك منا 1). وعن المبسوط عن بعضهم تحديده
بستة أشهر ولا دليل عليه، بل الاستصحاب حجة حتى يتبين ما ينافي
العدالة.

1) وجعله المحقق العراقي " قده " من خرافات العامة، لكنه
الأحوط في القواعد إذ جاء فيه: والأحوط أن يطلب التزكية مع
مضي مدة يمكن تغيير حال الشاهد، وذلك بحسب ما يراه الحاكم
من طول الزمان وقصره. وقال صاحب مفتاح الكرامة: ولا ريب
في استحبابه.
224

المسألة الثانية عشرة
(في كتابة الحاكم قضايا كل أسبوع)
قال المحقق: " ينبغي أن يجمع قضايا كل أسبوع ووثائقه
وحججه ويكتب عليها، فإذا اجتمع ما لشهر كتب عليه قضاء شهر
كذا، فإذا اجتمع ما لسنة جمعه وكتب عليه قضاء سنة كذا ".
أقول: كان ينبغي ذكر هذه المسألة في الآداب، والأمر سهل.
225

المسألة الثالثة عشرة
(هل يجب على الحاكم كتابة المحضر؟)
قال المحقق: " كل موضع وجب على الحاكم كتابة المحضر.. "
أقول: لا يجب على الحاكم تحصيل مقدمات الكتابة ولوازمها
كالدواة والقرطاس، وقيل: يجب عليه الدواة، ولو بذل باذل أو
أرسل إليه من بيت المال وكانت الكتابة واجبة عليه - وجب
عليه الكتابة، وفي الجواهر: " لا دليل على الوجوب مع البذل
أيضا وإن نسبه في المسالك إلى الأشهر تارة وإلى المعروف بين
الأصحاب أخرى معللا له بأن ذلك حجة فكان عليه إقامتها كالحكم،
وكما لو أقر له بالحق وسأله الاشهاد على اقراره. إلا أنه كما ترى،
ضرورة أن الحجة حكمه والاشهاد عليه لا كتابة الحكم، بل وكذا
كتابة الاشهاد على الاقرار.
أقول: قد يكون للكتابة واعطائها بيد من حكم له دخل في
إحقاق الحق ووصول صاحبه إليه كالحكم نفسه بحيث إذا لم تكن
226

كتابة لم يتحقق الحق وتحصيله، بل قد يجب على الحاكم أخذ
الحق بعد الحكم مع التمكن من ذلك من باب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر وتسليمه لأهله.
وقد يستدل لوجوب الكتابة بقوله تعالى: ".. وليكتب بينكم
كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب.. " 1)
فإنه ظاهر في الوجوب وقد أكده بالنهي عن الإباء عنها، وأجاب
في الجواهر: بأنه في غير ما نحن فيه وهو محمول على ضرب من
الكراهة، للقطع بعدم وجوب ذلك.
وفيه: أن المستفاد من الآية الكريمة هو الملاك العام وهو: عدم
إباء الكاتب والشاهد عن الكتابة والشهادة عند الحاجة واحتمال ضياع
الحق بدون ذلك. وخصوصية مورد الآية لا تخصص، ولذا استدل
بها الأصحاب في غير الدين.
وأما دعوى القطع بعدم وجوب الكتابة فإن أريد القطع بعدم
وجوبها أولا وبالذات فهو حق، وإن أريد القطع بعدم وجوبها عليه
وإن بذل له ما يلزم وطولب بها واحتمل ضياع الحق لو لم يكتب
فتلك دعوى بعيدة.
وقد يستدل بقوله تعالى: " وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب
ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم.. " 1) بناء على ما هو الأظهر
من أن " يضار " أصله " يضارر " فأدغمت الراء في الراء وفتحت

1) سورة البقرة: 282.
227

لالتقاء الساكنين، فيكون معناه: لا يكتب الكاتب إلا بالحق ولا يشهد
الشاهد إلا بالحق وإلا كان فسقا 1).
نعم في الآية السابقة ما يحتمل معه كون الأمر فيه ارشاديا وهو
قوله عز وجل " ذلكم أقسط.. " بناء على أنه يتوجه إلى جميع
الآية لا الجملة الأخيرة منها، ولكن الظاهر دلالة الآية على الوجوب
في حال المطالبة ووجود الحاجة كما ذكرنا.

1) القول الثاني: إن أصله " يضارر " بفتح الراء الأولى فأدغمت،
فيكون المعنى: لا يدعي الكاتب على وجه يضربه وكذلك الشاهد
لقاعدة نفي الضرر. وقد ذكر في مجمع البيان القولين وقال:
والأول أبين.
228

المسألة الرابعة عشرة
(في تعنيت الحاكم للشهود)
قال المحقق: " يكره للحاكم أن يعنت الشهود إذا كانوا من
ذوي البصائر.. ".
أقول: أي يكره أن يعامل الحاكم الشهود الذين هم من ذوي
البصائر والفهم والأديان معاملة من ليسوا كذلك.
قال: " لأن في ذلك غضاضة لهم " كما لا يخفى.
قال: " ويستحب ذلك في موضع الريبة ".
أقول: ويظهر من قول أمير المؤمنين عليه السلام: " أنا أول
من فرق الشهود " 1) إن هذا الأمر لم يكن جاريا إلا في موارد الشبهة
والريبة.

1) وسائل الشيعة: 18 / 203. وقد تقدم الحديث بكامله.
229

المسألة الخامسة عشرة
(يجوز للحاكم أن يتعتع الشهود)
قال المحقق: " يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد، وهو أن
يداخله في التلفظ بالشهادة أو يعقبه، بل يكف عنه حتى ينتهي ما
عنده وإن كان يتردد.
ولو تردد في الشهادة لم يجز ترغيبه في الاقدام على الإقامة
ولا تزهيده في إقامتها.
وكذا لا يجوز ايقاف عزم العزيم عن الاقرار لأنه ظلم لغريمه
ويجوز 1) ذلك في حقوق الله، فإن الرسول صلى الله عليه وآله

1) وفي المسالك: يستحب. قال: يستحب له ذلك تأسيا بالنبي
صلى الله عليه وآله في قضية ماعز بن مالك لما جاء إلى
النبي " ص " وأقر عنده بالزنا وكان " ص " يعرض له بالتأويل
ويقول له: لعلك لمستها. ايثارا للاستتار. والرواية
مشهورة.
230

قال لماعز عند اعترافه بالزنا " لعلك قبلتها، لعلك لمستها " وهو
تعريض بايثار الاستتار ".
أقول: وكل ذلك واضح.
231

المسألة السادسة عشرة
(في أنه يكره للحاكم أن يضيف أحد الخصمين)
قال المحقق " قده ": " يكره أن يضيف أحد الخصمين دون
صاحبه ".
أقول: ووجهه واضح، فإن فيه ترجيحا له على صاحبه، وقد
روي: " أن رجلا نزل بأمير المؤمنين عليه السلام فمكث عنده أياما
ثم تقدم إليه في خصومة [حكومة] لم يذكرها لأمير المؤمنين،
فقال له: أخصم أنت؟ قال: نعم. قال: تحول عنا فإن رسول الله " ص "
نهى أن يضاف الخصم إلا ومعه خصمه " 1).
وكذا يكره أن يذهب إلى دار أحدهما دون الآخر، بل كل ما
يقتضي ترجيح أحد الخصمين على صاحبه.

1) وسائل الشيعة: 18 / 157.
232

المسألة السابعة عشرة
(في حرمة الرشوة)
قال المحقق: " الرشوة حرام على آخذها ".
أقول: لا يجوز أخذ الرشوة، وهي حرام على آخذها بالاجماع
بل بالضرورة من الدين، ويدل عليه قوله تعالى: " ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال
الناس بالإثم وأنتم تعلمون " 1).
والأخبار في هذا الباب متواترة، وفي جملة منها: إن الرشا
في الحكم كفر بالله.

1) سورة البقرة: 188.
2) عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " الرشا في الحكم
هو الكفر بالله ".
وعنه عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: " وأما الرشا
في الحكم فهو الكفر بالله ".
انظر وسائل الشيعة: 18 / 162 و 163.
وعن عمار بن معاوية عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال:
" فأما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله
صلى الله عليه وآله " وسائل الشيعة: 6 / 61.
233

وفي بعضها: إنه شرك. 1)
فلا ريب في الحكم.
موضوع الرشوة:
إنما الكلام في موضوع الرشوة، وكلمات الأصحاب من الفقهاء
واللغويين في ذلك مضطربة:
قال المحقق: " ويأثم الدافع لها إن توصل بها إلى الحكم له
بالباطل، ولو كان إلى حق لم يأثم ".
أقول: وعن جامع المقاصد: " إن الجعل من المتحاكمين
رشوة " لكن ظاهر الرواية 2): إن الأجرة على القضاء غير الرشوة
فلذا كانت الأولى سحتا والثانية كفرا.

1) عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث
قال: " وإن أخذ الرشوة فهو مشرك ". وسائل الشيعة 6 / 63.
2) يعني: ما عن عمار بن مروان قال قال أبو عبد الله عليه السلام:
" كل شئ غل من الإمام فهو سحت، والسحت أنواع كثيرة منها
ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أجور القضاة وأجور الفواجر
وثمن الخمر والنبيذ المسكر والربا بعد البينة فأما الرشا - يا عمار -
في الأحكام فإن ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله " ص ". وسائل
الشيعة: 6 / 64.
234

وقيل: ما يبذله المتحاكمان رشوة ولو كان بعنوان الجعالة
والأجرة.
وفي القاموس فسر الرشوة بالجعل، لكن في مجمع البحرين:
قلما تستعمل الرشوة إلا فيما يتوصل به إلى ابطال حق أو تمشية
باطل.
وقال السيد: هي ما يبذله للقاضي ليحكم له بالباطل أو ليحكم
له حقا كان أو باطلا أو ليعلمه طريق المخاصمة حتى يغلب على
خصمه، ولا فرق في الحرمة بين أن يكون ذلك لخصومة حاضرة
أو متوقعة ".
أقول: فإذا كانت الكلمات في بيان حقيقة الرشوة مختلفة
ومضطربة فإنه في كل مورد يشك في صدق عنوان " الرشوة " فيه مثل
" أجور القضاة " يكون المرجع أصالة الحل لكونها شبهة مصداقية
لأدلة حرمة الرشوة، إلا أن تثبت الحرمة من دليل آخر وبعنوان غير
عنوان الرشوة.
والقدر المتيقن من الرشوة: أنها ما يبذله للقاضي حتى يحكم
لصالحه، فهذا هو القدر المتيقن من الآية المباركة المذكورة أو لا
إلا أن الأخبار المستفيضة الواردة في الباب الخامس من أبواب ما
يكتسب 1) به تدل على أن الرشا في الأحكام " سحت " و " كفر " وهي

1) وسائل الشيعة: 6 / 61 - 66.
235

باطلاقها تعم ما إذا كان البذل لإحقاق الحق، لا يقال: إنها واردة
في مورد الآية الكريمة. لأنه يحتمل أن يكون قيد " بالإثم " غالبيا،
لأن غالب الراشين يتوصلون بالرشوة إلى أكل مال الناس وابطال
حقوقهم.
فظهر أن الرشا في الحكم مطلقا - أي حقا كان الحكم أو باطلا -
حرام بالكتاب والسنة، وأما إذا توقف إحقاق الحق على بذل شئ
بحيث لو لم يبذله لوقع في الضرر العظيم وضاع حقه - جاز البذل
لتقدم قاعدة نفي الضر حينئذ، نظير ما قد يبذل للظالم مال دفعا
لأذاه وتحفظا من ضرره.
حكم الرشوة في غير الحكم:
وأما في غير الأحكام فإن أخبار الرشوة وإن كانت واردة في مورد
الحكم والأحكام إلا أن مقتضى اطلاق بعض تلك الأخبار هو حرمتها
في غير الأحكام أيضا، فقد روى الشيخ الصدوق " قده " عن الأصبغ
ابن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: " أيما وال احتجب
عن حوائج الناس احتجب الله عنه يوم القيامة وعن حوائجه، وإن
أخذ هدية كان غلولا، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك " 1).
فهل تقيد اطلاق الرواية بالروايات المقيدة أو أن ظهورها آب
عن التقييد؟ الظاهر هو الثاني، و " حوائج الناس " يعم غير الأحكام
كما لا يخفى.

1) وسائل الشيعة: 6 / 63 عن عقاب الأعمال.
236

وروى الشيخ الصدوق " قده " أيضا عن سيدنا أبي الحسن الرضا
عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين في تفسير قوله تعالى:
أ كالون للسحت.. قال: " هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثم يقبل
هديته " 1).
ويمكن أن يقال - ولا سيما بالنظر إلى هذين الخبرين - أنه
ولو فرض كون الرشوة في الحكم فقط، فإن كون الرجل منصوبا
- شرعا أو عرفا - لرفع الظلم عن الناس وقضاء حوائجهم يقتضي
وجوب ذلك عليه وأن مطالبته أو أخذه شيئا في مقابل عمله سحت.
وبالجملة فإن الرشوة في الأحكام لابطال الحق مقطوع بحرمتها
والظاهر أنها كذلك في مطق الحكم إن كان البذل بعنوان الرشوة
سواء أثر في كيفية الحكم أو لم يؤثر، وأما في غير الأحكام فالمستفاد
من الخبرين المذكورين حرمة الأخذ على من كان موظفا بالقيام
بالواجبات الموضوعة على عاتقه.
ثم إنه لا فرق في " الرشوة " بين المال المبذول له وبين العمل
النافع الذي يعمله له كخياطة ثوب مثلا أو انجاز غرض له كأن يبيعه
داره ولو بالثمن المتعارف، أي بأن يقدمه على غيره في المعاملة،
وهل هذه المعاملة باطلة حينئذ؟ قيل: لا لأنه نظير البيع عند النداء
وقيل: نعم لأن الحكم الوضعي هذا مترتب على الحكم التكليفي،
فلما كانت الرشوة محرمة وكانت هذه المعاملة مصداقا لها كانت باطلة.

1) وسائل الشيعة: 6 / 64 عن عيون الأخبار.
237

وأيضا: لو دفع إليه الخمس أو الزكاة حتى يحكم له، فإنه حرام
ولا تبرء ذمة المعطي من الخمس والزكاة حينئذ.
وفي هذه الأيام يقول بعض جهلة القضاة: إن أعطيت كذا
للمستضعفين نجوت من العقوبة مثلا، فإن هذا المال رشوة ولا يملكه
المستضعفون.
وكذا يحرم احترام القاضي وتبجيله والثناء عليه إن كان بعنوان
الرشوة، ولو أثر ذلك في نفس القاضي فحكم له كان مرتكبا للحرام
أيضا.
وبالجملة فإن كل ما قصد به التوصل إلى حكم الحاكم كان رشوة
محرمة، وإن شك في بعض الأفراد في الدخول تحت الاسم أو جزم
بعدمه فالبراءة جارية خلافا لصاحب الجواهر.
حكم الهدية للقاضي:
وأما الهدية فهي في نفسها أمر مرغوب فيه، وقد كان النبي
صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام يأمرون بها ويقبلونها
إلا أنه لا ريب في حرمة الهدية للقاضي والعامل، وقد ورد أن هدايا
العمال " غلول ". و " سحت " 1)، وفي حديث عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أنه قال ".. ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول:
هذا لكم وهذا أهدي لي، فهلا جلس في قلب بيت أمه وأبيه ينظر
أيهدى له أم لا. والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء

1) وسائل الشيعة: 18 / 163، 12 / 63، 64.
238

يوم القيامة يحمله على رقبته.. " 1) وهذا الحديث يدل على أن أخذ
العمال مطلقا - أي سواء كانوا عمال الظلمة أو غيرهم - الهدية
حرام، ولا يبعد صدق عنوان " الرشوة " على هذا المال، وتخصيص
بعض الأصحاب ذلك بعمال سلاطين الجور خلاف ظاهر الأخبار.
وأما صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام:
" عن رجل يرشو الرجل على أن يتحول من منزله فيسكنه. قال:
لا بأس ".
فإن كان المنزل ملكا له فلا بأس بأن يأخذ شيئا حتى يتحول
عن ملكه، وإن لم يكن - كما ذكر صاحب الوسائل - فيمكن حملها
على المنزل المشترك كالموقوف للسكنى فيعطى الثاني للأول لأجل
النزول عن حقه الحاصل له بالسبق - هذا بناء على ثبوت حق له
بالسبق إليه، وأما بناء على أن الوقف مال محرر فلا يكون ملكا
ولا متعلق حق لأحد، فإن سبق إلى مكان موقوف فلا يجوز إزاحته
عن ذلك المكان جبرا لأن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم.
فلا بأس بأن يطالب بشئ في مقابل قيامه عن هذا المكان وإن لم يكن
له حق فيه كما هو المفروض.
وهذا البحث جار في المسجد ومكان المصلي، وكذا في سوق
المسلمين حيث قال صلى الله عليه وآله: " سوق المسلمين كمسجدهم
فمن سبق إليه كان أحق به إلى الليل ".

1) حديث عامي.
239

وعلى كل حال يكون التعبير عن الشئ المأخوذ في مقابل
التحول عن المنزل ب‍ " الرشوة " تعبيرا مجازيا، أو يقال بأنه رشوة
- لأنه مال أعطي له لأجل التوصل إلى الغرض - ولكنه لا بأس به
هنا لكونه في مورد محلل.
فتلخص إن الرشوة هو ما يبذله للقاضي أو الوالي أو العامل
في مقابل عمله الواجب عليه سواء كان بعنوان الرشوة أو الهدية.
وإن بذل للقاضي مال وجهل عنوانه فهل يحمل على الصحة؟
قال السيد نعم، وهو مشكل، فإن أثر حمل فعل المسلم على الصحة
هو أن لا يكون فاعلا لمحرم، ولكن هذا لا يثبت كون المال المأخوذ
صدقة مثلا حتى يجوز له أخذه. وبعبارة أخرى: الحمل على الصحة
إنما يفيد الحل مع العلم بالعنوان، كأن يعلم بأنه هدية ويشك في
كونها هدية صحيحة أو فاسدة، فيحمل فعل المسلم على الصحة
ويجوز التصرف في المال المأخوذ.
هذا، ولا ينفذ حكم الحاكم الآخذ للرشوة وإن كان حكمه بالحق
لصيرورته فاسقا بأخذها، وعليه رد ما أخذ على صاحبه.
قال المحقق: " ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها
ولو تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له ".
أقول: القول بالضمان هو المختار، وعن بعضهم نفي الخلاف
فيه، ويدل عليه عموم قوله " ص ": " على اليد ما أخذت حتى
تؤدي ".
240

المسألة الثامنة عشرة
(هل يجب احضار الخصم إلى مجلس الحكم؟)
قال المحقق " قده ": " إذا التمس الخصم احضار خصمه مجلس
الحكم أحضره إذا كان حاضرا ".
أقول: ظاهر " أحضره " هو الوجوب، وفي القواعد: إذا
استعدى رجل على رجل إلى الحاكم لزمه أن يعديه ويستدعي خصمه
إن كان حاضرا، سواء حرر المدعي دعواه أو لا. قال في الجواهر:
بلا خلاف أجده فيه، بل في المسالك نسبته إلى علمائنا وأكثر العامة
وكذا عن ظاهر المبسوط الاجماع عليه.
فإن كان اجماع على وجوب الاحضار فهو وإلا ففي ما ذكروه
من تعلق حق الدعوى به نظر واضح، لأن الحاكم كما يحتمل صدق
المدعي في هذه الدعوى يحتمل كذبه وبطلان دعواه أيضا، وحيث
لم يتبين للحاكم بعد صدق الدعوى ووجود الحق كيف يجب عليه
احضار الخصم؟
241

وكذا الكلام في قولهم: إن مقتضى منصب الحاكم احضار
الخصم، فإن لازم منصب الحاكم سماع الدعوى والقيام بجميع
مقدمات رفع الخصومة ولكن لا توقف لذلك على احضار الخصم
بل له النظر في القضية بحسب الموازين الشرعية ثم الحكم على
الخصم حكما غيابيا.
فظهر سقوط كلا الوجهين، فالعمدة هو الاجماع إن تم، قال
في الجواهر: " لكن الانصاف أنه لا يخفى عليك ما في دعوى الاجماع
في أمثال هذه المسائل، على أن المحكي عن الفاضل في المختلف
عدم وجوب احضار الغائب بعد تحرير الدعوى.. " وعليه فلا يجب
الاحضار ويتعين الحكم الغيابي والغائب على حجته.
وبناء على الوجوب فلا فرق بين الأشخاص المحترمين وغيرهم
قال في كشف اللثام: سواء كان من أهل الصيانات والمروات أو لا.
قال في المبسوط: لأن عليا عليه السلام حضر مع يهودي عند شريح.. "
وهذا يعني أن جميع المسلمين في الحقوق والأحكام على حد سواء
ولا فضل لأحد منهم على أحد فيها 1).

1) وقد استشكل في الحكم بوجوب الاحضار مطلقا جماعة،
فعن المحقق الأردبيلي " قده " في شرح الإرشاد: في الوجوب بل
الجواز تأمل إن لم يكن اجماع، إذ مجرد الطلب إلى مجلس القاضي
والدعوى ضرر وإهانة، ففعل ذلك من غير ظهور موجب محل تأمل
وكون الظاهر صحة دعواه لا يوجب ذلك وهو ظاهر، على أن
تحرير الدعوى لا يضره بوجه. وفي المستند بعد كلام له: وبالجملة
لا وجه تاما لوجوب الاحضار مع جواز الحكم على الغائب، فالأقرب
التخيير والأولى البعث إليه واخباره بأنه يحضر أو يحكم عليه.
وفي الكفاية بعد أن نسب القول بالوجوب مطلقا إلى المعروف من
مذهب الأصحاب: والأحوط أن لا يحكم باحضار قبل تحرير الدعوى
لأن في الاحضار في مجلس الحكم نوع ايذاء. وقال السيد في العروة:
والأقوى عدم وجوب احضاره حتى بعد التحرير وعدم وجوب
حضوره بناء على جواز الحكم على الغائب عن البلد بل الحاضر
فيه إذا أسقط حق حضوره. وقال السيد الخونساري: فإن تم الاجماع
فلا كلام وإلا فيشكل، حيث أنه مع عدم ثبوت شئ على المدعى
عليه ما وجه الزامه؟
242

ولا فرق في ذلك بين تحرير المدعي دعواه وعدم تحريره لها:
قال المحقق: " سواء حرر المدعي دعواه أم لم يحررها ".
قال: " أما لو كان غائبا لم يعده الحاكم حتى يحرر دعواه والفرق
لزوم المشقة في الثاني وعدمها في الأول ".
أقول: هذا المقدار من المشقة لا يرفع وجوب الاحضار على
الحاكم أو وجوب الحضور على المدعى عليه، وإلا لانتفت الفائدة
من نصب الحاكم والرجوع إليه وهي فصل الخصومة ورفع النزاع.
فلا وجه لهذا التفصيل لكن تقدم التأمل في أصل وجوب الاحضار،
فعلى الحاكم أن يحكم في القضية بحسب الموازين ثم الغائب على
حجته.
243

قال: " هذا إذا كان في بعض مواضع ولايته وليس له هناك
خليفة يحكم ".
أقول: أي وإلا سمع بينته إن كانت وكتب بالأمر إلى خليفته.
قال: " وإن كان في غير ولايته أثبت الحكم عليه بالحجة وإن
كان غائبا ".
أقول: وحيث يكون غائبا يكون على حجته، فإن حضر وأثبت
بطلان دعوى المدعي سقطت الدعوى كما سيجئ في محله إن شاء الله تعالى.
وحيث يجب على الحاكم احضار الخصم فعلى من تكون مؤنة
الاحضار؟ هل على الحاكم أو على المدعي أو على المدعى عليه؟ في
المرة الأولى المؤنة على المدعي لأنه الملتمس للارسال خلف خصمه
فعليه المؤنة، لأن عمل الرسول محترم ولم يقصد المجان، إلا أن
يقال: لما وجب الحكم على الحاكم فقد وجب عليه دفع مؤنة
احضار المدعى عليه لأنه مقدمة للواجب، فيكون نظير شراء الماء
للوضوء، ولكن الصحيح أن الواجب على الحاكم هو أصل الحكم.
ثم إن أرسل إليه وأبلغه الرسول احضار الحاكم إياه، فإن
أجاب فهو وإلا فيرسل إليه أحد عماله للمرة الثانية، فإن لم يجب
أجبر على الحضور، فعلى من تكون المؤنة فيما عدا المرة الأولى؟
قال الشهيد الثاني فيه وجهان، من أن الملتمس هو المدعي فتكون
المؤنة عليه، ومن أن الموجب لهذه المؤنة هو الخصم لاستنكافه
عن الحضور فعليه المؤنة.
244

أقول: مقتضى القاعدة الأولية توجه المؤنة إلى الملتمس، وأما
توجهها إلى الخصم الممتنع فيتوقف على كونه السبب الأقوى في
لزوم المؤنة والضرر، والظاهر أن المدعي هنا هو السبب للضرر
اختيارا، وليس امتناع الخصم عن الحضور أقوى في السببية للضرر.
وفي الجواهر: لا يمكن مطالبة المدعي بالضرر لأنه لا جعالة
ولا إجارة، وأما الخصم فلا وجه لمطالبته، قال: بل في المرة
الأولى كذلك لا يجب على المدعي دفع المؤنة. وفيه: أنا قد ذكرنا
سابقا أن عمل المسلم محترم والمفروض عدم اتيانه العمل بقصد
المجان فحيث كان الملتمس هو المدعي فعليه دفع المؤنة.
وأما أن يصبر الحاكم حتى آخر الدعوى فيأخذ المؤنة كلها
من المحكوم عليه، فاستحسان عقلي لا دليل عليه.
قال المحقق: " ولو ادعى على امرأة فإن كانت برزة 1) فهي
كالرجل وإن كانت مخدرة بعث إليها من يثق به في الحكم بينها وبين
غريمها ".
أقول: وجه هذا كله واضح لا يخفى.

1) المراد من المرأة البرزة هي غير المخدرة كما هو مقتضى
التقابل بينهما، لكن المرجع فيه العرف والعادة كما نص عليه جماعة.
245

كيفية مجلس الحكم
وفيها مقاصد: " الأول " في وظائف الحاكم.
" الثاني " في مسائل متعلقة بالدعوى.
" الثالث " في جواب المدعى عليه.
" الرابع " في كيفية الاستحلاف.
247

المقصد الأول
(في وظائف الحاكم)
الأولى: التسوية بين الخصمين
قال المحقق: " التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس
والنظر والكلام والانصات والعدل في الحكم ".
أقول: جعله التسوية بين الخصمين من الوظائف ظاهره الوجوب
وبه صرح في الجواهر 1).
قال: " ولا تجب التسوية في الميل بالقلب لتعذره غالبا ".
أقول: وأما ما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام من أنه " كان
في بني إسرائيل قاض وكان يقضي بالحق فيهم فلما حضره الموت قال
لامرأته: إذا أنا مت فاغسليني وكفنيني وضعيني على سريري وغطي
وجهي فإنك لا ترين سوءا، فلما مات فعلت ذلك ثم مكث بذلك

1) بل لقد نسبة في المستند إلى صريح المحقق، ويتضح ذلك
من قوله بعدئذ: ولا تجب التسوية في الميل بالقلب لتعذره غالبا.
249

حينا، ثم إنها كشفت عن وجهه لتنظر إليه فإذا هي [هو] بدودة تقرض
منخره ففزعت من ذلك. فلما كان الليل أتاها في منامها فقال لها: أ فزعك ما رأيت؟
قالت: أجل، فقال لها: أما لئن كنت فزعت ما كان الذي رأيت
إلا في أخيك فلان، أتاني ومعه خصم له، فلما جلسا إلي قلت:
اللهم اجعل الحق له ووجه القضاء على صاحبه، فلما اختصما إلي
كان الحق له ورأيت ذلك بينا في القضاء، فوجهت القضاء له على
صاحبه، فأصابني ما رأيت لموضع هو أي كان مع موافقة الحق " 1)
فقد حمله صاحب الجواهر على ضرب من الحث على المراتب
العالية 2).
قال: " هذا كله مع التساوي في الاسلام أو الكفر.. ".
أقول: أي إنما تجب التسوية - على القول بها - مع التساوي

1) وسائل الشيعة: 18 / 164. وهي باسناد الشيخ الكليني
قدس سره صحيحة أو حسنة بإبراهيم بن هاشم القمي.
2) وفي المستند: إن المؤاخذة كانت على ما قاله بقوله: اللهم.
حيث أظهر باللسان ما كان في قلبه وإن لم يظهره على الخصمين.
فتأمل. وقد استدل به في مفتاح الكرامة على استحبابها في صورة
الامكان، قال: نعم إن أمكن ولو بجهد استحب كما أشار إليه في
الدروس، لما رواه ثقة الاسلام والشيخ الطوسي في الأمالي عن
أبي جعفر عليه السلام قال: كان في بني إسرائيل قاض..
250

بين الخصمين في الاسلام أو الكفر أي كونهما مسلمين أو كافرين،
وأما إذا كان أحدهما مسلما جاز أن يكون الذمي قائما والمسلم
قاعدا أو أعلى منزلا، قال في الجواهر " بلا خلاف، بل في الرياض
أنه كذلك قولا واحدا " 1).
قلت: أما العدل في الحكم فلا خلاف بين المسلمين في وجوبه
حتى لو كان أحد الخصمين مسلما والآخر كافرا، وهو صريح
الكتاب 2).

1) ولما ذكره الأصحاب في كتبهم عن أمير المؤمنين عليه
السلام أنه جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهودي في درع
وقال: " لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك ولكن قد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: لا تساووهم في المجلس ".
قال في المستند: وضعفه منجبر، وهل يختص ذلك بالمجلس أو
يتعدى إلى غيره أيضا؟ الظاهر التعدي كما اختاره في الروضة، وإليه
ذهب والدي في المعتمد واستقواه بعض المعاصرين، للأصل
واختصاص النصوص بحكم التبادر واختصاص المورد بالمسلمين
وخلو ما ظاهره العموم عن الجابر مع ضعفه.
2) كقوله تعالى: " إن الله يأمر كم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " وقوله تعالى:
" إن الله يأمر بالعدل.. " وقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا
قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى " وقوله تعالى: " يا داود إنا جعلناك خليفة
في الأرض فاحكم بين الناس بالحق.. ".
251

والأخبار المستفيضة إن لم تكن متواترة 1).. هذا إذا لم
يكن في الحكم ضرر، وأما إذا كان فيه ضرر فإن كان الضرر المترتب
متوجها إلى حياة الحاكم، بمعنى أنه لو حكم بالعدل في القضية
وقعت حياته في خطر ترك الحكم بالعدل، ولكن ليس له الحكم
بالباطل، وإن استلزم الحكم ضررا على المدعى عليه زائدا على
أصل ما يقتضيه لم يجب عليه اصدار الحكم حينئذ، وإن استلزم
ضررا على المدعي فإن كان باختيار نفسه فالأمر واضح، وإن كان
الضرر يتوجه إليه فيما إذا حكم له الحاكم من قبل المحكوم عليه
فلا يجب على الحاكم الحكم كذلك.
وإن تعارض ضرران على أثر حكم كضرر الحاكم وضرر المحكوم
عليه مثلا، فقيل: مقتضى قاعدة نفي الضرر أن يحكم الحاكم بحيث
يندفع الأشد، وفيه: أن مقتضى القاعدة أن لا يحكم الحاكم في
القضية أصلا.
وأما التسوية بين الخصمين المسلمين أو الكافرين في الأمور

1) تجدها في الأبواب المختلفة من كتاب القضاء من وسائل
الشيعة، ويدل عليه الروايات التي يستدل بها على وجوب التسوية
بين الخصمين في أنواع الاكرام وسيأتي ذكر بعضها.
252

الأخرى كالسلام والجلوس والنظر والكلام والانصات ونحو ذلك
ففي وجوبها خلاف، ففي المسالك نسبة الوجوب إلى الأكثر، بل
ادعى عليه الشهرة، وقد يستدل له بقوله تعالى: " فاحكم بين الناس
بالحق " 1) ونحوه، بناءا على أن التسوية بينهما في هذه الأمور
أيضا من مقدمات الحكم، فيكون معنى الآية وجوب العدالة في
الحكم ومقدماته.
بل قيل بوجوب التسوية بينهما في رد السلام، فإن سلم أحدهما
قبل الآخر صبر حتى يسلم الآخر فيرد عليهما معا مرة واحدة بقوله:
" وعليكما السلام " إلا إذا طالت المدة عرفا فيرد السلام على الأول
حينئذ.
أقول: لكن استفادة وجوب التسوية بينهما في هذه الأمور من
الآية الكريمة مشكلة.
واستدل أيضا بروايات على وجوب التسوية:
(1) محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الحسن
ابن محبوب عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن سلمة بن كهيل
قال: سمعت عليا عليه السلام يقول لشريح. ".. ثم واس بين
المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك
ولا ييأس عدوك من عدلك.. " 2).

1) سورة ص: 26.
2) وسائل الشيعة: 18 / 155.
253

وهذه الرواية يبتني اعتبار سندها على القول بتصحيح ما يصح
عن أحد الرواة الذين عرفوا بأصحاب الاجماع فلا تقدح جهالة
الرواي الذي هو بعده، وهنا في سند هذه الرواية من أصحاب
الاجماع: " الحسن بن محبوب " 1) ولولاه فهي غير معتبرة لوجود
" سلمة بن كهيل " فيه.
ومن حيث الدلالة قال المحقق العراقي " قده ": يستفاد من
تعليله عليه السلام التساوي بهذا المعنى عدم وجوبه وكون الأمر
ارشاديا، فلو حكم بالعدل واقعا وعلم الخصمان بذلك واطمأنا بذلك
لم يلزم مراعاة هذه الأمور وكان في سعة بالنسبة إليها.

1) أي بناء على عد الكشي إياه منهم، وهذا نص كلامه: " تسمية
الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام:
أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم وأقروا لهم
بالفقه والعلم، وهم ستة نفر آخر دون الستة نفر الذين ذكرناهم في
أصحاب أبي عبد الله عليه السلام، منهم: يونس بن عبد الرحمن
وصفوان بن يحيى بياع السابري ومحمد بن أبي عمير وعبد الله بن
المغيرة والحسن بن محبوب وأحمد بن محمد بن أبي نصر. وقال
بعضهم مكان (الحسن بن محبوب): الحسن بن علي بن فضال وفضالة
ابن أيوب وقال بعضهم مكان فضالة بن أيوب: عثمان بن عيسى.
وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن وصفوان بن يحيى " رجال
الكشي: 466.
254

أقول: وما ذكره " قده " يتم بناءا على كون " حتى " تعليلية،
وأما بناءا على كونها غائية وأن الإمام عليه السلام قد ألزمه بالتسوية
حتى لا يطمع.. فلا، والظاهر هو الثاني، ولو سلمنا كلامه فإن العلة
لا ترفع الحكم، فلو قال: لا تشرب الخمر لأنه مسكر لم يكن معناه
عدم الحرمة عند عدم الاسكار، بل يحرم شربه حتى قليله الذي لا
يسكر وحتى إذا مزج بالماء كما روي فعله من بعض خلفاء الجور.
(2) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام
لعمر بن الخطاب: " ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهن
وإن تركتهن لم ينفعك شئ سواهن. قال: وما هن يا أبا الحسن؟
قال: إقامة الحدود على القريب والبعيد والحكم بكتاب الله في
الرضا والسخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود. قال عمر:
لعمري لقد أو جزت وأبلغت " 1).
قال بعض المعاصرين: أن قوله عليه السلام: " إن حفظتهن

1) وسائل الشيعة: 18 / 156. وهو للكليني عن علي بن إبراهيم
عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن عبيد الله بن علي الحلبي
عن الصادق عليه السلام. وفيه " إسماعيل بن مرار " وهو مختلف
فيه، فقد ذكر في تنقيح المقال عد الشيخ إياه في باب من لم يرو
عنهم عليهم السلام ساكنا عليه ولم ينقل عن النجاشي فيه شيئا، ثم
ذكر عن المحقق الوحيد البهبهاني " قده " توثيقه ووافقه عليه، أما
السيد الخوئي دام ظله فقد ذكر كلام الوحيد ولم يوافقه. فراجع.
255

وعملت بهن كفتك ما سواهن، وإن تركتهن لم ينفعك شئ سواهن "
يفيد عدم لزوم شئ آخر وراء ما ذكر 1).
وفيه: إن كانت الأخبار الدالة على وجوب تلك الأمور معتبرة
سندا ودلالة لم يجز لنا رفع اليد عن مداليلها بهذه الرواية، والمراد
من هذه الرواية التأكيد على أهمية هذه الأمور الثلاثة، على أن من
الواضح وجود أمور لا ريب في حرمة فعلها أو تركها على القاضي
لم يذكرها الإمام عليه السلام في هذه الرواية فتكون نظير قوله تعالى:
" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " 2) فإنه لا يقتضي
خروج الصغائر عن كونها معاصي منهي عنها.
3 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال أمير المؤمنين
عليه السلام: " من أبتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة وفي
النظر وفي المجلس " 3).

1) جامع المدارك: 6 / 21.
2) سورة النساء: 31.
3) وسائل الشيعة: 18 / 157 وهو للكليني عن علي بن إبراهيم
عن أبيه عن النوفلي - وهو الحسين بن يزيد - عن السكوني - وهو
إسماعيل بن أبي زياد - عن أبي عبد الله عليه السلام. ولقد كثر البحث
عن وثاقة النوفلي والسكوني بين الأعلام، إذ لم ينص قدماء الرجاليين
على توثيق لهما. نعم عن الشيخ في كتاب العدة دعوى اجماع الطائفة
على العمل بروايات السكوني.. نعم هما معا من رجال كتاب كامل
الزيارات الذي التزم فيه بالرواية عن الثقات فلاحظ. وتأمل.
256

والأمر ظاهر في الوجوب.
4 - السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: " إن رجلا نزل بأمير
المؤمنين عليه السلام فمكث عنده أياما ثم تقدم إليه في خصومة لم
يذكرها لأمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أخصم أنت؟ قال: نعم.
قال: تحول عنا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يضاف
الخصم إلا ومعه خصمه " 1).
فإن المستفاد منه لزوم ترك كل أمر ينتزع منه الحب والاختصاص
واللطف لأحد الخصمين دون الآخر.
5 - عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض فكن عن يمينه. يعني
عن يمين الخصم " 2) أي كن إلى جنبه من طرف يمينه.
هذا، وقد اختار في الجواهر تبعا لجماعة استحباب التسوية،
فقال - بعد أن أورد بعض هذه الأخبار وذكر كلام صاحب
الرياض في اعتبار أسانيدها وحجية بعضها: " إلا أنه لا يخفى عليك
ما فيه من دعوى اعتبار أسانيدها وحجية بعضها، لأنه مبني على أنه
إن كان في السند أحد من أصحاب الاجماع لم تقدح جهالة الرواي
بل وفسقه، والتحقيق خلافه.. وحينئذ فقطع الأصول المعظمة بمثل
هذه النصوص المنساق منها إرادة ضرب من الندب والكراهة كما

1) وسائل الشيعة: 18 / 157 بالاسناد المتقدم.
2) وسائل الشيعة: 18 / 159. وهو خبر صحيح.
257

سمعت الفتوى بها في إضافة أحد الخصمين مشكل، خصوصا مع
ظهور خبر سلمة في إرادة بيان الآداب في أحوال القاضي لا خصوص
المتخاصمين الذي هو محل البحث، وصعوبة المساواة الحقيقية.. ".
أقول: المراد من التسوية هي التسوية العرفية لا الحقيقية، وحيث
أن القول بالوجوب قد حكي عليه الشهرة المطلقة بين الأصحاب
وهي الجابرة لضعف بعض هذه النصوص مع تصحيح بعضها الآخر
بوقوع أحد أصحاب الاجماع في سنده فالأظهر هو الوجوب، ومع
التنزل فلا يترك الاحتياط.
وبما ذكرنا يندفع ما قاله بعض المعاصرين من أن ايجاب
التسوية يورث الوحشة في الحاكم ويوقعه في الحرج 1).
هذا، والظاهر أن ذكر تلك الأمور في هذه الروايات هو من باب
التمثيل فلا مانع من التعدي منها إلى غيرها، بل إن المستفاد من قوله
عليه السلام " حتى لا يطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدوك من عدلك "
هو لزوم ترك كل أمر يورث طمع القريب في حيفه ويأس البعيد
من عدله.
الوظيفة الثانية
(ترك تلقين أحد الخصمين)
قال المحقق: " لا يحوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر

1) جامع المدارك: 6 / 20.
258

على خصمه، ولا أن يهديه لوجوه الحجاج ".
أقول: ذكروا أنه لا يجوز للحاكم أن يلقن أحد الخصمين
ما فيه ضرر على خصمه، فمثلا قد يطرح المدعي دعواه بحيث
يحتاج إلى إقامة البينة عليها، فيلقنه طرحها على النحو الذي لا يحتاج
إليها، أو أن يقول المنكر للمدعي " أعطيتك طلبك " فيكون مدعيا
يحتاج إلى البينة على اعطائه الطلب، فيلقنه الحاكم أن يقول
" لا تطلبني " فيكون منكرا لا يحتاج إلى إقامة البينة، وقد ذكر
المحقق الدليل على ذلك بقوله: " لأن ذلك يفتح باب المنازعة
وقد نصب لسدها ".
أقول: ولكن هذا لا يكون دليلا لعدم جواز التلقين في جميع
الموارد، بل التلقين قد يؤدي إلى سرعة حل النزاع وسد باب
المخاصمة في بعض الموارد فالدليل أخص من المدعى. هذا أولا.
وثانيا: فتح باب المخاصمة فيما إذا ساعد على ظهور الحق وواقع
القضية غير محرم، فالصحيح عدم الحرمة 1) إلا إذا استلزم التلقين

1) إذ الاجماع المدعى لم يعلم تحققه، والنص مفقود، والتعليل
المذكور ضعيف، بل لقد استضعفه بعض القائلين بالحرمة كالمحقق
التراقي حيث قال: وأما ما ذكروه دليلا على عدم الجواز مطلقا من
ايجابه فتح باب المنازعة فضعف لمنع عدم جواز فتحها كلية أولا
وعدم ايجابه له على الاطراد ثانيا. ومن هنا قال صاحب الكفاية:
لا أعرف على أصل الحكم حجة فللتأمل فيه مجال، وعن المحقق
الأردبيلي أنه مال إلى الجواز إن لم يرد بذلك تعليم ما ليس بحق.
هذا، إلا إذا استلزم التلقين ضررا أو كان منافيا للتسوية بناء على
وجوبها، وإلى هذا الذي ذكره السيد الأستاذ دام بقاه أرجع صاحب
مفتاح الكرامة كلمات القائلين بالحرمة استنادا إلى التعليل المذكور
حيث قال: والمراد من العبارات على اخلافها أن الواجب على
القاضي أن يجهد نفسه في سد باب المنازعة ولا يتعرض لشئ يفتحه
لأنه منصوب لقطع المنازعات، وقد استأمناه على الحكم من غير
حيف وميل، فإذا لقن أحدهما ما فيه ضرر على الآخر فقد خانة ولم
يكن ساوى بينهما، وإن لقن الآخر كذلك ليساوي بينهما فقد ألجأهما
إلى دوام المنازعة. وهذا مراد الأصحاب، فالحجة عليه واضحة
فبطل ما في الكفاية.
259

ضررا أو كان منافيا للتسوية بناء على وجوبها، ولم أجد في النصوص
ما يقتضي حرمة التلقين بخصوصه.
هذا، ولا مانع من الاستفسار، بأن يسأله عن الخصوصيات لغرض
العثور على الحق ووضوح الحكم إلا إذا استلزم ضررا أو خالف
التسوية كذلك.
الوظيفة الثالثة
(أمر الخصمين بالتكلم)
قال المحقق " قده ": " إذا سكت الخصمان استحب أن يقول
260

لهما: تكلما أو ليتكلم المدعي، ولو أحس منهما باحتشامه أمر من
يقول ذلك ".
أقول: لم أجد نصا يقتضي استحبابه، والظاهر أنه أمرا خلافي
مستحسن عقلا 1).
قال: " ويكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمن من
ايحاش الآخر ".
أقول: هذا لأنه ينافي التسوية، لكن بناء على وجوبها يكون
مواجهة أحدهما بالخطاب دون الآخر غير جائز لا مكروها 2)، اللهم

1) لعدم النص أولا، ولوقوع الخلاف في الحكم المذكور
ثانيا، قال في المستند: " وظاهر الحلي عدم الاستحباب حيث قال:
ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين، والمستحب له تركها حتى
يبدء بالكلام، فإن صمتا فله أن يقول لهما حينئذ: إن كنتما حضرتما
بشئ فاذكراه ".
2) كما قال في المسالك: وقد تقدم أن التسوية فيه واجبة وههنا
جعل هذا النوع من الخطاب مكروها، فإما أنه استثناء من السابق
أو رجوع عن الحكم، وظاهر العلامة في التحرير والشيخ في
المبسوط التحريم، لأنهما عبرا بصيغة النهي كالسابق، وهو حسن
لاشتراكهما في المقتضي له، وفي الدروس لم يجعل التسوية في
الكلام من الواجب وذكر كراهة تخصيص أحدهما بالخطاب هنا
وهو يدل على كراهته مطلقا.
261

إلا إذا كان ذلك بحيث لا ينافي التسوية مثل ما إذا كان أحدهما
حاضرا قبل الآخر وهو لا يعلم بكونهما خصمين.
الوظيفة الرابعة
(ترغيب الخصمين في الصلح)
قال المحقق: " إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحا لزمه
القضاء، ويستحب ترغيبهما في الصلح.. ".
أقول: في صورة وضوح الحكم يلزمه القضاء ولا سيما مع
المطالبة به.
والترغيب في الصلح حينئذ معناه أن يتراضيا - بترغيب من
القاضي - بعدم صدور الحكم وبفصل الخصومة بالمصالحة 1)، لكن
المحقق رحمه الله يقول في الوظيفة السابعة - كما سيأتي -: " ويكره
للحاكم أن يشفع في اسقاط حق أو ابطال "، إلا أن يجمع بين
كلاميه بأن ترغيبهما في الصلح هو قبل الحكم وفي صورة جهلهما

1) لقوله تعالى: " والصلح خير " وقوله: " إنما المؤمنون
إخوة فأصلحوا بين أخويكم " وغيرهما، وفي صحيحة هشام بن
سالم: " لأن أصلح بين اثنين أحب إلي من أن أتصدق بدينارين ".
وعن جماعة: أنه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح ولا يشير به.
وقيل: إن المستحب للقاضي الترغيب في أصل الصلح، وأما التوسط
فيما يصلحان به فيحوله إلى ثالث.
262

به، وأما بعد ما حكم وعلم به يكره أن يشفع في اسقاط حق أو
ابطال.
بل يجب على القاضي ذلك في موارد، ومن الموارد التي على
القاضي الترغيب في المصالحة فيها هو فيما إذا نصب قاض للقضاء
بين الناس وهو يعلم بعدم عدالة نفسه، فإنه لا يجوز له الحكم في
هذه الحال، بل عليه ترغيب المتخاصمين في المصالحة أو حل
النزاع بينهما بنقل الفتوى أو نحو ذلك من الطرق، ثم ارجاع النظر
في القضية والحكم فيها إلى الحاكم الجامع للشرائط إن لم يتوافقا على
الصلح.
هذا وأما مع عدم وضوح الحكم فلا يجوز التعجيل في الحكم
بل يستحب احضار العلماء والفضلاء في مجلس الحكم والتشاور
معهم حتى يقل الاشتباه والخطأ مهما أمكن.
الوظيفة الخامسة
(رعاية العدالة في ورود الخصوم عليه)
قال المحقق " قده ": " إذا ورد الخصوم مترتبين بدأ بالأول
فالأول، فإن وردوا جميعا قيل: يقرع بينهم، وقيل: يكتب أسماء
المدعين ولا يحتاج إلى ذكر الخصوم، وقيل: يذكرهم أيضا
لتنحصر الحكومة معه وليس معتمدا، ويجعلها تحت ساتر ويخرج
رقعة رقعة ثم يستدعي صاحبها، وقيل: إنما يكتب أسماءهم مع
263

تعسر القرعة بالكثرة ".
أقول: إذن في المسألة أقوال متعددة، لكن المشهور - كما
عن المسالك - هو القول الأخير 1).
الوظيفة السادسة
(عدم سماع دعوى المدعى عليه حين إقامة المدعى دعواه)
قال المحقق: " إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى
لم يسمع حتى يجيب عن الدعوى وتنتهي الحكومة ثم يستأنف هو ".
أقول: إذا أقام أحد المتداعيين دعواه كان وظيفة القاضي الاستماع
لها، فلو تكلم الآخر في خلال دعواه لم يسمع كلامه، ثم عندما
تنتهي دعواه يسكت هذا ويبدأ ذاك، وذلك لأحقية السابق في الحقوق
المشتركة مطلقا، أي سواء في القضاء أو الفتوى أو الدرس، فإن
الأسبق أحق، وكذا الأمر في الأموال المشتركة فمن سبق إلى مكان
مشترك فهو أحق به.
وهل لو خالف الحاكم ذلك ضمن - بالإضافة إلى المخالفة
للوظيفة الشرعية -؟ فيه تردد.
ولو أسقط السابق حقه سقط.
وهذا المعنى لا يختص بمورد الخصومة، فلقد كان من سيرة

1) وفي النافع لم يذكر إلا قولا واحدا حيث قال: " وإن اجتمع
خصوم كتب أسماء المدعين واستدعى من يخرج اسمه ".
264

النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا كلمه أحد لا يستمع إلى كلام
غيره حتى يتم الكلام مع الأول إلا بإذنه.
الوظيفة السابعة
(استماع دعوى الذي على يمين صاحبه)
قال المحقق: " إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى ولو
ابتدرا بالدعوى سمع من الذي على يمين صاحبه ".
أقول: لا ريب في أولوية من بدر من الخصمين بالدعوى بايراد
دعواه، ولو ابتدرا معا ذكروا: أنه يسمع الحاكم من الذي على
يمين صاحبه (مع أنهم قالوا في مسألة ورودهما معا عليه بالقرعة)،
وقد استندوا في ذلك إلى صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر
عليه السلام: " قضى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقدم
صاحب اليمين في المجلس بالكلام " 1). ويؤيده صحيحة عبد الله بن
سنان المتقدمة سابقا: " إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو إلى قاض
فكن عن يمينه - يعني: عن يمين الخصم " 2) بناء على عود الضمير
إلى الخصم..
وعن الشيخ في المبسوط نسبته إلى رواية أصحابنا، ثم ذكر
الأقوال في المسألة ثم قال: " وبعد ما رويناه القرعة أولى "، وعن

1) وسائل الشيعة: 18 / 160.
2) وسائل الشيعة: 18 / 159.
265

الخلاف قوة القول بالقرعة، قال: " لأنه مذهبنا في كل أمر مجهول ".
قلت: القول بتقديم الحاكم من شاء منهم - بعد الرواية -
هو الأولى، لأنه بناء على كون الاستماع وظيفة شرعية فحيث لا يمكنه
الاستماع لهما معا للتزاحم كان الحكم هو التخيير عقلا، ومعه
لا جهالة حتى يرجع إلى القرعة.. لكن المتعين هو العمل طبق
النص الموجود في المقام.
قال: " ولو اتفق مسافر وحاضر فهما سواء ما لم يستضر أحدهما
فيقدم دفعا للضرر ".
أقول: لكن هذا في صورة حل النزاع بذلك، وأما لو توقف
على الاستماع منهما فلا أثر لتقديم المسافر سواء كانا متداعيين أو لا
والعجب من الشراح كيف لم يلتفتوا إلى هذه النكتة. نعم هذا الفرع
يفيد في صورة تعدد الدعوى، فإنه إذا استضر أحد طرفي إحداهما
قدمت تلك الدعوى دفعا للضرر.
قال المحقق: " ويكره للحاكم أن يشفع في اسقاط حق أو
ابطال ".
أقول: قد ذكرنا طريق الجمع بين هذه العبارة وعبارته السابقة
في الوظيفة الرابعة.
266

المقصد الثاني
المسألة الأولى
(هل تسمع الدعوى المجهولة؟)
قال المحقق " قده ": " قال الشيخ: لا تسمع الدعوى إذا كانت
مجهولة، مثل أن يدعي فرسا أو ثوبا ويقبل الاقرار المجهول ويلزم
تفسيره، وفي الأول اشكال " 1).

