الكتاب: مصباح الفقاهة
المؤلف: السيد الخوئي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٤١١
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى المحققة
سنة الطبع:
المطبعة: العلمية - قم
الناشر: مكتبة الداوري - قم
ردمك: ٩٦٤-٩٠٩٠-٠١
ملاحظات: تقرير أبحاث سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (وفاة ١٤١١)

مصباح الفقاهة
1

خوئي، أبو القاسم 1278 - 1371
مصباح الفقاهة: تقرير أبحاث سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم
الموسوي الخوئي (قدس سره)
بقلم محمد علي التوحيدي التبريزي - قم داوري، 1377.
5 ج
15000 ريال (هر جلد) (دوره) 1 0 - isbn 9090
فهرستنويسي بر أساس اطلاعات فيپا (فهرست نويسي پيش از انتشار).
أين كتاب در سالهاى مختلف توسط ناشرين مختلف منتشر گرديده است.
كتابنامه
1 - معاملات (فقه) ألف - توحيدي، محمد على، 1303 - 1353، محرر بعنوان
6 م 9 خ / Br 190 373 / 297
1377 11456 - 77 م
هوية الكتاب:
اسم الكتاب: مصباح الفقاهة ج 2
المؤلف: الشيخ محمد على التوحيدي
الناشر: مكتبة الداوري - قم - تليفون 732178
شابك: 5 - 2 - 90950 - 964 - (vol SET. 5)
المطبعة: العلمية - قم
الطبعة: الأولى المحققة
العدد: 1000 نسخة
2

مصباح الفقاهة
تقرير أبحاث
سماحة آية الله العظمى
السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي قدس سره
بقلم
الشيخ محمد علي التوحيدي
الجزء الثاني
منشورات مكتبة الداوري
قم / إيران
3

بسم الله الرحمن الرحيم
المعاملات وحكمة البحث عن حقيقتها
لا شبهة في أن الانسان مدني بالطبع لا يمكنه الاستقلال بحوائجه
كلها، وإذن فيتوقف حفظ نظام النوع وصيانة كيانه على الاجتماع
وتشريع المبادلة بين الأموال، بداهة أنه لو لم يشرع ذلك لاحتاج كل
واحد في حاجاته إلى التغالب والتكالب والمقاهرة، كما هو الحال في
سائر الحيوانات، وعليه فلا بد في حفظ النظام من تشريع المعاملات.
وعلى هذا الضوء فلا مناص من معرفة أحكام المعاملات وتنقيح
قواعدها وتبويب أبوابها، وبما أن اشتغال جميع أفراد المكلفين بذلك
يوجب اختلال النظام وجب التصدي عليهم كفاية.
المال وحقيقته
ما هو حقيقة المال وما هو الفارق بينه وبين الملك؟
المال في اللغة ما ملكه الانسان من الأشياء (1)، وفي العرف أن المالية
إنما تنتزع من الشئ بملاحظة كونه في حد ذاته مما يميل إليه النوع،

1 - المال: ما ملكته من جميع الأشياء - لسان العرب 11: 636.
5

ويدخرونه للانتفاع به وقت الحاجة، ويتنافسون فيه، ويبذلون بإزائه
شيئا مما يرغب فيه من النقود وغيرها، ضرورة أن منا من الحنطة ليس
كالمن من التراب، فإن الأول ينتزع منه عنوان المالية دون الثاني.
وأما عند الشرع، فمالية كل شئ باعتبار وجود المنافع المحللة فيه،
فعديم المنفعة المحللة كالخمر والخنزير ليس بمال.
ثم إن النسبة بين المال والملك هي العموم من وجه، بديهة أنه قد
يوجد الملك ولا يوجد المال، كالحبة من الحنطة المملوكة، فإنها ملك
وليست بمال، وقد يتحقق المال ولا يتحقق الملك كالمباحات الأصلية
قبل حيازتها، فإنها أموال وليست بمملوكة لأحد، وقد يجتمعان وهو
كثير.
ثم إنه لا وجه لتخصيص المال بالأعيان، كما يظهر من الطريحي في
مجمع البحرين (1)، بل المال في اللغة والعرف يعم المنافع أيضا، ولعل
غرضه من التخصيص هو بيان الفرد الغالب.
الإضافة الحاصلة بين المال ومالكه وحقيقة هذه الإضافة وأقسامها
ما هو حقيقة الإضافة بين المال ومالكه؟
لا ريب في أن الإضافة الموجودة بين المال ومالكه المسماة بالإضافة
المالكية على أقسام، لأنها في الواقع ونفس الأمر إما إضافة ذاتية
تكوينية، أو إضافة عرضية حاصلة بالأمور الخارجية.
أما الأولى فكالإضافات الكائنة بين الأشخاص وأعمالهم وأنفسهم
وذممهم، فإن أعمال كل شخص ونفسه وذمته مملوكة له ملكية ذاتية،

1 - مجمع البحرين 5: 475، كذا أيضا في النهاية لابن الأثير 4: 373، حيث قال: المال في
الأصل ما يملك من الذهب والفضة ثم أطلق على كل ما يقتني ويملك من الأعيان - الخ.
6

وهو واجد لها فوق مرتبة الواجدية الاعتبارية ودون مرتبة الواجدية
الحقيقية التي هي لله جل وعلا.
والمراد من الذاتي هنا ما لا يحتاج تحققه إلى أمر خارجي تكويني أو
اعتباري، وليس المراد به الذاتي في باب البرهان، أي ما ينتزع من مقام
الذات، ولا الذاتي في باب الكليات الخمس أعني به الجنس والفصل،
وهذا واضح لا ريب فيه.
والمراد من الملكية الذاتية ليس إلا سلطنة الشخص على التصرف في
نفسه وشؤونها (1)، بداهة أن الوجدان والضرورة والسيرة العقلائية كلها
حاكمة بأن كل أحد مسلط على عمله ونفسه وما في ذمته، بأن يؤجر
نفسه لغيره، أو يبيع ما في ذمته، ومن البين الذي لا ستار عليه أن الشارع
المقدس قد أمضى هذه السلطنة ولم يمنع الناس عن التصرفات الراجعة
إلى أنفسهم.
وليس المراد من الملكية هنا الملكية الاعتبارية لكي يتوهم أن عمل
الانسان أو نفسه ليس مملوكا له بالملكية الاعتبارية.
ومن هنا يتجلى لك أنه لا شبهة في صدق المال على عمل الحر،
وعليه فاستيفاؤه قهرا عليه موجب للضمان جزما، وكذلك الحال في
ضمان نفسه، غاية الأمر أن الشارع المقدس قد سلك في ضمان النفس
المحترمة وما يرجع إليها من الأعضاء والأطراف غير ما سلكه في ضمان
الأموال، وجعل في ذلك حدا خاصا ودية مخصوصة.
وأما الثانية، أعني بها الإضافة العرضية، فهي أما أن تكون إضافة
أولية، وأما أن تكون إضافة ثانوية، والأولية إما أصلية استقلالية، أو
تبعية غيرية.

1 - لأنه لا معنى لأن يملك الانسان فعل نفسه - المحاضرات.
7

فالأولية الأصلية كالإضافة المالية الحاصلة بالعمل أو بالحيازة أو بهما
معا.
فالأول (1) كالأعمال التي يعملها الانسان فيحصل منها المال كحيازة
المباحات، بناء على عدم اعتبار قصد التملك فيها كما هو الحق، وأما
بناء على اعتبار القصد في ذلك فحصول الملكية فيها يحتاج إلى العمل
القلبي، وقد حكم العقلاء بحصول المالية بمجرد الحيازة، بل اشتهر بين
الفقهاء مرسلا: أن من حاز ملك (2).
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طرق العامة (3) ومن طرق الخاصة أن: من
سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به، ولكنه ضعيف السند وغير
منجبر بشئ (4)، والمهم في المقام هو بناء العقلاء، فإنه قائم على حصول
الإضافة المالكية بين المحيز والمحاز.
والثالث كمن يحوز أشجارا فيجعلها سريرا، أو يجوز ترابا فيجعله

1 - ربما يكون منشأ الانتزاع الصنعة، كما إذا أخذ أحد ما لا مالية له - كالطين - فصنعه كوزا
فيكون مالا، وهذه الصنعة هي المنشأ في إضافته إليه بعنوان أنه مال، ويترتب عليه - عند الكسر
- سقوط ماليته.
وقد يكون المنشأ ما يلحق بالصنائع من الأعمال، كما إذا أتى أحد بالماء من النهر، فإنه
يكون مالا وإن كان عند النهر لا مالية له، ومثله حفظ الثلج إلى الصيف، فإنه يكون مالا وإن كان
في الشتاء لا مالية له - المحاضرات 2: 7.
2 - لم نجده في أصول الحديث من كتب الخاصة والعامة، ونحتمل قريبا أنه قاعدة فقهية
متصيدة من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة والفصول المتفرقة، كاحياء الموات
والتحجير وغيرهما، كبقية القواعد الفقهية المضروبة لبيان الأحكام الجزئية.
3 - عن ابن مضرس قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وآله) فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبقه إليه
مسلم فهو له، قال: فخرج الناس يتعادون يتخاطون - سنن البيهقي 6: 142.
4 - قال النبي (صلى الله عليه وآله): من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به - راجع المبسوط
للشيخ الطوسي 3: 268، ومستدرك الوسائل 17: 112 عن عوالي اللئالي 3: 480.
8

كوزا، أو يحوز نباتا فيجعله ثوبا أو حصيرا أو غيرهما، فإن الصورة
السريرية والكوزية والثوبية والحصيرية توجب تحقق إضافة مالية
أخرى في تلك الموارد وراء المالية المتقومة بها، فتلك المالية القائمة بها
إنما حصلت من العمل والحيازة معا.
ثم إن الوجه في اطلاق الأول على هذه الإضافة هو أنه لم تسبق إضافة
ذلك المال إلى غيره، والوجه في اطلاق الأصلية عليها إنما هو بلحاظ
عدم تبعيتها لغيرها.
وأما الإضافة الأولية التبعية فهي ما تكون بين المالك وبين نتاج
أمواله (1)، فإن هذا النتاج يضاف إلى مالك الأصول إضافة أولية تبعية، أما
اطلاق التبعية فلكونها ثابتة لما تحصل منه، وأما اطلاق الأولية فلعدم
سبق إضافة أخرى إليها.
وأما الإضافة الثانوية فالمراد بها ما قابل الإضافة الأولية وإن طرأت
على الأموال مرارا عديدة، نظير المعقولات الثانوية من جهة مقابلتها
للمعقولات الأولية.
وهي على قسمين، لأنها تارة تكون قهرية وأخرى اختيارية: أما
الأولى، فكالإضافة التي تحصل بسبب الإرث أو الوقف أو الوصية، بناء
على كونها - أي الوصية - من الايقاعات وقد اخترناه في محله، ووجه
كونها قهرية هو حصول الملكية للوارث والموقوف عليه والموصى له
بالقهر لا بالفعل الاختياري، وأما الثانية، فكالإضافة الحاصلة من
المعاملات، ومن ذلك ما يحصل بالبيوع التي نحن في صدد بحثها.
ولا يخفى على الفطن العارف أن ما ذكرناه من أقسام الإضافات
المالكية من الأمور البديهية التي قياساتها معها.

1 - كبيض الدجاج وصوف الغنم وثمر الشجر - المحاضرات.
9

حقيقة البيع
الثمن ووجه اختصاصه بالنقود
قوله (رحمه الله): البيع وهو في الأصل كما في المصباح (1) مبادلة مال بمال.
أقول: قد كان ديدن الناس من لدن آدم أبي البشر (عليه السلام) إلى زمان خاص
بل إلى زماننا هذا، في بعض النقاط والأصقاع كالقرى وأشباهها، قد كان
ديدنهم على تبديل المتاع بالمتاع عند المعاملة والمعاوضة، وكان ذلك
من الأمور الصعبة جدا، خصوصا في تعيين الأروش وقيم المتلفات،
ولهذا بنى العقلاء على تخصيص الثمن بالنقود وتخصيص المثمن
بالأمتعة، وإلا فإنه لا محذور قطعا في صحة تحقق المبادلة بين المتاعين
عند المعاملة والمعاوضة.
وعليه فقد تقع المبادلة بين المتاعين، وقد تقع بين النقدين، وقد تقع
بين عرض ونقد.
ثم إنه هل يشمل مفهوم البيع لجميع هذه الأقسام المذكورة، أم هو
مختص ببعض دون بعض؟
لا شبهة في أن مفهوم البيع في الجملة من المفاهيم الواضحة البديهية

1 - المصباح للفيومي: 69 حيث قال: البيع من الأضداد مثل الشراء، ويطلق على كل
واحد من المتعاقدين أنه بائع، لكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة، ويطلق
البيع على المبيع فيقال بيع جيد - إلى أن قال - والأصل في البيع مبادلة مال بمال، لقولهم: بيع
رابح وبيع خاسر، وذلك حقيقة في وصف الأعيان، لكنه أطلق على العقد مجازا لأنه سبب
التمليك والتملك.
10

الارتكازية التي يعرفها كل أحد، كمفاهيم سائر العقود والايقاعات،
إلا أنه لا يوجد مفهوم في العالم إلا ويعرضه الاشتباه في بعض مصاديقه،
ومن هنا ذكر المصنف (رحمه الله) في أول كتاب الطهارة أن مفهوم الماء المطلق
من أوضح المفاهيم العرفية، ومع ذلك ذكر أنه قد يقع الشك في صدقه
على بعض الموارد، لعدم ضبط المفهوم تحقيقا فيرجع إلى الأصول
العملية.
وعلى هذا الضوء، فلا بد من بيان حقيقة البيع على وجه يمتاز عن
جميع ما عداه، لكي تترتب عليه أحكامه الخاصة، من شرائط المتعاقدين
وشرائط العوضين والخيارات وغيرها.
وتحقيق ذلك: أن مفهوم البيع لا يساوق مفهوم المبادلة بين شيئين، بل
يطلق البيع على قسم خاص من المبادلة، وضابطه أن امتياز البيع عن بقية
أقسام المبادلة بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون أحد العوضين متاعا والعوض الأخر نقدا،
فالذي يعطي المتاع يسمى بايعا، والذي يعطي النقد يسمى مشتريا،
سواء أكان نظر كل من المتعاملين في مبادلتهم هذه إلى تحصيل الربح
وحفظ مالية ماله معا، أم كان نظر كل منهما إلى رفع حاجته فقط، كأن
يشتري المأكولات للأكل، ويشتري المشروبات للشرب، ويشتري
الملبوسات لللبس وهكذا، أم كان نظر أحدهما إلى حفظ مالية ماله
وتحصيل الربح معا ونظر الآخر إلى دفع الضرورة والاحتياج فقط.
الوجه الثاني: أن يكون كلا العوضين نقدا أو من العرض ولكن كان نظر
أحد المتعاملين من المبادلة إلى حفظ مالية ماله في ضمن أي متاع كان مع
تحصيل الربح كأهل التجارة، ونظر الآخر إلى رفع حاجته فقط، فالأول
يسمى بائعا والثاني يسمى مشتريا.
11

وعلى هذا النهج يكون الملحوظ فيما يعطيه المشتري هو المالية
الخالصة، لكي يكون ذلك قائما مقام النقود، ويعنون بعنوان الثمنية.
ولا ريب في أن هذا المعنى هو المتبادر من مفهوم البيع عند أهل
العرف، بل هو أمر ارتكازي في ذهن كل بشر من أهل أية لغة كان،
ويعرف ذلك كل منهم ولو من غير العارف باللغة العربية، بديهة أن
الغرض الأقصى والغاية القصوى إنما هو معرفة مفهوم البيع لا لفظه
ومادته، لكي يختص البحث بلفظ دون لفظ.
وإذا كان كلا العوضين عرضا أو نقدا، وكان الغرض لكل من
المتعاملين هو تحصيل الربح والمنافع مع حفظ مالية ماله في ضمن أي
متاع كان، أو كان نظر كليهما إلى رفع الاحتياج ودفع الضرورة فقط، وإذا
كان كذلك فإن ذلك لا يسمى بيعا جزما، بل هو معاملة خاصة، ويدل
على صحة ذلك عموم آية التجارة عن تراض (1).
نعم يظهر من بعض كتب العامة (2) جواز اطلاق البيع على مطلق المبادلة
والمعاوضة، ولكن قد عرفت قريبا أن هذا الاطلاق على خلاف
المرتكزات العرفية.

1 - وما ذكره الميرزا النائيني (قدس سره) من أن أحد المتبادلين لا بعينه في الفرض بائع والآخر
مشتر ولا تعين لهما واقعا - غريب، فإنا قد ذكرنا غير مرة أن أحدهما لا بعينه لا مصداق له
خارجا، فالصحيح أن هذه المبادلة ليست بيعا ولا شراء وإن كانت صحيحة، بمقتضى: أوفوا
بالعقود، وكونه تجارة عن تراض - المحاضرات 2: 10.
2 - في الفقه على المذاهب الأربعة 2: 148 عن الحنفية: أن من أقسام البيع مبادلة سلعة
بسلعة، ويسمونها مقايضة.
وفي: 152 عن المالكية: أن من أقسام البيع بيع العرض بالعرض، وعن الحنابلة: أن مفهوم
البيع يشمل المقايضة، وهي مبادلة سلعة بسلعة.
وفي: 154 عن الشافعية: الثامن من أقسام البيع بيع الحيوان بالحيوان، ويسميه غيرهم
مقايضة، وهو صحيح.
12

وعلى هذا الضوء، فإذا أراد أحد تبديل كتابه بكتاب شخص آخر أو
تبديل ثوبه بثوب غيره لمجرد دفع الاحتياج، فإنه لا يتوهم أحد أن أيا
منهما باع كتابه بكتاب غيره أو باع ثوبه بثوب غيره، كما أنه لا يتوهم أحد
أيضا أن باذل النقد هو البائع وباذل العرض هو المشتري، ومن هنا ذكر
الفيومي في المصباح أنه: إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل
السلعة (1).
وأما ما ذكره في المصباح، من أن الأصل في البيع مبادلة مال بمال،
فهو وإن كان شاملا لجميع أقسام المبادلة ولكنه ليس تعريفا حقيقيا،
لقضاء الضرورة بأن البيع ليس هو مطلق المبادلة بين شيئين، بل هو تعريف
لفظي، وتبديل لفظ بلفظ آخر أوضح منه، كقول أهل اللغة: السعدان
نبت (2)، وكذلك الحال فيما ذكره بعض العامة من أن البيع في اللغة مقابلة
شئ بشئ.
ثم إنه يمكن أن يراد من لفظة الأصل في تعريف المصباح ما كان هو
المتعارف في الأيام السالفة، من كون البيع عبارة عن مطلق المبادلة بين
الأموال، بديهة أنه لو كان غرض الفيومي من هذه الكلمة هو اللغة لوجب
عليه أن يصدر كلامه بلفظة الأصل عند شرح كل مادة ترد عليه.
وقد وقع التصريح بما ذكرناه في لسان العرب ومجمع البحرين في
مادة المال، وذكرا أن المال في الأصل الملك من الذهب والفضة، ثم
أطلق على كل ما يقتنى ويتملك من الأعيان (3).

1 - المصباح: 69.
2 - مضافا أنا لا نشك في أن البيع لا يطلق على فعل الاثنين، أعني البيع والشراء، وإنما
يطلق على فعل طرف واحد منهما، إلا أنه تعريف لفظي - المحاضرات 2: 13.
3 - لسان العرب 11: 636، مجمع البحرين 5: 475.
13

المبيع ووجه اختصاصه بالأعيان
هل يجوز أن يكون المبيع من المنافع، أم لا بد وأن يكون من الأعيان؟
الظاهر أنه لا ريب في اشتراط كونه من الأعيان، بداهة اختصاص
مفهوم البيع عند أهل العرف بتمليك الأعيان فلا يعم تمليك المنافع،
وإذن فتختص الأدلة الواردة في امضاء البيع بنقل الأعيان، وتبعد عن
تمليك المنافع رأسا.
نعم يظهر من المحكي عن المالكية والحنابلة جواز اطلاق البيع على
تمليك المنافع (1)، ولكنه على خلاف المرتكزات العرفية.
ومع الاغضاء عما ذكرناه أن مجرد الشك في صدق مفهوم البيع على
تمليك المنافع يكفينا في المنع عن شمول أدلة امضاء البيع له.
وحينئذ فدعوى أن المتبادر من مفهوم البيع تمليك العين فقط، وأن
هذا المفهوم يصح سلبه عن تمليك المنفعة دعوى صحيحة، ولا ريب
في أن التبادر وصحة السلب من علائم الحقيقة، وعليه فيكون البيع
حقيقة في تمليك العين ومجازا في غيره.
وإذا ثبتت هذه الدعوى في العصر الحاضر ثبتت في محاورات أبناء
الأزمنة السالفة أيضا، بأصالة عدم النقل المعبر عنها بالاستصحاب
القهقرى، وقد ذكرنا في مبحث الاستصحاب من علم الأصول أنه لا دليل
على حجية هذا الاستصحاب إلا في مورد واحد، وهو أن يكون المتبادر

1 - في الفقه على المذاهب الأربعة 2: 111 عن المالكية أنه يصح اطلاق البيع على نقل
المنافع.
وفي: 152 عن الحنابلة: أن معنى البيع في الشرع مبادلة مال بمال، أو مبادلة منفعة مباحة
بمنفعة مباحة على التأييد.
14

الفعلي من اللفظ معنى خاصا وشك في كونه كذلك في العهود البائدة
والأيام السالفة، فإن الاستصحاب القهقرى يقتضي بقاء اللفظ على معناه
الأولى وعدم انتقاله منه إلى معنى آخر يغايره.
والدليل على حجية الاستصحاب المزبور في هذا المورد إنما هو بناء
العقلاء وسيرة العلماء وديدن الفقهاء، لأنه لولا ذلك لانسد عليهم باب
الاجتهاد وطريق الاستنباط، إذ من المحتمل القريب أن تكون الروايات
في عرف الأئمة (عليهم السلام) ظاهرة في معاني مغايرة لما هي ظاهرة فيه فعلا،
ومن البين الذي لا ريب فيه أنه لا سبيل إلى دفع هذا الاحتمال إلا
الاستصحاب المذكور.
ويؤيد ما ذكرناه من اختصاص المبيع بالأعيان أمران:
1 - ما استقرت عليه آراء الفقهاء من تخصيص المعوض - في البيع -
بالأعيان.
2 - ما ذكره بعض العامة (1)، من أن البيع في اللغة اخراج ذات عن الملك
بعوض، فتمليك المنفعة بالإجارة لا يسمى بيعا.
قيل: إن ما ذكره الفيومي في المصباح من أن البيع في الأصل مبادلة مال
بمال يشمل نقل المنافع كشموله لنقل الأعيان، وعليه فلا وجه
لتخصيص مفهوم البيع بتمليك الأعيان.
والجواب عن ذلك، أنك قد عرفت قريبا أن هذا التعريف ليس
بتعريف حقيقي، لكي يلزم الأخذ باطلاقه والحكم بشمول مفهوم البيع
لتمليك العين والمنفعة، بل هو تعريف لفظي مبني على المسامحة
والمساهلة.

1 - راجع الفقه على المذاهب الأربعة 2: 147.
15

وبما أوضحناه ظهر لك الفارق بين البيع والإجارة، وهو أن صيغة
الإجارة وإن كانت تتعلق بالعين المستأجرة، كقولك: آجرتك المتاع
الفلاني - الخ، إلا أن أثرها تمليك المنفعة، وهذا بخلاف البيع، فإن الأثر
المترتب عليه إنما هو تمليك العين، كما أن صيغته أيضا تتعلق بالعين.
وهذا المعنى هو السر فيما استظهره المصنف (رحمه الله) من اختصاص
المعوض - في البيع - بالأعيان وقال: والظاهر اختصاص المعوض
بالعين، وعليه استقر اصطلاح الفقهاء في البيع.
والمتحصل من جميع ذلك أن اطلاق كلمة البيع على تمليك المنافع
مبني على العناية والمجاز، وقد ورد هذا الاطلاق في كلمات الفقهاء،
وفي الروايات العديدة الواردة في مواضيع شتى:
منها: الأخبار الدالة على بيع خدمة المدبر (1).
ومنها: الرواية الواردة في بيع سكنى الدار (2).

1 - المروية عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) قال: باع رسول الله
(صلى الله عليه وآله) خدمة المدبر ولم يبع رقبته (التهذيب 8: 260، الإستبصار 4: 29، عنهما الوسائل
23: 120)، ضعيفة بالنوفلي.
وعن أبي مريم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن الرجل يعتق جاريته عن دبر أيطأها إن
شاء أو ينكحها أو يبيع خدمتها في حياته، فقال: نعم أي ذلك شاء فعل (الفقيه 3: 72، التهذيب
8: 263، الإستبصار 4: 29، عنهم الوسائل 23: 119)، مجهولة بأبي مريم.
وعن علي بن أبي حمزة سالم البطائني، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل أعتق جارية
له عن دبر في حياته، قال: إن أراد بيعها باع خدمتها في حياته، فإذا مات أعتقت الجارية، وإن
ولدت أولادا فهم بمنزلتها (التهذيب 8: 263، الإستبصار 4: 29، عنهما الوسائل 23: 120)،
ضعيفة بابن أبي حمزة، ومجهولة بقاسم بن محمد الجوهري.
2 - المروية عن إسحاق بن عمار، عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: سألته عن رجل في يده دار
ليست له، ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله قد أعلمه من مضى من آبائه أنها ليست لهم
ولا يدرون لمن هي، فيبيعها ويأخذ ثمنها، قال: ما أحب أن يبيع ما ليس له، قلت: فإنه ليس
يعرف صاحبها ولا يدري لمن هي ولا أظنه يجئ لها رب أبدا، قال: ما أحب أن يبيع ما ليس
له، قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده فيقول لصاحبه أبيعك سكناي وتكون في يدك كما هي
في يدي، قال: نعم يبيعها على هذا (التهذيب 7: 130، عنه الوسائل 17: 335)، موثقة بابن عمار
وغيره.
16

ومنها: الأخبار الواردة في بيع الأراضي الخراجية وشرائها (1)، وقد
ورد في جملة من الأحاديث اطلاق لفظ الشراء على غير نقل الأعيان (2).
وقد ظهر لك مما أسلفناه الفارق بين البيع والهبة المعوضة، بداهة أن
البيع - على ما عرفته آنفا - عبارة عن تبديل عين بشئ آخر، بخلاف الهبة
المعوضة، فإن حقيقتها وقوامها بالمجانية المحضة، وإنما اعتبر فيها
العوض بالاشتراط.

1 - المروية في الكافي 5: 282 باب اشتراء أرض الخراج من السلطان، والكافي 5: 269
باب قبالة أرض أهل الذمة وجزية رؤوسهم ومن يتقبل الأرض من السلطان، والكافي 5: 271
باب الرجل يستأجر الأرض، والتهذيب 4: 147 باب أحكام الأرضين، والتهذيب 4: 155 باب
حكم الشراء عن أرض الخراج، عنهم الوسائل 15: 157.
2 - كما في المروية عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل يريد أن
يتزوج المرأة ينظر إليها، قال: نعم إنما يشتريها بأغلى الثمن (الكافي 5: 365، عنه الوسائل
20: 78)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
وعن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يريد أن يتزوج المرأة فينظر
إلى شعرها، فقال: نعم إنما يريد أن يشتريها بأغلى الثمن (الفقيه 3: 260، التهذيب 7: 435،
عنهما الوسائل 20: 89)، مجهولة بهيثم بن أبي مسروق النهدي والحكم بن مسكين.
وعن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن رجل له امرأتان قالت
إحداهما: ليلتي ويومي لك، يوما أو شهرا أو ما كان، أيجوز ذلك، قال: إذا طابت نفسها و
اشترى ذلك منها لا بأس (التهذيب 7: 474، مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 174، الوسائل
21: 344)، صحيحة.
17

والشاهد على ذلك أنها لا تبطل بامتناع الموهوب له عن العوض، بل
إنما يثبت له خيار تخلف الشرط، وسيأتي لك توضيح ذلك عند
التعرض لتعريف البيع ودفع النقوض عنه.
بحث استطرادي في تعريف الإجارة ومناقشته وجوابها
قد اشتهر بين الأصحاب تعريف الإجارة بأنها تمليك المنفعة بعوض،
ونوقش فيه بوجهين:
1 - إن المنفعة معدومة حال الإجارة، ومن البين الذي لا ريب فيه أن
المعدوم غير قابل للتمليك.
والجواب عن ذلك: أن الملكية الشرعية ليست من المقولات الحقيقية
التكوينية لكي يستحيل تعلقها بالأمور المعدومة، بل قوامها بالاعتبار
الساذج، ومن المعلوم أن الأمور الاعتبارية بما أنها خفيفة المؤونة جاز
تعلقها بالأمور المعدومة إذا كانت مقدورة التسليم، وبديهي أن المنفعة
وإن كانت معدومة ولكنها مقدورة بتبع العين الخارجية.
وإذن فلا محذور في تعلق الملكية الاعتبارية في الإجارة بالمنفعة
المعدومة الملحوظة مع العين المستأجرة، كما يصح تعلقها بالذمة، ومن
هنا حكم الفقهاء (قدس سرهم) بصحة بيع الكلي في الذمة.
2 - إن منفعة الدار مثلا إنما هي سكناها، ولا ريب أن السكنى من
أعراض الساكن دون الدار، وعليه فإذا صح تملك السكنى كان مالكها هو
الساكن - لأنه موضوعها - لا صاحب الدار، ومن البين أن ما لم يملكه
المؤجر - وهو المالك - كيف يملكه للمستأجر، وقد ثبت في محله أن
فاقد الشئ لا يكون معطيا له.
هذا ملخص ما أفاده بعض المدققين، ولذا التجأ إلى تعريف الإجارة
18

بأنها تمليك العين المستأجرة في جهة خاصة، ويقابلها البيع فإنه تمليك
العين من جميع الجهات.
والجواب عن ذلك بوجهين:
1 - إن لسكنى الدار إضافتين، وهما إضافتها إلى نفس الدار وإضافتها
إلى ساكنها، ومن البين أن تلك الدار مملوكة لمالكها بجميع شؤونها
وجهاتها وما يضاف إليها، وإذن فمالك الدار مسلط على تمليك الدار
نفسها وتمليك جهاتها التي منها سكناها.
وعلى الجملة أن المستأجر إنما يتملك من المؤجر الجهة المتعلقة
بالعين المستأجرة، وتلك الجهة تختلف حسب اختلاف الأعيان
والأغراض، وعليه فلا محذور في تعريف الإجارة بأنها تمليك المنفعة
بعوض.
2 - ما ذكره بعض مشائخنا المحققين في كتاب الإجارة، من أنه
لا يمكن جعل الإجارة تمليكا للعين في جهة خاصة.
والوجه في ذلك أن معروض الملكية إن كان نفس تلك الجهة عاد
محذور تعلق الملكية بالمنفعة، وإن كان هي العين المخصصة بجهة،
والعين المتحيثة بحيثية مخصوصة بما هي مقيدة بها، لزم اجتماع ملكين
استقلاليين على عين واحدة، وتقييدها بالجهة تارة واطلاقها أخرى
لا يوجب تعدد الموضوع.
المراد من العين التي نعتبرها في المثمن
المراد من العين ما إذا وجد في الخارج وكان جسما مشتملا على
الأبعاد الثلاثة: العرض والطول والعمق، ولا شك في أن هذا المعنى
للعين يقابل المنفعة والحق وجميع الأعراض المقولية، وإذن فلا يصدق
19

مفهوم البيع على تبديل منفعة بمنفعة ولا على تبديل حق بحق، وقد
عرفت ذلك آنفا.
وليس المراد من العين ما يتعلق البيع بشخصه، بداهة شمولها للأعيان
الشخصية، وللكلي المشاع كثلث الدار، وللكلي في المعين كصاع من
الصبرة المعينة، وللكلي في الذمة كبيع من من الحنطة سلما أو حالا،
وللكلي الثابت في ذمة غيره.
فإن هذه الأمور يصدق عليها عنوان العين ويتعلق بها البيع، مع أنها
أمور قابلة للانطباق على أفراد كثيرة، بل على أفراد غير متناهية، فالصاع
من الصبرة يمكن انطباقه على يمين الصبرة ويسارها ووسطها وناحية
أخرى غير تلك النواحي، وهذا بين لا ريب فيه.
وعلى هذا فشأن الملكية شأن الوجوب والحرمة، فكما أنهما يتعلقان
بكلي الصلاة والزناء من غير لحاظ خصوصية في متعلقهما، بحيث يكون
متعلق الأمر والنهي هو الكلي ويكون الموجود الخارجي مصداقا له،
كذلك الملكية فإنها قد تتعلق بالكلي وإن كانت قد تتعلق بالجزئي
الحقيقي أيضا، كما عرفته قريبا.
نظرة في بيع الكلي في الذمة
ثم إن بيع الكلي في الذمة على قسمين، لأنه قد يتعلق بالكلي الثابت في
الذمة قبل البيع، كبيع الدين ممن هو عليه أو من غيره، وقد يتعلق بالكلي
الثابت في الذمة بنفس البيع من غير أن يكون فيها شئ قبله، كما هو
المتعارف في بيع السلم وغيره من البيوع الكلية.
وقد نوقش فيه بوجهين:
1 - إن البيع مبادلة مال بمال، ولا تتحقق هذه المبادلة إلا بعد تحقق
20

العوض والمعوض في الوعاء المناسب لهما من الخارج أو الذمة، وبما
أنه لا وجود للكلي في أي وعاء من الأوعية قبل البيع، فلا يصح بيعه
بوجه.
وقد يتوهم أن الكلي وإن لم يكن موجودا في الذمة قبل البيع إلا أنه
يوجد فيها بنفس البيع، ولكن هذا التوهم فاسد، بداهة أن نسبة البيع إلى
متعلقه كنسبة الحكم إلى موضوعه، فكما يستحيل تكفل الحكم
بموضوعه كذلك يستحيل تكفل البيع بايجاد متعلقه.
والجواب عن ذلك أن البيع ليس إلا مبادلة في التمليك، وقد عرفت
قريبا وستعرف أيضا أن الملكية من الأمور الاعتبارية التي لا تتوقف على
وجود موضوع لها في الخارج أو في الذمة، نعم لا بد وأن يكون متعلق
الملكية قابلا لتعلق الاعتبار به في نظر العقلاء، وعليه فالكلي قبل إضافته
إلى الذمة وإن كان من المفاهيم الخيالية وغير قابل لتعلق البيع به رأسا، إلا أنه بعد إضافته إلى الذمة يعد من الأموال ويصير موردا لرغبات العقلاء
ومحطا لتنافسهم.
وإذن فلا فرق في صحة بيع ما في الذمة بين أن يكون الكلي مملوكا
قبل البيع، كبيع الدين ممن هو عليه أو من غيره، وبين أن يكون مملوكا
بالملكية الاعتبارية بنفس البيع، وفي الحقيقة أنه يحصل بالبيع هنا
أمران: اتصاف الكلي بالملكية، وصيرورته ملكا للمشتري.
وقد يجاب عن المناقشة المذكورة بأن البائع قبل تصديه للبيع يعتبر
الكلي في ذمة نفسه ثم يبيعه من المشتري، وحينئذ فلا يكون الكلي غير
قابل لتعلق البيع به.
والجواب عن ذلك أن الاعتبار المزبور لا يغير الكلي عن واقعه
ولا يزيد فيه على حقيقته، بل هو بعد باق على حالته الأولية من دون أن
21

يتصف بصفة الملكية، ومن هنا لا يطلق ذو أملاك على من اعتبر أمتعة
كلية في ذمة نفسه، نعم يتصف ذلك بصفة الملكية بعد البيع، وقد عرفته
قريبا، وهذا واضح لا خفاء فيه.
2 - إن الملكية من مقولة الأعراض، ومن البديهي أن مقولة الأعراض
لا توجد إلا في المحل الموجود، و الكلي الذمي لا وجود له قبل البيع
لكي يكون محلا للملكية ومعروضا لها.
والجواب عن هذه المناقشة بوجوه شتى:
1 - ما ذكره العلامة الطباطبائي في حاشيته، وحاصل كلامه: أن
الملكية وإن كانت من قبيل الأعراض الخارجية إلا أن حقيقتها متقومة
باعتبار الشارع أو العقلاء، وعليه فيمكن أن يكون موضوع هذه الملكية
موجودا أيضا باعتبار الشارع أو العقلاء، كما أن الوجوب والحرمة
عرضان خارجيان مع أنهما لا يتعلقان إلا بالأمور الكلية الاعتبارية كالصلاة
والزناء قبل أن يوجدا في الخارج، وعلى هذا النهج فللشارع أو للعقلاء
أن يعتبروا الكلي الذمي شيئا موجودا في الذمة لكي يكون موضوعا
للملكية ومعروضا لها (1).
والجواب عنه أنه قد يراد من العرض المذكور في كلامه العرض
المقولي، وعليه فلا يسوغ له أن يجمع بين كون الملكية من الأعراض
وبين كونها من الأمور الاعتبارية المتقومة بالاعتبار الساذج، ضرورة أن
الأعراض المقولية من الأمور الواقعية المتأصلة، وهذا بخلاف الأمور
الاعتبارية إذ لا واقع لها سوى الاعتبار المحض، وسيتضح لك أن الأمور
الاعتبارية لا تدخل تحت أية مقولة من المقولات المتأصلة.
وقد يراد من العرض المزبور في كلامه المفهوم العام الصادق على

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 53.
22

المقولات التسع العرضية وعلى الأمور الاعتبارية الخالصة، بداهة أن
لفظ العرض من العروض وهو بمعنى اللحوق، وعليه فلا تكون الملكية
عنده من المقولات المتأصلة، بل تكون زائدة على الماهية، كما أن
الوجود زائد عليها، وإذن فيرجع ما أفاده السيد من الجواب المتقدم إلى
ما سيأتي من كون الملكية أمرا اعتباريا لا تأصليا، ومن هنا ظهرت الحال
في الوجوب والحرمة أيضا.
2 - ما حكي عن الفاضل النراقي في عوائده، وملخصه: أن البيع عبارة
عن نقل المالك ملكه إلى غيره نقلا فعليا، سواء أكان مالكا له بالفعل أم
كان مالكا له في المستقبل، كما إذا قال: بعتك منا من الحنطة بكذا مع أن
الحنطة لم توجد الآن لديه، فيكون معناه: إني نقلت إليك المن الذي
سأملكه من الحنطة بعد مدة، وإذن فالنقل وإن كان فعليا إلا أنه ليس
بعرض لكي يحتاج إلى موضوع، وما هو عرض وهو الملك ليس بفعلي
حتى يناقش فيه بعدم وجود الموضوع له.
ويتوجه عليه:
أولا: أن البيع ليس عبارة عن نقل الملك، وسيأتي، ولا أن الملك من
الأعراض المصطلحة، وقد تقدمت الإشارة إليه وسنتعرض له تفصيلا.
وثانيا: أن نقل الملك بنفسه ليس من العناوين الاستقلالية، وإنما هو
بلحاظ الإضافة أو المكان، ومن البين الذي لا ريب فيه أنه إذا استحالت
إضافة الملكية إلى المعدوم، فإن النقل الحاصل بلحاظ تلك الملكية أولى
بالاستحالة.
3 - إن الملكية أمر اعتباري صرف فلا يحتاج إلى محل موجود،
وتوضيح ذلك:
أن الملكية لها أربع مراتب:
23

ألف - الملكية الحقيقية، وهي السلطنة التامة بحيث يكون اختيار
المملوك تحت سلطنة المالك حدوثا وبقاء، وهي مخصوصة بالله
تعالى، لأنه سبحانه مالك لجميع الموجودات بالإضافة الاشراقية ملكية
تامة، ومحيط بها إحاطة قيومية.
وهذه المرتبة من الملكية هي عليا مراتب الملكية، ولأجل ذلك
لا تدخل تحت مقولة من المقولات، ونظير ذلك في الممكنات إحاطة
النفس بصورها، بداهة أن النفس مالكة لصورها بالإضافة الاشراقية ملكية
حقيقية.
ب - مالكية الانسان لنفسه وأعضائه وأفعاله وذمته، فإن هذه الأمور
مملوكة له بالإضافة الذاتية الأولية، وقد عرفت ذلك في أول الكتاب،
ومن هذا القبيل قوله تعالى حاكيا عن نبيه الأكرم موسى (عليه السلام): إني
لا أملك إلا نفسي (1).
ولا شبهة أن هذه المرتبة من الملكية أيضا غير داخلة تحت المقولات
العرضية، وإنما هي عبارة عن سلطنة الشخص على أفعاله سلطنة
تكوينية.
ج - الملكية المقولية الخارجية، وهي عبارة عن الهيئة الحاصلة من
إحاطة جسم بجسم آخر، كالهيئة الحاصلة من التعمم والتقمص
والتنعل ونحوها، وهذه المرتبة تسمى بمقولة الجدة، وهي من
الأعراض الخارجية القائمة بالموجود الخارجي.
د - الملكية الاعتبارية التي يعتبرها العقلاء لشخص خاص لمصالح
تدعوهم إلى ذلك، وربما يمضي الشارع اعتبارهم هذا لأجل تلك

1 - المائدة: 25.
24

المصلحة، بل قد يعتبر الشارع ملكية شئ لشخص وإن لم يعتبرها
العقلاء، كما يتفق ذلك في بعض أقسام الإرث.
ومن البين الذي لا ريب فيه أن هذا النحو من الملكية ليست من
الأعراض لكي تحتاج إلى وجود الموضوع في الخارج.
ومثال ذلك أن الزكاة والخمس يملكهما طبيعي الفقير والسيد مع أنه
لم يعتبر وجودهما في الخارج، وأيضا قام الاجماع على صحة تمليك
الكلي الذمي في بيع السلف ونحوه، مع أن الأعراض لا بد لها من موضوع
خارجي.
وعلى الجملة أن الملكية الاعتبارية لا مانع من كون طرفها من المملوك
أو المالك كليا، فيستكشف منه أنها ليست من الأعراض المقولية، بل
تمام قوامها باعتبار من بيده الأمر (1).

1 - ذكر بعض المحققين من المشايخ وجهين آخرين لاستحالة دخول الملكية المصطلحة
تحت الأعراض المقولية:
1 - إن المقولة ما يقال على الشئ ويصدق عليه في الخارج، فلا بد من أن يكون لها مطابق
وصورة في الأعيان - كالسواد والبياض وما شابههما من الأعراض - أو يكون من حيثيات ماله
مطابق ومن شؤونه الوجودية، فيكون وجودها بوجوده، كمقولة الإضافة... ومن الواضح أنه بعد
وجود العقد مثلا لم يوجد ماله مطابق في الخارج، ولم يتحيث ذات المالك والمملوك بحيثية
وجودية، بل على حالهما قبل العقد، وصدق المقولة بلا وجود مطابق أو تحيثه بحيثية واقعية أمر
غير معقول.
ويتوجه عليه: أن هذا الوجه ليس إلا مصادرة واضحة، بداهة أن ذات المالك والمملوك
يتحيثان بعد عقد البيع بحيثية واقعية، وهي حيثية المالكية وحيثية المملوكية، وإنما الكلام في أن تلك الحيثية أهي من سنخ المقولات العرضية أم هي من الأمور الاعتبارية.
2 - إن المقولات لمكان واقعيتها لا تختلف باختلاف الأنظار، ولا تتفاوت بتفاوت
الاعتبارات، فإن السقف الملحوظ إلى ما دونه فوق في جميع الأنظار، وبالإضافة إلى السماء
تحت بجميع الاعتبارات، مع أن المعاطاة مفيدة للملك عرفا وغير مفيدة له شرعا.
وفيه: أن اختلاف الأنظار في جملة من الأشياء أمر ضروري لا سبيل إلى انكاره، إذ من
البين الذي لا ريب فيه أن الفلاسفة قد اختلفوا في علمه تعالى أنه يتعلق بجميع الأشياء تفصيلا
جزئية كانت أم كلية - كما ذهب إليه جل المحققين - أو لا يتعلق إلا بالكليات - كما ذهب إليه
الشيخ الرئيس في كتابيه الشفاء والإشارات - وقد يختلف الطبيبان في صحة شخص ومرضه،
أو أن الأمر الفلاني ينفع المزاج أو يضره، إلى غير ذلك، بل ربما يختلف أهل العرف في ثبوت
شئ وعدمه، كالعلم والعدالة والشجاعة والسخاء وغيرها من الأوصاف.
25

وإذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أن مورد البحث إنما هو المرتبة
الرابعة من الملكية القائمة بالاعتبار الساذج، بلا احتياج إلى محل موجود
أصلا ورأسا.
وعليه فلا وجه للمناقشة في جواز بيع الكلي الذمي بما عرفته قريبا،
من أن الملكية من مقولة الأعراض التي لا توجد إلا في محل موجود،
والكلي في الذمة ليس بموجود لكي يكون محلا للملكية.
المراد من كلمة المبادلة المأخوذة في تعريف البيع
قد عرفت آنفا أن التعاريف اللغوية إنما هي تعاريف لفظية، وقد
سيقت لشرح الاسم والإشارة إلى المعرف - بالفتح - بوجه من الوجوه،
لا بتمام الوجوه لكي يمتاز عن جميع ما عداه.
وعلى هذا فغرض الفيومي من ذكر كلمة المبادلة في تعريف البيع:
أنه في الأصل مبادلة مال بمال، ليس إلا الإشارة إلى أن البيع من سنخ
المبادلة، إلا أن تلك المبادلة ليست مبادلة في المكان كرفع شئ من
مكانه ووضعه في مكان آخر، ولا مبادلة في اللبس كتبديل عباءة بعباءة
أخرى، ولا مبادلة في السكنى كتبديل دار بدار أخرى، ولا مبادلة في
الركوب كتبديل فرس بفرس آخر، ولا غير ذلك من أقسام المبادلة
26

الخارجية التكوينية، بل المراد من تلك المبادلة هي المبادلة في الإضافة
المالية.
بديهة أن كل من المتبايعين يبدل ماله في الإضافة المالية عند المبايعة
بمال آخر، وللإشارة إلى هذه النكتة القيمة الدقيقة قد أخذ الفيومي في
مصباحه قيد المال في تعريف البيع.
والتحقيق أن مفهوم البيع في الجملة من المفاهيم البديهية الارتكازية
التي يعرفها كل أحد، وهو التبديل بين شيئين في جهة الإضافة، أية
إضافة كانت، أي سواء أكانت إضافة ملكية، أم كانت إضافة مالية، أم
إضافة حقيقية، أم غيرها من أنحاء الإضافات، ولا تختص هذه الإضافة
بالإضافة الملكية ولا بالإضافة المالية.
أما الوجه في عدم اختصاصها بالإضافة الملكية، فلأن سهم سبيل الله
من الزكاة ليس ملكا لشخص خاص، ولا لجهة معينة، ولذا صدر في آية
الصدقات بلفظة: في (1)، الظاهرة في بيان المصرف، ومع ذلك كله
يجوز بيع السهم المزبور وصرف ثمنه في سبيل الله، كما يجوز بيع نماء
العين الموقوفة في سبيل الله وصرف ثمن ذلك في قربات الله، مع أن
تلك العين ليست بملك لأحد ولا لجهة، وكذا نماؤها، فيستوضح من
جميع ذلك أن مفهوم البيع ليس تبديل شيئين في الإضافة الملكية.
ولو سلمنا مالكية الجهة في المثالين المذكورين، فرضنا الكلام فيمن
أوصى بصرف ماله في سبيل الله ونص على عدم صيرورته ملكا لأحد،
فإنه إذا بيع المال المزبور لكي يصرف ثمنه في قربات الله لم يقع التبديل
بين العوضين في الإضافة الملكية بل في إضافة أخرى غيرها.

1 - قال الله تعالى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم
وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل - التوبة: 60.
27

أما الوجه في عدم اختصاص الإضافة المذكورة بالإضافة المالية،
فلأنه لا دليل على اعتبار المالية في البيع، وإنما المناط في تحقق مفهومه
هو صدق عنوان المعاوضة عليه، وأما ما ذكره صاحب المصباح من أن
الأصل في البيع مبادلة مال بمال، فلا يكون دليلا على ذلك لعدم حجية
قوله.
وعلى هذا، فإذا كان المبيع موردا لغرض المشتري، سواء أكان مالا
عند العقلاء أم لا كالحشرات، واشتراه بأغلى الثمن، صدق عليه مفهوم
البيع.
وهذا بين لا ريب فيه، غاية ما يلزم كون المعاملة على ما ليس بمال
عرفا سفهية، ولا دليل على بطلانها بعد ما شملته أدلة صحة البيع،
والفاسد شرعا إنما هو معاملة السفيه، والدليل على الفساد فيها أن السفيه
محجور شرعا عن المعاملات، وإذن فلا وجه لأخذ قيد المال في
تعريف البيع.
قيل: إذا تعلق غرض المشتري باشتراء ما لا يعد مالا في نظر أهل
العرف، كان ذلك الغرض موجبا لعروض المالية له، لما عرفته آنفا من
أن مالية الأشياء متقومة بنظر العقلاء ورغبتهم فيها، ومن البديهي أن
المشتري من أفرادهم.
والجواب عن ذلك: أن مالية الأشياء وإن كانت متقومة برغبة العقلاء
وتنافسهم فيها، إلا أن المراد من العقلاء نوعهم دون الشخص الواحد،
ولأجل ذلك أن من اعتبر المالية في البيع فقد رتب على اعتباره هذا فساد
بيع الحيات والعقارب والديدان والخنافس، وأشباهها من هوام الأرض
وصغار دوابها، وغير ذلك مما لا يعد مالا في نظر نوع العقلاء، وإن كان
ذا رغبة لدى بعضهم لغرض ما.
28

ويضاف إلى ذلك أنا لو سلمنا وجود الدليل على اعتبار المالية في
البيع، إلا أن ذلك حكم شرعي غير مربوط بمفهوم البيع حتى يؤخذ في
تعريفه، ولو صح أخذ ذلك في تعريف البيع لحسن بنا أن نأخذ أحكام
البيع برمتها في تعريفه، مع أنه واضح الفساد.
ثم لا يخفى على الفطن العارف أن مفهوم البيع لا يتحقق إلا بدخول
العوض في ملك من خرج المعوض عن ملكه، بأن يفك البائع إضافته
القائمة بالمتاع ويجعلها قائمة بالثمن، ويفك المشتري إضافته القائمة
بالثمن ويجعلها قائمة بالمتاع.
ومثال ذلك أنه: إذا باع زيد طعامه من عمرو بدينار، صار الدينار ملكا
لزيد، ولو صار الدينار ملكا لبكر لما صدق عليه مفهوم البيع بوجه،
ويستوضح هذا المعنى من الكتاب العزيز (1) ومن كلمات الفصحاء وأهل
العرف واللغة.

1 - قال الله تعالى: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى، البقرة: 16.
قال الله تعالى: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون، البقرة: 96.
قال الله تعالى: إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا، البقرة: 275.
قال الله تعالى: واشهدوا إذا تبايعتم، البقرة: 282.
قال الله تعالى: إن الذين اشتروا الكفر بالايمان، آل عمران: 171.
قال الله تعالى: فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، النساء: 76.
قال الله تعالى: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا، المائدة: 48.
قال الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، التوبة:
113.
قال الله تعالى: وشروه بثمن بخس دراهم معدودة، يوسف: 20.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الظاهرة في أن دخول العوض مكان المعوض معتبر في
مفهوم البيع والشراء.
29

قيل: قد تعارف بين الناس اعطاء الدراهم للخباز أو للبزاز، والأمر
باعطاء مقابلها من الخبز والثوب للفقير، ولا شبهة في كون ذلك بيعا
بالحمل الشائع، مع أن المثمن لم يدخل في ملك من خرج الثمن عن ملكه.
والجواب عنه: أن المثمن في أشباه ما ذكر قد دخل في ملك من خرج
الثمن عن ملكه، نهاية الأمر أن المشتري قد وكل البائع في اعطاء المبيع
لشخص آخر، وإن أبيت عن هذا التوجيه فإنا لا نبالي في المنع عن صدق
مفهوم البيع على ذلك، وحمله على الصلح أو على الهبة المعوضة.
مفهوم المفاعلة وعدم صدقه على البيع
ما هو مفهوم المفاعلة، وهل يصدق ذلك على البيع الذي هو تبديل
شئ بشئ؟
الظاهر أن وزن: فاعل للدلالة على المشاركة في الغالب،
والمشاركة هي أن يفعل الواحد بالآخر ما يفعله الآخر به حتى يكون كل
منهما فاعلا ومفعولا، نحو ضارب زيد عمروا.
وعليه فذكر المبادلة في تعريف البيع يقتضي أن يكون البيع عبارة عن
مجموع فعل البائع والمشتري، ولكن هذا واضح البطلان، ضرورة أن
البيع ليس إلا عبارة عن فعل البائع فقط، وهو تبديل ماله بمال صاحبه،
ومن البديهي أن هذا المعنى غريب عن معنى المفاعلة، ولا صلة بينهما
بوجه، بل لو فرضنا صدق مفهوم البيع على كل من فعل البائع والمشتري
لكان الصادر من كل منهما بيعا بنفسه.
وإذن فلا وجه لذكر كلمة المبادلة في تعريف البيع، كما صنعه
صاحب المصباح وتلقاه جماعة بالقبول، بل لا بد من تبديل لفظ المبادلة
في تعريف البيع بكلمة التبديل، فإن التبديل هو الذي يتحقق بفعل البائع.
30

نعم يشترط رضا المشتري بفعل البائع وتحقق عنوان التبديل، ولكنه
أجنبي عن قيامه بالمشتري كقيامه بالبائع، وهذا بخلاف مفهوم المبادلة
فإنه معنى قائم بشخصين، كما هو الشأن في باب المفاعلة، على ما عرفته
في طليعة البحث.
رأي بعض مشايخنا المحققين في معنى المفاعلة والجواب عنه
قد سلك بعض مشايخنا المحققين مسلكا آخر في معنى المفاعلة (1)،
وحاصله أنه قد اشتهر بين الأدباء وغيرهم أن الفارق بين الهيئات المجردة
وبين هيئة المفاعلة إنما هو تقوم المعنى في باب المفاعلة بطرفين، إلا أن
المستوضح من الكتاب الكريم ومن الاستعمالات الصحيحة خلاف
ذلك، كقوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا (2)، فإن الغرض من الآية
الشريفة تصدى المنافقين لخديعة الله وخديعة المؤمنين فقط، وغير
ذلك من الآيات الكثيرة الظاهرة في خلاف ما اشتهر بين الناس من معنى
المفاعلة (3).
ويقال في الاستعمالات العرفية الصحيحة: عاجله بالعقوبة، وخالع
المرأة، وبارزه بالحرب، وساعده التوفيق، وواراه في الأرض وغير
ذلك، فإن جميع ذلك بين ما لا تصح نسبة المادة فيه إلى الاثنين، وبين ما
لم يقصد فيه ذلك وإن صحت النسبة المزبورة، وعليه فلا بد من بيان
الفارق بين هيئة الفعل المجرد وبين هيئة المفاعلة.

1 - هو المرحوم العلامة المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني الكمباني طاب ثراه، وهو
أول من تنبه لهذا الأمر، كما قال العلامة الخوئي قدس الله سره في مصباح الأصول 2: 523.
2 - البقرة: 9.
3 - قال الله تعالى: إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، النساء: 142.
31

وتوضيح ذلك: أن الهيئات المجردة لم يلحظ فيها تجاوز المادة عن
الفاعل إلى غيره بحسب وضع الواضع، بل التجاوز فيها إما ذاتي كجملة
من الأفعال المتعدية، نظير ضرب وخدع ونصر ونحوها، أو بواسطة
الأداة كما في الأفعال اللازمة، مثل جلس وذهب وأمثالهما، وقسم من
الأفعال المتعدية كلفظ كتب ونظائره، بديهة أن تجاوز المادة في
القسمين الأخيرين إلى غير الفاعل إنما هو بواسطة الأداة، فيقال: جلس
إليه، وكتب إليه.
نعم لا شبهة في أن كلمة: كتب تدل على تجاوز المادة وهي الكتابة
إلى المكتوب فقط دون المكتوب إليه، الذي هو مورد بحثنا، وإذا أريد
تجاوز تلك المادة إلى المكتوب إليه، فلا بد من الاستعانة بكلمة إلى.
وأما هيئة المفاعلة كخادع وضارب وقامر ونحوها، فإن حيثية تعدية
المادة عنها إلى غيرها ملحوظة فيها مطابقة في مقام إفادة النسبة، وهذا
بخلاف الأفعال المجردة المتعدية كضرب ونصر وخدع ونحوها، فإن
التعدية فيها من ذاتيات مفادها.
وعليه فإذا صدر فعل من أحد كان أثره خداع غيره، صدق عليه أنه
خدعه ولا يصدق عليه أنه خادعه، إلا إذا تصدى لخديعة غيره، وكذلك
الحال في ضرب وضارب ونصر وناصر وأشباهها من الأفعال المتعدية،
ومن هنا يفرق بين ضار ومضار، فإن سمرة بن جندب لما أبا عن
الاستئذان من الأنصاري عند الدخول على عذقه من منزل الأنصاري قال
له النبي (صلى الله عليه وآله): إنك رجل مضار (1)، أي متصد لاضرار الأنصاري.
والجواب عن ذلك: أن هيئة المفاعلة لا تتقوم إلا بصدور الفعل من
الاثنين، لما عرفته آنفا من دلالة المفاعلة على المشاركة في الغالب،

1 - الكافي 5: 292.
32

وهي أن يفعل الواحد بالآخر مثلما يفعله الآخر به، لكي يكون كل منهما
فاعلا ومفعولا، نحو ضارب زيد عمروا.
ومن الواضح أن هذا المعنى لا يتحقق بمجرد تصدي أحدهما لايجاد
المادة دون صاحبه، فلا يقال: ضارب زيد عمروا أو صارعه أو جادله،
فيما إذا تصدى زيد لضرب عمرو أو حربه أو صراعه أو جداله، من دون
أن يصدر منه أحد هذه الأمور، بل لو لم يصدر الفعل منه ومن صاحبه معا
لعد مثل هذا الاستعمال من الأغلاط الواضحة.
نعم، قد تكون هيئة المفاعلة بمعنى الفعل المجرد، نحو سافر زيد،
وقاتله الله، وواراه في الأرض، وبارك في أمره، وأشباه ذلك من الأمثلة،
وقد تكون بمعنى الكثرة والمبالغة، ولعل من القبيل الثاني قول النبي
(صلى الله عليه وآله) لسمرة بن جندب: إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على
مؤمن.
الإجارة وعدم استعمالها في نقل العين
قوله (رحمه الله): كما أن لفظ الإجارة يستعمل عرفا في نقل بعض الأعيان كالثمرة
على الشجرة.
أقول: إن كان مراده من الثمرة على الشجرة وجودها عليها فعلا، كما
هو الظاهر من كلمة على، فلا شبهة أن الثمرة ليست موردا للإجارة، بل
استعمال لفظ الإجارة في نقل الثمرة غلط فاحش.
وإن كان مراده من الثمرة على الشجرة شأنية ظهورها عليها، فلا ريب
حينئذ في صحة تعلق الإجارة بالشجرة، وتكون الثمرة منفعتها
المقصودة من إجارتها، وعلى هذا فيجوز استعمال لفظ الإجارة في نقل
الثمرة استعمالا حقيقيا.
33

نعم قد يتوهم في بعض الروايات اسناد الإجارة إلى نفس الثمرة قبل
ظهورها على الشجرة، ولعله إلى هذا نظر المصنف في كلامه (1).
قيل: إن ظهور الثمرة على الشجرة فعلا لا يمنع عن صحة تعلق
الإجارة بالشجرة، فإن الثمرة الموجودة على الشجرة هي منفعتها
المقصودة منها، كما أن منفعة الدابة ركوبها، ومنفعة الدار سكناها.
والجواب عن ذلك: أن الإجارة وإن كانت تمليكا للمنفعة إلا أن تلك
المنفعة لا بد وأن تكون معلومة بوجه، ومن البين الذي لا ريب فيه أن
الثمرة الموجودة على الشجرة مجهولة المقدار، وإذن فتبطل الإجارة من
ناحية الجهالة.
قيل: إذا اقتضت الجهالة بطلان إجارة الشجرة بعد ظهور ثمرتها
اقتضت بطلان إجارتها قبل ظهور ثمرتها بالأولية القطعية لشدة الجهالة
هنا.
والجواب عنه: أن جهالة الثمرة قبل ظهورها على الشجرة لا تضر
بإجارة الشجرة، بديهة أن المناط في ارتفاع الجهالة عن المنفعة، التي هي
مورد للإجارة في العين المستأجرة، العلم باشتمال العين المستأجرة
على حيثية الانتفاع بها، بأن تكون معدة لذلك، ومن المعلوم أن اشتمال
الأشجار المثمرة على حيثية الأثمار أمر معلوم، وإذن فلا تبطل الإجارة

1 - في الصحيح عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تقبل الثمار إذا تبين لك بعض
حملها سنة وإن شئت أكثر، وإن لم يتبين لك ثمرها فلا تستأجرها (التهذيب 7: 202، عنه
الوسائل 19: 61.
لكن المراد من الاستئجار في الرواية الاشتراء، بداهة أن ظهور الثمرة على الشجرة ليس
بشرط في استئجار الشجرة، وإنما هو شرط في بيع الثمرة، وعليه فالمراد من لفظ التقبل -
المذكور في صدر الرواية - الشراء دون الاستئجار.
34

من ناحية الجهالة، وهذا بخلاف الثمرة الموجودة على الشجرة فإنها
مجهولة المقدار، وعليه فتبطل الإجارة من ناحية الجهالة.
ويضاف إلى ذلك أن إجارة الشجرة لثمرتها الموجودة خارجة عن
مفهوم الإجارة جزما، إذ لا نحتمل أن يتوهم أحد صدق مفهومها على
استئجار عين لأجل عين أخرى موجودة، كاستئجار الشاة للبنها
المحلوب، واستئجار الأشجار لأغصانها الفعلية، واستئجار المزرعة
لزرعها الموجود، وهكذا في نظائرها.
نعم قد تكون منفعة العين المستأجرة ما يوجد من الأعيان ولكنها غير
موجودة حال الإجارة، كاستئجار المنائح والبقرات والشياه للبنها غير
المحلوب، واستئجار المرضع ليرتضع الطفل من لبنها، واستئجار
الشجرة لثمرتها المعدومة.
والسر في ذلك ما أشرنا إليه من كون المنفعة في أمثال هذه الموارد
معلومة بوجه.
الثمن وجواز كونه من المنافع
قوله (رحمه الله): وأما العوض فلا اشكال في جواز كونه منفعة (1).
أقول: لا ريب في جواز كون الثمن من المنافع، سواء أقلنا باعتبار
المالية في العوضين أم لم نقل به، ضرورة أن المنافع من أظهر مصاديق
الأموال لرغبة العقلاء إليها وتنافسهم فيها.
نعم حكي عن بعض الأعيان (2) أن شأن العوض شأن المعوض، فكما

1 - كما في القواعد 1: 136، التذكرة 1: 556، جامع المقاصد 7: 103.
2 - نسبه الشيخ الكبير كاشف الغطاء في شرحه على القواعد (مخطوط): 48 إلى الوحيد
البهبهاني في رسالته العملية الموسومة بآداب التجارة (أنظر هداية الطالب: 149).
35

يعتبر كون الثاني من الأعيان وكذلك الأول، ويمكن الاستدلال على هذا
الرأي بوجوه:
1 - ما اشتهر بين الفقهاء من أن البيع نقل الأعيان.
ويرد عليه: أن غرض الفقهاء (قدس سرهم) من هذه العبارة هو المبيع، لأنهم
ذكروها في مقابل الإجارة التي هي لنقل المنافع، مع أن الأجرة فيها تكون
من الأعيان غالبا، ولعل النكتة في عبارتهم هذه هي ملاحظة ناحية
الايجاب، بداهة أن العقد إنما يتم بفعل الموجب، وأما القابل فليس له إلا
الارتضاء بذلك الفعل ونسبته إلى نفسه.
2 - إن الأدلة الدالة على صحة البيع ونفوذه إنما هي منصرفة إلى البيوع
المتعارفة، ومن البديهي أنه لم يتعارف جعل العوض في البيع من
المنافع، وعلى فرض وجوده في مورد فهو من الأفراد النادرة التي
تنصرف عنه الاطلاقات.
والجواب عن ذلك: أن مفهوم البيع - على ما عرفته آنفا - تبديل شئ
بعوض في جهة الإضافة، ولا يفرق في تحقق هذا المفهوم بين أن يكون
كلا العوضين عينا، أو كلاهما منفعة، أو أحدهما عينا والآخر منفعة،
ولكنا قد ذكرنا فيما سبق أن المتبادر من الاستعمالات العرفية عدم صدق
البيع على تمليك المنفعة، بل يعتبر في تحقق مفهومه أن يكون المبيع
عينا، وأما العوض فلم يدل دليل على اعتبار كونه من الأعيان، فيبقى
تحت مفهوم البيع وهو تبديل شئ بشئ في جهة الإضافة، فتشمله
العمومات الدالة على صحة العقود.
ويضاف إلى ذلك أن غلبة الأفراد الخارجية لا تمنع عن شمول أدلة
الامضاء للفرد النادر.
3 - إن المنافع أمور معدومة فلا يقع عليها البيع، ضرورة أن الملكية من
36

مقولة الأعراض وهي لا تتقوم إلا بالمحل الموجود، ومن المفروض أن
المنافع أمور معدومة، فيستحيل أن تكون موضوعا للملكية.
ويرد عليه: أن الملكية من الأمور الاعتبارية التي لا تتوقف على وجود
موضوع لها في الخارج، بل لا بد وأن يكون متعلقها قابلا لتعلق الاعتبار
به في نظر العقلاء، وقد عرفت ذلك فيما تقدم.
4 - ما ذكره الطريحي في مجمع البحرين، من أن المال في الأصل
الملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتني ويتملك من
الأعيان (1)، وعليه فلا تكون المنفعة ثمنا في البيع، لأنه مبادلة مال بمال،
والمفروض أن المنفعة ليست من الأموال.
ويرد عليه: أن المال ما يبذل بإزائه شئ حسب رغبة العقلاء
وتنافسهم، ومن الواضح أن هذا المعنى أعم من العين والمنفعة، بداهة
أن المنفعة من مهمات ما يرغب فيه العقلاء.
عمل الحر وجواز وقوعه ثمنا في البيع
قوله (رحمه الله): وأما عمل الحر، فإن قلنا إنه قبل المعاوضة عليه من الأموال فلا
اشكال، وإلا ففيه اشكال.
أقول: هذا الكلام استدراك عما تقدم منه (رحمه الله)، وهو قوله: وأما
العوض فلا اشكال في جواز كونه منفعة.
وتوضيح ذلك: أن عمل الحر تارة يلاحظ بعد وقوع المعاوضة عليه،
كما إذا استأجره لبناية داره، أو لنجارة بابه، أو لخياطة ثوبه، أو لغير ذلك
من الأغراض العقلائية، وأخرى يلاحظ قبل وقوع المعاوضة عليه،
وعلى الأول فلا اشكال في جعل العمل المزبور ثمنا في البيع، بداهة

1 - مجمع البحرين 5: 475.
37

كونه مالا مملوكا للمستأجر، وله أن يتصرف فيه أي تصرف، لأن الناس
مسلطون على أموالهم، كما أن عمل العبد و الدابة مال مملوك لصاحبهما.
والدليل على مالية عمل الحر في هذه الصورة أمور:
1 - أنه يصح اطلاق ذي المال على المستأجر الذي ملك عمل الحر
بالإجارة أو الصلح.
2 - أنه يجب على المستأجر المزبور حج البيت لأنه قد استطاع إليه
سبيلا، إذا كان عمل أجيره وافيا بزاده وراحلته.
3 - أنه يخرج المستأجر بعمل أجيره عن عنوان الفقراء ويعامل معه
معاملة الأغنياء، إذا كفى ذلك العمل مؤونة سنته، وإذن فيحرم عليه أخذ
الزكاة وسائر الوجوه الشرعية المقررة للفقراء والمساكين.
4 - أنه إذا أتلف أحد عمل أجير ضمنه لمستأجره لقاعدة الضمان
بالاتلاف.
ولأجل هذه الأمور كلها نستكشف صدق مفهوم المال على عمل
الحر بعد وقوع المعاوضة عليه، والسر في ذلك كله أن عمله حينئذ مورد
لرغبة العقلاء وميلهم.
وعلى الثاني، فإن قلنا باعتبار المالية في الثمن والمثمن فلا يقع عمل
الحر عوضا في البيع، لأنه لا يعد مالا عرفا، وإن لم نقل بهذا الاعتبار
فلا بأس بجعله ثمنا فيه.
والشاهد على عدم كونه مالا في هذه الصورة أن الحر لا يكون
مستطيعا بلحاظ عمله لكي يجب عليه الاكتساب وتحصيل الزاد
والراحلة ثم السير إلى بيت الله الحرام، وأيضا لو حبسه أحد لم يضمن
عمله، مع أن تفويت منافع العبد أو الدابة أو سائر الحمولة موجب
للضمان.
38

هذا كله فيما إذا جعل عمل الحر ثمنا في البيع، وأما جعله مثمنا فيه
فليس بجائز قطعا، لأنه من المنافع، وقد عرفت فيما سبق أن المبيع لا بد
وأن يكون من الأعيان، إذ لا يصدق مفهوم البيع على تمليك المنفعة
بعوض.
والحق أنه لا يفرق في صدق مفهوم المال على عمل الحر بين وقوع
المعاوضة عليه وعدمه، والوجه في ذلك ما ذكرناه سابقا من أن مالية
الأشياء متقومة برغبة الناس فيها رغبة عقلائية، ولا يعتبر في ذلك صدق
الملك عليها، لأن النسبة بينهما هي العموم من وجه، إذ قد يوجد المال
ولا يتحقق الملك كالمباحات الأصلية قبل حيازتها، فإنها مال وليست
بمملوكة لأحد، وقد يوجد الملك ولا يصدق عليه مفهوم المال كحبة
من الحنطة، فإنها ملك لصاحبه وليست بمال، إذ لا يبذل بإزائها شئ،
وقد يجتمعان وهو كثير.
ومن المعلوم أن عمل الحر قبل وقوع المعاوضة عليه من مهمات
الأموال العرفية، وإن لم يكن مملوكا لأحد بالملكية الاعتبارية، بل هو
مملوك لصاحبه بالملكية الذاتية الأولية، على ما عرفته في أول الكتاب.
نعم ربما يناقش في ذلك بأن البيع - كما سبق - تبديل شئ من الأعيان
بعوض في الإضافة الاعتبارية، ومن الواضح أن عمل الحر فاقد لهذه
الإضافة، وإذن فلا يصلح لأن يكون طرفا للتبديل الاعتباري في جهة
الإضافة.
وفيه، أن عمل الحر وإن لم يكن مملوكا لصاحبه بالإضافة الاعتبارية
قبل البيع، ولكنها تعرض عليه بنفس البيع، وقد تقدم نظير ذلك في
البحث عن امكان بيع الكلي في الذمة.
ودعوى أن كلا من العوض والمعوض لا بد وأن يكون مالا مملوكا
39

قبل البيع دعوى جزافية، إذ لم يدل على ذلك دليل من النقل والاعتبار.
وأما الوجه في عدم وجوب الحج على الحر بلحاظ استطاعته من
ناحية عمله، فلأن الاستطاعة إنما تتحقق بمالكية المكلف بالفعل لما
يحج به من الزاد والراحلة، وبمالكيته لمؤونة عياله بالفعل أو بالقوة،
وقد فسرت الاستطاعة بهذا المعنى وبأمن الطريق في بعض الأخبار (1).
وعليه، فعمل الحر قبل وقوع المعاوضة عليه وإن كان مملوكا له
بالملكية الفعلية التكوينية وكذا بالملكية الشأنية الاعتبارية، إلا أنه
لا يترتب عليهما ما هو أثر للملكية الفعلية الاعتبارية، نعم إذا آجر نفسه
بنقد مقبوض بعد العقد، بحيث يكفي ذلك مؤونة حجه وعياله كان
مستطيعا.
والسر فيه هو ما ذكرناه، من كون المدار في الاستطاعة على الملكية
الفعلية الاعتبارية دون الاقتضائية.
وقد اتضح لك مما بيناه أنه لا يصح اطلاق ذي المال على الحر باعتبار
عمله، إذ المناط في صحة هذا الاطلاق كون الانسان مالكا لأمواله
بالملكية الفعلية الاعتبارية، وقد عرفت قريبا أن عمل الحر قبل وقوع
المعاوضة عليه غير مملوك له كذلك، لأن ثبوت شئ لشئ بالإضافة
الاعتبارية إنما يصح في غير موارد الثبوت الحقيقي، وإلا كان الاعتبار

1 - المروي عن محمد بن يحيى الخثعمي قال: سأل حفص الكناسي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا
عنده عن قول الله عز وجل: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ما يعني
بذلك، قال: من كان صحيحا في بدنه، مخلى سربه، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحج -
الخبر (الكافي 4: 267، التهذيب 5: 3، الإستبصار 2: 139، عنهم الوسائل 11: 34).
السرب - بالفتح - الطريق، يقال: خل له سربه أي طريقه، فلان مخلى السرب أي موسع
عليه غير مضيق عليه.
40

لغوا محضا وتحصيلا للحاصل، ومن المفروض أن عمل الحر مملوك له
بالإضافة الذاتية، كما أن الله تعالى مالك لمخلوقاته بالإضافة الذاتية
الاشراقية.
وأما الوجه في أن اتلاف عمل الحر لا يوجب ضمانه على المتلف،
فهو أن قاعدة الضمان بالاتلاف ليست برواية لكي يتمسك باطلاقها في
الموارد المشكوكة، بل هي قاعدة متصيدة من الموارد الخاصة، وإذن
فلا بد من الاقتصار فيها على المواضع المسلمة المتيقنة.
ومع الاغضاء عن ذلك وتسليم كونها رواية أنها غريبة عن عمل الحر،
إذ المستفاد منها أن اتلاف مال غيره موجب للضمان، ومن الواضح أن
الظاهر من كلمة: المال، هو المال المضاف إلى مالكه بالإضافة
الاعتبارية، وقد عرفت أن عمل الحر قبل وقوع المعاوضة عليه ليس
كذلك، وعليه فلا يكون مشمولا لقاعدة الضمان بالاتلاف.
نعم، إذا كان الحر كسوبا وله عمل خاص يشتغل به كل يوم، كالبناية
والنجارة والخياطة وغيرها، فإن منعه عن ذلك موجب للضمان، للسيرة
القطعية العقلائية.
نظرة في الحقوق
قوله (رحمه الله): وأما الحقوق الأخر.
أقول: لا وجه لتوصيف كلمة: الحقوق، بلفظ: الأخر، إذ لم تتقدم
طائفة من الحقوق ليكون المذكور هنا طائفة أخرى منها، وعليه فالوصف
المزبور مستدرك جزما، وقد ضرب عليه في بعض النسخ الصحيحة (1)،
ويحتمل قريبا وقوع التصحيف في عبارة المصنف بالتقديم والتأخير،

1 - قال الشهيدي في شرحه: 149: الظاهر زيادة كلمة الأخر.
41

وصحيحها هكذا: وأما الحقوق فإن لم تقبل المعاوضة بالمال
فلا اشكال، وكذا لو لم يقبل النقل... وأما الحقوق الأخر القابلة للانتقال
- الخ.
وقد ذكر السيد في حاشيته وجها آخر لتصحيح العبارة، وإليك نصه
بلفظه: يمكن أن يكون الوصف توضيحيا، ويمكن أن يكون تقييديا بعد
اعتبار كون العين والمنفعة أيضا من الحقوق بالمعنى الأعم (1).
ويرد عليه أن الحق المبحوث عن جواز جعله ثمنا ليس من سنخ العين
ولا من سنخ المنفعة لكي يحتاج تمييزه عنهما إلى قيد احترازي، بل هو
أمر يباين العين والمنفعة، فإنه عبارة عن الإضافة الخاصة المتعلقة بالعين
تارة وبالمنفعة أخرى، ومن هنا قد ناقش المصنف في جعل حق
التحجير ثمنا في البيع بدعوى أنه ليس بمال - وسيأتي ذلك قريبا - مع أن
الأرض المحجرة مال بالحمل الشائع قطعا.
نعم، لو كان مورد البحث في العين أو المنفعة هو نفس الإضافة بين
المالك والمملوك، أو كان مورد البحث في الحقوق هو متعلقها، لكان
الحق شبيها بالعين والمنفعة واحتاج تخصيص البحث بالحقوق إلى قيد
احترازي، ولكن قد اتضح لك خلاف ذلك مما ذكرناه.
قوله (رحمه الله): كحق الشفعة وحق الخيار.
أقول: الظاهر وقوع التحريف في هذه العبارة، ضرورة أن حق الشفعة
وحق الخيار من أمثلة القسم الثاني للحق الذي أشار إليه المصنف بقوله:
وكذا لو لم يقبل النقل.
والوجه في ذلك أن القسم الثاني من الحق هو ما لا يقبل النقل
الاختياري، وإن كان مما يقبل الانتقال بالسبب القهري كالإرث، أو كان

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 55.
42

يقبل الاسقاط مجانا أو مع العوض، ومن الظاهر أن حق الشفعة وحق
الخيار يقبلان الانتقال والاسقاط مجانا أو مع العوض، فيكونان من
مصاديق القسم الثاني.
أقسام الحقوق وأحكامها
قد قسم المصنف (رحمه الله) الحقوق إلى ثلاثة أقسام:
1 - ما لا يقبل المعاوضة بالمال، وحكم فيه بأنه لا يجوز جعله ثمنا
في البيع.
2 - ما لا يقبل النقل وإن قبل الانتقال بغير اختيار مع وجود سببه
كالإرث، كحق الشفعة وحق الخيار، وحكم فيه أيضا بأنه لا يجوز جعله
ثمنا في البيع.
واستدل على أن هذا القسم من الحق لا يقبل النقل بما ذكره بعض
الأصحاب، من أن البيع تمليك من الطرفين - البائع والمشتري - فما
لا يقبل النقل لا يقبل التمليك لا محالة، وإن قبل السقوط والاسقاط.
وناقش في هذا الرأي صاحب الجواهر، وإليك نص عبارته: وفيه أن
من البيع بيع الدين على من هو عليه، ولا ريب في اقتضائه حينئذ الاسقاط
ولو باعتبار أن الانسان لا يملك على نفسه ما يملكه غيره عليه الذي بعينه
يقرر في نحو حق الخيار والشفعة، والله أعلم (1).
وقد أجاب المصنف عن النقض المذكور بوجود الفارق بين بيع الدين
ممن هو عليه وبين ما نحن فيه، بتقريب أن الملكية علاقة خاصة بين
المالك والمملوك، ولا حاجة لها إلى وجود المملوك عليه، وعليه
فلا مانع من تملك الانسان لما في ذمته ويترتب عليه سقوطه، ولذلك

1 - الجواهر 22: 209.
43

جعل الشهيد في قواعده الابراء مرددا بين التمليك والاسقاط (1).
مع أنه لو كان تملك الانسان لما في ذمته محالا لما جعل أمر الابراء
مرددا بينهما، وهذا بخلاف حق الشفعة وحق الخيار وأشباههما من
الحقوق التي تتقوم بطرفين - المسلط والمسلط عليه - فإن ذلك سلطنة
فعلية محتاجة إلى المسلط عليه، وعلى هذا النهج فلو نقلت هذه السلطة
ممن له الحق إلى من عليه الحق لزم منه اجتماع عنوانين متقابلين - المسلط
والمسلط عليه - في شخص واحد، وهو محال.
3 - ما يقبل النقل والانتقال ويقابل بالمال في الصلح كحق التحجير.
ومع ذلك ناقش المصنف في وقوعه ثمنا في البيع، لأنه لغة وعرفا
مبادلة مال بمال، ومن البين أن الحق ليس بمال لكي يقع عوضا في البيع،
نعم إذا قلنا بعدم اعتبار المالية في كل من الثمن والمثمن أمكن جعل الحق
ثمنا في البيع.
هذا تفصيل ما ذكره المصنف في المقام.
1 - ما لا يقبل المعاوضة بالمال
أقول: أما القسم الأول - ما لا يقبل المعاوضة بالمال - فقد يراد منه ما
يقبل النقل والانتقال والسقوط والاسقاط قبولا مجانيا من دون أن يقابل
بالمال، كحق القسم للضرة على ما قيل، وعليه فما ذكره (قدس سره) وإن كان
وجيها من حيث الكبرى، وهي أن مثل هذا الحق لا يجوز جعله ثمنا في
البيع، ولكن لم يدلنا دليل على وجود صغرى لهذه الكبرى في الخارج،
وأما حق القسم فلا دليل على كونه من هذا القبيل.
وقد يراد من ذلك ما لا يقبل النقل والانتقال ولا السقوط والاسقاط،

1 - القواعد والفوائد 1: 291.
44

كحق الولاية والحضانة وأشباههما، وهو أيضا متين من حيث الكبرى
المزبورة، لأنه لا تصح مقابلة الحقوق بالمال إلا بلحاظ الجهات
المذكورة، فإذا استحال عروض تلك الجهات على الحقوق لم تجز
المعاوضة عليها.
ولكن مثل هذا لا يسمى حقا مصطلحا، إذ المعروف بين الفقهاء (قدس سرهم) أن
الفرق بين الحق والحكم أن الحق نوع من السلطنة التي يكون أمرها بيد
ذي الحق، بخلاف الحكم فإنه لا يقبل شيئا من ذلك، وإذن فالأمثلة
المذكورة غريبة عن حدود الحق، وإنما هي من مصاديق الحكم
المصطلح.
2 - ما لا يقبل النقل وإن قبل الانتقال بغير اختيار مع وجود سببه كالإرث
وأما القسم الثاني - ما لا يقبل النقل - فيقع البحث عنه في جهات شتى:
ألف - مالكية الانسان لما في ذمته.
ذكر المصنف (رحمه الله) أن جواز ملك الانسان لما في ذمته معقول عقلا
وجائز شرعا، وهذا موافق للتحقيق، لما ذكرناه في أول الكتاب من
مالكية الانسان لنفسه وفعله وذمته بالإضافة التكوينية الذاتية الأولية،
نعم لا يتصف ذلك بالملكية الاعتبارية، لا من جهة استحالة اتحاد المالك
والمملوك عليه، بل لأن الثبوت الاعتباري إنما يصح فيما لم يكن هناك
ثبوت تكويني حقيقي، وإلا لكان الاعتبار لغوا محضا وتحصيلا
للحاصل.
وقد مر فيما سبق أن مالكية الانسان لذمته أمر تكويني حقيقي
فلا يحتاج إلى الثبوت الاعتباري، وهذا واضح لا ريب فيه.
وقد يتوهم أن المالك والمملوك عليه من المتضائفين، وهما
متقابلان، وإذن فيستحيل اتحاد المالك والمملوك عليه.
45

ولكن هذا التوهم فاسد، بديهة أن النسبة بين المالك والمملوك عليه،
وإن كانت هي التضائف ولكن المتضائفين لا يستحيل اجتماعهما في
محل واحد دائما، فالله تبارك وتعالى عالم بذاته وهو معلوم له وكل
شاعر يحب نفسه، وإنما الاستحالة فيما كان بين المتضائفين تغاير
وجودي كالعلية والمعلولية، ومن البديهي أن المالك والمملوك عليه
لم يعتبر بينهما التغاير الوجودي، فلا مانع من صدقهما على شئ واحد.
ب - الفارق بين الملكية والسلطنة.
ذكر المصنف أن الملكية لا تتوقف على المملوك عليه، والسلطنة
تتوقف على المسلط عليه.
والتحقيق أن هذا المعنى وإن كان صحيحا بالإضافة إلى الملكية
المضافة إلى الأعيان الخارجية، إلا أنها لا تصح في الملكية المضافة إلى
الذمم، فإن الكلي ما لم يضف إلى ذمة شخص خاص لا يبذل بإزائه شئ
ولا يرغب فيه العقلاء.
ج - اتحاد المسلط والمسلط عليه.
ذكر المصنف أن مثل حق الشفعة وحق الخيار سلطنة فعلية، فلا يعقل
قيام طرفيها بشخص واحد.
والتحقيق أن حق الشفعة لا تجوز المعاوضة عليه، لا من ناحية
المحذور الذي ذكره المصنف، فإنه واضح الاندفاع - وسيأتي قريبا - بل
من جهة أن حق الشفعة إما أن يباع من المشتري أو من غيره.
وعلى الأول فيكون البيع لغوا محضا، إذ المشتري مالك للحصة
المبيعة قبل انتقال حق الشفعة إليه، وعليه فلا معنى لاستحقاقه تملك
تلك الحصة ثانيا بحق الشفعة.
وعلى الثاني فلأن حق الشفعة استحقاق الشريك للحصة المبيعة في
شركته لكي يضمها إلى حقه، فالشريك قد أخذ موضوعا لهذا الحق،
46

ومن البين الذي لا ريب فيه أنه لا يعقل ثبوت الحكم لغير موضوعه،
بديهة أن نسبة الحكم إلى موضوعه كنسبة المعلول إلى علته، فكما
يستحيل انفكاك المعلول عن علته كذلك يستحيل انفكاك الحكم عن
موضوعه.
وبتعبير آخر أنا إذا لاحظنا آثار حق الشفعة وجدنا خصوصية في
مورده، وتلك الخصوصية هي العلة التامة لثبوته للشريك فقط دون غيره.
نعم، تجوز المعاوضة على حق الشفعة من حيث الاسقاط، بأن يجعل
اسقاطه ثمنا في البيع، أو أجرة في الإجارة، أو عوضا في الصلح والهبة،
أو صداقا في النكاح، ولكن هذا أجنبي عما نحن فيه، فإن مورد بحثنا إنما
هو جواز المعاوضة على حق الشفعة وجعله عوضا في العقود
المعاوضية لا المعاوضة على اسقاطه، فإن الاسقاط بنفسه عمل، وقد
عرفت سابقا أن عمل الحر يجعل عوضا في البيع وغيره من العقود
المعاوضية.
وأما حق الخيار فجواز المعاوضة عليه من حيث الاسقاط خارج عن
موضوع بحثنا - وقد عرفته قريبا - وأما نقله إلى غيره بالعقود المعاوضية،
وجعله عوضا فيها فقد منعه المصنف من ناحية استلزامه اتحاد المسلط
والمسلط عليه.
والجواب عن ذلك:
أولا: إن هذا إنما يتم فيما إذا نقل حق الخيار إلى من عليه الخيار، وأما
إذا نقل إلى غيره فلا يلزم منه المحذور المذكور، وإذن فالدليل أخص من
المدعى.
ثانيا: إن هذا إنما يلزم فيما إذا كان متعلق السلطنة في الخيار هو البائع
دون العقد، ولكن سيأتي في مبحث الخيارات أن الخيار إنما يتعلق بالعقد
لا بالمتبايعين، وإلا لسقط خيار كل منهما بموت صاحبه.
47

وعلى هذا الضوء فثبوت حق الخيار لا يحتاج إلى وجود المسلط عليه
لكي يلزم من نقله إليه اتحاد المسلط والمسلط عليه، بل شأنه شأن حق
التحجير المتعلق بالأرض المحجرة.
ثالثا: أنه لو استحال بيع حق الخيار ممن عليه الخيار - لاستحالة اتحاد
المسلط والمسلط عليه - لاستحال ملك الانسان لما في ذمته بالأولوية
القطعية، لاستحالة تملك الكلي بدون المملوك عليه، وحيث عرفت
امكان الثاني فكان الأول أولى بالامكان.
رابعا: أن مفهوم السلطنة وإن كان من المفاهيم الإضافية إلا أن عنوان
التضايف لا يقتضي استحالة صدق المتضايفين على شئ واحد، كما
عرفته قريبا.
وصفوة ما ذكرناه: أنه لا مانع من نقل حق الخيار إلى شخص آخر من
الناحية التي ذكرها المصنف (قدس سره).
نعم، إن الخيار المجعول بجعل المتبايعين أو بجعل شرعي ترجع
حقيقته - على ما حققناه في مبحث الخيارات - إلى تحديد الملكية في
البيع إلى زمان فسخ من له الخيار، ومن الظاهر أن هذا غير قابل للنقل إلى
غير من له الخيار، نعم هو قابل للاسقاط والانتقال إلى الوارث بأدلة
الإرث، وتمام الكلام موكول إلى مبحث الخيارات، ويأتي الكلام فيه إن
شاء الله.
3 - ما يقبل النقل والانتقال ويقابل بالمال في الصلح كحق التحجير
وأما القسم الثالث، فهو ما يقبل النقل والانتقال كحق التحجير
ونحوه، وقد عرفت اعتراض المصنف على وقوعه ثمنا في البيع لعدم
صدق المال عليه.
ويرد عليه ما ذكرناه في أول الكتاب، من أن المال ما يرغب فيه العقلاء
48

ويبذلون بإزائه شيئا، ومن البين أن حق التحجير مورد لرغبة العقلاء
وتنافسهم، فيكون مالا بالحمل الشائع، وإذن فلا محذور في جواز
المعاوضة عليه من هذه الناحية.
نعم، يتوجه عليه أن الحق وإن كان قابلا للنقل والانتقال أو السقوط
والاسقاط مجانا أو بعوض، إلا أنه لا يمكن جعله ثمنا في البيع، بداهة
أن الحق حكم شرعي غير قابل لأن تتعلق به إضافة ملكية أو غيرها، وقد
عرفت سابقا أن البيع لا بد فيه من التبديل، بأن يقوم أحد العوضين مقام
الآخر.
نعم نقل الحق أو اسقاطه فعل من أفعال المكلف، فيصح جعله ثمنا،
وإذن فيملك البائع على المشتري هذا الفعل، ويلزم عليه تسليمه إلى
البائع بعد البيع، كما هو الحال في بقية الأفعال المجعولة ثمنا.
وقد نوقش في جعل الحق ثمنا في البيع بمناقشة أخرى، وحاصلها
أن البيع في الواقع ونفس الأمر ليس إلا إزالة الإضافة المالكية عن كل من
العوضين وايجاد إضافة أخرى مالكية فيه، وعليه فلا يمكن جعل الحق
ثمنا في البيع.
والسر في ذلك، أن الملكية من المفاهيم الإضافية فأحد طرفيها قائم
بالمالك وطرفها الآخر قائم بالمملوك، ومن آثار هذه الإضافة أن يفك
المالك عند التبديل إضافته القائمة بالمتاع ويجعلها قائمة بالثمن،
ويفك مالك الثمن إضافته القائمة بالثمن ويجعلها قائمة بالمتاع، وهذا
هو البيع بالحمل الشائع، ويقابله باب الإرث فإن فيه يتبدل المالك مع
بقاء المملوك على حاله.
ومن الظاهر أن التبديل في باب الحقوق من القبيل الثاني، ضرورة أنه
إذا جعل الحق عوضا في معاملة كان معناه زوال الحق من ذي الحق
وثبوته لشخص آخر، كما أن مال المورث ينتقل منه إلى وارثه، وليس
49

معناه وقوع التبديل بين المعوض وبين متعلق الحق كالأرض المحجرة
مثلا، ولا أن معناه وقوع المعاوضة بين المعوض ونفس الحق، ضرورة
أن الحق ليس إلا إضافة خالصة، ومن البديهي أن مقابلة هذه الإضافة
بشئ تحتاج إلى إضافة أخرى لكي يقع التبديل في تلك الإضافة، ويلزم
منه التسلسل.
وعلى هذا فلا يصدق مفهوم البيع على تبديل حق بحق ولا على
تبديله بغيره، كما أنه لا يصدق على قيام النائب مقام المنوب عنه في
الجهات الراجعة إليه، كالإمامة والقضاوة والوزارة والسلطنة وأشباهها،
ولأجل هذه المناقشة يلزمنا أن نمنع عن جواز تبديل حق بحق أو تبديله
بغيره منعا مطلقا، أي سواء أصدق عليه مفهوم المال أم لم يصدق عليه
ذلك.
وأنت خبير بأن المانع من تبديل الحقوق وجعله ثمنا هو ما ذكرناه من
استحالة تعلق الملكية بالحكم الشرعي، وإلا فلو أمكن تعلقها به لم يكن
مانع من تبديله وجعله ثمنا، وبذلك تنقطع السلسلة كما في مبادلة
الأعيان والمنافع.
حقيقة الملك وحقيقة الحق وبيان الفارق بينهما
ما هي حقيقة الملك وحقيقة الحق وما هو الفارق بينهما؟
إن الثابت في نظام الوجود لا يخلو عن أربعة أقسام: لأنه إما واجب أو
ممكن، والثاني إما جوهر أو عرض أو أمر اعتباري قائم بنفس الاعتبار،
ولا ريب في أن الأحكام كلها من قبيل الأمور الاعتبارية، سواء فيها
الأحكام الشرعية والعقلائية والوضعية والتكليفية والالزامية
والترخيصية.
50

فمعنى الوجوب اعتبار الفعل على ذمة المكلف، ومعنى الزوجية
اعتبار كل من الزوجين عدلا للآخر، ومعنى الملكية اعتبار إحاطة المالك
بالمملوك، وعلى هذا النمط كلما ورد عليك حكم من الأحكام.
وعليه فحقيقة الملكية إنما هي السلطنة والإحاطة، وهي مقولة
بالتشكيك على مراتبها الأربع المتقدمة، ولا ريب في أن هذه السلطنة
إنما تتعلق بالأعيان الخارجية تارة وبالأفعال أخرى، فيقال: له السلطنة
على المملكة، وهو سلطان الرعية والناس مسلطون على أموالهم، وزيد
مسلط على الخياطة والبناية والتكلم والكتابة، ونحو ذلك من الأفعال.
وهذا بخلاف الحق والحكم، فإنهما لا يتعلقان إلا بالأفعال، فيقال:
يباح للانسان أكل الخبز وشرب الماء، ويستحب له أكل الرمان، ويجب
على المكلف الاتيان بالصلاة الواجبة وترك المحرمات، ويحرم عليه
شرب المسكر وأكل الرباء واستماع الغناء، ويكره له أكل لحم الحمير
والبغال.
وأيضا يقال: إن صاحب الخيار له حق فسخ العقد، والمرتهن له حق
بيع العين المرهونة واستيفاء حقه من ثمنها إذا امتنع الراهن من أدائه،
والزوجة لها حق المطالبة للمسكن والنفقة والمضاجعة من زوجها،
والأولياء لهم حق القيام بأمور المولى عليهم، وحق المؤمن على المؤمن
أن يدفع غيبته ويقضي حاجته، ويحضر جنازته ويكشف كربته.
وعلى الجملة أن الفارق بين الحق والحكم وبين الملك، أن الأولين
لا يتعلقان إلا بالأفعال، بخلاف الملك فإنه يتعلق بالأعيان تارة وبالأفعال
أخرى، وإليك ملاحظة الاستعمالات الصحيحة الفصيحة.
الحق والحكم وعدم وجود الفارق بينهما
ما هو الفارق بين الحق والحكم؟
51

لا ينبغي الريب في أن الحكم والحق متحدان حقيقة لأن قوامهما
بالاعتبار الصرف.
وتوضيح ذلك: أن المجعولات الشرعية على ستة أقسام:
1 - التكليفي الالزامي، كالواجبات والمحرمات.
2 - التكليفي غير الالزامي، كالمستحبات والمكروهات والمباحات.
3 - الوضعي اللزومي الذي يقبل الانفساخ، كالبيع والإجارة والصلح
ونحوها، فإنها وإن كانت لازمة في نفسها ولكنها تنفسخ بالإقالة
ونحوها.
4 - الوضعي اللزومي الذي لا يقبل الانفساخ، كالزواج فإنه لا ينفسخ
إلا في موارد خاصة.
5 - الوضعي الترخيصي الذي يقبل الاسقاط، كحق الشفعة وحق
الخيار فلصاحب ألحق أن يرفع يده عن حقه ويسقطه.
6 - الوضعي الترخيصي الذي لا يقبل الاسقاط، كالجواز في الهبة فإنه
حكم مجعول للشارع ولا يرتفع بالاسقاط.
وهذه الأمور الاعتبارية وإن اختلفت من حيث الآثار اختلافا واضحا
ولكنها تشترك في أن قوامها بالاعتبار المحض.
وإذن فلا وجه لتقسيم المجعول الشرعي أو العقلائي إلى الحق
والحكم لكي نحتاج إلى بيان الفارق بينهما، بل كلها حكم شرعي أو
عقلائي قد اعتبر لمصالح خاصة، بناء على مسلك العدلية من تبعية
الأحكام للملاكات الواقعية.
نعم، تختلف هذه الأحكام في الأثر كما أشرنا إليه قريبا اختلافا
ظاهرا، فبعضها يقبل الاسقاط، وبعضها لا يقبله، والسر في هذا
الاختلاف هو أن زمام تلك الأمور بيد الشارع حدوثا وبقاء، فقد يحكم
52

ببقائه كما حكم بحدوثه وقد يحكم بارتفاعه، ولو كان ذلك باختيار أحد
المتعاملين أو كليهما، نعم المتبع في ذلك في مقام الاثبات هو الأدلة
الشرعية.
وعلى الجملة، أن الجواز واللزوم الوضعيين، كالجواز واللزوم
التكليفيين، فإن جميعها من الأحكام الشرعية ولا تفاوت في ماهيتها
وذواتها وإن اختلفت آثارها، فاعطف نظرك هل ترى فارقا بين جواز قتل
المشرك الذي يسمى حكما شرعيا، وبين سلطنة ولي الدم على قتل
القاتل الذي يسمى حقا شرعيا لقبوله الاسقاط، ثم أرجع البصر كرتين
هل ترى فارقا بين حق الحضانة والأبوة والولاية وأشباهها مما لا يقبل
الاسقاط، وبين حق الشفعة وحق الخيار القابلين للاسقاط، فافهم
واغتنم.
ومن الغريب أن جمعا من الفقهاء تصدوا لبيان الفارق بين الحق
والحكم، حتى أن بعضهم قد ألحقه بالبديهيات، زعما منه أن الاختلاف
بينهما أظهر من الشمس وأبين من الأمس.
وذكر جماعة أن الحق مرتبة ضعيفة من الملكية وصاحبه مالك لشئ
يرجع أمره إليه، بخلاف الحكم فإنه مجرد جعل الرخصة في فعل شئ
أو تركه، أو الحكم بترتب أثر على فعل أو ترك.
وذكر طائفة أن الحق ما يقبل السقوط والاسقاط أو النقل والانتقال،
بخلاف الحكم فإنه لا يقبل شيئا من هذه الأمور، إلى غير ذلك مما ذكروه
في هذا المقام، ولكنك قد عرفت أنه لا يرجع شئ من ذلك إلى
محصل.
نعم، لا مانع من تخصيص اطلاق الحق اصطلاحا بطائفة من الأحكام،
وهي التي تقبل الاسقاط، إذ لا مشاحة في الاصطلاح.
53

وأظن - وإن كان الظن لا يغني من الحق شيئا - أن هذا الاطلاق صار سببا
لاختلاف العلماء في حقيقة الحق والحكم وبيان الفارق بينهما، والله
العالم.
ومما يدل على اتحاد الحق والحكم، أن لفظ الحق في اللغة بمعنى
الثبوت، ولذا يصح اطلاقه على كل أمر متقرر في وعائه المناسب له،
سواء أكان تقررا تكوينيا أم كان اعتباريا، وهو بهذا المعنى قد استعمل
في عدة موارد من الكتاب العزيز (1).
ومن هنا يصح اطلاق كلمة الحق على الخبر الصادق لثبوت مضمونه
في الواقع، ولهذا أيضا يطلق الحق - بقول مطلق - على الله تعالى لبطلان
غيره في جنبه سبحانه.
ومن هنا قيل: إن أصدق شعر أنشئ في الجاهلية هو قوله: ألا كل
شئ ما خلا الله باطل.
وإذن فمفهوم الحق يعم جميع المجعولات الشرعية، بل جميع
الأمور الثابتة في أي صقع من الأصقاع، فلا وجه لتخصيصه بالأحكام
فضلا عن تخصيصه بحصة خاصة منها.