1) ذكروا أنه لا خلاف في صحة الوصية بالمجهول والاقرار
بالمجهول، فيقبل دعوى الوصية به والاقرار به، بل في الرياض
عن التنقيح الاجماع على ذلك، ثم وقع الخلاف بينهم في الدعوى
وأنه هل يشترط في سماعها كون المدعى به معلوما معينا أم تسمع
الدعوى المجهولة كما هو الحال في الوصية والاقرار على قولين:
فالأول عدم الجواز، وقد حكي هذا القول عن الشيخ وابن إدريس
وجماعة من القدماء والمتأخرين. والثاني: الجواز، وبه صرح
المحقق في النافع بقوله: وفي سماع الدعوى المجهولة تردد والأشبه
الجواز، والعلامة في القواعد حيث قال: والأقرب سماع الدعوى
المجهول، والشهيد الثاني في المسالك والروضة، بل نسبة في
المستند إلى أكثر متأخري المتأخرين بل الأكثر مطلقا.
واستدل على الأول: بأنه لا يترتب على هذه الدعوى الأثر
وهو حكم الحاكم بها لو أجاب المدعى عليه بالايجاب. واستدل
على الثاني: بأنه مقتضى عمومات الدعوى والمدعي والحكم،
وبأن عدم سماع هذه الدعوى قد يوجب الضرر على المدعي،
وأجابوا عن دليل الأول بمنع عدم الفائدة، وبأنه ينافي قولهم بقبول
الاقرار بالمجهول، وحينئذ يبقى تعيين الحق أمرا آخر، وأما وجوه
الفرق التي ذكروها بين المقامين فلم يتم شئ منها كما ذكر السيد
الأستاذ دام بقاه.
267

أقول: وجه الاشكال عدم الفرق بين الدعوى والاقرار في ذلك
وقد استدل القائلون بالفرق بعدم الفائدة من الدعوى إذا كانت
مجهولة. وأورد عليه بأن الاقرار كذلك، فإن ألزم بالتفسير فليلزم
المدعي بتفسير دعواه المجهولة. وذكر بعضهم في وجه الفرق: إن
أثر الاقرار ثبوت حق للمقر له ولو اجمالا عند الحاكم فلو لم يسمعه
لضاع هذا الحق، فعليه أن يسمعه حتى يمكنه الزامه بالتفسير فإذا لم
يسمعه لم يفسر، بخلاف المدعي للدعوى المجهولة فإنه إذا لم
يرتب الحاكم أثرا على دعواه المجهولة اضطر بنفسه إلى التفسير،
لأنه يدعي حقا لنفسه عند المدعى عليه. وأشكل عليه بأن مجرد هذا
268

لا يكفي لدفع الايراد بأن وظيفة الحاكم هو الحكم وهذا متوقف
على استماعه بلا فرق بين الدعوى والاقرار.
ويمكن أن يقال: بأن الفرق هو أنه بالاقرار يقطع الحاكم بالحق
فيحكم به ويلزم المقر بالتفسير، وأما في الدعوى المجهولة فإن
أصل الحق مشكوك فيه، وحينئذ فليس على الحاكم الزامه بالتفسير
فإن شاء المدعي أن يفسر فهو. ولكنه أيضا لا يكون جوابا، فإن
القضاء واجب على الحاكم، سواء في المورد المقطوع بها
والمشكوك فيها.
وقال صاحب الجواهر بعد ذكر الوجوه المذكورة والاشكال
فيها: " فالتحقيق أن يقال: لا ريب في عدم سماع الدعوى المجهولة
من كل وجه التي من أفرادها ما لا يقبل الدعوى.. أما المجهولة
التي كليها يوجب غرامة بأي فرد يفرض تشخيصه فلا مانع من قبولها
وفاقا لأكثر المتأخرين أو جميعهم إلا النادر.. "
أقول: ذكر هذا الشيخ في المبسوط، ولعل وجهه دعوى
انصراف الاطلاقات الواردة في القضاء عن المورد الذي لا يفسر
فيه المدعي دعواه. وهنا تارة عندما يطالب بالتفسير يترك الدعوى
ويرفع اليد عنها فلا كلام. وأخرى يدعي النسيان لخصوصيات مورد
الدعوى فيطالب المدعي الحاكم بالسؤال من المدعى عليه فيقول
" اسألوه فإن لم يقر فلا دعوى "، فهنا الظاهر وجوب السؤال من
المدعى عليه. فدعوى الانصراف في الشق الأول صحيحة دون الثاني.
ثم قال الشيخ: " هذا كله ما لم يكن وصية فأما إن كانت وصية
269

سمع الدعوى فيها ".
أقول: لما تقرر في كتاب الوصية من أنه يصح الوصية بالمجهول
وقد بحثوا هناك عن مقدار ما إذا أوصى ب‍ " شئ " أو " شئ كثير "
أو " جزء من المال " ونحو ذلك، حيث يدل ذلك على صحة الوصية
بالمجهول.
قال الشيخ " قده ": " والفصل بينها وبين سائر الحقوق.. إن
تمليك المجهول بها يصح فصح أن تدعى وصية، وليس كذلك
غيرها لأن تمليك المجهول به لا يصح ".
أقول: لا ريب في جواز تملك المال المجهول كما وكيفا،
وهل يجوز تمليكه؟ نعم يجوز تمليكه هبة كأن يعطيه صندوقا قائلا
له: وهبتك الصندوق بما فيه، أو وصية، فإن ادعى تمليك شئ
مجهول لا بالوصية والهبة والصلح لم تسمع دعواه لعدم جواز تمليك
المجهول بغير هذه الأمور.
وحيث أن الاقرار بالمجهول مسموع فهل دعوى الاقرار كذلك
مسموعة أيضا؟ قيل: نعم لوجود الفائدة، وفي الجواهر عن الدروس
فيه وجهان، وذكر للعدم عدم ايجاب هذا الاقرار حقا لأن الاقرار
لا يثبت المقر فيه، وأجاب عنه في الجواهر: بأنه لما ثبت اقراره
بالدعوى أثبت الاقرار المقر فيه، ولا فرق في ترتب الفائدة ووجودها
بين كونه مع الواسطة أو بدونها، فالصحيح أنه بناء على الاستماع
لا فرق.
270

المسألة الثانية
(هل يشترط الجزم في الدعوى؟)
قال الشيخ " قده ": " فإن كانت أثمانا فلا بد من ثلاثة أشياء يكون
بها معلومة وهو: أن يذكر القدر والجنس والنوع.. فإن كان
هناك خلاف في صحاح أو مكسرة فلا بد من أن يقول: صحاحا
أو مكسرة، لأن التفاوت كثير في كل هذا. قالوا: أليس لو باع
ثوبا بألف مطلقا انصرف إلى نقد البلد؟ هلا قلتم يسمع الدعوى
مطلقا وينصرف إلى نقد البلد؟ قلنا: الفصل بينهما أن الدعوى
اخبار عما كان واجبا عليه وذلك يختلف في وقت وجوبه باختلاف
الأزمان والبلدان، فلهذا لم يسمع منه إلا محررة، وليس كذلك
الشراء لأنه ايجاب في الحال، فلهذا انصرف إلى نقد البلد كقيم
المتلفات، فوزان الدعوى من الشراء أن يكون في البلد نقود
مختلفة فحينئذ لا يصح أن يطلق الثمن ولا بد أن يكون موصوفا. هذا
إذا كانت أثمانا.
فأما إن كانت من غير الأثمان لم يخل من أحد أمرين: إما أن
يكون عينا قائمة أو تالفة، فإن كانت عينا قائمة نظرت فإن كانت مما
يمكن ضبطها بالصفات كالحبوب والثياب ضبطها وطالب بها،
وإن ذكر القيمة كان تأكيدا. وإن لم يذكرها جاز لأن الاعتماد على
ضبط الصفات. وإن كانت العين مما لا يمكن ضبط صفاتها كالجواهر
271

ونحوها ذكر قيمتها. وأما إن كانت تالفة نظرت فإن كان لها مثل كالحبوب
والأدهان والأقطان وصفها وطالب بها لأنها يضمن بالمثل، وإن لم
يكن لها مثل كالعبيد والثياب فلا بد من ذكر القيمة ".
قال المحقق: " وفي الكل الاشكال ينشأ من مساواة الدعوى
بالاقرار ".
ثم قال " قده ": " ولا بد من ايراد الدعوى بصيغة الجزم.. ".
أقول: فسر صاحب الجواهر " قده " كلام المحقق بقوله:
" التي يستدل بها على جزم المدعي بما يدعيه كما عن الكافي والغنية
والكيدري وظاهر الوسيلة بل في الكفاية نسبته إلى الشهرة " وعلل
قول المحقق: " فلو قال أظن أو أتوهم لم تسمع " بقوله: " لأن
من لوازم الدعوى الصحيحة امكان رد اليمين على المدعي وهو
منتف، وللقضاء بالنكول فيها مع يمين المدعي أو عدمه وهو منتف
هنا أيضا " أي: لا فرق بين النكول والرد، وحيث أن كلا منهما
منتف هنا يظهر أن هذه الدعوى ليست صحيحة. هذا توجيه منه
لكلام المحقق.
قال في الجواهر: " ولعدم صدق الدعوى عليه عرفا " أي:
لأن الدعوى هو الاخبار عن جزم.
قال المحقق " قده ": " وكان بعض من عاصرناه يسمعها في التهمة
ويحلف المنكر. وهو بعيد عن شبه الدعوى ".
أقول: مراده هو الشيخ نجيب الدين محمد بن نما الحلي، وفي
الجواهر عن بعضهم التفصيل بأنها تسمع في مثل القتل والسرقة
272

ونحوهما من الأمور التي يعسر الاطلاع عليها ولا يمكن الجزم فيها
بسرعة ولا تسمع في غيرها، وعن الايضاح: أنه قوى عدم اشتراط
الجزم، لكن عن الرياض الجواب عنه بأنه لم يقل به أحد من
الأصحاب، بل إنهم بين قولين: اعتبار الجزم والاكتفاء بالتهمة في
مقامها.
وقال في المسالك: نبه بقوله ايراد الدعوى بصيغة الجزم على
أن المعتبر من الجزم عنده ما كان في اللفظ، بأن يجعل الصيغة جازمة
دون أن يقول: أظن أو أتوهم كذا، سواء انضم إلى جزمه بالصيغة
جزمه بالقلب واعتقاده لاستحقاق الحق أم لا، والأمر كذلك فإن
المدعي لا يشترط جزمه في نفس الأمر، لأنه إذا كان للمدعي بينة
يشهد له بحق وهو لا يعلم به فله أن يدعيه به عليه وإن لم يعلم سببه
في نفس الأمر ما هو.
أقول: كأن ثاني الشهيدين " قده " يريد أن قول المحقق " قده ":
" بصيغة الجزم " وعدم قوله بالجزم القلبي هو لأجل وجوب السماع
في هاتين الصورتين وإن لم يكن يقين قلبي، كما تجوز الشهادة بالحق
استنادا إلى الاقرار وإن لم يكن يقين قلبي، وكذا المجتهد يخبر عن
حكم الله تعالى ويفتي به تارة عن علم وأخرى بالاستناد إلى أمارة
وإن لم يجزم بذلك الحكم.
لكن الظاهر من الجواهر استظهار أنه لما كان يمكن دعوى
الجزم في الموردين ويجب سماعها وإن لم يكن عن يقين، فإنه
إذن يمكن دعوى الجزم في كل مورد.
273

أقول: إن كانت استفادة صاحب الجواهر من كلام المحقق
صحيحة ورد عليه اشكاله بأن اظهار الجزم بالصيغة مع عدمه في القلب
كذب وتدليس، ولكن استفادة هذا المعنى منه غير تامة، بل الحق
ما ذكره صاحب المسالك، وهو الظاهر من قول المحقق " بصيغة
الجزم ".
وهل الجزم شرط للسماع؟ قال به جماعة بل قيل إنه المشهور،
لأن من لوازم الدعوى هو الحلف عند رد اليمين، ولأن الدعوى
لا تصدق مع عدمه. وقال في الجواهر: والتحقيق إحالة الأمر إلى
العرف، وفي مورد التهمة تصدق الدعوى، ولو سلم عدمه يصدق
التشاجر والتخاصم، ومع صدق الدعوى شملتها عمومات وجوب
الحكم، ثم استشهد رحمه الله بالأخبار الواردة في تهمة القصار
ونحو ذلك 1).

1) ذكر المحقق الآشتياني رأي صاحب الجواهر بقوله: " وقد
فصل بعض مشايخنا في المقام بين موارد التهمة وغيرها، فحكم
بوجوب السماع وعدم الاشتراط في الأول وبعدم وجوبه والاشتراط
في الثاني " ثم ذكر تأييده ما ذهب إليه بالنصوص الواردة في تحليف
الأمين مع التهمة، وهي: (1) خبر بكر بن حبيب: " قلت لأبي
عبد الله عليه السلام: أعطيت جبة إلى القصار فذهبت بزعمه. قال:
إن اتهمته فاستحلفه وإن لم تتهمه فليس عليه شئ " (2) خبره الآخر
عنه عليه السلام: " لا يضمن القصار إلا من جنت يداه وإن اتهمته
أحلفته " (3) خبر أبي بصير عنه عليه السلام أيضا: " لا يضمن الصائغ
ولا القصار ولا الحائك إلا أن يكونوا متهمين فيخوف بالبينة ويستحلف
لعله يستخرج منه شيئا " وهذه الأخبار ونحوها تجدها في الباب (29)
من أبواب كتاب الإجارة من وسائل الشيعة: 13 / 271. ثم إنه أجاب
عن الاستدلال بهذه الأخبار بنحو ما سينقله السيد الأستاذ دام بقاه عن
المحقق العراقي.
274

وأما استدلال صاحب الرياض عليه بأن الدعوى توجب التسلط
على الغير بالالزام بالاقرار أو بالانكار أو التغريم وهو ضرر عليه
منفي، ففيه أنه قد يوجب عدم سماعها الضرر على المدعي.
وأما لزوم رد اليمين فإن ذلك غير لازم في موارد كثيرة.
وعن المحقق العراقي " قده " الاستدلال بالأخبار الواردة في
القصار والصباغ لجواز الدعوى المجهولة التي قامت الأمارة على
تهمة المدعى عليه، فإن تم هذا الحمل بالنسبة إلى تلك الأخبار
فإن التمسك بالعمومات لا مانع منه، ولو شك في تخصيصها فالأصل
عدمه 1).

1) هذا، ولا بأس بذكر ملخص عبارة المستند في بيان الأقوال
في المسألة، وهي هذه: " ذهب المحقق وجماعة إلى أنه يشترط
في الدعوى كونها بصيغة الجزم، وهو المحكي عن ابن زهرة
والكيدري والتنقيح، ونسبه في الكفاية إلى المشهور وفي المعتمد
إلى الأكثر. وحكي عن الشيخ نجيب الدين ابن نما وفخر المحققين
والشهيدين في النكت والمسالك عدم الاشتراط، وهو ظاهر المحقق
الأردبيلي واختاره بعض فضلائنا المعاصرين، ولكن المنقول عن الأول
عدم الاشتراط في التهمة، وعن المحقق الثاني عدم لاشتراط فيما
يخفى عادة ويعسر الاطلاع عليه كالقتل والسرقة ونحوهما والاشتراط
في نحو المعاملات وهو ظاهر الدروس والروضة، وقيل: لعلهم أرادوا
بذلك ما ذكره ابن نما فيتحدان وهو ظاهر بعض مشايخنا المعاصرين،
ونقل في شرح المفاتيح عن الشهيد الثاني وابن نما القول بعدم الاشتراط
مطلقا ثم قال: وقوى المحقق الشيخ على عدم الاشتراط فيما يخفى
عادة وظاهره تغاير القولين، ولعل مراد من حكم بالاتحاد فهم " من
التهمة " ما يخفى ومن حكم بالتغاير حمل التهمة على مجرد التوهم
الذي هو أعم من الظن. وتردد الفاضل في القواعد والارشاد
والتحرير، وهو ظاهر الصيمري والمفاتيح وشرحه والكفاية وإن كان
كلام الأخير إلى عدم الاشتراط أميل. وقال والدي المحقق:
والتحقيق عندي عدم سماع الدعوى إلا مع احتمال اقرار الخصم
أو شهادة بينة لها أو ادعاء المدعي سماع أحدهما، والأقوى عدم
الاشتراط مطلقا ".
275

وفي المستند: إذا كانت الدعوى بحيث لا يترتب عليها فائدة
فلا تسمع، مثل أن يعلم من قبل إنه لن يقر ولا يحلف ولا يرد اليمين -
بناءا على عدم الحكم بمجرد النكول - فلا تسمع هذه الدعوى،
بخلاف ما إذا علم بترتب فائدة عليها.
276

المسألة الثالثة
(في حكم مطالبة المدعى عليه بالجواب)
قال المحقق " قده ": " إذا تمت الدعوى هل يطالب المدعى عليه
بالجواب أو يتوقف ذلك على التماس المدعي؟ فيه تردد، والوجه
أنه يتوقف لأنه حق له فيقف على المطالبة ".
أقول: إذا حرر المدعي دعواه والمدعى عليه حاضر فهل على
الحاكم أن يطالب بالجواب من المدعى عليه أو لا يطالبه به إلا بعد
التماس المدعي ذلك؟ لا اشكال في جواز مطالبة الحاكم الجواب
من المدعى عليه وإن لم يلتمس منه المدعي ذلك، إلا إذا رفع
المدعي اليد عن حقه، فلا موضوع لمطالبة الحاكم الجواب من
المدعى عليه، فإن لم يسقط حقه ولكن لم يلتمس من الحاكم
المطالبة بالجواب فلا يجب كذلك، فإن التمس وجب على الحاكم
ذلك عند الأكثر لأن ذلك مقدمة للقضاء الواجب فيجب. ويمكن
الخدشة في ذلك بأنه ليس القضاء موقوفا على جواب المدعى عليه
في كل مورد بل للحاكم أن يطالب بإقامة البينة من المدعي فإن
أقامها حكم. هذا أولا. وثانيا: لو فرض توقف الحكم عليه وأنه
قد يقر بالحق فلا حاجة إلى البينة، فما الدليل على وجوب تحصيل
موضوع القضاء ومقدمته على الحاكم؟
وفي المبسوط ذكر في المسألة قولين، ثانيهما: عدم التوقف،
277

قال: إن نفس طرح الدعوى عند الحاكم مطالبة بالجواب. وقد
نقله صاحب الجواهر عن المسالك وقال: إن هذا لا ينفي التوقف،
واستدل في الجواهر لعدم التوقف بأمرين: أحدهما: الأصل،
والثاني: كون ذلك حقا للحاكم المنصوب لقطع الخصومات.
أقول: هل للحاكم في مقام الدعوى حق على المترافعين
مجعول شرعا، فيكون ذا حق على المدعى عليه ليطالبه بالجواب
على دعوى المدعي؟ إن هذا مشكل، ولعل مراده من الحق هو
الولاية والسلطنة على المترافعين لفصل الخصومة. وهذا صحيح
لكن موضوع وجوب القضاء هو مطالبة المدعي بذلك، فإن لم
يطالب فهل يجب ذلك على الحاكم من باب الولاية؟ لا وجه
للوجوب، نعم له ذلك لغرض فصل الخصومة وحسم النزاع.
وأما الأصل: فإن مقتضاه عدم حرمة مطالبة المدعى عليه
بالجواب، اللهم إلا أن يريد من الأصل إن مقتضى الاطلاقات
والعمومات وجوب القضاء بعد مطالبة المدعى عليه بالجواب، ومع
الشك في شرطية التماس المدعي من الحاكم مطالبته به فالأصل
عدمها، ويكون مرجع ذلك إلى تخصيص أدلة وجوب القضاء
والأصل عدمه.
وكيف كان فإنه يبقى عليه أنه إن أسقط المدعي حقه فلا خصومة
حتى ترفع، وإلا فإن لم يطالب بالجواب فعلا فلا وجه لذلك بالنسبة
إلى الحاكم وإن قلنا باطلاق أدلة القضاء، فيبقى صورة التماس
المدعي. وهنا يمكن أن يقال بأن أدلة القضاء لا تشمل هذه الصورة
278

بأن يحكم بعد قيام البينة ولا يطالب المدعى عليه بشئ، فإن قوله
صلى الله عليه وآله وسلم: " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان "
ونحوه منصرف عن مثله، لا سيما وإن المتعارف من القضاء كونه
كذلك، فإن القضاة كانوا يسألون المدعى عليه عن رأيه في دعوى
المدعي.
المسألة الرابعة
(في حكم الدعوى على القاضي)
قال المحقق: " لو ادعى أحد الرعية على القاضي، فإن كان
هناك إمام رافعه إليه وإن لم يكن وكان في غير ولايته رافعه إلى قاضي
تلك الولاية، وإن كان في ولايته رافعه إلى خليفته ".
أقول: إن كان النزاع في زمن حضور الإمام فإنه يرجع إليه،
وإن كان في زمن الغيبة وكان النزاع مع حاكم فإنه يحضر عند
حاكم آخر في عرضه في ولايته فإن لم يكن في الولاية ففي غيرها
وإن كان ذاك الحاكم منصوبا من قبل هذا الحاكم المخاصم.
والدليل على سماع هذه الدعوى اطلاقات أدلة القضاء.
المسألة الخامسة
(في استحباب جلوس الخصمين بين يدي الحاكم)
قال المحقق " قده ": " يستحب للخصمين أن يجلسا بين يدي
279

الحاكم، ولو قاما بين يديه كان جائزا ".
أقول: قال في مفتاح الكرامة: لما روي عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم أنه قضى أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي.
وقول علي عليه السلام فيما تقدم: " لولا أنه ذمي لجلست معه بين
يديك " وأصل البراءة وأصل الإباحة مع ضعف السند وعدم وضوح
الدلالة على الوجوب شواهد على الاستحباب. ولعل السر أنه
أقرب للتسوية والخطاب معهما أسهل وأمرهما أوضح.
280

المقصد الثالث
(في جواب المدعى عليه)
قال المحقق " قده ": " في جواب المدعى عليه، وهو إما
اقرار أو انكار أو سكوت ".
أقول: جواب المدعى عليه للدعوى التي يقيمها المدعي له
صور، وقد أضاف بعض الأصحاب إلى ما ذكر المحقق صورة رابعة
وهي أن يقول في الجواب: لا أدري 1)، وأضاف آخر صورة خامسة

1) قال الآشتياني والسيد قدس سرهما إن في عد " السكوت "
جوابا مسامحة، وفي المسالك: وإنما جعل السكوت جوابا لأنه إذا
أصر على السكوت جعل كالمنكر الناكل وردت اليمين على المدعي،
فهو في الحكم كالانكار فكان في معنى الجواب. لكن قال الآشتياني:
التوجيهات التي ذكروها له من كونه في حكم الانكار إذا أصر عليه
أو غير ذلك لا تخرجه عن المسامحة كما لا يخفى.
ثم قال: إنما الاشكال فيما ذكره شيخنا الأستاذ دام ظله وفاقا
لجمع من متأخري الأصحاب من أن هناك جوابا آخر للمدعى عليه
لم يتعرض له الأصحاب بل ظاهرهم الحصر في المذكورات وهو
قوله " لا أدري " فهل أدخلوه وأدرجوه في المذكورات أو غفلوا
عنه؟ وادراجه في المذكورات مشكل ونسبة الغفلة إليهم أشكل.
ثم ذكر " قده " وجوها في الجواب عن هذا الاشكال فراجعه.
281

وهي: أن يصرف الدعوى عن نفسه ويوجهها إلى غيره كأن يقول
في الجواب: لست أنا طرف الدعوى بل هو فلان.
1 - الاقرار وجملة من أحكامه:
قال: " أما الاقرار فيلزم إذا كان جائز التصرف ".
أقول: إذا أقر المدعى عليه وكان اقراره مطابقا لاعتقاده كان
المؤثر هو الاعتقاد، لأنه إذا علم بأن الشئ المترافع فيه لزيد وجب
عليه رده إليه عند مطالبته به سواء أقر بذلك بلسانه أو لم يقر، وحيث
كان اقراره جامعا لشرائط الحجية المذكورة في محلها فإنه يلزم بما
أقر به والعمل على طبقته، ولكن هل هذا الاقرار الحجة يتوقف
ترتيب الأثر عليه على حكم الحاكم أو أنه بعد تمامية حجيته يترتب
عليه الأثر من قبل المدعي بلا توقف على الحكم، ولسائر الناس
الزامه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما هو الحال
في الاقرار الجامع لشرائط الحجية الذي يترتب عليه الأثر مع عدم
المرافعة والتحاكم إلى الحاكم بلا خلاف؟.
282

لا اشكال في أن فصل الخصومة من آثار الحكم، فمع الحكم
لا تسمع دعواه لو عدل عن اقراره أو أنكره بعدئذ، ولو كان ذلك
منه قبل الحكم لسمعت دعواه، فهذا الأثر يختص بالحكم، وأما غير
هذا الأثر من الآثار فقد قال جماعة بأن الأحوط عدم ترتيبه حتى يحكم
الحاكم، ووجه هذا الاحتياط هو أنه كما أن فصل الخصومة متوقف
على الحكم فكذلك غيره من الآثار، إذ مع الحضور عند الحاكم
والترافع لديه يكون الأمر بيده وتتوقف الآثار كلها على حكمه،
وإن قامت الحجة بعد الاقرار للمدعي على أخذ ما يدعيه، فلا يبعد
أن يكون هذا وجه الاحتياط وإن كان مقتضى اطلاقات الأدلة هو
الأخذ بالحجة وبه قال جماعة.
ويدل على حجية الاقرار بناء العقلاء وسيرتهم على الأخذ به
سواء حكم الحاكم أو لا، وقد أمضى الشارع هذه السيرة بقوله:
" اقرار العقلاء على أنفسهم جائز " 1)، فالاقرار حجة وإن لم يحكم
الحاكم، نعم يحتمل أن يكون للحكم موضوعية في مورد النزاع،
فالأحوط أن ترتب الآثار بعده.
ثم هل البينة كالاقرار أو أن حجيتها متوقفة على الحكم؟ قال
غير واحد من الأصحاب - بل قيل: إنه المشهور - بالفرق بين

1) قال في وسائل الشيعة: 16 / 111: " وروي جماعة من
علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال: اقرار العقلاء على أنفسهم جائز ".
283

الأمرين 1) وأن الاقرار حجة وتترتب عليه الآثار - عدا ما يختص
منها بالحكم - بخلاف البينة فلا يترتب عليها أثر مطلقا، فلا يجوز
له التصرف في المال ما لم يحكم الحاكم، فالبينة حجة بعد الحكم
في مقام المرافعة إلى الحاكم، وأما مع عدم الترافع إليه وقيامها
فهي حجة والأثر مترتب عليها.
وقيل: لا فرق بين الاقرار والبينة، فكما أن الاقرار حجة وللمقر
له التصرف في المال وترتيب الأثر وكذا لغيره بإذنه، فكذلك البينة
بعد قيامها. نعم يتوقف قطع النزاع على حكم الحاكم ويكون أثره
عدم سماع الدعوى بعد ذلك، فإن كانت حجية البينة متوقفة في مقام
التخاصم على حكم الحاكم فكذلك الاقرار من دون فرق بينهما.
ثم هل الاقرار تتقدر حجيته بمقدار ضرر المقر أو أنه كالبينة في
الطريقية إلى اثبات حق المقر له؟ مثلا: إذا أقر بأن لزيد على ذمته
كذا من الدراهم يكون اقراره حجة، وأما إذا أقر بالنسبة إلى عين
خارجية بأنها لزيد فهل يفيد عدم كونها له فقط أو يفيد مع ذلك كون

1) وقد وقع البحث والكلام بينهم حول الوجوه التي ذكروها
للفرق بينهما وما يترتب على ذلك من ثمرة، وربما بني الخلاف
في المقام على الخلاف في حجية البينة فعلى القول بعدم حجية البينة
إلا للحاكم توقف ثبوت الحق على حكم بخلاف الاقرار وعلى
القول بعموم حجيتها لم يتوقف كالاقرار. وإن شئت التفصيل فراجع
الكتب الاستدلالية المفصلة.
284

العين لزيد أيضا فيكون الاقرار طريقا إلى مالكية زيد لتلك العين
كالبينة؟ وجهان.
قد يقال بالأول لأن ذلك حد دليل حجية الاقرار وهو " اقرار
العقلاء على أنفسهم جائز "، وأما كون الشئ لزيد بالخصوص فلا
يقتضيه بل يحتاج إلى دليل آخر، بخلاف البينة فإن مفاد دليل
حجيتها وهو: " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان " كون الشئ
لمن أقامها فضلا عن دلالته على عدم كونه للمنكر.
أقول: والوجه الثاني غير بعيد، فإنه لما يقر يكون الشئ
لزيد يلزم بما أقر به - خصوصا بعد حكم الحاكم - وكون الشئ
لزيد هو من مصاديق ضرر المقر كذلك، فلا فرق بين البينة والاقرار
من هذه الجهة، وإنما ينشأ الاشكال فيما ذكرنا بناءا على القول
بانحلال الاقرار إلى أمرين: " أحدهما " عدم كون المقر فيه للمقر،
و " الآخر " كونه للمقر له، فيقال بكونه حجة في الأول فقط - وهو
عدم الملكية - لأنه مقدار الضرر. ولكن لا وجه لهذا المعنى، بل إن
نفس ملكية زيد للشئ المقر فيه من مصاديق الضرر فيشمله " اقرار
العقلاء على أنفسهم جائز ".
وكذلك لا فرق بين الاقرار والبينة في سماع دعوى ثالث لذلك
الشئ الذي تنازعا فيه، إن حكم الحاكم يفصل الخصومة بين
المترافعين فلا تسمع دعوى أحدهما بعد صدور الحكم من الحاكم
في ذلك النزاع، أما بالنسبة إلى دعوى ثالث مالكية ما أخذه المقر
285

له أو مقيم البينة فلا يقتضي الحكم عدم سماعها لأنها دعوى جديدة
يجب سماعها والنظر فيها بحسب الموازين الشرعية.
وأما اليمين فليس لها حجية شرعية بالنسبة إلى غير الحاكم،
فليست كالبينة والاقرار في ترتب آثار الحجية، بل إن الآثار كلها
تترتب عليها بالحكم 1).
هل يحكم عليه من دون مسألة المدعي؟
قال المحقق " قده ": " وهل يحكم به عليه من دون مسألة
المدعي؟ قيل: لا لأنه حق له فلا يستوفى إلا بمسألته ".
أقول: وهل يحكم الحاكم على المقر قبل مطالبة المقر له بالحكم؟
لا اشكال في جواز الحكم مع مسألة المدعي، بل قد يجب كما إذا
توقف استيفاء الحق على حكمه، بل لا يبعد الوجوب وإن لم يتوقف
عليه، لأن الحكم من شأن الحاكم ووظيفته بعد الاقرار والمطالبة
وأما الحكم من دون مطالبة المدعي ففيه قولان، فعن المبسوط:
ليس للحاكم الحكم قبل التماس المدعي، وظاهره الحرمة قال:
لأنه حق للمدعي فلا يستوفى إلا بمسألته، أي: فلا يجوز اصدار
الحكم قبلها أو مع منعه. ولكن هذا التعليل غير تام، لأن كونه

1) في المسألة أقوال: فقيل: هي كالبينة، وقيل: هي كالاقرار
وقيل: هي شئ ثالث، وعلى الأول هي كالبينة على الاطلاق حتى
بالنسبة إلى الثالث أو لا؟ تعرض المحقق الآشتياني للمسألة بالتفصيل.
286

حقا لا ينافي أن لا يكون أداء هذا الحق موقوفا على إذنه أو مطالبته
ولا يستلزم أن يكون حراما بدون ذلك، فالصحيح الرجوع إلى
الأدلة أو الأصول، وحيث لا دليل في المسألة فإن الأصل مع الشك
في الحرمة هو عدم الحرمة، ومع الشك في الوجوب فهو عدم الوجوب
إلا أن يستفاد الوجوب من اطلاقات أدلة الحكم والقضاء - فمقتضى
الأصل هو جواز الحكم من دون مسألة المدعي هذا من الناحية
التكليفية، وأما وضعا فالأصل مع الشك هو عدم نفوذ هذا الحكم
لكن ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة " فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه.. "
هو الاطلاق، فليس الحكم مقيدا بالمطالبة والمسألة من المدعي.
هذا مع أن الحكم قد يكون حقا للمنكر كما إذا لم يقم المدعي
البينة فيحلف المدعى عليه، فإن الحكم حينئذ حق للمدعى عليه
لا للمدعي. نعم يجوز لمن كان حقا له أن لا يطالب بحقه أو يسقطه
إن كان قابلا له.
إذن يمكن القول بجواز الحكم مع عدم المطالبة، إلا أن يقال
بوجوبه حينئذ أيضا تمسكا باطلاقات الآيات والروايات فيقال بأن
الحكم وظيفة الحاكم بعد تمامية المقدمات سواء سئل بذلك أو لا،
وأما مع المطالبة فالحكم واجب بلا كلام.
قال: " وصورة الحكم أن يقول: ألزمتك.. ".
أقول: كل لفظ ظاهر في الحكم صدر بقصد الانشاء فهو الحكم
وأما " ثبت عندي " ونحوه فليس صورة له لعدم ظهوره فيه.
287

هل يتحقق الحكم بالفعل بقصد الانشاء؟ قيل: نعم، وهو مشكل
لعدم تحقق الحكم بالفعل عند أهل العرف، وشمول الاطلاقات له
غير معلوم.
حكم كتابة الاقرار:
قال: " ولو التمس أن يكتب له بالاقرار لم يكتب حتى يعلم
اسمه ونسبه.. ".
أقول: وحيث حكم فهل يجب عليه كتابة الحكم مطلقا أو في
صورة الالتماس أو لا يجب؟ قيل: يجب لأن الكتابة من تبعات الحكم
ولواحقه فيجب كتابة الحكم حتى يبقى ولا ينكر أو ينسى، ولأنه
إن لم يكتب أضاع حق المقر له، وقيل لا يجب لأن الذي يفصل
الخصومة ويقطع النزاع هو الحكم، وأما الكتابة فهي من باب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - لا من آثار الحكم ولواحقه -
وحيث كان من باب الأمر بالمعروف لغرض استيفاء الحق وانقاذه
فإن هذا الغرض يتحقق من طرق أخر أيضا فلا تجب الكتابة.
وقيل: تحرم الكتابة لأنها قد تكون إعانة على الإثم كما إذا أخذ
الشخص الكتابة إلى حاكم جور فكانت سبب الظلم لأحد أو ارتكاب
محرم من قبل الحاكم الجائر فتكون إعانة على الإثم الصادر منه،
وفصل بعضهم بأنه إن كان احقاق حق المقر له متوقفا على الكتابة
وجبت وإلا فلا.
وبناء على وجوب الكتابة فلا يجوز له أخذ الأجرة عليها بناء
288

على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات، وهو جائز له بناء
على عدم وجوبها عليه، وحيث لا يجوز له أخذ الأجرة فإنه لا يجوز
له أخذ شئ في مقابل الدواة والقرطاس أيضا، فظهر أن الحكم هنا
يتفرع على الحكم في الفرع السابق.
هذا، ولو قصر في تطبيق القواعد والأحكام أو خالف في شئ
منها فإنه لا أثر لحكمه حينئذ ولا نفوذ وإن كان حكمه حقا لقوله
عليه السلام ".. ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار.. " 1)
إذ من الواضح أنه لا ينفذ حكم من كان من أهل النار، ولعل السر
في ذلك أن الحكم له جهة تعبدية ويعتبر فيه قصد القربة وأن يكون
على طبق الأحكام والقواعد المقررة لذلك من قبل الشارع، فإن لم
يكن كذلك أو كان بالمقدمات المحرمة لم ينفذ البتة، وعليه فلو حكم
بالحق رياء أو طلبا لرضا أحد من المخلوقين لم ينفذ حكمه.
ويحتمل أن يكون السر في ذلك اشتراط نفوذ الحكم بكونه
صادرا عن المقدمات الصحيحة والمشروعة، فمع انتفاء الشرط ينتفي
المشروط.
ولو شك في كون اصدار الحكم واجبا تعبديا أو توصليا فإن
الأصل في الواجبات هو التعبدية.. وسيأتي مزيد تحقيق لهذه المسألة
إن شاء الله تعالى.
هذا، ولو أجاب الحاكم المدعي بكتابة الاقرار والحكم لم

1) وسائل الشيعة: 18 / 11.
289

يكتب حتى يعلم اسمه ونسبه، أو يشهد على الاسم والنسب شاهدا
عدل حتى يأمن الحاكم بذلك من التدليس بجعل الحكومة بالاقرار
أو الشهادة به لغير من وقع، وقد اتفق حصول هذا التزوير في
زماننا من بعض المزورة، إذ حضر رجلان عند فقيه ورع - وهو
مكفوف البصر - وذكروا عنده أن فلانا حاضر عندكم يقر بأنه قد
باع داره لفلان ونحن شهود على ذلك، فكتب الفقيه المذكور
بذلك، ثم ظهر أنه كان تزويرا من الرجلين، وقد أدى الأمر إلى
النزاع والخصومة.. إذن يشترط أن يكون الحاكم عارفا للشخص
من حيث اسمه ونسبه وإلا فيشترط شهادة شاهدين عادلين.
قال المحقق " قده ": " ولو شهد عليه بالحلية جاز ولم يفتقر
إلى معرفة النسب.. ".
أقول: وهل يغني ذكر أوصافه وملامحه الذاتية عن ذكر الاسم
والنسب قال المحقق: نعم، لكن في الجواهر عن السرائر الاشكال
في كفاية ذلك، إلا أن عبارة السرائر تدل على خلاف ما نسب إليها
في الجواهر فليراجع 1). وكيف كان فما ذكره المحقق " قده " هو
الأظهر لكن يجب ذكر الحلية بحيث يأمن معه من الاشتباه والتزوير.

1) وهذا نص عبارة السرائر: " وإذا أقر انسان لغيره بمال عند
حاكم فسأل المقر له الحاكم أن يثبت اقراره عنده قال شيخنا أبو
جعفر في نهايته: لم يجز له ذلك إلا أن يكون عارفا بالمقر بعينه
واسمه ونسبه، أو يأتي المقر له ببينة عادلة على أن الذي أقر هو فلان
ابن فلان بعينه واسمه ونسبه، لأنه لا يأمن أن يكون نفسان قد تواطأ
على انتحال اسم انسان غائب واسم أبيه والانتساب إلى آبائه ليقر
أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل، فإذا أثبت الحاكم ذلك على
غير بصيرة كان مخطئا مغررا. وقال في مسائل خلافه: مسألة إذا
حضر خصمان عند القاصي فادعى أحدهما على الآخر مالا فأقر له
بذلك فسأل المقر له القاضي أن يكتب له بذلك محضرا والقاضي
لا يعرفهما، ذكر أصحابنا أنه لا يجوز له أن يكتب لأنه يجوز أن
يكونا استعارا نسبا باطلا وتواطئا على ذلك، وبه قال ابن جرير
الطبري، وقال جميع الفقهاء: أنه يكتب ويحليهما بحلاهما التامة
ويضبط ذلك. قال رحمه الله: والذي عندي أنه لا يمتنع ما قاله
الفقهاء، فإن الضبط بالحلية يمنع من استعارة النسب، فإنه لا يكاد
يتفق ذلك. ثم قال رحمه الله: والذي قاله بعض أصحابنا يحمل
على أنه لا يجوز أن يكتب ويقتصر على ذكر نسبهما فإن ذلك يمكن
استعارته، قال رحمه الله: وليس في ذلك نص مسند عن أصحابنا
يرجع إليه. هذا آخر كلام شيخنا في مسألة من مسائل الخلاف.
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: الذي ذكره وذهب
إليه شيخنا في مسائل خلافه هو الذي أقول به وأعمل عليه ويقوى
في نفسي. وهذا يبين لك أيها المسترشد أنه قد يذكر في نهايته
شيئا لا يعمل ولا يرجع فيه إلى خبر مسند يعتمد عليه ويرجع
إليه.. ".
290

هل يحبس الممتنع عن أداء الدين؟
وكيف كان فإن امتثل المحكوم عليه حكم الحاكم فهو، وإن
امتنع من أداء الحق أجبره الحاكم أو سائر الناس على الأداء من
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللغريم أن يغلظ له
القول ويخاطبه بما يكرهه في حدود الشرع، ولو لم يفد ذلك كله
حبسه الحاكم بالتماس الغريم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم - في
الخبر الضعيف المتجبر بعمل الأصحاب - " لي الواجد بالدين يحل
عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله عز وجل " 1) لكن العقوبة
فيه مطلقة فالظاهر إناطتها بنظر الحاكم، إلا أن في جواز حبسه لذلك
نص خاص، ففي الموثق: عن أبي عبد الله عليه السلام " إن عليا عليه
السلام كان يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به فيقسم
ماله بينهم بالحصص " 2) وفي هذا الحبس احتمالات، فيحتمل
أن يكون عقوبة للمماطلة السابقة منه، وأن يكون تحذيرا له عن
المماطلة فيما يستقبل، وأن يكون لغرض حمله على الاعتراف بما
يملكه من الأموال، ويدل الخبر المذكور على أنه بعد الحبس يؤمر
الغريم أولا بأداء الحق بأن يقسم أمواله بين الغرماء بالحصص، فإن
أبى فعلى الإمام ذلك بعد بيع ماله، وفي خبر السكوني: " إن عليا

1) وسائل الشيعة: 13 / 90 عن مجالس ابن الشيخ.
2) وسائل الشيعة: 13 / 147.
292

عليه السلام كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء
وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم
إن شئتم وأجروه وإن شئتم استعملوه " 1).
بل عن الشيخين في المقنعة والتهذيب مرسلا: " قال الصادق
عليه السلام لقوم من أصحابه: إنه قد حق لي أن آخذ البرئ منكم
بالسقيم، وكيف لا يحق لي وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح
فلا تنكرون عليه ولا تهجرونه ولا تؤذونه حتى يترك " فهذا يفيد
جواز الايذاء من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه
لم يذكر حده في الروايات فيرجع ذلك إلى نظر الحاكم.
فالحاصل: أنه يلزم أن تكون أحكام القضاة وعقوباتهم مطابقة
للأدلة الشرعية والموازين المقررة الإلهية، فما تداول في هذه الأيام
من بعضهم من الحكم بالسجن ودفع كذا من المال في بعض الموارد
حكم بل دليل، وكذا مصادرة الأموال، فإنه لم يجعل الشارع هذه
العقوبة على جرم في الشريعة المقدسة، ولو علم بوجود أموال
مغصوبة في أموال أحد فاللازم استرداد ذلك المقدار فقط ودفعه إلى
صاحبه أو إلى ورثته لا أن يجعل في صندوق المستضعفين أو يتصرف
فيه الحاكم أو غيره تصرفات أخرى.
حكم ما لو ادعى الاعسار:
قال المحقق " قده ": " ولو ادعى الاعسار.. ".

1) وسائل الشيعة: 13 / 148.
293

أقول: أي لو أقر بالحق ثم ادعى الاعسار، فإن استبان فقره
وعلم صدق دعواه أنظره لقوله تعالى: " وإن كان ذو عسرة فنظرة
إلى ميسرة " 1) وللموثق الآتي ذكره وغيره.
قال: " وفي تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان.. ".
أقول: قال في الجواهر: أشهرهما عملا وأصحهما سندا وأكثرهما
عددا وأفقههما بالأصل والكتاب رواية الانظار، يعني الموثقة:
" إن عليا عليه السلام كان يحبس في الدين، فإذا تبين له حاجة وافلاس
خلى سبيله حتى يستفيد مالا " 2) ورواية السكوني عن جعفر عن أبيه
عن علي عليه السلام: " إن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها
وكان زوجها معسرا فأبى أن يحبسه وقال: إن مع العسر يسرا " 3).
ومراده من الأصل هو أنه مع الشك في وجوب كونه أجيرا أو تسليم
نفسه ليؤاجروه حتى يؤدي دينه فالأصل عدم الوجوب، والمراد
من الكتاب الآية الشريفة المذكورة آنفا.
والرواية الأخرى ما رواه السكوني: " إن عليا عليه السلام كان
يحبس في الدين ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء وإن لم يكن
له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم إن شئتم وأجروه
وإن شئتم استعملوه ".