1 - قال الله تعالى: لقد حق القول على أكثرهم أي ثبت، يس: 6.
قال الله تعالى: فحق علينا قول ربنا أي ثبت، الصافات: 30.
قال الله تعالى: أفمن حق عليه كلمة العذاب أي ثبت، الزمر: 20.
قال الله تعالى: إن الذين حقت عليهم كلمة ربك أي ثبتت، يونس: 96.
قال الله تعالى: ويحق الله الحق بكلماته أي يثبته، يونس: 82.
قال الله تعالى: ليحق الحق ويبطل الباطل أي يثبت، الأنفال: 8.
قال الله تعالى: كذلك حقا علينا ننج المؤمنين أي ثابتا، يونس: 103.
قال الله تعالى: وكان حقا علينا نصر المؤمنين أي ثابتا، الروم: 46.
إلى غير ذلك من الآيات المتظافرة.
54

المجعول الشرعي والشك في أنه حق أو حكم
إذا شك في أن المجعول الشرعي حق اصطلاحي يقبل الاسقاط أو أنه
حكم اصطلاحي لا يقبله، فإن كان هنا ما يدل على تعيين أحدهما
بالخصوص أخذ به، وإلا فإن كان لدليل المشكوك فيه عموم أو اطلاق
أخذ بذلك ويثبت به كونه حكما.
ومثال ذلك: أنه إذا شك في أن جواز أكل المارة من الشجرة التي تمر
عليها، أو جواز الفسخ في الهبة حق أو حكم، فإنه يتمسك باطلاق ما دل
على جوازهما، ويثبت بذلك كونه حكما فلا يسقط بالاسقاط، وأنه إذا
شككنا في بقاء حق التحجير بعد اسقاطه رجعنا إلى اطلاق قوله (صلى الله عليه وآله):
من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له (1)، وأنه إذا شككنا في بقاء
حق القصاص بعد اسقاطه رجعنا إلى اطلاق قوله تعالى: ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا (2)، ومع عدم الاطلاق في ذلك رجعنا إلى
الآيات (3) والروايات (4) الدالة على حرمة قتل النفس المحترمة.
وإن لم يكن هناك عموم أو اطلاق فإن قلنا بجريان الاستصحاب في
الشبهات الحكمية استصحبنا الجواز المشكوك فيه بعد اسقاطه، ونحرز
بذلك كونه حكما، وإلا فيرجع إلى ما يقتضيه سائر الأصول اللفظية

1 - قد أشرنا إلى مصادر الحديث في البحث عن المال وحقيقته، فراجع.
2 - الاسراء: 35.
3 - قال الله سبحانه: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، النساء: 94.
قال الله سبحانه: ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، النساء: 95.
قال الله سبحانه: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، الأنعام: 152.
4 - راجع الكافي 3: 271.
55

أو العملية، فقد تكون نتيجة ذلك السقوط بالاسقاط، فيكون حقا.
وعليه، فإذا شك في أن حق الشفعة وحق الخيار من قبيل الحقوق أو
من قبيل الأحكام لم يجز اعمالهما بعد الاسقاط، لعدم الاطلاق فيما دل
على ثبوتها لذي الخيار والشفيع، وإذن فإن قلنا بجريان الاستصحاب في
الشبهات الحكمية رجعنا إليه، وإلا فإن العمومات الدالة على حرمة أكل
مال الناس من دون رضاه محكمة.
وإذا شك في حق أنه يقبل الانتقال إلى الوارث أو لا، كحق الحضانة
والولاية وأمثالهما، فإن كان هنا دليل على قبوله النقل فإنه يحكم بقبوله
الانتقال أيضا، إذ يستكشف من ذلك عدم وجود الخصوصية لمورد
المشكوك فيه، وإلا فإنه يحكم بعدم انتقاله، ويأتي تفصيل ذلك في
مبحث أحكام الخيار (1).

1 - أما المورد الثالث، وهو الشك في قابلية الحق للانتقال بالإرث ونحوه، فالصحيح فيه
الحكم بعدم الانتقال، لأن ما ينتقل إلى الوارث هو ما تركه الميت، والمراد به بحسب الفهم
العرفي ما يبقى بعد ذهاب الميت ولا يكون قائما بشخصه، فإن ما يكون متقوما بشخص الميت
يذهب بذهابه ولا يصدق عليه عنوان ما تركه الميت، فإذا شككنا في قابلية الحق للانتقال
وعدمه يشك في شمول الميت والأصل عدم انتقاله إليه.
وبما ذكرنا ظهر أن القابلية للانتقال من شؤون قابلية الشئ للنقل، فإنه إذا كان قابلا له
يصدق عليه ما ترك فينتقل إلى الوارث، وإذا شككنا في قابلية الحكم للنقل فمقتضى الأصل
العملي دائما والأصل اللفظي في بعض الموارد هو عدم قابليته للنقل، وذلك لأن الانقال وعدم
جواز مزاحمة المنقول إليه كما لم يجز مزاحمة الناقل مخالف للأصول والقواعد، ففي حق
الفسخ مثلا إذا نقله من له الحق إلى غيره وشك في قابليته للنقل ففسخ المنقول إليه البيع وأخذ
مال الغير منه قهرا كان هذا من أكل مال الغير بالباطل، لأنه ليس بالتجارة عن تراض، وقد نهي
المولى سبحانه عنه بقوله: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض،
والمفروض أن الفسخ ليس عن تراض، وهكذا ثبوت حق التحجير لمن نقله من له الحق إليه
وعدم جواز مزاحمة الناس إياه لعموم: من سبق إلى ما لم يسبقه إليه غيره فهو أولى به، إلى
غير ذلك.
نعم تبقى في البين عمومات: أوفوا بالعقود، و: أحل الله البيع، وقوله (عليه السلام): الصلح
جائز بين المسلمين، فهل يمكن أن يستفاد منها قابلية الحكم للنقل إذا وقع عليه شئ منها
أم لا، الظاهر العدم، لأنها لا تكون مشرعة ومبينة لما يكون للمتعاقدين السلطنة عليه وما
لا يكون، بل هي ناظرة إلى نفوذ أسباب النقل والانتقال في موارد ثبوت السلطنة التامة لكل من
المتعاقدين على ماله ولو عند العرف والعقلاء، ولذا إذا فرضنا أن أحدا آجر نفسه للغناء أو
جعل فعله هذا عوضا في البيع، ونفرض أنا نشك في حرمة الغناء وكونه تحت سلطنته وضعا،
فإن الحرام لا يجعل عوضا، ولا تقع المعاملة عليه، لا يمكننا التمسك بعموم: أوفوا بالعقود،
والحكم بدلالته بالالتزام على صحة العقد وجواز الغناء تكليفا، وهذا ليس إلا لما ذكرناه من أن
هذه العمومات لا تثبت السلطنة على أصل النقل، بل هي ناظرة إلى أسبابه.
فالحق أن مقتضى الأصل عند الشك في قابلية الحكم للنقل هو العدم - المحاضرات 2: 23.
56

وإذا شككنا فيما يطلق عليه الحق اصطلاحا أنه يقبل النقل أو لا، فإن
الأصل عدم قبوله إياه، إذ الظاهر من الأدلة المثبتة لذلك هو اختصاصه
بذي الحق فقط، فثبوته لغيره يحتاج إلى دليل.
ودعوى أن الأصل جواز نقله تمسكا بالعمومات الدالة على صحة
العقود ونفوذها، دعوى جزافية، فإن تلك العمومات ناظرة إلى بيان
الحكم الوضعي، وهو امضاء المعاملات العرفية، أعني بها ما يكون
مورد المعاملة فيها قابلا للانتقال إلى غيره، ومع الشك في ذلك كان
التمسك بتلك العمومات تمسكا بها في الشبهة المصداقية، وقد ثبت في
محله عدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية.
وإلى هنا وقف القلم في مبحث الحق والحكم، والله ولي التوفيق
وعليه التوكل وبه الاعتصام.
57

مفهوم الانشاء وتعريفه
قوله (رحمه الله): فالأولى تعريفه بأنه انشاء تمليك عين بمال.
أقول: إن واقع الانشاء المقابل للاخبار وإن كان من الأمور الواضحة
التي يعرفها الصبيان والمجانين حسب مرتكزاتهم فضلا عن البالغين، إلا
أنه وقع الكلام في حقيقته وفيما به يمتاز عن الاخبار.
فالمعروف بين العلماء أن الانشاء ايجاد المعنى باللفظ، ولكن هذا
التعريف مزيف، لأنا ذكرنا في مبحث المشتقات من مدخل علم الأصول،
أن المراد من ايجاد المعنى باللفظ إما ايجاد خارجي أو ايجاد اعتباري:
أما الايجاد الخارجي، فهو ضروري البطلان، بداهة أن الموجودات
الخارجية برمتها مستندة إلى عللها الخاصة وأسبابها المعينة ومقدماتها
الاعدادية، ومن الواضح الذي لا ريب فيه أن اللفظ أجنبي عنها، نعم قد
يكون بعض الألفاظ من مبادي الوجود الخارجي، كالكلام العنيف المؤثر
في اصفرار وجه الوجل.
إلا أن هذا غريب عن ايجاد المعنى باللفظ في نظام الوجود، كما يبعد
عن ايجاد المعنى باللفظ ما هو المعروف بين أهل المعقول، من أن اللفظ
وجود للمعنى في عالم اللفظ، ووجه البعد أن ذلك لا يختص بالجمل
الانشائية بل يعم الجمل الخبرية والمفردات أيضا.
وأما الايجاد الاعتباري، فإن كان المراد به وجوده في نفس المتكلم
فهو واضح الفساد، فإن الاعتبار النفساني من أفعال النفس، ومن المعلوم
أن أفعال النفس توجد فيها بفاعليتها بلا احتياج إلى عالم الألفاظ أصلا
ورأسا.
وإن كان المراد من الايجاد الاعتباري وجود المعنى في اعتبار
58

العقلاء، فيتوجه عليه أن الانشاء وإن كان موضوعا لاعتبار العقلاء، إلا أن
هذا الاعتبار مترتب على تحقق الانشاء في الخارج، وكلامنا في تصوير
حقيقته سواء أكان ذلك موردا لاعتبار العقلاء أو الشرع أم لم يكن.
وعلى الجملة، أنا لا نعقل معنى محصلا لتعريف الانشاء بايجاد
المعنى باللفظ، سواء في ذلك الايجاد الاعتباري و الايجاد الخارجي.
والتحقيق أن الانشاء ابراز الاعتبار النفساني بمبرز خارجي، كما أن
الخبر ابراز قصد الحكاية عن الثبوت أو السلب بالمظهر الخارجي.
والسر في ذلك أنا ذكرنا في مبحث الوضع من مدخل علم الأصول أن
حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفسي بجعل لفظ خاص أو هيئة
خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه، ومن
البديهي أن هذا المعنى أمر اختياري لكل من التزم بذلك وتعهد به،
والارتباط الحاصل بين الدال والمدلول أمر قهري ومنتزع من الالتزام
المذكور.
ولا يخفى على الفطن العارف أن هذا المعنى للوضع موافق للوجدان
والذوق السليم، والارتكاز العقلائي والفهم العرفي والمعنى اللغوي،
بديهة أن الوضع في اللغة بمعنى الجعل والاقرار والاثبات وما يراد منها
من ألفاظ أية لغة كانت، وعليه فالتزام المتكلم بابراز مقاصده عند التفهيم
بالألفاظ الخاصة نوع من الوضع، ومن هنا يطلق الواضع على مقنن
القوانين في المحاكم العرفية.
وعلى هذا النهج فكل من تعهد بابراز مقاصده بالألفاظ المتداولة بين
أهل اللسان لتفهيم أمر تعلق به غرضه فهو واضع حقيقة، نهاية الأمر أن
اطلاق الواضع على الجاعل الأول إنما هو لسبق زمانه وقدم عهده.
ولا فارق فيما ذكرناه بين الجمل الخبرية والجمل الانشائية،
59

وغيرهما من الألفاظ المفردة والمركبة التي هي من الأمارات الجعلية.
نعم تفترق الجمل الانشائية عن الجمل الخبرية بأن الجمل الانشائية
إنما وضعت بهيئاتها الانشائية لابراز أمر ما من الأمور النفسانية، وهذا
الأمر النفساني قد يكون اعتبارا من الاعتبارات، كما في الأمر والنهي
والعقود والايقاعات، وقد يكون صفة من الصفات، كما في التمني
والترجي.
ولأجل ذلك أن الجمل الانشائية لا تتصف بالصدق تارة وبالكذب
أخرى، إذ ليس في مواردها خارج تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه،
وهذا بخلاف الجمل الخبرية فإنها موضوعة لابراز قصد الحكاية عن
الثبوت أو السلب، وعليه فالهيئات التركيبية للجمل الخبرية أمارة على
قصد المتكلم للحكاية عن النسبة، وهذه الحكاية قد تطابق الواقع فتكون
الجملة صادقة وقد تخالفه فتكون كاذبة.
وقد اتضح لك مما ذكرناه أن المتصف بدأ بالصدق والكذب في
الجمل الخبرية إنما هو الحكاية عن الواقع، وأما اتصاف الجملة الخبرية
بهما إنما هو من قبيل وصف الشئ بحال متعلقه.
والمتحصل مما بيناه أن استعمال اللفظ في المعنى ليس إلا إظهار
المقاصد النفسانية بمبرز خارجي سواء في ذلك الجمل وغيرها، وإذن
فالانشاء من مصاديق استعمال اللفظ في المعنى بلا ارتباط له بايجاد
المعنى باللفظ (1).

1 - ثم إن الانشاء قد يكون موضوعا لحكم الشارع أو العقلاء وامضائهم، وقد لا يكون،
كما أن المسافر يكون موضوعا لوجوب القصر والحاضر موضوعا لوجوب التمام، ولا معنى لأن
يتسبب المنشئ بالانشاء إلى اعتبار الشارع كما لا يتسبب إلى حكمه بوجوب القصر في السفر،
وهكذا لا يتسبب المنشئ بالانشاء إلى اعتبار العقلاء، بل يمكن أن يتحقق البيع مع عدم وجود
عاقل في العالم سوى المتبايعين، ومع وجودهم أيضا، فالغالب أن المتبايعين لا يقصدان
التسبب إلى ذلك، بل يكونان غافلين عن اعتبار العقلاء.
وبالجملة فكما لا يوجد المعنى بالانشاء كذلك لا يتسبب به إلى اعتبار الشارع أو العقلاء
أصلا، بل ليس في مورده سوى ابراز الاعتبار النفساني، وربما يترتب عليه اعتبار العقلاء أو
الشارع، وهذا غير التسبيب، وما ذكرناه جار في جميع الانشاءات من العقود والايقاعات من
غير فرق بينهما - المحاضرات 2: 26.
60

تعاريف الفقهاء للبيع والمناقشة فيها
لا يخفى على الناقد البصير أن البيع ليس انشاء ساذجا، وإن علم عدم
تحقق الاعتبار النفساني، وإلا لصدق مفهوم البيع على بيع الهازل
والساهي والنائم والسكران وأمثالهم، ولا أنه صرف الاعتبار النفساني،
وإن لم يقترن به المظهر الخارجي، وإلا لصدق مفهوم البيع على الاعتبار
النفساني المحض من دون ابرازه بمبرز خارجي، وهو باطل بالضرورة،
بل حقيقة البيع هي الاعتبار النفساني المظهر بمظهر خارجي، سواء أكان
ذلك ممضى للشارع أو للعقلاء أم لم يكن كذلك، وعليه فإذا اعتبر أحد
تبديل ماله بمال غيره في أفق نفسه ثم أظهر ذلك بمبرز خارجي صدق
عليه مفهوم البيع جزما.
وكذلك الحال في سائر الأمور الانشائية، من العقود والايقاعات،
والأوامر والنواهي، فإن معنى الأمر - مثلا - ليس انشاء خالصا ولا اعتبارا
ساذجا، بل هو الاعتبار النفساني المظهر بمبرز خارجي.
وإذا اطلعت على ما ذكرناه في معنى الانشاء ولاحظت ما بيناه في
معنى المبادلة، جاز لك تعريف البيع بأنه انشاء تبديل شئ من الأعيان
بعوض في جهة الإضافة.
61

ولا يتوجه عليه لزوم أخذ الانشاء في المنشأ، كما سجله المصنف
على ما ذكره المحقق الثاني، من أن البيع نقل العين بالصيغة المخصوصة (1)،
وذلك لأن هذه المناقشة واضحة الدفع نقضا وحلا، وسيأتي قريبا.
قوله (رحمه الله): ثم الظاهر أن لفظ البيع ليس له حقيقة شرعية ولا متشرعية، بل هو
باق على معناه العرفي.
أقول: قد عرف الفقهاء البيع بتعاريف شتى غير ما ذكرناه:
1 - كونه انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر
ما ذكره الشيخ في المبسوط (2) والعلامة في التذكرة (3)، من أن البيع
انتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدر على وجه التراضي.
ورماه المصنف إلى التسامح الواضح ولم يبين سره، ولعل الوجه فيه
أن الانتقال أثر للبيع فلا يسوغ تعريف الشئ بأثره إلا على سبيل العناية
والمجاز.
وأضف إلى ذلك أن البيع أمر قائم بالبائع كالتمليك والتبديل،
والانتقال صفة للعوضين، فلا وجه لتعريف البيع بذلك.
نعم لا بأس بتوصيفه بالانتقال مجازا لأن ذلك من قبيل توصيف الشئ
بحال متعلقه (4).

1 - جامع المقاصد 4: 55.
2 - المبسوط 2: 76.
3 - التذكرة 1: 462، القواعد 1: 123، التحرير 1: 164.
4 - ربما يناقش في هذا التعريف بما ذكره في الجواهر، من أن البيع فعل فلا يكون انتقالا.
وفيه أن البيع وإن كان من الفعل بمعناه اللغوي، إلا أنه أمر اعتباري صرف، ومن الواضح أن
الأمور الاعتبارية غير داخلة تحت مقولة الفعل بمعناها المصطلح المبائنة لمقولة الانفعال.
62

2 - كونه الايجاب و القبول الدالين على الانتقال
ما اشتهر بين الفقهاء (1)، من أن البيع هو الايجاب والقبول الدالين على
الانتقال.
وناقش فيه المصنف (رحمه الله) بأن البيع من مقولة المعنى دون اللفظ
فلا وجه لتفسيره به، على أن البيع ينشأ باللفظ ولا معنى لإنشاء الايجاب
والقبول باللفظ.
ولكن هذه المناقشة متوجهة إلى تعريف المصنف أيضا، لأنه أخذ
الانشاء في تعريف البيع، وسيأتي قريبا (2).
قيل: إن اللفظ سبب والبيع مسبب فيستحيل تعريف المسبب بسببه.
ويرد عليه: أن البيع ليس من الأمور التوليدية لكي يتسبب إليه
بالألفاظ، ويضاف إليه أن من عرف البيع بالتعريف المذكور فقد التزم
بكونه اسما للسبب دون المسبب.
3 - كونه نقل العين بالصيغة المخصوصة
ما حكي عن المحقق الكركي في جامع المقاصد (3)، من أن البيع نقل
العين بالصيغة المخصوصة.
وناقش فيه المصنف، وحاصل مناقشته أنه إن كان غرض المحقق
الثاني من هذا التعريف أن البيع نقل العين المنشأ بالصيغة المخصوصة،

1 - كالمحقق في مختصر النافع: 118، والشهيد في الدروس 3: 191، والفاضل المقداد في
التنقيح 2: 24.
2 - يأتي في المبحث الآتي: أوهام حول تعريف البيع.
3 - جامع المقاصد 4: 55.
63

فيرد عليه أن النقل بنفسه وإن كان أمرا يمكن انشاؤه بالصيغة إلا أن النقل
مقيدا بكونه منشاء بالصيغة غير قابل لتعلق الانشاء به، وهو ظاهر.
وإن كان غرضه من ذلك أن البيع نفس النقل الخاص المرادف للبيع،
وجعله مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل الذي تكون
الصيغة سببا له، لا أن يكون التقييد مأخوذا في مفهوم البيع لكي يكون
مدلول بعت نقلت بالصيغة.
إن كان غرضه هذا فإن أراد من الصيغة خصوص كلمة بعت، فقد لزم
منه الدور، إذ الغرض من التعريف معرفة مادة بعت فلا يمكن تعريف
تلك المادة بما يشمل عليها، وإن أراد من الصيغة ما هو الأعم من كلمة
بعت، وجب الاقتصار على مجرد النقل والتمليك.
والجواب عن ذلك: أن لفظ البيع - على ما تقدم بيانه قريبا - لم يوضع
للاعتبار النفساني الصرف، أعني به اعتبار التبديل بين المالين، كما أنه
لم يوضع لمجرد الانشاء من دون أن يكون هناك اعتبار نفساني، بل هو
موضوع للاعتبار المبرز في الخارج بمبرز ما، وهذا المعنى كما يمكن أن
يتحقق بغير صيغة بعت من الألفاظ الكاشفة عن اعتبار التبديل بين العوض
والمعوض، كذلك يمكن أن يتحقق بصيغة بعت.
وهذا نظير لفظ الإذن والإجازة وغيرهما مما وضع لابراز الرضا
النفسي بمبرز ما، فإنه كما يمكن ابراز الرضا بلفظ آخر ينطبق عليه مفهوم
الإذن، كذلك يمكن ابرازه بلفظ الإذن أيضا، فإذا قال: أذنت لك في أن
تفعل كذا، فقد أبرز رضاه بهذه اللفظة، ويكون ذلك مصداقا للإذن في
الخارج.
وعلى الجملة لا مانع من أن يكون البيع اسما للنقل بالصيغة
المخصوصة، ومعه فكما يمكن انشاء البيع بسائر الصيغ، كذلك يمكن
64

انشاؤه أيضا بصيغة بعت، ولا يفرق في ذلك بين القول بأن الانشاء ايجاد
المعنى باللفظ - كما هو المشهور - وبين القول بأنه إظهار ما في النفس من
الاعتبار، كما هو المختار عندنا.
ويضاف إلى ذلك أن ما وجهه المصنف على المحقق الثاني يتوجه
على تعريفه حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، لأن المصنف (رحمه الله) قد عرف
البيع - وسيأتي - بأنه انشاء تمليك عين بمال، ومن الواضح أن انشاء
التمليك ليس إلا انشاء البيع بالصيغة المخصوصة.
نعم يتوجه على التعريف المزبور أمران، وقد تعرض لهما المصنف:
ألف - إن لفظ النقل ليس مرادفا للبيع، بل هو من الكنايات (1)، وقد ثبت
في محله أنه لا يجوز استعمال الألفاظ الكنائية في التعاريف.
ب - إن التعريف المذكور غير جامع لأفراد المحدود، بداهة أن
المعاطاة بيع عند المحقق الثاني (2) مع أنها لم تنشأ بالصيغة أصلا فضلا عن
الصيغة المخصوصة.
4 - كونه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع والثمن
ما حكي عن الحلبي، من أن البيع عقد يقتضي استحقاق التصرف في
المبيع والثمن (3).
ويرد عليه وجوه:
ألف - إن العقد مركب من الايجاب والقبول، وإذن فيتوجه على هذا
التعريف ما يتوجه على تعريف البيع بالايجاب والقبول.

1 - كما في التذكرة 1: 462.
2 - جامع المقاصد 4: 55.
3 - الكافي: 352.
65

ب - إن هذا التعريف لا يشمل البيع الفاسد، لأنه لا يقتضي استحقاق
التصرف في العوضين، مع أنه بيع جزما، وعليه فلا يكون جامعا لأفراد
المحدود.
ج - إن التعريف المذكور مشتمل على الدور لمكان ذكر المبيع فيه،
بداهة أن الغرض منه معرفة مادة بعت، ومن الواضح أن ذكر ما يقتطف
منها في تعريفها دور واضح.
5 - كونه انشاء تمليك عين بمال
ما ذكره المصنف، من أن البيع انشاء تمليك عين بمال، و يتوجه عليه
وجوه:
ألف - إن لفظ العين يشمل الأعيان المتمولة وغيرها، مع أنه (رحمه الله) اعتبر
المالية في العوضين، فلا يكون تعريفه هذا مانعا عن دخول الأغيار في
المحدود.
ب - إنه لو كان البيع انشاء تمليك عين بمال لزم منه أن يكون التبديل فيه
في الإضافة الملكية فقط، وقد عرفت خلاف ذلك فيما تقدم (1)، وقلنا إن
البيع تبديل شئ بشئ في جهة الإضافة، لا في الإضافة الملكية ولا في
الإضافة المالية.
ج - إنه لا دليل على اعتبار المالية في الثمن، وإنما المناط في تحقق
مفهوم البيع صدق عنوان المعاوضة عليه، وقد مر تفصيل ذلك فيما
سبق، كما اتضح لك أن الصحيح هو ما ذكرناه في تعريف البيع من أنه انشاء
تبديل عين بعوض في جهة الإضافة.

1 - قد مر في البحث عن البيع مبادلة شئ من الأعيان بعوض في جهة الإضافة.
66

النقوض الواردة على تعريف البيع والجواب عنها
قوله (رحمه الله): ولا يلزم عليه شئ مما تقدم، نعم يبقى عليه أمور.
أقول: بعد ما عرف المصنف البيع بانشاء تمليك عين بمال، تصدى
لذكر جملة من النقوض المتوجهة على التعريف المزبور والجواب
عنها، ويحسن بنا التعرض لتلك النقوض وأجوبتها تأسيا له (رحمه الله)، منها:
1 - توقفه على جواز الايجاب بلفظ ملكت
إن تعريف البيع بانشاء تمليك عين بمال موقوف على جواز الايجاب
بلفظ ملكت، وإلا لم يكن التمليك مرادفا للبيع.
وقد أجاب عنه المصنف بصحة الايجاب بلفظ ملكت، لأن التمليك
بالعوض ليس معنى آخر غير البيع، وقد صرح بذلك أيضا في البحث عن
ألفاظ العقود، وسيأتي.
والتحقيق أنه لا ريب في جواز انشاء البيع بلفظ ملكت، ولكن هذا
بعيد عن قضية مرادفة التمليك للبيع، ضرورة أنه ربما يتحقق مفهوم البيع
ولا يكون هناك تمليك أصلا، ومثال ذلك أنه إذا أوصى أحد بصرف ماله
في سبيل الله ونص على عدم صيرورته ملكا لأحد، فإنه إذا بيع المال
المزبور لكي يصرف ثمنه في قربات الله لم يقع التبديل بين العوضين في
الإضافة الملكية، بل في إضافة أخرى غيرها (1).
وأضف إلى ذلك أن الانشاء بصيغة ملكت إنما يصح فيما إذا كان
المشتري أصيلا، وأما إذا كان فضوليا أو أحد الأولياء من قبل الأشخاص

1 - قد تقدم تفصيل ذلك في البحث عن البيع مبادلة شئ من الأعيان بعوض في جهة
الإضافة.
67

المحجورين فإنه لا يصح خطابه بلفظ ملكتك، بل لا بد حينئذ من انشاء
البيع بلفظ آخر غير لفظ ملكت.
2 - عدم شموله لبيع الدين ممن هو عليه
أنه إذا كان البيع انشاء تمليك عين بمال لم يشمل ذلك بيع الدين ممن
هو عليه، إذ الانسان لم يملك مالا على نفسه.
وأجاب عنه المصنف بوجهين، وحاصل الوجه الأول أنه يمكن أن
يتملك الانسان مالا على نفسه، وتكون نتيجته سقوط ذلك المال عن
ذمته، ونظير ذلك أن يكون أحد مديونا لغيره دينارا واشترى الدائن
متاعا من المديون بدينار كلي في الذمة، فإن الدينارين يسقطان بالتهاتر.
وحاصل الوجه الثاني أنه إذا لم يعقل تملك الانسان لما في ذمته
لم يعقل بيعه أيضا، إذ ليس للبيع لغة وعرفا معنى غير المبادلة والنقل
والتمليك وما يساويها من الألفاظ، سواء أكانت من اللغة العربية أم كانت
من غيرها.
ومن هذه الناحية قال فخر المحققين: أن معنى بعت في لغة العرب
ملكت غيري فإذا لم يعقل ملكية ما في ذمة نفسه لم يعقل شئ مما
يساويها فلا يعقل البيع (1).
والتحقيق أنه لا بأس بما ذكره في الوجه الثاني، وأما الوجه الأول
فيرد عليه أنه إذا صح ملك الانسان لما في ذمته حدوثا صح ذلك بقاء
أيضا، بديهة أن الموانع العقلية لا يفرق فيها بين الحدوث والبقاء، إلا إذا
كان المانع عن البقاء هو الحكم الشرعي، كما في شراء العمودين فإنه
حينئذ لا بأس من الالتزام بالملكية الآنية حدوثا لا بقاء، ولكن هذا فيما

1 - قاله في شرح الإرشاد، على ما حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 152.
68

إذا كان ملك الانسان لما في ذمته بالملكية الاعتبارية لا بالملكية الذاتية،
وقد عرفت ذلك سابقا في البحث عن أقسام الحقوق وستعرفه قريبا عند
الجواب عن النقض (1).
والتحقيق أن مالكية الانسان لذمته أمر ذاتي تكويني من غير أن يحتاج
إلى الثبوت الاعتباري، بديهة أن الثبوت الاعتباري إنما يصح فيما إذا
لم يكن هناك ثبوت تكويني حقيقي، وإلا لكان الاعتبار لغوا محضا
وتحصيلا للحاصل.

1 - قد أجاب المحقق النائيني عن النقض المذكور في المتن، وإليك نص مقرر بحثه:
فالصواب أن يقال: بيع الدين على من هو عليه وإن كان صحيحا، إلا أن البيع لم يقع على
ما في الذمة بقيد كونه في الذمة، ليكون من قبيل مالكية الشخص لما في ذمته، وذلك لأنه بهذا
القيد لا يمكن تحققه في الخارج، ولا شبهة أنه يعتبر في المبيع أن يكون من الأعيان الخارجية
بل يقع البيع على الكلي، وهو من من الحنطة - مثلا - فيصير المشتري أعني المديون مالكا
لذلك الكلي على البائع، وحيث إن البائع كان مالكا لمن من الحنطة على ذمة المديون، وهو
المشتري، فينطبق ما على البائع على ما كان له على المديون المشتري، فيوجب سقوط ذمة
كليهما، وهذا وإن لم يكن من التهاتر حقيقة إلا أنه أشبه شئ به - منية الطالب 1: 43.
ويتوجه عليه: أن نتيجة ذلك البيع وإن كانت متحدة مع نتيجة بيع الدين ممن هو عليه، إلا أن كلا منهما أجنبي عن الآخر، فإن المبيع في بيع الدين من غير من هو عليه هو بعينه المبيع في
بيع الدين ممن هو عليه، فكما أن المبيع فيما إذا كان المشتري غير من يكون الدين عليه إنما هو
الكلي في ذمة المديون، كذلك المبيع فيما إذا كان المشتري هو المديون.
وأما ما ذكره من أن الكلي المقيد بالذمة لا يقع عليه البيع، لأنه بهذا القيد لا يوجد في
الخارج، فيتوجه عليه أن الكلي ما لم يضف إلى الخارج أو إلى ذمة شخص لا يتعلق به اعتبار
الملكية، وبما أن الكلي في بيع الدين ممن هو عليه أو من غيره ليس هو الكلي الخارجي
فلا مناص عن إضافته إلى الذمة، ولكن هذا الكلي غير مقيد بالذمة لكي يستحيل صدقه على
الخارج، بل الذمة ظرف له، بمعنى أن المطالب والملزم بدفع الكلي هو المديون، وقد تقدم في
البحث عن نظرة في بيع الكلي في الذمة ما يوضح لك معنى بيع الكلي في الذمة.
69

وعليه فإذا ملك شخص شيئا في ذمة غيره فقد ملكه بالملكية
الاعتبارية، وإذا انتقل ذلك المملوك إلى المملوك عليه تبدلت الملكية
الاعتبارية بالملكية الذاتية التكوينية، لما عرفته من لغوية الثبوت
الاعتباري في موارد الثبوت الحقيقي.
وإذن فلا مجال للمناقشة في بيع الدين ممن هو عليه باستحالة ملك
الانسان لما في ذمته، كما لا مجال لتوهم سقوط ذلك بعد التملك، بل
يوجب البيع تبدل الإضافة الاعتبارية بالإضافة الذاتية، فالحجر الأساسي
للمناقشة في بيع الدين ممن هو عليه إنما هو خلط الملكية الذاتية
بالملكية الاعتبارية، وقد علمت الفارق بينهما.
3 - شموله للمعاطاة
إن تعريف البيع بانشاء تمليك عين بمال يشمل التمليك بالمعاطاة، مع
أن المشهور بين الأصحاب أن المعاطاة ليست بيع، بل ادعى بعضهم
الاجماع على ذلك (1)، وإذن فينتقض ذلك التعريف بالمعاطاة.
ويرد عليه أن المعاطاة بيع حقيقة لغة وعرفا، وأن غرض النافين إنما
هو نفي الصحة أو اللزوم عن البيع المعاطاتي، والذي يوضح ذلك أنه
لا وجه لدعوى الاجماع على عدم كونها بيعا، لأن صدق مفهوم البيع
عليها أمر عرفي ولا معنى لقيام الاجماع التعبدي على أمثال ذلك، وإنما
مورد الاجماع التعبدي هو المسألة الشرعية.
ويضاف إلى ذلك أن جما غفيرا من أكابر الفقهاء ذهبوا إلى أن المعاطاة
بيع صحيح، بل جملة من المحققين ذهبوا إلى كونها بيعا لازما، ومع ذلك
كيف يمكن دعوى الاجماع على عدم كونه بيعا.

1 - ادعاه ابن زهرة في الغنية: 214.
70

4 - انتقاض منعه بالشراء
أنه إذا كان البيع انشاء تمليك عين بمال انتقض منعه بالشراء، فإن
المشتري بقبوله للبيع يملك ماله بعوض المبيع.
وأجاب عنه المصنف وإليك نصه: وفيه أن التمليك فيه ضمني،
وإنما حقيقته التملك بعوض... وبه يظهر اندفاع الايراد بانتقاضه
بمستأجر العين بعين، حيث إن الاستئجار يتضمن تمليك العين بمال
أعني المنفعة.
ولكنا لم نفهم معنى محصلا للتمليك الضمني، إذ يرد عليه أولا: أنه
إن كان مراده من التمليك الضمني التمليك التبعي، بمعنى أن البائع يملك
ماله للمشتري أولا ويملك المشتري ماله للبائع ثانيا.
فيرد عليه أن لازم ذلك أن ينعكس الأمر فيما إذا تقدم القبول على
الايجاب، بأن يكون التمليك من ناحية المشتري أولا والبيع من ناحية
البائع ثانيا.
وإن كان مراده من التمليك الضمني أن ألفاظ الايجاب والقبول إنما
تدل بالدلالة المطابقية على تمليك المشتري ماله للبائع، سواء في ذلك
تقدم القبول على الايجاب وعدمه، إن كان مراده هذا فيرد عليه أن هذا
يرجع إلى جهة الدلالة ومقام الاثبات، فلا يوجب فرقا بين التمليكين لبا
وفي مقام الثبوت، بداهة أن البيع تبديل شئ بشئ في جهة الإضافة،
ومن الضروري أنه يستحيل تحقق التبديل بين شيئين إلا أن ينتقل كل
منهما إلى محل الآخر في آن واحد وفي مرتبة واحدة، وعليه فلا يعقل
وجود التمليك من ناحية البائع إلا في آن وجود التمليك من ناحية
المشتري.
71

وبتعبير آخر أن البائع إنما ينشئ التبديل بين الثمن والمثمن في جهة
الإضافة في مرتبة واحدة، نعم يشترط رضا المشتري وقبوله لفعل البائع
في تحقق عنوان التبديل، ونتيجة ذلك أن التمليكين - تمليك البائع
وتمليك المشتري - يتحققان في مرتبة واحدة، وإذن فلا أصالة ولا تبعية
في المقام.
وأضف إلى ذلك أنا سلمنا كون التمليك من ناحية البائع أصليا
استقلاليا، ومن ناحية المشتري ضمنيا تبعيا، إلا أن اطلاق التعريف
شامل لكلا التمليكين، وإذن فلا وجه لصرفه عن الثاني وحصره في
الأول.
قيل: إن مفهوم البيع يوجد بالايجاب الساذج، ويتحقق به التمليك
والتملك في عالم الاعتبار، وعليه فلا يبقى مجال لتمليك المشتري لكي
ينتقض به تعريف البيع، وإذن فلا شأن للمشتري إلا قبول الايجاب من
البائع ونسبة فعله إلى نفسه، فتكون منزلة القبول في البيع منزلة الامضاء
في المعاملات الفضولية.
وفيه أن قبول الايجاب وإن كان شرطا في البيع لا جزء مقوما له، إلا أن
شروط البيع على ثلاثة أقسام:
ألف - أن يكون شرطا لامضاء الشارع.
ب - أن يكون شرطا لامضاء العقلاء.
ج - أن يكون شرطا لأصل الاعتبار، بأن يدور عليه مفهوم البيع وجودا
وعدما.
ومن الواضح أن تعقب الايجاب بالقبول من القبيل الثالث، بداهة انتفاء
حقيقة البيع بانتفاء القبول، فكما أن التمليك والتملك يستندان إلى البائع
كذلك يستندان إلى المشتري.
72

5 - انتقاض طرده بالصلح على تملك عين بمال
أنه إذا كان البيع انشاء تمليك عين بمال، انتقض طرده بالصلح على
تملك عين بمال.
ويتوجه عليه: أن مفهوم الصلح هو التسالم، ويعبر عنه في لغة
الفارس بلفظ: سازش وسازكاري، وعليه فالمدلول المطابقي لكلمة
الصلح إنما هو انشاء التسالم على أمر معلوم، ومن الظاهر أن هذا العنوان
يغاير عناوين سائر العقود، إذ المنشأ فيها أولا وبالذات عنوان آخر غير
عنوان التسالم.
بديهة أن كل معاملة وإن كانت لا تصدر إلا عن تسالم بين الطرفين على
تلك المعاملة، لكنه غير عقد الصلح الذي يكون المنشأ فيه نفس هذا
العنوان، فكم فرق بين انشاء الصلح وبين معاملة وقع التسالم عليها من
الطرفين.
نعم، إن نتيجة انشاء الصلح بعقده قد تكون تمليك عين بعوض فتتحد
مع نتيجة البيع، وقد تكون تمليك عين مجانا فتتحد مع نتيجة الهبة، وقد
تكون تمليك منفعة بعوض فتتحد مع نتيجة الإجارة، وقد تكون تمليك
منفعة مجانا فتتحد مع نتيجة العارية، وقد تكون نتيجة الصلح غير ذلك
من الأمور، كما إذا كان الصلح على حق غير قابل للبيع أو على اسقاط
لحق الدعوى، وعلى كل حال لا يكون الصلح مصداقا للبيع ولا لغيره من
العقود.
ومما يدل على مغائرة البيع والصلح مفهوما هو أن الصلح - كما عرفته
قريبا - التسالم، ومن الواضح أن مفهوم التسالم يستحيل تعلقه بالأعيان،
بل لا بد وأن يتعلق ذلك إما بالفعل كالاسقاط والعفو والتمليك
73

وأشباهها، أو بالحكم الوضعي كالملكية ونحوها، بخلاف البيع فإنه
تبديل شئ من الأعيان بعوض (1).
ومن هنا أن الصلح يتعدى إلى متعلقه بلفظ عن أو على، فيقال:
صالحتك عما علم بما علم، أو يقال: صالحتك على أن يكون هذا لك
وذلك لي، بخلاف البيع فإنه يتعدى إلى متعلقه بنفسه، فيقال: بعتك
المتاع الفلاني بكذا، فيستوضح من ذلك أن مفهوم أحدهما غير مفهوم
الآخر.
وعلى الجملة، أن مفهوم التسالم وإن صدق على جميع العقود حتى
النكاح إلا أن المنشأ في كل عقد بدءا غير ما هو المنشأ في الصلح، وإذن
فلا سبيل إلى انتقاض تعريف البيع بالصلح لأنها متغائران مفهوما (2).

1 - قد مر في البحث عن البيع مبادلة شئ من الأعيان بعوض في جهة الإضافة.
2 - ذكر المصنف (رحمه الله) أنه: وقد يتعلق الصلح، بتقرير أمر بين المتصالحين، كما في قول
أحد الشركين لصاحبه: صالحتك على أن يكون الربح لك والخسران عليك، فيفيد مجرد
التقرير.
أقول: يمكن أن يكون نظره في ذلك إلى حسنة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في رجلين اشتركا
في مال فربحا فيه وكان من المال دين - وفي التهذيب: وكان المال عينا ودينا ولم يقل
وعليهما دين - وعليهما دين، فقال أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال ولك الربح وعليك
التوي - الهلاك -، فقال: لا بأس إذا اشترطا، فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو رد إلى كتاب
الله عز وجل (الكافي 5: 258، الفقيه 3: 144، التهذيب 6: 207، 7: 186، عنهم الوسائل
18: 444)، فإن هذه الرواية لا تخلو عن الاشعار بنفوذ الصلح في أمثال الموارد.
ويمكن أن يكون نظره إلى اطلاق ما دل على نفوذ الصلح بين المسلمين كرواية حفص بن
البختري الضعيف عن الصادق (عليه السلام) قال: الصلح جائز بين المسلمين (الكافي 5: 259، التهذيب
6: 208)، وكمرسلة الفقيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل
حراما أو حرم حلالا، (الفقيه 3: 20، عنه الوسائل 18: 443).
74

6 - انتقاض طرده بالهبة المعوضة
أنه إذا كان البيع تمليك عين بمال انتقض طرده بالهبة المعوضة.
والتحقيق أن الهبة على ثلاثة أقسام:
ألف - أن تكون مجانيا من غير أن تقابل بالعوض، سواء أكان ذلك
بالاشتراط أم بإرادة المتهب.
ب - أن لا يشترط الواهب عوضا في هبته إلا أن المتهب يعطي العوض
من تلقاء نفسه، قضية لمقابلة الاحسان بالاحسان.
ج - أن يشترط الواهب عوضا في هبته، بأن يهب شيئا للمتهب
ويشترط عليه فعلا من الأفعال، ويسمى هذا هبة معوضة، وقد توهم
انتقاض تعريف البيع بذلك.
ويتوجه عليه ما ذكره المصنف، وتوضيحه:
أن حقيقة الهبة متقومة بتمليك الواهب ماله للمتهب تمليكا مجانيا،
من دون أن يعتبر العوض في ماهيتها، نهاية الأمر أنه قد يشترط فيها
العوض فتسمى هبة معوضة، ومن الظاهر أن اشتراط العوض فيها
لا يخرجها عن حقيقتها، إذ الشرط ليس عوضا للتمليك ولا بدلا عن
المال الموهوب، بل شأن العوض المشروط في الهبة شأن سائر الشروط
المشروطة في بقية العقود، والشاهد على صدق مقالنا أنه لو تخلف
المتهب عن العمل بالشرط لم تبطل الهبة، بل يثبت للواهب خيار تخلف
الشرط.
ويتضح ما ذكرناه وضوحا جليا بملاحظة التعويض غير المشروط في
ضمن الهبة الأولى الصادرة من الواهب، بداهة أن التعويض الصادر من
المتهب هبة أخرى غير دخيلة في حقيقة الهبة الأولى الصادرة من
75

الواهب، فيستكشف من ذلك أن حقيقة الهبة متقومة بالتمليك المجاني،
وهذا بخلاف البيع فإنه متقوم باعتبار التبديل بين العوض والمعوض
واظهاره بمبرز خارجي، وعليه فيستحيل تحقق مفهوم البيع بتمليك
البائع فقط، أو بتمليك المشتري فقط (1).

1 - ربما يتوهم انتقاض التعريف بقسم آخر للهبة المعوضة الذي لم يتعرض له المصنف،
وهو أن يهب الواهب ماله للمتهب على أن تكون داره مثلا للواهب بعنوان شرط النتيجة.
ولكنه أيضا أجنبي عن حد البيع، بداهة أن الدار وإن صارت ملكا للواهب بقبول المتهب
الهبة، إلا أن ذلك من ناحية الشرط دون العقد، ولذا لو فرض فساد الشرط - لعدم كون الدار
ملكا للمشروط عليه أو من جهة أخرى - لم تبطل الهبة، بناء على ما هو المشهور بين الأصحاب
من أن فساد الشرط لا يسري إلى العقد، وهذا بخلاف البيع، فإن العوض فيه يصير ملكا للبائع
بنفس العقد لا من قبل الشرط.
ثم إنه لا وجه لما ذكره المصنف (رحمه الله) من حصر تمليك العين بالعوض في البيع، وتحقيق ذلك
في نواحي شتى:
1 - ما أفاده المصنف، من أنه لا معنى للرجوع إلى الأصل بعد انحصار التمليك بالعوض في
البيع وعدم صدقه على غيره.
وفيه أن التمليك بالعوض غير منحصر في البيع، بل له صنف آخر غير البيع كتبديل عرض
بعرض، أو نقد بنقد، أو منفعة بمنفعة، من دون أن يجعل أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا، فإن
ذلك خارج عن حدود البيع وإنما هو قسم خاص من المعاملات المعاوضية، وتدل على صحته
آية التجارة عن تراض - النساء: 33.
2 - أنه إذا وجدت معاملة في الخارج وشك في أنها بيع أو غيره حملت على البيع، لغلبته
على سائر أفراد التمليك بالعوض، وقد حقق في محله أن الظن يلحق الشئ بالأعم الأغلب.
وفيه أنه لا دليل على حجية الغلبة، وإذن فالظن الحاصل منها لا يغني من الحق شيئا،
ويضاف إلى ذلك أن بقية أفراد التمليك بالعوض ليست بنادرة، غاية الأمر أن أفراد البيع أكثر من
غيرها.
3 - إذا أنشئ التمليك بالعوض بصيغة البيع واحتملنا إرادة المعنى المجازي من ذلك
كالصلح والهبة المعوضة - حمل على البيع، لأصالة الحقيقة التي ثبتت حجيتها ببناء العقلاء
واجماع العلماء وسيرة الرواة وديدن حملة الحديث.
وفيه أن الأصل بهذا المعنى وإن كان صحيحا، بل موردا للتسالم، ولكن الظاهر أنه ليس
مراد القائل، كما هو واضح للمتأمل.
76

ثم إنه ذكر السيد في حاشيته (1) قسمين آخرين للهبة غير ما تقدم:
ألف - أن تقع الهبة في مقابل الهبة، كما إذا قال الواهب: ملكتك كذا
بهبتك كذا، ويقصد بذلك وقوع الهبة بإزاء الهبة، بأن تكون كلمة الباء
متعلقة بالتمليك بلحاظ نفسه لا بلحاظ متعلقه، والفارق بين هذا القسم
وبين ما يشترط فيه العوض أنه إذا لم يهب المتهب هنا بطلت الهبة الأولى،
إذ المفروض أن كلا من التمليكين وقع في مقابل الآخر.
ومن الظاهر أن مقتضى المقابلة هو انتفاء كل منهما بانتفاء الآخر،
بخلافه هناك، فإن مخالفة الشرط فيه يوجب الخيار فقط، وأما الفارق بينه
وبين البيع، فإن المقابلة هنا بين الفعلين، بخلاف البيع فإن المقابلة فيه بين
العوضين.
ب - أن تقع المقابلة بين المال والهبة، بأن يقول الواهب: ملكتك كذا
بمقابل ما أعطيتني، نظير أن يقول: أكرمتك بعوض ما أعطيتني، ويقصد
في هذا القسم وقوع المال بإزاء الهبة، بأن تكون كلمة الباء متعلقة
بالتمليك بلحاظ نفسه أيضا.
والسر في أن هذا القسم من أقسام الهبة دون البيع، أن العوض فيه
لم يقابل بالعين لكي يكون ذلك من أفراد البيع، بل في مقابل الفعل وهو
التمليك، وأما المال فهو مجاني صرف ولم يقع بإزائه شئ.
والتحقيق أنا لا نعقل مقابلة الهبة بالهبة أو بالمال مقابلة معاوضية

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 60.
77

بصيغة وهبته، لأن هذه الصيغة إنما تكفلت بانشاء تمليك متعلقها - أي
العين الموهوبة - للمتهب، ومع ذلك يستحيل أن يتكفل بانشاء تمليك
نفسها له إلا بانشاء آخر، بأن يقول: ملكتك هبتي لك كذا بهبتك إياي
كذا، وعليه فيكون كل من المتعاملين مالكا لعمل الآخر، أعني به الهبة
المذكورة في العقد.
7 - انتقاض طرده بالقرض
أنه إذا كان البيع انشاء تمليك عين بمال انتقض طرده بالقرض، لأنه
أيضا انشاء تمليك عين بمال.
وأجاب عنه المصنف بأن مفهومه ليس نفس المعاوضة بل هو تمليك
على وجه ضمان المثل أو القيمة لا معاوضة للعين بهما.
وناقش فيه المحقق الإيرواني، وإليك نصه:
فإما هو مجرد تغيير للعبارة مع كون واقعه هو المعاوضة، أو هو غير
معقول، فإن التمليك على وجه ضمان المثل أو القيمة إن كان بمعنى
المقابلة على أن يكون تمليكا بإزاء عوض في الذمة، فذلك هو الأول،
فإنه تمليك بعوض في الذمة، وإن كان لا بمعنى المقابلة بل كان التمليك
مجانيا وقد اشترط في تمليكه أن تكون الذمة مشغولة بحكم الشارع كما
تكون مشغولة في موارد الضمانات، فذلك هو الثاني (1).
ولكن هذه المناقشة غريبة عن مقصود المصنف، فإن غرضه - على ما
يظهر من مبحث ضمان العين بالمثل أو القيمة، وسيأتي - أن الانسان إذا
وضع يده على مال غيره ضمنه لمالكه بجميع خصوصياته النوعية

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 74.
78

والصنفية والشخصية، سواء أكانت تلك الخصوصيات دخيلة في المالية
أم لا، بديهة أن الثابت في ذمة الضامن ابتداء إنما هو نفس العين، فيجب
ردها إلى مالكها لقاعدة ضمان اليد، وإذا تلفت العين وجب مثلها على
الضامن لأنه أقرب إلى التالف، وإن لم يوجد مثلها وجب عليه أداء قيمتها
لاحتوائها على جميع ما هو دخيل في مالية العين.
وعلى هذا الضوء فمعنى القرض هو تمليك المقرض ماله للمقترض
على وجه ضمان المثل، وحينئذ فيملك الدائن على المديون أمرا كليا
منطبقا على كل فرد من الأفراد الخارجية المساوية لما أخذه من القرض،
في الخصوصيات النوعية والصنفية الدخيلة في المالية، وأما
الخصوصيات الشخصية غير الدخيلة في المالية فهي لا تدخل تحت
الضمان، لأن الانسان إنما يستقرض شيئا لدفع حاجته به، فلزوم ابقائه
على حاله نقض للغرض.
وعليه فليس للمقرض أن يجبر المقترض على رد العين المأخوذة
قرضا تمسكا بدليل ضمان اليد، بداهة أن قاعدة ضمان اليد لا تجري في
المقام، إذ المفروض أن يد المقترض لم تتعلق بمال غيره، وأما الضمان
بالاقدام فلا يترتب عليه أزيد مما ثبت فيه التعهد.
وقد عرفت قريبا أن العهدة لم تثبت في باب القرض إلا بالنسبة إلى
مالية العين المأخوذة قرضا لا بالنسبة إلى خصوصياتها الشخصية،
فيستوضح من ذلك أن القرض خارج عن حدود البيع.
ويتضح ما ذكرنا جليا بقياس القرض بالغصب، إذ لا فارق بينهما إلا من
ناحية أن المغصوب يضمن على الغاصب بجميع خصوصياته النوعية
والصنفية والشخصية، وهذا بخلاف القرض، فإن المال المأخوذ قرضا
غير مضمون بالخصوصيات الشخصية كما عرفته قريبا.
79

وعلى هذا فكما لا يتوهم انتقاض تعريف البيع بالغصب، كذلك
لا يتوهم انتقاضه بالقرض أيضا، وهذا واضح لا ريب فيه.
ما استشهد على خروج القرض عن مفهوم البيع
ثم إن المصنف قد استشهد على خروج القرض عن مفهوم البيع بأمور
عديدة:
1 - أنه لو كان القرض من أفراد البيع لجرى فيه رباء المعاوضة مع أنه
لا يجري فيه.
وأوضحه السيد في حاشيته بما هذا نصه: لا يشترط في تحقق الرباء
فيه - القرض - ما يعتبر في تحققه في سائر المعاوضات، من اعتبار كون
العوضين من جنس واحد واشتراط كونهما من المكيل والموزون، بل
يحرم فيه الزيادة مطلقا وإن لم يكونا من جنس واحد، كما في قرض
القيميات وكذا إن كان معدودا أيضا هذا.
ثم ناقش في ذلك وإليك لفظه: ولكن يمكن أن يمنع دلالة ذلك على
عدم كونه معاوضة وإن كان أصل المطلب حقا، لوضوح أن القرض
تمليك بالضمان لا بعوض، وذلك لامكان اختصاص بعض المعاوضات
بسعة دائرة الرباء فيه لدليل خاص، فتدبر (1).
والظاهر أن المصنف (رحمه الله) يريد من قوله: لا يجري فيه رباء
المعاوضة، مطلبا آخر غير ما فهمه السيد منه، وهو أن اقتراض نقد
مسكوك من الذهب أو الفضة ودفع نقد آخر منهما حين الأداء الذي
يساوي القرض في المالية، وإن زاد عليه في المقدار لا يستلزم الرباء.
ومثال ذلك أن يقترض أحد من صاحبه ريالا عراقيا ويدفع عن بدله

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 61.
80

إلى المقرض أربعة دراهم، فإن هذه الدراهم وإن كانت مساوية للريال في
المالية ولكنها زائدة عليها في المقدار، ومع ذلك لا يكون هذا رباء،
إلا إذا استلزم زيادة في المالية، وهذا بخلاف المعاملات المعاوضية،
فإن شراء الريال الواحد بأربعة دراهم معاملة ربوية قطعا.
والسر في ذلك ما ذكرناه آنفا، من أن معنى القرض تمليك العين على
وجه ضمان المثل أو القيمة، ومن البين أن هذا العنوان أمر كلي قابل
الانطباق على أفراده الخارجية المساوية للعين المأخوذة قرضا في
المالية وإن زادت عليها في القدر، فيستكشف من ذلك أن باب القرض
غريب عن باب المعاملات المعاوضية، وإلا لاتحدا في الآثار (1).
2 - قوله (رحمه الله): ولا الغرر المنفي فيها.
أقول: توضيح كلامه أنه يجوز اقتراض شئ مع الجهل بمقداره
وأوصافه، ومن الظاهر أنه لو كان القرض من قبيل المعاملات المعاوضية
لاعتبر فيه العلم بالمقدار والأوصاف، لنهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع

1 - ثم إن الفقهاء ذكروا أن الربا المعاوضي قد يكون بالزيادة العينية كما قد يتحقق بالزيادة
الحكمية، كاشتراط أحد المتبايعين على الآخر شيئا، وأما اختلاف العوضين في وصف الجيد و
الردئ فليس من الربا المعاوضي، وإنما يكون ربا في القرض، لأن كل قرض يجر نفعا فهو ريا،
فلا يعتبر فيه ما يعتبر في الربا المعاوضي، فدائرة الربا في القرض أوسع من الربا في البيع.
فقد تكون الزيادة ربا في القرض ولا تكون ربا في البيع، وهذا واضح، وإنما المهم تصوير
عكس ذلك، أعني ما يكون ربا في المعاوضة مع عدم كونه ربا في القرض، على ما هو ظاهر
كلام المصنف (رحمه الله)، وهو ما إذا اشترط المقترض شرطا في الدين، فإنه ليس نفعا للمقرض، وإنما
هو ضرر عليه.
نعم إذا انعكس الأمر واشترط المقرض على المقترض شيئا يتحقق معه الربا، لأنه نفع
حكمي يصدق معه عنوان كل قرض يجر نفعا، فعلي هذا يتم استشهاده، فإن القرض لو كان من
المعاوضات لكان مقتضى اطلاقات أدلة الربا المعاوضي ثبوت الربا في القرض، لعدم ورود دليل
خاص ناف للربا في المقام بخصوصه - المحاضرات 2: 33.
81

الغرر (1)، وعليه فلو أخذ المقرض قبضة من الدراهم المصبوبة بين يديه
وأقرضها لشخص من غير علم بمقدارها صح القرض، نعم لا بد
للمقترض أن يعرف مقدار ذلك لكي يتمكن من الأداء، إلا أنه أجنبي عن
حقيقة القرض.
ومن هنا لا بأس باقتراض الطعام بصخرة مجهولة لامكان الأداء بتلك
الصخرة وإن لم يعلم مقدارها إلى الأبد، نعم، ظاهر جمع من الفقهاء في
باب القرض وجوب العلم بمقدار القرض وأنه لا يجوز الاقتراض بالكيل
والوزن المجهولين.
ولكن ناقش في ذلك بعض الأعاظم ونقل فيه القول بالجواز عن ظاهر
جماعة آخرين، بدعوى أن دليل نفي الغرر مختص بالبيع، غاية الأمر أنه
يجوز التعدي منه إلى مطلق المعاملات المعاوضية للقطع بعدم
الخصوصية للبيع، إذ المناط في النهي عن بيع الغرر إنما هو رفع النزاع
وقطع المرافعة، ومن البديهي أن هذا المناط موجود في مطلق
المعاملات المعاوضية، وأما القرض فلا دليل على اعتبار نفي الغرر فيه
ولا أنه من قبيل المعاملات المعاوضية، لكي يعتبر فيه نفي الغرر من هذه
الناحية، وإذن فلا وجه لاعتبار العلم بمقدار القرض.
وهذه المناقشة في غاية المتانة، ولكن يحسن بنا أن نقول:
إن القرض خارج عن موضوع الغرر حتى مع وجود الدليل على نفي
الغرر بقول مطلق، لأنا ذكرنا سابقا أن الثابت في ذمة المقترض إنما هو
مالية العين المأخوذة قرضا، سواء أكانت تلك العين معلومة المقدار
والأوصاف أم كانت مجهولة كذلك، نعم يعتبر العلم بمقدار القرض
مقدمة للأداء، ومن الواضح أن ذلك يمكن بعد الاقتراض أيضا.

1 - سنن البيهقي 5: 338.
82

وإذن فما ذكره المصنف من تأييد خروج القرض عن حد البيع متين،
وقد اتضح لك من جميع ذلك أنه لا يعتبر ذكر العوض أيضا في القرض (1).
بحث في معان أخر للبيع
قوله (رحمه الله): ويظهر من بعض من قارب عصرنا استعماله في معان أخر غير ما ذكر.
أقول: لعل مراده من البعض هو المحقق صاحب المقابيس (2)، وذكر

1 - قوله (قدس سره): ولا ذكر العوض ولا العلم به.
ذكر بعض المحشين أن عدم اعتبار ذكر العوض في القرض إنما هو من جهة كونه بنفسه
معلوما دائما فإنه المثل إن كانت العين مثلية وإلا فالقيمة وإنما يعتبر ذكره في البيع لعدم كونه
معينا في نفسه، فلا ينافي ذلك كونه بيعا.
نقول: قد يتردد الشئ بين أن يكون مثليا أو قيميا، كما أن الشئ القيمي ربما لا تتغير له
قيمة كبعض الجواهر النفيسة، فليس ما ذكره مطردا في جميع الأعيان، فالصحيح أن يقال إن
القرض ليس معاوضة ليعتبر فيه ذكر العوض أو العلم به، بل هو كما ذكرنا نقل العين إلى العهدة
بإلغاء خصوصياتها الشخصية التي ليست دخيلة في ماليتها، فعدم ذكر العوض من باب السالبة
بانتفاء الموضوع.
قوله (قدس سره): فما قيل من أن البيع هو الأصل في تمليك الأعيان.
حاصل ما أورده على القائل هو أنه لو أريد من الأصل الأصل اللفظي فهو تام، وإلا فلا أصل
في البين يعين البيع وينفي به احتمال غيره.
توضيح ذلك: أنه إذا ثبت كون تمليك عين بمال هو نفس البيع فإن احتمل إرادة غير البيع منه
كالصلح مثلا فالأصل اللفظي - أعني أصالة الحقيقة - يعين أن المنشأ به هو البيع دون غيره، وأما
إذا لم يثبت الاختصاص بل احتملنا أن يكون مشتركا معنويا بين البيع وغيره من أنواع المبادلة، أو
ثبت الاختصاص ولكن لم نعرف أنه انشاء التمليك أو الصلح ثبوتا، فليس حينئذ أصل يعين
الواقع في البيع، نعم إذا كان لأحدهما أثر زائد يدفع بالأصل.
2 - راجع مقابس الأنوار: 107 كتاب البيع، و: 275 كتاب النكاح.
83

السيد في حاشيته (1) أن الظاهر أنه الشيخ الكبير الشيخ جعفر في شرح
القواعد، ومراده من غير ما ذكر غير ما ذكره هو (رحمه الله) واختاره، وإلا فقد
ذكر بعض هذه المعاني فيما تقدم، إليك هذه المعاني التي تعرض لها
المصنف:
1 - الايجاب المتعقب بالقبول، وإليه نظر كل من أخذ قيد التعقب
بالقبول في تعريف البيع المصطلح (2)، ولعل هذا هو المتبادر من لفظ البيع،
ولذا لا يطلق لفظ البائع على من أوجب البيع فقط من غير اقترانه بالقبول.
2 - الأثر الحاصل من الايجاب والقبول وهو الانتقال، ويظهر هذا من
المبسوط وغيره (3).
3 - نفس العقد المركب من الايجاب والقبول، وإليه ينظر كل من عرف
البيع بالعقد (4).
المناقشة في المعنى الأول: انشاء التمليك المتعقب بالقبول
وقد ناقش فيه المصنف وحاصل مناقشته: أن الايجاب المتعقب
بالقبول من أفراد البيع، وإنما انصرف إليه اللفظ لقيام القرينة الخارجية
على أن المراد من الايجاب إنما هو الايجاب المثمر، ومن الواضح أن
الأثر لا يترتب إلا على الايجاب المتعقب بالقبول دون الايجاب الساذج،
ولولا هذه القرينة لكان المقصود من لفظ البيع الايجاب المحض.
وأضف إلى ذلك أنه لم يقل أحد أن تعقب الايجاب بالقبول دخيل في

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 61.
2 - راجع المستند للمحقق النراقي 2: 360.
3 - المبسوط 2: 76، السرائر 2: 240.
4 - كالحلبي: 252، وابن حمزة في الوسيلة: 236، والعلامة في المختلف 5: 51.
84

معنى البيع وإن التزموا بكونه شرطا للانتقال الخارجي.
والوجه في ذلك أن البيع وما يساويه في المعنى من قبيل الايجاب
والوجوب لا من قبيل الكسر والانكسار (1)، إذ كما أن الأمر قد يأمر بشئ
ولا يكون ذلك واجبا في الخارج كذلك البائع، فإنه قد ينشئ البيع وهو
لا يوجد في الخارج، وهذا بخلاف الكسر والانكسار فإن أحدهما
لا ينفك عن الآخر.
ويتوجه على هذه المناقشة وجوه:
1 - ما ذكره السيد في حاشيته (2)، وصفوته: أن كل تمليك انشائي ليس
ببيع بل المراد من البيع هو الايجاب المتعقب بالقبول على سبيل الشرط
المتأخر، والدليل على ذلك هو التبادر وصحة السلب.
ومن هنا لو أخبر أحد عن بيع داره مع أنه لم يتحقق في الخارج إلا
الايجاب الساذج من دون أن يقبله المشتري لكان كاذبا في أخباره، كما أنه
إذا أخبر عن بيع داره وأخبر أيضا عن عدم قبول المشتري ذلك كان
مناقضا في كلامه، وهذا بخلاف ما إذا أخبر عن البيع ثم أخبر عن فقدان
شرط من شرائط صحته فإنه لا يعد مناقضا في اخباره.
وقد يتوهم أن ذلك من ناحية الانصراف، ولكنه توهم فاسد إذ لو صح
هذا لجري مثله عند فقدان سائر الشرائط أيضا، مع أنه لو تحقق البيع
بايجابه وقبوله ولكن كان فاقدا لبعض شرائط الصحة لصدق عليه مفهوم
البيع قطعا.
وأضف إلى ذلك أن البيع من قبيل العقود، ومن البين الذي لا ريب فيه
أنه لو كان الايجاب الصرف بيعا من دون تعقبه بالقبول للزم منه أن يكون

1 - لعل قائله أسد الله التستري في مقابس الأنوار: 107.
2 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 62.
85

البيع من الايقاعات لا من العقود، وهو بديهي البطلان.
وعلى الجملة أن قوام العقود برمتها بالايجاب المتعقب بالقبول، لأنه
لا يتحقق أي عقد من العقود بالايجاب الساذج، سواء أكان هذا الايجاب
متوجها إلى قابل شاعر ولكنه لم يقبله أم كان متوجها إلى جسم غير
شاعر كالجدار ونحوه.
2 - أنه لا وجه صحيح لتفرقة المصنف بين الايجاب والوجوب وبين
الكسر والانكسار، بديهة أن الفعل الصادر من الفاعل أمر وحداني
لا تعدد فيه بوجه، وإنما التعدد فيه بحسب الاعتبار فقط كالايجاد
والوجود فإنهما شئ واحد، غاية الأمر أن هذا الشئ الواحد، بالنسبة
إلى جهة الاصدار يسمي ايجادا وبالنسبة إلى جهة الصدور يسمي
وجودا، وكذا الحال في التمليك والملك، والإيجار والإجارة،
والايجاب والوجوب، والكسر والانكسار، وأشباه ذلك.
ودعوى أن الوجوب ينفك عن الايجاب ولكن الكسر لا ينفك عن
الانكسار دعوى جزافية، إذ الايجاب أيضا لا ينفك عن الوجوب، إلا أن
عدم انفكاك أحدهما عن الآخر في نظر الأمر فقط لا في الخارج وفي
جميع الأنظار.
3 - أن البيع انشاء تبديل عين بعوض في جهة الإضافة (1)، ومن الظاهر أن
هذا المعنى لا يتحقق إلا بتعقب الانشاء بالقبول، وعليه فلا يوجد مفهوم
البيع بالايجاب إلا عند تعقبه بالقبول بنحو الشرط المتأخر، أو على
سبيل القضية الحينية، وإذن فينحل البيع في الحقيقة إلى قضية شرطية أو
حينية، فمعنى قول البايع بعت المتاع الفلاني من زيد أنه بعته إياه إن قبله
أو حين قبوله.

1 - قد تقدم ذلك في البحث عن حقيقة البيع وتعريفه.
86

وقد يتوهم أن ذلك يرجع إلى التعليق وهو مبطل للعقود بالضرورة،
ولكن هذا التوهم بديهي الفساد، لأن بطلان العقود بالتعليق ليس من
ناحية الاستحالة العقلية لكي لا يقبل التقييد أو التخصيص، بل إنما هو من
ناحية الاجماع.
ومن الظاهر أن الاجماع دليل لبي فلا يؤخذ منه إلا بالمقدار المتيقن،
والقدر المتيقن هنا ما يكون التعليق فيه على الأمور الخارجة عن صميم
العقد ومفهومه.
ويضاف إلى ذلك أن العقود المتعارفة لا تخلو عن مثل هذا التعليق،
والمفروض أنها ممضاة للشارع، فيستوضح من ذلك أن التعليق المذكور
لا يضر بالعقود في نظر الشارع.
وبتعبير آخر أن البيع له أربعة أقسام:
1 - الانشاء الساذج من غير أن ينضم إليه القبول، ولا شبهة في أن هذا
لا يسمي بيعا حتى في نظر الموجب، فلا يترتب عليه أي أثر من آثار
البيع.
2 - الايجاب والقبول من غير أن يلحق بهما الامضاء من العرف أو
الشرع، فإن ذلك يسمي بيعا في نظر كل من الموجب والقابل، ولا يسمي
بيعا عند العرف والشرع.
3 - الايجاب والقبول مع كونهما موردا لامضاء أهل العرف دون
الشرع، كبيع ما لا يصح بيعه شرعا، نظير الميتة والخمر والخنزير
وأشباهها، فإن هذا يعد بيعا في نظر المتبايعين وأهل العرف دون الشرع.
4 - الايجاب والقبول مع التحاق الامضاء من أهل العرف والشرع
بهما، ولا شك في أن هذا بيع بالحمل الشايع في جميع الأنظار.
وقد اتضح لك مما بيناه أنه لا يوجد البيع في أي وعاء من الأوعية
87

بالايجاب الخالص، ومن هنا لا يطلق البائع على من أوجب البيع
ولم يتعقب ذلك بالقبول، وكذلك الحال في سائر العقود برمتها.
قوله (رحمه الله): وكذلك لفظ النقل والابدال والتمليك وشبهها، مع أنه لم يقل أحد
بأن تعقب القبول له دخل في معناها.
أقول: حاصل كلامه إن شأن البيع شأن النقل والابدال والتمليك،
فكما لا يعتبر في صدق مفاهيم تلك الكلمات قيد التعقب بالقبول كذلك
لا يعتبر ذلك أيضا في صدق مفهوم البيع.
وفيه أنك قد عرفت قريبا أن اعتبار القبول في مفهوم البيع أمر واضح،
بل هو كالنور على المنار، وعليه فلا وجه لقياسه بما لا يعتبر في مفهومه
قيد التعقب بالقبول.
وأما النقل فهو موضوع لمفهوم عام وهو كل ما صدق عليه عنوان
النقل، سواء أكان ذلك نقلا خارجيا كنقل شئ من مكان إلى مكان آخر
أم كان نقلا اعتباريا، ومن هنا تطلق كلمة الناقلة على آلة النقل،
كالحمولة والسفن والسيارات والطيارات وغيرها، ومن الواضح جدا أنه
لا يعتبر قيد التعقب بالقبول في هذا المفهوم الوسيع.
ومن هنا ظهر لك أنه لا وجه لقياس البيع بكلمة الابدال أيضا، ضرورة
أن المبادلة أعم من المبادلة الخارجية ومن المبادلة الاعتبارية، كما أن
المبادلة الاعتبارية أعم من البيع وغيره (1).
وأما التمليك فإن النسبة بينه وبين البيع هي العموم من وجه، إذ قد
يوجد التمليك ولا يصدق عليه مفهوم البيع، كما في الهبة والوصية
والإرث وتمليك الله سبحانه الزكاة للفقراء والخمس لبني هاشم وغير
ذلك، وقد يوجد البيع ولا يكون هناك تمليك، كبيع المتاع بسهم سبيل

1 - قد تقدم ذلك في البحث عن الثمن ووجه اختصاصه بالنقود.
88

الله من الزكاة، فإن هذا بيع وليس فيه تمليك من ناحية البائع (1)، وقد
يجتمعان وهو كثير.
وإذن فعدم اعتبار قيد التعقب بالقبول في مفهوم كل من النقل والابدال
والتمليك لا يلازم عدم اعتباره في مفهوم البيع الذي هو أخص من
مفاهيم تلك الكلمات مطلقا أو من وجه.
المناقشة في المعنى الثاني: الأثر الحاصل من الايجاب والقبول وهو الانتقال
والتحقيق أنه إن أريد من الانتقال اعتبار المالكية بنظر العرف والشرع،
فلا شبهة أن ذلك متأخر عن البيع تأخرا رتبيا، وإن أخذ البيع بمعنى
المبيعة لأن نسبة البيع إلى الاعتبار المزبور نسبة الموضوع إلى حكمه،
ومن البديهي أن الموضوع يتقدم على حكمه تقدما رتبيا، وعلى هذا
فاستعمال كلمة البيع في الانتقال من الأغلاط الواضحة، ومعه لا يمكن
تعريف البيع بالانتقال.
وإن أريد من الانتقال اعتبار الملكية بنظر المتبايعين فإنه يجوز تعريف
البيع بذلك، لأن الانتقال متحد مع البيع وجودا، لما عرفت قريبا من
اتحاد الايجاد والوجود، وإن تغايرا اعتبارا، ولكنه ليس معنى آخر
يغاير المعنى الأول.
المناقشة في المعنى الثالث: نفس العقد المركب من الايجاب والقبول
أقول: قد حكى المصنف عن بعض من قارب عصره ما هذا نصه:
الظاهر اتفاقهم على إرادة هذا المعنى في عناوين أبواب المعاملات حتى

1 - قد تقدم ذلك في البحث عن البيع مبادلة شئ من الأعيان بعوض في جهة الإضافة.
89

الإجارة وشبهها التي ليست هي في الأصل اسما لأحد طرفي العقد (1).
ويتوجه على ذلك أنا لم نجد موردا يستعمل فيه لفظ البيع وغيره في
الايجاب والقبول، وإذن فلا وجه صحيح لحمل الألفاظ المذكورة في
طليعة عناوين المعاملات على ذلك، بل إن ألفاظ العقود برمتها أسماء
لأحد طرفي العقد، وهو الايجاب.
وأما الإجارة والوكالة، فلا يبعد أن تكونا أيضا من أسماء فعل
الموجب، أما الإجارة فلأنها بمعنى الأجر، والأجر قد يستعمل ويراد
به الجزاء والأجرة، وقد يستعمل مصدرا من أجر بمعنى أكرى، بداهة
أن آجر مجردا قد يستعمل بمعنى آجر - كما في القاموس ومجمع
البحرين (2) - وعلى ذلك فالإجارة تكون مصدرا لأجر، كالكتابة التي هي
مصدر لكتب، وأما الوكالة فهي أيضا فعل الموجب كالتوكيل، لأن
الأفعال المجردة والمزيد فيها وإن اختلفت بالاعتبار لكنها متحدة
وجودا.
والسر في ذلك أن نسبة المصادر المجردة إلى المصادر المزيد فيها
نسبة الوجود إلى الايجاد، فكما أن الوجود والايجاد متحدان حقيقة
ومختلفان اعتبارا، كذلك المصادر المجردة والمصادر المزيد فيها،
وعلى هذا فاستعمال لفظ التوكيل في الفعل الصادر من الموجب إنما هو
بلحاظ جهة الصدور، واستعمال لفظ الوكالة فيه إنما هو بلحاظ نفس
الفعل (3).

1 - راجع مقابس الأنوار: 107 - 275.
2 - لسان العرب 4: 90، مجمع البحرين 3: 200.
3 - نعم لم يلحظ الفقهاء في الموردين من أبواب المعاملات جهة إضافة العقد إلى الفاعل،
وهما باب الوكالة وباب النكاح، حيث لم يجعل العنوان فيهما التوكيل والانكاح، ولعل ذلك
لنكتة لم تصل إلينا أو كان لمجرد الصدفة والاتفاق - المحاضرات 2: 38.
90

وقد يستدل على صحة استعمال لفظ الإجارة في الايجار بقوله تعالى
في التحدث عن قصة تزويج موسى (عليه السلام) من بنت شعيب (عليه السلام) قال: إني
أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج (1)، ووجه
الاستدلال أن معنى الآية هو أن تأجرني نفسك.
ولكن هذا الاستدلال فاسد، لأن كلمة أن تأجرني في الآية الكريمة
مستعملة في معنى الجزاء والثواب، أو أن المراد من ذلك أن تكون أجيرا
لي - على سبيل شرط النتيجة - وهذا الأخير قد ذكر في مجمع البحرين
ولسان العرب (2).
ثم إنه قد نسب المصنف إلى الشهيد الثاني (3) - وإن لم تثبت النسبة - أن
اطلاق لفظ البيع على العقد مجاز لعلاقة السببية، ثم وجه كلامه،
وحاصل توجيهه أنه ليس مراد الشهيد من المسبب النقل الحاصل من
الايجاب الصرف لأنه حاصل بنفس الانشاء من دون توقفه على القبول،
كما أن وجوب الضرب يتحقق في نظر الأمر بالأمر فقط وإن لم يصر واجبا
في نظر غيره، بل مراد الشهيد الثاني من المسبب إنما هو الأثر الحاصل من
العقد في نظر الشارع وهو النقل والانتقال، ومن الواضح أن ذلك
لا يحصل إلا بالعقد المركب من الايجاب والقبول.
وعليه فاستعمال لفظ البيع - الذي وضع للمسبب - في نفس السبب
إنما هو بعلاقة السببية والمسببية، وحينئذ فإضافة العقد إلى البيع بمعنى

1 - القصص: 27.
2 - لسان العرب 4: 10، مجمع البحرين 3: 201.
3 - راجع مسالك الأفهام 3: 144.
91

الأثر الحاصل من العقد إضافة لامية، ومن قبيل إضافة السبب إلى
المسبب - أي عقد للبيع - لا إضافة بيانية.
وعلى هذا التوجيه فيتوجه على الشهيد الثاني ما وجهه المصنف على
المعنى الثاني المتقدم، من أن البيع بمعنى الانتقال لم يوجد في اللغة
ولا في العرف، وإنما وقع ذلك في تعريف جماعة تبعا للمبسوط.
ويرد على المصنف أيضا أن معنى البيع ليس هو الأثر الحاصل منه في
نظر الشارع أعني به الانتقال، لكي يصح اطلاقه على سببه مجازا، بل
ذلك الأثر حكم من أحكام البيع، ومن الظاهر أنه لا يصح اطلاق البيع على
حكمه ولو اطلاقا مجازيا، بل معنى البيع كما عرفت هو الاعتبار
النفساني المبرز بمبرز خارجي (1).
نعم لو ثبت هذا الاطلاق لأمكن تصحيحه بما اشتهر بين العلماء من أن
الانشاء ايجاد المعنى باللفظ فإنه على هذا يتسبب البائع بالايجاب
والقبول إلى ايجاد البيع.
وحينئذ فاطلاق كلمة البيع على الأثر الحاصل من الايجاب والقبول -
وهو الانتقال - من قبيل اطلاق السبب على المسبب لعلاقة السببية، وقد
عرفت بطلان ذلك آنفا.
وأما ما نسب إلى الشهيد الثاني (رحمه الله) من صحة اطلاق البيع على العقد
المركب من الايجاب والقبول، فلم نجده في لغة ولا في عرف، بل إرادة
هذا المعنى من العناوين المذكورة في طليعة أبواب المعاملات غلط
واضح، إذ لا معنى لأن يراد من قول الفقهاء كتاب البيع - مثلا - كتاب
الايجاب والقبول.
والذي يحسن بنا أن نفهمه أنه إذا صح اطلاق كلمة البيع على الايجاب

1 - قد تقدم ذلك في البحث عن حقيقة البيع وتعريفه.
92

والقبول كان ذلك من ناحية أخرى.
وتحقيق ذلك أنه قد يطلق البيع ويراد به ما ذكرناه سابقا، من أنه انشاء
تبديل شئ من الأعيان بعوض، وقد عرفت فيما تقدم أن البيع بهذا
المعنى هو الايجاب الساذج المتعقب بالقبول، كما أن الأمر كذلك في
سائر العقود برمتها (1)، وقد يطلق البيع ويراد به المعاهدة الخاصة
الحاصلة بين المتبايعين (2)، ولعل اطلاقه على هذا المعنى أكثر من اطلاقه
على الايجاب المتعقب بالقبول، وإليه ينظر جميع ما ورد في النصوص
والفتاوي، من أنه لزم البيع أو وجب أو لا بيع، وهو الذي يفرض له البقاء
ويتعلق به الفسخ والامضاء، وترد عليه الشروط والأحكام.
وإذن فيمكن أن يقال إنه لم يوجد مورد يستعمل فيه لفظ البيع في
العقد الذي هو سبب للبيع، بل كل ما يتوهم كونه من هذا القبيل، كقولهم
كتاب البيع أو عقد البيع، فهو مستعمل في المعاهدة الخاصة. وحينئذ
فإضافة العقد إلى البيع من قبيل الإضافة البيانية لا الإضافة اللامية.
والمتحصل من جميع ذلك أن اطلاق كلمة البيع على الايجاب
والقبول من الأغلاط الواضحة، لا من الاستعمالات المجازية.
ألفاظ المعاملات أسماء للأعم
قوله (رحمه الله): ثم إن الشهيد الثاني نص في كتاب اليمين من المسالك - الخ.
أقول: يقع البحث هنا في ناحيتين:
1 - أن ألفاظ المعاملات هل هي موضوعة للصحيح أم للأعم منه ومن
الفاسد.

1 - قد تقدم ذلك في البحث عن بعض معان البيع.
2 - المعنى الأول معنى لغوي، والثاني معنى مجازي اصطلاحي - المحاضرات 2: 39.
93

2 - أنه إذا قلنا بأنها موضوعة للصحيح فما هو الفارق بين العبادات وبين
المعاملات، حيث إن الفقهاء لا يتمسكون بالاطلاق في الأولى
ويتمسكون به في الثانية.
الناحية الأولى: أنه ذكر الشهيد الثاني (رحمه الله) في كتاب الايمان من
المسالك:
أن اطلاق البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في غيره
لوجود خواص الحقيقة والمجاز فيهما، كمبادرة المعنى إلى ذهن
السامع عند اطلاق قولهم: باع فلان داره، ومن ثم حمل الاقرار به عليه،
حتى لو ادعي إرادة الفاسد لم يسمع اجماعا، ولو كان مشتركا بين
الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة،
وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة (1).
وقد نوقش في ذلك، بأن مفهوم البيع أمر عرفي، وهو الذي يمضيه
الشارع تارة ويرده أخرى، وعليه فلا يعقل أخذ الصحة الشرعية في
مفهومه إلا على القول بالحقيقة الشرعية في ألفاظ العقود، وهو بديهي
البطلان، إذ على القول بثبوت الحقيقة الشرعية في ألفاظ العبادات
فلا وجه لثبوتها في ألفاظ المعاملات، وإنما هي موضوعة للمفاهيم
العرفية التي أمضاها الشارع تارة وردها أخرى، وتفصيل الكلام في
محله.
وأجاب المصنف عن هذه المناقشة، وحاصل كلامه أنه يمكن أن
يوضع لفظ البيع - مثلا - لما هو المؤثر في الملكية واقعا، ويكون الامضاء
من الشرع أو العرف طريقا إلى ذلك، نعم قد حكم الشارع في بعض
الموارد بعدم حصول الملكية، إلا أن ذلك من ناحية تخطئة الشارع أهل

1 - مسالك الأفهام (الطبع الحجري) 2: 159.
94

العرف، وإذن فلا منافاة بين أن يكون البيع مفهوما عرفيا، وبين أن يكون
موضوعا لخصوص الحصة الصحيحة.
وعلى الجملة أن البيع بمعنى الاسم المصدري حقيقة فيما هو المؤثر
في الملكية واقعا، ومن الظاهر أن هذا لا يتوقف على القول بثبوت
الحقيقة الشرعية في المفاهيم العرفية.
ويرد على المصنف أن الملكية من الأمور الاعتبارية الخالصة لا من
الأمور التكوينية الواقعية، ومن الظاهر أن الأمور الاعتبارية تدور من
حيث الوجود والعدم مدار الاعتبار المحض، وعليه فلا نتصور التخطئة
في الملكية، بأن يوجد مورد توجد فيه الملكية ولم يلتفت إليها أهل
العرف، وإنما يكشف عنها الشارع تخطئة للعرف.
وعلى هذا المنهج، فإذا قلنا بوضع لفظ البيع لما هو المؤثر في
الملكية، فإن كان المراد من الاعتبار هو الاعتبار العقلائي أو الأعم منه
ومن الاعتبار الشرعي، فلا بد من الالتزام بوضع البيع للأعم ولما هو
المؤثر في الجملة، ولو كان بعض أفراده غير مؤثر شرعا كالبيع الربوي
مثلا، لأن ألفاظ العقود - على هذا المسلك - موضوعة للطبيعة الكلية دون
خصوص المؤثر شرعا، وإن كان المراد من الاعتبار هو خصوص الاعتبار
الشرعي فلا بد من القول بالحقيقة الشرعية في ألفاظ العقود، وحينئذ
فيعود المحذور المتقدم، أعني به أخذ الصحة الشرعية في المفهوم
العرفي.
نعم، يمكن الالتزام بجواز التخطئة في نفس الاعتبار، إذ الاعتبار لا بد
وأن يكون ناشئا من المصلحة الواقعية الداعية إليه، فإذا اعتبر العقلاء
ملكية شئ كالخمر والخنزير والميتة، مع عدم وجود مصلحة في ذلك،
وحكم الشارع بعدم الملكية هنا كشفنا عن خطأ العقلاء في اعتبارهم،
95

وبهذا يصح الالتزام بوضع ألفاظ العقود للصحيح، بأن يوضع لفظ البيع -
مثلا - لما هو المؤثر في الملكية الناشئ اعتبارها من منشأ صحيح،
وحينئذ فيكون عدم امضاء الشارع لما أمضاه العرف من العقود من باب
التخطئة.
والمتحصل مما ذكرناه أن ألفاظ العقود موضوعة للأعم من الصحيح
والفاسد لا للصحيح فقط (1).
وجه التمسك بالاطلاق في المعاملات
قوله (رحمه الله): وأما وجه تمسك العلماء باطلاق أدلة البيع ونحوه.
أقول: قبل بيان التمسك باطلاق أدلة المعاملات يحسن بنا أن نبين
أمرا، وهو أن التمسك بالاطلاق يتوقف على احراز انطباق الطبيعة، التي
أخذت في موضوع الحكم أو متعلقه، على الفرد المشكوك فيه، بحيث
يتمحض الشك في شمول الحكم للفرد المشكوك فيه، وأما لو كان
الشك في أصل الصدق فإنه لا يجوز معه التمسك بالاطلاق، وهذا واضح
لا شك فيه.
وأيضا يتوقف التمسك بالاطلاق على أن يكون المتكلم في مقام
البيان، ولو فرض أنه كان في مقام الاهمال والاجمال لم يجز التمسك
بالاطلاق، وليعلم أنه ليس المراد من كون المتكلم في مقام البيان أن
يكون في مقام بيان الأجزاء والشرائط للمأمور به، بل المراد به أن يكون
في مقام بيان تعلق الحكم بموضوعه الكلي أو متعلقه.

1 - وأما ما حكاه عن الشهيد الثاني (قدس سره) من الاستدلال على الوضع للصحيح بالتبادر و
صحة السلب عن الفاسد والأخذ بالاقرار، فيرد عليه أن ذلك من جهة الانصراف الناشئ من
القرائن الخارجية - المحاضرات 2: 40.
96

كما إذا قال المولى لعبده: إن فعلت كذا فاعتق رقبة مؤمنة، أو قال:
أحل الله البيع، إذ لو كان المولى في مقام بيان الأجزاء والشرائط كما في
رواية حماد الواردة في مقام بيان ماهية الصلاة، فإنه لا شبهة ولا كلام في
جواز التمسك بالاطلاق لنفي ما تحتمل جزئيته أو شرطيته، ولكن هذا
اطلاق أحوالي لا اطلاق لفظي الذي هو مورد بحثنا.
وبعد هذا التمهيد، إنا إذا قلنا بوضع ألفاظ المعاملات للأعم من
الصحيح والفاسد فلا ريب في جواز التمسك بالاطلاقات الواردة في
امضاء المعاملات ونفي ما يحتمل دخله في صحتها، وإذا قلنا بوضع
ألفاظها لخصوص الصحيح فإنه لا يجوز التمسك بتلك الاطلاقات في
الموارد المشكوكة، وذلك من جهة الشك في الانطباق وعدم احراز
صدق عنوان البيع - مثلا - على ما يكون فاقدا لما يحتمل كونه جزءا أو
شرطا.
وقد انجلى لك مما بيناه ضعف ما أفاده السيد في حاشيته (1)،
وحاصله:
أنه كلما صح التمسك بالاطلاق في مورد من المعاملات على الأعمى،
صح التمسك به في ذلك على الصحيحي أيضا، بداهة أنه ليس الموضوع
له عند الصحيحي عنوان الصحيح، بل ما يكون جامعا للشرائط الشرعية
حسب ما يستفاد من الأدلة.
وعليه، فكل دليل ورد في بيان أصل الحكم من الوجوب أو الحرمة أو
غيرهما فإنه لا يصح التمسك باطلاقه على كلا القولين، لعدم كون
المتكلم في مقام البيان من غير الجهة المزبورة، وكل دليل ورد في بيان
ماهية الواجب من الأجزاء والشرائط فإنه يجوز التمسك باطلاقه لكون

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 63.
97

المتكلم في مقام البيان، وهذا هو الحجر الأساسي في بيان الفارق بين
التمسك بالاطلاق وعدمه.
ووجه الضعف أن ما ذكره السيد وإن كان متينا في مورده، لأنه لا يصح
التمسك بالاطلاق مع عدم كون المتكلم في مقام البيان مطلقا، كما أنه إذا
كان في مقام بيان أجزاء الماهية وشرائطها صح التمسك بالاطلاق كذلك،
إلا أنه راجع إلى الاطلاق المقامي، ومن الواضح أن ذلك خارج عن
الاطلاق اللفظي الذي يصح معه التمسك بالاطلاق على الأعمي، وقد
وقع الاشكال في التمسك به على الصحيحي.
ثم إن المصنف (رحمه الله) قد أشار إلى امكان التمسك بالاطلاق على
الصحيحي بنحوين:
1 - الاطلاق المقامي، وتوضيحه: أن لفظ البيع - مثلا - وإن كان اسما
للمسبب الحاصل من السبب الخاص، الذي يراه الشارع مؤثرا في
الملكية، إلا أنه لم يبين أسباب تلك المسببات التي أمضاها بالعمومات
والاطلاقات الدالة على صحة العقود ولزومها.
وعليه فيدور الأمر بين القول بأن المولي قد أهمل تلك العمومات
والمطلقات، وبين القول بأنها ناظرة إلى امضاء الأسباب العرفية
للمعاملات، وإذن فيكون المؤثر عند العرف مؤثرا عند الشرع أيضا،
ومن الواضح الذي لا ريب فيه أن الدلالة الاقتضائية وصيانة كلام الشارع
عن اللغوية تقتضي الثاني.
وهذا هو الفارق بين العبادات والمعاملات، لأن العبادات ماهيات
جعلية وحقائق غير مغروسة في أذهان أهل العرف لكي نستكشف من
اطلاق كلام الشارع موافقته للمفاهيم العرفية، ولا يخفى على الناقد
البصير أن المراد من التمسك بالاطلاق هو هذا المعنى دون الاطلاق
98

اللفظي لكي يناقش فيه بعدم ورود الحكم على المقسم الذي هو من
جملة مقدمات التمسك بالاطلاق.
والجواب عن ذلك أن التمسك بالاطلاق المقامي إنما يجوز فيما إذا
لم يكن للمطلق أفراد متيقنة وإلا فينصرف إليها الاطلاق من دون أن تلزم
اللغوية من الاهمال، ومن البين أن مقامنا من هذا القبيل، لأنا كشفنا من
مذاق الشارع كشفا قطعيا، ولو من غير ناحية الاطلاقات الواردة في
امضاء العقود، أن بعض ما هو سبب للبيع عرفا مؤثر في الملكية جزما،
وإذن فلا يبقى مجال للتمسك بالاطلاق المقامي صيانة لكلام الشارع عن
اللغوية.
2 - أن تحمل المطلقات الواردة في مقام امضاء البيع على المعنى
المصدري الذي يراد من لفظ بعت، وحينئذ فيستدل بحكم الشارع على
نفوذ العقود مطلقا على أن ما هو بيع بالمعنى المصدري عند العرف مؤثر
عند الشارع أيضا.
ويتوجه عليه أن هذا النحو من التمسك بالاطلاق وإن كان صحيحا،
ولكنه عبارة أخرى عن القول بوضع ألفاظ المعاملات للأعم، بداهة أن ما
يصدق عليه لفظ البيع بالمعنى المصدري أعم من الصحيح والفاسد،
وعليه فلا محذور لنا في التمسك باطلاقات المعاملات في الموارد
المشكوكة (1).