1) سورة البقرة: 280.
2) وسائل الشيعة: 13 / 148.
3) وسائل الشيعة: 13 / 148.
294

لكن الشيخ عمل في النهاية برواية السكوني، وعن ابن حمزة
التفصيل بين ما إذا كان يتمكن من العمل فيستعمل، وما إذا كان عاجزا
عن العمل فينظر حتى حصول الميسرة.
وقد رجح صاحب الجواهر الأولى على الثانية لموافقتها
للكتاب، وقيل إن رواية السكوني غير مخالفة للكتاب حتى ترجح
الأولى عليها لأن المتمكن من العمل ليس معسرا، وبهذا المعنى
صرح العلامة في المختلف، ولذا لا يستحق الزكاة لأنه واجد للمال
بالقوة.
أقول: إن كان لفظ " المعسر " ظاهرا فيمن ليس واجدا للمال
فعلا سواء تمكن من تحصيله بسهولة أو لا وافقت الرواية الأولى لظاهر
الكتاب، وإن ظاهرا فيمن ليس واجدا للمال ولو بالقوة لم
توافقه، والظاهر أن " المعسر " هو الذي ليس عنده مال ولا يمكنه
تحصيله، لأن أكثر الناس يحصلون مؤنتهم عن طريق العمل وإجارة
أنفسهم في مختلف الصنائع والحرف والأشغال.. لكن رواية السكوني
تخالف الكتاب من جهة أخرى، وذلك أنها تدل على تسليمه إلى
الغرماء وليس في الكتاب دلالة على ذلك.
ويحتمل أن تكون رواية السكوني موافقة للأصل، فإنه إذا كان
مال المدين أقل من حقوق الغرماء أو مساويا لها منعه الحاكم عن
التصرف في ماله مع مطالبة الغرماء لحقوقهم، لأن تصرفه في ماله
يوجب الضرر في حقوق أولئك إلا أن يأذنوا بذلك، فلو كان المدين
ذا صنعة وحرفة لها مالية يبذل بإزائها المال والغرماء يطالبون بحقوقهم
295

كان على الحاكم أن يمنعه من العمل لنفسه وتسليمه إلى الغرماء
ليستعملوه حتى يستوفوا حقوقهم عن طريق استعماله وتشغيله - كما
يمنعه ويحجره عن التصرف في أعيان أمواله - لأن المفروض مالية
عمله، فتكون رواية السكوني غير مخالفة للأصل إذ الأصل وجوب
حفظ حق الناس كيفما أمكن والمنع عن تضييعه والسعي وراء أدائه.
نعم لا يجوز حمل المدين على عمل حرجي أو اجباره على
تحصيل المال عن طريق غير متعارف كأن تؤمر الامرأة بالتزوج
لتأخذ المهر وتقضي الديون أو يؤمر الرجل بخلع زوجته فيأخذ عوضه
ونحو ذلك.
وبما ذكرنا يجمع بين الروايتين بأن من كان ذا صنعة وحرفة
يستعمل ويحسب عمله عوضا عن ديونه نظير من عمل في بناء المسجد
مدة وطلب من الفقيه أن يحسب عمله بدلا عن مبلغ معين من سهم
الإمام عليه السلام في ذمته، ومن لم يكن كذلك ولا يتمكن من عمل
مشروع مطابق لشأنه فإنه ينظر حتى حصول الميسرة.
هل يحبس حتى يتبين حاله؟
قال المحقق: " وهل يحبس حتى يتبين حاله؟ فيه تفصيل ذكر
في باب الفلس ".
أقول: لو أقر بالحق وادعى الاعسار وجهل حاله ففي المسألة
صور أربع:
296

الصورة الأولى: أن يكون حالته السابقة الاعسار والدائن
يصدقه في ذلك لكنه يدعي يساره الآن والمدين يدعي ببقاء حالة
الاعسار.
الصورة الثانية: أن يقر بالدين وباليسار سابقا - أو وجود مال
الدائن عنده إن كان أصل الدعوى مالا - لكن يدعي الاعسار الآن
فيقول له الدائن: أنت على يسارك السابق، أو أن مالي موجود
عندك الآن.
الصورة الثالثة: الجهل بحالته السابقة.
الصورة الرابعة: أن يكون سابقا معسرا تارة وواجدا أخرى.
وتفصيل الكلام في الصورة الأولى: في هذه الصورة يجب
على الدائن الذي يدعي يسار المدين إقامة البينة على دعواه، لأن
قول مدعي الاعسار هو الموافق للأصل، فإن أقام البينة حكم على
المدين بدفع المال وأداء الحق ولا معنى للأنظار، وإن أبى حبس،
وإن لم يقم البينة أحلف مدعي الاعسار فإن حلف أنظر، وإن رد
اليمين على من يدعي اليسار أحلف، فإن حلف حكم على المدين
بأداء الحق فإن أدى فهو وإلا حبس، وإن امتنع عن اليمين فقيل:
إنه مع رد اليمين على المدعي ونكوله يكون النكول سببا للحكم
بضرره، لأن النكول عن اليمين المردودة هو بمثابة يمين المدعى
عليه، وقيل: النكول لا يوجب ذلك وتبقى الدعوى مجملة، والمرجع
في صورة اجمال الدعوى - في غير مسألتنا - هو الأصول والقواعد،
297

أما في هذه الصورة في محل الكلام فالمرجع هو قوله تعالى:
" وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " فإنها تدل على أن وجوب
الانظار مشروط بكونه معسرا، أي إن للدائن مطالبة حقه من المدين
إلا في حال كونه ذا عسرة، فإن أحرز الشرط ترتب حكم وجوب
الانظار، ومع الشك فلا يحكم بوجوبه، فله المطالبة بحقه وأن
يطلب من الحاكم حبسه إن امتنع عن أدائه.
ولو أقام مدعي الاعسار البينة على ذلك قال بعض الأصحاب
بحجية تلك البينة بناء على اطلاق قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
" إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان "، وقيل: لا تقبل منه البينة
لأنه منكر لقوله عليه الصلاة والسلام: " البينة على من ادعى واليمين
على من أنكر " 1) وسيأتي تحقيق المسألة في محلها إن شاء الله تعالى،
وعلى الأول فهل يحتاج إلى ضم اليمين إلى البينة؟ قيل: لا، لأن
البينة حجة تامة، وقيل: نعم، لأن البينة على النفي ليست بحجة
فلا بد من ضم اليمين إليها.
2 - الانكار وجملة من أحكامه:
قال المحقق: " وأما الانكار فإذا قال " لا حق له علي " فإن كان
المدعي يعلم أنه موضع المطالبة بالبينة فالحاكم بالخيار إن شاء
قال للمدعي: ألك بينة؟ وإن شاء سكت، أما إذا كان المدعي لا

1) وسائل الشيعة: 18 / 215 في حديث فدك عن تفسير علي
ابن إبراهيم القمي.
298

يعلم أنه موضع المطالبة بالبينة وجب أن يقول الحاكم ذلك أو
معناه، فإن لم تكن له بينة عرفه الحاكم أن له اليمين، ولا يحلف
المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي لأنه حق له فيتوقف استيفاؤه
على المطالبة ".
أقول: حاصل ما ذكره قدس سره أنه إن طرح المدعي دعواه
عند الحاكم وقال المدعى عليه: لا حق له علي، فالمدعي إما لا
يعلم بأن عليه إقامة البينة على ما يدعيه فحينئذ يطالبه الحاكم بإقامتها،
وإما يعلم فلا يجب على الحاكم أن يطلب منه ذلك، فإن لم يكن
عنده بينة على دعواه أو لم يقمها أعلمه الحاكم بأن له استحلاف
المدعى عليه المنكر لدعواه، لأن ترتب الأثر على يمين المدعى
عليه مشروط باستحلافه إياه، فلو حلف بدونه لم يترتب عليه أثر،
وكذا لو استحلفه المدعي ولم يحلفه الحاكم، أو أحلفه الحاكم
بدون استحلاف المدعي، فترتب الأثر على يمين المدعى عليه
يتوقف على كلا الأمرين: استحلاف المدعي واحلاف الحاكم إياه
بعد ذلك بإذن المدعي.
وهل المراد من قوله: " ولا يحلف المدعى عليه إلا بعد سؤال
المدعي " وأن الحاكم لا يحلفه إلا بعد إذنه هو الأثر التكليفي أو
الوضعي؟ أما تكليفا فلا أثر لليمين الواقعة بدون أحد الأمرين لأنها
حينئذ لغو، بل قد يقال بحرمتها للنهي عن ذلك في الكتاب حيث
قال عز وجل: " ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " 1)، هذا بالنسبة

1) سورة البقرة: 224.
299

إلى المدعى عليه، وأما الحاكم فإن قلنا بحرمة الحلف على المدعى
عليه لما ذكرنا حرم على الحاكم احلافه لأنه يأمره بالمعصية حينئذ
وأما وضعا فلا يترتب على هذه اليمين أثر، وهذا هو المراد من
قول المحقق " قده ":
" ولو تبرع هو أو تبرع الحاكم باحلافه لم يعتد بتلك اليمين
وأعادها الحاكم إن التمس المدعي ".
ولقد استدلوا لعدم تأثيره وضعا بأن احلاف المدعى عليه حق
للمدعي، وما لم يأذن صاحب الحق بذلك لم يكن للحاكم احلافه
لتوقف استيفاء حق المدعي على مطالبته. وفيه تأمل: لأن مجرد
كون ذلك حقا للمدعي لا يمنع من قيام الحاكم بوظيفته الشرعية
وهو فصل الخصومة بين المتنازعين بعد تحاكمهما إليه، فإنه بعد
التحاكم إليه يجب عليه النظر في القضية بحسب الموازين الشرعية
لغرض قطع النزاع من بين المتخاصمين، فلا يمكن المساعدة
على القول بعدم ترتب الأثر على حكم الحاكم الصادر بعد احلافه
المدعى عليه بدون إذن المدعي بالاستناد إلى مجرد كون الحلف
حقا للمدعي، بل قضية اطلاقات أدلة الحكم والقضاء كتابا وسنة هو
نفوذ حكمه ووجوب امتثاله وإن كان صادرا بدون إذن المدعي، ولا
مجال لدعوى انصرافها عن مثل هذا المورد.
فالحاصل: كونه حقا للمدعي لا يكون دليلا على عدم جواز حكم
الحاكم وعدم نفوذ الحكم الصادر بدون مطالبة المدعي باستيفاء
حقه في احلاف المدعى عليه.
300

كما أن هذا الحق لا يجوز له منع المدعى عليه من الحلف
إن أراد أن يحلف، بل هو كحق الدائن على المدين حيث لا يجوز
له أن يمنعه عن أداء الدين إليه إلا بقصد اسقاط حقه وابراء ذمته،
أو بقصد التنازل عن حقه والعدول عن مطالبته فيما نحن فيه، وأما
بقصد ابقاء النزاع والخصومة فلا.
وقد اعترض في الجواهر على استدلالهم بما ذكر بأن ذلك
يقتضي عدم تحليفه مع عدم رضاه لا عدمه مطلقا حتى مع قيام شاهد
الحال، وذلك لأن الحق كالمال، فكما يجوز بعض التصرف في
مال الغير برضاه ولو بشاهد الحال فكذلك الحق ولا يلزم الإذن
الصريح منه بالحق، وعليه فإن مجيئه بالخصم إلى الحاكم وطرح
الدعوى عنده يكفي شاهدا على رضاه باحلاف المدعى عليه والحكم
في القضية.
ومن هنا قال في الجواهر: فالأولى الاستدلال لذلك بعد لاجماع
بظاهر النصوص الآتية في اشتراط الرضا الذي لا بد من العلم به،
وشاهد الحال إنما يفيد الظن فتأمل.
أقول: إذن لا بد من النظر في الأخبار، وقد وجدنا هذه الأخبار
دالة على لزوم الاستحلاف، ثم إذا حلف ذهبت اليمين بحقه،
فهذه الأخبار حيث ورد فيها الاستحلاف تكون بمنزلة الشارح لاطلاقات
" البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " أو المبين لاجمالها،
إذ تضمنت كيفية اليمين وأن المدعي يستحلف المنكر، فلو فرض
301

عدم دلالة الأخبار على تأثير اليمين بدون استحلاف المدعي فلا
ريب في أن القدر المتيقن من مدلولها كون يمين المنكر بمطالبة
المدعي. وبهذا البيان يتم دلالة هذه الأخبار بظاهرها على ما ذهب
إليه الأصحاب، ويكون ما نحن فيه نظير المعاملات، فإن العلم
برضا صاحب المال ببيع ماله لا يكفي لجوازه بل لا بد من اظهار
رضاه الباطن والتصريح به. ولعل السر في ذلك أنه كثيرا ما يندم
البائع عن بيع متاعه فمع التصريح بالإذن والرضا لا يؤثر ندمه،
بخلاف ما إذا أريد الاعتماد على رضاه فيمكنه انكار الرضا أصلا
ولا طريق إلى اثبات الرضا الباطني، وهنا كذلك فإنه إذا قال له
احلف لم يبق له مجال بعدئذ للانكار بخلاف ما إذا أريد الاستناد
إلى الرضا.
فحاصل المستفاد من الأخبار أن لاستحلاف المنكر موضوعية
في قبول حكم الحاكم في تلك القضية.
هذا وليس في الروايات أن يقول المدعي للحاكم: أحلفه،
بل فيها أنه يستحلف المنكر، بل في بعض الروايات أنه بنفسه يقول
للمنكر: احلف، فما الدليل على أن استحلافه إياه هو أن يقول
للحاكم: حلفه؟ وأن على الحاكم الاستيذان منه في احلاف المنكر؟
وحيث لا دلالة في الأخبار على اشتراط الإذن فما هو وجه القول بعدم
الاعتداد بيمين المنكر مع عدم إذن المدعي؟ ثم إنه إذا أحلفه في
حضور الحاكم وحلف فما الدليل على عدم صدق الاستحلاف
302

عليه؟ وهل المراد من الاستحلاف استدعاؤه من الحاكم احلافه
إياه؟
اللهم إلا أن يكون الدليل هو الاجماع وأن سيرة المسلمين
منذ صدر الاسلام حتى الآن هي على احلاف الحاكم المنكر بعد
مطالبة المدعي، وإلا فإن المستفاد من الروايات هو ما ذكرناه،
بل قيل: إنه يعتد بيمينه الواقعة بعد التماس المدعي وإن لم يكن
في محضر الحاكم، وهو مقتضى اطلاق معتبرة ابن أبي يعفور:
" إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن
لا حق له قبله ذهبت اليمين بحق المدعي فلا دعوى له. قلت له:
وإن كانت عليه بينة عادلة؟ قال: نعم.. " 1).
لكن الظاهر أنها محمولة على المعهود المتداول بين المسلمين
في كيفية حل النزاع بينهما، فإن المتخاصمين يتحاكمان إلى الحاكم
ويفوضان الأمر إليه فتجري في مجلسه جميع المقدمات بإذنه وتحت
نظره ثم يحكم في الواقعة بحسب الموازين المقررة في الشرع،
فلا اطلاق لها إذا، ويشهد بما ذكرنا أن في الرواية: " قلت: وإن
كانت له عليه بينة عادلة؟ " أي: هل اليمين تذهب بحقه وإن كانت له
عليه بينة؟ فقد يتفق غياب البينة وهما مستعجلان في فصل خصومتهما
فيحلف المدعى عليه المنكر ثم يحضر الشاهدان، فإن المراد من
البينة هنا هي البينة التي تقام عند الحاكم كما هو واضح، وبقرينة

1) وسائل الشيعة: 18 / 179.
303

المقابلة بين هذه البينة واليمين يعلم أن المراد من اليمين في الخبر
هي يمين المنكر عند الحاكم.
ثم إن الاجماع المدعى على لزوم إذن المدعي في يمين المنكر
مستند إلى فهم الأصحاب اشتراط ذلك من بعض الروايات أو إلى
السيرة المستمرة التي ذكرناها، وأما كونه اجماعا تعبديا غير مدركي
فبعيد جدا، والأظهر استناده إلى السيرة المستمرة القائمة على كون
أمر المترافعين بيد الحاكم بعد التحاكم إليه، وأنهما ليسا مختارين
في حل النزاع بينهما حينئذ، ولذا قالوا بأن الحاكم يطالب المدعي
بالبينة ويذكره بإقامتها إن كان غافلا عن ذلك، بل قيل بلزوم قول
الحاكم له: ألك بينة؟ وإن لم يكن غافلا، فهذا يكشف عن قيام
السيرة على أن أمر المترافعين بيد الحاكم وأنه لا يجوز لهما التقدم
عليه في شأنهما، نعم القدر المتيقن من نفوذ حكم الحاكم هو الحكم
الصادر منه بعد احلاف المنكر بطلب من المدعي.
وليس المراد من " الاحلاف " أن يأمر الحاكم المنكر بالحلف
حتى يكون المنكر عاصيا بنكوله منه، لأن المنكر بالخيار بين
اليمين والرد والنكول، بل المراد هو أن يأذن له باليمين، وهذا
هو مراد من عبر ب‍ " الأمر " أيضا.
وقد روى الشيخ الصدوق معتبرة ابن أبي يعفور المذكورة
بزيادة جملة " من حلف لكم على حق فصدقوه " 1) وقد يدعى

1) وسائل الشيعة: 18 / 179.
304

كونها مطلقة، لكنها محمولة على ما ذكرنا ولا سيما وأن الجملة
في ذيل تلك الرواية.
وفي رواية أخرى: ".. وإن تركه ولم يستحلفه فهو على حقه " 1).
وفي أخرى لعبد الله بن وضاح: " كانت بيني وبين رجل من
اليهود معاملة فخانني بألف درهم فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف،
وقد علمت أنه حلف يمينا فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح
ودراهم كثيرة، فأردت أن أقتص آلاف درهم التي كانت لي عنده
وأحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن عليه السلام فأخبرته: أني
قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ
منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت. فكتب: لا تأخذ منه شيئا
إن كان قد ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنك رضيت بيمينه فحلفته
لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنك رضيت بيمينه فقد مضت
اليمين بما فيها " 2).
وقد استشهد في الجواهر بما في هذا الخبر - من أنه قد أحلفه عند
الوالي لا الحاكم - على كفاية الحلف وإن لم يكن عند الحاكم.
لكن لعل هذا الوالي الذي حلف عنده كان من الولاة الذين لهم
الولاية على الحكومة ونصب القضاة بعد الترافع إليه، فلا يستفاد
منها كفاية الحلف عند غير الحاكم، والقدر المتيقن منها ما ذكرناه.

1) وسائل الشيعة: 18 / 179.
2) وسائل الشيعة: 18 / 180.
305

وكيف كان فلو حلف سقطت دعواه في الدنيا وإن لم تبرء
ذمته إن كانت يمينه فاجرة بالاجماع، وفي الحديث: ".. فأيما
رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار " 1).
قال المحقق " قده ": " ثم المنكر إما أن يحلف أو يرد أو
ينكل ".
أقول: عندما يطرح المدعي الدعوى وينكر المدعى عليه فإما
أن يحلف مع إذن الحاكم أو يرد اليمين على المدعي أو ينكل
فلا يحلف ولا يردها عليه.
حكم ما إذا حلف المنكر:
قال: " فإذا حلف سقطت الدعوى ".
أقول: إذا حلف المنكر سقطت دعوى المدعي ولا حق له على
المنكر، ثم إن أثر هذه اليمين هو أنه إن كان صادقا فكالأول، أي:
إن كان الشئ المتنازع فيه له حقا فهو، وإن كان كاذبا فكذلك، أي
لا يكون الشئ له باليمين ويحرم عليه التصرف فيه كما كان كذلك
من قبل، هذا بالنسبة إلى المنكر نفسه، وأما بالنسبة إلى المدعي
فلا تجوز له مطالبة المدعى عليه بالشئ بحسب الظاهر وهذا معنى
سقوط دعواه، وأما بالنسبة إلى الحاكم فأثر اليمين أن عليه أن يحكم
للمنكر بما يطابق قوله، وأما بالنسبة إلى سائر الناس فإنهم إذا أرادوا

1) وسائل الشيعة: 18 / 169.
306

التصرف في الشئ المتنازع فيه لزمهم الاستيذان من المدعى عليه.
قال المحقق: " ولو ظفر المدعي بعد ذلك بمال الغريم لم تحل
له المقاصة ".
أقول: وإذا سقطت الدعوى فهل للمدعي التقاص من مال
المدعى عليه بحيث لا يشعر بذلك أحد؟ ادعي الاتفاق على عدم
جواز التقاص منه إن كان مورد النزاع دينا، وأما إذا كان عينا فالمشهور
على الجواز، وقال جمع بالعدم وبقاء الحق إلى الآخرة، بل قالوا
بعدم جواز التصرف في العين المتنازع فيها وإن لم يكن تصرفا
منافيا لكونها بيد المدعى عليه كأن تكون عبدا ويعتقه في سبيل الله
عز وجل أو يبرأ ذمة المنكر قربة إلى الله تعالى، لأن ذلك ينافي حكم
الحاكم المقتضي لعد كون المنكر مدينا للمدعي ومقتضى الابراء
كونه مدينا له.
أقول: إن مقتضى القاعدة هو جواز التقاص منه - إلا أن يقوم
الدليل على المنع - إذ ليس الحكم من المملكات والنواقل للأموال
وإلا لما قال صلى الله عليه وآله: ".. فأيما رجل قطعت له
من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له به قطعة من النار " فلا يقال بأنه على
أثر اليمين والحكم يكون الحالف مالكا وإن أثم في اليمين الكاذبة
نظير البيع وقت النداء من يوم الجمعة، وحيث لا تصبح العين ملكا
للحالف بيمينه فإما أن تكون ملكا بلا مالك أو تبقى على ملك المدعي
والأول ساقط فثبت الثاني، فللمدعي التصرف في العين أينما وجدها
غير أنه يكون حينئذ رادا على الله لمخالفته لحكم الحاكم، ولكن
307

لو فعل ذلك خفية أمكن القول بالجواز لعدم تحقق الرد. اللهم
إلا أن يقال بوجوب التزام المدعي بترتيب آثار مالكية المدعى عليه
وإن كانت العين ملكا له في اعتقاده، وأن سائر الناس ملزمون بمعاملة
هذه العين معاملة ملك المنكر كالمدعي نفسه، فعليهم الاستيذان من
المنكر إن أرادوا التصرف فيها، وقيل بوجوب ذلك عليهم إن لم
يكونوا عالمين بكونها ملكا للمدعي في نفس الأمر، إلا أن الكلام
في أثر إذن المدعى عليه حيث قد حلف كاذبا وهو يعلم بأن العين
لم تدخل في ملكه واقعا بل هي باقية على ملك المدعي، فإنه لا يجوز
له الإذن ولو أذن لم يؤثر، فالأحوط لهم الاستجازة من المتداعيين
كليهما في التصرف في العين.
قال المحقق: " ولو عاود المطالبة أثم ولم تسمع دعواه ".
أقول: أي إن الحاكم بعدما حكم بأن الشئ للمنكر أو بأنه
ليس مدينا للمدعي لا يجوز له سماع الدعوى مرة ثانية، ولا استماع
شهادة بينة المدعي على مالكيته للشئ المتنازع فيه، قال المحقق: " ولو
أقام بينة بما حلف عليه المنكر لم تسمع " وهذا مذهب المشهور بل حكي
عليه الاجماع، وذلك لحكومة خبر ابن أبي يعفور عن الصادق " ع ":
" إذا رضي صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف لا حق
له قبله ذهبت اليمين بحق المدعي فلا دعوى له. قلت له: وإن كانت
عليه بينه عادلة؟ قال: نعم وإن أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما
كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه
عليه. قال رسول الله من حلف لكم بالله فصدقوه وإن سألكم بالله
308

فأعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدعي ولا دعوى له " 1) وغيره من
الأخبار على: " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " 2).
وهنا قولان آخران، قال المحقق: " وقيل: يعمل بها ما لم
يشترط المنكر سقوط الحق باليمين، وقيل: إن نسي بينته سمعت
وإن أحلف " والثالث: إنها تسمع مطلقا، قال المحقق: " والأول
هو المروي " وتلك الأقوال مخالفة للنصوص الواردة في المقام،
وهي تدل على أن يمين المنكر يذهب بحق المدعي وأنه لا تسمع
بعد ذلك دعواه أبدا، وقد عمل الأصحاب بتلك النصوص إلا
من شذ.
قال المحقق: " وكذا لو أقام بعد الاحلاف شاهدا وبذل معه
اليمين، وهنا أولى " وهذا واضح.
قال: " أما لو أكذب الحالف نفسه جاز مطالبته وحل مقاصته.. ".
أقول: لو أكذب المدعى عليه الحالف نفسه بعد يمينه فهل
يكون اقراره بالكذب كالبينة التي يقيمها المدعي بعد يمين المنكر
في عدم التأثير أو يؤثر هذا الاقرار؟
إن دليل حجية الاقرار مطلق، فهو حجة سواء كان قد حلف
أو لا، ودليل حجية اليمين وذهابها بحق المدعي مطلق فهي تذهب
بحقه سواء أكذب الحالف نفسه بعدها أو لا، فالنسبة بين الدليلين

1) وسائل الشيعة: 18 / 179.
2) وسائل الشيعة: 18 / 215.
309

هو العموم من وجه، فهل يتقدم دليل الاقرار لذهاب الأصحاب إلى
ذلك أو أنه لا تعارض بينهما في مورد الاجتماع لحكومة دليل ذهاب
اليمين بحقه على دليل الاقرار لأنه رافع لموضوعه؟ المستفاد من
المعتبرة: " إني كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي عليه،
ثم إنه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إياه، فقال: هذا
مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها فهي لك مع مالك واجعلني
في حل، فأخذت منه المال وأبيت أن آخذ الربح منه، ورفعت
المال الذي كنت استودعته وأبيت أخذه أستطلع رأيك، فما ترى؟
فقال: خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلله، فإن هذا الرجل تائب
والله يحب التوابين " 1) كون الاقرار مسموعا وأنه يتقدم على أدلة
ذهاب اليمين بحث المدعي.
بل إن تلك الأدلة منصرفة عن صورة تكذيب الحالف نفسه.
بل إن اليمين من الطرق العقلائية، وقد جعل الشارع يمين
صاحب اليد طريقا لثبيت حقه لو نازعه أحد على ما في يده، كما
أن الدليل المعتمد في حجية خبر الواحد هو السيرة وبناء العقلاء
لكن اعتبارهم لليمين والخبر مقيد بما إذا لم يكذب الحالف أو
المخبر نفسه، وعليه فلا معنى للقول باطلاق دليل حجية خبر الواحد
ويمين الحالف، لأن عدم ترتيب العقلاء الأثر على ذلك حينئذ يكشف
عن عدم اعتبار الشارع لتلك اليمين وأنها ليست مصداقا عنده لأدلة
ذهاب اليمين بحق المدعي. وكذلك البينة لو أكذب الشاهدان

1) وسائل الشيعة: 16 / 179.
310

أنفسهما بعد الشهادة..
وأما بقاء مالكية المدعي على المال فهو مقتضى خبر مناهي
رسول الله صلى الله عليه وآله حيث ورد فيه النهي عن أكل
أموال الناس بشهادة الزور، فعن الصادق عليه السلام عن آبائه عن
النبي " ص ": " في حديث المناهي: إنه نهى عن أكل مال بشهادة
الزور " 1). وكذا قوله " ص ": ".. فإنما قطعت له قطعة من النار " 1).
وفي خبر عبد الله بن وضاح: " كانت بيني وبين رجل من اليهود
معاملة فخانني بألف درهم فقدمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، وقد
علمت أنه حلف يمينا فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم
كثيرة، فأردت أن أقتص الألف درهم التي كانت لي عنده وأحلف
عليها، فكتبت إلى أبي الحسن فأخبرته.. فكتب: لا تأخذ منه
شيئا إن كان قد ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنك رضيت بيمينه فحلفته
لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنك رضيت بيمينه فقد مضت
اليمين بما فيها " 2).
بناء على أنه عليه السلام قد استعمل لفظ " الظلم " فيها من باب
المشاكلة كما في قوله تعالى: " ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم " 3)، وإلا فإن أخذ الحق ليس ظلما حقيقة، نعم

1) وسائل الشيعة: 18 / 169.
2) وسائل الشيعة: 18 / 180.
3) سورة البقرة: 194.
311

هو بعد حكم الحاكم غير جائز شرعا..
فتحصل: ثبوت ملكية المدعي للمال المتنازع فيه بعد اقرار
الحالف بالكذب وسقوط يمينه عن التأثير، بخلاف البينة التي
يقيمها المدعي بعد حلف المنكر فقد دلت النصوص على تقدم اليمين
وعدم سماع البينة بعدها.
هذا، وفي كلمات صاحب الجواهر أن اليمين لا تذهب بالمال
بل تذهب بحق المدعي على المنكر. وفيه: أنه لا يثبت لصاحب
المال المدعي حق على المنكر، بل ليس لصاحب المال المغصوب
منه حق على غاصبه، وإنما له المطالبة بماله وايقاع أنحاء التصرفات
فيه، ومن الواضح إن هذه التصرفات من آثار سلطنته على ماله
وليست حقوقا له على من عنده المال، فالصحيح أن أدلة ذهاب
اليمين بحق المدعي تمنع تصرفه في ماله الذي بيد المنكر بعد يمينه
لكن لا مانع من بقاء اعتبار مالكيته له والمنكر مخاطب بترتيب
آثارها على هذا المال الذي بيده، فإن أكذب نفسه جاز للمدعي
مطالبته بالمال وحلت له مقاصته إن امتنع من تسليمه.
وفي المسالك: " أما لو أكذب الحالف.. كما يحل له مع
امتناعه من التسليم لتصادقهما حينئذ على بقاء الحق في ذمة الخصم
فلا وجه لسقوطه ". أقول: هذا يتوقف على عدم تمامية اطلاق أدلة
" ذهبت اليمين بحقه " كما ذكرنا وإلا كان الاطلاق هو الوجه
لسقوط الحق.
312

ثم إنه هل يسقط حق المدعي بمجرد يمين المدعى عليه أو
يتوقف ذلك معها على حكم الحاكم؟ ظاهر النصوص هو الأول،
قال السيد: والانصاف أنه ليس كل البعيد إن لم يكن الاجماع على
خلافه. والصحيح هو الثاني وفاقا للجواهر، لأن اليمين مقدمة
للحكم - كالبينة - وفصل الخصومة يحصل بالحكم وقد قال صلى
الله عليه وآله وسلم: " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان " أي: إن
الحكم القاطع للنزاع يصدر بعد قيام البينة أو تحقق اليمين، فكل
واحدة منهما في موردها مقدمة لحكم الحاكم وبه ينقطع النزاع،
فلو حلف المدعى عليه ولم يصدر الحكم من الحاكم لسبب من
الأسباب جاز للمدعي استيناف الدعوى.
هذا كله إذا حلف المنكر.
حكم ما إذا رد اليمين:
قال المحقق: " وإن رد اليمين على المدعي لزمه الحلف ".
أقول: إن رد المنكر اليمين على المدعي قالوا: يجب على
المدعي أن يحلف، وليس المراد من هذا الوجوب أو اللزوم هو
الوجوب التكليفي بل بمعنى أنه إن أراد تحصيل حقه من المدعى
عليه لزمه الحلف، فهو لزوم وضعي من باب المقدمة لإحقاق الحق
فإذا حلف حكم له ووجب على المنكر تسليم الشئ المتنازع
فيه إليه.
ويدل على ذلك الاجماع والأخبار المستفيضة أو المتواترة كما
313

في الجواهر، وهذه نصوص طائفة من تلك الأخبار نذكرها لاشتمالها
على أحكام أخرى أيضا:
1 - محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: " في الرجل
يدعي ولا بينة له. قال: يستحلفه فإن رد اليمين على صاحب الحق
فلم يحلف فلا حق له " 1).
2 - عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام: " في الرجل
يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعي. قال: يستحلف أو يرد اليمين
على صاحب الحق فإن لم يفعل فلا حق له " 2).
3 - الصدوق باسناده عن أبان عن جميل عن أبي عبد الله عليه
السلام قال: " إذا أقام المدعي البينة فليس عليه يمين وإن لم يقم
البينة فرد عليه الذي ادعى عليه اليمين فأبى فلا حق له " 3).
4 - الكليني عن حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة
عن بعض أصحابه عن أبان عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام:
" في الرجل يدعى عليه الحق وليس لصاحب الحق بينة. قال: يستحلف
المدعى عليه فإن أبى أن يحلف وقال: أنا أرد اليمين عليك لصاحب
الحق فإن ذلك واجب على صاحب الحق أن يحلف ويأخذ ماله " 4).
5 - يونس عمن رواه قال: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه:

1) وسائل الشيعة: 18 / 176. وهي صحيحة.
2) وسائل الشيعة: 18 / 176. وهي صحيحة.
3) وسائل الشيعة: 18 / 177 وليلاحظ طريق الصدوق إلى أبان.
4) وسائل الشيعة: 18 / 171. وهي مرسلة.
314

بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، فإن
لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين
على المدعى عليه، فإن لم يحلف ورد اليمين على المدعي
فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه، فإن أبى أن يحلف فلا
شئ له " 1).
6 - عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قلت للشيخ عليه السلام:
" خبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلم تكن له بينة بماله.
قال: فيمين المدعى عليه فإن حلف فلا حق له، وإن رد اليمين على
المدعي فلم يحلف فلا حق له [وإن لم يحلف فعليه] وإن كان
المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين
بالله الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان وأن حقه لعليه، فإن حلف
وإلا فلا حق له، لأنا لا ندري لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها،
أو غير بينة قبل الموت، فمن صارت عليه اليمين مع البينة فإن
ادعى بلا بينة فلا حق له لأن المدعى عليه ليس بحي، ولو كان حيا
لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه، فمن ثم لم يثبت الحق " 2).
فتحصل أن للمنكر رد اليمين على المدعي فإن حلف ثبت حقه
وحكم له، وأما إذا كانت دعواه ظنية فقيل لا تسمع الدعوى الظنية

1) وسائل الشيعة: 18 / 176. وهي مضمرة.
2) وسائل الشيعة: 18 / 172. وفيها " ياسين الضرير " وليس
لأئمة الرجال فيه مدح ولا ذم.
315

مطلقا، وقيل: بل تسمع إذ قد تقوم البينة على طبقها وتكون دليلا
ومستندا لحكم الحاكم، لكن لا أثر لرد المنكر اليمين على المدعي
حتى على القول الثاني، لأن الظان لا يمكنه الحلف، وكذا لو كان
المدعي يدعي شيئا لغيره كولي الصغير الذي يدعي على أحد حقا
للصغير، لأن يمينه لا تثبت حقه وإن كان جازما به، لما تقرر عندهم
من أن يمين أحد لا تثبت الحق لغيره، وكذا الأمر لو كان المدعي
وصيا لميت فيدعي وصيته بشئ فينكر الوارث مثلا ذلك، فإن أقام
البينة على دعواه فهو وإلا حلف الوارث أو أقر بالحق ولا يرد اليمين
على الوصي. وقيل: لقد قام الدليل على أن البينة على المدعي وعلى
المنكر أن يحلف أو يرد أو ينكل، وهذا الدليل مطلق يشمل صورة
ما إذا لم يتمكن المدعي من اليمين أو لم تكن يمينه نافذة، فنحكم
في صورة رد المنكر اليمين وعجزه عنها - لكونه ظانا أو لكون
الحق لغيره - بسقوط الحق المدعى لا بأن يكون عجزه سببا لتخيير
المنكر بين الأمرين الآخرين.
والجواب من وجهين: " الأول " إن أدلة تردد أمر المنكر بين
الأمور الثلاثة منصرفة عن هذه الصورة، فليس له الرد فيها ويبقى
الأمران. " الثاني " الشك في اطلاق الأدلة - بعد التنزل عن القول
بانصرافها - فيؤخذ بالقدر المتيقن وهو ما عدا هذه الصورة.
وحيث لا يمكن الرد - لأجل لغوية يمين المدعي أو عجزه عنها -
فهو مخير بين الاقرار والحلف.
316

اليمين المردودة في حكم البينة أو الاقرار؟
وهل اليمين المردودة في حكم بينة المدعي أو في حكم اقرار
المنكر؟ قولان.
وجه الأول: إن الذي على المدعي هو البينة، وعلى المنكر
اليمين، فإن رد المنكر اليمين على المدعي وحلف ثبت حقه،
فتكون هذه اليمين في حكم البينة.
ووجه الثاني: إن اقرار المدعى عليه يثبت حق المدعي فتقوم
اليمين المردودة منه على المدعي مقام الاقرار، إذ هو حينئذ مسلم
لما يدعيه إن حلف.
وقد ذكروا لهذا الخلاف ثمرات منها: أن المدعى عليه إذا أقام
بينة على أداء المال مثلا حلف المدعي، فإن كانت اليمين المردودة
نازلة منزلة البينة جاز للمنكر إقامة البينة بعدها، وإن كانت نازلة منزلة
الاقرار فلا مجال لإقامتها لأن الاقرار منه يكذبها.
قلت: والأقوى أن اليمين المردودة طريق مستقل لاثبات حق
المدعي، وما ذكروه في وجه القولين ضعيف، وليس طريق اثبات
الحق منحصرا بالبينة والاقرار بل هي ثلاثة طرق: البينة والاقرار
واليمين المردودة، ولكل واحد منهما أحكامه وآثاره، وأما الثمرة
التي ذكروها فغير مترتبة لأن اليمين المردودة لا تصلح لنفي أداء
المدعى عليه الدين بل هي تثبت أصل الدين، وحينئذ للمدعى عليه
إقامة البينة على الأداء " كما أنه لو أقر بأصل الدين ثم أقام البينة
على الأداء سقط الحق، وإن لم يكن عنده بينة حلف المدعي لأنه
317

المنكر للأداء " ولا معنى لإقامتها على نفي ما تثبته اليمين المردودة
التي جعلت لخصم النزاع بينهما، إذن يجوز أن تقام البينة في
مقابل اليمين المردودة لو اختلف مدلولاهما - كما ذكرنا.
وحينئذ نبحث عن مقتضى الأدلة أو الأصول فيما إذا أقام المنكر
البينة بعد يمين المدعي مثلا، فإن شملت اطلاقات أدلة البينة هذه
البينة فهو وإلا فيرجع إلى الأصل من دون أن يطبق على هذه اليمين
أحكام أحد الأمرين.. فالحاصل أنه لا وجه للحصر المذكور،
وحينئذ نقيد أدلة البينة على المدعي واليمين على من أنكر بأن
اليمين على المنكر إلا إذا ردت على المدعي فهي عليه لا على المنكر.
ثم إن أثر اليمين المردودة يتوقف ترتبه على حكم الحاكم،
فهي من مقدمات الحكم، والذي يثبت الحق هو الحكم وبه تنفصل
الخصومة وينقطع النزاع كما ذكرنا سابقا، فيكون معنى قوله عليه
السلام - في مرسلة أبان -: ".. أن يحلف ويأخذ ماله " أنه
يحلف ويحكم الحاكم ويأخذ ماله.
قال المحقق: " ولو نكل سقطت دعواه ".
أقول: لو نكل المدعي عن اليمين المردودة فقد ذكروا أنه
تسقط دعواه، ثم ادعي الاجماع على عدم جواز إعادة الدعوى في
ذلك المجلس، وفي إعادتها في مجلس آخر قولان، وفي المسالك:
إن كان ترك اليمين لسبب وجيه وعذر مقبول أمهل وإلا كان ناكلا
تسقط دعواه بامتناعه من اليمين.
318

أقول: ليس في الأخبار تعرض للنكول، بل فيها: " أبى أن
يحلف " و " لم يحلف " فإن قال في المجلس " لا أحلف " مثلا
فقد أبى أن يحلف، ولا يبقى له حق، فإن حكم الحاكم سقطت
الدعوى ولا تسمع بعدئذ، وإن لم يحكم الحاكم لم تسقط وبقيت
وجازت المطالبة بالحق ولكن تجديدها في ذلك المجلس لغو، وأما
الامهال فإن كان لجهة عقلائية أمكن القول بجوازه بدعوى انصراف
الأخبار عن ذلك وإلا فلا وجه لامهال الحاكم إياه، وهذه المهلة -
أي مقدار طالت - فقد أخر احقاق حقه بنفسه ولا يجبر على اليمين
لأجل أخذ حقه، بخلاف يمين المنكر فهناك لا يمهل لأن الحق للمدعي.
وهذا العذر الموجه لا بد أن يكون له أمد إما عرفا وإما بتحديد
من الحاكم.
وأما إذا رد اليمين على المدعي فادعى أنه ظان بالحق غير
متيقن به فلا يمكنه الحلف، فإن كان المنكر متيقنا قيل له: احلف،
وإن كان هو أيضا ظانا أو شاكا كالمدعي بقيت الدعوى ورجع
الحاكم إلى الأصول العملية وأفتى في المسألة بما أدى إليه نظره.
حكم ما إذا نكل المنكر:
قال المحقق: " وإن نكل المنكر بمعنى أنه لم يحلف ولم يرد،
قال الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا.. ".
أقول: المراد من قوله: " وإلا جعلتك ناكلا " هو حكمه
بنكوله، فالحاصل أنه إن حلف المنكر سقطت الدعوى، وإن رد
319

اليمين على المدعي فإن نكل المدعي سقطت الدعوى كذلك، وإن
نكل المنكر فلم يحلف ولم يرد قال المحقق: " قال الحاكم.. "
ثم قال: " ويكرر ذلك ثلاثا استظهارا لا فرضا " ولم يقم دليل على
ذلك، بل لو فرضنا أن مجرد النكول يوجب الحكم عليه فهو
محكوم إلا أن يقوم اجماع على ما ذكره " قده ".
قال: " فإن أصر قيل يقضى عليه بالنكول، وقيل: يرد اليمين
على المدعي فإن حلف ثبت حقه وإن امتنع سقط ".
أقول: إن أصر المنكر على النكول ففيه قولان: أحدهما
يقضى عليه بالنكول، قال به جماعة من المتقدمين، والآخر: يقول
له الحاكم: رد اليمين على المدعي، فإن رد وحلف ثبت حقه وإن
امتنع المدعى عنه سقط حقه، وهو قول جماعة من الأصحاب..
قال المحقق: " والأول أظهر وهو المروي ".
لقد استدل للقول الأول بأخبار منها: قوله صلى الله عليه وآله
وسلم " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " فقد فصل " ص "
بين المدعي والمنكر، فجعل البينة وظيفة للمدعي واليمين وظيفة
للمنكر والتفصيل قاطع للشركة، أي: أنهما ليسا شريكين في البينة
واليمين بل لكل واحد منهما وظيفته في ميزان فصل الخصومة،
وأما " رد اليمين " فمن الأحكام الطارئة، مثلا: حقيقة الصلاة منوطة
بتحقق أجزائها وشرائطها المحققة لها والمذكورة أولا وبالذات،
وأما ركعة الاحتياط مثلا فمن الأمور الطارئة عليها،.. وحينئذ
لو رد المنكر اليمين على المدعي وجب عليه أن يحلف، وأما إذا
320

لم يردها عليه عن اختيار كان القانون العام المذكور هو المطبق
لا محالة، وأما القول بأنه متى سكت رد الحاكم اليمين على المدعي
ولاية أو حمل المنكر على الحلف فيستلزم أن لا يبقى مصداق لنكول
المدعى عليه عن اليمين.
وبعبارة أخرى: مقتضى الدليل الأولي الحكم بنكوله إذا لم
يحلف، وإن رد كان أمرا طارئا واقتضى الدليل الثانوي ترتيب الأثر
عليه لتحقق موضوعه وهو الرد، وأما إذا لم يحلف ولم يرد بقي الدليل
الأول على مقتضاه وهو الحكم بنكوله.
ومنها: ما رواه محمد بن مسلم قال: " سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن الأخرس كيف يحلف إذا ادعي عليه دين وأنكر ولم يكن
للمدعي بينة؟ فقال: إن أمير المؤمنين عليه السلام أتي بأخرس فادعي
عليه دين ولم يكن للمدعي بينة فقال أمير المؤمنين " ع ": الحمد لله الذي
لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه، ثم قال:
ايتوني بمصحف، فأتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه
إلى السماء وأشار أنه كتاب الله عز وجل، ثم قال: ايتوني بوليه،
فأتي بأخ له فأقعده إلى جنبه ثم قال: يا قنبر علي بدواة وصحيفة،
فأتاه بهما ثم قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك وبينه،
أنه علي، فتقدم إليه بذلك، ثم كتب أمير المؤمنين " ع ": والله الذي
لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب
الضار النافع المهلك المدرك الذي يعلم السر والعلانية إن فلان
ابن فلان المدعي ليس له قبل فلان ابن فلان أعني الأخرس حق
321

ولا طلبة بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب، ثم غسله وأمر
الأخرس أن يشربه فامتنع، فألزمه الدين " 1).
فإن الظاهر منها أن الإمام عليه السلام قد ألزمه الدين بمجرد
امتناعه عن الشرب، وذلك يقتضي أنه قد امتنع عن رد اليمين على
المدعي، للاتفاق على أنه لا يحكم عليه مع الرد. وما أشكل عليه
في الجواهر: بالقطع بعدم إرادة هذا الظاهر ضرورة اشتراط الحكم
بنكوله عن رده أيضا فلا بد في اصلاحه حينئذ من تقدير، والتزام
كونه موافقا لذلك ليس بأولى من جعله مخالفا له.. ضعيف لأنه
لو رد لحكم الإمام عليه السلام على المدعي باليمين قطعا ولحكي
الإمام الصادق عليه السلام ذلك البتة، إذ لا وجه لحكاية بعض الواقعة
وترك البعض الآخر مع كونه محتاجا إليه، لكن لا مانع من عدم
حكاية ما هو المحرز منها وهو ما ذكرنا من عدم رده اليمين على
المدعي، بل إن حكم الإمام عليه السلام بأداء الحق قرينة على ذلك.
وأما قوله: على أنه قضية في واقعة لا عموم فيها.. ففيه أن
الإمام الصادق عليه السلام قد ذكر القضية في جواب السؤال عن كيفية
احلاف الأخرس حينئذ مستشهدا ومستدلا بها ولم يكن ذلك منه
مجرد حكاية لها حتى لا يكون لها عموم.
فتحصل أن الرواية تدل على كفاية عدم رده - مع علمه بأن له

1) وسائل الشيعة: 18 / 222. باب كيفية احلاف الأخرس..
الباب 33 من أبواب كيفية الحكم الدعوى.
322

ذلك - للحكم عليه بدفع حق المدعي، ولا يلزم أمره بالرد ثم
الحكم بذلك أن امتنع عن الرد.
ومنها: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله 1) المتقدمة سابقا
فهذا الخبر يدل بظاهره صدرا وذيلا - على رواية الشيخ
الكليني " قده "، وذيلا على رواية الشيخ الصدوق " قده " في الفقيه -
على القول الأول، لأن حاصل القدر المتفق على روايته: أن
المدعى عليه إن حلف سقطت الدعوى، وإن لم يحلف فعليه الحق
إلا أن يرد - هو أو الحاكم من قبله - اليمين على المدعي - ولا يحكم
على المدعي عليه بامتناعه عن اليمين - فإن حلف المدعي ثبت حقه
وإلا سقطت الدعوى.
ثم إن الجواب عن دعوى الجواهر بأن اختلاف متنه موجب
للتزلزل فيه. هو أن التزلزل يكون في حال اختلاف متن الخبر في
الكتاب الواحد، وأما هذا الخبر فقد رواه الصدوق " قده " بلفظ
يختلف عن لفظ الكليني " قده "، وقد تقرر عندهم أن الشيخ
الكليني أضبط من غيره 2)، مع أن المحتمل تعدد نفس الرواية،
ومحل الاستدلال رواية الكليني، ومع التنزل فإن الذيل الذي اتفقا
عليه ظاهر في الدلالة على القول الأول.

1) وسائل الشيعة: 18 / 172.
2) تعرضوا إلى هذه المسألة كثيرا في الصورة وقوع الاختلاف
في لفظ الحديث بين رواية الشيخ الكليني والشيخ الطوسي قدس
سرهما، فقدموا رواية الكليني على رواية الشيخ قائلين بأنه أضبط
في نقل الأخبار، لأن الكليني لم يشتغل بغير الحديث وقد عمل الكافي
في عشرين سنة، بخلاف الشيخ فله كتب كثيرة في علوم مختلفة،
ولذا نصوا على وقوع اشتباهات كثيرة في تهذيبه.
323

وليس مخالفة ما تدل عليه رواية الفقيه لفتوى أبي حنيفة مرجحة،
لأن الترجيح بمخالفة العامة هو في الخبرين المتعارضين حكما لا
المختلفين زيادة ونقصانا.
واحتمال تقدير جملة، بأن يقال: فإن لم يحلف - أي المدعى
عليه - ورد اليمين على المدعي فحلف - فعليه. ضعيف جدا.
هذا، وقد تلقى الأصحاب هذا الخبر بالقبول وأفتوا على طبقه
في لزوم ضم اليمين إلى البينة في الدعوى على الميت - ولا دليل
لهم غيره - وهذا جابر لضعف سنده.
ثم إن صاحب الجواهر بعد أن ذكر أدلة الطرفين قال: " وبذلك
كله ظهر لك أن أدلة الطرفين محل نظر.. نعم قد يقال: إنه بعد
فرض الاجماع المركب على انحصار القضاء في الفرض بأحد
الأمرين وإن اختيار أمر ثالث.. خرق للاجماع المزبور يتجه
القول حينئذ أنه يرد اليمين منه على المدعي، لأصالة عدم ثبوت
الحق بدونه ولظهور حصر استخراج الحقوق في مضمر يونس
بالأربعة، ومجرد النكول خارج عنها، بل لعل النصوص المستفيضة
أو المتواترة الدالة على انحصار كيفية القضاء بين الناس بالبينات
والأيمان تقتضي ذلك.. ".
324

أقول: أما الاجماع المركب فمنتف هنا، وأما أصالة عدم
ثبوت الحق بدون رد اليمين على المدعي فمعارضة بأصالة عدم
وجوب رد اليمين حينئذ، مع أن حكم الحاكم بوجوب أداء
الحق على المنكر إن كان من جهة نكوله فالحق ثابت، وإن كان
الحكم مترتبا على اليمين أو الرد فلا يحكم عليه بدفع الحق. فظهر أنه
لا مجال لجريان أصالة عدم ثبوت الحق، لأن موجب الحكم في الصورة
الأولى حاصل قطعا وفي الثانية غير حاصل قطعا وحيث يتردد الأمر
بين أمرين مقطوع بهما لا يجري الاستصحاب أبدا، إلا أن يقال
هنا بأن الأصل عدم جعل حكم للنكول، لكن هذا الأصل أيضا معارض
بأصالة عدم جعل جواز الرد أو وجوبه أو وجوب الزام المدعى
عليه بالرد على الحاكم.
والحاصل: أنه لو افترقت الأمة على قولين، فقالت طائفة بأن
مجرد النكول موجب لحكم الحاكم، وقالت أخرى: بأنه ليس له
الحكم بالنكول بل يأمر المنكر برد اليمين على المدعي - أو يردها
هو من قبله - فإن حلف حكم بثبوت الحق وإلا حكم بسقوطه،
فإن كان القولان متباينين - نظير ما إذا قالت طائفة بوجوب الجمعة
في زمن الغيبة وقالت الأخرى بحرمتها - فلا مجال للاستدلال لأحد
القولين بالأصل، وإن كان القولان غير متباينين كأن يكون الاختلاف
بينهما حول شرط من شروط الواجب أو جزء من أجزائه بأن تقول
إحداهما بوجوب السورة في الصلاة وتقول الأخرى بعدم وجوبها
325

مع اتفاقهما على اجزاء الصلاة مع السورة، فهنا لا تجري أصالة
عدم وجوب السورة لعدم الشك في اجزاء الصلاة الواجدة لها..
وعلى هذا فإن كان مقتضى القول بكفاية النكول عدم لزوم الرد
على المدعي مع عدم المنع عنه، ومقتضى القول الآخر لزومه بعد
النكول، فالقولان متفقان على ثبوت الحق ببذل المدعي اليمين
المردودة ونفوذ الحكم بذلك قطعا فلا مجال لأصالة العدم حينئذ،
لكن أصالة العدم بالنسبة إلى النكول وحده جارية كما في الجواهر.
هذا، فإن رد اليمين على المدعي فنكل فقولان كذلك، وهنا
أيضا يتعارض الأصلان.
فظهر أن الأصل الذي ذكره في الجواهر يجري في حال قبول
الطرفين لترتب الأثر على رد اليمين على المدعي مع عدم وجود
قول ثالث في البين.
وأما استدلاله بظهور حصر استخراج الحقوق في مضمر
يونس بالأربعة. ففيه نظر، إذ الرواية في مقام بيان طرق استخراج
الحق من طرف المدعي فقط لا مطلقا وإلا فإن اقرار المدعى عليه
مثلا من أسباب ثبوت حق المدعي وليس له ذكر في الرواية.
وأما قوله: بل لعل النصوص المستفيضة.. ففيه: أن الأمر
يدور بين تخصيص دليل وجوب البينة على المدعي بأن نقول: إلا
في حال رد المنكر اليمين عليه، وبين تخصيص دليل وجوب اليمين
على المنكر، بأن نقول: إلا إذا ردها على المدعي فحينئذ تجب
326

على المدعي لا المنكر، لكنا ذكرنا سابقا بأن اليمين توجب
الاطمئنان نوعا بصدق الحالف وإن الامتناع منها يكشف - نوعا -
عن الكذب، فهي مؤثرة وجودا وعدما، فميزان القضاء هو بينة
المدعي ويمين المنكر أو نكوله عن اليمين..
لو بذل اليمين بعد النكول:
وكيف كان فقد قال المحقق: " ولو بذل المنكر يمينه بعد
النكول لم يلتفت إليه ".
أقول: لو بذل المنكر يمينه فإن كان بذله لها بعد حكم الحاكم
بنكوله فلا ريب في عدم الالتفات إليها، وهو المشهور بل عليه
الأكثر بل ادعي عليه الاجماع، لأن الحكم قد فصل الخصومة
وقطع النزاع ولا يجوز نقضه، وإن كان بذله قبل الحكم وبعد
النكول فكذلك، لأن النكول حينئذ كاليمين والاقرار والبينة في تعقب
الحكم له من دون حالة منتظرة، فلا أثر لبذل اليمين - بمعنى
حلفه هو أو رد اليمين على المدعي - ولا يلتفت إليه، إنما الكلام
في كيفية تحقق النكول، فالمحقق " قده " على أنه يقول له الحاكم:
إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا ويكرر ذلك ثلاثا، واكتفى صاحب
الرياض بالمرة الواحدة، وعن كاشف اللثام أنه لا يجب إلا الأمر
بالحلف لا قوله: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا ولا مرة، وهو الأظهر.
وأما بناء على القول الثاني من أنه لا يحكم عليه بالنكول بل
ترد اليمين على المدعي فيلتفت إليه، لأنه يكون حينئذ كالبذل قبل
327

الحكم، فإن حلف المدعي لم يلتفت إليه كذلك لأنه حينئذ يحكم
عليه الحاكم بدفع الحق إلى المدعي وبذلك ينقطع النزاع.
قال في الجواهر: إن أدلة القولين لا يعارضها الاطلاق ما دل
على أن اليمين على المنكر بعد تقييدها به، قال: بل في الرياض
دعوى اختصاصه بحكم التبادر وغيره بيمينه قبل الحكم عليه بنكول
أو احلاف المدعي برد اليمين عليه ولو من الحاكم. قلت: وأما
بناء على ذكرنا من أن ما دل على ذلك ظاهر في تأثير اليمين
وجودا وعدما وأنه لو امتنع عن اليمين يتحقق النكول ويحكم
عليه بالحق، فلا تصل النوبة إلى الاطلاق والتقييد أو دعوى الانصراف.
وفي الرياض: هذا إذا كان الحكم عليه بنكوله بعد عرض
حكمه عليه ولو مرة ولو قضى بنكوله من غير عرض فادعى الخصم
الجهل بحكم النكول ففي نفوذ القضاء اشكال: من تفريطه وظهور
عذره، ولعل الثاني أظهر وبالأصل أوفق.
وأشكل عليه في الجواهر بأنه: ليس في شئ مما وصل إلينا
من الأدلة وجوب العرض عليه بمعنى اعلامه حكم النكول والأصل
البراءة، فلا وجه لنقض الحكم حينئذ مع العلم بحاله فضلا عن
دعواه الجهل خصوصا بعد ملاحظة الاستصحاب وغيره.
أقول: ليس شرط نفوذ الحكم علم المنكر بحكم النكول،
فإن الحكم نافذ والأصل براءة ذمة الحاكم عن وجوب الاعلام،
لكن تمسك صاحب الجواهر باستصحاب بقاء الحكم ونفوذه الثابت
328

قبل البذل لو شك في بقائه بعده، مخدوش بأن المتيقن تأثير اليمين
أو الرد شرعا قبل صدور الحكم، وبعد الحكم حيث يشك في بقاء
التأثير وعدمه فيستصحب فيقع التعارض بين الاستصحابين.
ولو بذل المنكر يمينه قبل حلف المدعي اليمين المردودة -
قال في الجواهر - فالمتجه جوازه للأصل، من غير فرق بين كون
الرد منه أو من الحاكم، أي: إن الرد وحده ليس موضوع الحكم
الشرعي بل هو الرد ويمين المدعي بعد، فإن أظهر استعداده
لليمين قبل حلف المدعي فقد حصل ذلك قبل تحقق موضوع الحكم
الشرعي، فلذا يلتفت إليه.
ولو بذلها بعد حلف المدعي اليمين المردودة وقبل حكم
الحاكم فقولان، من أن الفاصل للنزاع هو الحكم فما لم يحكم
الحاكم يجوز بذله ويلتفت إليه، ومن أنه لما حصل سبب الحكم
وموجبه فقد قامت الحجة التامة للحاكم لأن يحكم على طبقها فيجب
عليه اصدار الحكم لا أن ينتظر قيام سبب آخر على خلاف السبب
القائم. نظير الاقرار، فلو أقر المنكر بما يدعيه المدعي ثبت الحق
ولزم الحكم بذلك، فلو رجع عن اقراره لا يلتفت إليه وإن كان
قبل الحكم.
هل يأمر الحاكم المدعى باحضار البينة؟
قال المحقق: " ولو كان للمدعي بينة لم يقل الحاكم أحضرها
لأنه حق له ".
329

أقول: هذا شروع فيما يتعلق بالمدعي من الأحكام، وظاهر
" لم يقل " عدم الجواز، ويشهد بذلك قوله في مقابل هذا القول
" وقيل: يجوز " ووجه عدم الجواز: إن الحق للمدعي وليس
للحاكم اجباره على إقامة البينة لاحقاق حقه. ولكن هذا الدليل
هو بالنظر إلى القاعدة الكلية في الحقوق، فالقاعدة العامة فيها هي
أن من كان ذا حق على أحد لا يجوز اجباره على استيفاء حقه،
وأن للمدعي أن يطالب بيمين المنكر وإن كان له بينة على ما يدعيه..
فهذا الدليل يفيد الحكم بعدم جواز الالزام ولا يقتضي حرمة أن
يقول له " أحضرها " من باب الارشاد والتنبيه كما هو أحد الأقوال
في المسألة، فالأقوال أربعة: عدم الجواز مطلقا، والجواز مطلقا،
والتفصيل المذكور، وقيل: يجوز إن كان الغرض تعليمه المسألة.
والظاهر أنه إن كان قوله من باب الارشاد فهو جائز.
هذا بحسب القواعد الكلية، وأما بالنسبة إلى مورد المخاصمة
فهل مدلول الأخبار الدالة على أن " البينة على المدعي واليمين
على من أنكر هو أن اليمين على من أنكر إن لم يكن للمدعي بينة
أو لا بل يجوز احلاف المنكر وإن كانت البينة حاضرة؟
في الوسائل " باب أن المدعي إذا لم يكن له بينة فله استحلاف
المنكر.. " 1) والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، ففي خبر محمد

1) وسائل الشيعة: 18 / 176. الباب - 7 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
330

ابن مسلم: " في الرجل يدعي ولا بينة له قال: يستحلفه.. ".
فهذا الخبر وارد في مورد عدم وجود البينة، فله استحلافه
حينئذ، فالظاهر هو الوجه الأول وأن ميزان المرافعة هو إقامة
المدعي البينة فإن لم يكن عنده بينة فله استحلافه فإن رد اليمين على
المدعي فحلف ثبتت الدعوى وإن نكل سقطت.. وإن وظيفة
الحاكم هو الحكم بحسب هذا الميزان.
وفي خبر عبيد بن زرارة: " في الرجل يدعى عليه الحق ولا
بينة للمدعي. قال: يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق ".
وفي خبر: " استخراج الحقوق بأربعة وجوه. بشهادة رجلين
عدلين.. ".
وفي مرسلة أبان: " في الرجل يدعى عليه الحق وليس لصاحب
الحق بينة. قال: يستحلف المدعى عليه.. ".
فمفاد هذه النصوص 1) وغيرها أن ميزان المرافعة عند الشرع
ذلك، فكيف نرفع اليد عنها ونقول: إن إقامة البينة حق للمدعي
وله رفع اليد عن حقه؟ ويؤيد ذلك أنا لم نجد خبرا يتضمن يمين
المنكر أو استحلافه مع وجود البينة.
قال: " وقيل: يجوز وهو حسن ".
أقول: أي: يجوز الالزام بناءا على ما ذكرنا في معنى " لم
يقل ". لكن القول بجواز الالزام غير تام.

1) وهي في الباب المذكور من وسائل الشيعة.
331

بعض أحكام البينة:
لو كان للمدعي بينة فهنا ثلاثة أحكام، الأول ما تقدم من قول
المحقق " لم يقل الحاكم أحضرها ".
والحكم الثاني قول المحقق: " ومع حضورها لا يسألها الحاكم
ما لم يلتمس المدعي ".
والحكم الثالث قوله: " مع الإقامة بالشهادة لا يحكم إلا
بمسألة المدعي أيضا ".
والدليل على هذه الأحكام الثلاثة قول المحقق في ذيل الأول:
" لأن الحق له " أي الحق للمدعي في هذه الحالات، فله ألا يحضر
البينة وأن لا تدلي بشهادتها مع حضورها وألا يحكم الحاكم في القضية
بعد إقامتها بأن ينصرف عن حقه، أو يرضى بيمين المدعى عليه حينئذ
فإن حلف كان له الانصراف عن حقه وإن امتنع أو رد اليمين على
المدعي فهل على المدعي أن يحلف مع وجود البينة أو لا؟ فيه بحث.
وكيف كان فإنه يستفاد من هذه الأحكام مطلب آخر، وهو أن
للمدعي أن يطالب المدعى عليه باليمين بعد إقامة الشهادة وقبل حكم
الحاكم له، إلا أنا ذكرنا سابقا أن المنسبق من قوله صلى الله عليه
وآله وسلم " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان " بضميمة أدلة
" البينة على من ادعى واليمين على من ادعي عليه " أنه لو كان للمدعي
بينة على دعواه لا تصل النوبة إلى مطالبة خصمه باليمين، فهو وإن
كان له الانصراف عن حقه لقاعدة السلطنة، أما كون التخيير بين إقامة
332

البينة وبين المطالبة بيمين المنكر حقا له فغير معلوم، بل لا يبعد أن
يكون من جملة الأحكام المقررة لمجلس القضاء وفصل الخصومة
أن يطالب الحاكم المدعي بإقامة البينة، فإن لم تكن عنده فيطالب
المنكر باليمين، فليس تخيير المدعي بين الأمرين حقا له، كما أنه
ليس من حقوق الحاكم أن يطلب من المنكر اليمين مع وجود
بينة المدعي خلافا لمن قال بذلك.
هذا، ولكن ظاهر بعض الأخبار كرواية ابن أبي يعفور هو تخيير
المدعي في ذلك، فقد جاء فيها: " إذا رضي صاحب الحق بيمين
المنكر لحقه فاستحلفه فحلف أن لا حق له قبله ذهبت اليمين بحق
المدعي فلا دعوى له. قلت: وإن كانت عليه بينة عادلة؟ قال: نعم
وإن أقام بعد ما استحلفه بالله خمسين قسامة ما كان له وكانت اليمين
قد أبطلت كل ما ادعاه قبله مما قد استحلفه " 1).
فهي ظاهرة في وجدانه البينة قبل رضاه بيمين المنكر، إلا
أنها غير ظاهرة في كون ذلك بعد إقامة البينة وقبل الحكم.
والمستفاد من رواية أبي العباس: " إذا أقام الرجل البينة على
حقه فليس عليه يمين " 2) أنه لا أثر لرد اليمين بعد إقامة البينة بل
يحكم الحاكم له.
وفي رواية محمد بن مسلم قال: " سألت أبا جعفر عليه السلام

1) وسائل الشيعة 18 / 179. الباب - 9 من أبواب كيفية الحكم.
2) وسائل الشيعة 18 / 178. الباب - 8 من أبواب كيفية الحكم.
333

عن الرجل يقيم البينة على حقه هل عليه أن يستحلف؟ قال: لا " 1).
فإن كان " يستحلف مبنيا للمعلوم كان المعنى أنه ليس عليه
أن يستحلف المنكر، وإن كان مبنيا للمجهول كان المعنى أنه مع
إقامة البينة على حقه لا يستحلف المدعي مع البينة، والثاني هو
الظاهر.
وفي رواية القاسم بن سليمان عن عبيد بن زرارة: " في الرجل
يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعي. قال: يستحلف أو يرد اليمين على
صاحبه فإن لم يفعل فلا حق له " 2).
وفي رواية يونس: " فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدعى
عليه، فإن لم يحلف ورد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن
يحلف " 3) فإن مفهومها أنه إن كان له شاهد فلا يمين على المدعى عليه.
فالحاصل: إن له المطالبة بيمين المنكر مع وجود البينة بمقتضى
رواية ابن أبي يعفور، وأما أن يفعل ذلك بعد إقامة الشهادة فلا دليل
عليه، بل مقتضى أدلة الحكم مثل " فاحكم بين الناس بالحق " 4)
وجوب الحكم على الحاكم حينئذ.

1) وسائل الشيعة: 18 / 176. الباب - 7 من أبواب كيفية الحكم. 2) وسائل الشيعة: 18 / 176. الباب - 7 من أبواب كيفية
الحكم. و " القاسم بن سليمان " من رجال كامل الزيارات. 3) وسائل الشيعة: 18 / 176. وهي مضمرة.
4) سورة ص: 26.
334

وظاهر عبارة الجواهر أخيرا هو اختيار هذا الوجه حيث قال:
" لكن قد يقال: إن له الحكم وإن لم يسأله المدعي لأن ذلك منصبه
ووظيفته.. ".
فإن كان المدعي جاهلا أو غافلا عن أنه ما لم يحكم الحاكم
لم يثبت حقه فهل على الحاكم تنبيهه أو تعليمه ذلك كي يأذن بحكمه
فيحكم أو لا يلزم عليه ذلك فلا يجب أن يحكم؟ وجهان.
ثم إن التمس المدعي سؤال الحاكم البينة فهل للحاكم أن
يأمرها بالشهادة أو ليس له ذلك؟ ذهب إلى الثاني جماعة وقالوا:
له أن يقول: من كان عنده شهادة فلا يكتمها، لأن الأمر بالشهادة
قد يوهم الادلاء بالشهادة وإن لم تكن عن علم، ولكن هذا لا يمكن
المساعدة عليه إذ لا يكون معنى الأمر بالشهادة ما ذكروا ولا يتوهمه
أحد، بل إن عليه أن يأمرهما بالشهادة لو احتمل كتمانها من باب الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فالحق هو القول الأول.
حكم جرح المدعى عليه البينة:
قال المحقق " قده ": " وبعد أن يعرف عدالة البينة يقول: هل
عندك جرح؟. ".
أقول: وكيف كان فإن أقيمت الشهادة وعرف الحاكم عدالة
البينة فإن قال للمدعى عليه: هل عندك جرح؟ فأجاب: نعم وسأل
الانظار في اثبات الجرح أنظره الحاكم ثلاثة أيام، وإن قال: لا،
335

حكم للمدعي.. لكن في الرواية 1) امهاله أمدا - يحضر فيه
الجارح، بل هو مقتضى أدلة القضاء. ولعله لذا احتمل في كشف
اللثام تنزيل اطلاق العبارة على ما إذا لم يدع بعد مسافة البينة بحيث
لا تحضر في ثلاثة أيام، واعترض عليه في الجواهر ووجه العبارة
بأن التأخير ثلاثة أيام لقاعدة لا ضرر ولا ضرار، إلا أنه كلام لا يمكن
قبوله لأن الخصم على حجته فمتى أثبت الجرح بطل الحكم وسقطت
الدعوى، فلو انقضت الثلاثة أيام وأثبت الجرح كشف عن بطلان
الشهادة وأن الحكم الصادر لم يكن على طبق الموازين الشرعية،
أي: إن العدالة المعتبرة في الشاهد هي نظير العدالة المعتبرة في
شاهد الطلاق لا العدالة المعتبرة في إمام الجماعة.
ويحتمل أن وجه تحديد الأصحاب الأمد بثلاثة أيام هو أن
المستفاد من الرواية كون الأمر بيد الحاكم، وحينئذ فمقتضى الحكم
بالحق والعدل هو الانظار ثلاثة أيام لا أنه يكون ذلك بلحاظ قاعدة
لا حرج.
قال: " فإن تعذر الجرح حكم بعد سؤال المدعي ".
أقول: إن تعذر الجرح مدة الانظار - وهي ثلاثة أيام - أو
الأمد الذي يمكن اتيان البينة فيه بحسب المتعارف على اختلاف
الموارد حكم عليه الحاكم بعد سؤال المدعي ذلك عند المحقق.

1) وسائل الشيعة: 18 / 155. الباب - 1 من أبواب آداب
القاضي.
336

حكم ما لو كانت الدعوى على الميت:
قال المحقق " قده ": " ولا يستحلف المدعي مع البينة إلا أن
تكون الشهادة على ميت.. ".
أقول: في هذا الفرع حكمان " الأول ": أنه لا يستحلف المدعي
مع البينة، والدليل على ذلك الاجماع المدعى، مضافا إلى النصوص
الواردة فيه، مثل خبر محمد بن مسلم: " سألت أبا جعفر عليه السلام
عن الرجل يقيم البينة على حقه هل عليه أن يستحلف؟ قال: " لا " 1).
وخبر أبي العباس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " إذا أقام
الرجل البينة على حقه فليس عليه يمين، فإن لم يقم البينة فرد عليه
الذي ادعى عليه اليمين فإن أبى أن يحلف له فلا حق له " 2).
لكن في الخبر في وصية أمير المؤمنين عليه السلام لشريح:
" ورد اليمين على المدعي مع بينته فإن ذلك أجلى للعمى وأثبت
للقضاء " 3) ولكنه ليس بحجة لضعفه، ولم يأخذ به أحد من الأصحاب
فضعفه غير منجبر، وقد حمل على بعض الوجوه، ولكن الأولى في

1) وسائل الشيعة: 18 / 177. الباب - 8 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
2) وسائل الشيعة: 18 / 178. الباب - 8 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
3) وسائل الشيعة: 18 / 155.
337

الجواب عنه ما ذكر، وبالجملة فالحكم في الفرع الأول خال عن
الاشكال.
" الحكم الثاني ": لو كانت الشهادة على ميت أستحلف المدعي
على بقاء حقه في ذمة الميت استظهارا، قال في الجواهر: بلا خلاف
أجده فيه بين من تعرض له كما اعترف به غير واحد، والعمدة في
الاستدلال عليه هو النصوص مثل:
ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: " قلت للشيخ: خبرني
عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلم تكن له بينة. قال: فيمين
المدعى عليه فإن حلف فلا حق له، وإن رد اليمين على المدعي
فلم يحلف فلا حق له [وإن لم يحلف فعليه] وإن كان المطلوب
بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة، فعلى المدعي اليمين بالله الذي
لا إله إلا هو لقد مات فلان وأن حقه لعليه وإلا فلا حق له، لأنا لا ندري
لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها، أو غير بينة قبل الموت، فمن
ثم صارت عليه اليمين مع البينة، فإن ادعى بلا بينة فلا حق له، لأن
المدعى عليه ليس بحي، ولو كان حيا لا لزم اليمين أو الحق أو يرد
اليمين عليه، فمن ثم لم يثبت الحق " 1).
وبالجملة فلا اشكال في أصل الحكمين المذكورين، إنما الكلام
في جهات:

1) وسائل الشيعة: 18 / 172. الباب - 4 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
338

[الأولى]: هل البينة في الدعوى على الميت ساقطة عن الحجية
إلا إذا ضم إليها اليمين أو أنها باقية على حجيتها ولكن وجبت اليمين
على المدعي معها، من جهة أن المدعى عليه لو كان حيا وادعى وفاء
الدين وأنكر هو ذلك لوجبت عليه اليمين؟ وثمرة هذا البحث
واضحة، إذ على الأول لا حجية للبينة بدون اليمين مطلقا، وأما على
الثاني فيترتب الأثر على البينة لو كان معذورا عن اليمين.
[الثانية]: هل يمكن التعدي عن مورد السؤال في النصوص
إلى غيره أو لا؟
للتعدي عن مورد النص أنحاء، كالتعدي عن احتمال الوفاء إلى
احتمال الابراء أو الوفاء بواسطة غيره في حياته أو بواسطة وصيه
بعد موته.
وكالتعدي عن الدائن إلى وليه، بأن نقول لا يشترط أن يكون
مقيم الدعوى هو الدائن بل تسمع حتى لو أقامها وليه أو وصيه.
وكالتعدي عن الدين إلى العين.
وكالتعدي عن البينة إلى الشاهد الواحد واليمين.
[الثالثة]: إنه بناءا على عدم التعدي عن مورد النص إلى
الموارد المذكورة، فلو ادعى عينا على ميت فهل تسمع دعواه
وتكفي البينة أو الشاهد الواحد مع اليمين لاثباتها أو لا تسمع أصلا؟
وبناءا على التعدي والالحاق فهل تسمع دعواه لو كان معذورا
عن اليمين ويكتفى لاثباتها بالبينة أو هي حينئذ ساقطة؟
339

[الرابعة]: هل الوجوه والاحتمالات التي يذكرها الإمام
عليه السلام في جواب عبد الرحمن بن أبي عبد الله تقتضي قصور
حجية البينة في الدعوى على الميت؟.
أقول: إن التعدي والخروج عن مورد النص إلى الموارد
الأخرى يحتاج إلى القطع بملاك الحكم الوارد في النص ووجود
ذلك الملاك بالقطع واليقين في غيره، أو الاستظهار من نفس اللفظ،
أو العلم بعلة الحكم بمناسبة الحكم والموضوع فيحكم به في كل
موضوع وجدت فيه تلك العلة، وأما تعدية الحكم من موضوع
إلى آخر من باب " حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد "
فهو قياس باطل وأما تنقيح المناط فالمعتبر منه القطعي وتحصيله
مشكل.
فالمتعين هو الاستظهار من النصوص والدقة فيها للوصول إلى
أحكام الفروع المشار إليها في الجهات المذكورة..
ففي خبر عبد الرحمن: ". فإن كان المطلوب بالحق قد
مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله إلا هو
لقد مات فلان وأن حقه لعليه فإن حلف وإلا فلا حق له لأنا لا ندري
لعله قد وفاه ببينة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت، فمن
ثم صارت عليه اليمين مع البينة، فإن ادعى ولا بينة فلا حق له لأن
المدعى عليه ليس بحي ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد
اليمين عليه فمن ثم لم يثبت له عليه الحق ".
340

وهو ظاهر في أن يكون المدعي نفس صاحب الحق لا وليه
أو وارثه أو وصيه. اللهم إلا أن يقال بأن ما ذكره الإمام عليه السلام
فيه هو على سبيل التمثيل ولكنه مشكل. وأما دعوى الاطلاق في
" المطلوب بالحق " فمشكل أيضا لا سيما بالنظر إلى ما جاء بعده
من قوله: " فعلى المدعي اليمين.. وإن حقه لعليه ".
وكذا التمسك لذلك بالتعليل المذكور في الخبر، وهو قوله
عليه السلام " لأنا لا ندري لعله قد وفاه ببينة لا نعلم موضعها. "
بأن نقول بأنه في كل مورد لا ندري لعل المدعى عليه قد وفى ما
للمدعى ببينة كذلك وجبت اليمين لاثبات الحق، سواء كان الحالف
المدعي نفسه أو وليه أو وصيه أو وارثه، لاحتمال كون هذا الكلام
تعليلا للحكم بوجوب اليمين على المدعي نفسه. نعم لا مانع من
التمسك به للتعدي عن الدين إلى العين، وعن الوفاء إلى الابراء
ونحوه.
وبالجملة لا نتمكن أن نستفيد من هذه الرواية جواز حلف
الولي أو الوصي أو الوارث مثلا بدلا من المدعي، كما أنه ليس عندنا
دليل يدل على جواز يمين أحد بدلا عن غيره، بل من المسلم به أن
اليمين حجة للحالف فقط ولا أثر ليمين غير ذي الحق وإن كان وليه
وكان عالما بالواقع، وسيأتي وجهه في محله إن شاء الله تعالى.
وهل يتعدى الحكم من الميت إلى الغائب والطفل والمجنون؟
قولان ذكرهما الشهيد الثاني " قده " في المسالك واختار العدم تبعا
للمحقق وخلافا للأكثر.
341

وكيف كان فعلى التعدي لا حجية للبينة إلا بضم اليمين إليها،
وكذا في الموارد التي لا يتمكن المدعي من اليمين لأنها حقه ولا
يتولاه غيره، وقال جماعة بأنه إن وجب الجمود في كيفية اليمين
على ظاهر اللفظ الوارد في الخبر فهو، وأما إن كان المراد هو اليمين
بحسب حال الحالف - كما هو ظاهر الخبر الآخر - فلا مانع من
يمين الولي مثلا حيث يقيم الدعوى بدلا عن الطفل المولى عليه
على الميت، فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان وإن حق
هذا الطفل لعليه، إن كان عالما بذلك، وإلا لم يحلف، فإن ادعى
وارث الميت على الولي العلم بأن الميت قد وفى الطفل حقه كان
له أن يحلف على نفي العلم بذلك.
ولو فرض كون الولي عالما بأداء الميت حق الطفل لم يجز
له المطالبة بشئ، ولكن هذا لا يمنع الطفل من المطالبة بحقه
عند كبره.
هذا كله بناءا على القول بسقوط البينة عن الحجية ما لم تضم
إليها اليمين وإن كان المدعي غير متمكن منها، إلا أن المختار أنه
في الفرض المذكور يعتمد على البينة ويحكم له بها.
ثم إن صاحب الجواهر " قده " لما كان يميل إلى القول بالتعدي
بالنسبة إلى بعض الموارد اعترض على معاصره القائل بكفاية البينة
فيما لو ادعى وارث ميت على ميت آخر - لأن الدليل إنما يدل
على ثبوت اليمين على نفس المدعي فيبقى ما عداه على الأصل
وأقصى ما يتوجه عليه بعد ذلك يمين نفي العلم - بأن ظاهر الفتوى
342

والنص خصوصا الصحيح كون ذلك - أي البينة مع اليمين - هو
الحجة على الميت، فيتجه حينئذ سقوط الحق.
أقول: مراده من " الصحيح " هو صحيحة الصفار: " كتب
محمد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام
هل تقبل شهادة الوصي للميت بدين له على رجل مع شاهد آخر
عدل؟ فوقع عليه السلام: إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدعي
يمين. وكتب: أ يجوز للوصي أن يشهد لوارث الميت صغيرا أو كبيرا
وهو القابض للصغير وليس للكبير بقابض؟ فوقع عليه السلام: نعم،
وينبغي للوصي أن يشهد بالحق ولا يكتم الشهادة. وكتب: أو تقبل
شهادة الوصي على الميت مع شاهد آخر عدل؟ فوقع عليه السلام
نعم من بعد يمين " 1).
ثم قال قدس سره " إلا أنه كما ترى مناف لمذاق الفقه، فقد يقال
إن للوارث الحلف على مقتضى الاستصحاب كما يحلف على مقتضى
اليد. لكن هو - مع أنه كما ترى أيضا خصوصا إذا كان المستصحب
غير معلوم له وإنما شهدت به البينة - لا يتم في الوصي الذي لا
يجوز حلفه لاثبات مال الغير، اللهم إلا أن يقال به هنا باعتبار أنه
ليس مثبتا، بل هو شرط في حجية البينة التي هي في الحقيقة المثبتة،
أو يقال بالاكتفاء بيمين الوارث مع البينة في اثبات مفادها الذي

1) وسائل الشيعة: 18 / 273. الباب - 28 من أبواب الشهادات.
343

لا فرق فيه بين متعلق الوصايا والإرث، لأنها من الحجة المثبتة
للموضوع في نفسه.
بل منه ينقدح عدم وجوب اليمين على كل واحد من الورثة
بل يكفي يمين واحدة من أحدهم، لأن مقتضى اطلاق النص اعتبار
يمين واحدة في تمامية حجية البينة التي قد عرفت ثبوت الموضوع
بها لسائر الشركاء وإن أقامها أحدهم، فتأمل فإنه دقيق نافع وإن
كان لا يخلو من بحث، ضرورة كون اليمين هنا نحوها مع الشاهد
الواحد، فلا يكتفى بها لغير ذي الحق.
بل قد يناقش في قبول اليمين من الوارث الضمن يمين الاستظهار
عدم الوفاء والابراء ونحوهما، ولا يكون منه على البت لأنه فعل
الغير، فمع فرض اعتبار يمين البت في يمين الاستظهار يتجه حينئذ
سقوط الحق كما سمعته أولا، بل قد يؤيد بأنه مقتضى أصل عدم
ثبوت الحق بعد فرض تعارض الأمارات على وجه لا وثوق بشئ
منها ".
قلت: لكن الشك في ثبوت الحق وعدمه مسبب عن الشك
في تخصيص أدلة حجية البينة زائدا على القدر المتيقن، وقد تقرر
في محله جريان الأصل في السبب، فلو أريد الرجوع إلى الأصل
في هذا المقام كان المرجع أصالة عدم التخصيص الزائد لأدلة
حجية البينة، ويكون الحاصل حجيتها في المورد من غير توقف
على ضم اليمين إليها.
ثم قال رحمه الله: " نعم قد يقال - بعد استبعاد سقوط الحق
344

مع البينة العادلة خصوصا مع قطع الوارث بالحق، بل يمكن
دعوى معلومية خلافه ولو بالسيرة القطعية، واستبعاد سقوط اليمين
في الدعوى على الميت مع ظهور النص والفتوى فيه - أن المتجه
الزام الوارث باليمين على نفي العلم باستيفاء مورثه أو ابرائه.
لكن فيه: أن اليمين على نفي العلم تفيد فيما إذا كان عدم علم
الوارث مؤثرا، وهنا لا أثر لعدم علمه باستيفاء مورثه حقه أو ابرائه
إياه، إذ لا ملازمة بين عدم علمه بذلك وثبوت الحق، والمفروض
أن هذه اليمين هي للاستظهار، وحيث لا أثر لهذه اليمين فإن المتجه
هو القول بخروج هذا الفرع من تحت تلك النصوص ولو بالسيرة
القطعية، فلا بد من الأخذ بالبينة.
ومن فروع المقام ما ذكره في المسالك بقوله: " لو أقر له
قبل الموت بمدة لا يمكن فيها الاستيفاء عادة ففي ضم اليمين إلى
البينة وجهان، من اطلاق النص الشامل لموضع النزاع وقيام الاحتمال
وهو ابراؤه منه وقبضه من ماله ولو بعد الموت، ومن البناء على
الأصل والظاهر من بقاء الحق. وهذا أقوى ".
قلت: والصحيح هو الوجه الثاني، وأما ما أورد عليه في الجواهر
من أنه مناف لاطلاق صحيح الصفار ففيه أن التعليل الموجود في
خبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله حيث قال عليه السلام: " لأنا لا
ندري لعله قد وفاه. " يقيد اطلاق صحيح الصفار فلا يشمل هذا
المورد الذي نعلم بعدم وفاء الميت للحق.. ومما ذكرنا يظهر
345

الاشكال في قوله بعد ذلك " مع أن ظاهر الصحيح المزبور التعبد "
لأنه لا مجال لهذا الاستظهار مع وجود التعليل المذكور الذي
يقتضي كون اليمين للاستظهار.
قال: ثم إن ظاهر قوله: " وقبضه من ماله ولو بعد الموت "
مراعاة نفي الاحتمال بعد الموت أيضا، لكن ظاهر اليمين في
الخبر المزبور اعتبار نفيه إلى حين الموت دون ما بعده ". أقول:
لكن مقتضى التعليل في الخبر هو العموم لما بعد الموت.
أحكام قيام البينة على الغائب والصبي والمجنون:
قال المحقق " قده ": " ولو شهدت على صبي أو مجنون أو
غائب ففي ضم اليمين إلى البينة تردد، أشبهه أنه لا يمين ويدفع
الحاكم من مال الغائب قدر الحق بعد تكفيل القابض بالمال ".
أقول: ذكروا أن للحاكم أو عليه أن يدفع من مال الغائب إلى
المدعي، وهذا سواء قلنا بأن اليمين شرط حجية البينة هنا أو لم
نقل بذلك، فإنه بعد قيام الحجة على الحكم وتمامية الحكم من
قبل الحاكم يدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق الثابت عليه،
لكن بعد تكفيل القابض بالمال لأن الغائب على حجته، فلو حضر
وظهر براءة ذمته من الحق المدعى استرجع المال المأخوذ منه
إليه.. وهل المراد من الكفالة هنا هو الضمان؟ إن الضمان
المصطلح في الدين هو: أن يضمن الشخص للدائن طلبه من المدين
فينتقل الحق من ذمة المدين إلى ذمة الضامن ويكون هو المطالب
346

بالحق في حال عدم وفاء المدين بالحق، لكن يشكل أن يكون
المراد من التكفيل هنا هذا المعنى لعدم ثبوت اشتغال ذمة القابض -
فلا معنى لأن يضمنه غيره لأنه من قبيل ضمان ما لم يجب وهو باطل -
وإن لم يكن عندنا قطع بعدم اشتغال الذمة، وأما العين فإن ضمانها
يكون بنحو التعهد لأخذها وردها إلى صاحبها. وحينئذ يقع الشك
في هذا المورد لأنه - لما يدعي المدعي الحق على الغائب ويقيم
البينة على ذلك ويحكم الحاكم له ويدفع إليه من مال الغائب بقدر
الحق بعد تكفيل القابض بالمال لما ذكرنا - يشك في أنه هل يصح
ضمان الدين المشكوك. وبعبارة أخرى: هل يصح أن يضمن الحق
على تقدير ثبوته؟
هذا في غير ما نحن فيه مشكل، لكن لما لم يكن ما نحن فيه
من قبيل ضمان ما لم يجب أمكن الضمان فيه على تقدير، نعم
يبقى فيه اشكال أن الانشائيات يشترط فيها التنجيز ولا يصح التعليق،
إلا أن يدفع بأن التعليق هو في المنشأ لا في الانشاء.
هذا، ولا حاجة إلى ذكر دليل على جواز دفع الحاكم من مال
الغائب إلى المدعي لوضوح أن ذلك هو الأثر المترتب قهرا على
البينة وحكم الحاكم بالحق، وأما التكفيل فدليل القول به هو النص
وإلا لم تكن حاجة إليه بعد ثبوت أن الغائب على حجته وأنه يسترجع
ماله فيما إذا حضر وثبت براءة ذمته، والنص المشار إليه هو:
ما رواه الشيخ باسناده عن أبي القاسم جعفر بن محمد عن
347

جعفر بن محمد بن إبراهيم عن عبد الله بن نهيك عن ابن أبي عمير
عن جميل بن دراج عن جماعة من أصحابنا عنهما عليهما السلام:
" الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه
دينه وهو غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم. قال: ولا يدفع
المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء ". ويمكن أن يستفاد منه اشتراط
تعدد الكفيل لكن في الجواهر أنه لم يعثر على قائل به، ولعل وجه
عدم القول بذلك جعلهم العبارة نظير قولهم: إذا شهد عليه المسلمون
فكذا حيث يراد بذلك المسلم، وكذا قولهم: يشترط إذن العلماء
في كذا، حيث يقصد العالم لا جميع العلماء.
قال في الوسائل: وعنه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن أيوب
ابن نوح عن محمد بن أبي عمير عن جميل مثله 1).
ونحوه ما رواه محمد بن مسلم عن الباقر عليه السلام، لكن
فيه: " إذا لم يكن مليا " 2) فإنه ظاهر في تكفيل القابض إذا لم
يكن مليا، وأما إذا كان مليا فلا يجب، ولعل وجه ذلك أنه إن كان

1) وسائل الشيعة: 18 / 216. الباب - 26 من أبواب كيفية الحكم.
2) قال في الوسائل: 18 / 216 بعدما رواه عن جميل: وبإسناده
عن أحمد بن محمد عن علي بن الحسن عن جعفر بن محمد بن
حكيم عن جميل بن دراج عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه
السلام نحوه وزاد: " إذا لم يكن مليا ". ورواه الكليني عن أحمد
ابن محمد عن علي بن الحسن مثله.
348

فقيرا ولم يؤخذ كفيل ضاع حق الغائب على تقدير براءة ذمته، لأن
المفروض افلاس المدعي والمفلس في أمان الله. ومن هذه الرواية
يعلم أيضا أن المدعي يكفل من جهة المال الذي يأخذه لا من جهة
شخصه، ولذا لو أقام المدعى عليه البينة على براءة ذمته أخذ الحاكم
حقه وأرجعه إليه وإن لم يكن المدعي حاضرا.
هذا، وليس في الروايات ذكر لليمين، ومن هنا يتوجه القول
بعدم لزومها هنا. ولو سلم عموم التعليل في رواية الدعوى على
الميت الدالة على لزوم اليمين في تلك الصورة لما نحن فيه كانت
روايات هذا المقام مخصصة لتلك الرواية وتكون النتيجة لزوم
اليمين في كل مورد جهل حال المدعى عليه من جهة أداء حق المدعي
إلا الغائب فلا يلزم في الدعوى عليه ضم اليمين إلى البينة. إلا أن
يقال بلزومها هنا أيضا من جهة أنه لا منافاة بين اشتراط اليمين هناك
واشتراط الكفيل هنا وعدم ذكر اليمين هنا لا ينفي لزومها، بل إن
المراد من البينة هو البينة مع اليمين، ولكن هذا الاحتمال خلاف
الظاهر، لأن ظاهر الأدلة كفاية البينة بوحدها.
هذا، وجميل من أصحاب الاجماع والرواية معمول بها عند
الأصحاب فلا يقدح ارسالها في حجيتها 1).

1) فيه رد على المحقق الأردبيلي " قده " حيث طعن فيها
بالارسال. وقد طعن فيها أيضا بمجهولية " جعفر بن محمد بن إبراهيم "
و " عبد الله بن نهيك " قلت: أما " ابن نهيك " فهو ثقة، وأما " جعفر
ابن محمد بن إبراهيم " وهو الموسوي فلم ينص علماء الرجال فيه
على وثاقة لكنه من رجال كامل الزيارات. وكيف كان فالظاهر صحة
الطريق الثاني، وأما الطعن بالارسال فقد تقدم الجواب عنه بناء على
ما اشتهر من تصحيح الأصحاب لما يصح عن تلك الجماعة.
349

ثم إن صاحب المسالك قال في شرح عبارة المحقق " قده ":
وإنما اعتبر المصنف الكفيل لأنه لم يوجب عليه اليمين مع البينة، فجعل
الكفيل عوضا عنه لاحتمال براءة الغائب من الحق على وجه لا تعلمه
البينة، ومن أوجب عليه اليمين لم يعتبر الكفيل إلا على تقدير تعذرها
كما لو كان المدعي على الغائب وكيل المستحق فإنه لا يجوز
احلافه فيستظهر بالكفيل، ولا شك في أن الكفالة واليمين احتياط
واستظهار إلا أن ثبوتهما يحتاج إلى دليل ".
وقد استغرب صاحب الجواهر صدور هذا الكلام منه قائلا بأنه
لو اشترطنا اليمين فإنه متى تعذرت عليه كما لو كان المدعي على
الغائب وكيلا لزم القول بعدم ثبوت الدعوى لا التكفيل عوضا عن
اليمين، إلا أن يقول بأن هنا روايتين إحداهما تفيد الاستظهار بالكفيل
والأخرى تفيد الاستظهار باليمين، وفيما نحن فيه يمكن التمسك
بكل منهما ولا يجمع بين الأمرين، بل إن حلف فلا يكفل وإن كفل
فلا يحلف، وأورد عليه في الجواهر بأنه لا مانع من الجمع بين
الأمرين، ومن هنا اعتبر في القواعد ضم اليمين إلى التكفيل.
قال: ولكن لا يجب شئ من الأمرين لا فيما نحن فيه ولا في
350

صورة الدعوى على الميت، بل إن القضية تتم بحكم الحاكم،
بعد قيام البينة وأما اليمين والكفيل فللاحتياط والاستظهار.
أقول: يتوجه هذا الكلام في خصوص كون المدعى عليه غائبا
لأن الرواية الدالة على اعتبار ضم اليمين إلى البينة في حال كون
المدعى عليه ميتا تختص بموردها ولا تشمل محل الكلام، وحينئذ
يكون اعتبار اليمين هنا من باب الاحتياط والاستظهار، وقد استفاد
في الجواهر أن أخذ الكفيل في حال عدم الملاءة - كما في رواية
محمد بن مسلم - هو للاستظهار أيضا وأنه ليس الحكم متوقفا على
التكفيل، ولكن ظاهرها توقف دفع المال إليه في هذه الحالة على
التكفيل.
وعن الأردبيلي قدس سره الاشكال في دفع المال إلى المدعي
لأنه قد يستلزم الضرر على الغائب، وأن الخبر غير عام فينبغي
الاقتصار على موضع الوفاق وهو فيما إذا علم الخصم بأنه إذا لم
يحضر يحكم عليه وهو غائب لأنه يكون أدخل الضرر على نفسه.
أقول: لكن الظاهر أنه في مثل هذا الحكم الذي يستلزم الضرر
غالبا لا يمكن القول بحكومة أدلة لا ضرر.
هذا كله بالنسبة إلى الغائب، وكذلك المجنون والصغير، فإنه
بنفس البينة يحكم الحاكم على وليهما بدفع حق المدعي من دون
حاجة إلى ضم اليمين إلى البينة لعدم شمول رواية اعتبار اليمين
351

الواردة في خصوص الميت لهما وقياسهما عليه باطل بالضرورة،
فالأشبه أنه لا يمين وفاقا للمصنف وجماعة.
حكم ما لو ذكر المدعي إن له بينة غائبة:
قال المحقق: " ولو ذكر المدعي أن له بينة غائبة خيره الحاكم
بين الصبر وبين احلاف الغريم.. ".
أقول: ذكر جماعة أنه لو ذكر المدعي بعد طرح دعواه عند
الحاكم أن له بينة على ما يدعي ولكنها غائبة خيره الحاكم بين
أن يصبر حتى تحضر البينة وبين أن يحلف غريمه المنكر، وليس
للمدعي ملازمة الغريم ولا مطالبته بكفيل.
وليس في عبارة المحقق " قده " ذكر لمدة الصبر، وأما التخيير
بينه وبين احلاف الغريم فهو مقتضى القاعدة ولا حاجة إلى دليل
خاص يدل عليه لأن الخيار بيده وأن يمين الغريم حق ثابت له، بل
له اختيار احلاف الغريم حتى مع حضور البينة.
هذا ما ذكره المحقق " قده " هنا، لكن في النافع: " ولو
قال: البينة غائبة أجل بمقدار احضارها، وفي تكفيل المدعى عليه
تردد، يخرج من الكفالة عند انقضاء الأجل ".
وقد ذكر الشهيد الثاني " قده " في المسالك أدلة الطرفين،
فدليل عدم لزوم أخذ الكفيل هو أن الأصل براءة ذمة المدعى عليه
من اعطاء الكفيل ولا دليل على جواز الالزام باعطاء الكفيل، ودليل
اللزوم: احتمال ضرر المدعي فيدفع الضرر بأخذ الكفيل. قال
352

في المسالك: وهو الأحوط.
إذن في المسألة ثلاثة أقوال.
وقد أشكل في الجواهر في التأجيل بأنه ثمرة له، لأنه إن
أحضر البينة بعد انتهاء المدة سمعت الشهادة بلا خلاف، ولم يقل
أحد بأنه يجبر على الاحلاف بعد المدة مع عدم حضور الشاهدين،
وإن كان المراد تعيين الأجل للكفالة بناء على جواز أخذ الكفيل كان
له وجه، وتكون الثمرة خروجه من الكفالة عند انقضاء الأجل،
ولكن هذا لا يتلائم مع عبارة النافع حيث تردد في أخذ الكفيل،
فيكون التأجيل لغوا.
لكن في قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح: " اجعل لمن
ادعى شهودا غيبا أمدا بينهما فإن أحضرهم أخذت له بحقه وإن لم
يحضرهم أوجبت عليه القضية " دلالة على لزوم تعيين الأجل، فمع
انقضائه لم يمهل، إلا أنه لا قائل بذلك، فالأولى حمله على مجرد
الامهال حتى حضور البينة، مع احتمال حمله وإن كان بعيدا على كون
الشهادة على جرح بينة المدعي بعد إقامتها، فيجعل لاحضار شهود
الجرح أمد حتى لا يبقى النزاع بينهما. هذا كله لو فرض تمامية
سند الخبر.
وهل يلزم التكفيل؟ استدل للعدم بأن المدعي قد اختار الصبر
حتى حضور البينة، فلا وجه لالزامه المدعى عليه باعطاء الكفيل أو
ملازمته إياه أو المطالبة بحبسه، لأن حق المدعي غير ثابت فكيف
يقال باضرار المدعى عليه فعلا كأن يحبس أو يلازم دفعا للضرر المحتمل
353

توجهه على المدعى.
فإن قيل: إذن يؤخذ منه الكفيل لأنه إن كان ضررا على المدعى
عليه فهو أقل من الضرر المحتمل توجهه إلى المدعي، فنقول: إن
قاعدة نفي الضرر ليست مشرعة بل إنها قاعدة ثانوية ترفع الحكم
الأولي المجعول حال كونه ضرريا، وفيما نحن فيه لا حكم شرعي
مجعول ترفعه قاعدة نفي الضرر لكونه ضرريا.
فإن قيل: إن حرمة الالزام بالكفيل حكم ضرري فترفعه القاعدة
ويحكم بالجواز، فنقول: إن هذا المعنى يستلزم الضرر الكبير
على المدعى عليه، ولا معنى لدفع ضرر أحد الشخصين بضرر الآخر.
وأما كون أخذ الكفيل هو الأحوط كما في المسالك ففيه أن
الأحوط هو العكس، لأن معنى الاحتياط هو الاتيان بالفعل مثلا
لأجل التيقن بفراغ الذمة على كلا احتمالي الوجوب والاستحباب،
وأما هنا فإن في أخذ الكفيل ضررا فعليا على المدعى عليه، وفي
عدمه ضرر احتمالي على المدعي، فالأحوط عدم أخذ الكفيل منه،
لأنه في حال ترك الأخذ يعلم بعدم الضرر، وأما أخذ الكفيل فهو
لدفع الضرر المحتمل مع أنه ضرر قد أقدم عليه المدعي باختياره
الصبر فالأحوط الترك.
وقد يفصل بأنه إذا كان المدعى عليه مليا ويمكن استرجاع المال
منه بعد ثبوت براءة ذمة الخصم فلا يكفل وإلا فيكفل، والوجه في
ذلك وجوب مراعاة الحاكم لأقل الضررين في حال دوران الأمر
بينهما.
354

وهذا أيضا ضعيف لأنه يلاحظ أقل الضررين إن كانا متوجهين
إلى شخص واحد لا شخصين.
وعلى التكفيل فهل يتعين في ضرب مدة ثلاثة أيام كما عن ابن
حمزة أو يناط بنظر الحاكم؟ قولان.
وإن كان له شاهد واحد وذكر أن الآخر غائب فقد قيل بحبسه
حتى يحضر الآخر، والأشبه أنه لا وجه للحبس ولا للتكفيل، فهذا
الفرع كسابقه.
3 - الأحكام المترتبة على سكوت المدعى عليه:
قال المحقق: " وأما السكوت فإن اعتمده ألزم بالجواب فإن
عاند حبس حتى يبين، وقيل: يجبر حتى يجيب، وقيل.. والأول
مروي.. ".
أقول: إن سكت المدعى عليه أو قال: لا أدري، فتارة يكون
سكوته لا عن عناد بل من جهة خوف أو دهشة أو تفكير في الأمر
والجواب أو نحو ذلك، فحينئذ يطمئنه الحاكم ويصبر حتى يزول
خوفه، وتارة يكون سكوته عن عناد ولجاجة فهنا ثلاثة أقوال ذكرها
المحقق " قده ": " الأول " الحبس حتى يبين الجواب " الثاني "
اجباره على الجواب بالضرب ونحوه. " الثالث " أن يقول له
الحاكم: إما أجبت وإما جعلتك ناكلا ورددت اليمين على المدعي،
فإن أصر على السكوت رد الحاكم اليمين على المدعي.
وهل هذا البحث والخلاف قبل إقامة المدعي البينة أو بعدها؟
355

يمكن تصوير ثلاث صور لهذا المقام " الأولى ": أن يقيم المدعي
دعواه عند الحاكم فيسأل الحاكم المدعى عليه عن جوابه فيسكت،
" الثانية ": أن يقيم الدعوى ويطالبه الحاكم بإقامة بينة ثم يسأل
المدعى عليه فيسكت. " والثالثة ": أن يقيم الدعوى ولا بينة عنده
عليها فيسكت المدعى عليه عن الجواب.
لا ريب في عدم كون الصورة الأولى محل الخلاف والأقوال.
وأما في الصورة الثانية فإن علم الحاكم بعدالة الشاهدين فإنه
بعد سكوت المدعى عليه يعمل بعلمه ويحكم ويرتفع النزاع.
فظهر أن مورد الأقوال هو الصورة الثالثة، والحق أن جواب
المدعى عليه ليس حقا للمدعي، وأنه لا دليل على وجوبه عليه شرعا،
نعم هو مقدمة للعلم بالحال وفصل النزاع. ولننظر فيما يمكن أن
يستدل له للأقوال في هذا المقام، فنقول:
الظاهر أنه لا نص في المسألة بالخصوص، وقول المحقق
والعلامة قدس سرهما بالنسبة إلى القول الأول: " والأول مروي "
يمكن أن يكون إشارة إلى النبوي المشهور: " لي الواجد يحل
عرضه وعقوبته " 1) الذي ذكروا انجبار ضعفه بعمل الأصحاب. وقد
أجيب بأن الظاهر من " الواجد " هو من وجد المال لا ما يعم
استحقاق جواب الدعوى، ويشهد بذلك أن الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام كان يحبس المدين والغريم كما في الأخبار.

1) وسائل الشيعة 13 / 90 الباب - 8 من أبواب الدين.
356

أقول: وفي الاستدلال به والجواب عنه كليهما نظر، أما في
الاستدلال فلأنه يتوقف على ثبوت كون الجواب واجبا على المدعى
عليه إما من جهة كونه حقا للمدعي وإما من باب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وحينئذ لو شككنا في عقاب من لم يعمل بهذا
الواجب أمكن الاستدلال بالحديث، وأما مع عدم ثبوت وجوب
الجواب عليه فلا يجوز حبسه، كما لا يجوز حبس من يشك في
كونه مدينا.. وقد تقدم أن في وجوب الجواب على المدعى
عليه مطلقا تأملا واشكالا اللهم إلا أن يكون اجماع، فسقط الاستدلال.
وفي الجواب المذكور أيضا نظر من جهة أنه لو فرض ظهور
لفظ " الواجد " فيما ذكر، بل حتى لو صرح بالمال في الكلام
فلا مانع من دعوى الغاء خصوصية المال هنا بمناسبة الحكم
والموضوع، فيكون معنى الحديث: لي الواجد عن أداء ما للناس
- مالا كان أو حقا - يحل عقوبته وعرضه.
واستدل للقول الثاني بأن اجباره على الجواب بالضرب هو
من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيه: إن هذا أيضا متوقف على ثبوت وجوب الجواب عليه
وإلا فإن أدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تثبت
موضوع المعروف والمنكر..
واستدل للقول الثالث بعموم الروايات الواردة في باب " أن
المدعي إذا لم يكن له بينة فله استحلاف المنكر، فإن رد اليمين
على المدعي فحلف ثبتت الدعوى وإن نكل بطلت " كصحيحة محمد
357

ابن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: " في الرجل يدعي ولا بينة
له. قال: يستحلفه، فإن رد اليمين على صاحب الحق فلم يحلف
فلا حق له " 1).
وبالرواية الواردة في الأخرس 2) إذ المستفاد منها أن الانكار غير
لازم بل يكفي لثبوت حق المدعي امتناع المدعى عليه من اليمين،
ولكن الاستدلال بها يتوقف على عدم مجئ شبهة القياس.
وبرواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله 3).
فالأظهر هو القول الثالث، وإن قال بالأول جماعة كبيرة من
الأصحاب.
وقد يستدل للمختار بأن السكوت لا يخلو عن أحد أمرين،
لأن المدعى عليه إن كان يعلم بصدق المدعي فهو مقر وعليه دفع ما
يدعيه، وإن كان ينكر ذلك وجب عليه رد اليمين على المدعي،
وحيث امتنع من ذلك بسكوته فإن الحاكم يرد اليمين على المدعي
فإن حلف ثبتت دعواه وإلا سقطت، فالحاصل أنه مع السكوت
يحكم عليه بدفع الحق.
وفيه: إن الاقرار أو الانكار لا بد من ابرازه حتى يترتب عليه
الأثر، والعلم الاجمالي المذكور غير كاف لترتب أثر أحد الحالين.