1 - هذا، ويمكن تصحيح التمسك بالاطلاق بوجه آخر، وحاصله: أن الدليل إذا كان
ظاهرا في امضاء معاملة والحكم بصحتها لا يعقل أن يكون موضوعه ما هو بمعنى قبل ذلك،
فلا مناص من كونه البيع العرفي ليرد الامضاء عليه، وعليه فلا مانع من التمسك باطلاقه، وإن
قلنا بكون الألفاظ موضوعة لخصوص الصحيح مثلا إذا حكم الشارع بحلية البيع وحرمة الربا،
فكون الدليل في المقام الامضاء قرينة على إرادة البيع العرفي، فيتمسك باطلاقه عند الشك في
اعتبار شئ في صحته شرعا.
والتحقيق أن القول بوضع ألفاظ المعاملات للصحيح باطل جزما، وذلك لما عرفت من أن
البيع ونحوه من ألفاظ العقود والايقاعات لم توضع لاعتبارات خاصة مبرزة بمبرز ما في الخارج،
فالبيع مثلا موضوع لاعتبار تبديل العين بالعوض في الملكية المتعقب بالقبول إذا أبرز في
الخارج، سواء لحقه الامضاء العرفي أو الشرعي أو لم يلحقه، فيصدق عنوان البيع على الاعتبار
المبرز ولو لم يكن في العالم شرع ولا عاقل سوي المتبايعين، وعليه فلا دخل لامضاء العقلاء
في صدق مفهوم البيع فضلا عن دخل الامضاء الشرعي فيه.
ومعه جاز التمسك باطلاق دليله مهما شك في اعتبار شئ في صحته عرفا أو شرعا من دون
فرق بين ما يستفاد منه الامضاء بالمطابقة كما في قوله تعالى: أحل الله البيع، وبين ما يستفاد
منه بالالتزام كقوله تعالى: أوفوا بالعقود.
وبذلك يظهر أن التمسك بالاطلاق على ما سلكناه أوسع من التمسك به على التقريب
المتقدم، فإنه بناء على ما سلكناه يصح التمسك بالاطلاق حتى مع الشك في اعتبار قيد في
صحة المعاملة عرفا، وهذا بخلاف التقريب السابق، فإنه لا بد فيه من احراز الامضاء الشرعي
والشك في الصحة شرعا، وهذا هو الفرق بين التمسك بالاطلاق على المسلكين - المحاضرات
2: 42 و 43.
99

والتحقيق أن لفظ البيع ليس اسما للسبب، ولا أنه اسم للمسبب، بل
إنما هو اسم للاعتبار المبرز بمبرز خارجي فعلي أو قولي، وإذن فلا مانع
عن التمسك بالاطلاقات والعمومات الدالة على صحة البيع ولزومه،
وعلى هذا فلا مناص لنا عن الالتزام بوضع ألفاظ المعاملات للأعم من
الصحيح والفاسد، ولا يخفى عليك أن ما ذكرناه جار في سائر العقود بل
الايقاعات أيضا.
ومع الاغضاء عما ذكرناه، والقول بوضع ألفاظ المعاملات لخصوص
الصحيح، أمكن لنا اثبات الصحة واللزوم في الموارد المشكوكة بقوله
100

تعالى: أحل الله البيع (1).
ضرورة أن البيع وإن كان حقيقة في الصحيح الشرعي، ولكن المراد
من البيع الذي تعلق به الحل في الآية الكريمة إنما هو البيع الانشائي، إذ
الظاهر من احلال البيع إنما هو امضاؤه المولوي، كما هو الظهور الابتدائي
أيضا من أدلة سائر الأحكام، ومن الواضح أنه لو كان المراد من البيع هو
البيع الشرعي لكان ذلك الامضاء لغوا محضا وتحصيلا للحاصل، لأنه
لا معنى للقول بأن معنى الآية: أحل الله البيع الممضى، إلا أن يلتزم
بكون الآية ارشادا إلى البيع الصحيح.
ولكن ذلك مخالف لظاهرها، بل لا معنى لحملها على الارشاد،
إذ المفروض أن انكشاف صحة البيع ونفوذه عند الشارع إنما هو بهذه
الآية، ومن البين أن حملها على الارشاد يقتضي أن يكون امضاؤه بغيرها،
وهو خلف ظاهر.
وقد اتضح لك مما ذكرناه جواز التمسك باطلاق قوله (عليه السلام):
والمسلمون عند شروطهم (2) على صحة البيع في الموارد المشكوكة،
مع القول بوضع ألفاظ العقود للصحيح، بدعوى أن مقتضى الاسلام إنما
هو وفاء المسلم بشرطه، ومن البديهي أن الحديث بهذا المعنى امضاء
تشريعي للشروط المتعارفة، وحكم مولوي بلزوم العمل بها وانهائها
واتمامها.

1 - البقرة: 274.
2 - الكافي 5: 169، الفقيه 3: 127، التهذيب 7: 22 و 467، عنهم الوسائل 18: 16.
دعائم الاسلام 2: 44، عنه المستدرك 13: 300.
101

الكلام في المعاطاة
حقيقة المعاطاة
قوله (رحمه الله): إعلم أن المعاطاة على ما فسره جماعة (1) أن يعطي كل من اثنين
عوضا عما يأخذه من الآخر.
أقول (2): لما كان تنقيح البحث في المعاطاة وبيان مورد الأقوال فيها
متوقفا على بيان ما نتصور به حقيقتها، تصدى المصنف بدءا لبيان ذلك
ثم عقبه بذكر الأقوال فيها، وحاصل كلامه أن المعاطاة تتصور على
وجهين:
1 - أن يبيح كل من المتعاطيين للآخر التصرف فيما يعطيه إياه من دون
نظر إلى تمليكه.
2 - أن يتعاطيا على وجه التمليك والتملك لا بعنوان الإباحة المحضة.

1 - منهم المحقق الثاني في شرح الإرشاد (مخطوط): 215، والشهيد في الروضة البهية
3: 222، والسيد الطباطبائي في الرياض 1: 510.
2 - لم يرد عنوان المعاطاة في آية ولا رواية ولا في معقد اجماع، بل إنما عبر بذلك جمع
من الفقهاء عما تداول بين الناس من المعاملة الخاصة الفاقدة للصيغة التي تسمي بالمعاملة
المعاطاتية.
ثم إن البحث هنا يقع تارة في صدق مفهوم البيع على المعاطاة، وأخرى في كونها مشمولة
للأدلة الدالة على صحة البيع ونفوذه، ولا يخفى على الفطن العارف أن تحرير البحث على هذا
النهج أحسن وأضبط، ولكن الفقهاء (قدس سرهم) قد أغفلوا ذلك وسلكوا مسلكا آخر في تحرير البحث
في المعاطاة.
102

وقد ذكر بعضهم (1) في تصوير ذلك وجهين آخرين:
1 - أن يتعاط كل من المتعاطيين بغير قصد البيع ولا التصريح بالإباحة،
بل يعطي أي منهما شيئا ليتناول شيئا آخر.
2 - أن يقصد كل منهما الملك المطلق، لا البيع فقط ولا الإباحة
الخالصة.
ويتوجه على الوجه الأول أن الفعل الصادر من المتعاطيين ليس من
الأفعال غير الاختيارية كحركة المرتعش، لكي يكون ذلك خاليا عن
القصد والإرادة، وإنما هو فعل اختياري صادر من فاعله بالإرادة
والاختيار.
وعليه فإذا قصد كل من المتعاطيين من اعطائه ماله لصاحبه خصوص
إباحة التصرف، كان ذلك إباحة مصطلحة كما في الضيافة ونحوها، وإذا
قصد من ذلك جواز الانتفاع من العين مع حفظها عن التلف انتفاعا مجانيا،
كان ذلك عارية، وإذا قصد من ذلك الانتفاع من العين مع العوض كان ذلك
بيعا، وحينئذ فلا يوجد عنوان آخر في مورد المعاطاة غير العناوين
المذكورة.
وبذلك يظهر بطلان الوجه الثاني، وإذن فينحصر البحث في المعاطاة
بالوجهين الأولين.
ثم إن مورد البحث في الوجه الأول ما تقصد منه الإباحة المحضة، كما
في الضيافة و أشباهها، ومورد البحث في الوجه الثاني ما يقصد منه
الملك، وعليه فلا وجه صحيح لما اختاره صاحب الجواهر (رحمه الله) (2) من بقاء
الإباحة في كلمات الأصحاب على ظاهرها، والطعن علي من جعل محل

1 - ذكره صاحب الجواهر في الجواهر 22: 226.
2 - جواهر الكلام 22: 224.
103

النزاع عندهم ما يقصد منه التمليك، وذلك لأن كلماتهم عاصية عن
الحمل على الإباحة الخالصة، ويتضح ذلك جليا لمن تأمل في كلماتهم.
وكذلك لا نعرف وجها معقولا للالتزام بحصول الملكية من التعاطي -
لازمة كانت أم جائزة - مع قصد المتعاطيين الإباحة المصطلحة، بل
لا يصدر ذلك من أصاغر الطلبة فضلا عن الفقهاء العظام.
وأيضا لا وجه لما ارتكبه المحقق الثاني من حمل كلمات القائلين
بالإباحة على الملك المتزلزل (1).
بيان الأقوال حول المعاطاة
قوله (رحمه الله): فالأقوال في المعاطاة على ما يساعده ظواهر كلماتهم ستة.
أقول: الظاهر أن الأقوال حول المعاطاة سبعة:
1 - اللزوم على وجه الاطلاق، سواء أكان الدال على التراضي لفظا
أم كان غيره.
وقد نسبه غير واحد من أصحابنا إلى المفيد (2) وإلى بعض العامة (3).

1 - جامع المقاصد 4: 58.
2 - لكن العبارة المنقولة عنه غير ظاهرة في ذلك، قال في محكي المقنعة: والبيع ينعقد
على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبائع له، إذا عرفاه جميعا وتراضيا بالبيع وتقابضا
وافترقا بالأبدان.
لأن مراده من هذه العبارة بيان الشرائط لصحة البيع ولزومه، وأما عدم تعرضه لاعتبار
الصيغة في البيع فلا يدل على عدم اعتبارها فيه، إذ من المحتمل القريب أن يكون ذلك من جهة
أن اعتبارها في لزوم البيع من المسلمات، وقد حكي عنه في نكاح المقنعة أنه لم يتعرض
لاعتبار الصيغة في النكاح والطلاق مع أن اعتبارها فيهما من البديهيات.
وعن العلامة في المختلف (5: 51) أن للمفيد قولا يوهم الجواز، ثم ساق العبارة المتقدمة، و
عن كشف الرموز في باب الفضولي (1: 445) نسبة اعتبار اللفظ المخصوص في البيع إلى المفيد و
الطوسي.
وعلى هذا فلا يسوغ لنا أن ننسب الرأي المذكور إلى المفيد (رحمه الله)، كما أنه لم ينسب إلى غيره
من قدماء الإمامية، وإذن فلا نعرف وجها صحيحا لقول المصنف إنه: يكفي في وجود القائل به
قول العلامة في التذكرة (1: 462): الأشهر عندنا أنه لا بد من الصيغة، ولعل غرض العلامة من
التعبير بالأشهر الإشارة إلى ما نسب إلى المفيد، وقد عرفت فساد النسبة، والله العالم.
نقله عنه المحقق الثاني في حاشية الإرشاد (مخطوط): 216، وفي جامع المقاصد 4: 58،
ونحوه في مجمع الفائدة 8: 142، الجواهر 22: 210.
3 - في شرح فتح القدير ج 5: أن البيع ينعقد بالتعاطي، وفي الفقه على المذاهب
الأربعة ج 2: الصيغة في البيع أمران: القول وما يقوم مقامه، والمعاطاة، وعن الشافعية أن
البيع لا ينعقد إلا بالصيغة الكلامية لا بالمعاطاة، ونسب الخلاف في ذلك إلى الحنفية.
حكاه صاحب الجواهر في الجواهر 22: 210 عن أحمد ومالك، أنظر المغني لابن قدامة
3: 561، والمجموع 9: 191.
104

2 - اللزوم إذا كان الدال على التراضي أو على المعاملة لفظا، وقد
حكاه الشهيد الثاني عن بعض مشايخه (1) ثم استجوده، إلا أنه عقبه بأنه
مخالف لمقتضي الأصل (2).
والتحقيق أنه إن كان الغرض من الاشتراط المزبور أن المعاطاة لا تكون
بيعا إلا بالقرينة الخاصة، وإلا فهي أعم من البيع وغيره، فهو متين، وإن

1 - هو السيد الحسن بن السيد جعفر، على ما في مفتاح الكرامة 4: 156، وقد حكاه
الشهيد الثاني عنه بلفظ: وقد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك، المسالك
3: 147.
2 - قد حكي هذا الرأي في الحدائق (18: 355) عن جماعة من متأخري المتأخرين
كالمولي المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد، والمحدث القاساني في المفاتيح، والفاضل
السبزواري في الكفاية، وحكاه أيضا عن جماعة من المحدثين ثم استقربه، واستدل عليه
بالروايات الكثيرة، وسيأتي التعرض لبعضها عند الاستدلال على اعتبار اللفظ في لزوم البيع
بالروايات.
105

كان الغرض من ذلك بيان الفارق بين القرينة اللفظية وغيرها فهو فاسد
لعدم الدليل على الفرق بينهما (1).
3 - أن المعاطاة تفيد الملكية الجائزة، وإنما تصير لازمة بذهاب
إحدى العينين، وقد اخترع هذا الرأي المحقق الثاني (2)، وشيد أركانه في
محكي تعليقته على القواعد بما لا مزيد عليه، وحمل عليه كلمات
القائلين بأن المعاطاة تفيد الإباحة.
وهذا الرأي وإن لم يكن بعيدا في نفسه إلا أنه غريب عن مساق
كلمات القائلين بالإباحة.
4 - أن المعاطاة تفيد إباحة جميع التصرفات، حتى التصرفات
المتوقفة على الملك مع بقاء كل من العينين على ملك صاحبه، إلا أنه
يحصل الملك اللازم بتلف إحدى العينين أو بما هو بمنزلة التلف، بل في
المسالك أن كل من قال بالإباحة قال بإباحة جميع التصرفات (3).
5 - أنها تفيد إباحة جميع التصرفات، إلا ما يتوقف على الملك،
كالوطي والعتق والبيع.
وهذا هو المحكي عن حواشي الشهيد على القواعد (4)، وينطبق عليه ما

1 - قيل: إنه ثبت اعتبار مطلق اللفظ في لزوم البيع بالاجماع، ومقتضاه أنه لا تكفي
المعاطاة في ذلك.
والجواب عنه: أنه ليس هنا اجماع تعبدي لكي يجب الأخذ به، إذ من المحتمل القريب أن يكون اتفاق الفقهاء على هذا من ناحية الروايات المشعرة باعتبار اللفظ في لزوم البيع، ويضاف
إلى ذلك أن القائل بعدم اشتراط اللفظ في البيع كثير جدا، ومعه لا مجال لدعوى الاجماع
التعبدي في المقام.
2 - جامع المقاصد 4: 58، حاشية الإرشاد (مخطوط): 216.
3 - مسالك الأفهام 3: 149.
4 - حاشية الإرشاد (مخطوط): 216.
106

في المبسوط من المنع عن وطي الجارية المهداة بالهدية الخالية عن
الايجاب والقبول اللفظين (1).
6 - أن المعاطاة معاملة فاسدة، وهذا الرأي نسب إلى العلامة في
نهايته (2)، ولكن حكي رجوعه عن ذلك في كتبه المتأخرة (3)، بل لم يوجد له
موافق في هذا الرأي، على أنه مسبوق بالاجماع وملحوق به.
7 - ما ذكره السيد في حاشيته، وإليك نص عبارته: أنها معاملة
مستقلة مفيدة للملكية، وليست بيعا، وإن كانت في مقامه حكي عن
الشيخ الكبير الشيخ جعفر (قدس سره) (4).
مدارك الأقوال في المعاطاة
لا شبهة في فساد المعاملة المعاطاتية إذا لم يقم دليل على صحتها أو
على إفادتها الإباحة الشرعية، وستعرف قريبا قيام الدليل على كونها
بيعا.
ثم إن مقتضى الاطلاقات والعمومات الدالة على صحة البيع ولزومه
هو القول بأن المعاطاة بيع لازم، لأن البيع - كما تقدم - هو الاعتبار
النفساني المبرز بمظهر خارجي، سواء في ذلك كون المظهر فعلا وكونه
قولا، وعليه فالمعاطاة بيع عرفي بالحمل الشايع، فتكون مشمولة لتلك
العمومات والاطلاقات، وإذن فلا وجه للمناقشة فيما نسب إلى المفيد
من أن المعاطاة تفيد الملكية اللازمة.

1 - المبسوط 3: 315.
2 - نهاية الإحكام 2: 449.
3 - كما في التحرير 1: 164.
4 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 67.
107

وعلى هذا الضوء فلا وجه لما وجه به شيخنا الأستاذ كلام جمع من
الأصحاب القائلين بترتب الإباحة على التعاطي المقصود منه التمليك،
من: أن البيع على ما عرفت هو التبديل وحيث إن التبديل ليس تبديلا
خارجيا بل تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله، وهذا أمر اعتباري من
سنخ المعاني، وما هو موجده وآلة ايجاده هو القول فقط (1).
وبعد ذلك أن قلنا بقيام الاجماع التعبدي على نفي اللزوم عن البيع
المعاطاتي، فتارة نفرض قيامه على نفي اللزوم مطلقا، وأخرى نفرض
قيامه على نفيه اجمالا:
وعلى الأول فيثبت ما ذهب إليه المحقق الثاني، من أن المعاطاة تفيد
الملكية الجائزة.
وعلى الثاني فيثبت ما ذهب إليه بعض مشايخ الشهيد الثاني
و الأردبيلي وصاحب الحدائق وغيرهم (2)، من أنها تفيد الملكية اللازمة
فيما إذا كانت القرينة القائمة على تراض المتعاطيين بالمعاملة المعاطاتية
لفظا، بداهة أن الاجماع دليل لبي فلا يؤخذ منه إلا بالمقدار المتيقن وهو
ما ذكرناه.
ولكن الذي يسهل الخطب أن ثبوت الاجماع التعبدي في المقام على
نفي اللزوم اجمالا أو تفصيلا ممنوع.
ولا يخفى عليك أن الالتزام بهذا الرأي فيما إذا كان مدلول القرينة
اللفظية هو التراضي بالمعاملة، وأما إذا كان مدلولها نفس المعاملة كان
ذلك خارجا عن حدود المعاطاة، بل يصير مصداقا للبيع اللفظي،

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 124.
2 - حدائق الأحكام 18: 355، مسالك الأفهام 3: 147.
108

وتتوقف صحته على عدم اعتبار اللفظ الخاص في انشاء البيع، ولعل هذا
هو غرض المصنف مما كتبه في الهامش، وهذا نصه: ولكن في عد هذا
من الأقوال في المعاطاة تأمل.
ثم لو فرضنا خروج المعاطاة عن مورد الاطلاقات والعمومات الدالة
على نفوذ البيع ولزومه، أو فرضنا قيام الاجماع على أنها لا تفيد الملكية
- وإن قصدها المتعاطيان - إلا أنه قامت السيرة القطعية على جواز التصرف
في المأخوذ بالمعاطاة.
وعليه فإن كان مفاد تلك السيرة هو مطلق التصرفات حتى التصرفات
المتوقفة على الملك ثبت القول بالإباحة المطلقة، وإن كان مفادها هو
جواز التصرف في الجملة ثبتت الإباحة الخاصة، أي التصرفات غير
المتوقفة على الملك، ضرورة أن ذلك هو القدر المتيقن من السيرة
المزبورة.
وإذن فمدرك القول بالإباحة، سواء أكانت الإباحة مطلقة أم كانت
خاصة، إنما هو الاجماع، وعليه فالمراد من الإباحة المزبورة هي الإباحة
الشرعية لا الإباحة المالكية لكي يتوقف تحققها في الخارج على كونها
مقصودة للمتعاطيين.
ومن هنا يندفع ما أورده المحقق الثاني (1) على القائلين بأن المعاطاة
تفيد الإباحة، من أن القول بها ينافي قاعدة تبعية العقود للقصود، فإن
الملك المقصود حصوله بالتعاطي غير واقع بالفرض، والواقع - وهو
الإباحة الخالصة - غير مقصود.
ووجه الاندفاع أن هذا الاشكال إنما يتوجه على هؤلاء القائلين

1 - جامع المقاصد 4: 58.
109

بالإباحة إذا كان مرادهم من ذلك الإباحة المالكية لا الإباحة الشرعية،
وقد عرفت كونها شرعية، وموضوعها التعاطي الخارجي المقصود به
الملك، وقد حكم بها الشارع عند تحقق موضوعها، كما حكم بإباحة
أموال الناس للمضطرين عند المخمصة والمجاعة.
وقد اتضح لك مما بيناه أن ما ارتكبه صاحب الجواهر (1)، من حمل
كلمات القائلين بالإباحة على فرض قصد المتعاطيين الإباحة المصطلحة
إنما هو ناشئ من الغفلة عن مدرك الأقوال في المعاطاة.
ثم إذا قلنا بكون المعاطاة معاملة مستقلة، كما حكاه السيد عن الشيخ
الكبير، كان ذلك خارجا عن حدود البيع المعاطاتي الذي هو مورد بحثنا،
وتدل على صحته آية التجارة عن تراض.
ما استدل به على أن المعاطاة تفيد الملكية
قوله (رحمه الله): وذهب جماعة (2) تبعا للمحقق الثاني إلى حصول الملك ولا يخلو
عن قوة.
أقول: يقع البحث هنا تارة في أن المعاطاة تفيد الملكية، وأخرى في
أن الملكية الحاصلة بالمعاطاة هل هي ملكية لازمة أم هي ملكية جائزة،
وسيأتي الكلام في الجهة الثانية.
أما الجهة الأولى فيمكن الاستدلال عليها بوجوه شتى:

1 - جواهر الكلام 22: 224.
2 - منهم المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 139، والمحدث الكاشاني في المفاتيح
3: 48، والمحدث البحراني في الحدائق 18: 350، والمحقق النراقي في المستند 2: 361، ونفى
عنه البعد المحقق السبزواري في الكفاية: 88.
110

1 - الاستدلال بالسيرة
السيرة القطعية المستمرة القائمة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة
معاملة الملك في التصرف فيه، بالعتق والبيع والوطي والايصاء
والتوريث وغير ذلك من آثار الملك.
وأجاب عنه المصنف وإليك لفظه: وأما ثبوت السيرة واستمرارها
على التوريث فهي كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة
في الدين، مما لا يحصى في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم، كما
لا يخفى.
ويرد عليه أنه لا ريب في قيام السيرة بين المسلمين بل بين عقلاء العالم
على صحة المعاملة المعاطاتية وترتيب آثار الملكية على المأخوذ بها،
وبما أن الشارع المقدس لم يردع عن هذه السيرة فتكون حجة شرعية،
ولو شككنا في ثبوت الردع فالأصل عدمه (1).
قيل: إن ثبوت الردع عن ذلك من الوضوح بمكان، لقيام الاجماع على
أن المعاطاة لا تفيد الملكية، وإذن فتسقط السيرة عن الاعتبار.
ويرد عليه أنه لم يقم اجماع تعبدي على ذلك، غاية الأمر أنه نقل
الاجماع عليه، وقد نقحنا في علم الأصول عدم حجيته إلا إذا حصل
العلم باستناد المجمعين إلى رأي المعصوم (عليه السلام)، ومن المحتمل
القريب أن يكون استنادهم في فتواهم بعدم لزوم البيع المعاطاتي إلى
الروايات المشعرة باعتبار اللفظ في البيع، وسيأتي التعرض لها.

1 - الفرق بين سيرة المتشرعة وسيرة العقلاء أن في الأولى لا بد من اثبات اتصالها إلى
زمان المعصوم بما أنها سيرة المتدينين ليثبت امضاؤها، وأما الثانية فيكفي فيها عدم الردع،
فكأن الشك في الأولى من الشك في المقتضي وفي الثانية من الشك في المانع - المحاضرات
2: 49.
111

2 - الاستدلال بآية: أحل الله البيع
قوله تعالى: أحل الله البيع وحرم الربا (1)، وتقريب الاستدلال بهذه
الآية على أن المعاطاة تفيد الملكية بوجهين:
الوجه الأول: أنها تدل على صحة البيع المعاطاتي بالدلالة المطابقية،
لأن معنى الحل في اللغة هو الاطلاق والارسال، ويعبر عنه في لغة
الفارس بكلمة: باز داشتن، ويقابله التحريم، فإنه بمعنى المنع
والحجر، ولا ريب أن الحل بهذا المعنى يناسب الحلية الوضعية
والتكليفية كلتيهما.
وعليه فكما يصح استعمال لفظ الحل في خصوص الحلية الوضعية
أو التكليفية كذلك يصح استعماله في كلتيهما معا، ويختلف ذلك
حسب اختلاف الموارد والقرائن، وهكذا الحال في لفظ التحريم الذي
هو مقابل الحل، فإنه يعم التحريم الوضعي والتحريم التكليفي كليهما،
وإرادة خصوص أحدهما دون الآخر في بعض الموارد من ناحية القرائن
الحالية أو المقالية.

1 - البقرة: 274.
هذا هو الوجه الثاني مما استدل به على إفادة المعاطاة للملك، قد يجعل متعلق التحليل في
الآية التصرفات المترتبة على البيع كما صنعه المصنف، لأنه استظهر منه الحلية التكليفية،
وحيث لم يكن موهم لحرمة البيع تكليفا حتى إذا كان فاسدا ليصح التصريح بحليته، فالتزم
بتعلقه بالتصرفات واقعا، وإنما أسند إلى البيع لفظا من باب المجاز في الاسناد لأن البيع سبب
لها، أو من باب الاضمار والمجاز في الحذف، فاستند في الاستدلال بالآية على صحة البيع على
الدلالة الالتزامية، فإن جواز جميع التصرفات مستلزم شرعا لثبوت الملك وصحة البيع، ثم وقع
في الاشكال من حيث إن جواز التصرفات تكليفا لازم أعم للملك، ولذا قالوا بثبوته الملك
ولم يتخلص من الاشكال - المحاضرات 2: 48.
112

وإذن فلا وجه للمناقشة في شمول لفظ الحل للحلية الوضعية
والتكليفية معا بعدم وجود الجامع بينهما، وهذا واضح لا ريب فيه.
ثم إن الحل قد يتعلق بالأعيان الخارجية، وقد يتعلق بالأفعال
الخارجية، وقد يتعلق بالأمور الاعتبارية المبرزة بمبرز خارجي، وعلى
الأول فلا يصح الكلام إلا بالتقدير للدلالة الاقتضائية وصيانة لكلام
المتكلم عن اللغوية.
ومن هذا القبيل قوله تعالى: أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا
الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات (1)، فإن متعلق
الحل في هذه الآية إنما هو المطاعم والمآكل والمناكح، ومن الواضح أنه
لا معنى لحلية هذه الأمور بنفسها بل المراد من حليتها إنما هو حلية ما
تعلق بها من الأفعال المناسبة لها من الأكل والشرب والنكاح.
وعلى الثاني فلا شبهة في صحة الكلام بلا احتياج إلى التقدير، ومنه
قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (2)، وكذلك الحال في
الثالث، ومثاله أن يتعلق الحل بالمعاملات التي هي الاعتبارات النفسانية
المظهرة بمبرز خارجي، فإنها بنفسها قابلة للحلية وضعا وتكليفا من دون
احتياج إلى التقدير، ومن ذلك قوله تعالى: وأحل الله البيع.
ولا يخفى عليك أن هذه الصور الثلاث التي ذكرناها في استعمالات
كلمة الحل جارية بعينها في استعمالات كلمة التحريم أيضا، طابق النعل
بالنعل والقذة بالقذة.
والمتحصل من جميع ما بيناه أن معنى قوله تعالى: وأحل الله البيع
هو أن الله قد رخص في ايجاد البيع وأطلقه وأرسله، ولم يمنع عن

1 - المائدة: 5.
2 - البقرة: 187.
113

تحققه في الخارج، وإذن فتدل الآية الكريمة دلالة مطابقية على جواز
البيع تكليفا وعلى نفوذه وضعا، ومن الواضح الذي لا خفاء فيه أن
المعاطاة بيع فتكون مشمولة للآية، وإذن فلا يتوجه عليه أي محذور من
المحاذير، والله العالم.
وقد ذكر بعض مشايخنا المحققين أنه لا شبهة في دلالة الآية بالمطابقة
على الصحة، نظرا إلى أن الحلية أمر يناسب التكليف والوضع، ولذا ورد
في باب الصلاة حلت الصلاة فيه، أي جازت، ووقعت في محلها،
فالحلية منسوبة إلى نفس البيع بما هو تسبب إلى الملكية، والمراد - والله
العالم - أنه تعالى أحله محله وأقره مقره، ولم يجعله كالقمار بحكم
العدم، وأما جعله من الحل في قبال الشد - بمعنى أنه لم يصد عنه وجعله
مرخي العنان في تأثيره - فغير وجيه، لأن الحل في قبال الشد يتعدى
بنفسه بخلاف أحل من الحلول (1).
ويرد عليه أن أحل من الحلول، وإن وقع في الاستعمالات العرفية
الصحيحة الفصيحة، بل في الكتاب المجيد (2) إلا أن هذا المعنى
لا يناسب الحل بمعنى الاطلاق والارسال الذي ورد في الآيات التي
تقدمت الإشارة إليها قريبا، وورد أيضا في استعمالات أهل العرف
واللغة كثيرا.
وتتأكد إرادة هذا المعنى الثاني فيما إذا استعمل لفظ الحل في مقابل
كلمة التحريم، كما في قوله تعالى: وأحل الله البيع وحرم الربا، ووجه
التأكد أن الحل إذا أخذ بمعنى الحلول كان مقابله الإزالة لا التحريم.
الوجه الثاني ما ذكره المصنف، وحاصله:

1 - حاشية المكاسب للمحقق الكمباني: 25.
2 - قال الله تعالى: وأحلوا قومهم دار البوار، إبراهيم: 28.
114

أن المراد من حلية البيع في الآية الكريمة إنما هو الحلية التكليفية،
لمقابلتها مع حرمة الرباء الظاهرة في الحرمة التكليفية، ومن الواضح أن
الحلية التكليفية لا يصح تعلقها بالبيع لأنه انشاء تمليك عين بمال، وحلية
ذلك لا تحتاج إلى البيان، وعليه فلا بد من الالتزام بتعلق الحل في الآية
بالتصرفات المترتبة على البيع، وحينئذ فتدل الآية على حلية التصرفات
بالمطابقة وعلى حلية البيع بالالتزام.
ومن هنا ظهر أنه لا يمكن أن يراد من قوله تعالى: وأحل الله البيع
الحلية الوضعية، لكي تدل الآية على صحة البيع دلالة مطابقية، وبما أن
المعاطاة من أفراد البيع عرفا فتكون مشمولة للآية.
وعليه فالحلية في الآية الشريفة لا تدل على حصول الملكية، بل إنما
تدل على إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك، كالبيع
والعتق والوطي والايصاء.
ومن البين الذي لا ريب فيه أن إباحة هذه التصرفات إنما تستلزم الملك
في غير مورد المعاطاة من ناحية الاجماع على وجود الملازمة بينهما،
وأما المعاطاة فالقائلون بعدم إفادتها الملك قد حكموا بإفادتها الإباحة
على وجه الاطلاق حتى صرح الشهيد الثاني في المسالك (1) بأن من أجاز
المعاطاة قد سوغ جميع التصرفات، غاية الأمر أن الالتزام بإباحة جميع
التصرفات يقتضي الالتزام بسبق الملك آنا ما على التصرفات الموقوفة
على الملك، ولا يقتضي ذلك الالتزام بسبق الملك من أول الأمر، لكي
يتوهم أن مرجع هذه الإباحة أيضا إلى الملك.
وقد اتضح لك من ذلك فساد ما قيل من أنه لا وجه للالتزام بالملكية
التقديرية، إذ لو كانت المعاطاة مؤثرة في الملكية لأثرت فيها من أول

1 - مسالك الأفهام 1: 169.
115

الأمر وإلا فلا، ووجه الفساد أن الالتزام بالملكية التقديرية إنما هو من
جهة الجمع بين الأدلة، وإلا فإن المعاطاة لا تؤثر إلا في الإباحة المطلقة.
ولكن يرد على المصنف وجوه:
ألف - أنه لا ملزم لتخصيص الحل في الآية بالحل التكليفي فقط بل يعم
ذلك الحلية التكليفية والوضعية بمعنى واحد، وقد عرفته قريبا.
ب - أنه لا وجه صحيح لصرف الحل في الآية إلى حلية التصرفات،
ومنع تعلقه بنفس البيع بدعوى أن حلية انشاء البيع أمر واضح لا يحتاج
إلى البيان، وذلك لأنا ذكرنا فيما سبق أن البيع هو الاعتبار النفساني المبرز
بمبرز خارجي، سواء أتعلق به الامضاء من ناحية الشرع والعرف أم
لم يتعلق به ذلك، بل سواء أكان في العالم عرف وشرع أم لم يكن، وهذا
المعنى هو الذي قد يكون موضوعا للحرمة، وقد يكون موضوعا
للحلية، كما أن الأمر كذلك في سائر المعاملات.
ج - ما ذكره شيخنا الأستاذ (1)، وحاصله: أن إباحة جميع التصرفات إذا
اقتضت الملك في سائر المعاملات والتجارات اقتضته في المعاطاة
أيضا، إذ لا فارق بينهما إلا من ناحية توهم الاجماع في سائر المقامات
دون المعاطاة، ولكن هذا التوهم فاسد، بداهة أن الاجماع دليل لبي
فلا يؤخذ منه إلا بالمقدار المتيقن، وهو حصول الملكية آنا ما في سائر
المقامات أيضا.
وإذن فلا بد أما من الالتزام بحصول الملكية من أول الأمر في المعاطاة
وغيرها، وأما من الالتزام بعدم حصولها فيهما إلا آنا ما قبل التصرف.
د - أنه إذا دلت الآية على جواز مطلق التصرفات حتى المتوقف منها
على الملك استفيد من ذلك حصول الملكية من الأول.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 132.
116

وعليه فلا وجه لعدول المصنف عن ذلك والتجائه إلى القول بالملكية
التقديرية.
قيل: إن جواز التصرف شرعا لا يلازم حصول الملكية، كما أن الشارع
قد حكم بجواز التصرف في أموال الناس عند الضرورة والمجاعة من
غير أن يكون ذلك ملكا للمتصرف، نعم التصرفات المتوقفة على الملك
تكشف عن تحقق الملك آنا ما قبل التصرف لأجل الجمع بين الأدلة.
والجواب عن ذلك: أن التصرفات التي حكم بحليتها في الآية المباركة
هي التصرفات المترتبة على البيع، ومن الواضح أن التصرف المترتب
على البيع تصرف مالكي، وجواز التصرف المالكي يكشف عن الملكية
كشفا قطعيا، وعليه فدليل حلية البيع يدل على حلية التصرف بالدلالة
المطابقية وعلى حصول الملكية من أول الأمر بالدلالة الالتزامية.
وأما الالتزام بالملكية آنا ما قبل التصرف، فلازمه الالتزام بجواز
التصرفات المتوقفة على الملك بغير عنوان المالكية مع فرض تحقق البيع
في الخارج، وهذا بعيد عن مدلول الآية حسب ما يفهمه أهل العرف من
الكلام.
قيل: إن الآية لا دلالة فيها على تأثير البيع في الملكية أصلا، إذ
المفروض أن الحل قد تعلق بالتصرف ومن الواضح أنه إذا أريد من
التصرف المزبور التصرف المالكي لزم منه تعرض الحكم لاثبات
موضوعه، وهو أمر غير معقول.
والجواب عنه: أن الحل في الآية وإن تعلق بالتصرف ابتداء - على رأي
المصنف - إلا أن احلال التصرف يكشف عن حصول الملكية، ولا يلزم
من ذلك تعرض الحكم لايجاد موضوعه، نعم إذا قلنا بتحقق الملكية من
ناحية جواز التصرف لزم منه تكفل الحكم باثبات موضوعه، ولكنه بعيد
عما نحن فيه.
117

قيل: إنا لو سلمنا دلالة الآية على جواز البيع وضعا وتكليفا، أو قلنا
بدلالتها على حلية التصرفات واستكشفنا منها الملكية من أول الأمر،
لكنها لا تشمل المعاطاة لعدم صدق البيع عليه، إذ البيع إما من مقولة
اللفظ - كما عن بعض الأعلام - بدعوى أنه لو كان من قبيل المعنى لزم منه
القول بالكلام النفسي الذي هو مدلول الكلام اللفظي، وهو باطل
بالضرورة، أو أنه من مقولة المعنى بدعوى أنه لو كان من قبيل اللفظ
لم يعقل انشاؤه باللفظ.
وعلى كلا التقديرين لا يصدق مفهوم البيع على المعاطاة، أما على
الأول فواضح، وأما على الثاني فلأن البيع وإن كان من قبيل المعنى ولكن
صدق عنوان البيع عليه يحتاج إلى ابرازه باللفظ، إذ المفروض أن الكلام
النفسي مدلول للكلام اللفظي، ومن الواضح جدا أن المعاطاة لم تبرز
باللفظ فتكون خارجة عن حدود البيع جزما.
والجواب عن ذلك: أن البيع ليس اسما لمجرد اللفظ، وإلا لزم تحققه
بالتكلم بلفظ بعت، وإن لم يتحقق به الانشاء، ولا أنه اسم للاعتبار
النفساني غير المبرز بمظهر خارجي وإلا لزم تحققه بالاعتبار الساذج،
وإن لم يكن مبرزا في الخارج، بل هو اسم للاعتبار النفساني المظهر
بمبرز خارجي، ومن الواضح أنه لا يعتبر في المبرز أن يكون من قبيل
الألفاظ، بل كما يصح ابراز الاعتبار النفساني باللفظ كذلك يصح ابرازه
بغيره، وعلى كل حال لا صلة للمقام بالكلام النفسي الذي ذكرنا بطلانه
في محله (1).

1 - قوله (رحمه الله): وجه التمسك بقوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض.
تقريب الاستدلال به على نحوين كما عرفت في الآية المتقدمة، لأن الأكل في الآية كناية
عن التملك لا الأكل الخارجي، فنهي سبحانه عن تملك الأموال بالأسباب الباطلة إلا أن تكون
تجارة عن تراض، فيجوز التملك بها، فحينئذ إن قلنا بأن الجواز إذا استند إلى الاعتبارات
العرفية يراد به الصحة فتدل الآية بالمطابقة على صحة ذلك، وإن قلنا بأنه ظاهر في الجواز
التكليفي فبالدلالة الالتزامية العرفية تدل عليها على ما عرفت في الآية السابقة.
ثم لا يخفى أن ما حكي عن الغنية من دعوى الاجماع على أن المعاطاة ليست بيعا فهو
مكابرة للوجدان، فإن القائل بعدم إفادتها الملك أيضا لا ينفي صدق البيع عليها عرفا، ومن هنا
حمل كلامه على نفي الصحة أو اللزوم.
118

3 - الاستدلال بحديث السلطنة
قوله (صلى الله عليه وآله): إن الناس مسلطون على أموالهم (1)، ووجه الاستدلال أن
الحديث المزبور قد دل على أن كل أحد مسلط على التصرف في أمواله
بأنحاء التصرفات، سواء في ذلك التصرفات الخارجية والاعتبارية، ومن
التصرفات الاعتبارية البيع المعاطاتي، وإذن فالمنع عن جواز البيع
المعاطاتي مناف لعموم الحديث.
ويتوجه على هذا الاستدلال:
أولا: إن النبوي المزبور ضعيف السند وغير مذكور في كتب الشيعة
إلا مرسلا، ومن الواضح أنا لا نعتمد على المراسيل في شئ من الأحكام
الشرعية لأنها غير مشمولة لأدلة حجية الخبر.
قيل: إن النبوي المزبور وإن كان ضعيفا من ناحية الارسال ولكن قد
عمل به المشهور، بل أرسله الفقهاء في كتبهم الاستدلالية إرسال
المسلمات، حتى جعلوا مفاده من القواعد الفقهية المسلمة، ويلتجؤون
إليها في موارد شتى، وإذن فيكون عملهم هذا جابرا لوهن الخبر وضعفه.
والجواب عن ذلك: أن هذا التوهم فاسد كبرى وصغرى:

1 - عوالي اللئالي 1: 222، الرقم: 99.
119

أما الوجه في فساد الكبرى، فلأنه لا دليل على انجبار ضعف الرواية
بعمل المشهور، لأن الشهرة إن كانت حجة في نفسها أخذ بها وإلا فإن
ضمها إلى غير الحجة لا يفيد الاعتبار، وقد اشتهر في الألسنة أن فاقد
الشئ لا يكون معطيا له.
نعم إذا كان عملهم وسيلة إلى توثيق الرواية كان ذلك قرينة على
حجيتها، بل قد يكون عمل شخص واحد برواية سببا لتوثيقها، إلا أنه
غريب عن انجبار ضعف الخبر بعمل المشهور، فإن هذا فيما لم تعلم
وثاقة الرواة بل لم تعلم رواة الخبر - كما في المراسيل - ومن البديهي أن
عمل المشهور في أشباه ذلك لا يكشف عن وثاقة الرواة.
نعم يحتمل أنهم اطلعوا على قرائن لم نظفر بها، ولكن هذا الاحتمال
لا يغني من الحق شيئا، مع أنه منقوض بما صرحوا به من عدم انجبار
ضعف الدلالة بعمل المشهور والملاك فيهما واحد، واحتمال الاطلاع
على القرائن مشترك بينهما.
وأما الوجه في منع الصغرى، فلأن من المحتمل القريب أن المشهور
قد استندوا في فتياهم بصحة البيع المعاطاتي بغير النبوي، من الوجوه
التي استدل بها على ذلك، ومن البين الذي لا ريب فيه أنه بناء على انجبار
ضعف الرواية بعمل المشهور فإن الشهرة إنما تكون جابرة لوهن الرواية
إذا علم استناد المشهور إليها، على أن المشهور بين القدماء هو القول
بالإباحة.
وإذن فلا شهرة في المقام لكي تكون جابرة لضعف النبوي، وأما
الشهرة بين متأخري المتأخرين فليست بجابرة اتفاقا.
ثانيا: إنا لو سلمنا اعتبار النبوي من حيث السند لكن لا نسلم دلالته
على المقصود، فإن المحتمل في معناه وجوه ثلاثة:
120

ألف - أن يراد من الحديث تسلط الناس على كل تصرف من أنحاء
التصرفات كما وكيفا، وعليه فإذا شككنا في جواز تصرف خارجي أو
اعتباري من حيث الوضع والتكليف تمسكنا بالحديث المزبور لاثبات
مشروعية ذلك، ولكن يرد عليه:
أولا: أن الالتزام بهذا الوجه يقتضي أن يكون النبوي في مقام التشريع،
بأن يدل على جواز كل تصرف لم تثبت مشروعيته من ناحية الشارع،
وعلى هذا فإذا شككنا في جواز تصرف تكويني، كالأكل والشرب،
أو اعتباري، كالبيع المعاطاتي ونحوه، تمسكنا بالنبوي لاثبات مشروعية
ذلك التصرف، ومن البديهي أنه لم يقل به متفقه فضلا عن الفقيه.
ثانيا: أن هذا الوجه يقتضي الالتزام بمشروعية غير واحد من
المحرمات الإلهية، كأكل جملة من الأطعمة المحرمة، وشرب جملة من
الأشربة المحرمة، ولبس جملة من الألبسة المحرمة التي هي مملوكة
للمتصرف، فإن النسبة بين دليل السلطنة وبين أدلة بعض المحرمات هي
العموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع ويتساقطان، فيرجع إلى
أصالة الإباحة، مع أن هذا ضروري البطلان، والمتحصل من ذلك أن
الوجه المزبور لا يمكن الالتزام به.
ب - ما ذكره المصنف، وحاصله أن عموم الحديث إنما هو باعتبار
أنواع السلطنة، كالبيع والإجارة والهبة والصلح وغيرها، وإذا شككنا في
مشروعية نوع منها، كالمزارعة والمضاربة والمساقات مثلا، تمسكنا
بعموم الحديث ونحكم بثبوت السلطنة هنا أيضا، وأما إذا علمنا بمقدار
السلطنة وكميتها، بأن قطعنا بأن سلطنة خاصة نافذة في حق شخص
كبيع ماله من غيره ولكن شككنا في كيفية هذه السلطنة وأن هذا البيع هل
يوجد بالتعاطي أم لا بد فيه من القول الدال عليه، فإنه حينئذ لا يجوز لنا
121

أن نتمسك بدليل السلطنة لاثبات مشروعية المعاطاة في الشريعة
المقدسة.
وقد اتضح لك من توضيح كلام المصنف الفارق بين هذا الوجه وبين
سابقه، حيث إن العموم في الوجه الأول باعتبار الكمية والكيفية، وفي
الوجه الثاني باعتبار الكمية فقط.
ويرد عليه أن الالتزام بهذا الوجه يقتضي أيضا أن تكون الرواية في مقام
التشريع، وعليه فيجوز التمسك بعموم النبوي في أي مورد شككنا في
جواز نوع خاص من السلطنة، كالشك في جواز أكل لحم الأرنب ونحوه،
وهذا خلاف الظاهر من الرواية حسب المتفاهم العرفي، ولأجل ذلك
لم يتمسك به أحد في أمثال ذلك، ومن هنا ذكروا أن دليل السلطنة لم يرد
في مقام التشريع، بل إنما ورد لاثبات السلطنة للمالك في الجهات
المشروعة.
ج - ما هو التحقيق من أن دليل السلطنة يتكفل ببيان استقلال المالك في
التصرف في أمواله في الجهات المشروعة وعدم كونه محجورا عن
التصرف في تلك الجهات وليس لغيره أن يزاحمه في ذلك، وعليه فشأن
دليل السلطنة شأن الأوامر المسوقة لبيان أصل الوجوب، من غير نظر فيها
إلى تعيين الواجب من حيث الكم والكيف.
وعلى الجملة أن دليل السلطنة لا يدل على استقلال الملاك في
التصرف في أموالهم من جميع الجهات، بحيث لو منع الشارع عن
التصرف فيها من ناحية خاصة كان ذلك مخصصا لعموم الحديث.
وقد تجلى لك من ذلك أنه لو شك في جواز تصرف خاص، كالبيع
المعاطاتي أو جواز الاعراض عن مال معين، فإنه لا يجوز التمسك في
مشروعية ذلك بدليل السلطنة.
122

4 - الاستدلال بآية التجارة
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم (1)، فإن الآية الشريفة قد دلت على انحصار جواز
التصرف في أموال الناس بما يكون تجارة عن تراض عرفا، والبيع
المعاطاتي كذلك، وبيان ذلك بوجهين:
الوجه الأول: أن المراد من الأكل في الآية الكريمة ليس هو الازدراد
على ما هو معناه الحقيقي، بل إنما هو كناية عن التملك، وإن لم يكن ذلك
المال من جنس المأكولات كالدار والبستان والدكان وأشباه ذلك، وقد
تعارف هذا النحو من الاستعمال في القرآن الكريم وفي كلمات
الفصحاء، بل في غير لغة العربية أيضا.
ثم إن دخول كلمة الباء السببية على كلمة الباطل ومقابلتها في الآية مع
التجارة عن تراض قرينتان على توجه الآية إلى فصل الأسباب الصحيحة
للمعاملة عن الأسباب الفاسدة.
وعليه فإن كان الاستثناء متصلا - كما هو الظاهر والموافق للقواعد
العربية - كان مفاد الآية أنه لا يجوز تملك أموال الناس بسبب من الأسباب
فإنه باطل، إلا أن يكون ذلك السبب تجارة عن تراض، وإذن فتفيد الآية
حصر الأسباب الصحيحة للمعاملة بالتجارة عن تراض، وإن كان
الاستثناء منقطعا كانت الآية ظاهرة ابتداء في بيان الكبرى الكلية لكل
واحد من أكل المال بالباطل والتجارة عن تراض من غير أن تتعرض
للحصر.

1 - النساء: 28.
123

وعليه فلا يمكن التمسك بها فيما لا يعد في العرف من الأسباب
الباطلة، ولا من التجارة عن تراض، بل تكون الآية بالنسبة إليه مهملة.
ولكن يمكن اثبات دلالة الآية على الحصر حينئذ بالقرينة المقامية،
بدعوى أن الله تعالى بصدد بيان الأسباب المشروعة للمعاملات وتمييز
وجهها الصحيح عن وجهها الباطل، ولا ريب أن الاهمال مما يخل
بالمقصود فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة المقامية.
وإذن فالآية مسوقة لبيان حصر الأسباب الصحيحة للمعاملات في
التجارة عن تراض، سواء أكان الاستثناء متصلا أم كان منقطعا، وعلى
كلا التقديرين فتدل الآية بالمطابقة على صحة البيع المعاطاتي وكونه
مفيدا للملك، فإن عنوان التجارة عن تراض ينطبق عليه عرفا.
ومما يؤيد كون الآية راجعة إلى بيان أسباب المعاملات، تطبيقها في
بعض الروايات على القمار، باعتبار كونه من الأسباب الباطلة (1).
الوجه الثاني: أن يراد من الأكل في الآية الكريمة التصرف، أي
لا تتصرفوا في أموال الناس بالأسباب الباطلة فإنه حرام إلا أن يكون ذلك
السبب تجارة عن تراض.
وعليه فتدل الآية بالمطابقة على حلية التصرفات تكليفا - التي تترتب
على التجارة عن تراض - و تدل على حصول الملكية من أول الأمر
بالملازمة العرفية، لما عرفت عند الاستدلال بآية حل البيع على
المقصود، من أن السلطنة التكليفية على جميع التصرفات في شئ كاشفة
عرفا عن مالكية المتصرف لرقبة هذا الشئ، وإن كانت الملكية تنفك عن

1 - عن زياد بن عيسى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله عز وجل: ولا تأكلوا
أموالكم بالباطل، فقال: كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم الله عز وجل عن ذلك
(الكافي 5: 122، عنه الوسائل 17: 164).
124

السلطنة أحيانا كما في المحجور، ولكن السلطنة المطلقة لا تنفك عن
الملكية عرفا.
ولا يخفى عليك أنه يجري في هذا الوجه جميع ما تقدم من النقض
والابرام حول الوجه الثاني من وجهي الاستدلال على أن المعاطاة تفيد
الملكية.
وقد ذكر المحقق صاحب البلغة أنه لو كان الاستثناء في آية التجارة
عن تراض متصلا لزم من ذلك أما القول بالنسخ أو القول بكثرة التخصيص
المستهجن، بداهة أن أسباب حل الأكل ليس منحصرا بالتجارة عن
تراض، بل يحل ذلك بالهبات والوقوف والصدقات والوصايا وأروش
الجنايات وسائر النواقل الشرعية والإباحات، سواء أكانت الإباحة
مالكية أم كانت شرعية، وإذن فلا ملازمة بين أكل المال بالباطل وبين ما
لا يكون تجارة عن تراض - انتهى ملخص كلامه.
ويتوجه عليه: أن جملة من الأمور التي ذكرها المحقق المزبور ليست
مقابلة للتجارة عن تراض بل هي قسم منها كالهبات التي منها الصدقات
المستحبة والوصايا، بناء على اعتبار القبول فيها وسائر النواقل الشرعية
كالإجارة والجعالة ونحوهما، وجملة منها وإن كانت خارجة عن حدود
التجارة عن تراض، كالوقوف والإباحات والوصايا، بناء على عدم اعتبار
القبول فيها، ولكن الالتزام بخروجها عن ذلك لا يستلزم كثرة التخصيص،
بداهة أن الباقي تحت العام أكثر من الخارج.
ويضاف إلى ما ذكرناه أن المستثني منه في الآية إنما هو أكل مال غيره
بعنوان التملك، بأن يتملك الانسان باختياره مال غيره بغير التجارة عن
تراض، وما لا يكون كذلك كالوقوف والزكوات والأخماس والمال
الموصي به وصية تملكيه، بناء على عدم اعتبار القبول فيها، وأروش
125

الجنايات، خارج عن حدود المستثنى والمستثنى منه تخصصا
لا تخصيصا (1).
كلام بعض الأساطين حول المعاطاة
قوله (رحمه الله): ولذا ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد في مقام
الاستبعاد أن القول بالإباحة المجردة مع قصد المتعاطيين التمليك والبيع مستلزم
لتأسيس قواعد جديدة (2).
أقول: يحسن بنا أن نبحث حول كلامه، لكي يتضح لنا أن القول بالإباحة
مع قصد الملك من التعاطي هل يستلزم تأسيس قواعد جديدة أم لا.