1) وسائل الشيعة: 18 / 176. الباب: 7 من أبواب كيفية الحكم.
2) وسائل الشيعة: 18 / 222. الباب: 33 من أبواب كيفية الحكم.
3) وسائل الشيعة: 18 / 172. الباب: 4 من أبواب كيفية الحكم.
358

وقد يعترض بأنه لو كان السكوت في حكم النكول - كما
تمسك لذلك بالروايات العامة - فيرد اليمين على المدعي كان اللازم
أن يكون مجرد عدم جواب الصغير والمجنون والغائب والميت
موضوعا لجواز الرد على المدعي.
وفيه: إنه قياس مع الفارق.
وأما رأي صاحب الجواهر " قده " فهو بقاء النزاع على حاله
فيكون بحكم الدعوى على الميت بلا بينة.
وفيه: إنه مشكل جدا فإنه يؤدي إلى عدم ثبوت دعوى أبدا،
ولا ريب في بطلان نسبة هذا الحكم إلى الشارع، وعليه فلا مناص
من سماع الدعوى، ومع سكوت المدعى عليه يحلف المدعي
بمجرد ذلك أو بعد رد الحاكم اليمين عليه، وإن كان الثاني هو
الأحوط، فإن لم يحلف سقطت الدعوى.
بل ربما يكون ما ذكرناه هو طريق فصل النزاع حتى في صورة
الحبس أو الضرب، لأنه قد لا يجيب المدعى عليه بعدهما ويكون
المرجع ما ذكرنا، وعليه فهل يجب الحبس أو الضرب مع وجود
هذا الطريق الذي يحتمل سلوكه بالتالي؟ الحق هو العدم.
قال المحقق " قده ": " ولو كان به آفة من طرش أو خرس
توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة لليقين ".
أقول: هذا إذا لم نقل بأن إشارة الأخرس تقوم مقام لفظ المتكلم
الذي يكتفى بالظن بالمراد منه فلا حاجة إلى مترجم لتحصيل اليقين
بكونه مقرا أو منكرا.
359

قال: " ولو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى المترجم لم
يكف الواحد.. ".
أقول: إن القول بافتقاره إلى مترجمين عدلين مبني على أن ذلك
من مقام الشهادة، وأما بناءا على كونه من باب الرجوع إلى أهل
الخبرة في فهم اللغات مثلا فلا يعتبر التعدد.
4 - حكم ما لو أجاب بقوله " لا أدري ":
إذا أجاب المدعى عليه بقوله " لا أدري " فإن كان للمدعي بينة
على دعواه فهو وإلا فوجوه:
منها: سقوط الدعوى، لأن المدعي بعد فرض عدم البينة يقر
بأن من لا يدري هل هو مدين أو لا يجب عليه دفع شئ.
ومنها: أن يحلف المدعى عليه بأنه لا حق للمدعي في ذمته
استنادا إلى الأصل، فإن شك في مشروعية هذه اليمين وسقوط الدعوى
بها فالأصل هو العدم، ولكن تعارضه أصالة عدم استحقاق الحق.
ومنها: أن يرد اليمين على المدعي.
ومنها: أنه منكر وعليه اليمين بنفي العلم باستحقاق المدعي ما
يدعيه عليه، قال في الجواهر: " ثم إن ظاهر حصر الأصحاب حال
المدعى عليه في الثلاثة عدم حال آخر رابع مخالف لها في الحكم،
وحينئذ فإذا كان جوابه لا أدري ولا أعلم ونحو ذلك فهو منكر،
ضرورة عدم كونه اقرارا كضرورة عدم كونه ساكتا فليس إلا الانكار
وانسياق القطع بالعدم منه لا ينافي كونه فردا آخر له مرجعه عدم
360

استحقاق ما يدعيه وإن لم يعلمه في نفس الأمر، ضرورة اقتضاء تعلق
الدعوى به استحقاق المدعى به عليه، فإذا نفى العلم بسببه كان نافيا
للاستحقاق المزبور الذي هو روح الدعوى عليه، وبذلك يكون
منكرا لا يتوجه عليه إلا اليمين لموافقته للأصل وغيره، ولا ينافي
ذلك ما تسمعه من الأصحاب من غير خلاف فيه يعرف بينهم من اعتبار
الحلف على البت في فعله نفيا واثباتا المنزل على الصورة الغالبة
من الانكار بخلاف ما إذا كان انكاره بالصورة الثانية فإنه يحلف على
عدم العلم نحو يمين الوارث ".
ومنها: ما ذكره السيد " قده " - ولا يبعد كونه الأصح - وهو
التفصيل بين صورة تصديق المدعي دعوى المدعى عليه عدم الدراية
وبين صورة عدم تصديقه لها، فقال ما حاصله بلفظه: " إذا أجاب
المدعى عليه بقوله: لا أدري، فإما أن يصدقه المدعي في هذه الدعوى
أو لا. فعلى الأول: إن كان للمدعي بينة على دعواه فهو وإلا فلا
حق له، لأن المفروض تصديقه في عدم علمه، ومعه ليس مكلفا بالأداء
في مرحلة الظاهر لأن الأصل براءة ذمته والمدعي أيضا معترف بذلك،
فالمقام نظير الدعوى على الميت مع عدم البينة واعتراف المدعي
بعدم علم الوارث، فإنه لا خلاف في سقوط دعواه حينئذ. ويمكن
أن يستدل على ما ذكرنا بالأخبار الواردة في ادعاء رجل زوجية امرأة
لها زوج وأنه لا تسمع دعواه إذا لم تكن بينة كموثقة سماعة 1) ورواية

1) وسائل الشيعة: 14 / 226. الباب: 23 من أبواب عقد
النكاح وأولياء العقد من كتاب النكاح.
361

يونس 1) وحسنة عبد العزيز 2) فإن المفروض في هذه الأخبار عدم علم
الزوج بصدق المدعي وكذبه، والظاهر عدم الفرق بين دعوى
الزوجية وغيرها.
وعلى الثاني فللمدعى عليه أن يحلف على عدم اشتغال ذمته فعلا
بحسب الظاهر، لأنه منكر من هذه الحيثية، فالمنكر قسمان: منكر للاشتغال
الواقعي، ومنكر للاشتغال بحسب ظاهر الشرع، وللمدعي أن يحلفه
على نفي العلم إن ادعى علمه بثبوت الحق، فإن حلف كفى في سقوط
الدعوى، وإن رد اليمين على المدعي أو الحاكم ردها عليه فحلف
ثبت حقه ولكن هذا الحلف لا يوجب سقوط حقه واقعا حتى لا تسمع
منه البينة بعد ذلك ولا يجوز له المقاصة ".
هذا إذا كانت الدعوى دينا، وأما إذا كانت متعلقة بعين في يده
وأجاب المدعى عليه بقوله: " لا أدري " فقد ذكروا أنه إن كانت
تحت تصرف تلك اليد فقط ولم تشاركها يد أخرى في الأخذ والوضع
من الصندوق الذي وضعت تلك العين فيها مثلا كانت اليد المنحصرة
حجة وإلا وجب على المدعي إقامة البينة، فإن أقامها حكم له وإلا
فبما أن المدعى عليه غير متمكن من الحلف لعدم درايته بالواقع
ومن هنا أيضا لا يمكنه رد اليمين على المدعي تكون الدعوى ساقطة
ظاهرا.

1) وسائل الشيعة: 14 / 226.
2) وسائل الشيعة: 14 / 226.
362

وقال السيد رحمه الله ما ملخصه " بل يمكن أن يقال بجواز حلفه
على عدم الحق للمدعي على الميت اعتمادا على يد من انتقلت منه
إليه كما يظهر من خبر حفص بن غياث 1) فإنه يظهر منه جواز الحلف
إذا اشترى من ذي يد، بل يظهر منه جواز الشهادة باليد مع أن أمر
الشهادة أصعب، بل وكذا إذا كانت في يده ولم يعلم حالها يحكم
بمقتضى يده أنها له، ولا يضر قوله: لا أدري من أين صارت في
يدي وأنها في الواقع لي أو ليست لي.
لكن قال في المستند في هذه الصورة: إن رد اليمين على المدعي
فحلف كانت له وإن لم يدع عليه العلم أو ادعى وحلف على نفي العلم
لا يحكم بكونها له بل يقرع بينه وبين المدعي، لأنه يشترط في دلالة
اليد على الملكية عدم اعتراف ذيها بعدم علمه بأنه له أو لا ".
قلت: والأولى ما ذكره السيد " قده " لأنه مقتضى قاعدة اليد.

1) وهو: " عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال له رجل: إذا
رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟ قال: نعم. قال
الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره. فقال أبو عبد الله
عليه السلام: أ فيحل الشراء منه؟ قال: نعم. فقال أبو عبد الله عليه
السلام: فلعله لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك
ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه إلى
من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: لو لم
يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق " وسائل الشيعة: 18 / 215.
363

ثم إنه بناء على ما ذكرنا من سقوط الدعوى في صورة تصديق
المدعي دعوى المدعى عليه عدم درايته وأنه لا أثر لليمين حينئذ
لأن الغرض منها إزالة الشك في صدقه فمع العلم به لا أثر لها -
يحكم بسقوط الدعوى كذلك لو علم بصدقه في دعوى عدم الدراية
من دون حاجة إلى يمين المدعى عليه على ذلك.
وقال بعض المعاصرين: وإذا أجاب المدعى عليه بعدم العلم فقد
يقال مع تصديق المدعي له، فإما أن يكون له بينة فهو، ومع عدمها
لا حق له لعدم كون المدعى عليه مكلفا بالأداء في الظاهر والمدعي
معترف بذلك فلا يجوز مطالبته، ومعه ليست الدعوى مسموعة حتى
يقال يصدق عليه المدعي وكل دعوى مسموعة يكون الفصل فيها
بالبينة واليمين، وذلك لعدم البينة وعدم امكان الحلف على الواقع
لعدم العلم به ولا على الظاهر لتصديقه له في براءته بحسب الظاهر " 1).
وفيه: أنه ليس الشك في الصدق ملحقا بالعلم به في عدم جواز
الاحلاف، لأن اليمين هي للاستظهار في حال تكذيبه دعوى نفي
العلم أو الشك في صدق هذه الدعوى.
وإنما يحلف مع كون الأصل عدم كونه مدينا لأن الصحيح -
كما ذكر الشيخ الأستاذ قدس سره 2) - أن قولهم بعدم وجوب
الفحص في الشبهة الموضوعية ليس على اطلاقه، لأنه قد يكون

1) جامع المدارك: 6 / 41.
2) آية الله الحاج الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري.
364

الفحص من السهولة بحيث لا يصدق معه الشك والشبهة عرفا، فلو
توقف ظهور حقيقة الحال في المنازعة على حق على مراجعة دفتر
الحساب لم يؤثر جواب المدعى عليه بالشك في صدق الدعوى
وتمسكه أصالة العدم حينئذ.. وما نحن فيه من هذا القبيل فالحلف
لا بد منه في هذا المقام.
(مسائل تتعلق بالحكم على الغائب)
الأصل - لولا الدليل - عدم نفوذ الحكم على الغائب، إلا أنه
لا ريب في سماع الدعوى ونفوذ الحكم عليه، وفي الجواهر الاجماع
بقسميه عليه، وقد يستدل لذلك بالأدلة التالية:
1 - اطلاق أدلة القضاء كقوله تعالى " فاحكم بين الناس بالحق " 1).
2 - اطلاق أدلة الحكم بالبينة واليمين، كقوله صلى الله عليه
وآله وسلم " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان " 2).
إلا أن التمسك بهاتين الطائفتين من الأدلة غير تام لعدم الاطلاق
الشامل للغائب فيها بحيث يمكن أن يكون دليلا للجواز لولا الأخبار
الخاصة والاجماع، لأن هذه الأدلة في مقام بيان الحكم على الاجمال،
فهي تبين أصل القضاء وتشريعه من غير تعرض إلى الشرائط

1) سورة ص: 26.
2 وسائل الشيعة: 18 / 169. الباب: 2 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
365

والخصوصيات، ويكون معنى " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان "،
إني لا أقضي بينكم عن طريق العلم بالغيب ولا بالمعجزة بل أقضي
بينكم بالبينات والأيمان، بل إن هذا الحديث ونحوه منصرف عن
صورة كون أحد المتخاصمين غائبا.
3 - ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من أنه قال لهند
زوجة أبي سفيان بعد أن ادعت أنه رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني
وولدي: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " 1) وكان أبو سفيان
غائبا.
وفيه - مع الغض عن سنده وعما قيل من أن كون أبي سفيان
غائبا غير معلوم - أنه لا ظهور له في كون ذلك من النبي " ص " من
باب الحكم، بل كونه من باب الولاية على الممتنع أولى، فلا يتم
الاستدلال به.
4 - ما روي عن أبي موسى الأشعري: " كان النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إذا حضر عنده خصمان فتواعدا الموعد فوفى أحدهما
ولم يف الآخر قضى للذي وفي علي الذي لم يف. أي مع البينة " 2).
وهذا الحديث - مع الغض عن سنده - صريح في حضور كليهما
عند الحاكم وغياب أحدهما عند الحكم، فلا يستدل به لصورة غياب
أحدهما من الأول.

1) حديث عامي وصفه صاحب الجواهر بالمستفيض.
2) حديث عامي.
366

5 - خبر جميل: " الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ويباع
ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم
ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء " 1).
6 - خبر محمد بن مسلم: " الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه
البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ويكون الغائب على
حجته إذا قدم ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء إذا لم
يكن مليا " 2).
7 - اطلاق ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: " القضاة
أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة، رجل قضى بجور وهو
يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار،
ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحق
وهو يعلم فهو في الجنة " 3).
لكن الظاهر كونه في مقام بيان لزوم العلم بالحق والحكم بالحق
فقط، فلا اطلاق له ليستدل به في المقام.
وببعض ما ذكر يتقيد اطلاق ما رواه محمد بن مسلم عن أبي
جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إذا

1) وسائل الشيعة: 18 / 216. الباب: 26 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
2) وسائل الشيعة: 18 / 216.
3) وسائل الشيعة: 18 / 11. الباب: 4 من أبواب صفات
القاضي.
367

تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع من الآخر، فإنك
إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " 1) وإن كان يحتمل ظهور " تقاضى
إليك رجلان " في كونهما حاضرين، فيكون وجه الجمع: الحكم
في القضية جزما ويكون الغائب على حجته إذا قدم.
وكذا ما عن علي عليه السلام قال: " قال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم لما وجهني إلى اليمن: إذا تحوكم إليك فلا تحكم
لأحد الخصمين دون أن تسأل من الآخر. قال: فما شككت في قضاء
بعد ذلك " 2)، وما رواه العياشي في تفسيره عن الحسن عن علي
عليه السلام إن النبي صلى الله عليه وآله بعثه ببراءة - إلى أن
قال - فقال: " إن الناس سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا
تقض لواحد حتى تسمع من الآخر فإنه أجدر أن تعلم الحق " 3) بناء
على ظهورهما في الاطلاق، ويكون مفاد أخبار الأمر بالسؤال من
الآخر أنه إذا حضرا معا فلا يجوز الحكم قبل السؤال من الآخر
وسماع كلامه، وقد حمل الأمر بالسؤال منه على الارشاد ولكنه
خلاف الظاهر.
وأما ما رواه أبو البختري عن جعفر عن أبيه عن عليه السلام

1) وسائل الشيعة: 18 / 158 ضعيفة.
2) وسائل الشيعة: 18 / 159 ضعيفة.
3) وسائل الشيعة: 18 / 159 ضعيفة.
368

من أنه قال: " لا يقضى على غائب " 1) فلا يعارض ما تقدم لضعف
سنده 2) ولاعراض الأصحاب عنه، مع امكان حمله على بعض الوجوه.
وبعد، فهل يقضى على الغائب في كل دعوى وعلى كل حال؟
يتضح الأمر في هذا المقام في مسائل:
المسألة الأولى
(في المراد من الغائب)
قال المحقق " قده ": " يقضى على من غاب عن مجلس القضاء
مطلقا مسافرا وحاضرا، وقيل: يعتبر في الحاضر تعذر حضوره
مجلس الحكم ".
أقول: لا اشكال ولا خلاف في أنه يقضى على الغائب المتعذر
عليه الحضور من جهة مرض أو شبهه، أو كان ممتنعا عن الحضور.
ولا خلاف في صدق " الغائب " على المسافر بمقدار المسافة
الشرعية، ولعل دليله أن القدر المتيقن من " الغائب " هو المسافر بقدر
المسافة الشرعية.

1) وسائل الشيعة: 18 / 217 عن قرب الإسناد عن السندي بن
محمد عن أبي البختري..
2) لأن رواية أبا البختري - وهو: وهب بن وهب - ضعيف
كما نص عليه علماء الرجال.
369

وهو ضعيف لصدق الغائب على المسافر بأقل منها حقيقة.
وإن كان حاضرا في البلد وغائبا عن مجلس الحكم فالمشهور
أنه كالغائب عن البلد فيقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقا،
قال في الجواهر: وإن لم يتعذر عليه الحضور، لكن فيه عن المبسوط
وتعليق الارشاد: يعتبر في الحاضر تعذر حضوره مجلس الحكم،
إلا أنا لم نجد في المبسوط ما نسب إليه، والشيخ " قده " لم يتعرض
إلى مسألتنا، ويمكن أن يكون قد تعرض لها في محل آخر.
وفي المسالك: إن كان غائبا عن البلد قضى عليه باتفاق أصحابنا
سواء كان بعيدا أم قريبا، وكذا لو كان حاضرا في البلد وتعذر حضوره
في مجلس الحكم إما قصدا أو لعارض، ولو لم يتعذر حضوره
فالمشهور الجواز أيضا لعموم الأدلة. وقال الشيخ في المبسوط:
لا يحكم عليه حينئذ لأن القضاء على الغائب موضع ضرورة فيقتصر
فيه على محلها، ولأنه ربما وجد مطعنا ومدفعا وجاز في الغائب للمشقة
بطول انتظاره. والأظهر الأول.
ولعل المشهور قد حملوا أدلة السؤال من المدعى عليه على
الحاضر في المجلس، أو حملوا " الغائب " في أدلة القضاء عليه على
من غاب عن المجلس فتكون هذه الأدلة مخصصة لأدلة السؤال
من المدعى عليه بناءا على عموم التعليل الموجود فيها، لأن ظهور
" يقضى على الغائب " أقوى من ظهور العلة في تلك الأدلة، ويجوز
حمل العلة على الاستحباب أو العلية الناقصة.. لكن في الحكم
على الغائب عن المجلس تردد وإن كان ما ذهب إليه المشهور هو
370

الأظهر، وكونه على حجته إذا قدم يدفع الضرر عنه.
هذا ولا يجب على الحاكم الارسال خلف المدعى عليه للحضور
في المجلس إلا أن يلتمس المدعي ذلك.
ثم هل يشترط في الحكم عليه دعوى جحوده كما في القواعد
التوقف فيه، بل عن التحرير الجزم بعدم سماع بينته إلا لأخذ المال
لو اعترف باعترافه - ومرجعه إلى اشتراط ادعاء الجحود إذا طلب
الحكم دون المال - والتردد إذا لم يتعرض لجحوده من اشتراط
سماعها به ولم يعلم، ومن تنزل الغيبة منزلة السكوت النازل منزلة
الجحود، لاحتماله الجحود في الغيبة وأن لا يقدر بعد على الاثبات
إذا ظهر الجحود؟ قال في الجواهر: لا يخفى عليك اطلاق النص
والفتوى ومعقد الاجماع. أقول: على أنه إذا كان مبنى الحكم كون
المدعى عليه جاحدا فيلزم في صورة اقرار المدعى عليه أن لا يحكم
الحاكم بعد الاقرار، نعم له أن يأمره بدفع ما أقر فيه لو كان متساهلا
في تسليمه.. وإلا فلا معنى لتوقف تنفيذ حكم الله على حكم الحاكم
في القضية. إلا أن يقال بأن الله عز وجل قد أذن للحاكم أن ينشئ
الحكم حتى تترتب الآثار على الحكم الشرعي إن كان لحكمه أثر
زائد على الاقرار - لأن المسلم به أنه لا يسمع الانكار بعد الاقرار وأن
الاقرار كحكم الحاكم في فصل الخصومة - كأن يكون أثر الحكم
عدم سماع دعواه الاشتباه مثلا في الاقرار.
قال في الجواهر: نعم قد يتوقف في صورة العلم باعترافه بناءا
371

على اشتراط الخصومة في مطلق القضاء على الحاضر وقد عرفت
الكلام فيه سابقا، والمتيقن من الخبرين غير المفروض، نعم لا اشكال
في تناولهما غير معلوم الحال كما هو واضح.
أقول: لكن دعوى انصراف الخبرين عن هذه الصورة مشكلة.
المسألة الثانية
(يقضى على الغائب مطلقا أو في حقوق الناس؟)
قال المحقق " قده ": " يقضى على الغائب في حقوق الناس
كالديون والعقود ولا يقضى في حقوق الله تعالى كالزنا واللواط لأنها
مبنية على التخفيف ".
أقول: ولذا تدرء الحدود بالشبهات، بخلاف حقوق الناس
فإنها مبنية على الاحتياط.. فإن قيل: فلماذا لا يعتنى باحتمال خطأ
الشاهدين بل يحكم على طبق شهادتهما على المدعى عليه الحاضر
قلنا: إن احتمال خطأ البينة يلغيه دليل حجيتها فلا مجال حينئذ لدليل
درء الحد بالشبهة وإلا لتوقف اجراء الحد على العلم بالواقع في
القضية أو بصدق الشاهدين، لكن حيث إن المدعى عليه غائب يمكن
حضوره وجرح الشاهدين أو إقامة البينة على أن المتهم في هذه
القضية ليس هو بل غيره، فهذا الاحتمال يدرأ به الحد.
قال المحقق: " ولو اشتمل الحكم على الحقين قضى بما يخص
الناس كالسرقة يقضى بالغرم، وفي القضاء بالقطع تردد ".
أقول: لو اشتمل الحكم على حق الناس وحق الله معا كالسرقة
372

يقضى عليه في حق الناس، وأما القضاء بحق الله وهو القطع فقد
تردد فيه المحقق " قده "، قال شارحوه أنه لم يتردد في عدم القضاء
به غيره من الفقهاء.
وذكر في الجواهر وجه التردد: إن السرقة علة للأمرين، فإذا
قامت البينة عليها لم يعقل التفكيك بين المعلولين، وأجيب عن ذلك
بأن الأحكام الشرعية معرفات لا علل حقيقة. ومعنى هذا الكلام:
إن الأمور المذكورة في كلمات الشارع بعنوان العلة ليست عللا
حقيقية يحكم العقل بامتناع الانفكاك بينها بل هي معرفات.
أقول: إن العقل لا يمكنه ادراك أن الشئ الكذائي علة للشئ الكذائي في
الأحكام الشرعية، فلولا بيان الشارع أن الجنابة علة لوجوب الغسل
لم يدرك العقل ذلك، وحينئذ فلو جاء في كلامه أن الشئ الفلاني
علة للشئ الفلاني وجب التصديق بحكم الشارع بالعلية، لكن
الفرق بين العلية المدركة بالعقل كعلية النار للحرارة والعلية الواردة
في لسان الشارع هو أنه في الأول يستحيل التفكيك بين النار والحرارة
إلا عن طريق الاعجاز، أما في الثاني فإنه يمكن تخلف ما جعل معلولا
عما جعل علة، ولذا نرى أن الشارع قد يقول في مورد بعدم ترتب
المعلول على العلة وهو يكشف عن عدم العلية التامة.. إذن ليست
الأحكام الشرعية معرفات، بل هي علل ومعاليل كالعلل والمعاليل الأخرى.
وعليه فلو أقر الحاضر بالسرقة مرتين ترتب الأثران، وإن أقر
مرة واحدة يؤخذ منه حق الناس ولا يحكم عليه في حق الله، فلا
373

يلزم أن نقول الأحكام الشرعية معرفات، بل نقول هي علل، ولكن
في هذا المورد العلة لترتب الأمرين هو الاقرار مرتين، والاقرار مرة
واحدة علة لترتب أحد الأثرين، وذلك لأن مبنى الشارع في الحدود
الإلهية على التخفيف فلا بد من اقرارين، وأما في حقوق الناس
فعلى الاحتياط فيكفي الاقرار الواحد لأن يقضى عليه بالغرم.
هذا، ولكن مقتضى أدلة القضاء عمومها بالنسبة إلى الحاضر
والغائب، وحينئذ فلو سرق حكم بقطع يده وبالغرم معا لعموم الأدلة،
ودليل درء الحد بالشبهة لا يشمل هذا المقام ولا مخصص تام سندا
ودلالة لتلك العمومات، فيقضى عليه في الحقين بلا فرق إلا أن يكون
هناك اجماع.
المسألة الثالثة
(لو كان صاحب الحق غائبا فطالب الوكيل)
قال المحقق: " لو كان صاحب الحق غائبا فطالب الوكيل
فادعى الغريم التسليم إلى الموكل ولا بينة، ففي الالزام تردد بين
الوقوف في الحكم لاحتمال الأداء، وبين الحكم والغاء دعواه لأن
التوقف يؤدي إلى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء والأول أشبه ".
أقول: الوكيل تارة وكيل في المرافعة فقط وأخرى هو وكيل
في المرافعة والمطالبة بالحق معا، وحيث يكون له المطالبة بالحق
فإن ادعى الغريم تسليمه إلى الموكل طالبه بإقامة البينة على دعواه
الوفاء به، فإن أقامها حكم الحاكم له، وإن لم يكن له بينة على
374

تلك الدعوى فلا يمكنه احلاف الوكيل لأن يمين الوكيل لا أثر لها،
وحينئذ تسقط دعواه ويلزم بدفع الحق، لأن الأصل عدم دفع الحق
وعدم ابراء صاحب الحق إياه، وهذا هو الوجه الصحيح للقول
بالالزام.
وأما قوله: " لأن التوقف يؤدي إلى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء "
فقد يجاب عنه بأن استيفاء الحق ليس متوقفا على ذلك، فيمكن طلبها
بأسباب أخرى.
وأما القول بأنه لو لم يلزم لتوجه الضرر على صاحب الحق
بضياع حقه، ففيه أنه يحتمل أيضا توجه الضرر إلى الغريم لاحتمال
صدقه في دعوى الأداء.
وهل يلزم التكفيل حينئذ لو طلبه الدافع؟
إن كان ذلك بعد حكم الحاكم لم يكن للتكفيل أثر لأن الدعوى
بعد الحكم لا تسمع، وإلا كان له وجه نظير ما إذا كانت الدعوى
على غائب حيث ورد الخبر بأخذ الكفيل من المدعي.
وفي المسألة وجهان آخران:
أحدهما - تفصيل صاحب المستند بين ما إذا كان الوكيل وكيلا
في دعوى الابراء والوفاء أيضا فالتوقف، وبين ما إذا لم يكن وكيلا
فالالزام.
والثاني - التفصيل الذي لم يستبعد السيد " قده " قوته، وهو
التفصيل بين ما إذا ثبت الحق بالبينة أو باقرار المدعى عليه من الأول،
375

فعلى الأول الالزام وعلى الثاني فالتوقف.
وإن لم يأذن ذو الحق للوكيل بأخذ الحق من الغريم فلا وجه
لأخذه له، فحيث يلزم يدفع الحق فإنه يدفعه إلى الحاكم حتى
يسلمه إلى صاحب الحق عند حضوره.
376

المقصد الرابع
في كيفية الاستحلاف والبحث في أمور ثلاثة
(الأول: في اليمين)
اعلم أن المستفاد من الأخبار الكثيرة كراهة اليمين الصادقة
وكونها مرجوحة مطلقا، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال " قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: من أجل الله أن يحلف به أعطاه الله
خيرا مما ذهب منه " 1).
وعنه عليه السلام قال: " لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين،
فإنه عز وجل يقول: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم " 2).
وعن أبي جعفر عليه السلام في رواية: " وإني لأكره أن أقول
(والله) على حال من الأحوال " 3).

1) وسائل الشيعة: 16 / 115. الباب - 1 - كتاب الأيمان.
2) وسائل الشيعة: 16 / 116. الباب - 1 - كتاب الأيمان.
3) وسائل الشيعة: 16 / 115 - الباب - 1 - كتاب الأيمان.
377

ولكن تزول الكراهة بل يترجح اتيانها في كثير من الموارد
بالنظر إلى الأثر المترتب عليها كبيان أهمية المطلب أو التأكد عليه
ونحو ذلك، ولذا كان النبي والأئمة عليه وعليهم الصلاة والسلام قد
يحلفون في كلامهم، فعن الرضا عليه السلام: " بلغني أن الناس
يقولون أنا نزعم أن الناس عبيد لنا، لا وقرابتي من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ما قلته قط.. 1).
بل قد يجب الحلف في بعض الموارد، كما إذا وقعت المرافعة
على زوجية امرأة مثلا أو ملكية دار ونحو ذلك.
ويحرم الحلف بالأوثان والأصنام، فالحلف باللات مثلا حرام
وإن كان على ترك محرم أو اتيان واجب، ولا كفارة عليه في صورة
المخالفة.

1) وسائل الشيعة: 16 / 161. وما رواه أبو جرير القمي قال:
قلت لأبي الحسن عليه السلام جعلت فداك.. وسألته عن أبيه
أحي هو أم ميت؟ قال: قد والله مات.. " وسائل الشيعة 16 / 161.
وما عن صفوان الجمال: " إن أبا جعفر المنصور قال لأبي
عبد الله عليه السلام: رفع إلي أن مولاك المعلى بن خنيس يدعو إليك
ويجمع لك الأموال. فقال: والله ما كان.. " وسائل الشيعة: 16 / 167.
وما عن نجية العطار قال: " سافرت مع أبي جعفر عليه السلام
إلى مكة فأمر غلامه بشئ فخالفه إلى غيره. فقال أبو جعفر عليه
السلام: والله لأضربنك يا غلام.. " وسائل الشيعة 16 / 171.
378

ولو حلف على ترك واجب أو فعل حرام فقد يقال بحرمة هذا
الحلف ولو خلف لم تجب عليه الكفارة.
لا يستحلف أحد إلا بالله: قال المحقق قده: " ولا يستحلف أحد إلا بالله ولو كان كافرا ".
أقول: إن اليمين تكون في موارد ثلاثة:
الأول: في المورد الذي لا يترتب عليه أثر أصلا، كأن يحلف
الرجل على ما يقوله في مقام التكلم مع غيره، فهذا ما لا يترتب عليه
أثر وضعي.
والثاني: أن يحلف على فعل أمر راجح فعله أو ترك أمر مرجوح
فعله، وأثر هذه اليمين هو وجوب الكفارة عليه مع المخالفة إن كانت
بالله غز وجل.
والثالث: اليمين في مورد المرافعة لاثبات حق أو اسقاطه.
ففي الأول يجوز الحلف بغير الله تعالى؟ إن الأخبار الواردة
في النهي عن اليمين بغير الله فوق حد التواتر، لكن الأصحاب رفعوا
اليد عن ظهورها في الحرمة وحملوها على الكراهة ولم يفت أحد
منهم بحرمة اليمين بغير الله، بل ادعي الاجماع على الكراهة، بل
لقد وجدنا في الأخبار حلف الأئمة بغير الله في محادثاتهم ومحاوراتهم 1)،
وفي كتاب القضاء للمحقق الآشتياني: أن عليه السيرة، وأجاب عن

1) مثل ما عن الرضا عليه السلام من قوله: " لا وقرابتي من
رسول الله.. " وقد تقدم.
379

ذلك بأن الأخبار الناهية عن اليمين تصلح لأن تكون رادعة عن هذه
السيرة، وفيه: أنها ليست رادعة، بل يمكن القول بأن السيرة كاشفة
عن عدم إرادة الحرمة من تلك الأخبار 1).
وأشكل بأن بعض تلك الأخبار يأبى الحمل على الكراهة، مثل
ما روي عن النبي " ص ": " من حلف بغير الله فقد أشرك " 2) وفي
حديث آخر " فقد كفر " 3).
وفيه: أن الحديثين - مع الغض عن سندهما - محمولان على
اليمين الموجبة للكفر والشرك كأن يحلف المسلم باللات والعزى،
أو بالأب والابن - تعالى الله عن ذلك - ونحوهما. ويشهد بذلك
وجود لفظي الشرك والكفر في الحديثين، لأن من المعلوم أن الحلف
بغير الله مما لا يوجب الكفر والشرك لا يكون كفرا وشركا، ويؤيد
ذلك سيرة المتشرعة.
وفي الثاني لا اشكال في جواز الحلف بغير الله وعدم وجوب
الكفارة على مخالفته.
وأما الثالث - وهو مورد البحث والكلام - فقد دلت جملة
من النصوص بصراحة على أنه لا يحلف إلا بالله، وإليك بعضها:

1) بل في الأخبار ما يقتضي ذلك، مثل قوله عليه السلام: " وإني
لأكره أن أقول والله.. ".
2) مستدرك وسائل الشيعة: الباب: 24 من كتاب الأيمان.
3) سنن البيهقي: 10 / 29.
380

1) عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام قال:
" لا يحلف اليهودي ولا النصراني ولا المجوسي بغير الله، إن الله
عز وجل يقول: فاحكم بينهم بما أنزل الله " 1).
2) عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام: " لا يحلف
بغير الله. وقال: اليهودي والنصراني والمجوسي لا تحلفوهم إلا
بالله عز وجل " 2).
3) عن الحلبي قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أهل
الملل يستحلفون. فقال: لا تحلفوهم إلا بالله عز وجل " 3).
4) عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته هل
يصلح لأحد أن يحلف أحدا من اليهود والنصارى والمجوس بآلهتهم؟
قال: لا يصلح لأحد أن يحلف أحدا إلا بالله عز وجل " 4).
5) عن الحلبي قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أهل
الملل كيف يستحلفون؟ فقال: لا تحلفوهم إلا بالله " 5).
6) عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته عن
استحلاف أهل الذمة. قال: لا تحلفوهم إلا بالله " 6).

1) وسائل الشيعة: 16 / 164. الباب: 32، كتاب الأيمان.
2) وسائل الشيعة: 16 / 164. الباب: 32، كتاب الأيمان.
3) وسائل الشيعة: 16 / 164. الباب: 32، كتاب الأيمان.
4) وسائل الشيعة: 16 / 165. الباب: 32، كتاب الأيمان.
5) وسائل الشيعة: 16 / 165. الباب: 32، كتاب الأيمان.
6) وسائل الشيعة: 16 / 166. الباب: 32، كتاب الأيمان.
381

7) عن علي بن مهزيار قال: " قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام:
قول الله عز وجل: (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى). وقوله
عز وجل (والنجم إذا هوى) وما أشبه هذا. فقال: إن الله عز وجل
يقسم من خلقه بما شاء وليس لخلقه أن يقسموا إلا به عز وجل " 1).
8) عن محمد بن مسلم قال: " قلت لأبي جعفر عليه السلام
قول الله عز وجل (والليل إذا يغشى) (والنجم إذا هوى) وما أشبه
ذلك. فقال: إن الله عز وجل أن يقسم من خلقه بما شاء وليس لخلقه
أن يقسموا إلا به " 2).
9) عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " لا أرى للرجل
أن يحلف إلا بالله.. " 3).
10) عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " لا أرى للرجل
أن يحلف إلا بالله.. " 4).
فهذه الأخبار تدل على أنه لا يستحلف أحد إلا بالله عز وجل ولو
كان كافرا بانكار أصل واجب الوجود فضلا عن غيره، وقد ورد في
بعض الأخبار 5) أن اليمين بغير الله يؤدي إلى ترك الحلف بالله، أي

1) وسائل الشيعة: 16 / 159. الباب: 30، كتاب الأيمان.
2) وسائل الشيعة: 16 / 160. الباب: 30، كتاب الأيمان.
3) وسائل الشيعة: 16 / 160. الباب: 30، كتاب الأيمان.
4 وسائل الشيعة: 16 / 160. الباب: 30، كتاب الأيمان.
5) وسائل الشيعة: 16 / 160، 161.
382

أنه في المورد الذي يترجح فيه اليمين لا بد من الحلف بالله حتى
لا يعظم شئ في مقابله عز وجل، لأن الحلف يكون عادة بما له أهمية
وجلالة وعظمة، فالالتزام بالحلف بالله تعالى تعظيم له واثبات لعظمته
ونفي لعظمة شئ سواه، وأما الاستحلاف في مورد المرافعة فلا يجوز
بغير الله عز وجل وإن رضي الطرفان بالحلف بغيره.
وهناك أخبار واردة في الاستحلاف بغير الله تعالى سنذكرها
قريبا.
ثم إن ظاهر أخبار المقام عدم اعتبار إضافة شئ من صفات
الذات أو الأفعال إلى الاسم في ترتب الأثر، لكن قال المحقق:
" وقيل: لا يقتصر في المجوس على لفظ الجلالة، بل يضم إلى
هذه اللفظة الشريفة ما يزيل الاحتمال لأنه سمى النور إلها ".
أقول: هل يستحلف المجوسي الذي يسمى النور آلها بالله تعالى
كالمسلمين أو يقال له: " احلف بخالق النور " مثلا وإن كان غير
معتقد به؟ ظاهر المبسوط حيث قال: فإن قيل: كيف حلفته بالله
وليست عنده بيمين؟ قلنا: ليزداد إثما ويستوجب العقوبة " هو الثاني،
لكن مقتضى اطلاق الأخبار هو الأول، وأما قول الشيخ: " ليزداد
إثما ويستوجب العقوبة " فلم يظهر لنا المراد منه.
وكذا الأمر بالنسبة إلى منكر أصل واجب الوجود، ومن يعتقد
بآله غير الله، ومن يعتقد بالهين كالثنوية، ومن يعبد الأصنام..
لاطلاق الأدلة.
383

عدم جواز الاحلاف بغير أسماء الله:
قال المحقق: " ولا يجوز الاحلاف بغير أسماء الله سبحانه كالكتب
المنزلة والرسل المعظمة والأماكن المشرفة ".
أقول: ويدل على ذلك النصوص الكثيرة المذكور بعضها آنفا،
فلا يجوز الحلف بغير الله وإن تراضى الطرفان بالحلف بغيره، بل
إن المصالحة على الحلف بغيره تعالى لا يفصل النزاع، لأن هذه
اليمين محرمة إما تكليفا ووضعا وإما وضعا فقط على الخلاف، لأنه
على الأول يكون الصلح على أمر محرم فعله، وعلى الثاني يكون
على أمر لغو، فيكون أكل ما صولح عليه به أكلا للمال بالباطل.
ووجه الخلاف في هذا المقام بين الأصحاب هو اختلافهم في
الاستفادة من أدلة النهي عن الاستحلاف بغير الله، ومع الشك في
الحرمة التكليفية تجري البراءة، وحينئذ لا يحكم يفسق المحلف
والحالف، أما مع الشك في الحكم الوضعي فالأصل عدم النفوذ،
والقدر المتيقن من النصوص دلالتها على عدم ثبوت الحق وعدم سقوطه
باليمين بغير الله تعالى وإن كان من الكتب المنزلة أو الرسل المعظمة
أو الأماكن المشرفة.
لكن في بعض الأخبار ما ينافي تلك الأدلة، وهذه نصوص
تلك الأخبار:
1) عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: " إن أمير المؤمنين
384

عليه السلام استحلف يهوديا بالتوراة التي أنزلت على موسى عليه
السلام " 1).
2) عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام: " سألته عن
الأحكام. فقال: في كل دين ما يستحلفون به " 2).
3) عن محمد بن قيس قال: " سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:
قضى علي عليه السلام فيمن استحلف أهل الكتاب بيمين صبر أن
يستحلف بكتابه وملته " 3).
4) عن محمد بن مسلم قال: " سألته عن الأحكام، فقال: تجوز
على كل دين بما يستحلفون " 4).
5) الصدوق " قده " قال: " وقضى أمير المؤمنين عليه السلام فيمن
استحلف رجلا من أهل الكتاب بيمين صبر أن يستحلفه بكتابه وملته " 5).
ولعل بالنظر إلى هذه الأخبار قال المحقق " قده ":
" ولو رأى الحاكم احلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع جاز ".
لكن المشهور عدم جواز احلاف اليهود والنصارى بغير الله
للنصوص الناهية عن ذلك عموما وخصوصا، وقد أجابوا عن خبر

1) وسائل الشيعة: 16 / 165. الباب: 32، كتاب الأيمان.
2) وسائل الشيعة: 16 / 165. وعن نسخة: يستحلفون به.
3) وسائل الشيعة: 16 / 165. و " يمين صبر ": جهد القسم.
4) وسائل الشيعة: 16 / 166. الباب: 32، كتاب الأيمان.
5) وسائل الشيعة: 16 / 166. الباب: 32، كتاب الأيمان.
385

السكوني بضعف سنده، وفي الوسائل: حمله الشيخ على أنه
مخصوص بالإمام، وعلى هذا حملت الأخبار الأخرى أيضا، وأما
صحيح محمد بن مسلم فهو مجرد اخبار عن شرائعهم.
والحاصل أن هذه النصوص لا تصلح معارضة للنصوص السابقة
لقصور بعضها سندا والبعض الآخر دلالة..
وهل يجب أن يكون الحلف بلفظ الجلالة فقط؟ الواجب هو
الحلف بذات الله المقدسة، أي المسمى بلفظ الجلالة والأسماء
الحسنى، فيجزي أي اسم كان من أسمائه أو أي صفة من صفاته
الخاصة به عز وجل.
استحباب تقديم العظة وتغليظ اليمين:
قال المحقق: " ويستحب للحاكم تقديم العظة على اليمين
والتخويف من عاقبتها ".
أقول: بأن يذكر له مما ورد من ذلك في الأخبار مثل:
1) " من حلف بالله كاذبا كفر ومن حلف بالله صادقا أثم " 1).
2) " إن يمين الصبر الكاذبة تترك الديار بلاقع " 2).
3) " من حلف على يمين وهو يعلم أنه كاذب فقد بارز الله " 3).

1) وسائل الشيعة: 16 / 116.
2) وسائل الشيعة: 16 / 119.
3 وسائل الشيعة: 16 / 119
386

4) " اليمين الصبر الكاذبة تورث العقب الفقر " 1).
5) ".. إن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم ليذران الديار بلاقع
من أهلها وتثقلان الرحم، وإن ثقل الرحم انقطاع النسل " 2).
6) " قال الله عز وجل: لا أنيل رحمتي من يعرضني للأيمان
الكاذبة.. " 3).
قال المحقق: " ويكفي أن يقول: والله ما له قبلي حق ".
أقول: والدليل على ذلك اطلاق الأدلة.
قال: " وقد يغلظ اليمين بالقول والزمان والمكان، لكن ذلك
غير لازم ولو التمسه المدعي، بل هو مستحب استظهارا في الحكم ".
أقول: يدل على عدم وجوب التغليظ اطلاق الأدلة في الأيمان،
ويدل فعل أمير المؤمنين في احلاف الأخرس كغيره من الأخبار على
جواز التغليظ في اليمين،
وقد استدل به على الاستحباب، قلت:
وفيه أنه عليه السلام كتب تلك الكلمات وغسلها وأمر الأخرس
بشرب ذلك الماء، فإن كان الأخرس يعرف القراءة تحقق التغليظ
وإلا فأي تأثير لهذه الكلمات من حيث التغليظ؟ هذا غير واضح عندنا.
ثم إن الإمام قد حكم بعد امتناعه عن شرب ذلك الماء من دون
رد لليمين على المدعي، وهذا يخالف سائر الأخبار والقاعدة المقررة
في فصل الخصومة وكيفية القضاء، مع أن فعل الإمام عليه السلام لا

1) وسائل الشيعة: 16 / 120.
2) وسائل الشيعة: 16 / 122.
387

يدل على استحباب التغليظ، وإنما على الجواز كما ذكر، فالتمسك
بها لاستحباب التغليظ في اليمين في غير محله.
وقد يستدل بما رواه صفوان الجمال: " أن أبا جعفر المنصور
قال لأبي عبد الله عليه السلام: رفع إلي أن مولاك المعلى بن خنيس
يدعو إليك ويجمع لك الأموال. فقال: والله ما كان - إلى أن قال
المنصور - فأنا أجمع بينك وبين من سعى بك، قال: فافعل. فجاء
الرجل الذي سعى به، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: يا هذا أتحلف؟
فقال: نعم والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن
الرحيم لقد فعلت. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ويلك تبجل
الله فيستحي من تعذيبك ولكن قل: برئت من حول الله وقوته
وألجئت إلى حولي وقوتي، فحلف بها الرجل فلم يستتمها حتى
وقع ميتا. فقال أبو جعفر المنصور: لا أصدق عليك بعد هذا أبدا،
وأحسن جائزته ورده " 1).
ولكن دلالتها على الاستحباب غير واضحة
واستدل برواية السيد الرضي " قده " عن أمير المؤمنين عليه
السلام: " أحلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه برئ من حول الله
وقوته، فإنه إذا حلف بها كاذبا عوجل وإذا حلف بالله الذي لا إله
هو لم يعاجل لأنه قد وحد الله سبحانه " 2).

1) وسائل الشيعة.: 16 / 167. الباب: 33، كتاب الأيمان.
2) وسائل الشيعة: 16 / 167.
388

وهذه الرواية لا تدل على الاستحباب، بل الأمر فيها ظاهر في
الارشاد، ويشهد بذلك قوله بعده: إذا أردتم..
واستدل برواية الراوندي " قده " عن الرضا عليه السلام عن
أبيه: " إن رجلا وشى إلى المنصور أن جعفر بن محمد عليه السلام
يأخذ البيعة لنفسه على الناس ليخرج عليهم، فأحضره المنصور،
فقال الصادق عليه السلام: ما فعلت شيئا من ذلك، فقال المنصور
لحاجبه: حلف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا - يعني الصادق عليه
السلام - فقال الحاجب: قل والله الذي لا إله إلا هو، وجعل يغلظ
عليه اليمين. فقال الصادق: لا تحلفه هكذا.. فقال المنصور: فحلفه
إذا يا جعفر. فقال الصادق عليه السلام للرجل: قل إن كنت كاذبا
عليك فبرئت من حول الله وقوته ولجأت إلى حولي وقوتي. فقالها
الرجل، فقال الصادق عليه السلام: اللهم إن كان كاذبا فأمته، فما
استتم كلامه حتى سقط الرجل ميتا.. " 1) وهذا أيضا لا يدل على
الاستحباب.
فالانصاف: أنه لا دليل على استحباب التغليظ، ومن هنا قال في
المسالك: هذا الحكم هو المشهور بين الأصحاب وذكروا أنه مروي
وما وقفت على مستنده.
وكيف كان فقد قال المحقق: " فالتغليظ بالقول مثل أن يقول:
والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع

1) وسائل الشيعة: 16 / 167.
389

المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا
المدعي علي شئ مما ادعاء، ويجوز التغليظ بغير هذه الألفاظ مما
يراه الحاكم ".
أقول: كما في رواية احلاف الأخرس، ورواية نهج البلاغة،
وغيرهما.
قال: " وبالمكان كالمسجد والحرم وما شاكله من الأماكن
المعظمة، وبالزمان كيوم الجمعة والعيد وغيرها من الأوقات المكرمة ".
أقول: ومن التغليظ ما تعارف بين الناس فعله من وضع اليد
على المصحف الشريف في حال أداء اليمين.
قال: " ويغلظ على الكافر بالأماكن التي يعتقد شرفها والأزمان
التي يرى حرمتها ".
أقول: يدل عليه ما رواه الحسين بن علوان عن جعفر عن
أبيه " أن عليا كان يستحلف اليهود والنصارى في بيعهم وكنائسهم
والمجوس في بيوت نيرانهم ويقول: شددوا عليهم احتياطا للمسلمين " 1).
وما رواه أبو البختري عن جعفر عن أبيه " إن عليا عليه السلام
كان يستحلف اليهود والنصارى بكتابهم ويستحلف المجوس ببيوت
نيرانهم " 2).
قال: " ويستحب التغليظ في الحقوق كلها وإن قلت عدا المال

1) وسائل الشيعة: 16 / 166. الباب: 32، كتاب الأيمان.
2) وسائل الشيعة: 16 / 166. الباب: 32، كتاب الأيمان.
390

فإنه لا يغلظ فيه بما دون نصاب القطع ".
أقول: استحباب التغليظ هو المشهور بل ادعي عليه الاجماع
لكن تقدم أنه لا دليل عليه، وأما النهي عن التغليظ في المال الأقل
من نصاب القطع فقد ورد في خصوص كونه عند قبر النبي صلى الله
عليه وآله وهو ما رواه محمد بن مسلم وزرارة عنهما عليهما السلام
جميعا قالا: " لا يحلف أحد عند قبر النبي صلى الله عليه وآله على
أقل مما يجب فيه القطع " 1).
فرعان:
الأول: حكم ما لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ:
قال المحقق: " لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر،
ولم يتحقق بامتناعه النكول ".
أقول: استدل له بالأصل، أي: إن الأصل عدم جواز اجباره
على ذلك، وقبله اطلاقات أدلة القضاء وكيفية الحكم، مضافا إلى
قوله عليه السلام: " من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله
فليرض، ومن لم يرض فليس من الله " 2) وفي الجواهر: بلا خلاف
أجده إلا عند من ستعرف. ثم نقل الخلاف عن بعض العامة من
وجوبها عليه وتحقق النكول بالامتناع لو طلبه الحاكم منه.