1 - قد أغفل المصنف الاستدلال على مقصوده بقوله تعالى: أوفوا بالعقود، المائدة: 2،
مع أنه استدل به - فيما سيأتي قريبا - على أصالة اللزوم في العقود.
والوجه في ذلك أن الآية إنما تدل على لزوم العقد دلالة مطابقية، بداهة أن الأمر بالوفاء
بالعقد ارشاد إلى لزومه وعدم انفساخه بالفسخ، وإذا دلت الآية على لزومه بالمطابقة دلت على
صحته بالالتزام، إذ لا معنى لفساد العقد مع لزومه، ومن البين الذي لا ريب فيه أن المعاطاة عقد
بالحمل الشايع، فتكون مشمولة لعموم الآية.
ولكن ذكر المصنف فيما سيأتي قريبا: أن الظاهر فيما نحن فيه قيام الاجماع على عدم
لزوم المعاطاة، بل ادعاه صريحا بعض الأساطين في شرح القواعد، وعلى هذا فيكون
الاجماع قرينة منفصلة على عدم شمول الآية للمعاطاة من حيث الدلالة المطابقية، وقد ثبت في
محله أن الدلالة الالتزامية تابعة للدلالة المطابقية، وعليه فإذا سقطت دلالة الآية بالمطابقة على
لزوم المعاطاة سقطت دلالتها الالتزامية على صحتها.
وإذن فتنصرف الآية الكريمة عن المعاطاة وتختص بالعقود اللفظية، وهذا بخلاف آيتي
حل البيع والتجارة عن تراض، فإنهما تدلان على صحة البيع بالمطابقة وعلى لزومه بالالتزام،
ومن البديهي أن سقوط الدلالة الالتزامية لا تضر بالدلالة المطابقية، هكذا ينبغي أن يحرر المقام،
لا على الوجه الذي ارتكبه غير واحد من المحشين.
2 - شرح القواعد للشيخ كاشف الغطاء (مخطوط): 50.
126

وتلك القواعد ما يلي:
القاعدة الأولى
إن العقود وما قام مقامها تابعة للقصود من حيث الايجاب والسلب،
أي وقوع ما يقصد وعدم وقوع ما لم يقصد، ومن البين أن القول بالإباحة
مخالف لهذه القاعدة ايجابا وسلبا، لأن ما قصده المتعاطيان لم يحصل
في الخارج وما حصل في الخارج لم يقصده المتعاطيان.
وقد أجاب عنه المصنف بوجهين:
الوجه الأول: أن تبعية العقود للقصود فيما إذا دل الدليل على صحة
العقد، بمعنى ترتب الأثر المقصود منه عليه، وعلى هذا فلا يعقل الحكم
بالصحة مع عدم ترتب الأثر المزبور عليه، وهذا بخلاف ما إذا لم يدل
دليل على ذلك كالعقد المعاطاتي، ولكن حكم الشارع المقدس في
مورده بالإباحة، فإنه لا يلزم منه تخلف العقد عن القصد، بداهة أن
الإباحة المذكورة ليست إباحة عقدية لكي يلزم من ثبوتها المحذور
المزبور، بل إنما هي إباحة شرعية مترتبة على المعاطاة، ترتب الحكم
على موضوعه.
وعليه فمنزلة ذلك منزلة حكم الشارع بجواز الأكل من أموال الناس
في المخمصة والمجاعة، وبجواز أكل المارة من ثمرة الشجرة التي تمر
بها وإن لم يرض المالك بذلك - انتهى ملخص كلامه في الوجه الأول (1).

1 - الأولى في الجواب أن يقال: إن كانت المعاطاة مشمولة للعمومات الدالة على صحة
البيع، فلا شبهة في كونها بيعا صحيحا ومؤثرة في الملكية من دون أن يلزم من ذلك تخلف العقد
عن القصد، نعم لو ورد دليل الامضاء على خلاف ما قصده المتعاقدان لزم منه تخلف العقد عن
القصد إلا أنه بعيد عن المقام، ولا يفرق فيما ذكرناه بين القول بحصول الملكية من أول الأمر،
وبين القول بحصولها آنا ما قبل التصرف.
وإن لم تكن المعاطاة مشمولة للعمومات الدالة على صحة البيع، فلا شبهة في أنها لا تؤثر في
الملكية، إلا أنه قامت السيرة القطعية على إباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة حتى التصرف
المتوقف على الملك من دون أن يلزم من ذلك تخلف العقد عن القصد، إذ المفروض أن الإباحة
المترتبة على المعاطاة إباحة شرعية لا إباحة عقدية، وهذا واضح لا خفاء فيه.
127

الوجه الثاني: إن تخلف العقود عن القصود لا غرابة فيه، وقد وقع في
جملة من الموارد:
ألف - أنهم أطبقوا على أن عقد المعاوضة إذا كان فاسدا يؤثر في ضمان
كل من العوضين القيمة، لإفادة العقد الفاسد الضمان عندهم فيما يقتضيه
صحيحه، مع أنهما لم يقصدا إلا ضمان كل منهما بالآخر، وتوهم أن
دليلهم على ذلك قاعدة اليد، مدفوع بأنه لم يذكر هذا الوجه إلا بعضهم
معطوفا على الوجه الأول، وهو اقدامهما على الضمان، فلاحظ
المسالك (1).
ويرد عليه أن سبب الضمان في العقود الفاسدة - على ما سيأتي - إنما
هو اليد، نهاية الأمر أن الاقدام يكون منقحا لموضوع ضمان اليد، وقد
ذكرنا في محله أن الاقدام بنفسه لو كان موجبا للضمان لتحقق الضمان
بتحقق المعاملة في الخارج بالايجاب والقبول مع عدم تحقق القبض
والاقباض.
إذ المفروض تحقق الاقدام على المعاملة من ناحية المتعاملين، مع أنه
باطل بالضرورة، فيستكشف من ذلك أن سبب الضمان في أمثال الموارد
هو اليد دون الاقدام.
ب - إن الشرط الفاسد لا يفسد العقد المشروط به عند أكثر القدماء، مع

1 - المسالك 3: 154.
128

أن ما قصد - وهو العقد المقيد بالشرط الفاسد - غير واقع، والواقع الذي
هو ذات العقد لم يقصد، نعم إذا قلنا بأن الشرط الفاسد يفسد العقد
لم يتوجه هذا النقض على بعض الأساطين، ولكن التحقيق خلافه،
ويأتي تفصيل ذلك في مبحث الشروط إن شاء الله.
والتحقيق أن الشرط قد يكون قيدا لأصل العقد، بحيث يكون الانشاء
معلقا على حصول الشرط، بأن قال البائع: بعتك المتاع الفلاني إن قدم
الحاج وإلا فلا أبيع، وقد يكون الشرط التزاما آخر في ضمن الالتزام
العقدي من دون أن يكون الملتزم به قيدا لأصل العقد، وعلى الأول
فالتعليق يوجب فساد العقد وإن لم يكن الشرط فاسدا، لقيام الاجماع
على بطلان التعليق في العقود، وعلى الثاني فالالتزام بصحة العقد مع
فساد الشرط لا يستلزم تخلف المقصود عن القصد، وتفصيل الكلام في
محله.
ج - أنه إذا باع الانسان ما يملكه مع ما لا يملكه، بأن ضم مال نفسه إلى
مال غيره وباعهما من شخص واحد في صفقة واحدة، فإنه لا شبهة في
صحة هذا البيع عند المحققين، مع أن ما هو مقصود للمتبايعين لم يقع في
الخارج وما هو واقع فيه غير مقصود لهما.
والجواب عن ذلك: أن البيع المذكور وإن كان واحدا بحسب الصورة
ولكنه منحل إلى بيعين، غاية الأمر أن أحدهما صحيح منجزا والآخر
صحيح مشروطا بإجازة المالك، والسر في ذلك أن حقيقة البيع متقومة
بانشاء تبديل شئ من الأعيان بعوض في جهة الإضافة كما تقدم (1)، ومن
البديهي الذي لا ريب فيه أن هذا المعنى لا ربط له بقصد المالكين
ومعرفتهما.

1 - راجع مبحث حقيقة البيع وتعريفه.
129

وعليه فقصد البائع كون العقد لنفسه أو لغيره خارج عن حدود البيع،
وإذن فلا يوجب ذلك تخلف العقد عن القصد بوجه، نعم مع عدم إجازة
المالك يثبت للمشتري خيار تبعض الصفقة، ولكنه بعيد عن تخلف
العقد عن القصد الذي هو محل الكلام في المقام.
د - بيع الغاصب المال المغصوب لنفسه، فقد ذكر جمع كثير (1) أن البيع
يقع عن المالك فضولا وتتوقف صحته على إجازته، مع أن المقصود
وهو كونه للبائع لم يقع، والواقع وهو وقوع البيع عن المالك غير مقصود.
والجواب عن ذلك ما أشرنا إليه آنفا، من أن البيع انشاء تبديل عين
بعوض في جهة الإضافة، ومن الظاهر أن قصد وقوعه عن المالك أو عن
البائع خارج عن حدوده، وسيأتي التعرض لهذه المسألة في البحث عن
بيع الفضولي، نعم لو كان شأن المالكين في البيع شأن الزوجين في عقد
الزواج لكان ما ذكره المصنف من النقض - على قول بعض الأساطين -
صحيحا، ولكن الأمر ليس كذلك.
ه‍ - إن العاقد إذا ترك ذكر الأجل في نكاح المتعة كان ذلك زواجا
دائميا، وقد ذكر هذا في موثقة ابن بكير (2)، وأفتى به جمع من
الفقهاء (قدس سرهم) (3)، مع أن المقصود وهو نكاح المتعة لم يقع، والواقع وهو
نكاح الدائم غير مقصود.

1 - منهم العلامة في المختلف 5: 55، والتحرير 2: 142، والقواعد 1: 124، وغيرها،
والمحقق الثاني في جامع المقاصد 4: 69، والفاضل المقداد في التنقيح 2: 27، راجع مقابس
الأنوار: 130.
2 - قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما كان من شرط قبل النكاح هدمه النكاح، وما كان بعد
النكاح فهو جائز، وقال: إن سمي الأجل فهو متعة وإن لم يسم الأجل فهو نكاح بات (الكافي
5: 456، التهذيب 7: 262، عنهما الوسائل 21: 47).
3 - راجع مسالك الأفهام 7: 447، كشف اللثام 2: 55.
130

والتحقيق أنه إذا كان بناء العاقد قبل مباشرته بايقاع العقد على انشاء
نكاح المتعة ولكن نسي ذكر الأجل عند الانشاء وقصد الزواج الدائم،
فلا شبهة في أن الواقع حينئذ يكون نكاحا دائميا، وعليه فلا يلزم منه
تخلف العقد عن القصد.
إذا كان بناء العاقد على ابقاء عقد المتعة حتى في مقام الانشاء
والاشتغال باجراء الصيغة، ومع ذلك نسي ذكر الأجل في مقام التلفظ
أو تركه عمدا، فإن الظاهر حينئذ بطلان العقد، بداهة أن الزواج الدائم
لم يقصد ولم ينشأ، لأن الانشاء - كما عرفته مرارا - عبارة عن ابراز الأمر
النفساني في الخارج، وإذا لم يقصد العاقد الزواج الدائم لم يكن ذلك
مبرزا باللفظ، وأما الزواج المنقطع فلا يقع أيضا في الخارج إذ يعتبر في
صحته ذكر الأجل على ما نطقت به الروايات (1)، والمفروض أنه مفقود في
المقام، وهذا بين لا ريب فيه.
القاعدة الثانية
إن القول بالإباحة يلزمه الالتزام بأحد أمرين على سبيل مانعة الخلو،
وهما الالتزام بأن إرادة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة مملكة، والالتزام
بأن التصرف بنفسه من المملكات، وكلا الأمرين بعيد جدا، بداهة أن
المالك لم يقصد إلا تمليك ماله من الأول، وعليه فالالتزام بحصول
الملكية بتصرف غير المالك أو بإرادته التصرف من دون أن يكون ذلك
مقصودا للمالك بعيد غايته.

1 - عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يتزوج المرأة متعة سنة أو أقل أو
أكثر، قال: إذا كان ثبتا معلوما إلى أجل معلوم (الكافي 5: 459، التهذيب 7: 266، الإستبصار
3: 151، عنهم الوسائل 21: 58).
131

ويتوجه عليه ما أفاده المصنف، وحاصله أنه لا مانع من الالتزام
بحصول الملكية بإرادة التصرف، فإن الجمع بين الأدلة يقتضي ذلك،
ضرورة أن الأصل يقتضي بقاء المأخوذ بالمعاطاة في ملك مالكه الأول،
وقد قامت السيرة القطعية على جواز التصرف لكل من المتعاطيين فيما
انتقل إليه، وقد ثبت في الشريعة المقدسة أن بعض التصرفات كالعتق
والبيع والوطي لا يسوغ لغير المالك.
ومن البين الذي لا ريب فيه أن الجمع بين هذه الأدلة يقتضي الالتزام
بالملكية حين إرادة التصرف، وعليه فيكون شأن التصرف في المقام شأن
تصرف ذي الخيار والواهب فيما انتقل عنهما تصرفا بالعتق والبيع
والوطي وأشباهها (1).

1 - أقول: إن التصرفات الصادرة من المتعاطيين على قسمين:
القسم الأول: ما لا يتوقف جوازه على الملك - كالأكل والشرب واللبس ونحوها - فإن
جواز هذه التصرفات لا ينوط بملك الرقبة بل تجوز لغير المالك أيضا إذا دل عليه دليل، وقد
فرضنا أن السيرة قد دلت عليه في المقام، غاية الأمر أن يكون الاتلاف في محل الكلام موجبا
للضمان بالمسمى دون المثل أو القيمة، وعلى هذا فلا نحتاج إلى الالتزام بمملكية التصرف أو
بإرادته لكي نتمسك في اثبات ذلك بالجمع بين الأدلة.
قيل: إنه لا يتحقق الضمان بالمسمى إلا مع ملك الضامن لما هو بدل عن المسمى، وعليه فلا
مناص عن الالتزام بمملكية التصرف أو إرادته.
والجواب عن ذلك أنا لو سلمنا توقف الضمان بالمسمى على ملك الضامن للعوض، ولكن لا
نسلم توقف ذلك على مملكية التصرف أو إرادته، بل يمكن الالتزام بحصول الملكية آنا ما قبل
التصرف من ناحية الجمع بين الأدلة، كما التزم به المصنف سابقا عند الاستدلال على صحة
المعاطاة بآيتي حل البيع والتجارة عن تراض.
القسم الثاني من التصرفات ما يتوقف جوازه على الملك - كالعتق والوطي والبيع - وقد
اتضح لك حكمه مما ذكرناه في القسم الأول، بديهة أن الجمع بين الأدلة يقتضي الالتزام بحصول
الملك آنا ما قبل التصرف بلا احتياج في ذلك إلى مملكية التصرف أو إرادته، وهذا واضح لا
ريب فيه.
132

القاعدة الثالثة
أنه إذا قيل بأن المعاطاة المقصود بها الملك تفيد الإباحة، لزمت منه
مخالفة القواعد المتسالم عليها في موارد شتى، منها:
ألف - تعلق الخمس بما في يد أحد المتعاطيين مع أنه ليس بمالك له.
وتوضيح ذلك أنه إذا أعطى أحد المتعاطيين دينارا لصاحبه وأخذ منه
متاعا يساوي أحد عشر دينارا، فإنه قد ربح في هذه المعاملة المعاطاتية
عشرة دنانير، وإذا بقي هذا الربح إلى أن مضي عليه حول كامل،
ولم يحصل مملك في البين، كتصرف المشتري في المتاع أو تصرف
البائع في الثمن أو تلف أحد العوضين، ثبت فيه الخمس، وعليه فيلزم
تعلق الخمس بغير الاملاك، وهو فقه جديد.
وقد يتوهم أن غرض بعض الأساطين من ذلك هو استبعاد تعلق
الخمس بالأرباح والمنافع الحاصلة من الاتجار بالمأخوذ بالمعاطاة،
ولكنه توهم فاسد، فإنه مخالف لصراحة كلامه، بديهة أنه (رحمه الله) قد فرض
مورد الاستبعاد فيما إذا كان العوضان باقيين مع عدم تحقق التصرف من
أحد المتعاطيين، ومن البين الذي لا ريب فيه أن حصول الربح بالتجارة
لا يخلو عن أحد أمرين على سبيل مانعة الخلو، وهما التصرف وتلف
العين ولو حكما.
وحينئذ فلا يتوجه على بعض الأساطين ما ذكره شيخنا المحقق،
وإليك نصه: أما خمس ربح التجارة بالمأخوذ بالمعاطاة، فلا محالة يكون
حصول الربح مسبوقا بالتكسب والتصرف في المال، فيكون مملكا له
133

ولأصله، وليس هذا غريب آخر زيادة على غرابة مملكية التصرف (1).
ب - أنه يعامل مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك، وتترتب عليه
جميع آثار الملكية، من الاستطاعة وتعلق الزكاة وحق الديان به، وكونه
إرثا للورثة، ووجوب الانفاق منه، وجواز الوصية به، ولو كانت
المعاطاة مفيدة للإباحة لزم من ذلك تعلق الأمور المذكورة بالمباحات مع أنها لا تتعلق بغير الأملاك.
ج - أنه إذا باع أحد الشريكين حصته من غير شريكه بالبيع المعاطاتي،
تعلق به حق الشفعة، مع أنه لا يتعلق إلا بالبيع المؤثر في الملكية، ومن
هنا لو أباح أحد الشريكين حصته لغيره لم يتعلق به حق الشفعة.
د - تعلق حق المقاسمة بذلك، ومثاله أنه إذا باع أحد الشريكين حصته
من شخص آخر بالبيع المعاطاتي جاز للمشتري أن يطالب المقاسمة من
الشريك الآخر، وعليه فإن قلنا بأن المعاطاة تفيد الملكية فلا محذور
فيه، وإن قلنا بأنها لا تفيد إلا الإباحة الخالصة، لزم منه ثبوت حق
المقاسمة لغير الملاك.
ه‍ - إن الرباء يجري في البيع المعاطاتي كما يجري في البيع اللفظي،
وعليه فإن قلنا بأن المعاطاة تفيد الملكية كان ذلك موافقا للقواعد
الشرعية، وإن قلنا بأنها تفيد الإباحة لزم من ذلك جريان الرباء في
المباحات، ومن الواضح أن ذلك تأسيس فقه جديد.
و - أنه لو كانت المعاطاة مفيدة الإباحة، لزم من ذلك أن يتصف الأخذ
بالمعاطاة بصفة الفقر، ولو كان المأخوذ بذلك يكفي مؤونته ومؤونة
عياله سنة واحدة، إذا لم يكن عنده مال آخر يكفيه ولعياله حولا كاملا،
ولزم أيضا أن لا تزول صفة الغني عن المعطي لكونه مالكا لما أعطاه

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 154.
134

لصاحبه بالمعاملة المعاطاتية، وإذن فيجوز للأول أخذ الحقوق الشرعية
المقررة للفقراء والمساكين ولا يجوز ذلك للثاني وإن لم يكن عنده ما
يكفيه ولعياله سنة واحدة، ومن الظاهر أن هذا أمر عجيب.
وقد أجاب المصنف عن جميع الأمور المذكورة بما هذا لفظه: وأما
ما ذكره من تعلق الأخماس والزكوات إلى آخر ما ذكره، فهو استبعاد
محض، ودفعه بمخالفته للسيرة رجوع إليها (1).

1 - لا يخفى عليك ما في عبارة المصنف من الغلق والاضطراب واشتباه المراد، كما يظهر
لمن يعطف النظر على كلمات المحشين، والذي نفهمه منها أنه لا مانع من الالتزام بعدم تعلق
الأمور المذكورة بالمأخوذ بالمعاطاة مع بقاء مقابله وعدم تصرف كل من المتعاطيين فيما بيده،
بداهة أنه لا محذور في الالتزام بذلك إلا الاستبعاد المحض، ومن البين الذي لا ريب فيه أن
مجرد الاستبعاد لا يوجب أن تكون المعاطاة مفيدة للملكية لكي يصح الالتزام بتعلق الأمور
المزبورة بما في يد كل من المتعاطيين.
قيل: إنه لا مناص عن الالتزام بتعلق تلك الأمور بالمأخوذ بالمعاطاة، لأن بناء المتشرعة
وسيرتهم القطعية على أن شأن ذلك شأن سائر الأملاك.
والجواب عنه: أن هذا وإن كان صحيحا إلا أن الالتزام به من ناحية السيرة لا من ناحية
الاستبعاد الذي هو مورد بحثنا، وإذن فتكون السيرة دليلا على الملك بلا حاجة إلى الاستبعاد
المزبور، وعلى هذا التفسير فمرجع الضمير المجرور في كلمة دفعه هو لفظ العدم المحذوف
المضاف إلى كلمة التعلق، والقرينة على الحذف هي سياق الكلام.
ويمكن أن يكون غرض المصنف من تلك العبارة أنه لا شبهة في تعلق الأمور المذكورة في
كلام بعض الأساطين بالمأخوذ بالمعاطاة وإن كان ذلك من المباحات، بداهة أنه لا مانع من أن
يكون قسم خاص من المباح - الذي يجوز فيه مطلق التصرف حتى المتوقف منه على الملك -
في حكم الملك، ولا محذور فيه إلا الاستبعاد المحض، وهو بنفسه لا يصلح للمانعية عن تعلق
الأمور المزبورة بالمأخوذ بالمعاطاة.
وأما دعوى أن تعلق تلك الأمور بذلك مخالف للسيرة لقيامها على عدم تعلقها بغير الأملاك،
فبملاحظة السيرة يستكشف ملكية المأخوذ بالمعاطاة، فهي إن صحت كان القول بالملكية
حينئذ مستندة إلى السيرة، لا إلى الاستبعاد ولا إلى لزوم مخالفة القواعد الشرعية.
ولكن الظاهر أن غرض المصنف هو الاحتمال الأول، بديهة أن مقصود بعض الأساطين إنما
هو استبعاد عدم تعلق الأمور المذكورة بالمأخوذ بالمعاطاة، وقد تصدي المصنف لدفع هذا
الاستبعاد، وليس غرض بعض الأساطين استبعاد تعلق الأمور المذكورة بالمأخوذ بالمعاطاة
لكي يكون كلام المصنف مسوقا لرفع هذا الاستبعاد واثباتا لتعلق تلك الأمور بذلك، هذا، والله
العالم بالضمائر.
135

ويحسن بنا أن نتعرض لأجوبة تلك الأمور، وإليك ما يلي:
أما الأخماس، فهي لا تتعلق إلا بالملك، كما هو الظاهر من الأدلة
الشرعية، وعليه فلا محذور في الالتزام بعدم تعلقها بالمأخوذ
بالمعاطاة، على القول بكونها مفيدة للإباحة (1).
وأما الزكوات، فلا شبهة في تعلقها بالمأخوذ بالمعاطاة مع تمام
النصاب ومضى الحول عليه، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون المأخوذ
بالمعاطاة ملكا للأخذ وبين عدمه، لاطلاق الأدلة (2)، مثلا إذا اشترى أحد
بالبيع المعاطاتي خمسا من الإبل ولم يوجد مملك في البين إلى أن مضى
عليها حول كامل، تعلقت بها الزكاة جزما، وتكون العين مشتركة بين
المالك وبين المستحقين للزكاة، بناء على تعلق الزكاة بالعين (3).

1 - ثم الظاهر أن مراد كاشف الغطاء من مورد تعلق الخمس ما إذا اشترى أحد ما يساوي
ألف درهم مثلا بعشرة دراهم، فبقي عنده إلى آخر السنة، ولم يحتج إلى صرفه في مؤونة سنته
لاستغنائه عنه فيجب عليه اخراج خمسه مع عدم كونه ملكا له، وليس المراد ما زعمه شيخنا
المحقق في حاشيته من فرض التكسب بالمعاطاة مرارا عديدة إلى آخر السنة، ووجوب
الخمس فيما زاد له من ربحها، فأشكل عليه بكونه مسبوقا بالتكسب والتصرف في المال، وهو
الملك - المحاضرات 2: 58.
2 - غاية الأمر يكون هناك بحث علمي في أن المكلف بالاخراج هو المالك أو المعطي -
المحاضرات: 58.
3 - الذي يستفاد من الأدلة أن الزكاة متعلقة بالعين وأن النصاب مشترك بين المالك وبين
المستحقين للزكاة، سواء أكان الاشتراك على نحو الإشاعة أم كان ذلك على نحو الكلي في
المعين، وهذا الرأي هو المشهور بين الأصحاب (قدس سرهم)، وهنا احتمالات أخر:
1 - إن الزكاة متعلقة بالذمة من غير أن تتعلق بالعين رأسا.
2 - إن الزكاة متعلقة بالعين كتعلق حق الرهن بالعين المرهونة، فتكون حالها حال بيع العين
المرهونة في حال الرهانة ثم فكها عن ذلك.
3 - إن الزكاة متعلقة بالعين كتعلق حق الجناية بالعبد الجاني، وعليه فيكون بيعها التزاما
بالزكاة في الذمة، كما أن المالك إذا باع عبده الجاني تعلق أرش الجناية بذمته.
ومن هنا اتضح لك الفارق بين الصورتين الأخيرتين.
136

نعم إذا كان عند الأخذ بالمعاطاة ما تعلقت به الزكاة، ولكن كان أقل من
النصاب إلا أنه وصل إلى حد النصاب مع ضم المأخوذ بالمعاطاة إليه،
فإنه لا تجب فيه الزكاة، بداهة أن ما هو مملوك للأخذ لم يصل إلى حد
النصاب، والمأخوذ بالمعاطاة ليس ملكا له على الفرض لكي يتم به
النصاب.
وأما صفة الغني المانعة عن أخذ الحقوق الشرعية، فهي غير متوقفة
على الملك، بل كل من تمكن من مؤونة نفسه وعياله سنة واحدة - ولو من
المباحات - فهو غني.
وأما الاستطاعة، فهي إنما تتحقق بكون المكلف واجدا - بالفعل - لما
يحج به من الزاد والراحلة، وبمالكيته لمؤونة عياله بالفعل أو بالقوة،
وقد فسرت الاستطاعة بهذا المعنى وبأمن الطريق في بعض الأخبار (1)،

1 - المروي عن محمد بن يحيى الخثعمي قال: سأل حفص الكناسي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا
عنده عن قول الله عز وجل: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، ما يعني
بذلك، قال: من كان صحيحا في بدنه، مخلي سربه، له زاد وراحلة، فهو ممن يستطيع الحج -
الخبر (الكافي 4: 267، التهذيب 5: 3، الإستبصار 2: 139، عنهم الوسائل 11: 34).
السرب - بالفتح - الطريق، يقال: خل له سربه أي طريقه، فلان مخلي السرب أي موسع
عليه غير مضيق عليه.
137

ومن البين أن هذا المعنى من الاستطاعة كما يتحقق بالملك كذلك يتحقق
بالمباحات أيضا التي منها، المأخوذ بالمعاطاة على القول بالإباحة، وقد
انجلى مما بينا أنه يصح تعلق حق النفقات والديون بالمأخوذ بالمعاطاة.
وأما حق الشفعة، فلا يصح تعلقه بالمأخوذ بالمعاطاة، لأنه استحقاق
الشريك للحصة المبيعة في شركته، لكي يضمها إلى حقه، والمفروض
أن المعاطاة لم تؤثر في الملكية بل في الإباحة فقط، وعليه فلم يحصل
النقل والانتقال بالتعاطي حتى يثبت به حق الشفعة للشريك (1).
وأما حق المقاسمة والمفارزة، فهو لا يختص بالمالك بل يثبت لكل
من جاز له التصرف في المال المشاع وإن لم يكن مالكا لجزء منه.
وأما الإرث، فهو أيضا لا يتوقف على الملك، بل موضوعه ما تركه
الميت، ومن الظاهر أن المأخوذ بالمعاطاة مما تركه الميت فيكون لوارثه،
ويضاف إلى ذلك أن موت أحد المتعاطيين يؤثر في لزوم المعاطاة،
وهذا واضح، ومن هنا اتضح لك جواز الوصية بالمأخوذ بالمعاطاة،
ضرورة أنها تصير لازمة بموت الموصي.
وأما ما ذكره من استلزام القول بالإباحة جريان الرباء في المباحات،
فهو من العجائب، بديهة أن مورد البحث في المقام إنما هو المعاطاة
الواجدة لجميع شرائط البيع إلا الصيغة الخاصة، وعليه فإذا كانت

1 - نعم يظهر من المحقق الخراساني (حاشية المكاسب: 13) أن حق الشفعة يتعلق
بالمأخوذ بالمعاطاة وإن لم يصر ملكا للآخذ، والوجه في ذلك أن موضوع حق الشفعة إنما هو
بيع أحد الشريكين حصته من غير شريكه، سواء أكان ذلك مفيدا للملكية أم كان مفيدا للإباحة.
ويتوجه عليه: أولا أن ذلك خلاف الظاهر من أدلة الشفعة، إذ الظاهر منها اعتبار الملكية في
متعلق حق الشفعة، ثانيا: إن موضوع حق الشفعة إنما هو البيع كما اعترف به المحقق المذكور،
ومن البين أن المعاطاة المفيدة للإباحة خارجة عن حدود البيع.
138

المعاطاة ربوية لم تؤثر في شئ من الملكية والإباحة لفسادها من ناحية
الرباء (1)، وإذن فلا إباحة في المقام لكي يلزم جريان الرباء فيها، وهذا
ظاهر لا خفاء فيه.
القاعدة الرابعة
ما ذكره بعض الأساطين، من: كون التصرف من جانب مملكا للجانب
الآخر، مضافا إلى غرابة استناد الملك إلى التصرف.
وقال المصنف: وأما كون التصرف مملكا للجانب الآخر فقد ظهر
جوابه.
ووجه الظهور أنه لما كان التصرف من جانب مملكا للمتصرف لزم
كونه مملكا للجانب الآخر أيضا الذي لم يصدر منه التصرف، وإلا لزم
اجتماع العوض والمعوض في ملك المتصرف، وعليه فكما أن الجمع
بين الأدلة يقتضي كون التصرف مملكا للمتصرف كذلك يقتضي كونه
مملكا للطرف الآخر أيضا
القاعدة الخامسة
ومما ذكره بعض الأساطين أن القول بالإباحة يستلزم مخالفة القواعد
المتسالم عليها في نواحي شتى:
الناحية الأولى: كون التلف السماوي من جانب مملكا للجانب الآخر،
لاتفاق الفقهاء على أن كلا من المتعاطيين يملك لما بيده من المأخوذ
بالمعاطاة مع تلف بدله من الجانب الآخر.

1 - كما إذا كان أحد المتعاطيين مجنونا أو سفيها أو صغيرا أو كان البيع غرريا -
المحاضرات: 57.
139

وعليه فإن قلنا بأن المعاطاة تفيد الملك فلا محذور فيه، وإن قلنا بأنها
تفيد الإباحة فيلزم أن يكون التلف من جانب مملكا للجانب الآخر، بديهة
أنه لم يحدث في المقام إلا أمران، وهما التعاطي والتلف، والمفروض
أن الأول لا يفيد إلا الإباحة، وعليه فلا بد لنا إما من القول بكون التلف
مؤثرا في الملكية، فهو غريب، أو القول بحصول الملكية بغير سبب فهو
محال.
الناحية الثانية: أنه إذا تلف أحد العوضين تلفا قهريا، فإن قلنا بأن من
تلف المال عنده يملك التالف قبل تلفه، فهو عجيب، بديهة أنه ملكية
لو حصلت بغير سبب لزم تحقق المعلول بدون علته، وإن حصل ذلك
بسبب التلف لزم تقدم المعلول على علته، ومن البين أن كليهما غير
معقول.
وإن قلنا بحصول الملكية مع التلف فهو بعيد، إذ لا موجب للالتزام
بالملكية في خصوص زمان التلف دون ما قبله، على أن زمان التلف هو
زمان انعدام الملكية لا زمان حدوثها، ومن ذلك يظهر بطلان الالتزام
بالملكية بعد التلف، فإن من الواضح أن تملك المعدوم غير معقول، على
أن ذلك لغو محض، إذ لا يترتب عليه أي أثر من آثار الملكية.
وإن قلنا بعدم كون التالف ملكا للأخذ لزم أن يكون بدله ملكا للجانب
الآخر مجانا، فهو غريب، وإذن فلا مناص عن الالتزام بحصول الملكية
في البيع المعاطاتي من أول الأمر.
الناحية الثالثة: أنه إذا قلنا بأن المعاطاة تفيد الإباحة كان التلف من
الجانبين معينا للمسمي من الطرفين، وعليه فلا يرجع كل من المتعاطيين
إلى المثل أو القيمة لكي يكون لأحدهما حق الرجوع إلى ما به التفاوت
بين العوضين.
140

مع أن القاعدة - على القول بعدم الملك - تقتضي الضمان بالمثل أو
القيمة دون المسمى، بديهة أن الضمان بالمسمى يقتضي كون التالف
ملكا للمتلف، وعليه فيعود الاشكال المتقدم، أعني حصول الملكية
بلا سبب أو بسبب التلف.
الناحية الرابعة: أنه إذا وضع الغاصب يده على المأخوذ بالمعاطاة
أو تلف ذلك عنده، فإن قلنا بأن المعاطاة تفيد الملكية فلا محذور فيه،
لأن الغاصب يكون ضامنا للمغصوب منه، وإن قلنا بأنها تفيد الإباحة فإن
قلنا بأن الغاصب ضامن للمغصوب منه، أعني المباح له، دون المالك
الأصلي، الذي هو المبيح، لزم أن يكون الغصب أو التلف عند الغاصب
مملكا، وهو غريب، وإن قلنا بعدم الملك وأنه ليس له حق المطالبة
وإنما هو ثابت للمبيح فهو بعيد ومناف للسيرة القطعية.
وقد أجاب المصنف عن تلك النواحي غير الناحية الأخيرة بما
حاصله:
أن دليل ضمان اليد يقتضي كون كل من العوضين مضمونا لمالكه
الأصلي بعوضه الواقعي، أعني به المثل أو القيمة، لكن مقتضى الاجماع
والسيرة على عدم الضمان بالعوض الواقعي يكشف عن أن التلف من مال
من تلف عنده، وبضميمة أصالة عدم حصول الملكية إلا بالمقدار
المتيقن تثبت الملكية قبل زمان التلف بآن.
وعليه فالجمع بين هذه الأدلة يقتضي كون كل من العوضين ملكا لكل
من المتعاطيين آنا ما قبل التلف، وحينئذ فيكون التلف موجبا لتعين
المسمى من الجانبين، سواء في ذلك كون التلف من جانب واحد وكونه
من جانبين.
والسر في الالتزام بالملكية التقديرية أنه يدور الأمر بين تخصيص
141

دليل اليد بالاجماع المزبور، والقول بعدم الضمان بالمثل أو القيمة في
مورد التعاطي، وبين التخصص أي الالتزام بحصول الملكية في ذلك من
أول الأمر، حفظا لعموم دليل اليد عن التخصيص، وقد حقق في محله
أنه كلما دار الأمر بين التخصيص والتخصص فيقدم الثاني.
وعليه فمقتضى القاعدة أن نحكم بحصول الملكية في مورد المعاطاة
من أول الأمر، ولكن الأصل المذكور يقتضي عدم تحقق الملكية إلا آنا ما
قبل التلف، وعليه فشأن المقام شأن تلف المبيع قبل قبضه في يد البايع.
ثم إن غرض المصنف من تقديم التخصص على التخصيص ليس هو
اثبات الضمان بالمسمى من ناحية الدليل الدال على ضمان اليد، بل
غرضه من ذلك أنما هو حفظ الدليل المزبور عن التخصيص وابقائه على
عمومه، وأما الضمان بالمسمى فإنما يثبت بحصول الملكية في مورد
المعاطاة.
وإذن فلا يتوجه على المصنف ما ذكره السيد، وهذا نصه: إن الحكم
بالضمان بعوض المسمى ليس عملا بعموم على اليد لأن مقتضاه وجوب
المثل أو القيمة لا المسمى، فمع فرض الاجماع على الملكية لا بد من
الالتزام بتخصيص قاعدة اليد إذا لم نحكم بالملكية من أول الأمر (1).
وأجاب المصنف عن الناحية الأخيرة بما هذا لفظه: وأما ما ذكره من
صورة غصب المأخوذ بالمعاطاة، فالظاهر على القول بالإباحة أن لكل
منهما المطالبة ما دام باقيا، وإذا تلف فظاهر اطلاقهم التملك بالتلف تلفه
من مال المغصوب منه - ثم قال: - نعم لولا قام اجماع كان تلفه من مال
المالك لو لم يتلف عوضه قبله.

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 71.
142

وغرضه من هذه العبارة الأخيرة أنه لولا الاجماع على الملكية قبل
تلف العين كان مقتضى القاعدة اختصاص الملك بالمطالبة، لأن العين قد
تلفت في ملكه، نعم لو تلفت العين الأخرى قبل تلف المغصوب اختص
المغصوب منه بالمطالبة، ووجهه ظاهر.
ولكن النسخة المشهورة هكذا: نعم لو قام اجماع - الخ (1)، وعليه
فغرض المصنف من هذه العبارة أنه إذا قام الاجماع على عدم حصول
الملكية في البيع المعاطاتي بتلف أحد العوضين عند الغاصب مع بقاء
العوض الآخر، كان التلف في ملك المالك الأصلي، فيكون له حق
المطالبة من الغاصب، ولا يثبت ذلك الحق للمغصوب منه، أعني المباح
له، إلا أن هذا ليس بصحيح، بديهة أن عدم كون التلف عند الغاصب
مملكا لا يحتاج إلى الاجماع، بل يستغني عنه باستصحاب بقاء المأخوذ
بالمعاطاة في ملك مالكه الأصلي، وهذا واضح لا شك فيه.
القاعدة السادسة
ومما ذكره بعض الأساطين من القواعد الجديدة اللازمة على القول
بالإباحة أنه يجوز للآخذ بالمعاطاة أن يتصرف في النماء الحادث من
المأخوذ بالمعاطاة قبل التصرف فيه، وعليه فجواز التصرف في النماء أما
من ناحية أن حدوث النماء مملك للنماء، وأما من ناحية أن المالك
الأصلي قد أذن للمباح له أن يتصرف في النماء، كإذنه في التصرف في
أصله.

1 - في شرح الشهيدي: حكي أن نسخة المصنف صححت هكذا: لولا (هداية الطالب
: 169).
143

وعلى الأول فإن قلنا بأن حدوث النماء مملك للنماء فقط لا لأصله
فهو بعيد، إذ لا وجه للتفكيك في ذلك بين النماء وأصله، خصوصا في
النماء المتصل، على أنه لم يعهد من مذاق الشارع المقدس أن يكون
حدوث النماء في العين من جملة الأسباب لتملك النماء، وإن قلنا بأن
حدوث النماء مملك لنفسه ولأصله معا أو قلنا بأنه مملك لأصله
بالأصالة ولنفسه بالتبعية، فهو غريب، فإن ذلك مناف لظاهر أكثر الفقهاء
القائلين بعدم حصول الملكية في المأخوذ بالمعاطاة من دون التصرف فيه
المتوقف على الملك.
وعلى الثاني - وهو أن يكون التصرف في النماء مستندا إلى إذن
المالك - فشمول الإذن في التصرف في النماء أمر خفي لا يمكن الالتزام
به، بديهة أن المالك الأصلي لم يأذن للمباح له إلا في التصرف في نفس
المأخوذ بالمعاطاة لا في متفرعاته الحاصلة بعد التعاطي - انتهى حاصل
ما أفاده بعض الأساطين.
وقد أجاب عنه المصنف (رحمه الله) بوجهين:
الوجه الأول: أن حكم النماء - الحاصل من المأخوذ بالمعاطاة - حكم
أصله، فكما أن الأصل ليس ملكا للآخذ كذلك النماء، نعم يجوز للمباح
له أن يتصرف في النماء، كما كان له أن يتصرف في أصله.
الوجه الثاني: أنه يمكن أن يكون النماء حادثا في ملك المباح له
بمجرد إباحة أصله، بأن يكون إباحة الأصل موضوعا لحكم الشارع
بملكية النماء - انتهى ملخص كلامه في الوجهين.
ولكن يتوجه على الأول أن المالك الأصلي إذا فرض أنه لم يأذن
للمباح له إلا في التصرف في المأخوذ بالمعاطاة كان تصرف المباح له في
النماء تصرفا في مال غيره بدون إذنه، فهو حرام عقلا وشرعا.
144

ويتوجه على الثاني أنه لا دليل على حدوث النماء في ملك المباح له،
إذ لم يحدث في البين مملك لذلك النماء ولا لأصله ولا لهما معا،
ولا يقاس هذا بما تقدم سابقا من تصوير ترتب الإباحة الشرعية على
التعاطي مع قصد المتعاطيين الملكية، لما عرفته من أن ذلك من ناحية
الجمع بين الأدلة، ولا شبهة أن هذا لا يجري في المقام (1).
ويمكن الجواب عن بعض الأساطين بوجهين على سبيل الانفصال
الحقيقي:
ألف - إن النماء وإن لم يصر ملكا للمباح له ولكن يجوز له التصرف
فيه، بداهة أن الإذن في التصرف في شئ يلازم عرفا الإذن في التصرف
في توابعه ولوازمه، فجواز التصرف في النماء من لوازم جواز التصرف
في الأصل.
ب - أن يكون كل واحد من النماء وأصله ملكا للمباح له، ضرورة أن
المعاطاة بيع عرفي فتكون مشمولة للعمومات الدالة على صحة البيع

1 - قد أجاب المحقق النائيني عن بعض الأساطين بما هذا نص مقرره:
فالحق أن يقال: إن مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): الخراج بالضمان أن يكون النماء ملكا له - المباح
له - بناء على ما سيجئ في معنى الخبر... وحاصله: أن كل من تعهد ضمان شئ بالتضمين
المعاملي فمنافعه له، وهذا من غير فرق بين أن يكون التضمين على نحو الإباحة أو التمليك،
فإن مقتضى اطلاقه كون منافعه للضامن، ومعنى كون الشخص ضامنا لما يتملكه أو لما أبيح له
هو أنه لو تلف يكون دركه عليه، ويكون عوضه المسمى ملكا للطرف الآخر - الخ، والنبوي
مذكور في سنن البيهقي 5: 321.
ولكن يرد على المحقق المزبور أن النبوي المذكور ضعيف السند وغير منجبر بشئ، على
أنه لا تشمل موارد التضمين على نحو الإباحة، لأن لازم ذلك أن لا يكون للمالك الأصلي حق
الرجوع إلى النماء مع عدم كون الأصل ملكا للمباح له، وهو بعيد، وأضف إلى ذلك أن الجواب
المزبور التزام بالتفكيك بين الأصل ونمائه، وهو غريب.
145

ونفوذه، ولا ريب في أن مقتضى ذلك أنما هو حصول الملكية في البيع
المعاطاتي من أول الأمر، كما هو كذلك في موارد البيع بالصيغة، ولكنا
قد التزمنا بعدم حصول الملكية في مورد البيع المعاطاتي من ناحية
الاجماع، ومن الظاهر أن الاجماع دليل لبي فيقتصر فيه بالمقدار المتقين،
وهو قبل حصول النماء في المأخوذ بالمعاطاة.
وإذن فلا مانع من التمسك بتلك العمومات والحكم بصيرورة ذلك
ملكا للآخذ بمجرد حصول النماء فيه.
القاعدة السابعة
أنه إذا قلنا بأن المعاطاة تفيد الإباحة لزم منه قصر التمليك على
التصرف مع الاستناد فيه إلى أن إذن المالك فيه إذن في التمليك، فيرجع
إلى كون المتصرف في تمليكه نفسه موجبا قابلا، وذلك جار في القبض
بل هو أولي منه ولاقترانه بقصد التمليك دونه.
ويتوجه عليه أنه لا مانع من اتحاد الموجب والقابل في العقود، كما هو
واضح، على أنك قد عرفت فيما تقدم أن الجمع بين الأدلة يقتضي كون
التصرف بنفسه مملكا للمتصرف بلا احتياج في ذلك إلى إذن المالك
الأصلي، لكي يلزم منه اتحاد الموجب والقابل، وأما القبض فهو
لا يتوقف على الملك حتى يلزم كونه مملكا من جهة الجمع بين الأدلة،
وهذا بخلاف بعض أقسام التصرف كالبيع والعتق والوطي، فإن ذلك
متوقف على الملك جزما، كما عرفته قريبا.
ما استدل به على لزوم المعاطاة
هل الأصل في المعاطاة وسائر العقود هو اللزوم أم هو الجواز؟
الظاهر هو الأول، وقد استدل عليه المصنف بوجوه شتى، منها:
146

1 - الاستدلال بأصالة اللزوم في الملك
لأنا إذا فرضنا حصوله بالبيع المعاطاتي ثم شككنا في زواله بفسخ أحد
المتعاطيين وعدم زواله اقتضى الاستصحاب بقاءه، وتوضيح ذلك يقع
في نواحي ثلاث:
الناحية الأولى: أن المراد من الاستصحاب المذكور هو الاستصحاب
الشخصي لا الكلي.
الناحية الثانية: إنا لو سلمنا كونه كليا إلا أنه لا محذور في جريانه في
المقام.
الناحية الثالثة: ما هو مقتضى القاعدة فيما إذا لم يتضح لنا أحدهما بل
دار الأمر بين كون الاستصحاب المزبور كليا وبين كونه شخصيا.
ثم إن الكلام في هذه النواحي مع الاغضاء عن عدم جريان
الاستصحاب في الأحكام الكلية الإلهية، وإلا فلا مورد للاستصحاب في
أمثال الموارد على ما حققناه في علم الأصول.
الناحية الأولى: أن المراد من استصحاب الملكية في المقام هو
الاستصحاب الشخصي، لأن الملكية لها حقيقة واحدة فإذا ترتبت على
البيع ونحوه من العقود المعاوضية وشككنا في بقائها وزوالها حكمنا
ببقائها من ناحية الاستصحاب، وليست لهذه الملكية حقائق متعددة لكي
يكون استصحابها كليا، وأما التزلزل والاستقرار فليسا من ناحية
الاختلاف في حقيقة الملك وماهيته، بل هما منتزعان من حكم الشارع
بجواز فسخ العقد وعدمه.
ومنشأ هذا الاختلاف إنما هو اختلاف عناوين المعاملات التي هي
موضوع لحكم الشارع بالملكية لا اختلاف حقيقة الملك.
147

وبتعبير آخر: أن مورد الاستصحاب الكلي ما يكون المشكوك فيه
مرددا بين الفرد الزائل والفرد الباقي، بحيث يكون الشك من ناحية تردد
المشكوك فيه بينهما، فإنه حينئذ يستصحب الكلي الجامع بين هذين الفردين.
ومثال ذلك: الحيوان المردد بين ما يعيش سنة وما لا يعيش إلا يوما
واحدا، وكالحدث المردد بين الأصغر الزائل بالوضوء والأكبر الذي
لا يرتفع إلا بالغسل، وغير ذلك من الأمثلة، وأما لو كان الشك من ناحية
بقاء الفرد الحادث وارتفاعه في نفسه لا من ناحية كون الحادث مرددا بين
الزائل والباقي، فإن المورد حينئذ إنما هو مورد الاستصحاب الشخصي،
وذلك كالشك في بقاء الأمور الشخصية وزوالها، ولا شبهة أن الملكية
من القبيل الثاني.
مثلا إذا وهب أحد ماله لشخص ثم رجع عن هبته وشككنا في أنها هبة
جائزة لكي تنفسخ بالفسخ أو هبة لازمة حتى لا تزول بالفسخ، إذا شك
في ذلك استصحبنا الملكية، لأن الشك في بقاء شخص الملكية وزوالها
من ناحية احتمال اقترانها بالرافع لا من جهة تردد هذه الملكية بين الفرد
الزائل والفرد الباقي، ومن الواضح أنه لو كان مجرد الشك في بقاء شئ
وزواله لاحتمال تحقق الرافع من الاستصحابات الكلية، لكان جل
الاستصحابات لو لم يكن كلها من قبيل الاستصحاب الكلي وهو واضح البطلان.
وإذن فلا يتوجه على استصحاب الملكية في المقام ما يتوجه على
الاستصحاب الكلي من المناقشات (1).