1) وسائل الشيعة: 18 / 219.
2) وسائل الشيعة: 16 / 125. الباب: 6، كتاب الأيمان.
391

لكن بناءا على كون الاحلاف وكيفيته حقا للمدعي يجب عليه
الإجابة، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله: ".. فإن كان
المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين بالله
الذي لا إله إلا هو لقد مات فلان وأن حقه لعليه، فإن حلف وإلا فلا
حق له.. " 1) فإن ظاهرها إن الامتناع عن اليمين المغلظة نكول،
لكن لا يبعد أن لا يكون النظر فيها إلى الكيفية بل المراد - كما عليه
الأكثر - هو الامتناع عن أصل اليمين وأنه إن لم يحلف فلا حق له.
وذكر في الجواهر وجه خلاف بعض العامة بقوله: ولعل وجهه
أنه لا فائدة في استحبابه للحاكم مع فرض عدم وجوبه على المدعى
عليه، مضافا إلى استمرار السيرة على توجيه اليمين مغلظة على
المنكر.. إلا أن ذلك كله كما ترى.
أي: لأن اللغوية ممنوعة، لأن أثر استحباب التغليظ للحاكم
هو تخويف المدعى عليه وتشديد الأمر عليه لئلا يقدم على اليمين
الكاذبة 2)، ولأن اتصال هذه السيرة بزمن النبي صلى الله عليه وآله

1) وسائل الشيعة: 18 / 172. الباب: 4 من أبواب كيفية الحكم.
2) كما عن أمالي الشيخ: " اختصم امرؤ القيس ورجل من
حضرموت إلى رسول الله " ص " في أرض فقال: ألك بينة؟ قال:
لا، قال: فيمينه. قال: إذن والله يذهب بأرضي. قال: إن ذهب
بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله
عذاب أليم. قال: ففزع الرجل وردها إليه " وسائل الشيعة: 18 / 172.
392

وسلم غير معلوم، ولو سلم فإنها لا تدل على وجوب الإجابة وأنه
لو امتنع كان ناكلا..
فالحاصل: إن في المسألة قولين الوجوب وهو لأصحابنا وعدم
الوجوب وهو لبعض العامة، ولا قائل بالاستحباب، وعن آخر من
العامة التفصيل بين التغليظ الزماني والمكاني فتجب الإجابة عليه فيه
وبين التغليظ القولي فلا تجب ولعله لاطلاق أدلة اليمين، وأما وجوبها
بالنسبة إلى الزماني والمكاني فلان للمدعي أن يؤخر استحلافه إلى
يوم الجمعة أو إلى المسجد مثلا وليس للمدعى عليه الامتناع من ذلك.
قال في الجواهر: وفيه أنه يمكن أن يكون الأمر بالعكس..
لكن في كشف اللثام الموافقة على ذلك، فلم يجوز الجبر في التغليظ
القولي، قال: أما بالزمان والمكان فيجبر عليهما، فإن اليمين حق
للمدعي..
أقول: إن التغليظ مطلقا مستحب للحاكم، والمستحب يتسامح
فيه، إلا أنهم دققوا النظر في المسألة من جهة ترتب أثر النكول وعدم
ترتبه على الامتناع عن الإجابة.
ثم هل يقتضي قوله عليه السلام: " لا يحلف أحد عند قبر النبي
صلى الله عليه وآله على أقل مما يجب فيه القطع " 1) بناءا
على قراءته بالتشديد جواز التغليظ في الحقوق والأموال كلها مطلقا
إلا على الأقل مما يجب فيه القطع، أي سواء كان عند قبره " ص " أو

1) وسائل الشيعة: 18 / 219.
393

غيره من الأماكن المشرفة، وسواء كان التغليظ مكانيا أو زمانيا؟
الانصاف: إن استفادة هذا الحكم الكلي من الخبر مشكل.
قال في الجواهر: ولو ادعى العبد - وقيمته أقل من نصاب
القطع - العتق فأنكر مولاه لم يغلظ، ولو رد فحلف العبد غلظ
عليه لأن العتق ليس بمال ولا المقصود منه المال.
الثاني: حكم ما لو حلف لا يجيب إلى التغليظ:
قال المحقق: " لو حلف لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه
لم تنحل يمينه ".
أقول: لو حلف الشخص على أن لا يحلف اليمين المغلظة
انعقدت يمينه ولو خالف وجبت عليه الكفارة، فإن التمسه خصمه
قال المحقق: لا تنحل يمينه، لعدم رجحان التغليظ، بل
إن مفاد بعض الأخبار كراهة اليمين المغلظة ومرجوحيتها.. وليس من شرط
متعلق اليمين أن يكون راجحا - كما هو الحال في متعلق النذر - بل
يشترط فيه أن لا يكون مرجوحا.
واستحباب احلاف الحاكم إياه كذلك لا يلازم استحباب إجابة
الحالف إليه. أقول: لكن يمكن القول بأن أدلة استحباب إجابة
دعوة المؤمن وقضاء حاجته توجب زوال الكراهة وتحقق الرجحان
لليمين المغلظة، نظير الصوم المستحب حيث يترجح الافطار منه
لو طلب ذلك، ونظير ما إذا نذر الولد ترك شئ كشرب التتن مثلا
حيث قالوا بانحلاله بأمر والده بفعل ذلك لأن فعله حينئذ يترجح
على تركه ومن شرط انعقاد النذر رجحان متعلقه.
394

بل الظاهر عدم انعقاد اليمين مع طلب المؤمن على أن لا يجيب.
على أن هناك أخبارا تدل على أن الرجل لو حلف يمينا على
أمر ثم رأى مخالفتها خيرا من الوفاء بها جاز له المخالفة بل استحب
ولا كفارة عليه.. فعن سعيد الأعرج: " سألت أبا عبد الله عليه
السلام عن الرجل يحلف على اليمين فيرى أن تركها أفضل، وإن
لم يتركها خشي أن يأثم أيتركها؟ قال: أما سمعت قول رسول الله
صلى الله عليه وآله: إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها " 1).
واستدل في الجواهر لما ذكره المحقق بأن " حق المستحلف
متأخر عن لزوم اليمين ". أي: أنه لما حلف على أن لا يجيب فقد
لزمت اليمين، وحق المستحلف في احلافه متأخر عن لزومها، وهذا
الدليل لا يلائم الدليل السابق عليه، لأنه مع فرض عدم استحباب
الإجابة لعدم الملازمة لا يبقى حق للمستحلف، إلا أن يكون هذا
الوجه بعد الغض عن ذاك الوجه السابق له.
ثم قال: وما ورد من أن طرو أولوية المحلوف على تركه يبيح
الحل لا يجدي، إذ لا أولوية للحالف وإن التمسه الخصم أي طلبه
منه.. وهذا الكلام إشارة إلى خبر سعيد الأعرج ونحوه الظاهر
في جواز المخالفة بل استحبابها.
قال: لكن في الدروس: ولو حلف على عدمه ففي انعقاد يمينه
نظر من اشتمالها على ترك المستحب ومن توهم اختصاص الاستحباب

1) وسائل الشيعة: 16 / 145. الباب: 18، كتاب الأيمان.
395

بالحاكم. وقد اعترض عليه بقوله: وفيه أنه لا خلاف أجده في
اختصاص الاستحباب به، بل في الرياض: نسبته إلى ظاهر النص
والفتوى بخلاف من عليه الحلف فإن الأرجح له ترك التغليظ بل
الأرجح له ترك الحلف بالله.. ومن هنا قال في كشف اللثام معرضا
بما سمعته من الدروس: واحتمال عدم انعقاد اليمين باستحباب التغليظ
في غاية الضعف ".
قلت: لكن كاشف اللثام ممن قال بالفرق بين التغليظ القولي
وبين التغليظ الزماني والمكاني فاختار لزوم الإجابة في الثاني دون
الأول. وعلى هذا المبنى لا مانع من القول بانحلال اليمين السابقة
على عدم الإجابة.
ثم إن اليمين تارة تكون في المرافعات المالية فهنا يمكن أن
يقال بتخيير المدعى عليه بين اليمين وبين دفع المال المدعى، ولكن
هل يمكن أن يكون الشئ الواجب بالوجوب التخييري مكروها في
نفس الوقت؟ وأخرى تكون في الجنايات فإنه إذا لم يحلف حينئذ
يجري القصاص في حقه فيكون الحلف حينئذ واجبا عليه بالوجوب
التعييني، وحيث تجب اليمين فكيف يقال بكراهتها؟ فمن هنا قال
في الجواهر: ولكن الانصاف عدم خلو المسألة بعد من اشكال..
وكذا الأمر بالنسبة إلى التغليظ، ولذا قال " قده ": بل وكذا المغلظة
منها بعد أمر الحاكم بها كذلك..
قال: بل لا يخفى استبعاد رجحان التغليظ للحاكم على وجه
396

يأمر به من عليه اليمين مع استحباب عدمه من الحالف وإن كان
خالفا للحاكم الذي لا ينبغي أن يأمره بما هو مكروه في حقه كما
هو مقتضى القول المزبور.
فتلخص أن ما ذكره المحقق " قده " مشكل
أقول: تارة يجتمع حكمان من الأحكام الخمسة في موضوع
واحد مثل: " أنقذ الغريق، ولا تغصب " فيمن اتفق غرقه في مكان
مغصوب، وحينئذ يتقدم أحدهما الأهم بحكم العقل.
وتارة يتوجه أحد الحكمين إلى ذات الموضوع والآخر إلى
ذاك الموضوع مقيدا بأن لا يتوجه إليه حكم آخر، وحينئذ لا ريب
في تقدم الحكم الأول على الثاني في حال اجتماعهما، ومن هنا قلنا
بوجوب الحج على من نذر قبل حصول الاستطاعة أن يزور الحسين
عليه السلام في كل عرفة ثم حصلت له الاستطاعة، وانحلال نذره
المذكور، خلافا لصاحب العروة " قده "، لأن الشرط في وجوب الحج
هو الاستطاعة من حيث المال والبدن وتخلية السرب، وحيث تحقق
ذلك كانت الاستطاعة متحققة ووجب الحج، لأن الأمر بالحج متوجه
إلى ذات الحج، والأمر بالوفاء بالنذر في حقيقته متوجه إلى زيارة
عرفة المقيدة بعدم استلزامها لتفويت الحج 1).

1) قال السيد بأن الحج مشروط بالاستطاعة الشرعية بالإضافة
إلى الاستطاعة من حيث المال والبدن وتخلية السرب، وقد أفتى
بناء على ذلك بعدم وجوب الحج على من نذر قبل حصول الاستطاعة
المالية والبدنية أن يزور الحسين عليه السلام في كل عرفة، لأن الوفاء
بهذا النذر واجب ولو حج لفات هذا الواجب، فهو معذور شرعا
من الحج لعدم الاستطاعة الشرعية كالعقلي في المنع
من الوجوب. وقد ذكر سيدنا الأستاذ في حاشية العروة إن الشرط
في وجوب الحج على ما يستفاد من الروايات هو الاستطاعة من حيث
المال والبدن وتخلية السرب، وأما عدم تفويت واجب آخر
فلا يستفاد منها ولذا يجب الحج في الفرض المذكور
397

وفيما نحن فيه إن كان الأمر بالحلف المغلظ متوجها إلى ذات
اليمين من دون قيد الرجحان وكان الأمر بالتزام ما حلف عليه سابقا
مقيدا بعدم استلزام ذلك لترك ما هو الرجح فإنه يتقدم أمر الحاكم
باليمين المغلظة إجابة لالتماس الخصم وتنحل اليمين السابقة.
كيفية استحلاف الأخرس:
قال المحقق: " وحلف الأخرس بالإشارة، قيل: وضع يده
على اسم الله في المصحف أو يكتب اسمه سبحانه ويوضع يده عليه،
وقيل: يكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد اعلامه فإن
شربه كان حالفا وإن امتنع ألزم الحق استنادا إلى حكم علي عليه
السلام في واقعة الأخرس ".
أقول: فالأقوال في كيفية استحلاف الأخرس مختلفة، ومستند
الأخير صحيحة محمد بن مسلم التي ذكرناها سابقا، وربما يستظهر
398

منها التعيين ولكن الأصحاب لم يعملوا بها بهذا الوصف، إذ لعل
الإمام عليه السلام كان عالما بحقيقة الحال وواقع الأمر في تلك
الواقعة، وقد يؤيد ذلك بحكمه " ع " بعد امتناعه عن الشرب من
دون رد لليمين على المدعي، وقد يقال بكونها قضية في واقعة لا سيما
بالنظر إلى ما ذكر، أو أن ذلك من كيفية من أنحاء استحلاف الأخرس:
والحق أنه لا يستفاد منها الحصر، لأن لفظ اليمين الذي كتبه الإمام عليه
السلام يختلف من حيث التغليظ عما جاء في الأخبار الأخرى، ولذا
احتاط في الجواهر بالجمع بين الإشارة المفهمة التي بها يتم العقد
والايقاع وغيرها من الأخرس وبين الكيفية المذكورة مع رضاه
بشرب ذلك الماء وإلا فالإشارة.
هل يشترط كون الاستحلاف في مجلس الحكم؟
قال المحقق: " ولا يستحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس قضائه
إلا مع العذر كالمرض المانع وشبهه.. ".
أقول: لقد ادعي الاجماع على هذا الحكم، وظاهر الجواهر
أن الاستحلاف في مجلس القضاء والحكم - أي كونهما في مجلس
واحد - من شرائط نفوذ الحكم، فتكون عبارة المحقق هذه كقوله:
" لا يستحلف أحد إلا بالله.. " ونحوه، ويكون نتيجة ذلك أنه لو
استحلفه في غير ذاك المجلس من غير عذر لم يؤثر الحكم المتعقب
له.. قال في الجواهر: ولعله لأصالة عدم انقطاع الدعوى بغيره
بعد الشك أو الظن بعدم تنازل الاطلاق الوارد في تعليم ميزان القضاء
399

للحكام لغير الغرض ولو للاتفاق المزبور، بل يمكن دعوى انسباق
ذلك منه خصوصا النصوص المستفيضة المشتملة على الشكوى من
نبي من الأنبياء إلى الله تعالى من القضاء بما لم تر العين ولم تسمع
الإذن فقال: " اقض بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي يحلفون به " 1)
الظاهرة في مباشرة ذلك بنفسه، فلا تصح الاستنابة فيه حينئذ.
لكن في المسالك جعل المراد من العبارة الكراهة، فإنه قال:
قد تقدم أن مكان التغليظ المستحب للحاكم المسجد ونحوه، وحينئذ
فالنهي عن الاستحلاف في غير مجلس القضاء المراد به منه الكراهة
إنما يتم على تقدير كون مجلس القضاء من أمكنة التغليظ وإلا لم
يتم النفي والنهي مطلقا، أو يحمل على يمين لا تغليظ فيها.
بل ظاهر السرائر أن استحلافه في مجلس الحكم من الأمور
المستحبة للحاكم، فإنه قال: " وينبغي للحاكم أن لا يحلف أحدا
إلا في مجلس الحكم.. " فيكون من المستحبات مثل استحباب
التغليظ للحاكم.. وبناء عليه يتوجه البحث عن استحباب ذلك
للحالف أيضا وعدمه..
ولكن الأكثر على الأول وهو جعل " لا يستحلف " عزيمة ولذا
تعرضوا إلى نفوذ الحكم وعدمه بدون ذلك، ولو كان مكروها أو
مستحبا لم يكن لذلك البحث هنا وجه، ولما تمسكوا بالأصل.
أقول: إلا أن الشك الذي ذكره في الجواهر مسبب عن الشك

1) وسائل الشيعة: 18 / 167.
400

في شرطية الاستحلاف في مجلس الحكم لنفوذ الحكم، فيكون
المرجع هو البراءة وتكون النتيجة نفوذ الحكم، وأما الخبر الذي
ذكره " قده " فإن ظهوره في المباشرة ليس لفظيا، نعم اللازم العقلي
لتوجه الخطاب بإضافة الحاكم ذلك إلى اسمه تعالى هو المباشرة،
إلا إذا قامت قرينة على أن المطلوب غير مشروط بالمباشرة، وحيث
لا قرينة فلا حجة للمخاطب على الترك.
ثم إن بعض الأمور تقبل الوكالة عرفا كالعقود فتشملها أدلة
الوكالة وإن كانت أدلة تلك الأمور ظاهرة في المباشرة، لأن أدلة
الوكالة تنزل الغير منزلة الوكيل، فإن كان الاستحلاف منها شملته
أدلة الوكالة كذلك ولم يلزم مباشرة الحاكم له بل يكفي استحلاف
وكيله، ويكفي استحلافه سواء كان في المجلس أو غيره عملا باطلاق
" البينة على المدعي واليمين على من أنكر "، وإن كان الاستحلاف
من الأمور غير القابلة للتوكيل كما هو الأصل في العبادات فالمباشرة
لازمة..
هذا كله إلا مع العذر كالمرض المانع من الحضور وشبهه، فإن
الأكثر - بل نفي الخلاف فيه - على الحاكم يستنيب من يحلفه في
مكانه، وكذا المرأة التي لإعادة لها بالبروز إلى مجمع الرجال
فإنه يرسل إلى منزلها من يستحلفها.. وقيل: يجب على الحاكم
المضي بنفسه مع فرض عدم النقص عليه، وقيل بالتوقف حتى يزول
العذر.
401

قلت: لكن أدلة الوكالة مطلقة تعم صورة الاختيار والاضطرار
فإن كان الأمر يقبلها جاز التوكيل فيه مطلقا وإلا فلا كذلك، اللهم
إلا أن يكون اجماع، فالأحوط هو القول الأول، وعند الاضطرار
فالقول الثاني مع فرض عدم النقص عليه وإلا فالثالث، اللهم إلا إذا
استلزم التوقف الضرر.. وإن كان القول بعموم أدلة الوكالة - إلا
ما خرج بالدليل - غير بعيد، ويشهد به تجويز هم لذلك عند الاضطرار
وقد تقدم سابقا بعض الإشارة إلى ذلك 1).

1) في البحث عن جواز التوكيل في القضاء وعدمه.
402

البحث الثاني
(في يمين المنكر والمدعي)
قال المحقق " قده ": " اليمين تتوجه على المنكر تعويلا على
الخبر، وعلى المدعي مع الرد ومع الشاهد الواحد، وقد تتوجه
مع اللوث في دعوى الدم ".
أقول: الأصل في اليمين أن تتوجه على المنكر، وقد استثنى من
ذلك موارد ذكر المحقق " قده " ثلاثة منها: " أحدها " رد المنكر اليمين
على المدعي، " والثاني " ثبوت الدعوى بيمين المدعي مع الشاهد
الواحد في دعوى الدين، " و " الثالث " ما إذا كانت دعوى المدعي في
القتل مقرونة بالظن، فهنا تتوجه إليه اليمين على تفصيل ذكر
في محله.
وتتوجه اليمين على المدعي في الدعوى على الميت مع البينة
وفي الموارد التي لا تعلم حقيقة الحال فيها عادة إلا من قبل المدعي،
كما إذا طلقت المرأة فادعت كونها غير طاهرة عند الطلاق.
403

والحاصل أن الأصل توجهها على المنكر، وهذا الأصل قانون
كلي مستفاد من الأخبار 1)، ويكون المرجع في كل مورد شك في
توجه اليمين فيه على المدعي أو المنكر.. وقد جاء في أكثر تلك
الأخبار: " واليمين على المدعى عليه " لكن الفقهاء يعبرون عنه
ب‍ " المنكر "، ولعله من جهة أن المدعى عليه قد لا تجب عليه اليمين
كما إذا أقر بما يدعيه المدعي.
وهذه الأخبار تقيد اطلاق قوله صلى الله عليه وآله: " إنما
أقضي بينكم بالبينات والأيمان " 2) لو كان مطلقا.
قال: " ولا يمين للمنكر مع بينة المدعي ".
أقول: ويدل على ذلك النصوص أيضا 3).
قال: " لانتفاء التهمة عنها ".
أقول: أي لما يقيم المدعي البينة وهي حجة شرعية من دون
ضم يمين إليها تنتفي التهمة عن الدعوى.
قال: " ومع فقدها فالمنكر مستند إلى البراءة الأصلية فهو أولى
باليمين ".

1) وسائل الشيعة: 18 / 170، الباب 3 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى.
2) وسائل الشيعة: 18 / 169.
3) وسائل الشيعة: 18 / 176. الباب: 7 من أبواب كيفية الحكم
وأحكام الدعوى.
404

أقول: هذا معنى آخر للأصل المذكور سابقا، فإنه مع فقد
المدعي للبينة يكون المنكر مستندا إلى البراءة الأصلية، إذ الأصل
براءة ذمة المنكر عما يدعيه المدعي، وحيث ادعي عليه فهو أولى
باليمين من المدعي، فإن حلف سقطت الدعوى.
وأما استحلاف المدعي الذي لا بينة له على ما يدعيه فيتوقف
جوازه على وجود دليل في مقابل الأصل الذي يقتضي براءة ذمة
المدعى عليه، وأما " إنما أقضي بينكم.. " فقد ذكرنا أن المراد
منه بيان ميزان القضاء وليس فيه تعرض إلى من عليه البينة ومن عليه
اليمين، فلا اطلاق له.
على أن يد المنكر على مورد الدعوى لا ترتفع بيمين المدعي
وأما تقدم البينة على اليد فقد ثبت بالدليل.
أقول: لكن الظاهر أن هذا المعنى لا يصلح لأن يكون الحكمة
لجعل الشارع اليمين وظيفة للمنكر، وليس معنى آخر للقاعدة
الكلية في المقام بحيث يكون المرجع لدى الشك لولا النصوص
المشار إليها.
حكم ما إذا كان الحلف على نفي فعل الغير وفروع ذلك
قال المحقق: " ومع توجهها يلزم الحلف على القطع مطردا
إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم ".
أقول: هذا أحد الأقوال في المسألة، وفيها قولان آخران:
أحدهما: لزوم أن يكون الحلف على نفي العلم دائما، لأن
405

المؤثر هو العلم، فلو ادعى على زيد حقا كان مجرد عدم علمه بالحق
كافيا لعدم ثبوته ولا حاجة إلى نفيه كونه مدينا للمدعي.
والثاني: لزوم كون الحلف على البت والقطع سواء كان على
فعله أو فعل غيره، إذ لا معنى للتقابل بين الواقع ونفي العلم به، بل
إن اليمين يجب أن تكون دائما مع الجزم واليقين بنفي الدعوى
مطلقا.
أقول: والذي وجدنا في النصوص هو الحلف والاستحلاف
على نفي المدعى، ولم نجد في شئ منها أن يحلف على نفي العلم 1)
وكيف كان فالمعتبر هو الجزم سواء قلنا بأن نفي المدعي يستلزم
نفي العلم به أو لا، وقد أفتى بعضهم بأنه حيث ينكر المدعى به له
أن يحلف على نفيه وأن يحلف على نفي العلم به، وأما على القول
بلزوم اليمين على نفي المدعى على البت فلا يكفي اليمين على نفي
العلم حينئذ.
وبناءا على القول الثاني لو ادعى عليه دينا ولا بينة له وجب
عليه الأداء في صورة العلم بكونه مدينا، ومع الشك لا يجب لأصالة
البراءة، فإن ادعى علمه بذلك ونكل المدعى عليه عن اليمين ثبت
الحق ووجب عليه الأداء، وحينئذ يتوجه على هذا القول أنه لا يمكن
أن يكون الميزان اليمين على نفي العلم في كل مورد مع أنه مخالف

1) أنظر: خبر عبد الرحمان بن أبي عبد الله، وخبر ابن أبي يعفور
وخبر كيفية احلاف الأخرس، وقد وردت نصوصها في الكتاب.
406

لظواهر النصوص المشار إليها، ومن هنا حمل هذا القول على
كون الدعوى على فعل الغير مع دعوى كون المدعى عليه عالما
فهناك يحلف على نفي العلم.
ثم إنه لو ادعي عليه ما ليس يعلمه ولم يطلب منه اليمين على
نفي العلم سقطت الدعوى، لأن الجواب بنفي العلم بمنزلة الانكار
فإن لم يكن له بينة ولم يستحلفه كانت الدعوى ساقطة.
هذا، وهنا فروع يشكل حكمها والحاقها بأحد القسمين، قال
المحقق: " فلو ادعي عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر حلف
على الجزم، ولو ادعي على أبيه الميت لم يتوجه اليمين ما لم يدع
عليه العلم فيكفيه الحلف أنه لا يعلم ".
أقول: أما في الفرع الأول فلأن الابتياع مثلا فعل نفسه فإذا أنكر
حلف على الجزم، وأما في الفرع الثاني فلا تتوجه عليه اليمين لأنه
فعل الغير، فإن ادعي عليه العلم بفعل أبيه الميت مثلا كفاه الحلف
على أنه لا يعلم.
هذا وظاهر قوله: " فيكفيه الحلف أنه لا يعلم " هو فصل الخصومة
بهذا الحلف، وأما إذا لم يحلف كانت الخصومة باقية وتسمع بينة
المدعي حينئذ، وسيأتي بيان ذلك قريبا.
ومن الفروع ما ذكره بقوله: " وكذا لو قال قبض وكيلك ".
يعني: أنه لو طالبه بحقه فقال له: قبض وكيلك، فإن كان يعلم
بعدم القبض جاز له الحلف على الجزم على قول، وقيل لا يجوز
لأنه فعل الغير. (*)
407

أقول: لكن قد يحصل له العلم والجزم بعدم القبض وإن كان
فعل غيره، فحينئذ يجوز له الحلف على القطع، لأن المنع عن اليمين
على فعل الغير هو من جهة الجهل به غالبا، فإن علم به جاز، كما
إذا قال المدين: قبضه وكيلك الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة
وقد كان الوكيل عند موكله المدعي يوم الجمعة من أول الصبح
حتى الظهر مثلا، فإنه حينئذ يجوز للموكل أن يحلف على البت
على نفي القبض لعلمه الجازم بذلك..
فإن لم يعلم الموكل لم يجز له الحلف، وكذا لا يحلف على
نفي العلم ما لم يدع عليه ذلك، وحيث لا بينة للمدعى عليه على
الأداء وجب عليه دفع الحق.
وفي الجواهر عن كشف اللثام: " فإذا حلف الموكل أثبت
المدعى قبض الوكيل أو حلف على البراءة. وفيه: أنه لا وجه
للحلف بدون رضا الموكل. ".
أقول: ليس في كشف اللثام ما يفيد ذلك، وهذا نص كلامه
معلقا على قول العلامة: " ولو قال قبض وكيلك حلف على نفي العلم "
بقوله: " دون البت، لأنه فعل الغير وإن قيل أن يده وقبضه قبضه "
نعم في القواعد فرع آخر ذكره بقوله: " ويكفي مع الانكار الحلف
على نفي الاستحقاق وإن نفى الدعوى على رأي ".
هذا، ولكن قال المحقق الآشتياني " قده " أنه لو ادعى علمه
بالقبض لم تسمع دعواه - لا أنه يحلف لنفيه - لأن علم الموكل
لا يلازم صدق الدعوى، إذ قد يكون جهلا مركبا، ولا يكون حجة
408

للحاكم حتى يحكم على طبقه.
وفيه: أنه منقوض بما لو ادعي علمه بقبض الوكيل فصدقه
الموكل، فإن هذا التصديق يكون بمنزلة الاقرار عرفا وإن احتمل
عقلا كونه جهلا مركبا، فظهر أن لدعوى العلم بالقبض أثرا ولا أقل
من نهي الحاكم إياه عن المطالبة حينئذ، فلماذا لا تسمع؟
ومن الفروع ما ذكر في المسالك والجواهر: لو ادعى عليه
أن عبده جنى على المدعي ما يوجب استحقاقه أو بعضه فأنكر فوجهان
من أنه فعل الغير فيحلف على نفي العلم، ومن أنه عبده ماله وفعله
كفعل نفسه ولذلك سمعت الدعوى عليه فيحلف على البت.
فعلى الثاني إن لم يحلف يكون ناكلا بخلاف الأول فلا يكون
ناكلا بعدم الحلف، فإن كان للمدعي بينة على الجناية فهو وإلا سقطت
دعواه.
ومنها: إذا ادعي عليه أن بهيمته أتلفت زرعا له مثلا حيث يجب
الضمان باتلاف البهيمة فأنكر فهل يحلف على البت لأنه الذي يضمن
الضرر بتقصيره في حفظها أولا لأنه فعل الغير؟ قولان، وعن الشهيد
قدس سره: إن العبد يخالف البهيمة من وجهين " الأول ": إن البهيمة
لا تضمن جنايتها إلا مع التفريط بخلافه " الثاني ": إن جناية العبد
تتعلق برقبته، فإذا أتلف لم يضمن مولاه بخلاف البهيمة، فإنها إذا
أتلفت بتفريط فإن المالك يضمن جنايتها ولا تتعلق برقبتها.
ومنها: لو نصب البائع وكيلا ليقبض الثمن ويسلم المبيع
فقال له المشتري: إن موكلك أذن في تسليم المبيع وأبطل حق
409

الحبس وأنت تعلم، فهل يكتفي بالحلف على نفي العلم لأنها لنفي
فعل الغير، أو لا بد من اليمين على البت لأنه يثبت لنفسه استحقاق
اليد على المبيع فإن لم يحلف قضى عليه بالنكول أو برد اليمين؟
وجهان.
ومنها: لو طولب البائع بتسليم المبيع فادعى حدوث عجز
عنه وقال للمشتري: أنت عالم به. قيل: يحلف على البت لأنه
يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع إليه، ويحتمل الحلف على نفي
العلم، لأن متعلقه فعل الغير.
ومنها: ما لو مات عن ابن في الظاهر فجاء آخر فقال: أنا أخوك
فالميراث بيننا فأنكر، قيل: يحلف على البت أيضا لأن الإخوة رابطة
جامعة بينهما، ويحتمل قويا حلفه على نفي العلم.
ثم إن المراد من " الغير " هو أن لا يكون الفعل مستندا إلى نفسه
مع الالتفات وإن لم يكن مستندا إلى " غيره ".
هذا، وقد اعترض صاحب الجواهر على القول الأول بعد ذكر
الفروع المذكورة بقوله: " ولكن تحقيق الحال في ذلك متوقف
على تحقيق اقتضاء الدعوى المتعلقة بفعل الانسان نفسه نفيا واثباتا
وبفعل الغير اثباتا: يمينا على البت أو ردا، وإلا كان ناكلا قضى
عليه به أو بردها من الحاكم، ولا يجديه الجواب بنفي العلم وإن
صدقه المدعي فضلا عما لو ادعاه عليه أيضا، فإن جميع هذه الفروع
مبنية على ذلك، وقد تقدم سابقا في جواب المنكر ما يستفاد منه
410

المناقشة في ذلك ونزيد هنا بأنه لا دليل على تسبيبها ذلك.. " ثم
إنه " قده " انتهى إلى القول: " وبذلك يظهر لك حينئذ ما في الفروع
السابقة جميعها، وأنه لا فرق في الحكم فيها بين القول بتعلقها في فعل
الغير أو فعل المدعى عليه في الاجتزاء بيمين نفي العلم مطلقا أو
إذا ادعى عليه، وإلا كان طريق اثباتها منحصرا في البينة.. ".
لكن الأظهر كون اليمين على البت، لأنه مقتضى أدلة وجوبها
على المنكر، فإن كانت الدعوى على الواقع وهو ينكرها حلف على
البت سواء كان على نفي فعل نفسه أو غيره، وإن كانت على علمه
وهو ينكره حلف على نفيه كذلك مطلقا.
ولو كان شاكا في صدق دعوى المدعي لم يمكنه اليمين سواء
كانت على فعل نفسه أو غيره، فلا يمكنه رد الحلف على المدعي،
وإذ ليس للمدعى بينة على دعواه - كما هو المفروض - تسقط
الدعوى لانحصار سبب الحكم في بينة المدعي ويمين المنكر وكلاهما
منتفيان، فإن ادعى عليه العلم بالواقع بعدئذ كانت دعوى جديدة
وكان له الحلف على نفيه.
فيكون الحاصل لزوم كون اليمين على البت مطلقا.
وهل اليمين بنفي العلم تفصل الخصومة كيمين المنكر على عدم
الحق فلا يستمع إلى بينة المدعي بعدها أو لا؟ قال المشهور بالأول
وهو ظاهر قول المحقق " قده ": " فيكفيه الحلف على أنه لا يعلم "
أي: فيكفيه فاصلا للخصومة، بمعنى أن الحاكم إن حكم على
طبقها لم تسمع بينة المدعي بعدها على أصل الدعوى، لأن معنى
411

" واليمين على من أنكر " و " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان "
هو القضاء بكل يمين كان وظيفة المدعى عليه بذلها، فحيث ادعى
عليه العلم وحلف على نفيه وحكم الحاكم فصلت الخصومة. على
أن ظاهر المدعي الفاقد للبينة على ما يدعيه من الحق هو رضاه
بيمين المدعى عليه في نفي دعواه علمه بالواقع، وقد دلت الأخبار
على أن من رضي بيمين خصمه سقط حقه 1)، فإذا حلف فقد حصل
سبب الحكم وبصدوره تنفصل الخصومة ولا تسمع البينة بعدئذ،
بخلاف ما إذا لم يطلب منه اليمين على نفي العلم فإنها تسمع لأن
الخصومة باقية وليس للحاكم احلافه، لما تقدم من أنه لا يستحلفه
إلا بالتماس المدعي.
وبعبارة أخرى: عندما يحلف بنفي العلم تسقط دعوى العلم،
وحينئذ لا ملزم للمدعى عليه بدفع الحق لعدم البينة، فيكون أثر
الحلف على نفي العلم - مع حكم الحاكم - فصل الخصومة وعدم
سماع البينة، فيكون الحاصل: إن الحلف على نفي العلم لا ينفي
الواقع ولكنه لا يبقى المجال لأن يتمكن المدعي من الالزام بدفع
شئ بإقامة البينة على الدعوى.
هذا كله بناء على عدم جواز الحلف على البت بمقتضى الأمارات
والأصول، وإلا كان له الحلف على نفي الواقع بالاستناد إلى الحكم
الظاهري، فما هو المستفاد من الأدلة؟؟

1) وسائل الشيعة: 18 / 178. الباب: 9 من أبواب كيفية الحكم.
412

الظاهر عدم الخلاف في أن اليد أمارة على الملكية، فكلما
كان تحت سلطنة الشخص من غير معارض يكون له ملكا له 1)، ومن
هنا يجوز له أنحاء التصرف فيه، ويجوز لغيره الاخبار - في غير
مورد المرافعة - عن كون الشئ ملكا له استنادا إلى كونه تحت يده.
هل يجوز الحلف اعتمادا على اليد والاستصحاب؟
وهل يجوز الحلف اعتمادا على اليد؟ قولان.
ويدل على الجواز:
1 - خبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام: " قال
له رجل: إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له؟
قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعله لغيره.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: أ فيحل الشراء منه؟ قال: نعم. فقال
أبو عبد الله عليه السلام: فلعله لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه
ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز
أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثم قال أبو عبد الله عليه
السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق " 2).
بل قد يستظهر من قوله " وتحلف عليه " إن كلما يجوز الحلف
اعتمادا عليه تجوز الشهادة كذلك.

1) وسائل الشيعة: 18 / 214. الباب: 25 من أبواب كيفية الحكم.
2) وسائل الشيعة: 18 / 215.
413

2 - خبر علي بن إبراهيم في تفسيره بسنده عن أبي عبد الله عليه
السلام في حديث فدك أن أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر:
" أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن
كان في يد المسلمين شئ يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة؟
قال: إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين. قال: فإذا
كان في يدي شئ فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي
وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده ولم
تسأل المؤمنين البينة على ما ادعوا علي كما سألتني البينة على ما
ادعيت عليهم.. " 1).
وأمارة الصدق على هذا الخبر لائحة مع حسنه سندا 2).
ويدل على جواز الشهادة و الحلف اعتمادا على الاستصحاب
خبر معاوية بن وهب قال: " قلت له: إن أبي ليلى يسألني الشهادة
عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثا وأنه ليس له وارث غير الذي
شهدنا له. فقال: اشهد بما هو علمك. قلت: إن أبي ليلى يحلفنا
الغموس. فقال: احلف إنما هو على علمك " 3).
ويدل على الجواز في خصوص الشهادة خبره الآخر: " قلت
لأبي عبد الله عليه السلام: الرجل يكون له العبد والأمة قد عرف

1) وسائل الشيعة: 18 / 215.
2) ويكون صحيحا بناء على كون " إبراهيم بن هاشم " ثقة. 3) وسائل الشيعة: 18 / 245. الباب: 17 من أبواب الشهادات.
414

ذلك فيقول: أبق غلامي أو أمتي فيكلفونه القضاة شاهدين بأن هذا
غلامه أو أمته لم يبع ولم يهب أنشهد على هذا إذا كلفناه؟ قال: نعم " 1).
لكن يعارضه المنع الوارد في ذيل خبر آخر له وإن كان صدره
دالا على الجواز كذلك، وهذا نص الخبر بتمامه " قلت لأبي عبد الله
عليه السلام: الرجل يكون في داره ثم يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع
فيها عياله، ثم يأتينا هلاكه ونحن لا ندري ما أحدت في داره ولا ندري
ما أحدت له من الولد، إلا أنا لا نعلم أنه أحدث في داره شيئا ولا حدث
له ولد ولا تقسم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى
يشهد شاهدا عدل أن هذه دار فلان ابن فلان مات وتركها ميراثا بين
فلان وفلان، أو نشهد على هذا؟ قال: نعم.
قلت: الرجل يكون له العبد والأمة فيقول: أبق غلامي أو أبقت
أمتي فيؤخذ بالبلد فيكلفه القاضي البينة أن هذا غلام فلان لم يبعه
ولم يهبه أفنشهد على هذا إذا كلفناه ونحن لم نعلم أنه أحدت شيئا؟
فقال: كلما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك
لم تشهد به " 2).
وهذا الذيل والخبر المتقدم كلاهما واردان في مورد الترافع
فحمل المانع على هذا المورد والمجوز على أن المراد من الشهادة
فيه هو الاخبار عن الواقع استنادا إلى الاستصحاب خلاف الظاهر

1) وسائل الشيعة: 18 / 246. الباب: 17 من أبواب الشهادات.
2) وسائل الشيعة: 18 / 246. الباب: 17 من أبواب الشهادات.
415

والأولى الجمع بينهما بحمل الخبر المانع على الكراهة لأنه ينافي
رغبة الشارع وترغيبه في انعتاق الإماء والعبيد بشتى الوسائل مهما
أمكن.
هذا كله بالنظر إلى الأدلة الخاصة، ويمكن الاستدلال لذلك
بعمومات أدلة الاستصحاب واليد، إذا المستفاد من خبر حفص بن
غياث عدم اعتبار العلم بالواقع عند الشهادة، وعليه فإن شهد بأن
هذا ملكه ترتبت آثار الملكية بلا ريب، وكذا في الاستصحاب،
فحيث يستصحب طهارة الثوب مثلا وتجوز الصلاة فيه يجوز الحلف
على هذه الطهارة أيضا ولا مقيد بكونها طهارة واقعية حتى يجوز
الحلف
ثم إن الدعوى تبرز تارة بحيث يكون للمدعى عليه الحلف
على البت وإن كانت في الواقع متعلقة بفعل الغير كأن يقول له:
" الذي في يدك لي " وأخرى تبرز على وجه لا يكون له ذلك، كأن
يقول له: " الذي بيدك قد غصبه مورثك " فهنا يحلف على نفي العلم.
متى يحلف المدعي؟
قال المحقق: " أما المدعي ولا شاهد له فلا يمين عليه ".
أي: لما تقدم مرارا من قوله صلى الله عليه وآله: " البينة
على المدعي واليمين على من ادعي عليه ".
قال: " إلا مع الرد أو نكول المدعى عليه على قول ".
أي: بناءا على القول بتوجه اليمين على المدعي مع نكول
416

المدعى عليه وأما على القول الآخر فيثبت حق المدعي بنكول المدعى
عليه من دون يمين.
قال: " فإن ردها المنكر توجهت، فيحلف على الجزم، ولو
نكل سقطت دعواه اجماعا ".
أي: وتنفصل الخصومة فلا تسمع دعواه بعدئذ.
قال: " ولو رد المنكر اليمين ثم بذلها قبل الاحلاف، قال
الشيخ: ليس له ذلك إلا برضا المدعي. وفيه تردد منشؤه أن ذلك
تفويض لا اسقاط ".
أقول: والظاهر أنه تفويض لا اسقاط، وهو مقتضى عمومات
واطلاقات: " واليمين على المدعى عليه "، إذ القدر المتيقن خروج
صورة الرد مع حلف المدعي، بل هو مقتضى استصحاب جواز حلف
المنكر أو بقاء حقه في الحلف الثابت له قبل الرد، ولا ينافيه ما في
النصوص من التعليل بقوله عليه السلام: " لأنه رضي.. " لأن
المراد هو أن اليمين التي كانت برضاه تذهب بحقه لا أن مجرد رضاه
بيمينه يسقطه.
قال: " ويكفي مع الانكار الحلف على نفي الاستحقاق.. ".
أقول: قد يدعي المدعي الحلف ولا يذكر سبب الاستحقاق،
وقد يذكره أيضا، فإن لم يذكر السبب حلف المنكر على نفي الحق،
وإن ذكره كان بالخيار، فله أن يحلف على نفي الحق، وله أن يحلف
على نفي الاستحقاق بحيث يعم ذاك السبب وغيره، إذ لا فرق بين
417

نفي عين المدعى وبين نفي الأعم.
وعن الشيخ " يلزمه الحلف على وفق الجواب، لأنه لم يجب
به إلا وهو قادر على الحلف عليه ".
ولكن مقتضى اطلاقات أدلة البينة هو الأول.
قال المحقق " قده ": " ولو ادعى المنكر الابراء أو الاقباض
فقد انقلب مدعيا والمدعي منكرا، فيكفي للمدعي اليمين على بقاء
الحق، ولو حلف على نفي ذلك كان آكد لكنه غير لازم ".
أقول: أي أنه لا خلاف هنا على أن له أن يقول: والله لم أبرأ
ذمتك، أو: والله ما أقبضتني حقي، وله أن يقول: والله إن حقي باق،
بخلاف الفرع السابق حيث كانت المسألة خلافية.
قال: " وكل ما يتوجه الجواب عن الدعوى فيه يتوجه معه
اليمين ويقضى على المنكر به مع النكول كالعتق والنسب والنكاح
وغير ذلك، وعلى القول الآخر ترد اليمين على المدعي ويقضى له
مع اليمين وعليه مع النكول ".
أقول: إن بعض الدعاوي تسقط مع عدم البينة ولا يمين فيها
على المنكر مثل الدعوى في الحدود، فلو أحضر زيدا عند الحاكم
وادعى عليه شرب الخمر لم يثبت بهذه الدعوى حق فلذا لا يسمعها
الحاكم، وأما لو كان له بينة على ذلك حكم بوجوب الحد عليه.
وبعض الدعاوي يحلف المنكر فيها على النفي عند عدم البينة
مثل الدعوى على مال أو حق.
وبعض الدعاوي وقع الخلاف فيها بين العامة والخاصة مثل
418

الدعوى على الطلاق والنكاح، فالأصحاب على أن اليمين تتوجه
على المنكر مع عدم بينة المدعي، وخالف بعض العامة فمنع من
توجه الحلف على المنكر في الأبواب المذكورة لأن المطلوب من
التحليف الاقرار أو النكول ليحكم به، والنكول عن اليمين نازل
منزلة البذل والإباحة، ولا مدخل لهما في هذه الأبواب، وخالف
بعض آخر منهم، فخص التحليف فيما يثبت بشاهدين ذكرين الحاقا
له بالحد.
وعمومات واطلاقات " واليمين على المدعى عليه " و " على من
أنكر " تبطل ما ذهبوا إليه، وما ذكر في وجه المنع استحسان محض،
وقد تقدم أن اليمين تتوجه على المنكر في كل مورد أوجب حقا
بخلاف الدعوى في الحدود.
مضافا إلى خصوص ما رووه: " إن ركانة أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال:
يا رسول الله طلقت امرأتي البتة. فقال: ما أردت بألبتة؟ قال: واحدة
فقال: والله ما أردت بها إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت بها
إلا واحدة، فردها إليه، ثم طلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في
زمن عثمان " 1) حيث اكتفى فيه باليمين على ما أخبر به من قصده
بها في الطلاق من جهة أن قصده ذلك لا يعرف إلا من قبله فلذا أمره
صلى الله عليه وآله بالحلف.
ولكن استحلافه " ص " على أنه قصد المرة - ولم يكن الطلاق
ثلاثا في المجلس الواحد مبدعا بعد - وجهه غير واضح

1) سنن البيهقي 7 / 342.
419

مسائل ثمان
المسألة الأولى
(متى تتوجه اليمين على الوارث؟)
قال المحقق " قده ": " لا تتوجه اليمين على الوارث ما لم
يدع عليه العلم بموت المورث والعلم بالحق، وأنه ترك في يده
مالا ".
أقول: يشترط في صحة الدعوى على الوارث في حق على
المورث أمور: " الأول " علم الوارث بموت المورث، " والثاني "
علمه بثبوت الحق على المورث واشتغال ذمته به، " والثالث "
العلم بوجود تركة في يد الوارث بمقدار الحق أو بعضه.
فهذه الأمور شرط، ولذا لو صدق المدعي الوارث على عدم
أحد هذه الأمور الثلاثة لم يكن للدعوى عليه وجه فضلا عن توجه
اليمين عليه الذي أشار إليه المحقق بقوله:
" ولو ساعد المدعي على عدم أحد هذه الأمور لم يتوجه ".
420

ثم قال " قده ": " ولو ادعي عليه العلم بموته أو بالحق كفاه
الحلف أنه لا يعلم ".
أي: لأنها دعوى تتعلق بعلمه بفعل الغير، فحيث لا يعلم كفاه
الحلف على نفي العلم.
قال: " نعم لو أثبت الحق والوفاة وادعي في يده مالا حلف
الوارث على القطع ".
أقول: لا اشكال فيما ذكر، لأنه بعد ثبوت الحق والوفاة بالبينة
مثلا تكون دعوى وجود مال للمورث عند الوارث متعلقة بأمر راجع
إلى نفس الوارث، فإن كان ينكر ذلك وجب عليه الحلف على نفيه
على البت لا على نفي العلم.
ولكن هل الدعوى مشروطة بهذه الأمور أو أن الاستحلاف
مشروط بها؟ الظاهر هو الأول كما ذكرنا، بل لا ريب في اشتراط
الأمر الأول حتى يتمكن من الدعوى، إذ تقدم في محله أنه يشترط
في صحة الدعوى كونها عن جزم فلا تسمع دعواه باحتمال كونه
ذا حق.
ولو صدق الوارث في دعوى الجهل بكون مورثه مدينا كانت
مطالبته بحقه منه لاغية، وأما لو كان متيقنا من علمه أو شك فيه جازت
له المطالبة مع فرض وجود التركة، وهل يحلفه على نفي العلم
أو على إنكار أصل الدعوى؟ إن ادعي علمه بالأمور كان عليه اليمين
على نفي العلم، وهل هذه اليمين تفصل الخصومة على الواقع؟
421

قولان. وتظهر ثمرة الخلاف في البينة التي يقيمها المدعي بعدها.
وعن الشيخ: أنه لا يشترط في صحة الدعوى دعوى المدعي
على الوارث العلم، بل للمدعي ابراز الدعوى وللوارث حينئذ الحلف
على نفي العلم، فإن حلف سقطت الدعوى وفصلت الخصومة، لكن
قول الشيخ بجواز حلف الوارث على نفي العلم مع عدم ادعاء
المدعى عليه ذلك بعيدا جدا.
وقال المحقق " قده ": لا تتوجه اليمين ما لم يدع علمه بالحق
إذ لا يحلف على فعل الغير. وهذه العبارة مفادها عدم كون شرط
الدعوى ذلك، بل شرط الاستحلاف دعوى علمه، ويكون الحاصل
جواز دعواه الحق، فإن كان له بينة ثبت حقه وإلا فإن ادعى علم
الوارث حلف على نفيه وإلا لم يحلف لأنه على فعل الغير، ومع
الحلف تنفصل الخصومة وينقطع النزاع، وقيل: لا تسقط الدعوى
باليمين على نفي العلم.
لكنا نقول بناء على ما عرفت فيما مضى في مسألة يمين الموكل
أنه إن كان الوارث متمكنا من اليمين على نفي أصل الدعوى جاز له
ذلك، وإلا وجب عليه اليمين على نفي العلم وإن لم يكن يدعي
عليه العلم حتى ولو كان المال الذي بيده للمدعي في الواقع، إلا
أن يقال بانصراف أدلة " اليمين على من ادعي عليه " عن هذا المورد
لكن تقدم أن الأظهر عمومها للمورد، وأن اليمين على نفي العلم
تقوم مقام اليمين على نفي الواقع، لأن الغرض من الدعوى على
422

المورث في الحقيقة هو الدعوى على الوارث وأنه عالم بذلك،
وإلا لم يكن للترافع بينه وبين الوارث وجه.
وبعبارة أخرى: إن اليمين على نفي العلم أثرها سد الطريق
على المدعي بحيث لا يمكنه بعد ذلك الزام الوارث بالحق.
واختار صاحب الجواهر " قده " كفاية اليمين على نفي العلم
عن اليمين على نفي الحق، واعترض على الأصحاب بأن الأمر مشوش
غير منقح عندهم، خصوصا بعد اقتضائه ما هو كالمقطوع بفساده
من عدم سماع الدعوى في غير الوارث أيضا، كما لو ادعى مدع
على عين في يد آخر أنه سرقه سارق وباعه أباك من دون أن يدعي
عليه العلم بذلك، ضرورة عدم الفرق بين الوارث وغيره في ذلك.
المسألة الثانية
(لو ادعى على المملوك فمن الغريم؟)
قال المحقق " قده ": " إذا ادعى على المملوك فالغريم مولاه
ويستوي في ذلك دعوى المال والجناية ".
أقول: يعني أن المدعى عليه في الحقيقة هو المولى، وعليه
يكون العبرة باقراره وانكاره لا باقرار العبد وانكاره، سواء كانت
الدعوى في المال أو كانت في جناية ارتكبها العبد.. لكن في
المسألة تفصيل، وبيان ذلك:
إنه في كل دعوى يكون الضرر متوجها فيها على المولى تكون
العبرة باقرار المولى وانكاره، فلو ادعي على المملوك ملكية مال
423

معين بيده كان المولى هو المدعى عليه في الواقع لأنه الغريم، إذ
العبد وما في يده لمولاه، فإن أقر المولى أخذ المال ودفع إلى
المدعي وإن أنكر حلف، وكذا لو كانت الدعوى جناية، فعلى القول
بأن دية خطأ العبد على المولى يكون الاعتبار باقرار المولى وانكاره،
ولا فرق في الجناية بين ما يوجب استحقاق العبد وغيره، لأن الغريم
هو المولى على كل حال، وأما على القول بأن هذه الدية على العبد
نفسه لا على المولى كانت العبرة باقرار العبد وانكاره، فإن أقر صبر
حتى ينعتق فيؤدي وإلا حلف على النفي.
وكذا لو صدر منه ما يوجب قتله قصاصا بعد العتق.
ولو صدر من العبد ما يوجب قتله قصاصا في حال رقيته فهل
المعتبر اقرار المولى وانكاره لأنه الغريم أو يعتبر اقرار وانكار العبد
حينئذ لأنه المباشر والمدعى عليه؟ وجهان، وتظهر الثمرة فيما لو
أقر المولى بالجناية وأنكر العبد. والأول مشكل، لأنه وإن كان
هو الغريم لكن ليس المولى مالكا لحياة العبد، وقد تقرر أن من
ملك شيئا ملك الاقرار به.
ولو أقر العبد بهذه الجناية فإن اقراره ينتهي إلى ضرر المولى
إذا المفروض وجوب قتله فعلا قبل الانعتاق، وحينئذ يتوجه الاشكال
بأن دليل: " اقرار العقلاء على أنفسهم جائز " ليس على اطلاقه
ليشمل صورة استلزامه الضرر لغيره.
فظهر أن في المسألة تفصيلا، والظاهر أن مراد المحقق من
كلامه ما إذا كانت الدعوى على المملوك من حيث أنه مملوك..
424

وقد تلخص أنه يدور أمر الاعتبار بالاقرار والانكار مدار الغرم، فحيث
يتوجه الضرر والخسارة على المولى يكون الاعتبار باقراره وانكاره
وحيث يتوجه على نفس العبد بأن يؤدي الحق بعد الانعتاق كان الاعتبار
باقراره وانكاره.
وعن القواعد: " وإذا ادعي على المملوك فالغريم مولاه سواء
كانت الدعوى مالا أو جناية، والأقرب عندي توجه اليمين عليه،
فإن نكل ردت على المدعي وتثبت الدعوى في ذمة العبد يتبع بها
بعد العتق " وظاهره وجوب اليمين على العبد وإن كان الغريم مولاه
فإن نكل لم تؤثر يمين المولى. وفي الجواهر: ومراده على الظاهر
الإشارة بذلك إلى توجه سماع الدعوى على العبد منفردا أو اقتضاء
الدعوى على المولى يمينا أخرى على العبد غير يمين المولي..
قلت: ولكن توجه اليمين على العبد حيث يكون هو الغريم هو
قول جمع الفقهاء وليس قولا للعلامة حتى يقول والأقرب عندي.
ويحتمل أنه وجه اليمين على العبد لا المولى لأنها على فعل
الغير، وفيه: لو كان مراده ذلك لوجهها على المولى بأن يحلف على
نفي العلم.
المسألة الثالثة
(هل تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة؟)
قال المحقق: " لا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ".
أقول: لا خلاف في عدم سماع الدعوى في الحدود حتى يقيم
425

المدعي البينة المعينة شرعا في كل مورد، لأن الحدود حق الله تعالى
وقد اشترط في ترتيب الأثر على الدعوى فيها وجود البينة، بل إنه
تعالى يحب عدم تعقيب ما يوجبها وترك اثباتها، بل أمر سبحانه بدرء
الحدود بالشبهات 1).
قال: " فلا يتوجه اليمين على المنكر ".
وأما في حق الآدمي فتسمع الدعوى المجردة عن البينة ويستحلف
المنكر لأن اليمين أحد طريقي اثبات حق الآدمي، ولذا يسقط الحق
برضا صاحبه بيمين خصمه.
قال: " نعم لو قذفه بالزنا ولا بينة فادعاه عليه قال في المبسوط:
جاز أن يحلف ليثبت الحد على القاذف وفيه اشكال، إذ لا يمين
في الحد ".
أقول: كان ما ذكرناه في خصوص الدعوى في حق الله تعالى
كحد الزنا وشرب الخمر، ولو اشتركت الدعوى بين الله وبين
الآدمي كحد القذف كأن يقذفه بالزنا ولا بينة فهل لليمين أثر في ثبوت
الحد وعدمه أو لا؟ الصحيح هو الثاني لاطلاق النصوص الواردة
في المقام والدالة على أنه " لا يمين في حد ":
1) فعن البزنطي عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام برجل فقال: هذا قذفني،

1) وسائل الشيعة: 18 / 335. الباب: 24، أبواب مقدمات
الحدود.
426

ولم تكن له بينة. فقال: يا أمير المؤمنين استحلفه، فقال: لا يمين
في حد وقصاص في عظم " 1).
وهذا الخبر ظاهر في أن الرجل قد ظن أن للقاذف الذي لا
بينة له أن يستحلف المقذوف لكونه منكرا كسائر المرافعات، فقال
الإمام عليه السلام: إن اليمين لا تؤثر لا في اثباته ولا في نفيه.
2) عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال: " لا يستخلف
صاحب الحد " 2).
والظاهر أن المراد من " صاحب الحد " هو من يجب اجراء
الحد عليه، ويحتمل أن يكون المراد: إن الذي يريد اجراء الحد

1) وسائل الشيعة: 18 / 335. وهو مرسل وفي طريقه " سهل
ابن زياد " وقال الشيخ الحر " قده " بعده " محمد بن الحسن
باسناده عن أحمد بن محمد عن محمد بن أبي عمير عن بعض
أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام مثله " قال صاحب الجواهر " قده ":
وفي المرسل الذي هو كالصحيح بابن أبي عمير في رواية التهذيب
بل وكذا في رواية الكافي المنجبر مع ذلك كله بالعمل.. ومراده
من رواية التهذيب هو الثاني ومن رواية الكافي هو الأول، لأن ابن
أبي عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر - وهو البزنطي - من أصحاب
الاجماع، وأن الأمر في " سهل " سهل.
2) وسائل الشيعة: 18 / 335. الباب: 24 من أبواب مقدمات
الحدود، وهو معتبر.
427

- وهو الإمام - لا يستحلف.
3) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: " إن رجلا
استعدى عليا عليه السلام على رجل فقال: إنه افترى علي، فقال
علي عليه السلام للرجل: أفعلت ما فعلت؟ فقال: لا. ثم قال علي
عليه السلام: ألك بينة؟ قال: فقال: ما لي بينة فاحلفه لي. قال علي
عليه السلام: " ما عليه يمين " 1).
خلافا للشيخ قدس سره في المبسوط إذ قال: " جاز أن يحلف
ليثبت الحد على القاذف " أي: ترجيحا لحق الآدمي على حق الله
عز وجل، ومن الحالف حينئذ؟ في العبارة احتمالان - " أحدهما ":
أن يكون المراد أن يقذفه بالزنا ولا بينة فيدعي المقذوف عليه ذلك
فينكر ويمتنع عن اليمين ويردها على المدعي، فيجوز له أن يحلف
اليمين المردودة ليثبت الحد على القاذف " والثاني ": أن يكون
المراد قذفه بالزنا بأن يقول له: يا زاني، ثم لما أريد اجراء حد القذف
عليه ادعى الزنا على المقذوف ولكن لا بينة له على ذلك. فيجوز أن
يحلف المقذوف على عدم الزنا ليثبت الحد على القاذف، فإن لم
يحلف لم يثبت الحد.
وكيف كان فما ذهب إليه ينافي تلك النصوص الدالة على أنه
لا يحلف لا في اثبات الحد ولا في نفيه، فإن كان للقاذف بينة على

1) وسائل الشيعة: 18 / 335. الباب: 24 من أبواب مقدمات
الحدود، فيه " غياث بن كلوب " وهو مجهول.
428

الزنا سقط الحد وإلا ثبت، قال الله تعالى: " والذين يرمون
المحصنات.. " إلى آخر الآية 1).
وليس حق الآدمي في هذه المسألة منفصلا عن حق الله تعالى
ليرجح فيها حقه على حق الله، بل الحقان كلاهما واردان على الحد
بخلاف مسألة السرقة حيث الغرم والقطع أمران مختلفان ولذا يمكن
اثبات الغرم دون القطع في بعض صورها كما سيأتي أيضا.
المسألة الرابعة
(منكر السرقة تتوجه عليه اليمين)
قال المحقق: " منكر السرقة يتوجه عليه اليمين لاسقاط الغرم ".
أقول: قد عرفت فيما تقدم أن السرقة توجب في حال ثبوتها
أمرين: " أحدهما " حق الآدمي وهو المال المسروق، و " الثاني "
القطع وهو الحد الشرعي وهو حق الله تعالى، وقد عرفت أنه لا
ملازمة بين الحقين فقد يثبت أحدهما في مورد دون الآخر، فمن
ادعي عليه السرقة فأنكرها يتوجه عليه اليمين من جهة حق الآدمي،
فإن حلف سقط الغرم.
" ولو نكل لزمه المال دون القطع بناء على القضاء بالنكول
وهو الأظهر " تبعا للمحقق وجماعة " وإلا حلف المدعي " ليثبت
الحق وإلا سقطت الدعوى.