1 - قيل: إنا نرى بالعيان ونشاهد بالوجدان أن سبب الملك اللازم كالبيع يغاير سبب الملك
الجائز كالهبة تغايرا حقيقيا، وعليه فلو كانت الملكية الحاصلة منهما حقيقة واحدة وماهية
فاردة لزم من ذلك تأثير ماهيات كثيرة في ماهية واحدة، وهو محال، وإذن فالملك الجائز و
الملك اللازم مختلفان نوعا لاختلاف سببهما، وعلى هذا فاستصحاب الملكية مع الشك في
زوالها وبقائها من الاستصحابات الكلية لا الشخصية.
وأجاب عنه بعض المحققين من المشايخ، وإليك لفظه: إن اختلاف السبب بما هو سبب
كاشف قطعي عن اختلاف المسبب، وأما اختلاف ذات السبب فلا، لامكان تأثير السببين
بجامعهما أثرا واحدا، وهو الملك، وبخصوصيتهما حكمين مختلفين، وهما اللزوم والجواز.
وفيه: أن امكان تأثير الأسباب العديدة بجامعهما أثرا واحدا لا يكفي في اثبات اتحاد
المسبب لكي نستصحبه بشخصه مع الشك في بقائه وزواله، والتحقيق أن الجواب عن المناقشة
المزبورة بوجهين:
1 - إن في اطلاق السبب على عنوان المعاملة مسامحة واضحة، إذ لا تأثير له في الملكية
بوجه، غير أنه موضوع للملكية الشرعية أو العقلائية، ولا شبهة أن هذه الملكية تتشخص
باعتبار المعتبر، وإذن فالملكية المترتبة على عنوان المعاملة ملكية شخصية، فإذا شك في
بقائها وزوالها استصحبناها.
وبتعبير آخر أنه قد يراد من الملك مفهومه القابل للصدق على جميع أفراد الملك، ولا ريب
في أنه كلي، ولكنه خارج عن محل البحث، بداهة أن المترتب على المعاملة ليس هو المفهوم بل مصداقه.
وقد يراد به ما اعتبره المنشئ في عالم الاعتبار وأظهره بمبرز خارجي، ولا شبهة في أن
هذا جزء من عنوان المعاملة، كالصلح والهبة والبيع، ضرورة أنها عبارة عن الاعتبار النفساني
المظهر بمظهر خارجي، ولا شك في أن المعتبر النفساني ليس إلا أمرا شخصيا.
وقد يراد من الملك الملكية الشرعية، وبديهي أنها ليست إلا امضاء لما اعتبره المنشئ
فتكون شخصية بشخصية ما اعتبره المنشئ، وعليه فإذا شك في بقائه كان استصحابه من
الاستصحاب الشخصي.
2 - إن اختلاف الملكية في اللزوم والجواز إنما هو باختلاف المصالح التي دعت إلى اعتبار
الملك لازما تارة وجائزا تارة أخرى، ومن البديهي أن هذا أجنبي عن نفس الملكية التي هي
أمر اعتباري محض.
وقد تجلي لك من ذلك فساد ما قيل من أن الملكية المترتبة على المعاملات وإن كانت
شخصية ولكنها ذات مراتب شتى فتكون كلية من هذه الناحية، وإذن فالاستصحاب الجاري
فيها استصحاب كلي لا شخصي.
148

ثم إن المصنف (رحمه الله) قد أيد ما أفاده، من أن اللزوم والجواز من أحكام
السبب المملك لا من خصوصيات الملكية، بما حاصله:
أنه لو كان اللزوم والجواز من ناحية حقيقية الملك لكان تخصيص
القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين إما بجعل المالك أو بحكم الشارع،
وعلى الأول فيلزم تأثير قصد المالك في الرجوع وعدمه وهو واضح
البطلان، وعلى الثاني فيلزم امضاء الشارع العقد على غير ما قصده
المنشئ وهو أيضا بديهي الفساد، لما عرفته فيما تقدم قريبا من أن
العقود تابعة للقصود، فيستحيل أن يكون امضاء الشارع من حيث هو
امضاء على خلاف ما قصده المنشئ.
نعم يمكن أن يكون انشاء المنشئ موضوعا لحكم الشارع على
خلاف مقصود المنشئ، ولكنه غريب عن قاعدة تبعية العقود للقصود.
ولكن يرد عليه أن الملكية المنشأة في كل عقد إنما هو ملكية أبدية في
غير موارد جعل الخيار، وذلك لما بيناه في محله من استحالة الاهمال
في الواقعيات.
وعليه فالمجعول في الواقع إما مطلق أو مقيد، وبما أنه غير مقيد على
الفرض لعدم جعل الخيار فيه، فلا مناص عن كونه مطلقا.
وإذن فيلزم من امضاء الشارع العقد مقيدا تخلف العقد عن القصد،
سواء أقلنا بأن اللزوم والجواز من خصوصيات الملكية أم قلنا بأنهما من
أحكام السبب المملك، ولكن لا محذور في تخلف العقد عن القصد،
150

وقد وقع نظيره في موارد شتى، كبيع الصرف والسلم وغيره، وقد أشرنا
إلى ذلك في البحث عن كلام بعض الأساطين.
الناحية الثانية: إنا لو سلمنا كون استصحاب الملكية من الاستصحاب
الكلي، ولكن لا محذور في جريانه في المقام لأنه من القسم الثاني من
أقسام استصحاب الكلي الذي أثبتنا حجيته في مبحث الاستصحاب من
علم الأصول، وقد أشار المصنف إلى جريانه هنا بقوله (رحمه الله): مضافا إلى
امكان دعوى كفاية تحقق القدر المشترك في الاستصحاب، فتأمل.
وقد ناقش فيه المحقق الخراساني بما هذا نصه: لا مجال لدعوى
الكفاية على مختاره من عدم حجية الاستصحاب مع الشك في المقتضي،
كما لا شبهة في صحتها على ما هو المختار من حجيته (1).
وذكر السيد: أن ما ذكره المصنف (قدس سره) لا وجه له فيما إذا كان الشك
في المقتضي أصلا، إذ حينئذ لا ارتفاع حتى يقال إن الشك فيه مسبب عن
وجود الفرد القصير مثلا، والأصل عدمه (2).
ولكن التحقيق أن ما نحن فيه ليس من موارد الشك في المقتضي لكي
يتوجه على المصنف منافاة ما ذكره هنا لما بني عليه في الأصول،
وتحقيق المقام وبيان أن الشك هنا ليس من موارد الشك في المقتضي: أن
الأحكام المجعولة على ثلاثة أقسام:
الأول: ما يكون معلوم الدوام في نفسه ما لم يطرأ عليه رافع، كالملكية
والزوجية والطهارة والنجاسة وغيرها من الأمور الاعتبارية، فإنها
بنفسها مقتضى للبقاء ما لم يطرأ عليه رافع.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الخراساني: 13.
2 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 73.
151

الثاني: ما يكون مغيا بغاية معينة بحيث ينعدم ذلك بنفسه بعد حصول
تلك الغاية، من غير أن يكون له استعداد البقاء في عمود الزمان،
كالزوجية المنقطعة فإن ذلك ينصرم بنفسه بعد تحقق غايته بلا استناد إلى
عروض عارض له.
الثالث: ما يكون مشكوك الغاية، كما إذا تحققت زوجية بين رجل
وامرأة ولم يعلم كونها دائمية أو منقطعة.
أما القسم الأول، فلا شبهة في أن الشك في بقائه من قبيل الشك في
الرافع، فيجري فيه الاستصحاب على مسلك المصنف وغيره، وأما
القسم الثالث فلا شبهة في أن الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي،
فلا يجري فيه الاستصحاب على مسلك المصنف، لأن المتيقن إذا لم
يكن بنفسه مقتضيا للبقاء وقابلا للجري العملي على طبقه لاحتمال كونه
محدودا بحد معين لم يكن عدم ترتيب الآثار عليه عند الشك في بقائه من
مصاديق نقض اليقين بالشك.
وهذا الذي ذكرناه هو مراد المصنف مما أفاده في فرائده حول هذا
البحث مع ما ذكره في مبحث الخيارات من مكاسبه عند البحث عن أن
خيار الغبن هل هو فوري أم لا، ولكن لم يصل إلى مقصده غير واحد من
الأعلام.
وأما القسم الثاني فمع العلم بتحقق الغاية لا مجال لأن يجري فيه
الاستصحاب، كما أنه لا شبهة في جريان الاستصحاب فيه مع الشك في
بقائه قبل تحقق الغاية، لأن ذلك من موارد الشك في الرافع، وإذا شك في
حصول الغاية فحينئذ قد يكون الشك فيه من ناحية الشبهة الحكمية،
كالشك في أن الغاية لوجوب صلاتي المغرب والعشاء هل هي نصف
الليل أم هي طلوع الفجر، وقد يكون الشك في ذلك من ناحية الشبهة
152

المفهومية، كالشك في أن الغروب الذي جعل غاية لوجوب صلاتي
الظهر والعصر هل هو استتار القرص أم هو ذهاب الحمرة المشرقية،
وقد يكون الشك في ذلك من ناحية الشبهة الموضوعية، كالشك في
طلوع الشمس الذي جعل غاية لوجوب صلاة الصبح.
أما القسمان الأولان فالشك في موردهما من الشك في المقتضي،
فلا يجري فيهما الاستصحاب على مسلك المصنف، وأما الثالث
فلا شبهة في جريان الاستصحاب فيه لأن الشك في طلوع الشمس
وعدمه وإن لم يكن شكا في الرافع حقيقة، إذ الرافع إنما يكون زمانيا
لا نفس الزمان، ولكنه بمنزلة الرافع في أنظار أهل العرف، وإذن فيكون
ذلك مشمولا لأدلة حجية الاستصحاب هذا، وتفصيل الكلام في مبحث
الاستصحاب من علم الأصول.
والمتحصل من جميع ما ذكرناه أنا لو سلمنا عدم كون استصحاب
الملكية من الاستصحاب الشخصي، ولكنه من قبيل القسم الثاني من
أقسام الاستصحاب الكلي الذي لا شبهة في جريانه، وليس ذلك من
موارد الشك في المقتضي لكي يحكم بعدم جريان الاستصحاب فيه، بناء
على مسلك المصنف.
ثم إن المناقشات المتوجهة على القسم الثاني من أقسام الاستصحاب
الكلي وإن كانت كثيرة، ولكن المهم منها أمران:
ألف - إن وجود الكلي بوجود فرده وعدم الكلي بعدم فرده، وعليه
فالكلي في ضمن الحصة الزائلة مقطوع الزوال، وهو في ضمن الحصة
الأخرى مشكوك فيه من أول الأمر، وإذن فالكلي مردد بين مقطوع الزوال
ومشكوك الحدوث.
والجواب عن ذلك أن وجود الكلي ليس إلا عين وجود فرده، غاية
الأمر أن الفرد ملحوظ بشرط شئ، والكلي ملحوظ لا بشرط، أي عاريا
153

عن الخصوصيات الفردية والمشخصات الوجودية، وعليه فإذا كان
وجود الكلي أمرا يقينيا وكان التردد في خصوصياته صح أن يقال إنه
متيقن الوجود ويشك في بقائه، وإذن فتكون أركان الاستصحاب في نفس
الكلي تامة.
ب - إن الشك في بقاء الكلي وفي ما هو القدر المشترك بين الفردين
مسبب عن الشك في حدوث الفرد الذي يبقى معه القدر المشترك على
تقدير حدوثه، وإذا حكم بأصالة عدم حدوثه لزم منه ارتفاع القدر
المشترك، بديهة أن الأصل السببي حاكم على الأصل المسببي، على ما
حقق في محله.
والجواب عنه: أن الشك في بقاء الكلي وارتفاعه ليس مسببا عن
الشك في حدوث ذلك الفرد الذي نشك في حدوثه، بل إنما هو من لوازم
كون الحادث ذلك الفرد الذي لا يحتمل بقاؤه أو الفرد الذي لا يحتمل
ارتفاعه، ومن الواضح أنه ليس هنا أصل يعين أحدهما.
ومثال ذلك: أنه إذا تردد الحدث الصادر من المكلف بين الأكبر
والأصغر ثم توضأ، فإنه حينئذ يشك في ارتفاع ذلك الحدث وبقائه،
وعليه فلا يترتب على أصالة عدم حدوث الأكبر ارتفاع كلي الحدث إلا
بضميمة القطع بأن الحادث هو الحدث الأصغر، ومن البين أن هذا لا يثبت
بأصالة عدم حدوث الأكبر.
وأضف إلى ذلك أن أصالة عدم حدوث أي واحد من الفردين
معارض بدأ بأصالة عدم حدوث الفرد الآخر، وتسقطان بالمعارضة،
فيبقى استصحاب كلي الحدث سليما عن المعارض، وفي المقام أن
استصحاب عدم الفرد اللازم من الملكية يعارض استصحاب عدم الفرد
الجائز منها الذي يرتفع بالفسخ، فيسقطان بالمعارضة، فيرجع إلى
154

استصحاب نفس الكلي الذي هو متيقن سابقا ومشكوك فيه لاحقا.
ولعل المصنف (رحمه الله) قد أشار إلى هذين الاشكالين مع جوابهما بالأمر
بالتأمل.
الناحية الثالثة: أنه إذا قلنا بعدم جريان الاستصحاب في القسم الثاني
من الكلي، وشككنا في أن الاستصحاب فيما نحن فيه هل هو من
الاستصحاب الشخصي لكي يحكم بجريانه أم هو من الاستصحاب
الكلي لكي يحكم بعدم جريانه.
إذا كان الأمر كذلك، فإن كان المانع عن جريان الاستصحاب في الكلي
هو المناقشة الأولى المتقدمة قريبا - أعني بها تردد الكلي بين كونه في
ضمن الفرد الذي لا يحتمل بقاؤه وبين كونه في ضمن الفرد الآخر الذي
هو مشكوك الحدوث من الأول - فلا يجري الاستصحاب هنا، لأنه إذا
خرج القسم الثاني من الكلي عن أدلة الاستصحاب وشككنا في أن المورد
من القبيل الخارج أو من القبيل الباقي تحت العام كان التمسك بعموم تلك
الأدلة تمسكا بالعموم في الشبهة المصداقية، وهو لا يجوز على ما حقق
في محله.
وإن كان المانع عن ذلك هو المناقشة الثانية المتقدمة أيضا - أعني بها
حكومة الأصل السببي عليه - فلا مانع عن استصحاب الملكية، لأنه إن
كان الاستصحاب كليا فالمانع موجود وهو الأصل الحاكم، وإن كان
شخصيا فالمانع غير موجود، وحينئذ فيقع الشك في وجود المانع عن
استصحاب الملكية وعدم وجوده، ومن البين الذي لا ريب فيه أنه ما
لم يحرز الأصل الحاكم لا مانع عن جريان الأصل المحكوم.
وإذن فلا مانع عن استصحاب الملكية في المقام، ولعل هذا هو مراد
المصنف من قوله (رحمه الله): مع أنه يكفي في الاستصحاب الشك في أن
155

اللزوم والجواز من خصوصيات الملك أو من لوازم السبب المملك، بل
هذا هو أمس بكلامه، فإن الايراد المهم على جريان الاستصحاب في
القسم الثاني من الكلي هو الايراد الثاني.
ويمكن أن يكون غرضه من هذه العبارة أن المنع عن جريان استصحاب
الملكية مبني على احراز أن اللزوم والجواز من خصوصيات الملك، و
من الظاهر أنا إذا لم نحرز ذلك لم يكن مانع عن الاستصحاب المذكور.
وقد ذكر شيخنا الأستاذ بما حاصله (1):
أن المورد وإن كان من موارد التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إلا
أنه لا بأس به في المقام، بداهة أن المانع عن جريان الاستصحاب في
القسم الثاني من أقسام الكلي إنما هو العقل، من ناحية أن الكلي إن كان في
ضمن الفرد الزائل فهو مقطوع الزوال، وإن كان في ضمن الفرد الآخر فهو
مشكوك الحدوث، وعليه فإذا شككنا في مورد أنه من مصاديق
الاستصحاب الشخصي ليجري فيه الاستصحاب أو من مصاديق
الاستصحاب الكلي لكي لا يجري فيه ذلك حكمنا بجريانه فيه، ضرورة
أن المخصص لعموم لا تنقض اليقين بالشك دليل لبي فيقتصر فيه بالأفراد
المتيقنة ويتمسك في غيرها بعموم أدلة الاستصحاب - انتهى ملخص
كلامه.
والجواب عن ذلك: أن هذه الكبرى التي أفادها وإن كانت مسلمة في
نفسها - على ما نقحناه في علم الأصول - ولكنها لا تنطبق على ما نحن
فيه، بداهة أن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية فيما إذا كان هناك فرد
معلوم ودار أمره بين دخوله في أفراد المخصص وعدم دخوله في ذلك
من ناحية شبهة خارجية، كما إذا ترددت اليد الموضوعة على مال الناس

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 165.
156

بين كونها يد ضمان وكونها يد أمانة، وكالماء المردد بين كونه معتصما
وكونه غير معتصم، وكالعام المردد بين دخوله تحت الخاص ودخوله
تحت العام.
فإن أشباه هذه الأمثلة من صغريات التمسك بالعام في الشبهة
المصداقية، وأما إذا شك في صدق عنوان العام على فرد فهو ليس من
موارد التمسك بالعام قطعا، والمقام من هذا القبيل.
والسر في ذلك: أن قوام الاستصحاب إنما هو باتحاد القضية المتيقنة
مع القضية المشكوكة لكي يكون رفع اليد عن اليقين السابق من نقض اليقين
بالشك، ومن الظاهر أن هذا المعنى لم يحرز في المقام، إذ بناء على
المناقشة الأولى التي وجهوها على الاستصحاب الكلي كانت القضية
المتيقنة غير القضية المشكوكة، فإذا احتمل كون الاستصحاب من
الاستصحاب الكلي لم يمكن التمسك بأدلة الاستصحاب، لعدم احراز
انطباق العنوان المأخوذ فيها على مورد الشك.
ثم إنه ذكر السيد في حاشيته: أن التحقيق امكان استصحاب الفرد
الواقعي المردد بين الفردين، فلا حاجة إلى استصحاب القدر المشترك
حتى يستشكل عليه بما ذكرنا (1).
ويرد عليه أنه إن كان المراد من الفرد المردد ما هو مردد في الواقع
حتى في علم الله تعالى، فهو بديهي البطلان، إذ لا وجود للفرد المردد
في أي وعاء من الأوعية، وإن كان المراد منه الموجود المعين على
تردده، بمعنى أن المستصحب هو الوجود الخارجي مع قطع النظر عن
الخصوصيات المفردة، فهو عين الكلي لا شئ آخر وراءه.
قوله (رحمه الله): وكذا لو شك في أن الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز،

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 73.
157

كالصلح من دون عوض والهبة، نعم لو تداعيا احتمل التحالف في الجملة.
أقول: حاصل كلامه أنه كما تجري أصالة اللزوم في أي عقد شك في
لزومه وعدمه، كذلك تجري في أي عقد وقع في الخارج وشك في أنه
من القسم الجائز أو اللازم، لأنه حينئذ يشك في أن العقد الموجود في
الخارج هل يرتفع بالفسخ أم لا يرتفع بذلك فيستصحب بقاؤه، وتثبت به
نتيجة اللزوم، وعليه فتأثير الفسخ في العقد يتوقف على احراز أنه عقد
جائز وإلا فلا يؤثر فيه الفسخ، وهذا واضح لا شك فيه.
ومثال ذلك: أنه إذا وقع عقد في الخارج ودار أمره بين الصلح
بلا عوض لكي يكون لازما، وبين الهبة غير المعوضة لكي يكون جائزا،
إذا كان كذلك فإن كان النزاع هنا في لزوم العقد وجوازه من غير نظر إلى
عنواني الصلح والهبة، بأن يدعي أحد المتعاقدين لزوم العقد ويدعي
صاحبه جوازه، فيجب تقديم دعوى مدعي اللزوم، لأن دعواه موافقة
للأصل، فيكون منكرا، وإن كان النزاع في أن الواقع في الخارج هل هو
الصلح بلا عوض أم هو الهبة غير المعوضة، فيحكم بالتحالف، إذ
لا أصل لنا في المقام حتى يعين أحد الأمرين.
والجواب عن ذلك:
أولا: إن هاتين الصورتين كلتيهما من صغريات المدعي والمنكر
لا التداعي، ضرورة أن مصب الدعوى فيهما ليس إلا اللزوم والجواز،
لا كل واحد من عنواني الصلح والهبة، لأن الغرض من دعوى الصلح هو
اثبات لزوم العقد وعدم تأثير الفسخ فيه، كما أن الغرض من دعوى الهبة
هو اثبات جواز العقد وتأثير الفسخ فيه، وإذن فمرجع النزاع في المقام
إلى اللزوم والجواز، فيكون ذلك خارجا عن مورد التداعي.
وبتعبير آخر أن النظر في باب المرافعات إنما هو إلى الغرض الأقصى
158

وإلى النتيجة المترتبة على الدعوى، وعليه فإن كان قول كل من
المترافعين موافقا للأصل من ناحية ومخالفا له من ناحية أخرى فهو من
موارد التداعي، وإن كان قول أحدهما موافقا للأصل دون الآخر فهو من
موارد المدعي والمنكر، وأما كيفية ترتيب الدعوى من دون أن تكون
هذه الكيفية موردا للغرض فلا يترتب عليها أثر مهم في باب المرافعات.
وإذن فلا ثمرة لاثبات أن العقد الموجود في الخارج صلح بلا عوض أو هبة غير معوضة.
ثانيا: إنا لو سلمنا تعلق الغرض بأي واحد من عنواني الصلح والهبة،
ولكن لا نسلم انتهاء الأمر إلى التحالف، إذ يترتب الأثر على الأصل
الجاري في ناحية الهبة، وهو عدم جواز الرجوع إلى العين الموهوبة،
ضرورة أن جواز الرجوع إليها من آثار الهبة، ومن الظاهر أن أصالة عدم
كون العقد الواقع في الخارج هبة تنفي ذلك ابتداء، وتثبت عدم جواز
الرجوع بالمطابقة بلا احتياج إلى الواسطة العقلية في ترتب الأثر.
وأما الأصل الجاري في ناحية الصلح فلا يترتب عليه جواز الرجوع
إلا على القول بالأصل المثبت، لأن جواز الرجوع إلى العين من اللوازم
العقلية لعدم الصلح، ومن البين أنه لا معارضة بين الأصلين الذين ترتب
الأثر الشرعي على أحدهما دون الآخر (1).

1 - قد ذكر المصنف في خلال كلماته عند التكلم على أصالة اللزوم ما هذا لفظه: بل ربما
يزاد استصحاب بقاء علقة المالك الأول، ولم يتعرض لجوابه، نعم تعرض لهذا الاشكال
وجوابه في أوائل مبحث الخيارات.
والتحقيق أنه إن كان المراد من العلقة المالكية هو الملكية، فلا شبهة في ارتفاعها بالبيع
المعاطاتي، وليست هنا ملكية أخرى لكي نستصحبها وإلا لزم اجتماع المالكين في ملك واحد.
وإن كان المراد منها هو جواز الرجوع إلى العين واسترجاعها من الآخذ بالمعاطاة، فلا ريب
في أن ذلك لم يكن موجودا سابقا وأنه مشكوك الحدوث فعلا، فالأصل يقتضي عدمه دون بقائه.
وإن كان المراد منها أن الملكية الثابتة للمالك لها مراتب شتى التي لم يعلم زوال جميعها
بالبيع المعاطاتي، بل من المحتمل القريب أن الملكية إذا زالت بحدها الأقوى بقيت منها المرتبة
الضعيفة، كما أن الألوان تزول مرتبتها القوية وتبقى مرتبتها الضعيفة، إن كان المراد من بقاء
علقة المالك هو ذلك فيرد عليه:
أولا: إن الملكية من أية مقولة كانت - جدة أو إضافة - ليست قابلة للشدة والضعف حتى
تعتبر بحدها الضعيف تارة وبحدها القوي تارة أخرى، بل هي أمر بسيط فإذا زالت زالت بأصلها.
ثانيا: إنا لو سلمنا كون الملكية الحقيقية ذات مراتب، لكنا لا نسلم جريان ذلك في الملكية
الاعتبارية، بداهة أن اعتبار أية مرتبة منها مغائر لاعتبار مرتبتها الأخرى، وعليه فإذا زال
اعتبار المرتبة القوية لم يبق بعده اعتبار آخر.
وإن كان المراد من بقاء علقة الملك هو بقاء سلطنته وقدرته على التصرف في العين وعدم
جواز مزاحمته في تصرفاته في ذلك، إذ الملكية والسلطنة أمران متغائران ولذا ينفك أحدهما
عن الآخر كما سيأتي، فيتوجه عليه أن السلطنة وإن كانت مغائرة للملكية ولكن التغاير بينهما
من قبيل تغاير الحكم وموضوعه، لأن الملكية موضوع للسلطنة، وإذن فتدور السلطنة مدار موضوعها.
نعم قد ينفك أحدهما عن الآخر لدليل خاص، ولذا أن المحجور مالك ولكنه ممنوع عن
التصرف في ماله لسفه أو جنون أو صغر أو فلس، وأيضا أن الحاكم والولي والوصي لهم
السلطنة على أشخاص خاصة، ولكنهم ليسوا بمالكين.
قيل: إن المتيقن في المقام إنما هو سقوط الملكية، وأما السلطنة الثابتة للمالك فزوالها
مشكوك فيه فنستصحبها.
والجواب عن ذلك: أن قوام الاستصحاب إنما هو باتحاد القضية المتيقنة والقضية
المشكوكة، ومن الواضح أنه لا اتحاد بينهما في المقام، لأن القضية المتيقنة إنما هي السلطنة
المترتبة على الملك ترتب الحكم على موضوعه كما عرفته قريبا، والقضية المشكوكة إنما هي
السلطنة العارية عن الملك، إذ المفروض زوال الملكية بالمعاملة المعاطاتية.
وأضف إلى ذلك أن استصحاب السلطنة يقتضي ثبوتها للمالك الأول، بأن يكون له التصرف
في العين، ولا ريب في أن هذا لا يفيدنا شيئا، لأن غرضنا اثبات العلقة للمالك الأول بحيث
تسلب بها مالكية المتعاطي، ولا شك في أنه لم يكن للمالك الأول هذه السلطنة من أول الأمر،
وإذن فلا يكون استصحاب السلطنة حاكما على أصالة اللزوم.
159

2 - الاستدلال بدليل السلطنة
ومما استدل به المصنف على لزوم المعاطاة قوله (صلى الله عليه وآله): إن الناس
مسلطون على أموالهم (1).
وبيان الاستدلال بذلك على لزوم المعاطاة أنك قد عرفت فيما تقدم أن
المعاطاة تفيد الملكية، ومن الظاهر أن الملكية لا تنفك عن السلطنة
الفعلية على التصرف في المملوك بأنحاء التصرفات إلا مع قيام الدليل
الخارجي على الانفكاك، كما في موارد الحجر.
وعليه فسلطنة كل مالك تقتضي بقاء ماله في ملكه، ولا يجوز لغيره أن
يزاحمه في تصرفاته ويخرجه عن ملكه، فإن ذلك مناف لسلطنة المالك
الفعلية.
ومن هنا يندفع ما توهم من أن غاية ما يستفاد من الحديث أن المالك له
السلطنة على ماله فعلا، وهذا لا ينافي زوالها برجوع المالك الأصلي إلى
ما أعطاه لصاحبه بالبيع المعاطاتي، نعم يمكن اثبات الملكية للمالك
الثاني بعد رجوع المالك الأول إلى العين بالاستصحاب، إلا أنه رجوع عن
التمسك بدليل السلطنة إلى التمسك بالأصل الذي تقدم البحث عنه
تفصيلا.

1 - عوالي اللئالي 3: 208، الرقم: 49.
161

ووجه الاندفاع أن الحكم بعدم جواز انتزاع ملك المالك الثاني إنما هو
بهذه السلطنة الفعلية، ولا شبهة في أنها مانعة عن تأثير رجوع المالك
الأول في إزالة ملكيته، وعلى هذا فلا نحتاج إلى الاستصحاب لكي يكون
ذلك رجوعا عن التمسك بدليل السلطنة إلى التمسك بالاستصحاب.
ويتوجه على هذا الاستدلال:
أولا: إن النبوي المذكور ضعيف السند وغير منجبر بشئ، ولا أنه
مذكور في كتب الشيعة إلا مرسلا، ومن البين أنا لا نعتمد على المراسيل
في شئ من الأحكام الشرعية.
ثانيا: إن المقصود من النبوي المذكور بيان استقلال المالك في
التصرف في أمواله في الجهات المشروعة وعدم كونه محجورا عن
التصرف في تلك الجهات، وليس لغيره أن يزاحمه في ذلك.
وعليه فلا دلالة في الحديث على استقلال الملاك في التصرف في
أموالهم من جميع الجهات، وبأي تصرف من أنحاء التصرفات، وأيضا
لا دلالة فيه على استمرار السلطنة الفعلية للمالك وبقائه حتى بعد رجوع
المالك الأول في مورد المعاطاة، وقد تقدم تفصيل ذلك عند الاستدلال
على إفادة المعاطاة الملكية.
3 - الاستدلال بحرمة التصرف في مال الغير
ومما استدل به المصنف على لزوم المعاطاة قوله (عليه السلام): لا يحل مال
امرئ إلا عن طيب نفسه (1)، ووجه الاستدلال به على ذلك أن سبب حلية

1 - عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي، عن أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (رحمه الله)،
عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه، قال: فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير
إذنه (الإحتجاج: 479، اكمال الدين: 520، عنهما الوسائل 9: 540، 25: 386).
عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من كانت عنده أمانة
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه (الكافي
7: 273، الفقيه 4: 66، عنهما الوسائل 5: 120)، موثقة بزرعة وسماعة الواقفين.
وعن تحف العقول، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في خطبة حجة الوداع: أيها الناس إنما
المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه (تحف العقول: 34)، مرسلة.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: المسلم أخو المسلم، لا يحل ماله إلا عن طيب نفسه (عوالي
اللئالي 3: 473، عنه المستدرك 3: 331)، مرسلة.
وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه إلا بإذنه (عوالي اللئالي 1: 146، عنه
المستدرك 3: 331)، مرسلة.
عن محمد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم... لا يحل مال ألا
من وجه أحله الله (الكافي 1: 460، المقنعة: 46، التهذيب 4: 140، الإستبصار 2: 60، عنهم
الوسائل 9: 539)، مرسلة.
أقول: هذه هي الروايات التي تدل على حرمة التصرف في مال غيره بدون إذنه، وأما ما
نقله المصنف في المتن، من أنه: لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفسه، فلم نجده على هذه
الكيفية في كتب الحديث، ويحتمل قريبا وقوع السقط فيه.
162

التصرف في أموال الناس إنما هو منحصر برضى المالك، فلا يحل شئ
من التصرفات المالكية فيها إلا بإذنه ورضاه.
قيل: إن المستفاد من الرواية إنما هو حرمة التصرف في أموال الناس
بدون رضاهم، ولا ريب في أنه بعد رجوع المالك الأول إلى ما أعطاه
لصاحبه بالمعاطاة لم يبق موضوع لحرمة التصرف في مال غيره.
والجواب عنه: أن تعلق عدم الحل بمال غيره يشمل التملك أيضا،
ومن الواضح أنه لا معنى لحرمة التملك إلا فساده وعدم تأثيره في
الملكية، وعليه فمفاد الرواية أنه لا يحل التصرف في مال أحد ولا تملكه
بأي سبب من الأسباب إلا بطيب نفسه.
163

ولكن يتوجه على الاستدلال المزبور أن الحل في اللغة هو الاطلاق
والارسال، ويقابله التحريم فإنه بمعنى المنع والحجر، وقد تقدم في
البحث عن إفادة المعاطاة الملكية أن الحل بهذا المعنى يناسب الحلية
الوضعية والتكليفية كلتيهما.
وعليه فكما يصح استعمال لفظ الحل في خصوص الحلية الوضعية
أو التكليفية، كذلك يصح استعماله فيهما معا، ويختلف ذلك حسب
اختلاف القرائن والموارد.
مثلا إذا أسند لفظ الحل إلى الأمور الاعتبارية كالبيع ونحوه، أريد منه
الحل الوضعي والتكليفي معا، وإذا أسند ذلك إلى الأعيان الخارجية
أريد منه الحل التكليفي فقط، أعني به الترخيص في الفعل، كقوله تعالى:
ويحل لهم الطيبات (1)، وهكذا الحال في لفظ التحريم، وعليه فلفظ
الحل في الرواية الشريفة إنما نسب إلى المال، وهو إما من الأعيان
الخارجية أو من المنافع، وعلى كلا التقديرين فلا معنى لحلية ذلك إلا
باعتبار ما يناسبه كالتصرف.
وإذن فيراد من حلية المال حلية التصرف فيه، كما أن المراد من حلية
المأكولات حلية استعمالها، وهكذا في كل مورد من الموارد حسب ما
تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع.
وعلى هذا فمعنى الرواية أن الشارع المقدس لم يرخص في التصرف
في مال امرئ إلا بطيب نفسه، وإذن فهي أجنبية عما نحن فيه.
4 - الاستدلال بآية التجارة عن تراض
ومما استدل به المصنف (رحمه الله) على لزوم المعاطاة قوله تعالى: يا أيها

1 - الأعراف: 157.
164

الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض
منكم (1).
وملخص كلامه أن الاستدلال بهذه الآية على لزوم البيع المعاطاتي،
بل على لزوم مطلق التجارة عن تراض، تارة بعقد المستثنى وهو قوله
تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض، وأخرى بعقد المستثنى منه، وهو
قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.
أما العقد الأول، فمفاده أنه لا يجوز لأحد أن يتملك أموال الناس
بسبب من الأسباب الباطلة التي لم يمضها الشارع، كالقمار والغزو والبيع
الربوي وبيع المنابذة والملامسة والحصاة وأشباه ذلك، إلا أن يكون هذا
السبب تجارة عن تراض، وعلى هذا فالآكل في الآية الشريفة كناية عن
التملك والتصرف، كما هو المتعارف في كلمات الفصحاء بل في كل لغة.
وإذن فتدل الآية على أن حلية تملك أموال الناس بالأسباب الصحيحة
منحصرة في التجارة عن تراض، فإن غيرها من أسباب المعاملات التي
منها التملك بالفسخ فاسدة، ولا يفرق في انفهام الحصر من الآية الشريفة
بين كون الاستثناء متصلا - كما هو الظاهر والموافق للقواعد العربية - وبين
كونه منقطعا، وقد تقدم تفصيل ذلك عند الاستدلال بالآية على كون
المعاطاة مفيدة للملك.
وأما العقد الثاني، فمفاده أن تملك أموال الناس بغير رضى منهم
تملك بالباطل عرفا وشرعا، إلا أن يأذن به الشارع الذي هو المالك
الحقيقي، وعليه فيكون تملك المال بالفسخ أكلا له بالباطل إلا أن يثبت
جواز الفسخ بتعبد شرعي، بأن يحكم الشارع بجواز التملك بالفسخ
ونحوه من دون رضي المالك، وحينئذ فيكون التملك بالفسخ خارجا
عن الأكل بالباطل.

1 - النساء: 33.
165

وعلى هذا فشأن التملك بالفسخ الثابت شرعا شأن أكل المارة من
ثمرة الشجرة الممرور بها والأخذ بالشفعة، وغيرهما من الموارد التي
قد أذن الشارع في التصرف في أموال الناس بدون إذنهم.
ومن هنا اتضح لك جليا أن التوهم المتقدم في التكلم على الروايتين،
وهما دليل السلطنة ودليل حرمة التصرف في أموال الناس غير جار في
المقام لكي نحتاج إلى جوابه، لأن المستفاد من الآية كما عرفته إنما هو
حصر تملك أموال الناس على الوجه الشرعي في التجارة عن تراض،
وأن غير ذلك يعد من الأسباب الباطلة.
وإذن فلا يبقى مجال لتوهم أن كون المأخوذ بالمعاطاة مال الآخذ بعد
رجوع المالك الأول إليه أول الكلام، وهذا واضح لا خفاء فيه.
وفي بعض نسخ المتن هكذا: إن التوهم المتقدم جار هنا (1)، ولكنه
سهو من قلم النساخ، بديهة أن صريح كلام المصنف على خلافه،
ويمكن أن يكون الغرض من هذه العبارة أن التوهم المتقدم جار هنا مع
جوابه ولكنه خلاف الظاهر منها.
ويرد عليه أن هذا الاستدلال مبني على أن يكون المراد من الباطل هو
الباطل العرفي لكي يكون ذلك أمرا معلوما في نظر أهل العرف ومتميزا
عن السبب الصحيح.
وأما لو أريد منه الباطل الواقعي، كما هو الظاهر، لأن الألفاظ
موضوعة للمفاهيم الواقعية، أو احتملت إرادة ذلك من كلمة الباطل في
الآية، فلا يمكن الاستدلال بها على المقصود، لأنا نحتمل احتمالا
عقلائيا أن يكون الفسخ من الأسباب الصحيحة للأكل لا من الأباطيل
الواقعية.

1 - أيد الشهيدي في شرحه ضرورة هذه الزيادة، أنظر هداية الطالب: 170.
166

وعليه فيكون التمسك بالآية في المقام من قبيل التمسك بالعام في
الشبهات المصداقية، وهذا ظاهر.
5 - الاستدلال بدليل وجوب الوفاء بالشرط
ومما استدل به المصنف (رحمه الله) على لزوم المعاطاة قوله (صلى الله عليه وآله):
المؤمنون عند شروطهم (1)، وحاصل كلامه هنا أن الشرط في اللغة
عبارة عن مطلق الالتزام، فيشمل الالتزامات المعاملية، سواء أكانت
مبرزة بمظهر قولي أم كانت مبرزة بمظهر فعلي، وعليه فمعنى الرواية
هو أن المؤمن ملزم بشرطه وأن شرطه لا يزول بالفسخ.
والجواب عن هذا الاستدلال:
أولا: أن الشرط في اللغة بمعنى الربط بين شيئين، وقد أشير إليه فيما
حكي عن القاموس من أن الشرط هو الالتزام في بيع ونحوه، وفي أقرب
الموارد: شرط عليه في البيع ونحوه شرطا ألزمه شيئا فيه، وإذن
فالشروط الابتدائية خارجة عن حدود الرواية (2).
ثانيا: إنا لو سلمنا شمول الرواية للشروط الابتدائية، ولكن ليس
المراد من الالتزام هو الالتزام الوضعي، بمعنى أن ما التزم به المؤمن
لا يزول بفسخه، بل المراد من ذلك أنما هو الالتزام التكليفي، أي يجب

1 - عن منصور بزرج عن عبد صالح (عليه السلام) قال: قلت له: إن رجلا من مواليك تزوج امرأة -
إلى أن قال (عليه السلام) - قل له: فليف للمرأة بشرطها، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: المؤمنون عند
شروطهم (الكافي 5: 404، التهذيب 7: 371، الإستبصار 3: 232، عنهم الوسائل 21: 276)،
موثقة بابن فضال.
وقد ذكر في جملة من الروايات: المسلمون عند شروطهم، وفي بعضها: فإن المسلمون عند
شروطهم (الكافي 5: 169، التهذيب 7: 22 و 467، عنهم الوسائل 18: 17).
2 - بالتخصص لا بالتخصيص - المحاضرات 2: 68.
167

على كل مؤمن الوفاء بشرطه لأنه من علائم الايمان، وعلى هذا فشأن
الرواية شأن قولنا: إن المؤمن عند عدته.
6 - الاستدلال بدليل وجوب الوفاء بالعقد
ومما استدل به المصنف على لزوم المعاطاة قوله تعالى: أوفوا
بالعقود (1).
لا ريب في دلالة هذه الآية الكريمة على لزوم البيع المعاطاتي، بل
على لزوم كل عقد، لأن معنى الوفاء هو التمام، ومن هنا يقال: الدرهم
الوافي أي الدرهم التام، ومعنى العقد أما العهد المطلق كما صرح به
بعض أهل اللغة (2)، أو العهد الوثيق كما صرح به بعض آخر من أهل اللغة
أيضا (3).
والمراد من الأمر بالوفاء بالعقد هو الارشاد إلى لزومه وعدم انفساخه
بالفسخ، إذ لو كان الأمر بالوفاء تكليفيا لكان فسخ العقد حراما، وهو
واضح البطلان، وعليه فمفاد الآية أنه يجب الوفاء بكل ما صدق عليه
عنوان العقد عرفا، ومن الواضح جدا أن المعاطاة عقد عرفي كسائر
العقود فتكون مشمولة لعموم الآية (4).

1 - المائدة: 1.
2 - كما في صحيحة عبد الله بن سنان، راجع تفسير القمي 1: 160، تفسير العياشي
1: 289.
3 - لسان العرب 9: 309، القاموس 1: 315، مجمع البحرين 3: 103.
4 - وتوهم اعتبار اللفظ في صدق العقد واضح البطلان، فإن العقد عبارة عن شد أحد
الالتزامين وعقده بالآخر، سواء كان هناك لفظ أو لم يكن، فيعم المعاطاة - المحاضرات 2: 67.
168

7 - الاستدلال بأدلة خيار المجلس
ومما استدل به المصنف على لزوم المعاطاة الأخبار الدالة على لزوم
البيع ووجوبه بعد تفرق المتبايعين (1)، وقد عرفت أن المعاطاة بيع
بالحمل الشايع فتكون مشمولة لعموم تلك الروايات.
قيل: إن هذه الروايات وإن دلت على لزوم البيع بعد تفرق المتبايعين
عن مجلس العقد، إلا أن المراد من اللزوم إنما هو اللزوم من ناحية خيار
المجلس فقط لا من جميع النواحي وعلى وجه الاطلاق، وإذن فتبعد
تلك الروايات عما نحن فيه.
والجواب عن ذلك: أن هذا الاحتمال وإن كان ممكنا في مقام الثبوت
ولكنه خلاف الظاهر من الروايات المزبورة في مقام الاثبات، فإن اطلاقها
يقتضي اللزوم على وجه الاطلاق بعد التفرق، فلا موجب لصرفها إلى
اللزوم من ناحية خيار المجلس، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
تتمة البحث عما يرجع إلى لزوم المعاطاة
ربما يتوهم أن الظاهر فيما نحن فيه قيام الاجماع على عدم لزوم
المعاطاة، بل ادعاه صريحا بعض الأساطين في شرحه على القواعد (2)،
وتعاضده الشهرة المحققة بين الأصحاب، بل لم يوجد قائل باللزوم إلى
زمان بعض متأخري المتأخرين (3)، نعم نسب هذا الرأي إلى المفيد (رحمه الله) (4)

1 - كقوله (صلى الله عليه وآله): البيعان بالخيار ما لم يفترقا، عوالي اللئالي 3: 209، الرقم: 51.
2 - شرح القواعد للشيخ الكبير كاشف الغطاء: 49 (مخطوط).
3 - كالمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 144، والمحدث الكاشاني في مفاتيح
الشرايع 3: 48.
4 - المقنعة: 591.
169

إلا أن العبارة المحكية عنه لا تدل على ذلك (1)، بل ادعى في الغنية (2)
الاجماع على عدم كون المعاطاة بيعا، ولا شبهة في أن هذه الدعوى
صريحة في عدم لزوم المعاطاة.
ولكن هذا التوهم فاسد، إذ لا يرجع شئ من الأمور المذكورة إلى
معنى محصل:
أما الاجماع المحصل فهو غير حاصل جزما لأن مدركه إنما هو القطع
بقول الإمام (عليه السلام)، ومن الظاهر أن منشأ هذا القطع أما العلم بوجود الإمام
(عليه السلام) بين المجمعين، أو قاعدة اللطف التي أسسها الشيخ الطوسي (رحمه الله)،
أو الحدس القطعي.
أما الأول فهو بديهي الفساد لعدم العلم بوجود الإمام (عليه السلام) بين القائلين
بأن المعاطاة تفيد الملكية الجائزة.
وأما الثاني فلأن قاعدة اللطف غير تامة كما حقق ذلك في محله.
وأما الثالث فلأن من المحتمل القريب بل ومن المظنون قويا أن كثيرا
من القائلين بكون المعاطاة مفيدة للملكية الجائزة إنما استندوا في رأيهم
هذا إلى وجوه أخر، وإذن فليس لنا في المقام اجماع محصل تعبدي.
وأما الاجماع المنقول فلا دليل على حجيته، وقد ذكرنا ذلك في علم
الأصول، ويضاف إليه أنه لا أساس لنقل الاجماع إلا حصوله في زمان،
فإذا اضمحل الاجماع المحصل لما ذكرناه قريبا اضمحل الاجماع
المنقول أيضا.
وأما ما ذكره في الغنية من قيام الاجماع على أن المعاطاة ليست ببيع،

1 - كما عن المختلف 5: 51 الاعتراف به، وقد مر.
2 - الغنية: 214.
170

فهو واضح البطلان، لأن المعاطاة بيع بالحمل الشايع، ومفهوم البيع من
المفاهيم العرفية، ومن البديهي أنه لا معنى لقيام الاجماع التعبدي على
المفاهيم العرفية اثباتا أو نفيا، إلا أن يكون مراده من ذلك نفي الصحة
أو اللزوم، وعليه فيجاب عنه بأن الاجماع المنقول لا دليل على حجيته.
وأما الشهرة فقد ذكرنا في علم الأصول أنه لم يقم دليل على حجيتها
لأنها لا تفيد إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، ومع الاغضاء عن
ذلك أن الشهرة قد قامت على أن المعاطاة تفيد الإباحة ولم تقم على أنها
تفيد الملكية الجائزة، ضرورة أن القول بالملكية لم يكن مغروسا بين
قدماء الأصحاب، وإنما ذهب إليه المحقق الكركي وشيد أساسه، ثم
تبعه جمع من متأخري المتأخرين حتى اشتهر بينهم (1).
وإذن فتبعد الشهرة عن دعوى الملكية فضلا عن كونها مؤيدة
لحصولها، إلا أن يكون غرض المدعي من الشهرة هو الشهرة بين
متأخري المتأخرين، ولكن هذه الشهرة معارضة مع الشهرة بين القدماء
القائمة على أن المعاطاة تفيد الإباحة.
وعلى الجملة إنا لو فرضنا ثبوت الاتفاق من العلماء على عدم لزوم
المعاطاة لم يكشف ذلك عن الدليل المعتبر، بديهة أن قيام الاجماع على
نفي اللزوم سالبة بانتفاء الموضوع، كما نبه عليه المصنف، إذ القول
باللزوم فرع الملكية، ومن الظاهر أنه لم يقل بها إلا المحقق الثاني وجمع
ممن تأخر عنه، وأما قدماء الأصحاب فذهبوا إلى أن المعاطاة تفيد
الإباحة.
قوله (رحمه الله): بل يمكن دعوى السيرة على عدم الاكتفاء في البيوع الخطيرة التي
يراد بها عدم الرجوع بمجرد التراضي.