1) سورة النور: 4.
429

قال المحقق: " ولا يثبت الحد على القولين ".
أقول: أي لما عرفت من أن ثبوت الغرم أو سقوط الحق باليمين
وعدمها لا يثبت كونه سارقا بحيث يترتب عليه الحكم الشرعي المقرر.
قال: " وكذا لو أقام شاهدا وحلف ".
أقول: أي لأنه لا يمين في حد كما تقدم، إذ لا فرق حينئذ بين
وجود الشاهد الواحد وعدمه من هذه الجهة.
المسألة الخامسة
(لو كان له بينة فأعرض عنها فهل له الرجوع؟)
قال المحقق: " لو كان بينة فأعرض عنها والتمس يمين المنكر
أو قال أسقطت البينة وقبلت اليمين فهل له الرجوع؟ قيل: لا. وفيه
تردد، ولعل الأقرب الجواز ".
أقول: في المسألة قولان، والأقوى هو الجواز وفاقا للمحقق
وغيره وخلافا للشيخ، ووجه التردد عند المحقق هو التأمل في أن
إقامة البينة حق للمدعي أو أنه حكم شرعي، ولو كان حقا فهل هو
من الحقوق القابلة للاسقاط أو لا؟
والظاهر أنه حق لا يقبل الاسقاط، ومع الشك في كونه حقا
قابلا له يكون الأصل بقاؤه، وكذا يستصحب البقاء بناء على كونه
حكما، فالظاهر هو جواز الرجوع إلى إقامة البينة أو إليها بعد
إقامتها وقبل حلف المنكر
. ولا يجري هنا استصحاب تأثير اليمين، بأن يقال إنه بالاعراض
430

أو الاسقاط يكون المؤثر اليمين فمع الشك في بقاء تأثيرها بعد
الرجوع يستصحب التأثير، ووجه عدم الجريان هو أن المورد يكون
من صغريات كبرى دوران الأمر بين استصحاب حكم المخصص
والتمسك بعموم العام، وقد تقرر في محله أن التحقيق هو الثاني.
قال: " وكذا البحث لو أقام شاهدا فأعرض عنه وقنع بيمين
المنكر ".
أي: ثم عاد إليه قبل الحلف أو رد المنكر اليمين على المدعي
ثم عاد إلى اختيار الحلف الذي يقوم مقام الشاهد الثاني.
المسألة السادسة
(فيمن يقبل قوله بلا يمين)
ذكر المحقق فيها أربعة فروع أفتى في الثلاثة الأولى منها
بقبول قول المدعي بلا يمين وتردد في الرابع، لكن في المسالك
ذكر أكثر من عشرين فرعا قال في جميعها بقبوله كذلك، فالفروع
الثلاثة هي:
الأول " لو ادعى صاحب النصاب ابداله في أثناء الحول " أي
لينفي عنه الزكاة " قبل قوله بلا يمين ".
الثاني " وكذا لو خرص عليه فادعى النقصان " أي: في الثمرة
المخروصة أو الزرع عما خرص عليه لينقص عنه ما قدر عليه من
الزكاة.
431

الثالث " وكذا لو ادعى الذمي الاسلام قبل الحول " أي:
ليتخلص عن الجزية بناء على عدم شمول " الاسلام يجب ما قبله " 1)
لهذا المورد، وأما بناء عليه فلا يطالب بالجزية وإن لم يدع ذلك.
ثم إن الدليل في هذه الفروع عدم الخلاف كما في الجواهر،
وأن الحق في هذه الموارد لله عز وجل، مع أن الحق فيها لا يعلم
إلا من قبل المدعي.
وهناك نصوص في خصوص بعض فروع المسألة مثل أن يقول:
" لا زكاة علي " مثلا 2).
والفرع الرابع قوله: " أما لو ادعى الحربي الانبات بعلاج
لا بالسن ليتخلص من القتل فيه تردد، ولعل الأقرب أنه لا يقبل إلا مع
البينة ".
أقول: منشأ التردد هو: إن قتل الكافر الحربي حد من حدود
الله تعالى، وقد أمر سبحانه بدرء الحدود بالشبهات، وقد تقدم أن

1) في مجمع البحرين 2 / 21: " في الحديث: الاسلام يجب
ما قبله والتوبة تجب ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب ".
2) الباب 14 من أبواب زكاة الأنعام: " باب ما يستحب للمصدق
والعامل استعماله من الآداب وأن الخيار للمالك والقول قوله " من
وسائل الشيعة: 6 / 88. وقد قرأ السيد الأستاذ دام ظله الرواية الأولى
من تلك النصوص وتطرق على ضوئها إلى بعض القضايا التي وقعت
في البلاد، فأبدى تضجره منها ونبه على وجوب الانتهاء عنها.
432

لا يمين في حد، وأن الانبات لا يعلم إلا من قبل الشخص، مع أن
اليمين لا تقبل من غير البالغ وهذا مشكوك في بلوغه.
ومن أن الانبات أمارة شرعية على البلوغ، وكونه بعلاج خلاف
الظاهر، ولا يقبل قول من ادعى خلاف الظاهر إلا مع البينة، وإذ لا
بينة هنا فإن أقل ما تثبت به الدعوى هو اليمين، فقيل: يحلف الآن
لوجود الأمارة الشرعية على البلوغ المعتبر في صحة اليمين، وقيل:
يصبر حتى يعلم ببلوغه، وعلى الأول إن حلف لم يقتل وإلا قتل،
وعلى الثاني إن حلف سقط الحد وإن نكل كشف عن استحقاقه القتل
منذ الأسر.
أقول: لكن يرد على القول الثاني أنه إن بلغ كافرا وجب قتله
ولا حاجة إلى هذا البحث، وإن أسلم فإن قلنا بمقتضى " الاسلام
يجب ما قبله " فلا يحلف ولا شئ عليه، وإلا فإن حلف سقط الحد
وإن نكل قتل
هذا إن لم نقل بأن كون الانبات أمارة للبلوغ مشروط بكونه
طبيعيا وإلا فإنه مع الشك في كونه بالعلاج أو بالطبع فلا يجوز قتله
وإن لم يدع الانبات بعلاج، إلا أن يتمسك بأن الأصل عدم كونه
بعلاج، لكنه أصل مثبت.. اللهم إلا أن يكون اجماع على وجوب
قتله حينئذ.
ومعنى قول المحقق: " لا يقبل إلا مع البينة " أنه لا يقبل مع
اليمين، فإن أقام البينة قبل وإلا قتل، وأشمل عليه في الجواهر بقوله:
" لكن لا يخفى عليك ما فيه من أنه بعد تسليم الظهور لا ينافي تحقق
433

الشبهة الدارئة - قال -: بل الظاهر تحققها مع عدم اليمين خصوصا
في مثل الفرض ".
وهل يقبل قول مدعي الانبات بعلاج في غير مورد الحد الذي
أمرنا بدرئه بالشبهة؟ مثاله: لو أجرى عقد بيع ثم لما حضر المشتري
لتسلم المبيع ادعى كونه صغيرا في حال اجراء العقد وأن انبات
الشعر المتحقق فيه حاصل بعلاج منه وليس طبيعيا ليدل على البلوغ
فهل يسمع قوله لا سيما وأنه مطابق للأصل أو لا بل يسمع قول
المشتري وهو مقتضى أصالة الصحة؟
أقول: أما أصالة الصحة فتجري عند الشك في الصحة بعد
احراز اجتماع الشرائط المعتبرة، ومع الشك في بلوغ البائع فلا
يجري هذا الأصل لأنه لا يحرز البلوغ.. لكن الصحيح عدم قبول
قول البائع في هذه الصورة، لأن انبات الشعر ظاهر في البلوغ،
والمناقشة في هذا الظهور ممنوعة، وهو متقدم على الأصل وإلا
لم تتقدم أمارة على أصل في مورد.
قال في الجواهر: ومما ألحق بذلك دعوى البلوغ مطلقا أو
بالاحتلام خاصة، لامكان إقامة البينة على السن واعتبار الانبات لأن محله
ليس من العورة، وعلى تقديره فهو من مواضع الضرورة. وعلى
كل حال لا يمين وإلا لزم الدور، لأن اعتباره موقوف على البلوغ
الموقوف على اعتباره.
أقول: صحة اليمين متوقفة على البلوغ، والبالغ قد لا يحلف
434

أصلا، نعم ثبوت البلوغ يتوقف عليها، فلا دور.. فالدليل على
عدم اليمين في المقام كونه شبهة مصداقية للبلوغ المعتبر تحققه
للحالف في صحة يمينه.
هذا وقد ذكروا في المقام فروعا، والضابط الكلي هو: إن كان
الطرف في الدعوى هو الله تعالى محضا فلا يشترط اليمين، وكذا
إن كان مورد الدعوى حقا عاما للناس.
وفي المسالك: ضبطها بعضهم بأنه كل ما كان بين العبد وبين
الله تعالى، أو لا يعلم إلا منه ولا ضرر فيه على الغير، أو ما تعلق
بالحد أو التعزير.
وفيه - كما في الجواهر - إن ذلك كله مع عدم الخصومة،
وأما معها فلا، فقول ذي اليد مثلا حجة إلا إذا خوصم فحينئذ تتوجه
عليه اليمين..
المسألة السابعة
(حكم ما لو مات رجل وظهر له شاهد بدين)
قال المحقق: " لو مات ولا وارث له وظهر له شاهد بدين
قيل: يحبس حتى يحلف أو يقر.. وكذا لو ادعى الوصي أن الميت
أوصى للفقراء وشهد واحد وأنكر الوارث. وفي الموضعين اشكال
لأن السجن عقوبة لم يثبت موجبها ".
أقول: في المسألة فرعان: " الأول " - لو شهد شاهد بأن
زيدا الميت يطلب من عمرو كذا مالا ولا وارث لزيد حتى يطالبه به،
435

فإن أقر عمرو بالدين وجب عليه الأداء، وإن أنكر وجب عليه
اليمين، فإن حلف على الانكار فلا شئ عليه، وإن نكل ألزم بدفع
الحق، إذ المفروض عدم امكان الرد لموت الدائن وعدم الوارث
وأنه يستحيل تحليف المسلمين والإمام عليه السلام، وعن الشيخ
في المبسوط: يحبس حتى يحلف أو يقر.
و " الفرع الثاني ": لو ادعى الوصي على الوارث أن الميت
أوصى للفقراء كذا من ماله ثم شهد شاهد واحد بما يدعيه الوصي
وأنكر الوارث ذلك، فإن كان الوارث يعلم بالعدم حلف على النفي على
البت، وإن لم يعلم حلف على نفي العلم، ولو نكل لم يمكن رد
اليمين على الوصي، لأنه يدعي حقا للفقراء فلا يجوز له أن يحلف
عنهم، وحينئذ يحكم على الوارث بالنكول، ويلزم بدفع الحق،
وقيل: يحبس حتى يحلف أو يقر.
بل لا فرق في الفرع الثاني بين أن يكون للوصي شاهد واحد
أولا، لما عرفت من عدم ترتب الأثر على يمينه، فوجود الشاهد
الواحد وعدمه على السواء.
ولو ادعى الوارث على أحد حقا لمورثه استنادا إلى ما وجده
مسجلا في ثبته، فإن حلف زيد على النفي فهو، وإن حلف على نفي
العلم فكذلك، وإلا فلا مجال للرد على الورث، وعليه دفع الحق
بمجرد النكول.
وكذا الأمر في كل مورد لم يمكن فيه الرد، فإنه يحكم على
436

المنكر بالنكول ويلزم بدفع الحق، وأما مع امكانه فإن حلف المدعي
ثبت الحق وإلا سقطت الدعوى.
ولو كان صاحب الحق الإمام عليه السلام فعلى المنكر اليمين،
فإن لم يحلف ثبت الحق ولا يرد على الإمام.
المسألة الثامنة
(حكم ما لو مات وعليه دين يحيط بالتركة)
قال المحقق: " لو مات وعليه دين يحيط بالتركة لم ينتقل إلى
الوارث وكانت بحكم مال الميت، وإن لم يحط انتقل إليه ما فضل
عن الدين ".
أقول: في الكتاب مطلقات تدل على انتقال مال الميت إلى
وارثه مطلقا، مثل قوله تعالى: " يوصيكم الله في أولادكم.. "
وقد قيد ذلك في آيات كقوله تعالى ". من بعد وصية يوصي بها أو
دين " فيكون مقتضى الجمع: انتقال ما فضل من المال إلى الوارث
بعد اخراج الوصايا والديون.. وعليه: فإن استوعب الدين وأحاط
بالتركة لم ينتقل إلى الوارث شئ منها.
والقول بانتقالها إلى الوارث يبتني على التجوز إما في المطلق
بأن يحمل على الأعم من الملك المستقر وغير المستقر، وإما في
المقيد فيكون المعنى: استقرار الملك بعد الوصية والدين.
ومع التنزل عن هذا الدليل وغيره فإن الأصل عدم انتقال المال
إلى الوارث وبقاؤه على ملك الميت، لأن الملكية أمر اعتباري
فيجوز اعتبارها له، ومع الشك في البقاء يستصحب، إلا أن يقال:
437

بأن العقلاء يفرقون في هذا الاعتبار بين الحي والميت، وهو بعيد،
وعلى هذا الأساس يتضح معنى الوصية، فإنها في الحقيقة تصرف
المالك في ماله بعد حياته.
وأما بناء على أن الملكية من عوارض الوجود وأنها أمر يقوم
بنفس المالك فإن مات زالت فلا يتم الاستصحاب، وعليه يكون
المال بعد موت مالكه بلا مالك، لكن يكون بحكم مال الميت
وتجري عليه أحكامه.
وأما القول بأن الشك في بقاء المال على ملك الميت مسبب عن
الشك في انتقاله إلى وارثه، ومع جريان أصالة العدم في المسبب
يزول الشك في بقائه على ملك الميت. ففيه: أنه أصل مثبت وهو
ليس بحجة.
وكيف كان فإن تم هذا الأصل فهو وإلا وصلت النوبة إلى
الاحتياط ومقتضاه العمل طبق الوصية وأداء الدين بإذن الوارث.
قال المحقق: " وفي الحالين للوارث المحاكمة على ما يدعيه
لمورثه لأنه قائم مقامه ".
أقول: وسواء على القولين: القول الثاني وهو الانتقال والقول
الأول وهو عدم الانتقال، فإن الوارث يطالب بحقوق الميت إما لأنه
المالك وإما لأنه قائم مقامه.
ولو ادعى ديان الميت على المدين فحلف على الانكار لم يجز
لهم مطالبته فيما بعد، فإن جاء الوارث وأقام البينة على المدين فهل
تسمع دعواه أو أن اليمين تلك فصلت الخصومة؟ الظاهر هو الأول.
438

البحث الثالث
(في اليمين مع الشاهد)
قال المحقق: " يقضى بالشاهد واليمين في الجملة استنادا إلى
قضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وقضاء علي عليه السلام بعده ".
أقول: لا ريب ولا خلاف في القضاء بذلك في الجملة، والقدر
المسلم منه أن تكون الدعوى في الدين فيشهد الشاهد ويحلف المدعي،
فهذا هو القدر المتيقن من معقد الاجماع ونصوص المسألة الحاكية
لقضاء النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام مثل:
1) ما عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يجيز في الدين شهادة رجل
واحد ويمين صاحب الدين، ولم يجز في الهلال إلا شاهدي عدل " 1).
2) عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " كان
رسول الله صلى الله عليه وآله يقضي بشاهد واحد مع يمين

1) وسائل الشيعة: 18 / 192. الباب: 14 من أبواب كيفية الحكم.
439

صاحب الحق " 1).
3) عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام:
يقول: " كان علي عليه السلام يجيز في الدين شهادة رجل ويمين
المدعي " 2).
4) عن حماد بن عيسى قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام
يقول: حدثني أبي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قضى بشاهد ويمين " 3).
5) عن أبي بصير قال: " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل
يكون له عند الرجل الحق وله شاهد واحد. قال فقال: كان رسول
الله صلى الله عليه وآله يقضي بشاهد واحد ويمين صاحب
الحق وذلك في الدين " 4).
ثم إن كان المراد من البينة في قول رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان " وفي أخبار:
" البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " ونحوه هو ما يبين
الشئ 5) فلا كلام، وإن كان المراد منها شهادة الشاهدين في الواقعة

1) وسائل الشيعة: 18 / 193. الباب: 14 من أبواب كيفية الحكم.
2) وسائل الشيعة: 18 / 193. الباب 14: من أبواب كيفية الحكم.
3) وسائل الشيعة: 18 / 193. الباب: 14 من أبواب كيفية الحكم.
4) وسائل الشيعة: 18 / 193. الباب: 14 من أبواب كيفية الحكم.
5) وقد جاءت هذه اللفظة بهذا المعنى في مواضع من القرآن
الكريم، قال عز وجل: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب
والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " وقال: " وما تفرق الذين
أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ".
440

- كما هو المنسبق إلى أذهان المتشرعة عند الاطلاق - فإن ثبوت
الدعوى بشاهد ويمين في بعض الموارد يكون من جهة الأدلة المعتبرة
الدالة عليه، فتكون تلك الأدلة مخصصة للخبرين المذكورين من
حيث الاكتفاء هنا بشاهد ويمين المدعي، ومن حيث أن اليمين هنا
تكون على المدعي لا على المدعى عليه.
وما ورد في بعض الأخبار المتقدمة من " كان رسول الله صلى الله عليه وآله. "
و " كان علي عليه السلام.. " ظاهر في أن سيرتهما عليهما السلام
كانت على ذلك ولم يكن قضاؤهما في تلك الموارد خاصة بها أو
نادر الوقوع.
6) عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: دخل الحكم بن عتبة
وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السلام فسألاه عن شاهد ويمين
فقال: " قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله وقضى به علي
عليه السلام عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن. فقال:
وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ قالا: إن الله يقول: وأشهدوا ذوي
عدل منكم. فقال قول الله: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " هو لا
تقبلوا شهادة واحد ويمينا!. ثم قال: إن عليا عليه السلام كان
قاعدا في مسجد الكوفة، فمر به عبد الله بن قفل التميمي ومعه درع
طلحة، فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم
441

البصرة. فقال له عبد الله بن قفل: اجعل بيني وبينك قاضيك الذي
رضيته للمسلمين، فجعل بينه وبينه شريحا.
فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة
فقال له شريح: هات على ما تقول بينة، فأتاه بالحسن فشهد أنها
درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد
ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنها
درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك
ولا أقضي بشهادة مملوك.
قال: فغضب علي عليه السلام وقال: خذها فإن هذا قضى بجور
ثلاث مرات، قال: فتحول شريح وقال: لا أقضي بين اثنين حتى
تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات. فقال له: ويلك - أو
ويحك - إني لما أخبرتك أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة
فقلت: هات على ما تقول بينة وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: حيث ما وجد غلول أخذ بغير بينة فقلت: رجل لم يسمع
الحديث فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن فشهد فقلت: هذا واحد
ولا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر وقد قضى رسول الله
صلى الله عليه وآله بشهادة واحد ويمين، فهذه ثنتان، ثم
أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة فقلت:
هذا مملوك وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا.
ثم قال: ويلك - أو ويحك - إن إمام المسلمين يؤمن من
442

أمورهم على ما هو أعظم من هذا " 1).
قلت: وشريح مخطئ من جهات أخر أيضا لم يشر الإمام عليه السلام إليها.
قال المحقق: " ويشترط شهادة الشاهد أولا وثبوت عدالته ثم
اليمين ".
أقول: لا ريب في اشتراط ثبوت عدالة الشاهد، إنما الكلام
في لزوم تقدم الشهادة وثبوت عدالته قبل يمين المدعي، فقال المحقق:
حكم ما لو تقدمت اليمين على الشهادة
" ولو بدأ باليمين وقعت لاغية وافتقر إلى إعادتها بعد الإقامة ".
أقول: قد ذكرنا أن القدر المتيقن نفوذ الحكم الصادر بعد
الشهادة واليمين، فهذا الذي لا ريب فيه، بخلاف ما إذا تقدمت اليمين
على الشهادة، ومع الشك فالأصل عدم النفوذ، لأنه المرجع في
كل مورد شك في نفوذ الحكم فيه.
وأما الاستدلال لاشتراط تقدم إقامة الشهادة على اليمين بتقدم
ذكرها عليها في نصوص المسألة ففيه: أولا - إن التقدم الذكري
في النصوص لا يقتضي التقدم في مجلس القضاء وكيفية المحاكمة.
وثانيا: لقد ذكرت اليمين في بعض النصوص مقدمة على الشهادة 2).

1) وسائل الشيعة: 18 / 194. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
2) وسائل الشيعة: 18 / 196. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى. الحديث: 15، 16.
443

ومن هنا نقول: إن الظاهر أن نصوص المسألة ليست بصدد
بيان الكيفية مطلقا، بل هي في مقام بيان أصل المطلب، وهو ثبوت
الدعوى هنا بشاهد واحد ويمين المدعي من دون تعرض إلى
الخصوصيات، لكن المؤثر يقينا هو صورة تقدم الشهادة على
اليمين، ونفوذ الحكم في صورة العكس مشكوك فيه فالمرجع هو
الأصل المزبور.
وفي المسالك: " أما اشتراط إقامة الشهادة أولا لأن المدعي
وظيفته البينة لا اليمين بالأصالة، فإذا أقام شاهده صارت البينة التي
هي وظيفته ناقصة ومتممها اليمين بالنص، بخلاف ما لو قدم اليمين
فإنه ابتدأ بما ليس وظيفة ولم يتقدمه ما يكون متمما له ".
وفيه: ما ذكرنا من أن المستفاد من نصوص المسألة أن وظيفته
هنا إقامة الشاهد الواحد واليمين حتى تثبت دعواه، فالقضاء يكون
بكلا الأمرين وليس في شئ من النصوص إشارة إلى أن وظيفته
هنا إقامة البينة - كسائر الموارد - وأن يمينه تكون متممة للوظيفة
الناقصة من جهة عدم الشاهد الآخر.
وعن كاشف اللثام الاستدلال له بأن جانبه حينئذ يقوى، وإنما
يحلف من يقوى جانبه، كما أنه يحلف إذا نكل المدعى عليه، لأن
النكول قوى جانبه.
وفيه: أنه استحسان لا أكثر.
والحاصل: أن المثبت للدعوى كلا الأمرين الشهادة واليمين
حال كونها متقدمة على اليمين، وصورة العكس مشكوك فيها من حيث
444

النفوذ وعدمه والأصل هو العدم، وعلى ما ذكرنا فلو رجع الشاهد
عن شهادته يكون الغرم نصف ما أخذه المدعي من المال في هذه
الدعوى.
الكلام في مورد قبول الشاهد واليمين
ثم هل ثبوت الدعوى بشاهد واحد ويمين يختص بما إذا كانت
في الدين، أو تثبت في مطلق ما كان مالا أو كان المقصود منه المال
أو يثبت بذلك كل ما كان للناس من حق ومال؟
قال بالأول جماعة، واختار الثاني آخرون بل نسب إلى المشهور
ويشهد للثالث اطلاق عدة من الأخبار كخبر منصور بن حازم، وخبر
حماد بن عيسى، وكالأخبار الآتية:
1) عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقضي بشاهد واحد
مع يمين صاحب الحق " 1) و " كان " له ظهور في الاستمرار.
2) عن أبي مريم عن أبي جعفر عليه السلام قال: " أجاز رسول
الله صلى الله عليه وآله شهادة شاهد مع يمين طالب الحق
إذا حلف أنه الحق " 2) و " أجاز " هنا بمعنى " الانفاذ ".

1) وسائل الشيعة: 18 / 195. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
2) وسائل الشيعة: 18 / 195. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
445

3) عن العباس بن هلال عن أبي الحسن الرضا عليه السلام
قال: " إن جعفر بن محمد عليهما السلام قال له أبو حنيفة: كيف
تقضون باليمين مع الشاهد الواحد؟ فقال جعفر عليه السلام: قضى
به رسول الله صلى الله عليه وآله وقضى به علي عليه السلام
عندكم. فضحك أبو حنيفة. فقال له جعفر عليه السلام: أنتم تقضون
بشهادة واحد شهادة مائة. فقال: بلى يشهد مائة
فترسلون واحدا يسأل عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله " 1).
4) محمد بن علي بن الحسين قال: " قضى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بشهادة شاهد ويمين المدعي. قال وقال عليه السلام:
نزل جبرئيل بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق وحكم به أمير المؤمنين
عليه السلام بالعراق " 2).
5) عن جابر بن عبد الله قال: " جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فأمره أن يأخذ باليمين مع الشاهد " 3) وهذا الخبر
أيضا ظاهر في أن الحكم الشرعي ذلك، وهو باطلاقه يشمل المال وغيره.

1) وسائل الشيعة: 18 / 196. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
2) وسائل الشيعة: 18 / 196. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
3) وسائل الشيعة: 18 / 196. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
446

لكن لا ريب في خروج " حق الله " من تحت هذه المطلقات
لصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: " لو كان
الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير مع يمين
الخصم في حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عز وجل أو رؤية
الهلال فلا 1) " والمراد بضم الأخبار الأخرى والاجماع: شهادة الرجل
الواحد مع اليمين، والمراد من " الخصم " هو نفس المدعي.
واستدل للقول الأول - وهو التخصيص بالدين - بعدة من
الأخبار المذكورة كخبر محمد بن مسلم وخبر أبي بصير المتقدمين
بل في خبر القاسم بن سليمان:
" سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: قضى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده " 2).
وقد حمل اطلاق النصوص السابقة على التقييد في هذه النصوص
وأجيب عن خبر درع طلحة - حيث كان النزاع في العين - بأنه إنما
أنكر أمير المؤمنين عليه السلام على اطلاق قول شريح " ما أقضي
إلا بشاهد آخر معه "، ضرورة عدم كون خصوص المقام مما يكتفى
فيه بالشاهد واليمين من الوالي.

1) وسائل الشيعة: 18 / 195. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
2) وسائل الشيعة: 18 / 195. الباب: 14 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى.
447

وقد يستشكل في هذا الحمل بأن أخبار " الدين " تحكي حكم
رسول الله صلى الله عليه وآله بالشاهد واليمين في الدين،
وهذا لا مفهوم له بل هو نظير: أكرم العالم الفقيه، إذ لا يفهم منه
عدم وجوب اكرام العالم النحوي مثلا.
بل دعوى اختصاص " الدين " بالمال ممنوعة، فقد ورد التعبير
في الروايات عن الحج ب‍ " الدين " 1).
وفي الجواهر: إن حمل المطلق على المقيد إنما يصح بعد فرض
التقييد وعدم قوة المطلق من حيث كونه مطلقا وهما معا ممنوعان،
لامكان عدم إرادة التقييد في النصوص السابقة، ضرورة أن القضاء
بهما في الدين أو جوازه لا يقتضي عدم القضاء ولا عدم جوازه بغيره.
فالحاصل أنه لا مانع من حمل أخبار الدين على نقل الإمام عليه
السلام حكم رسول الله وأمير المؤمنين صلى الله عليهما وآلهما بنحو
القضايا الشخصية - نظير قوله عليه السلام: قضى أمير المؤمنين عليه
السلام في الكوفة بكذا - ثم يقول بنحو الحكم الكلي: " لو كان
الأمر إلينا أجزنا.. في حقوق الناس " وربما يشهد بما ذكرنا أنه
جاء في خبر القاسم بن سليمان المشتمل على لفظ " في الدين وحده ":
" وقضى رسول الله.. " ولم يقل: " كان رسول الله يقضي.. ".

1) راجع وسائل الشيعة: ج: 9، كتاب الحج، الباب 25 من
أبواب وجوب الحج وشرائطه، الأحاديث: 4، 5، الباب 28،
الحديث: 9.
448

هذا كله بعد الاغضاء عن قصور السند في بعض الأخبار التي
أخذت مقيدة للاطلاقات 1).
وبعد، فإن مقتضى الاطلاقات هو عدم التخصيص بالدين والحكم
بالشاهد واليمين في غيره من الحقوق المالية، وهل يجوز التعدية
عنها إلى مطلق حق الناس؟ إن مقتضى الاطلاقات هو ذلك، لكن
المشهور على خلافه، ولعل وجه تقييدهم بالحقوق المالية ما روي
مرسلا عن ابن عباس: " إن رسول الله صلى الله عليه وآله
قال: استشرت جبرئيل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي
بذلك في الأموال وقال: لا تعدو ذلك " لكنه - كما في الجواهر -
ليس هو من طرقنا ولا معروف النقل في كتب فروعنا.. فالأولى
ما ذكره قدس سره من احتمال فهم الأصحاب " المال " من نصوص
" الدين " لا خصوص المعنى المصطلح، فالمراد من " الدين وحده "
هو " المال وحده " فتخرج الحقوق التي ليست بمال، وأما " حقوق
الناس " في صحيحة محمد بن مسلم فينصرف إلى الحقوق المالية
فلا اطلاق له.. وكيف كان فلا ريب في ثبوت الحق بشاهد ويمين
إذا كان مورد النزاع عينا.

1) ففي طريق خبر حماد بن عثمان: " معلى بن محمد " وهو
البصري، والراوي لأحدها هو " القاسم بن سليمان "، ولم تثبت
وثاقة هذين الرجلين من كلمات علماء الرجال. نعم هما من رجال
كتاب كامل الزيارات.
449

كما لا ريب في كفاية اليمين مع المرأتين القائمتين مقام الرجل
الواحد في الشهادة للنصوص الدالة على ذلك، ومنها:
1) عن منصور بن حازم: " إن أبا الحسن موسى بن جعفر
عليهما السلام قال: إذا شهد لطالب الحق امرأتان ويمينه فهو جائز " 1)
أي: فهو نافذ.
2) عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام " إن رسول الله صلى
عليه وآله وسلم أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين يحلف
بالله أن حقه لحق " 2).
ثم إنه - بعد أن استقر رأي المشهور على الثبوت في الحقوق
المالية - لم يفرقوا بين أن يكون المدعى بنفسه مالا وبين أن يكون
من الحقوق التي تترتب عليها آثار مالية ولذا ذكر المحقق " قده "
أمثله من القسمين ثم ذكر الضابط في المسألة قال:
ويثبت الحكم بذلك في الأموال كالدين " فإنه حق مالي صرف
" والقرض " فإنه لما يقول له: قد أقرضتك كذا يدعي حقا ماليا له
على ذمته " والغصب " كذلك، فإنه وإن كان مغايرا للمال مفهوما،
لكنه لما يدعي عليه غصب شئ له فإنه يستلزم كون ذلك الشئ

1) وسائل الشيعة: 18 / 197. الباب: 15 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى، وهي صحيحة.
2) وسائل الشيعة: 18 / 198. الباب: 15 من أبواب كيفية
الحكم وأحكام الدعوى، وهي صحيحة.
450

ملكا له " وفي المعاوضات " يثبت الحكم أيضا، فإن المقصود فيها
هو المال " كالبيع والصرف والصلح والإجارة والقراض والوصية
له " في مال عينا أو دينا " والجناية الموجبة للدية كالخطأ " فمن ادعى
جناية فقد ادعى موضوع الدية، فهي حق يقصد بها المال، أما لو
كانت جناية موجبة للقاص فلا، لأن القصاص حق وليس مالا " وعمد
الخطأ، وقتل الوالد ولده والحر بالعبد " إذ تثبت الدية دون القصاص
فإنه لا يقتل الوالد بالولد والحر بالعبد، " وكسر العظام " حيث
يتعذر القصاص وتجب الدية فتكون الدعوى مالية " والجائفة " وهي
الجناية التي تصل الجوف " والمأمومة " وهي التي تصل أم الدماغ.
قال " قده ": " وضابطه ما كان مالا أو المقصود منه مالا " أي:
بخلاف القصاص ونحوه..
لكن قد وقع الكلام بينهم من؟ جهة أخرى، وهي أنه هل يلزم
أن يكون المقصود بالذات المال أو يكفي ترتب الأثر المالي مطلقا
وإن لم يكن هو المقصود بالذات؟ ولذا اختلفوا في بعض المصاديق
كالنكاح، فقد قال المحقق:
" وفي ثبوت النكاح تردد ".
أي: لتردد المقصود بالنكاح بين كونه مالا وغير مال، فإن
قلنا بالثبوت حتى في صورة كون ترتب المال من اللوازم البعيدة
ثبت النكاح بالشاهد واليمين، لأن المهر والنفقة - إن كانت الدعوى من
الزوجة - وارث الزوج مال الزوجة بعد موتها - إن كانت الدعوى من
الزوج - من الآثار المترتبة على النكاح وإن كان المقصود منه بالذات
451

هو التناسل وإقامة السنة وكف النفس عن الحرام، والنفقة والمهر
تابعان 1).
قال " قده ": " أما الخلع والطلاق والرجعة والعتق والتدبير
والكتابة والنسب والوكالة والوصية إليه وعيوب النساء فلا ".
أقول: لكن الخلع إذا ادعاه الزوج يثبت بالشاهد واليمين
لدخوله في الضابط الذي ذكره من جهة أنه مشروط ببذل الزوجة
مالا إلى الزوج ليطلقها به، فحيث يدعى الرجل ذلك فإنه يدعي
حقا ماليا.

1) فالحاصل: أن في المسألة أقوالا: أحدها: عدم الثبوت
سواء كان المدعي الزوج أو الزوجة، وقد نسب هذا القول في
الروضة وغيرها إلى المشهور. والثاني: الثبوت كذلك، ذكره
الشهيدان لكن في الروضة: لا نعلم قائلة، وكذا قال غيره، والثالث
الثبوت إن كان المدعي الزوجة وهو مختار العلامة في القواعد
حيث قال: أما النكاح فاشكال أقربه الثبوت إن كان المدعي الزوجة،
وفي مفتاح الكرامة: تبعه عليه الشهيد في غاية المراد. قال: لأن
دعوى المرأة النكاح تستلزم مالا ما وهو مناط الشاهد واليمين، أما
الزوج فلا مال يدعيه بدعواه الزوجية والتوارث بعيد جدا، ويقرب
إذا كان التداعي بعد موت المرأة، ومثله قال الشهيد الثاني. والرابع:
التوقف وعليه المحقق هنا - أما في النافع فلم يذكر النكاح أصلا -
وتبعه الشهيد في الدروس.
452

قال: " وفي الوقف اشكال منشؤه النظر إلى من ينتقل، والأشبه
القبول لانتقاله إلى الموقوف عليهم ".
أقول: هذا في الوقف الخاص، وأما العام فلا تتضمن دعواه
المال، لأن الموقوف بالوقف العام لا مالك له بل يكون كعتق العبد
لله، ولو قلنا بالانتقال فيه إلى الموقوف عليهم فإنه يتعذر حلف جميعهم
ولا فائدة في يمين بعضهم.
أقول: وصفوة الكلام في هذا المقام هو: أن الأصل الأولي
هو عدم ثبوت شئ إلا مع العلم، ثم إن قوله صلى الله عليه وآله
وسلم " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان " أصبح أصلا ثانويا،
فتقبل كل دعوى أقام المدعي فيها البينة على دعواه ويحكم له بثبوت
حقه، ثم نزل جبرئيل عليه " ص " بالشاهد واليمين - فيجوز أن
يكون حاكما على الحديث السابق، وأن يكون مقيدا له فيكون
الحصر فيه إضافيا - ثم قيد اطلاق قبول الشاهد واليمين بحقوق
الناس، فلا يقبل ذلك في حقوق الله تعالى، ثم وقع الخلاف بينهم
في المراد من " حقوق الناس " وقد تقدم عدم جواز التعويل على
ما روي عن ابن عباس - فإن تم ما ذكرنا من انصراف " حق الناس "
إلى " الحق المالي " فهو، وإلا فهي شبهة مفهومية مرددة بين الأقل
والأكثر، والأقل هو المتيقن، والمرجع فيما زاد عنه هو " إنما
أقضي بينكم.. " فيقبل الشاهد واليمين في كل ما كان مالا من حقوق
الناس.
و " الحق المالي " أيضا مردد بين ما هو حق مالي بالذات وما
453

هو حق مالي مطلقا - سواء كان مالا بالذات أو بالتبع - وهنا أيضا
يؤخذ بالقدر المتيقن - وهو الحق المالي بالمقصود بالذات - وإن
لم يكن عنوان الدعوى مالا مثل البيع، ولذا قال في الجواهر:
" ومن الغريب اتفاقهم على خروج الوكالة عن المال وإن كانت
بجعل وكذا الوصية واختلافهم في العتق ".
وأما في موارد الشبهة المصداقية، فلا يؤخذ فيها بعموم العام
بل المرجع هو الأصل. نعم للمتداعيين العمل بالاحتياط في صورة
الشك.
حكم ما لو كان المدعي جماعة والشاهد واحد
قال المحقق: " ولا تثبت دعوى الجماعة مع الشاهد إلا مع
حلف كل واحد منهم ".
أقول: هذا لا اشكال فيه، لأن الدعوى حينئذ تنحل إلى دعاوي
متعددة وإن كانت شهادة الشاهد الواحد كافية لجميعها، فإن حلف
جميع أفراد الجماعة ثبتت الدعوى " ولو امتنع البعض ثبت نصيب
من حلف دون الممتنع " لأن مقتضى الأدلة السابقة ثبوت الدعوى
المالية بالشاهد ويمين المدعي، فمن حلف مع الشهادة ثبت حقه
وكان له استيفاء سهمه سواء كانت الدعوى في حق الإرث أو حق
الشركة، ومن امتنع من الحلف فلا يثبت له شئ، وهنا فروع:
" الأول ": هل نكول الممتنع عن الحلف هنا يكون كنكول
المدعي عن اليمين المردودة في سقوط الدعوى فلا يترتب على
454

بذله اليمين بعدئذ أثر أو لا يكون كذلك؟ قالوا: لا يكون كذلك، بل
هو نظير أنه لو أقام شاهدا على دعواه ولم يحضر الشاهد الثاني بعد،
فحينئذ يلزم على الحاكم أن يصبر حتى يحضر لأن حق المدعي
باق، ولذا لا يأمر المدعى عليه باليمين - إلا إذا رفع المدعي اليد
عن إقامة الشهادة وقنع بيمين المنكر فحينئذ يأمر المنكر بذلك -
فهنا كذلك، فإن الممتنع عن اليمين يبقى حقه ويترتب الأثر على
يمينه في الزمان اللاحق.
" الثاني ": لو ورث الحالف الناكل فهل للوارث أن يحلف
حتى ينتقل إليه سهم الناكل؟ نعم، لما تقدم من أن النكول لا يقتضي
الحرمان بل الدعوى باقية، فلا مانع من أن يحلف مرة ثانية لاثبات
سهم أخيه مثلا الناكل حتى ينتقل إليه بالإرث، وهل يلزم تكرار
الشهادة حينئذ؟ وجهان، من أن الدعوى واحدة والمفروض إقامة
الشهادة قبل موت الناكل، ومن أن المدعي لهذا السهم فعلا غير
المدعي سابقا. والأقوى عند العلامة هو الأول، لأن اختلاف المدعي
لا يوجب اختلاف الدعوى.
" الثالث ": ذكر كاشف اللثام أنه لو مات المدعي قبل الحلف
والنكول يحلف وارثه على أن هذا المال كان لمورثه وإنما يحلف
لتعلق حقه بهذا المال، لكن يتوقف تملك الوارث للمال على عدم
البينة للمدعى عليه على ابراء المورث إياه أو نقل المال إليه مثلا،
وهذا بخلاف ما لو كان المدعي هو المورث نفسه فإنه إذا حلف
ثبت حقه من دون توقف على ما ذكر.
455

أقول: إنما لا تسمع دعوى المدعى عليه الابراء مثلا فيما لو قال
المدعي: هذا المال لي الآن وشهد الشاهد على ذلك، كما أنه لو
شهد الشاهد على المدعى عليه بأن فلانا مات وله عليك كذا، فإنه
حينئذ لا تسمع دعواه الابراء ولا يتوقف مطالبة الوارث بالحق منه
على عدم بينته.. ولعل هذا الذي ذكرناه هو وجه نظر صاحب
الجواهر فيما ذكره كاشف اللثام.
" الرابع ": لو ورث الناكل الحالف أخذ سهمه وإن لم يدفع
إليه سهمه لامتناعه عن اليمين، إذ لا ملازمة بين الأمرين، نعم لا ريب
في عدم انتقال سهم الحالف إلى الناكل في صورة تكذيبه الدعوى.
" الخامس ": لو أقر المدعى عليه كون المال لزيد الميت بعد
شهادة الشاهد ويمينه أو مطلقا، ثم جاء فقال الوارث بأن مورثك
قد نقل المال إلي، فعلى الوارث أن يحلف على أن المال له الآن،
ووجه وجوب الحلف عليه للمرة الثانية هو أن ما يدعيه الآن دعوى
جديدة فيتوقف ثبوتها على يمين أخرى، فإن حلف ثبت الحق -
إلا إذا أثبت المدعى عليه الانتقال - وهل يلزم إعادة الشهادة كذلك؟
قال العلامة: الأقوى نعم.
أقول: إن كانت هذه دعوى جديدة بمعنى أن الوارث يدعي
أن هذا المال الثابت للمورث لم ينتقل إلى المدعى عليه، فلا بد من
إقامة الشهادة أيضا، لأن الشهادة السابقة قد أثبتت الملك للمورث فلا
تنفع لدعوى عدم الانتقال إلى المدعى عليه، وإن لم تكن دعوى
456

جديدة فلا وجه لاشتراط تجديد اليمين، ففيما ذكره العلامة وغيره
هنا تأمل.
عدم جواز الحلف من غير علم:
قال المحقق: " ولا يحلف من لا يعرف ما يحلف عليه يقينا ".
أقول: لا يجوز الحلف من غير علم مطلقا ولا سيما في مورد
المرافعة، ويدل على ذلك النصوص الصريحة مثل:
1 - ما عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " لا
يحلف الرجل إلا على علمه " 1).
2 - وعن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " لا
يستحلف الرجل إلا على علمه " 2).
3 - وعن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: " لا يستحلف الرجل إلا على علمه ولا تقع اليمين إلا على
العلم استحلف أو لم يستحلف " 3).
قال في الجواهر بعد عبارة المتن: " وإن كان هو مقتضى
الأصول العقلية " قلت: لعل مراده ما في القواعد وغيره من أن من
شرط اليمين الجزم والجزم لا يتحقق إلا مع العلم.
هذا، وقد تقدم الكلام على أنه هل تجوز اليمين بمقتضى اليد

1) وسائل الشيعة: 16 / 150. الباب: 22 كتاب الأيمان.
2) وسائل الشيعة، 16 / 150. الباب: 22 كتاب الأيمان.
3) وسائل الشيعة: 16 / 150. الباب: 22 كتاب الأيمان.
457

كما تجوز الشهادة أو لا؟ وقد قلنا بجوازها في كل مورد تجوز الشهادة
فيه، سواء كانت استنادا إلى اليد أو غيرها من الأمارات الشرعية،
بل قيل بجواز الحلف بمقتضى الاستصحاب على اشكال فيه.
وهل يحلف على أنه ماله واقعا وأنه له بحسب الحكم الظاهري؟
إن حلف على أن ما بيده ملك له واقعا استنادا إلى اليد فإن لازم
ذلك تجويز الكذب في هذا المورد، وإن أريد الملكية الظاهرية لزم
التخصيص في الأصل العقلي والنصوص الواردة في المسألة لعدم
الجزم المعتبر في اليمين مع أن حكم العقل لا يقبل التخصيص.
أقول: إنا نقول بالتخطئة في الأحكام الواقعية والظاهرية معا،
والحكم الظاهري يمكن تعلق العلم به مع الشك في الحكم الواقعي،
وحينئذ يجوز الحلف بحسب العلم بالحكم الظاهري، فمرادهم من
" لا يحلف من لا يعرف ما يحلف عليه يقينا " هو عدم جواز يمين
الوارث مثلا استنادا إلى كتابة من خط مورثه، أو شهادة شاهد واحد
بأن المال الكذائي للمورث.
قال في الجواهر: أما لو شهد له به شاهدان فقد يقال بالجواز
لأنها حجة شرعية، بل قد يحتمل جواز الحلف على مقتضى
استصحاب الموضوع الثابت، لكنه لا يخلو من اشكال بل منع فيهما
لعدم العلم المعتبر في الحلف..
وفيه - أولا: إن الفرق بين اليد والبينة غير واضح، وثانيا:
قد تقدم أن اليمين على اليد هو الحلف بالحكم الظاهري، وعلى
458

هذا فلا فرق بين اليد والاستصحاب.
والملكية الظاهرية هي المراد من رواية حفص بن غياث 1).
لا تثبت اليمين مالا لغير الحالف:
قال المحقق: " ولا يثبت مالا لغيره ".
أقول: قال في الجواهر: وإن تعلق له به حق، بلا خلاف
بل قد يظهر من المسالك وغيرها الاجماع عليه.
ويدل على ذلك مع ما ذكر ظواهر أدلة القضاء كقوله صلى
الله عليه وآله وسلم: " إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان "، فإنه
ظاهر في كون البينات والأيمان هي ميزان القضاء بين المتخاصمين
أنفسهما، وهو منصرف عما لو ادعى مالا لغيره.
قال في الجواهر: لكن في كشف اللثام: إلا الولي لمال المولى عليه،
فإن الحالف إما المنكر وإما المدعى له، أما الولي فقوله بمنزلة قول
المولى عليه. قال: ولم أجده لغيره بل اطلاقهم يقتضي خلافه.
قلت: لكن لم نجد هذا الكلام في كشف اللثام، بل قد صرح
بأن القيم لا يجوز له الحلف، نعم فيه جواز حلف المولى لمال العبد.
قال المحقق: " فلو ادعى غريم الميت مالا له على آخر مع شاهد
فإن حلف الوارث ثبت وإن امتنع لم يحلف الغريم ".
أقول: وعلى ما ذكرنا فلو مات المدين ولا تركة له، وقد
عرف الدائن مدينا للميت وله على حقه من الميت شاهد واحد فهل

1) وسائل الشيعة: 18 / 215. وقد تقدم نصها في الكتاب.
459

له أن يحلف عند المدين الثاني مع شهادة الشاهد حتى يستوفي حقه
منه؟ قالوا: يثبت حقه إن حلف الوارث وأما يمينه هو فلا أثر لها
لأنها في مال الميت وإن تعلق له به حق، وترتب هذا الأثر على يمين
الوارث مبني على أن الوارث يملك كل ما كان لمورثه، ولو كان الدين
مستوعبا لم يجز له التصرف في شئ من المال، فإنه بناء على هذا
يكون يمين الوارث في ماله لا في مال الغير.
وتعرض في الجواهر إلى مسألة الوصية من جهة أنها تتفرع
على ما ذكر من ترتب الأثر على يمين الوارث دون الغريم، فلو
أوصى الميت بصرف كذا من المال في مورد معين ولم يترك مالا
يفي لتنجيز الوصية، لكن ادعى الوارث بأن والده مثلا يطلب من
فلان كذا من المال، فقيل: الوصية بحكم الدين في ترتب الأثر
على يمين الوارث فقط، وفي الجواهر: إن كانت الوصية كلية غير
متعلقة بالمال فهي كالدين، وإن كانت متعلقة بالمال - ولو بعنوان
الكلي في المعين كالعشرة دنانير من المال، أو الحصة المشاعة -
فالحكم يبتني على القول بانتقال ما للميت إلى الوارث بالموت وعدمه.
أقول: الوصية (تارة) تتعلق بالفعل - وإن كان مشتملا على
المال - فهنا صورتان:
" فالأولى ": أن يكون مراد الموصي صرف كذا من ماله قبل
انتقاله إلى الوارث. فبناء على أن الملكية أمر اعتباري يكون المال
للميت وعلى الوصي صرف المال الذي أوصى به في المورد الذي
460

عينه، وفي هذه الصورة لا يحلف الوصي ولا الوارث ولا الموصى
له، لأن المفروض كون المال للميت وحلف كل واحد من هؤلاء
يكون في مال الغير فلا أثر له..
وكذا الأمر بناء على القول ببقاء المال في حكم مال الميت.
و " الصورة الثانية ": أن تكون الوصية بنحو ترتب نفوذها
على انتقال المال إلى الوارث، أي يكون تملك الوارث له مقدما
في الرتبة على تملك الموصى له، ففي هذه الصورة يحلف الوارث
أو الوصي.
وبناء على كون المال الموصى به في حكم الدين - بمعنى جعل
المورث على ذمة الوارث كذا من المال بأن ينتقل إليه بحكم الإرث
ثم تكون ذمته مشغولة بصرف ما عينه المورث في كذا بحكم الوصية -
فلا اشكال في أنه يحلف حينئذ.
وأما لو كانت الوصية مضافة إلى المال بنحو الحصة المشاعة
فلا يحلف.
(وأخرى) تكون الوصية بنحو النتيجة، كأن يوصي بأن كذا
من المال لزيد بعد وفاتي، فإن قبل الموصى له الوصية فلا أثر لحلف
الوارث بل المؤثر يمين الموصى له لأن المال ملكه، سواء كان بنحو
المشاع أو المفروز أو الكلي في المعين، وسواء قلنا بأن المال
يكون بعد الموت في حكم مال الميت ثم ينتقل إلى الموصى له
بحكم الوصية، أو قلنا بانتقاله إلى الوارث بالإرث ثم إلى الموصى
له أو قلنا بانتقاله إلى الموصى له رأسا. وإن لم يقبل الموصى له
461

الوصية فهنا تأتي الأقوال، وعلى كل حال فليس له أن يحلف، وأما
الوارث فيحلف بناء على انتقال المال إليه بالإرث ثم انتقاله إلى
الموصى له بعد القبول.
وكذلك الكلام في المال الذي تعلق به الخمس أو الزكاة ثم
خرج المال من تحت يد صاحبه إلى الغير، فعلى القول بتعلق الخمس
مثلا بذمة الميت فلا يحلف مستحقه، فإن قلنا بانتقال المال إلى الوارث
حلف الوارث، وإن قلنا ببقائه على ملك الميت أو في حكم ماله
فلا يحلف.
هذا، وحيث لا يحلف الغريم فهل له احلاف المدعى عليه؟ قال
في الجواهر: نعم، لأن الدليل على عدم حلفه هو الاجماع وانصراف
الأدلة، وأما الاحلاف فلا دليل على المنع منه، فإن حلف المدعى
عليه برأت ذمته وإن نكل ثبت الحق بمجرده إن لم يمكن الرد.
وأما الوارث الذي له أن يحلف فهل يجبر عليه لو امتنع منه؟
قال في الجواهر: لا، لعدم الدليل، نعم لو كان المورث يمكنه أداء
الدين فقصر عنه وأراد الوارث تخليص ذمته كان له ذلك ولكنه ليس
بواجب.
وعلى القول ببقاء المال في ملك الميت أو في حكم ملكه قلنا
بأنه ليس للوارث أن يحلف، وهنا قال في الجواهر: اللهم إلا أن
يقال إنه قد ورث حق الدعوى به وإن صار بعد الثبوت على حكم
مال الميت ولا تعلق للوارث به. ولكنه كما ترى، ولم أجد ذلك
محررا في كلام الأصحاب.
462

قلت: وما أشار إليه من التأمل في هذا الاحتمال هو الظاهر،
لأن حق الدعوى في المال يتبع ملكية نفس المال، لأنه أثر كسائر
الآثار المترتبة على تملكه فلا يثبت هذا الحق بالنسبة إلى مال الغير
إلا في صورة الوكالة عنه.
ولو أحلف الغريم المدين فحلف سقطت دعوى الغريم تجاهه،
ولكن حق الوارث باق، فله أن يحلفه فإن حلف وثبت الحق واستوفاه
الوارث فهل للغريم مراجعة الوارث؟ الظاهر: نعم لأن سقوط
الحق من جهة لا ينافي عدم سقوطه من جهة أخرى.
قال المحقق: " وكذا لو ادعى رهنا وأقام شاهدا أنه للراهن
لم يحلف لأن يمينه لاثبات مال الغير ".
أقول: هذا واضح ولا اشكال فيه، نعم لو ادعى رهانة المال
وأراد اثباتها من غير تعرض لمالك المال ثبتت بالشاهد واليمين
وإن كان المال ملكا للغير، إذا المفروض إرادة اثبات الرهانة لا الملك.
حكم ما لو ادعى جماعة مالا لمورثهم:
قال: " ولو ادعى الجماعة مالا لمورثهم وحلفوا مع شاهدهم
ثبتت الدعوى وقسم بينهم على الفريضة.. ".
أقول: إن حلف الجماعة كلهم أخذوا المال المدعى وقسموه
بينهم حسب الفريضة سواء كان المال عينا أو دينا.
" ولو كان وصية قسموه بالسوية إلا أن يثبت التفضيل " من الموصي.
وإنما يحلف جميعهم لأن هذه الدعوى تنحل إلى دعاوي متعددة.
463

" ولو امتنعوا لم يحكم لهم " وهذا واضح ولا اشكال فيه.
ولو حلف بعضهم دون بعض ففيه بحث، قال المحقق:
" ولو حلف بعض أخذ ولم يكن للممتنع معه شركة ".
يعني سواء كان المدعى به في الأصل دينا أو عينا، وقيل: يكون
له معه شركة مطلقا، وقيل: بالتفصيل بين الدين فلا يشاركه وبين
العين فله معه شركة.
أقول: إن حلف الحالف ليس نظير البينة في الحجية واثبات
الدعوى حتى يحكم الحاكم للحالف، وليس امتناعه عن اليمين
مثل نكون المدعي عن اليمين المردودة في سقوط الدعوى، فلو
غصب غاصب عينا مشتركة بين أخوين فقال لأحدهما: إني أريد
غصب سهم أخيك دون سهمك فدفع إليه نصف العين كان الإخوان
شريكين في النصف، لكون الحق مشاعا ولا حق للغاصب في افراز
السهم اجماعا. هذا في العين الخارجية، فلو وقع الترافع بين
الأخوين معا والغاصب إلى الحاكم، فحلف أحدهما دون الآخر
فقيل باشتراكهما في النصف الذي يأخذه الحالف كالنصف الباقي
بيد الغاصب، لأن نكول الممتنع لا يسقط حقه ويمين أحدهما لا
يوجب فرز حقه عن حق الآخر فالشركة باقية، وقيل: بعدم الشركة
مطلقا - أي سواء في العين أو الدين - لحكم الحاكم بكون ما يأخذه
الحالف ملكا له فلا يشاركه أخوه الممتنع من الحلف - وقيل:
بالتفصيل بين العين والدين، فلا شركة في الدين لأنه بالقبض ينفرز
464

سهم كل واحد عن سهم الآخر فيكون ما قبضه الحالف ملكا له.
ولو أقرض رجلان مالا مشتركا بينهما رجلا، كان له تبديل
الكلي في ذمته بمال معين في الخارج فيكون مشتركا بين الدائنين،
ولكن ليس له دفع نصف الدين إلى أحدهما، لأن حق أحدهما
لا يتعين دون الآخر وأن أذن، بل يكونان شريكين في ذلك النصف،
فإن وقع النزاع بينهم وترافعوا إلى الحاكم فحلف أحد الشريكين
وامتنع الآخر ثبت نصف الدين الكلي بحكم الحاكم لكن ليس
للمدين تعيين النصف إلا مع إذن الآخر، لأن الحق المشاع لا يفرز
في الخارج ولا يتعين إلا برضا الشريكين.
ثم إنه أشكل في المسالك على المحقق في شرح عبارته
المذكورة: " وقد يشكل الفرق بين هذا وبين ما لو ادعيا على آخر
مالا وذكرا سببا موجبا للشركة كالإرث فإنه إذا أقر لأحدهما شاركه
الآخر فيما وصل إليه.
فخص بعضهم هذا بالدين وذاك بالعين، لأن أعيان التركة مشتركة
بين الورثة والمصدق معترف بأنه من التركة بخلاف الدين فإنه
إنما يتعين بالتعيين والقبض، فالذي أخذه الحالف تعين لنفسه بالقبض
فلم يشاركه الآخر فيه.. ".
ولم يفرق في الجواهر بين العين والدين حيث قال: " والتحقيق
عدم الفرق بين الدين والعين بعد تحقق سبب الشركة فيهما، إذ
الدين عين أيضا إلا أنها كلية.. " أي: كما لا ينفرز الحق في الشئ
المشترك في الخارج إلا مع رضا الشريك فإن ما في الذمة كذلك،
465

فيكون الخارج مصداقا لما في الذمة ومشتركا، ولو أوجد في
الخارج بإذن الشريك مصداق نصف ما في الذمة كان مشتركا بينهما،
فلو لم يأذن الشريك في جعل المصداق لم يكن للمدين ذلك.
لا يقال: إذا كان كذلك لزم ثبوت ما للغير بيمين غيره.
لأنا نقول: إن المدين بعد الشهادة والحلف يدفع نصف الحالف
إليه، لكن الحالف الآخذ للنصف يعلم ويقر بمشاركة أخيه له في
ذلك بحكم الإرث.
هذا وقال المحقق " قده " في كتاب الشركة: " إذا باع الشريكان
سلعة صفقة ثم استوفى أحدهما منه شيئا شاركه الآخر فيه ".
وفي الاقرار: " لو أقر بعين أو دين ودفع مقدارا تشارك
الشريكان في ذلك المقدار ".
هل للممتنع عن اليمين شركة مع الحالف؟
وهنا قال: " ولو حلف بعض أخذ ولم يكن للممتنع معه شركة ".
ومن هنا يظهر أن رأي المحقق يختلف، ففي صورة التنازع يفتي
بعدم الشركة وفي صورة عدمه يقول بالشركة، ويدل على ما ذكره
في كتاب الشركة روايات:
1) عن أبي حمزة قال: " سئل أبو جعفر عليه السلام عن رجلين
بينهما مال منه بأيديهما ومنه غائب عنهما، فاقتسما الذي بأيديهما
وأحال كل واحد منهما من نصيبه الغائب فاقتضى أحدهما ولم يقتض
466

آخر. قال: ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ما يذهب بماله " 1).
2) عن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي عليه السلام مثله إلا
أنه قال: " ما اقتضى أحدهما فهو بينهما وما يذهب بينهما " 2).
3) عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " سألته
عن رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين، فاقتسما العين والدين
فتوى 3) الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر
أيرد على صاحبه؟ قال: نعم ما يذهب بماله " 4).
وقال في الجواهر في شرح العبارة: " لكن هذه النصوص بل
والمتن وما شابهه مشتملة على الجزم بالشركة، وما ذاك إلا لحصول
الإذن من الشريك بالقبض ولو زعم القسمة الفاسدة ونحوها، وحينئذ
يتجه الجزم بشركة المقبوض، إنما الكلام فيما إذا قبض أحد
الشريكين حصته لنفسه من دون إذن شريكه، وقد ذكر غير واحد
من الأصحاب بل نسب إلى المشهور أن للشريك مشاركة الآخر فيما
قبض، وله مطالبة الغريم بمقدار حصته، فيكون قدر الحصة في يد
القابض، كقبض الفضول إن أجازه ملكه وتبعه النماء وإن رده ملكه
الدافع ويكون مضمونا عليه على التقديرين، ولو تلف قبل اختيار

1) وسائل الشيعة: 13 / 179. الباب: 6 كتاب الشركة.
2) وسائل الشيعة: 13 / 179. الباب: 6 كتاب الشركة.
) توى: هلك.
4) وسائل الشيعة: 13 / 180. الباب: 6 كتاب الشركة.
467

الشريك كما في المسالك، بل في التذكرة التصريح في تعين حقه
به ولا يضمنه للشريك، وقد أطنب في المسالك في تحقيق ذلك
وأنه من الفضولي، وأن ذلك هو المراد من قولهم تخير الشريك
بين الرجوع على الغريم وبين الشركة فيما قبضه شريكه
والجميع كما ترى لا ينطبق على القواعد الشرعية، وذلك لأنه
وإن اتجهت الشركة مع إجازة القبض لهما بناء على تأثير مثل هذه
الإجازة في مثله، وإن كان فيه اشكال أو منع من وجوه بل لم نجده
في المقام لغير ثاني الشهيدين، لكن اختصاص القابض وملكه مع
عدمها لا وجه له، بل المتجه حينئذ بقاؤه على ملك الدافع، وذلك
لأن القابض ليس له إلا نصف المال المشاع بينه وبين شريكه، ومع
فرض عدم إجازة الشريك لم يكن المال المقبوض مال الشركة،
ونية الدافع أنه مقدار حصة القابض لا تنفع في ذلك وإن وافقتها
نية القابض، بل لو رضي الشريك بكون ذلك حصة القابض، وما
في ذمة الغريم حصة له لم يجد لعدم صحة مثل هذه القسمة.
ودعوى جوازها لكنها مراعاة بقبضه فإن حصل تمت وإلا رجع
على القابض، وشاركه فيما قبضه تهجس بلا دليل، بل هو مخالف
للمعروف من عدم صحة قسمة الدين، وللمعلوم من أنه مع عدم
إجازة القبض على وجه يكون به المقبوض مالا للشركة لا يكون
كذلك، كيف يعود إليه بعد عدم القبض، وحينئذ فإن لم يكن
ثمة اجماع أشكل الحكم بملك القابض جميع ما قبضه بعد عدم
الإجازة بل ولا بعضه، اللهم إلا أن يقال إنه برضا الشريك يكون
468

المقبوض حصة لقابض بتمحض المقبوض مالا للشركة، بل هو
في الحقيقة إجازة لذلك ".
إذن قد فرق المحقق وجماعة بين مورد الدعوى وغيره، ولذا
أشكل في المسالك الفرق ثم نقل عن بعضهم التفصيل بين الدين
والعين، وقد أشكل في الجواهر على هذا الفرق.
وعن جماعة التفريق بين الاقرار وبين المقام، وأشكله في
المسالك بأن سبب الملك في المقام ليس هو اليمين بل الأمر السابق
من إرث أو وصية.. ويكون أثر اليمين من بعض الجماعة رفع
المانع من تصرفهم في المال برجوعه إليهم.
هذا وفي الجواهر: " نعم لو أراد الاستقلال بذلك صالحه عن
حصته المشاعة بعين أو حول عليها على إشاعتها أو نحو ذلك مما
ذكرناه في وجه اختصاص بعض الشركاء عن بعض حتى في العين ".
والظاهر أن مراده من " أو حول عليها " أن يحول شريكه على شخص
آخر فيتقاضى منه ما يقابل حقه في هذا المال فيختص به عن شريكه
ولا يطالبه شريكه بحقه فيه.
قال: نعم قد يتجه اختصاص الشريك في الدين والعين بما
يقبضه منهما إذا لم يعلم بقاء سبب الشركة لاحتمال الابراء من شريكه
أو نقله بحصته على الإشاعة أو نحو ذلك، والعلم السابق بحصول
الشركة لا يقتضي التشريك فيما يدفعه المديون أو من في يده العين
منها.
469

أقول: يمكن أن يقال بأن الشك في بقاء الشركة مسبب عن
الشك في نقل الشريك حصته مثلا، وجريان الأصل في السبب لا يثبت
بقاء الشركة في المال إلا على القول بالأصل المثبت، وهذا هو مراد
صاحب الجواهر، ولكن لا مانع من اجراء أصالة عدم الشركة في هذه
العين فلا يشاركه أخوه فيها، فالاستصحاب في العين تام وفي الدين
مشكل لشبهة الاثبات.
قال: " مع عدم ثبوت الشركة بظاهر الشرع ".
أقول: إنه إذا حلف أحد الشريكين يقول الحاكم للمديون
ادفع إليه حقه، فإن علم الآخذ ببقاء حق شريكه وجب عليه اعطاؤه
حقه، وإن كان شاكا فكذلك للأصل، فقوله أراد بعدم ثبوت الشركة
بظاهر الشرع عدم ثبوتها في العين فهو غير تام.
قال: بل ربما ثبت عدمها بظاهر الشرع كما لو رضي بيمينه أو
نكل عن يمين ردت عليه أو نحو ذلك.
أقول: يعني إذا وقع النزاع في الابراء فادعاه المديون وأنكره
هو فرضي بيمين المديون، فإذا حلف سقط حقه، وكذا لو رد
المديون اليمين عليه فنكل عنها، فإنه يثبت بذلك عدم الشركة بظاهر
الشرع.
هذا ويختص المال بالحالف مع غيبة الشريك وإن جاء وحلف،
فلا يشارك أخاه فيما أخذ بل يثبت بحلفه حقه على المديون، ولو
كان ثمة شركة له فيما أخذه لترتب عليها آثارها كالشركة في النماء
الحاصل بيد الشريك وضمانه فيما لو تلف المال بيده.
470

حكم ما لو كان في المدعين صغير
قال المحقق: " ولو كان في الجملة مولى عليه يوقف نصيبه فإن
كمل ورشد حلف واستحق وإن امتنع لم يحكم له ".
أقول: لقد تقدم أنه لا يحلف أحد في مال غيره، وعليه فلا
يحلف ولي الصغير مثلا في مال الصغير، بل يصبر حتى يكبر فإن
حلف مع شهادة الشاهد ثبت حقه وإن امتنع فلا..
وهل يجوز توقيف مال المديون أو تكفيله حتى يكبر الصغير؟
قيل: نعم إن كان المال عينا، والأظهر هو العدم مطلقا لعدم ثبوت
الحق بعد.
قال: " وإن مات قبل ذلك كان لوارثه الحلف واستيفاء نصيبه ".
أقول: وإن مات الصغير قبل الكبر طالب الوارث بسهمه
فإن حلف استوفى نصيبه، وهل يحتاج إلى إعادة الشهادة؟ الأقوى:
العدم مطلقا، خلافا لمن فصل بين ما إذا كان العنوان الإرث فلا
حاجة وما إذا كان العنوان الوصية فيلزم.
هذا كله فيما إذا أريد اثبات الحق بالشاهد واليمين، ولو أن
بعض الجماعة أقام البينة على دعواه وحكم الحاكم بثبوت الدعوى
فإنه يثبت كون المال الموجود بيد المدعى عليه للميت - إن لم
يدع الابراء أو نحوه - وبذلك يثبت حق جميع الورثة، ولو تمكن
من أخذ بعض المال اشتركوا معه فيه كذلك، فلا تكون البينة حجة
لمن أقامها فقط، لكونها طريقا إلى الواقع وكاشفة عنه ولازمها
471

اشتراك جميع الورثة في المال حتى الغائب والمجنون ولازم
البينة حجة.
وأما في الدين فإن تطبيق المديون المال على عين خارجية
موقوف على إذن جميع الورثة، وأما المجنون والغائب فيأذن الحاكم
عنهما من باب الولاية، وبناء على هذه الولاية فللحاكم أن يرافع
من قبل الصغير الذي يكون تحت ولايته بأن يقيم البينة على حقه
مثلا، وأما بناء على عدم هذه الولاية فإنه يصبر حتى يكبر الصغير
ويطالب بحقه بنفسه.
472

مسائل خمس
المسألة الأولى
(حكم ما لو قال: هذه الجارية مملوكتي وأم ولدي)
قال المحقق " قده ": " لو قال: هذه الجارية مملوكتي وأم
ولدي حلف مع شاهده وثبت رقيتها، دون الولد لأنه ليس مالا ويثبت
لها حكم أم الولد باقراره ".
أقول: لو كانت جارية في يد شخص فادعى أحد أنها له وهي
أم ولده فدعواه تشتمل على جهات " الأولى " كون الجارية مملوكته
و " الثانية ": أنها أم ولد، و " الثالثة ": لحوق الولد به، و " الرابعة ":
حرية الولد.
فإن أقام شاهدا على دعواه وحلف مع شاهده ثبت بذلك جهتان
" إحداهما ": كون الجارية مملوكته، لأن الجارية مال وقد تقدم
ثبوت الحق المالي بالشاهد واليمين، و " الثانية ": كونها أم الولد
لأنه قد أقر بذلك، وحينئذ يثبت لها حكم أم الولد من عدم جواز
473

بيعها وعدم انتقالها إلى الورثة بموته وغير ذلك من الأحكام.
وأما " الجهة الثالثة " فلا تثبت بالشاهد واليمين لأن الولد
ليس مالا.
وأما " الجهة الرابعة " وهي حرية الولد - فلا تثبت بالشاهد
واليمين كذلك لأنها ليست بمال، إلا أن يقال بأن مورد تأثير الشاهد
واليمين هو الأعم من صورة اثبات المالية وصورة نفي المالية لاطلاق
الأدلة، وفيما نحن فيه حيث ينكر من بيده الولد حريته فهو على هذا
التقدير مال، والذي يدعي حريته ينفي ماليته، فإذا كانت أدلة الشاهد
واليمين مطلقة أثرت الشهادة واليمين من هذه الجهة أيضا وحكم
بحرية الولد.
لكن هذا يتوقف على اطلاق الأدلة بل الأظهر إن هذه الأدلة
واردة في مورد احقاق المدعي حقه بالشاهد واليمين، وأما انكار
حق للآخر فهي منصرفة عنه، ومع التنزل عن ذلك فإنه لو شك في
ذلك كان الحكم عدم ثبوت الحرية بالشاهد واليمين، بل لا بد من
إقامة البينة.
وأما الحكم بالحرية بناء على الملكية آنا ما ثم الانعتاق ففيه:
إن الملكية آنا ما تتحقق في مورد دعوى الولد مالكية أحد عموديه
فإنه إن أقام شاهدا وحلف مع شاهده ثبت وتملك آنا ما ثم انعتق عليه
وأما في هذه المسألة فهو يدعي أن هذا الولد حر منذ وجد فليس له
حالة الرقية سابقا فلا يقاس ما نحن فيه على ذاك المورد.
وقال في الجواهر: وأما الحرية فبناء على ثبوتها بالشاهد واليمين
474

فقد يقال بعدمه هنا باعتبار كونها هنا تابعة للنسب لا واقعة بالذات،
وانتفاء المتبوع يستتبع انتفاء التابع. وفيه: إن انتفائه واقعا يقتضي
ذلك لا عدم الحكم به في ظاهر الشرع، وحينئذ يمكن اثباتها بهما
كما لو اشتملت الدعوى على أمرين يثبت أحدهما بذلك دون الآخر..
فهي حينئذ كدعوى السرقة، ودعوى أن حرية الولد ليست من حقوق
المدعي كي تندرج في ضابط الشاهد واليمين يدفعها أنها من حقوقه
مع استنادها إلى كونه ولدا له.
أقول: وفي جوابه وجوه من النظر فأولا: ليست الحرية حقا من
الحقوق بل هي عدم تعلق الحق، وثانيا: ليست الحرية من الحقوق
المالية لو كانت حقا، وثالثا: سلمنا لكن هذا الحق للحر نفسه،
ولا معنى لأن يقال بأن حرية الولد من حقوق الأب.
فالحق أن الاشكال المذكور لا يندفع بما ذكره، ويبقى الولد
في يد من بيده الجارية حتى ترتفع باقراره مثلا.
وأما قوله: " بل قد يقال إن الحكم بملكية الجارية يقتضي
الحكم أيضا بملكية الولد الذي هو من نمائها التابع لها.. " ففيه:
إن هذا يصح حال كون الولد قد وجد ملكا للجارية فيكون ملكا
لمولاها بتبعها، لكن المفروض أنه قد وجد حرا كما تقدم، فما ذكره
غير تام.
المسألة الثانية
(حكم ما لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم دارا)
475

قال المحقق " قده ": " لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف
عليهم دارا وعلى نسلهم فإن حلف المدعون مع شاهدهم قضى لهم ".
أقول: الظاهر عدم الفرق بين كون من يدعي وقفية الدار عليه
من الورثة أو غيرهم، فإن الوقفية تثبت بالشاهد ويمين المدعي،
وبذلك تخرج الدار عن التركة فلا يؤدى منها الدين وإن كان مستوعبا
ولا تقسم بين الورثة بحسب الميراث، بل تكن بين الموقوف
عليهم بحسب صورة الوقف.
فإن انقرض هؤلاء فهل يتوقف أخذ البطن الثاني الدار على
إقامة الشهادة والحلف مرة أخرى أم لا بل يكفي لذلك حلف البطن
الأول وشهادة شاهدهم على دعواهم المذكورة فتنقل الدار إليهم
كالإرث؟ وجهان. وهذا البحث يتوجه فيما إذا كان الوقف المدعي
بنحو التشريك بين البطون لا الترتيب، " فالوجه الأول " هو التوقف
على تجديد الحلف والشهادة، لأن دعوى الوقفية على نفسه وعلى
نسله تنحل في الواقع إلى دعويين: كونه الموقوف عليه ما دام حيا
وكون الدار وقفا على نسله من بعده، فبيمينه وشهادة شاهده تثبت
الدعوى الأولى، وثبوت الثانية يتوقف على يمين البطن الثاني وشهادة
شاهدهم.
" والوجه الثاني " كفاية حلف البطن الأول مع شهادة الشاهد
لأن البطن الثاني يتلقى الدار من البطن السابق لا من الواقف، والمفروض
ثبوت دعوى البطن السابق بكونها وقفا عليه وعلى نسله.
476

وبعبارة أخرى: إن كان الواقف يجعل الدار للبطن الأول مشروطا
بانتقالها منهم إلى البطن الثاني دون سائر الورثة - نظير ايقاف الدار
على زيد ما دام حيا وانتقالها بعد موته إلى جهة إقامة المأتم على السيد
الشهداء عليه السلام - فلا حاجة إلى اثبات البطن الثاني للوقفية،
وإن كان للواقف جعلان أحدهما للبطن الأول والثاني للبطن الثاني
بعد انقراض الأول لزم الحلف وإقامة الشهادة على الثاني.
وظاهر المسالك اختيار الوجه الأول، وقد ذكر وجوها على
ذلك " أحدها " التنظير بالإرث، قال: " كما إذا أثبت ملكا بالشاهد
واليمين ثم مات، فإن وارثه يأخذه بغير يمين ". وأجاب في الجواهر
بأن تملك المورث موضوع في الدليل الشرعي للانتقال إلى الوارث
ولكن لا دليل في مسألة الوقف على أن ما ثبت لهذا البطن ثابت للبطن
اللاحق، نعم إن أقيمت البينة كانت كاشفة عن ملكية هذا البطن
ونسله.
" والثاني " قوله: " ولأنه قد ثبت كونه وقفا بحجة يثبت بها
الوقف فيدوم كما لو ثبت بالشاهدين ". أقول: إن أراد من هذا
الوجه الأخذ بتنقيح المناط بمعنى أن الموجب لأخذ البطن الأول
يوجب أخذ الثاني بالأولوية ففيه: أن ذلك ممنوع إلا إذا ثبتت
الوقفية بالبينة. وأن أراد أن ثبوت الوقفية يستلزم الدوام، لأن الدوام
له دخل في مفهوم الوقف، ففيه: إن الذي ثبت بالشاهد ويمين البطن
الأول جواز انتفاعهم من منافع الدار لا وقفيتها، لأن الوقف لا يثبت
477

بالشاهد واليمين، فيكون نظير جواز الصلاة في الثوب المحكوم
بالطهارة استصحابا، فإنه لا يثبت له الطهارة بل ثبت جواز الصلاة فيه.
" والثالث " قوله: " ولأن البطن الثاني وإن كانوا يأخذون عن
الواقف فهم خلفاء عن المستحقين أولا فلا يحتاجون إلى اليمين.. "
وفيه: إن هذا ليس بدليل يعتمد عليه.
فتلخص: أن أصل الوقفية لا يثبت بالشاهد ويمين البطن الأول،
فإن وصلت النوبة إلى البطن الثاني وجب عليهم إعادة الشهادة واليمين
ولا ملازمة عقلا أو شرعا بين قول البطن الأول وقول البطن الثاني.
ثم قال في المسالك: " وإن قلنا بالثاني لم يأخذ إلا باليمين
كالبطن الأول، وعليه فلو كان الاستحقاق بعد الورثة كالأولاد مثلا
للفقراء وكانوا محصورين كفقراء قريته ومحلته فالحكم كالأول، وإن
لم يكونوا محصورين بطل الوقف لعدم امكان اثباته باليمين وعادت
الدار إرثا ".
وفيه: أنه لا وجه للحكم ببطلان الوقف، نعم لا يثبت الوقف
وهو أمر آخر، اللهم إلا أن يقال بترتب أثر البطلان عليه، وحيث
تعود الدار إرثا فهل يشترط في استحقاق الوارث منها وجوده عند
موت المورث أو لا؟ فيه بحث.
ثم قال " قده ": " وهل يصرف إليهم بغير يمين؟ وجهان ".
أقول: وهذا عجيب، فإنه لما تعود الدار إرثا لا يبقى مورد
لهذا البحث.
478

قال: " ويحتمل عودها إلى أقرب الناس إلى الواقف بناء على
أنه وقف تعذر مصرفه كالوقف المنقطع.. " أي: أنه مع غض النظر
عن الاشكال من جهة تعذر حلف جميعهم لفرض عدم الانحصار يكون
وقفا متعذر المصرف، فيحتمل عودها إلى أقرب الناس إلى الواقف
وفيه: أنه إن كان المراد من الأقرب إليه هو الأقرب بما هو أقرب
لا بما هو وارث فهذا لا يقول به أحد من الأصحاب، والأولى في
الوقف الذي تعذر مصرفه أن يصرف في مطلق وجوه البر أو إلى
الوجه الأقرب إلى غرض الواقف.
ولو مات أحد الحالفين وبقي سائرهم صرف نصيبه إليهم،
فإن لم يبق منهم إلا واحد صرف كل الوقف إليه، قال في المسالك:
" وهل أخذ الآخرين يكون بيمين أو بغير يمين؟ يبنى على أن البطن
الثاني هل يأخذ بيمين أم لا؟ فإن قلنا بعدم افتقاره إلى اليمين فهنا أولى
وإن قلنا باليمين ففيه هنا وجهان: من انتقال الحق إلى الباقي من
غيره فيفتقر إلى الحلف. ومن كونه قد حلف مرة وصار من أهل
الوقف فيستحق بحسب شرط الوقف تارة أقل وتارة أكثر " لكن
الأقرب - وفاقا للجواهر - عدم التوقف على اليمين. هذا كله بالنسبة
إلى حكم ما إذا حلف المدعون أجمع.
قال المحقق " قده ": " وإن امتنعوا حكم بها ميراثا وكان نصيب
المدعين وقفا ".
أقول: وإن امتنع جميع المدعين للوقفية عن اليمين اشتركوا
مع سائر الورثة في الدار وقسمت بينهم حسب الفريضة في الميراث،
479

لكنهم حيث يعترفون بالوقفية يكون ما وقع إليهم وقفا فلا يتصرفون
فيه التصرف الملكي، ومع موت الناكلين تنتقل سهامهم إلى وراثهم
وعليهم أن يعاملوا ما ينتقل إليهم معاملة الوقف لاقرار مورثيهم بالوقفية،
ولو ادعى هؤلاء على سائر الوراث بأن جميع الدار وقف ففي
المسالك: " وجهان مبنيان من كون الأولاد تبعا لآبائهم فإذا لم يحلفوا
لم يحلفوا، ومن أنهم يتلقون الوقف من الواقف فلا تبعية. وربما
بني الخلاف على أن الوقف المنقطع الابتداء هل يصح أم لا؟ فإن
منعناه لم يحلف الأولاد على الجميع لانقطاعه قبل طبقتهم، وإن
جوزناه جاء الوجهان. والحق مجيؤهما وإن منعنا من الوقف المنقطع
الأول، لأن حلف الأولاد اقتضى عدم انقطاعه في الواقع وإن انقطع
بالعارض حيث لم يحلف آباؤهم، ولأن البطن الثاني كالأول، لأن
الوقف صار إليهم بالصيغة الأولى عن الواقف، ولأن منه الثاني
من الحلف يؤدي إلى جواز افساد البطن الأول الوقف على الثاني
وهذا لا سبيل إليه. فالقول بجواز حلفهم أقوى، وهو خيرة الشيخ
في المبسوط والمصنف وغيرهما ".
قلت: وما ذهبوا إليه هو الأقوى، وأما اشكال صاحب الجواهر
قدس سره من " أن يمين الأولاد لا يصلح لاثبات اتصال الوقف لأنه
حينئذ يكون يمينا للغير " فمندفع بأن هذه اليمين تثبت عدم انقطاع
الابتداء وليست لآبائهم.
قال المحقق: " وإن حلف بعض ثبت نصيب الحالف وقفا وكان
الباقي طلقا تقضى منه الديون وتخرج الوصايا وما فضل ميراثا ".
480

أقول: أي ينتفع منه الجميع، ولكن الناكلين الذين يعترفون
بالوقفية ليس لهم أن يعاملوا ما وقع إليهم معاملة الملك، وكذا
الأمر بالنسبة إلى وراثهم وإن أعطوا بعنوان الإرث، لأن اقرار آبائهم
بالنسبة إلى ما بأيديهم حجة، فلو أقر المورث عند الوارث بأن
الشئ الفلاني وديعة عنده من فلان وليس من جملة أمواله وجب
على الوارث دفع الشئ إلى مالكه بلا بينة.
ومن ادعى الوقفية ونكل عن اليمين جاز لوارثه أن يحلف عليها
فيأخذ مثل وارث الحالف بعد انقراض البطن الأول. ويترتب على
يمين وارث الناكل أنه إن كان الوقف على الأولاد بالسوية وامتنع
أحدهم عن اليمين كان أمر بنته دائرا بين أن تحلف على الوقفية -
فيكون نصيبها مساويا لنصيب أخيها - وبين أن تأخذ نصف سهمه
من باب الإرث.
وحيث يثبت نصيب الحالف وقفا فهل يعطى مع ذلك سهما
بعنوان الإرث؟ قال المحقق والعلامة قدس سرهما: نعم.
والأقوى كما تقدم هو جواز حلف الأولاد على أن جميع الدار
وقف، لأنه ليست الوقفية على البطن الثاني تابعة للوقفية على البطن
الأول، وأيضا: ليست يمين البطن الثاني تابعة ليمين البطن الأول.
قال المحقق: " وما يحصل من الفاضل للمدعين يكون وقفا ".
أقول: أي للاقرار كما عرفت آنفا.
قال: " ولو انقرض الممتنع كان للبطن التي تأخذ بعده الحلف
مع الشاهد ولا يبطل حقهم بامتناع الأول ".
481

أقول: وهذا واضح وقد عرفته آنفا أيضا.
المسألة الثالثة
(حكم ما لو ادعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده)
قال المحقق " قده ": " إذا ادعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده
وحلف مع شاهده ثبتت الدعوى ولا يلزم الأولاد بعد انقراضه يمين
مستأنفة ".
أقول: هذا مذهب المحقق وجماعة، وفي المسالك بنى المسألة
على أنه إن كان الأولاد يتلقون الدار مثلا من الواقف فيحلفون وإن كان
من البطن الأول فلا، ووجه ما ذكره المحقق " قده " قوله: " لأن
الثبوت الأول أغنى عن تجديده " يعني أن ثبوت الوقفية في حق
البطن الأول يغني عن اثباته في حق البطن الثاني.
وفي الجواهر: " لكن قد عرفت أن فيه منعا واضحا، ضرورة
كونه كذلك إذا كان في مال لا منازع لهم فيه لا في مثل الفرض "
قلت: وهذا هو الأولى.
قال المحقق: " وكذا إذا انقرضت البطون وصار إلى الفقراء
أو المصالح ".
أقول: أي لا يلزم أحد بالحلف حينئذ بل يكتفى لثبوت الوقفية
بحلف البطن الأول مع شهادة شاهدهم، لكن بناءا على ما ذهب
إليه صاحب الجواهر يجب على الفقراء مثلا الحلف إن كانوا محصورين
وأما في حال عدم كونهم محصورين فالوقف باطل لعدم صحة اليمين
482

من أحدهم، وقد احتمل هنا سقوط اليمين حينئذ، لكن ضعفه في
الجواهر، وقال: بل مناف لظاهر الأدلة.
هذا كله في وقف الترتيب.
قال المحقق: " أما لو ادعى التشريك بينه وبين أولاده افتقر
البطن الثاني إلى اليمين ".
في الجواهر: قطعا بل لا خلاف أجده فيه، وقد بين المحقق
وجه ذلك بقوله: " لأن البطن الثاني بعد وجودها تعود كالموجودة
وقت الدعوى " أي لما تقرر من أنهم جميعا يتلقون الدار من الواقف
هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد تقرر عدم ثبوت حق أحد بيمين
غيره.
وخالف السيد صاحب العروة قدس سره فقال الأقوى عدم
الحاجة إلى الحالف، قال: لأن الطبقات المتأخرة وإن كانوا يتلقون
من الواقف، إلا أن الوقف بهذه الكيفية أمر واحد مستمر، فإذا
أثبت من الأول ثبت في حق الجميع، وفيه أنه ليس في المقام إلا
انشاء صيغة واحدة فيقول: وقفت لأولادي، لكن هذا الانشاء ينحل
بعدد الأولاد في البطن الواحد، ولكنه حيث يوقف على الأولاد
وأولادهم يقول: وقفت على أولادي وأولاد أولادي، وحينئذ يكون
شموله للطبقة المتأخرة متوقفا على اليمين.
وعلى ما تقدم قال المحقق: " فلو ادعى إخوة ثلاثة أن الوقف
عليهم وعلى أولادهم مشتركا فحلفوا مع الشاهد " أي: وثبت ذلك
بالنسبة إليهم " ثم صار لأحدهم ولد فقد صار الوقف أرباعا " فهنا
483

مسائل:
(الأولى) هل يجب على الولد اليمين عند البلوغ؟ نعم فإنه
لا فرق بينه وبين الثلاثة، فكما أن أولئك ثبتت دعواهم وأعطوا
حصصهم باليمين فكذلك هذا الولد لا تثبت حصته ما لم يحلف.
ووجه ذلك ما تقدم من كون التلقي عن الواقف، فلو كان رابع
الثلاثة من أول الأمر لوجب عليه اليمين مثلهم فالآن كذلك، وعلى
هذا فيوقف له ربع الدار حتى يكبر، ولذا قال المحقق: " ولا تثبت
حصة هذا الولد ما لم يحلف، لأنه يتلقى الوقف عن الواقف، فهو
كما لو كان موجودا وقت الدعوى، ويوقف له الربع ".
(الثانية) وإذ يوقف له الربع فعند من يوقف؟ في المسالك:
" في تسليمه إلى وليه أو يوضع في يد أمين وجهان.. " توضيح
الأول: أنه يجعل عند وليه لأن لولده سهما باقرار الثلاثة، وما للولد
يكون عند وليه، وتوضيح الثاني: أنه يجعل عند أمين من غير الثلاثة،
لأنه قد لا يحلف عند كماله، ويحتمل أن يأبى وليه عن رده، فإن
كان الوارث منحصرا بالثلاثة فمع اقرارهم بعدم استحقاق ثلاثة أرباع
الدار من جهة ومع نكول الولد عند الكمال أو نفيه الوقفية من جهة
أخرى يكون الربع للميت ومنه تقضى ديونه وتنجز وصاياه، وإن
لم يكن منحصرا كان الربع لسائر الورثة.
وقد اختار صاحب المسالك الوجه الثاني، حيث قال بعده:
" وهذا هو الأصح " وفي الجواهر: قلت بل يتوقف في أصل ايقافه
484

لما عرفته في الوجه الأصح، وحينئذ يجري عليه حكم ما لم يثبت
وقفه ويحرم الثلاثة منه لاعترافهم بعدم استحقاقهم منه شيئا، إلا أني
لم أجد قائلا بذلك، ولعله قوي للاحتياط في مثله..
(الثالثة) لو مات الولد قبل البلوغ عادت الدار أثلاثا، وبقي
الكلام حول نماء سهمه من حين ولادته إلى موته. وحيث أن الثلاثة
قد أقروا بكونه للولد فهم ملزمون بحرمانهم منه، فيصل النماء إلى
ورثة الولد.
(الرابعة) قال المحقق: " فإن كمل وحلف أخذ، وإن امتنع قال
الشيخ يرجع ربعه على الإخوة لأنهم أثبتوا أصل الوقف عليهم ما لم
يحصل المزاحم وبامتناعه جرى مجرى المعدوم. وفيه اشكال ينشأ
من اعتراف الإخوة بعدم استحقاق الربع ".
أقول: ذهب الشيخ رحمه الله إلى رد الربع إلى الثلاثة لاثباتهم
أصل الوقف عليهم، والولد بنكول عن اليمين يجري مجرى المعدوم
فتبقى الدار بين الثلاثة كما كان الأمر قبل ولادة الولد. ولأن الواقف
جعل الإخوة الثلاثة أصلا في استحقاق الدار ثم أدخل من يتجدد
في جملة المستحقين على سبيل العول، فإذا سقط الداخل فالقسمة
باقية بحالها على الأصول كما كانت، نظير ما إذا مات انسان وخلف
ألفا من الدراهم فجاء ثلاثة وادعى كل واحد ألفا على الميت وأقام
شاهدا، فإن حلفوا معه فالألف بينهم، وإن حلف اثنان منهم فهو
لهما، وإن حلف واحد فالألف له.
485

فللشيخ رحمه الله على ما ذهب إليه وجهان، وقد أشكل المحقق
وغيره في الأول بأن الإخوة معترفون بعدم استحقاق الربع وأنه
للولد فكيف يجوز لهم أخذه بنكوله عن اليمين؟
لكن الشيخ نفسه قد تعرض إلى هذا الاشكال وأجاب عنه، وهذا
نص كلامه: " فإن قيل: الثلاثة إذا اعترفوا بالربع للصبي كيف يعود
إليهم ما اعترفوا به لغيرهم؟ قلنا: الاقرار ضربان: مطلق ومعزى
إلى سبب، فإذا عزي إلى سبب فلم يثبت السبب عاد إلى المقر به،
كقولهم: مات أبونا وأوصى لزيد بثلث ماله، فرد ذلك زيد، فإنه
يعود على من اعترف بذلك، وكذا من اعترف لغيره بدار في يده
فلم يقبلها الغير عادت إلى المقر، كذلك ههنا ".
وفي الوجه الثاني نظر، فأما المثال الأول فالفرق بينه وبين
محل الكلام واضح، لأنه مع رد زيد الموصى له للوصية لا تتم
تلك الوصية. وأما الثاني فلا نسلم بعود الدار إلى المقر مع عدم
قبول المقر له، لأن المقر يعترف بعدم استحقاقه لها، فيلزم اعطاؤها
للمقر له بأي نحو كان.
هذا، وما ذهب إليه الشيخ من عود سهم الولد إلى الثلاثة
أحد الوجوه في مصرف هذا السهم في هذه المسألة، وقد ذكر
وجهان آخران:
الأول: صرفه إلى الناكل بالرغم من نكوله لاعتراف الإخوة
له بالاستحقاق دونهم، إلا أن هذا يتوجه فيما إذا كان الولد معترفا
486

بالوقفية أو ممتنعا عن اليمين، وأما في صورة انكاره لأصل الوقفية
واعترافه بعدم الاستحقاق فلا وجه لأخذه ما يعطونه، لكن الشيخ
لم يمنع من أخذ الثلاثة لهذا السهم مع اعترافهم بعدم كونه لهم مع
أن الفرق بين الموضعين غير واضح، إلا أن الشيخ قد وجه ما
ذهب إليه بما قدمنا نقله عنه من تقسيمه الاقرار إلى ضربين.
ويمكن القول هنا بأن كون المال للأخوة بأحد سببين " الأول "
كون المال إرثا، فهم يستحقونه بالإرث بالعنوان الأولي، إلا أن
يقوم دليل ثانوي على تصرفهم فيه بعنوان آخر. و " الثاني " السبب
العارض والعنوان الثانوي وهو الوقفية. وحينئذ فإن اقرار الإخوة
بعدم كون السهم لهم مستند إلى الوقفية، لكن رفع اليد عن مقتضى
الدليل الأولي للاستحقاق يتوقف على ثبوت عنوان الوقفية، أما هناك
فإن مجرد عدم ثبوت الوقفية كاف لثبوت كونه إرثا من غير حاجة
إلى أن يحلفوا على الإرث، وعلى هذا فإن الاقرار المستند إلى
الوقفية مع عدم ثبوت المستند لا يمنع من صرف سهم الناكل إليه،
فيكونون شركاء في الإرث، إلا أن الإخوة الثلاثة يعلمون بأن الجمع
بين العنوانين لا يجوز.
" الثاني ": أنه وقف تعذر مصرفه، لأنه لا يصرف إلى الثلاثة
لاعترافهم بعدم الاستحقاق، ولا إلى الولد لعدم ثبوته له بنكوله،
فيكون من صغريات مسألة الوقف الذي تعذر مصرفه، فهل يرجع
إلى الواقف أو إلى ورثته أو يصرف في أقرب الوجوه لأي غرضه
487

أو مطلق وجوه البر؟ وجوه
(الخامسة): قال المحقق: " ولو مات أحد الإخوة قبل بلوغ
الطفل عزل له الثلث من حين وفاة الميت، لأن الوقف صار أثلاثا
وقد كان له الربع إلى حين الوفاة. فإن بلغ وحلف أخذ الجميع،
وإن رد كان الربع إلى حين الوفاة لورثة الميت والأخوين، والثلث
من حين الوفاة للأخوين ".
وهذا مذهب الشيخ " قده " قال المحقق: " وفيه أيضا اشكال
كالأول ".
أقول: إن رد فلا يعطى وراثه شيئا، بل يصرف إلى ورثة الواقف
فإنهم الطبقة الأولى وينكرون الوقفية، وإن لم يكن له ورثة فيصرف
إلى الحالفين.
هذا وأضاف في الجواهر فرعا وقال: ولو ادعى البطن الأول
الوقف على الترتيب وحلفوا مع شاهدهم فقال البطن الثاني بعد
وجودهم أنه وقف تشريك، ففي القواعد: كانت الخصومة بينهم
وبين البطن الأول، فإن أقاموا شاهدا واحدا حلفوا وتشاركوا، ولهم
حينئذ مطالبتهم بحصتهم من النماء من حين وجودهم. وفي كشف
اللثام: وإن نكلوا خلص الوقف للأولين ما بقي منهم أحد، وإن
تجددوا وادعوا التشريك قبل حلف الأولين كان خصوما لهم ولغيرهم
من الورثة، ولكن لا يجدي نكولهم إلا المدعين، فإنهم لما ادعوا
الاختصاص فحلفوا مع شاهدهم ثبت لهم ذلك، نعم إن انعكس بأن
حلف هؤلاء ونكل الأولون صار نصيب الأولين ميراثا. والله العالم.
488

المسألة الرابعة
(حكم ما لو ادعى عبدا وأنه أعتقه فأنكر المتشبث)
قال المحقق قدس سره: " لو ادعى عبدا وذكر أنه كان له وأعتقه
فأنكر المتشبث. قال الشيخ: يحلف مع شاهده ويستنقذه. وهو
بعيد لأنه لا يدعي مالا ".
أقول: لو ادعى عبدا هو الآن بيد غيره، فقال إنه كان لي وقد
أعتقته، فأنكر الذي بيده العبد ذلك. قال الشيخ: يحلف المدعي
مع شاهده ويستنقذ العبد. وقال المحقق: " هو بعيد لأنه لا يدعي
مالا " وقد تقدم أن الذي يثبت بالشاهد الواحد واليمين هو المال
وحده، وتقدم أيضا أن الحرية ليست مالا. وأما بناء على كون الحرية
حقا من الحقوق فتشملها صحيحة محمد بن مسلم، فإن هذا الحق
يكون للعبد نفسه لا لمعتقه، ولا أثر ليمين المعتق لاثبات حق غيره
فيكون هذا المورد نظير دعوى أن هذه المرأة أم ولده، بل لو سلم
ثبوت المطلب هناك فإن هذه الدعوى هنا لا تثبت.
ولعل نظر الشيخ إلى ترتب الأثر المالي على هذه الدعوى،
وهو أنه يرثه من جهة الولاء.
المسألة الخامسة
(حكم ما لو ادعى عليه القتل وأقام شاهدا)
489

قال المحقق " قده ": " لو ادعى عليه القتل وأقام شاهدا فإن
كان خطأ أو عمد الخطأ حلف وحكم له. وإن كان عمدا موجبا
للقصاص لم يثبت باليمين مع الواحد وكانت شهادة الشاهد لوثا،
وجاز له اثبات دعواه بالقسامة ".
أقول: لو ادعى عليه القتل وأقام شاهدا واحدا فتارة يدعي ما
يوجب المال وأخرى يدعي ما لا يوجبه، ففي " الصورة الأولى "
كما لو كان القتل المدعي خطأ أو عمد الخطأ حلف المدعي مع
شهادة الشاهد وحكم له لما تقدم من ثبوت الحق المالي بالشاهد
واليمين.
وفي " الصورة الثانية " كما لو كان القتل المدعى عمدا موجبا
للقصاص لم يثبت الحق باليمين مع شهادة الشاهد الواحد لعدم كونه
حقا ماليا، وتكون شهادة الشاهد الواحد في هذه الصورة لوثا وجاز
للمدعي اثبات دعواه حينئذ بالقسامة.
وتوضيحه: إن قتل العمد يثبت بأمور: (1) البينة، (2) اقرار
القاتل، ويكفي مرة واحدة. (3) القسامة في صورة اللوث. و اللوث
أمارة دون البينة، أي أن يكون هناك قرينة موجبة للظن بأنه القاتل
فحينئذ تجب القسامة، مثلا: لو وجدت جثة شخص مقتول مضرج
بدمائه وبالقرب منه شخص آخر بيده سيف ملطخ بالدم، فتقام
القسامة وهي أن يقسم خمسون رجل - أحدهم ولي المقتول - بأن
فلانا هو القاتل فيثبت القصاص حينئذ وإن لم يكن هؤلاء عدولا.
ولو كانوا خمسة وعشرين رجلا حلف كل واحد منهم مرتين،
490

ولو كانوا أقل كرروا اليمين حتى الخمسين، ولو كان الولي وحده
حلف خمسين مرة، ولو لم يوجد أحد أو امتنعوا عن اليمين حلف
خمسون رجل على الانكار، أو أقيمت البينة على النفي.
وهنا حيث يوجد شاهد واحد كانت شهادته لوثا وجاز للمدعي
اثبات دعواه بالقسامة فإن أقيمت ثبت الحكم كما ذكرنا.
(قال الميلاني): هذا آخر الجزء الأول من الكتاب. ويتلوه
إن شاء الله تعالى الجزء الثاني وأوله: في كتاب قاض إلى قاضي.
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على محمد
وآله الطاهرين ولعنة الله على
أعدائهم أجمعين
491