1 - كالمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 139.
171

أقول: حاصل كلامه أن السيرة قائمة على عدم الاكتفاء بالتعاطي في
الأشياء الخطيرة والأمتعة المهمة، بل الناس ينشؤون فيها البيع بالألفاظ
المتداولة بينهم، نعم يكتفون بالتعاطي في الأشياء الزهيدة، والأمتعة
المحقرة، ولا يلتزمون فيها بعدم جواز الرجوع.
ويرد عليه أن السيرة المزبورة لا تصلح لتقييد الأدلة المتقدمة الدالة
على لزوم المعاطاة، بديهة أن عدم اكتفاء الناس بالتعاطي في المعاملات
المهمة ليس من ناحية السيرة، بل إنما هو من جهة تقليدهم لعلمائهم
القائلين بكون المعاطاة مفيدة للإباحة.
وأضف إلى ذلك أن الالتزام بهذه السيرة يقتضي الفرق بين المعاطاة
في الأشياء الخطيرة وبين المعاطاة في الأشياء الحقيرة، ومن الواضح أنه
لم يلتزم به المشهور من الأصحاب وإن ذهب إليه بعض العامة (1)، ولكنه
مخالف لاطلاق الأدلة الدالة على لزوم المعاطاة (2).

1 - عن الشافعية أنه لا ينعقد البيع بالمعاطاة، نعم مال صاحب الاحياء إلى جواز البيع بها
في الأشياء اليسيرة، لأن الايجاب والقبول يشق في مثلها عادة - الفقه على المذاهب الأربعة 2:
155.
2 - قوله (رحمه الله): من اعتبر مطلق اللفظ.
الظاهر وقوع الاشتباه في بيان كلام المسالك، فإن الاكتفاء بمطلق اللفظ في اللزوم أو اعتبار
لفظ مخصوص فيه أجنبي عما نحن فيه، وعما حكاه المصنف عن المسالك، وإنما هي مسألة
أخرى سنتعرض لها في محلها، ولا بأس بنقل نص عبارة المسالك، فإنه قال عند شرح قول
المحقق: سواء كان في الحقير أو الخطير، ما نصه:
رد على بعض العامة، حيث اكتفى بالمعاطاة في المحقرات وأقامها فيه مقام البيع،
واختلفوا في تحديدها، فقال بعضهم: ما لم يبلغ نصاب السرقة، وأحالها آخرون على العرف
كرطل الخبز وغيره مما يعتاد فيه المعاطاة، وهو تحكم، والذي اختاره متأخروا الشافعية
وجميع المالكية انعقاد البيع بكل ما دل على التراضي وعده الناس بيعا، وهو قريب من قول
المفيد وشيخنا المتقدم، وما أحسنه وأمتنه دليله، إن لم ينعقد الاجماع على خلافه، انتهى.
قوله (رحمه الله): كان متعارفا.
من الواضح أن تعارف البيع اللفظي لا يضر ما نحن بصدده من إفادة المعاطاة الملك اللازم -
المحاضرات 2: 69.
172

نظرة في الاستدلال بلزوم المعاطاة ببعض الأخبار المذكورة
قوله (رحمه الله): وقد يظهر ذلك من غير واحد من الأخبار.
أقول: قد ذكر السيد في شرح هذه العبارة ما هذا نصه:
يعني يظهر اشتراط اللزوم بكون انشاء المعاملة باللفظ في الجملة،
ولعل نظره في ذلك إلى ما أشرنا إليه سابقا - أي عند الاستدلال على
صحة المعاطاة - من الخبر الوارد في بيع المصحف والوارد في بيع أطنان
القصب، ويمكن أن يكون نظره إلى ما سينقله من الأخبار التي ادعى
اشعارها أو ظهورها (1).
والتحقيق أنه إن كان نظر المصنف - من العبارة المتقدمة - إلى ما أفاده
السيد، فلا نعقل له وجها صحيحا، بديهة أنه لا دلالة في الخبر الوارد في
بيع المصحف ولا في الخبر الوارد في بيع أطنان القصب ولا في الروايات
الآتية - الواردة في أن المحلل والمحرم هو الكلام - لا دلالة في شئ من
هذه الروايات (2) على اعتبار اللفظ في لزوم البيع، فإنها غير ناظرة إلى كيفية
انشاء البيع، وإن كان نظره إلى غيرها من الروايات فلم نجدها في أصول
الحديث ولا في كتب الاستدلالية.
وأضف إلى ذلك أنه لو كانت هنا رواية تدل على اعتبار اللفظ في لزوم
البيع لتمسك بها المصنف في المقام، ولم يحتج إلى التمسك بالسيرة،

1 - حاشية المكاسب للعلامة الطباطبائي: 74.
2 - سيأتي قريبا التعرض لجميع هذه الروايات في الهامش.
173

بل لم يبق مجال لقوله (رحمه الله): بل يظهر منها أن ايجاب البيع باللفظ دون
مجرد التعاطي كان متعارفا بين أهل السوق والتجار، ضرورة أنه بعد
وجود الرواية المعتبرة الدالة على اعتبار اللفظ في لزوم البيع لا تصل
النوبة إلى الأمور الاستحسانية.
ولكن نحتمل قويا أن تكون كلمة ذلك في قوله (رحمه الله): وقد يظهر ذلك
من غير واحد من الأخبار، إشارة إلى ما ذكره قبل هذه العبارة من جعل
اللفظ من جملة القرائن على قصد التمليك بالتقابض، فإن هذا المعنى
يظهر من الروايات العديدة (1)، بل يظهر من جملة منها (2) إن انشاء البيع
باللفظ كان متعارفا بين التجار وأهل السوق، وعلى هذا فلا وهن في كلام
المنصف (رحمه الله).
الاستدلال بحديث: إنما يحلل الكلام - الخ
قوله (رحمه الله): بقي الكلام في الخبر (3) الذي تمسك به في باب المعاطاة.
أقول: قد استدل بهذا الخبر تارة على أن المعاطاة لا تفيد إباحة
التصرف، وتارة أخرى على أنها ليست بلازمة، جمعا بينه وبين ما دل

1 - هي الروايات الدالة على كون المشتري مختارا في ايجاب البيع وعدمه بعد المقاولة
على المبيع الشخصي غير الموجود عند البائع، الوسائل 18: 303 إلى 310، الباب 11 من
أبواب السلف.
2 - هي الروايات المشعرة باعتبار اللفظ في انشاء العقود، وسنتعرض لها قريبا في
الحاشية.
3 - المروي عن خالد بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيئني فيقول
اشتر هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، فقال: أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك، قلت: بلي، قال: لا
بأس به إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام - وفي نسخة الكافي المطبوعة قد ذكر ابن نجيح بدل
ابن الحجاج - وعلى كلا التقديرين فالرواية مجهولة، لأنهما مجهولان (الكافي 5: 200).
174

على صحة مطلق البيع (1)، كما صنعه في الرياض (2).
ثم إنه قد احتمل المصنف في قوله (عليه السلام): إنما يحلل الكلام ويحرم
الكلام (3)، وجوها أربعة:
1 - أن يراد من الكلام في المقامين اللفظ الدال على التحريم والتحليل،
بأن يختص التحليل والتحريم بالنطق.
2 - أن يراد به اللفظ مع مضمونه، ويكون الغرض أن المطلب الواحد
من حيث الحكم الشرعي يختلف باختلاف المضامين المؤدات بالكلام.
3 - أن يراد من الكلام في الفقرتين الكلام الواحد، ويكون الاختلاف
في التحريم والتحليل باعتبار الوجود والعدم، وقد بني المحدث
القاساني على هذا المعنى في الوافي وقال: الكلام هو ايجاب البيع
وإنما يحلل نفيا، وإنما يحرم اثباتا (4).
4 - أن يراد من الكلام المحلل خصوص المقاولة ومن الكلام المحرم
ايجاب البيع، لأنه بيع قبل الشراء، وهو ليس بجائز.

1 - قد ورد: إنما يحرم الكلام فقط في ثلاث روايات في باب المزارعة، منها رواية أبي
الربيع الشامي التي نقلها المصنف، وهي متعرضة للنهي عن النطق، أعني تسمية البقر والنذر،
بخلاف الرواية المتقدمة، فإنه ليس فيها تعرض للكلام، والسؤال في هذه الرواية لو لم يكن
مشتملا على قوله: وأربحك كذا، لأمكن حمله على التوكيل في الشراء بجعالة، إلا أن:
أربحك، ظاهر في الشراء، ولذا فصل الإمام (عليه السلام) في الجواب بقوله: اشتر لي، إن كان
مجرد مقاولة بحيث إن شاء أخذ بعد ذلك وإن شاء ترك، فلا مانع، لأن البيع يكون بعد شرائه وإن
كان شراء لم يصح لأنه من بيع ما لم يملك، وهو فاسد - المحاضرات 2: 71.
2 - الرياض 1: 511.
3 - ما ذكره شيخنا المحقق (قدس سره) من أن النسخة الموجودة عنده كانت هكذا: إنما يحل
الكلام ويحرم الكلام، لا بد من حمله على غلط النسخة - المحاضرات 2: 70.
4 - الوافي 3: 95.
175

ولا يخفي عليك أن أساس الاستدلال بالخبر المذكور على عدم لزوم
المعاطاة، أو على عدم إفادتها الملكية، أو على عدم إفادتها إباحة
التصرف مبني على الوجه الأول.
وبيان ذلك أنه يستفاد من ذلك الخبر أن المحلل والمحرم في الشريعة
المقدسة إنما هو منحصر في الألفاظ المبرزة للمقاصد، وأنه لا يقع
التحليل والتحريم بالقصد الساذج غير المبرز بمبرز ولا بالقصد المبرز
بغير الألفاظ.
وعلى هذا فلا وجه لما التزم به صاحب الرياض (1) من الاستدلال بالخبر
المزبور على عدم لزوم المعاطاة، جمعا بينه وبين ما دل على صحة
مطلق البيع.
ويرد عليه:
أولا: إن حصر المحلل والمحرم في الكلام يستلزم التخصيص
بالأكثر، لكثرة المحلل والمحرم في الشريعة المقدسة من غير الألفاظ،
ضرورة أن تنجس المأكولات والمشروبات محرم، وتطهيرها محلل،
والتذكية محللة وعدمها محرم، وغليان العصير العنبي محرم وذهاب
ثلثيه محلل، وصيرورة العصير خمرا محرم وتخليلها محلل، والجلل
محرم لما يؤكل لحمه واستبراؤه محلل، وخلط المال الحرام بالمال
الحلال محرم وتخميسه محلل.
وأيضا وطي الحيوان الذي يؤكل لحمه محرم، والدخول بالمرأة
محرم لتزويج بنتها، والايقاب في الغلام محرم لتزويج أمه وبنته وأخته،
وأيضا قد جوز الشارع المقدس التصرف في أموال الناس في موارد شتى
من دون أن يكون فيها محلل كلامي، وذلك كالتصرف في الأراضي

1 - الرياض 1: 511.
176

الواسعة والأنهار الكبار، وكأكل المارة من ثمرة الشجرة الممرور بها، بل
ورد في القرآن الكريم جواز الأكل من بيوت الأصدقاء والأحباء وإن لم يدل عليه إذن لفظي (1).
وأيضا قد اتفق المسلمون من الشيعة وأهل السنة على انثلام ذلك
الحصر في باب العقود أيضا، فإنهم قد التزموا بجواز التصرف في
المأخوذ بالمعاطاة، سواء أكانت المعاطاة مفيدة للملك أم كانت مفيدة
للإباحة، ولم ينسب إلى أحد فساد ذلك إلا إلى العلامة في بعض كتبه (2)،
وقد ثبت رجوعه عن هذا الرأي في بعض كتبه الأخرى (3)، ودعوى
انصراف الخبر عن الأمور المذكورة لكيلا تلزم كثرة التخصيص دعوى
جزافية.
ثانيا: إن الرواية لا تنطبق على هذا الوجه، إذ المستفاد منها أن السائل
قد سأل الإمام (عليه السلام) عن الرجل يقاوله ويقول له: اشتر هذا الثوب أربحك
كذا وكذا، وأجاب الإمام (عليه السلام) عن هذا السؤال بأنه: أليس إن شاء أخذ
وإن شاء ترك، قال السائل: بلي، قال الإمام (عليه السلام): لا بأس به إنما يحلل
الكلام ويحرم الكلام، وعليه فهذه الرواية - سؤالا وجوابا - أجنبية عن
مورد المعاطاة، وإنما هي تبين حكم البيع قبل الاشتراء.
والذي نفهمه من الرواية - ولو بقرينة الروايات التي ذكر فيها قوله
(عليه السلام): إنما يحرم الكلام، وسيأتي قريبا التعرض لها في الحاشية - أن

1 - ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على
أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت
أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكت
مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو اشتاتا - الآية، النور: 60.
2 - نهاية الإحكام 2: 449.
3 - كما في التحرير 1: 164.
177

المضمون الواحد إذا أنشئ بكلام كان محللا، وإذا أنشئ بكلام آخر
كان محرما، أو أن الكلام الواحد يكون محللا في مورد ومحرما في مورد
آخر، وذلك لأن الكلام من قبيل الأعراض، وقد ثبت في محله أن الزمان
والمكان مفردان للأعراض.
وهذان الوجهان صرح بهما المصنف عند التكلم على المعنى الثاني
والثالث.
وتوضيح ذلك أنه ثبت في الشريعة المقدسة أن ايجاب الطلاق ببعض
الألفاظ الدالة على بينونة الزوج عن الزوجة لا يكون محرما ولا محللا،
مثلا: إذا قال الرجل لزوجته: أنت برية أو خلية أو طلقتك، لم يؤثر ذلك
في البينونة، ولا يحل للمرأة التزويج بزوج آخر، وإذا قال الرجل
لزوجته: أنت طالق، أو هي طالق، أو زوجتي طالق، بانت عنه زوجته
ويحل لها التزويج بزوج غيره.
وإذن فالمضمون الواحد وهو بينونة الزوج عن الزوج إذا أبرز بكلام
كان محرما ومحللا، وإذا أبرز بكلام آخر لم يكن محرما ولا محللا.
وهذه بين يدينا الأخبار الواردة في المزارعة، فإنها تصرح بأن جعل
أجرة الزرع للبذر والبقر محرم، وعدمه محلل (1).

1 - عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يزرع أرض آخر،
فيشترط عليه للبذر ثلثا وللبقر ثلثا، قال: لا ينبغي أن يسمي بذرا ولا بقرا، فإنما يحرم الكلام
(الكافي 5: 267، التهذيب 7: 197، عنهما الوسائل 19: 40).
وعن عبد الله بن سنان أنه قال في الرجل يزارع فيزرع أرض غيره، فيقول: ثلث للبقر
وثلث للأرض وثلث للبذر، قال: لا تسم شيئا من الحب والبقر، ولكن تقول: ازرع فيها كذا
وكذا إن شئت نصفا وإن شئت ثلثا (الكافي 5: 267، التهذيب 7: 197).
وعن الحلبي قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثا
للبقر ثلثا، قال: لا ينبغي أن يسمي شيئا فإنما يحرم الكلام (الكافي 5: 267).
وعن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله، وزاد قبل قوله: فإنما يحرم الكلام:
ولكن يقول لصاحب الأرض: أزرع في أرضك ولك منها كذا وكذا نصف أو ثلث أو ما كان من
شرط، ولا يسمي بذرا ولا بقرا (الفقيه 3: 158، المقنع: 130، التهذيب 7: 194).
178

ويضاف إلى ذلك ما رواه البجلي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
الرجل يجيئني يطلب المتاع فأقاوله على الربح ثم اشتراه فأبيعه منه،
فقال: أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك، قلت: بلي، قال: لا بأس به، فقلت:
إن عندنا من يفسده، قال: ولم، قلت: باع ما ليس عنده، قال: فما تقول
في السلف قد باع صاحبه ما ليس عنده، فقلت: بلي، قال: فإنما صلح من
قبل أنهم يسمونه سلما، إن أبي كأن يقول: لا بأس ببيع كل متاع كنت
تجده في الوقت الذي بعته فيه (1).
فإن الظاهر من هذه الرواية وما يساويها في المضمون أن ايجاب البيع
محلل في محل ومحرم في محل آخر.
قيل: إن هذه الرواية غريبة عن المعنى المذكور، وإنما هي ظاهرة في
صحة بيع ما ليس عنده، كما يستوضح ذلك بملاحظة قول الإمام (عليه السلام):
فما تقول في السلف قد باع صاحبه ما ليس عنده، وإذن فلا اشعار فيها
باتصاف الكلام بصفة المحرمية تارة وبصفة المحللية أخرى، بل يكون
محللا فقط.
والجواب عن ذلك: أن بيع ما ليس عند البايع قد يكون شخصيا وقد
يكون كليا، أما الأول فلا شبهة في بطلانه من ناحية الجهالة وللروايات
الخاصة، وأما الثاني فلا شبهة في صحته لأن الكلي أمر معلوم فلا جهالة
فيه لكي توجب بطلان البيع، ومن الواضح أن السلف من القبيل الثاني.

1 - الكافي 5: 200، عنه الوسائل 18: 47.
179

وعليه فغرض الإمام (عليه السلام) من ذكر السلف في الرواية المزبورة إنما هو
بيان أن السلف وإن كان من بيع ما ليس عنده إلا أنه ليس من القسم الباطل
بل هو من القسم الصحيح، وقد أشار الإمام (عليه السلام) إلى ذلك بقوله: إن أبي
كأن يقول: لا بأس ببيع كل متاع كنت تجده في الوقت الذي بعته فيه،
أي تقدر على أدائه.
ثم لا يخفى عليك أن المراد من الحلية والحرمة إنما هو الوضعي دون
التكليفي، ضرورة أن جعل الثلث للبذر والبقر ليس من المحرمات
التكليفية قطعا (1).
وقد يتوهم (2) أن المراد من الكلام هو الالتزام النفسي دون اللفظ الصادر
من المنشئ، لصحة اطلاق الكلام والقول على الالتزام النفسي، ومنه
قوله تعالى: لقد حق القول (3)، وقوله تعالى: وحق عليهم القول، بل كثر
ذلك في الاستعمالات الصحيحة الفصيحة، ومن ذلك ما يقال: أعطيته
قولا، أي العهد والالتزام، وأيضا يقال: إن كلام الليل يمحوه النهار، أي
الالتزامات النفسانية.

1 - أما الحل فالمراد به حلية المقصود تكليفا، كما يظهر من جملة من الأخبار الواردة في
جواز المقاولة قبل الملك، فإنها ناظرة إلى الرد على بعض العامة الذين يرون مجرد المقاولة قبل
الملك مانعا عن حل المقصود ولو كان البيع والشراء بعد الملك، فكأنه (عليه السلام) يريد التنبيه على
فساد مذهبهم بقوله: إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام، وأن الايجاب والقبول محلل إذا تحقق
المقصود بعد الملك ومحرم إذا وقع قبله.
وأما الحرمة فالمراد بها الفساد، بقرينة ما ورد في بعض أخبار المزارعة من قوله (عليه السلام):
ليس ينبغي أن يسمي بقرا ولا بذرا، ولعل سر التعبير عن الكلام بالمحرم مع أن حرمة
التصرف إنما تستند إلى عدم وجود انشاء صحيح لا إلى وجود الانشاء الفاسد، أن الايجاب
والقبول الفاسد هو الذي أوقع المكلف في الحرام، ولولاه لم يقع فيه - المحاضرات 2: 73.
2 - حكي عن حاشية المحقق الخراساني: 15.
3 - يس: 7.
180

وعليه فكون الكلام محرما ومحللا بلحاظ أن المثمن يكون حراما
على البائع وحلالا للمشتري، وأن الثمن يكون حراما على المشتري
وحلالا للبائع.
ولكن هذا التوهم فاسد، إذ الظاهر من الرواية أن المحرمية والمحللية
من أوصاف الكلام اللفظي دون الالتزام النفسي، على أن هذا المعنى
لا يجتمع مع الروايات الواردة في المزارعة الظاهرة في أن الكلام المحرم
غير الكلام المحلل، وقد تقدمت هذه الروايات قريبا في الحاشية.
وقد تجلى لك من جميع ما ذكرناه فساد الوجه الرابع الذي ذكره
المصنف، بأن يراد من الكلام المحلل خصوص المقاولة، ومن الكلام
المحرم خصوص انشاء البيع.
ووجه الفساد أن الكلام المحرم غير مربوط بانشاء البيع كما في
روايات المزارعة، على أن لازمه أن يراد من الكلام في الفقرتين الكلام
المعهود لكي يكون كل من الكلام المحلل والكلام المحرم ممتازا عن
الآخر.
ومن الواضح أنه لا قرينة على هذه الدعوى، لا في هذه الرواية التي
هي مورد بحثنا، ولا في روايات المزارعة، ولا في غيرهما من الروايات.
وأما الوجه الثالث الذي ذكره المصنف، بأن يكون الكلام الواحد
باعتبار وجوده محرما وباعتبار عدمه محللا، فهو وإن كان يناسب ما
نحن فيه، وروايات المزارعة أيضا كما هو ظاهر، ولكن يرد عليه أن
الظاهر من قوله (عليه السلام): إنما يحرم الكلام ويحلل الكلام، أن المؤثر التام
في الحرمة والحلية إنما هو وجود الكلام، لا أن وجوده محرم وعدمه
محلل، على أن ذلك يستلزم التفكيك بين الفقرتين، فهو أمر مستهجن
فلا يصدر من المعصوم.
181

وأضف إلى ذلك ما ذكره بعض مشائخنا المحققين، وإليك نصه:
إن اطلاق المحلل على عدم الكلام لا يخلو عن مسامحة، إذ بقاء كل
من العينين على ملك صاحبه ببقاء علته لا بعدم علة ضده، كما أن اطلاق
المحرم على الايجاب المتعلق بما ليس عنده أي الايجاب في غير
محله (1).
ففيه أيضا مسامحة، إذ عدم حلية المال بعدم حصول الايجاب
الصحيح لا بحصول الايجاب الفاسد.
ثم إنه قد استظهر المصنف من الرواية اعتبار الكلام في ايجاب البيع
بوجه آخر، وهذا لفظه:
نعم يمكن استظهار اعتبار الكلام في ايجاب البيع بوجه آخر، بعد ما
عرفت من أن المراد بالكلام هو ايجاب البيع، بأن يقال: إن حصر المحلل
والمحرم في الكلام لا يتأتي إلا مع انحصار ايجاب البيع في الكلام، إذ
لو وقع بغير الكلام لم ينحصر المحلل والمحرم في الكلام، إلا أن يقال:
إن وجه انحصار ايجاب البيع في الكلام في مورد الرواية هو عدم امكان
المعاطاة في خصوص المورد، إذ المفروض أن المبيع عند مالكه الأول،
فتأمل.
والجواب عن ذلك:
أولا: إنه لو تم هذا كان لازمه أن لا تترتب الإباحة على المعاطاة، ومن
البين أن هذا خلف الفرض، لأن المفروض جواز التصرف في مورد
المعاطاة، وإنما البحث في أنها تفيد الملك اللازم أو لا.
ثانيا: إن الحصر في الرواية غير ناظر إلى المعاطاة نفيا واثباتا، وإنما
هو باعتبار مورد الرواية، إذ فرض فيه صدور الكلام من المشتري، وقد

1 - حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني: 37.
182

ذكر الإمام (عليه السلام) أنه ينقسم إلى قسمين وبين أن قسما منه محلل،
كالمقاولة على متاع ليس عند البائع، وقسم منه محرم كايجاب البيع
عليه، وإذن فالانشاء الفعلي خارج عن حدود الرواية موضوعا.
وأما ما ذكره من أن وجه انحصار ايجاب البيع في الكلام - الخ، فيتوجه عليه:
أولا: إنا لا نسلم عدم امكان المعاطاة في مورد الرواية، بديهة أن
الظاهر منها وجود المتاع عند الدلال، ولذا أشار إليه الرجل بكلمة:
هذا، وقال لصاحبه: اشتر هذا الثوب أربحك كذا، ولا أقل من
الاحتمال، ومعه لا يتم الاستدلال.
ثانيا: إنا لو سلمنا غياب المتاع في مورد الرواية عن المتعاملين، ولكنا
لا نسلم اختصاص المعاطاة بالتعاطي من الطرفين، ضرورة أن المعاطاة
كما تتحقق بالتعاطي من الطرفين كذلك تتحقق بالاعطاء من جانب
والأخذ من جانب آخر، وسيأتي ذلك في تنبيهات المعاطاة، ولعل
المصنف قد أشار إلى هذين الاشكالين أو إلى أحدهما بالأمر بالتأمل.
والمتحصل من جميع ما ذكرناه أنه لا دلالة في رواية ابن نجيح على
اعتبار اللفظ في صحة البيع أو لزومه، لكي تدل على فساد المعاطاة أو
على عدم لزومه، على أن هذه الرواية التي بين يدينا مجهولة فلا يمكن
الاستدلال بها على الحكم الشرعي (1).

1 - قد استدل على اعتبار اللفظ في صحة البيع بوجوه شتى غير رواية ابن نجيح:
1 - ما عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهي عن بيعتين: الملامسة والمنابذة - الحديث،
(سنن البيهقي 5: 341).
وعنه أيضا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهي عن بيع الغرر وعن بيع الحصاة (سنن البيهقي 5: 342).
ووجه الاستدلال بذلك على المقصود، أن النبي (صلى الله عليه وآله) إنما نهي عن انشاء البيع باللمس
و النبذ والقاء الحصاة لانتفاء اللفظ فيها، ومن الواضح أن المعاطاة فاقدة له فتكون مشمولة
للنبويين المزبورين ولو بتنقيح المناط.
والجواب عن ذلك:
أولا: إنهما ضعيفا السند وغير منجبرين بشئ.
ثانيا: إن النهي عن البيوع المذكورة من ناحية الجهالة والغرر، فلا ربط له بالمعاطاة، إذ
المفروض أنها واجدة لجميع الشرائط إلا اللفظ.
ثالثا: إن بطلان انشاء البيع باللمس والنبذ والقاء الحصاة لا يستلزم بطلان انشائه بغيرها من
الأفعال لامكان أن يكون النهي عن انشاء البيع بها من ناحية نكتة خاصة لا نعلمها.
وعليه فلا يمكن قياس المعاطاة بها، وإذن فتكون المعاطاة مشمولة للعمومات الدالة على
صحة المعاملات.
2 - قيام الاجماع على اعتبار اللفظ في صحة البيع، والمعاطاة فاقدة له فتكون فاسدة.
ويرد عليه أن الاجماع المحصل غير حاصل والاجماع المنقول ليس بحجة، وعليه
فلا يمكن تخصيص العمومات الدالة على صحة العقود ولزومها بذلك.
3 - الأخبار الكثيرة الظاهرة في اعتبار اللفظ في صحة البيع، وبما أن المعاطاة خالية عن
اللفظ فتكون فاسدة ونقتطف من تلك الأخبار ما يلي:
عن عبد الرحمان بن سليمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن المصاحف لن
تشتري، فإذا اشتريت فقل إنما أشتري منك الورق وما فيه من الأدم وحليته وما فيه من عمل
يدك بكذا وكذا (الكافي 5: 121، عنه الوسائل 17: 158، وفيه: عبد الرحمان بن سيابة)،
مجهولة بعبد الرحمان.
وعن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن بيع المصاحف وشرائها، قال: لا تشتر
كتاب الله عز وجل ولكن اشتر الحديد والورق والدفتين، وقل: اشتريت منك هذا بكذا وكذا
(الكافي 5: 121)، ضعيفة بعثمان بن عيسى.
وعن العجلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل اشترى من رجل عشرة آلاف طن في أنبار
بعضه على بعض من أجمة واحدة والأنبار فيه ثلاثون طن، فقال البائع: قد بعتك من هذا القصب
عشرة آلاف طن، فقال المشتري: قد قبلت واشتريت ورضيت - الخ، صحيحة.
وعن سماعة قال: سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها، فقال: لا ألا
أن يشتري معها شيئا غيرها رطبة أو بقلا، فيقول: أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا
الشجر بكذا وكذا - الخ (الكافي 5: 176، الفقيه 3: 133، التهذيب 7: 84، الإستبصار 3: 86،
عنهم الوسائل 18: 219)، ضعيفة بعثمان بن عيسى.
و عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام
عند صاحبه ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه: لك ما
عندك ولي ما عندي، قال: لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما (الكافي 5: 258)، حسنة
بإبراهيم بن هاشم.
وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في الرجل يعطي الرجل المال فيقول له: ائت
أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها، قال: فإن جاوزها وهلك المال فهو ضامن، وإن
اشترى متاعا فوضع فيه فهو عليه وإن ربح فهو بينهما (الكافي 5: 240)، صحيحة.
وعن يحيى بن الحجاج، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب أو
هذه الدابة وبعنيها أربحك فيها كذا وكذا، قال: لا بأس بذلك ليشتريها ولا يواجبه البيع قبل أن
يستوجبها أو يشتريها، (الكافي 5: 198)، صحيحة.
وعن جراح المدائني، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إني أكره بيع ده يازده وده دوازده، لكن
أبيعك بكذا وكذا، (الكافي 5: 197، التهذيب 7: 55، عنهما الوسائل 18: 62)، ضعيفة بجراح
وقاسم بن سليمان.
وعن محمد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إني أكره بيع عشرة بأحد عشر وعشرة باثني عشر
ونحو ذلك من البيع ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومة - الخ، (الكافي 5: 197، التهذيب 7: 54،
عنهما الوسائل 18: 63)، ضعيفة بمعلى بن محمد.
وعن العلاء، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يريد أن يبيع بيعا فيقول: أبيعك بده
دوازده، فقال: لا بأس إنما هي هذه المراوضة، فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة (التهذيب
7: 54، قرب الإسناد: 15)، صحيحة.
وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس
عندك تساومه ثم تشتري له نحو الذي طلب ثم توجبه على نفسك ثم تبيعه منه بعد (الكافي
5: 201)، صحيحة.
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في الأبواب المتفرقة، ولكن غاية ما يستفاد منها أن
المعاملات المزبورة في تلك الروايات إنما أنشأت باللفظ، ومن البديهي أنه لا اشعار في ذلك
على اعتبار اللفظ في صحة البيع أو لزومه فضلا عن الدلالة عليه، وهذا واضح لا خفاء فيه.
183

تنبيهات المعاطاة
قوله (رحمه الله): وينبغي التنبيه على أمور.
أقول: لما فرغ المصنف من بيان صحة البيع المعاطاتي ولزومه نبه
على أمور يحسن بنا التعرض لها:
1 - اعتبار شروط البيع فيها
الأمر الأول: أنه هل يعتبر في البيع المعاطاتي ما يعتبر في البيع
بالصيغة من الشروط، وتحقيق هذه المسألة يقع في نواحي شتى:
الناحية الأولى: أن المعاطاة المقصود بها الإباحة هل تفيد إباحة
التصرف في المأخوذ بالمعاطاة عندما فقدت شيئا من شروط البيع.
قد ذكر المصنف أن المتعاطيين: إذا قصدا مجرد الإباحة فلا اشكال
في عدم كونها بيعا عرفا ولا شرعا (1)، وعلى هذا فلا بد عند الشك في
اعتبار شرط فيها من الرجوع إلى الأدلة الدالة على صحة هذه الإباحة
العوضية من خصوص أو عموم، وحيث إن المناسب لهذا القول التمسك
في مشروعيته بعموم الناس مسلطون على أموالهم كان مقتضى القاعدة

1 - هذا ما احتمله صاحب الجواهر بل استظهره في جواهره 22: 224، أما الشيخ فبنى
على أن مقصود المعاطيين في المعاطاة هو التمليك والبيع، كما في المكاسب.
186

هو نفي شرطية غير ما ثبت شرطيته، كما أنه لو تمسك لها بالسيرة كان
مقتضى القاعدة العكس، لأن السيرة دليل لبي فلا بد من الاقتصار فيها
بالمقدار المتيقن.
ويتوجه عليه: أن المقصود من دليل السلطنة إنما هو بيان استقلال
المالك في التصرف في أمواله في الجهات المشروعة وعدم كونه
محجورا عن التصرف فيها في تلك الجهات، وليس لأحد أن يزاحم
المالك في ذلك، وعليه فدليل السلطنة لا يتكفل باثبات السلطنة للمالك
على أي تصرف، سواء ثبتت مشروعيته مع قطع النظر عن دليل السلطنة
أم لا.
وأضف إلى ذلك أن دليل السلطنة ضعيف السند وغير منجبر بشئ،
فلا يمكن الاعتماد عليه في اثبات الحكم الشرعي، وقد تقدم ذلك عند
الاستدلال به على لزوم المعاطاة.
أما السيرة، فإن كان المراد بها السيرة العقلائية، فلا شبهة في قيامها
على إباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة حتى التصرفات المتوقفة على
الملك، ولكن لا يمكن الاعتماد على هذه السيرة مع قطع النظر عن كونها
ممضاة للشارع.
وإن كان المراد بها السيرة المتشرعية، فلا ريب في قيامها على إباحة
التصرف في المأخوذ بالمعاطاة، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها أيضا فيما
إذا شك في جواز أصل التصرف، كالتصرفات المتوقفة على الملك من
البيع والعتق والوطي ونحوها، بل لا بد وأن يرجع هنا إلى دليل كل
تصرف يشك في جوازه وعدمه.
ومثال ذلك أنه إذا شك أحد المتعاطيين في جواز أكل المأخوذ
بالمعاطاة التي قصد بها الإباحة، رجع إلى ما دل على جواز أكله أو
حرمته، وهكذا لو شك في ناحية أخرى غير جواز الأكل، ولا يرجع في
187

شئ من تلك الموارد إلى أدلة حرمة التصرف في مال غيره، إذ المفروض
أن المالك قد أذن للأخذ أن يتصرف في المأخوذ بالمعاطاة، ومعه لا يبقى
مجال للرجوع إلى تلك الأدلة.
وإن شئت قلت: إن جواز التصرف في نفسه إنما ثبت بما دل عليه من
أمارة أو أصل، ومن الظاهر أن حرمة التصرف فيه بما أنه مال غيره مرتفعة
بإجازة المالك وإذنه على الفرض، وإذن فالمقتضي موجود والمانع
مفقود.
وعلى هذا فلا يعتبر في المعاطاة المقصود بها الإباحة أي شرط من
شروط البيع، وحينئذ فلو أعطى أحد لغيره ألف دينار بإزاء دينار واحد
لم يلزم منه الرباء.
الناحية الثانية: أنه إذا قصد المتعاطيان بالأخذ والاعطاء التمليك
والتملك ولم تحصل الملكية في الخارج، ولكن حكم الشارع بجواز
التصرف في المأخوذ بالمعاطاة فهل يعتبر فيها شروط البيع.
قد ذكر المصنف أن المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفي وإن
ترتبت عليه الإباحة الشرعية، وحينئذ فيعتبر فيها ما يعتبر في البيع من
الشروط كلها، نعم قد وقع في بعض الكلمات أن هذا ليس بيع، إلا أن
المراد من ذلك نفي اللزوم لا نفي البيع حقيقة - انتهى ملخص كلامه.
وتحقيق ما أفاده المصنف بوجهين:
1 - إنا ذكرنا مرارا عديدة أن المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفي،
فتكون مشمولة للعمومات الدالة على صحة البيع ولزومه، وعليه فلا بد
من الالتزام بكونها مفيدة للملك من أول الأمر، نعم قام الاجماع التعبدي
على أن الشارع المقدس لم يمض البيع المعاطاتي على النحو الذي
قصده المعاطيان بمجرد حصول التعاطي الخارجي، بل أمضاه بعد تحقق
شئ ما من التصرف وغيره.
188

وعليه فالمعاطاة بيع حقيقة فيعتبر فيها جميع ما يعتبر في البيع اللفظي
من الشروط غير الصيغة، بديهة أن الشارع وإن لم يمض الملكية المنشأة
بالمعاطاة إلى زمان خاص وحكم بإباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة
في هذا الزمان، إلا أن ذلك لا يخرج المعاطاة عن كونها بيعا عرفا وشرعا،
كما أن حكمه بتوقف حصول الملكية على القبض في بيع الصرف والسلم
لا يخرجهما عن حقيقة البيع.
2 - أن مقصود كل من المتعاطيين إنما هو تمليك ماله لصاحبه بإزاء ما
يأخذه منه، وليس غرضهما من هذا التمليك بالعوض إلا ايجاد البيع،
وحيث إنه فاقد للصيغة فيحكم بفساده كسائر المعاملات الفاقدة
لشروطها، ولكن قام الاجماع على جواز التصرف للآخذ فيما أخذه
بالمعاطاة، ولم يقم دليل على ذلك في سائر المعاملات الفاسدة، وبما
أن الاجماع دليل لبي فيقتصر فيه بالمقدار المتيقن، وهو أن تكون
المعاطاة واجدة لجميع شرائط البيع، حتى الشروط التي وقع الخلاف
في اعتبارها فيه إلا الصيغة.
وعلى الجملة أن ما قصده المتعاطيان لم يقع في الخارج، وقد قام
الاجماع على جواز التصرف لكل منهما فيما أخذه من صاحبه، وأيضا
قد اقتضت الضرورة الشرعية حرمة التصرف في مال غيره بدون إذنه،
فالجمع بين هذه الأمور يقتضي جواز التصرف في المورد المتيقن، وهو
البيع الجامع للشرائط.
وقد اتضح لك مما بيناه أنه لا يفرق فيما ذكرناه بين أن يكون اعتبار
الشرط في البيع من ناحية الدليل اللفظي وبين أن يكون ذلك من ناحية
الاجماع، فإنه على كل تقدير لا يجوز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة إلا
مع احتواء المعاطاة جميع شرائط البيع إلا الصيغة.
189

الناحية الثالثة: إنا إذا قلنا بأن المعاطاة المقصود بها الملك تفيد
الملكية من أول الأمر، فهل يعتبر فيها شروط البيع.
الظاهر أنه لا شبهة حينئذ في كون المعاطاة بيعا عرفا وشرعا، وعليه
فيعتبر فيها جميع ما يعتبر في البيع من الشروط، ويجري عليها ما يجري
على البيع من الأحكام.
وقد يفصل في المقام بين الشروط التي ثبت اعتبارها في البيع بدليل
لفظي، وبين الشروط التي ثبت اعتبارها فيه بدليل لبي، فإن ما هو من
القبيل الأول فيعتبر في المعاطاة أيضا، وما هو من القبيل الثاني فيختص
بالبيع اللفظي، وهذا التفصيل ليس من ناحية أن الاجماع دليل لبي فيقتصر
فيه بالمقدار المتيقن، بل من ناحية أن الاجماع متصيد من فتاوي
الأصحاب، ومن البين أن المتبادر من فتاواهم هو العقد اللفظي اللازم من
غير جهة الخيار دون المعاطاة المترتب عليها الملكية الجائزة.
ولكن لا مجال لهذا التوهم بعد صدق البيع على المعاطاة، وكونها
مشمولة للعمومات الدالة على صحة البيع، فإن المناقشة في ذلك من
قبيل المناقشة في الأمور البديهة.
2 - جريان حرمة الربا فيها
قوله (رحمه الله): وبما ذكرنا يظهر وجه تحريم الرباء فيه أيضا.
أقول: ملخص كلامه أنه إذا حكمنا بكون المعاطاة بيعا عرفيا، وإن لم تفد الإباحة الشرعية، حرم فيها الرباء، وكذلك إذا قلنا بأنها ليست
بيعا، لأنها حينئذ معاوضة مستقلة شرعية، سواء أكانت جائزة أم كانت
لازمة، كما اعترف به الشهيد في موضع من الحواشي (1)، بل يمكن الحكم

1 - حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 158.
190

بحرمة الرباء في المعاطاة إذا قصد منها المتعاطيان الإباحة لا الملك، فإن
ذلك أيضا معاوضة عرفا، فتأمل.
3 - جريان الخيار فيها
قوله (رحمه الله): وأما حكم جريان الخيار فيها قبل اللزوم.
أقول: قبل التعرض لحكم المسألة لا بد وأن يعلم أنه وقع الاشتباه في
موضعين من عبارة المصنف:
1 - أنه حكم بعدم جريان الخيار في المعاطاة قبل لزومها، وعلل ذلك
بأن المعاطاة معاملة جائزة عند الأصحاب، فلا معنى لجريان الخيار
فيها، وجهة الاشتباه هي أن الخيار لا ينافي جواز المعاطاة، وإنما ينافي
الإباحة، وعليه فلا بد وأن تكون عبارة المصنف هكذا: لأنها إباحة
عندهم، والشاهد على صدق مقالنا أمران:
الأول: أن المشهور بين القدماء هو أن المعاطاة تفيد الإباحة لا الملك
الجائز.
الثاني: ما ذكره المصنف عقيب التعليل المذكور، من أنه: وإن قلنا
بإفادة الملك فيمكن القول بثبوت الخيار فيه مطلقا.
ويضاف إلى ذلك كله إنا وجدنا في بعض النسخ الصحيحة لفظ:
إباحة، بدل كلمة: جائزة.
2 - أن المصنف حكم بثبوت الخيار في المعاطاة، بناء على صيرورتها
بيعا بعد اللزوم، وجهة الاشتباه هي أن المعاطاة المفيدة للملك بيع من
الأول، غاية الأمر أنها بيع جائز.
ثم إن تحقيق الكلام هنا يقع في جهات شتى:
الجهة الأولى: أنه هل يثبت الخيار في المعاطاة المقصود بها الإباحة،
191

الظاهر أنه لا يثبت فيها الخيار، لا في مقام الثبوت ولا في مقام الاثبات:
أما الأول: فلأن معنى الخيار إنما هو ملك فسخ العقد، كما يأتي في
مبحث الخيارات، ومن الواضح أن المعاطاة المقصود بها الإباحة ليست
من العقود لكي يثبت فيها الخيار، بل هي تفيد إباحة خالصة، ويجوز لكل
من المتعاطيين التصرف فيما أخذه من صاحبه، ولا يكون هذا التصرف
تصرفا محرما، إذ المفروض أن مالكه الأصلي قد أذن في ذلك.
أما الثاني: فلأنه إذا لم يمكن ثبوت الخيار في المعاطاة لم تكن مشمولة
لأدلة الخيار اثباتا، وهذا واضح لا ريب فيه.
ثم إن المصنف قد أغفل التعرض لهذه الجهة، كما أنه أغفل التعرض
للمعاطاة التي ترتب عليه الملك اللازم من أول الأمر، ويجري فيه الخيار
المصطلح جزما، ولعل عدم تعرضه لهاتين الجهتين لأجل الوضوح.
الجهة الثانية: أن المعاطاة المقصود بها الملك التي تترتب عليها
الملكية الجائزة، هل يثبت فيه الخيار مطلقا، أم لا يثبت فيها ذلك مطلقا،
أم يفصل بين الخيارات الثابتة بدليل خاص، فيحكم بعدم ثبوتها في
المعاطاة كخياري المجلس والحيوان، لأن أدلتها مختصة بالمعاملة التي
تكون لازمة من غير ناحية الخيار، والمفروض أن المعاطاة ليست كذلك،
وبين الخيارات الثابتة بدليل عام كخيار الغبن ونحوه، لأن أدلتها غير
مختصة بالمعاملات التي تكون لازمة من غير ناحية الخيار.
فقد التزم المصنف بالوجه الأول في مطلع كلامه، وأنه يحكم بثبوت
الخيار في المعاطاة، وإن كان يظهر أثره بعد لزومها، وعليه فيصح
اسقاطه والمصالحة عليه قبل اللزوم، واحتمل التفصيل المتقدم في
آخر كلامه، وذهب بعضهم إلى القول الثاني وأن الخيارات مطلقا
لا تجري في المعاطاة، بديهة أن أثر الخيار إنما هو جواز العقد، ومن
192

الواضح أن المعاطاة جائزة بالذات فلا معنى لجوازها بالعرض وإذن
فجعل الخيار في المعاطاة لغو محض وتحصيل للحاصل.
والتحقيق أن الخيارات مطلقا تجري في المعاطاة، بناء على أنها تفيد
الملك الجائز، ضرورة أن الجواز الثابت في المعاطاة التي تفيد الملك
الجائز، إما جواز حقي كان أمره بقاء وارتفاعا بيد المتعاملين، أو جواز
حكمي كان أمره بيد الشارع دون المتعاملين كالجواز في الهبة، وعلى
كلا التقديرين فمتعلق الجواز إما هو العقد أو العين المأخوذة بالمعاطاة.
فإن كان جواز المعاطاة جوازا حقيا وقلنا بتعلقه بالعقد المعاطاتي كان
ذلك مشمولا لأدلة الخيارات، وعليه فيثبت الخيار في البيع المعاطاتي
لكل من المتعاطيين بسببين، ومن الظاهر أنه لا محذور في ذلك لأن
نظائره كثيرة في الفقه، وحينئذ فيمتاز البيع المعاطاتي عن بقية البيوع
باختصاصه بخيار خاص، وإن شئت فسمه بخيار المعاطاة، وعلى هذا
فيجوز ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر، كما إذا تلفت إحدى العينين في
المجلس فإنه حينئذ يرتفع خيار المعاطاة ويبقى خيار المجلس، وإذا
تفرقا عن مجلس العقد قبل تحقق الملزم سقط خيار المجلس وبقي خيار
المعاطاة.
وإذا قلنا بتعلق خيار المعاطاة بالعين كان الأمر أوضح، لأن متعلق
خيار المعاطاة أجنبي عن متعلق الخيار المصطلح فلا يجتمعان في مورد
واحد لكي يناقش فيه بلزوم اللغوية، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
وإن كان جواز المعاطاة جوازا حكميا وقلنا بتغاير متعلقه مع متعلق
الخيارات المصطلحة، فلا شبهة في ذلك أيضا، وإن قلنا باتحاد
متعلقهما فربما يتوهم أن ذلك يوجب اللغوية وتحصيل الحاصل، ولكن
هذا التوهم فاسد، لأنه إنما تلزم اللغوية فيما إذا لم يمكن انفكاك أحد
193

الخيارين عن الآخر، مع أن الانفكاك بينهما من الوضوح بمكان، بديهة أن
النسبة بينهما هي العموم من وجه، إذ قد يسقط خيار المعاطاة ويبقى
الخيار المصطلح، وقد يسقط الثاني ويبقى الأول، وقد يجتمعان
سقوطا وبقاء، وإذن فلا محذور في اجتماع خيار المعاطاة مع الخيارات
المصطلحة ثبوتا واثباتا، وهذا واضح لا ريب فيه.
أما التفصيل المتقدم الذي احتمله المصنف، فهو واضح الاندفاع
نقضا وحلا:
أما الأول: فلأنه لو تم ذلك التفصيل في المعاطاة لجرى مثله في البيع
بالصيغة أيضا، طابق النعل بالنعل والقذة بالقذة، لأنه إذا اجتمعت فيه
عدة من أسباب الخيار، وقد فرض أن دليل كل واحد منها مخصوص
بعقد، كان وضعه على اللزوم من غير ناحية هذا الخيار، لزم الحكم بعدم
اجتماع الخيارات فيه أيضا، مع أنه لم يلتزم بذلك أحد.
أما الثاني: فلأن أدلة الخيارات، وإن اختصت بعقد كان طبعه على
اللزوم، ولكن لزومه إنما هو مع قطع النظر عن ثبوت خيار آخر فيه،
بمعنى أنه إذا وجد عقد في الخارج ولم يقترن بما يقتضي جوازه كان
ذلك العقد لازما في نفسه، وهذا لا ينافي جوازه من الجهات الأخر
العارضة.
وقد أشير إلى هذه النكتة القيمة في أخبار خيار المجلس، التي تدل
على أن المتبايعين بالخيار ما لم يفترقا فإذا افترقا وجب البيع (1)، فإن
الظاهر من وجوب البيع ولزومه في تلك الروايات إنما هو لزومه من ناحية
خيار المجلس فقط، وهو لا ينافي جواز البيع من ناحية خيار آخر.

1 - الكافي 5: 170، الفقيه 3: 126، التهذيب 7: 20، الإستبصار 3: 72، عنهم الوسائل
18: 6.
194

الجهة الثالثة: أنه هل يجري الخيار في المعاطاة المقصود بها الملك
التي لا تؤثر إلا في الإباحة أم لا.
لا شبهة في صدق البيع عليها عرفا، نهاية الأمر أنه قام الاجماع على
عدم تأثيرها في الملكية عند الشارع إلى زمان معين، إلا أن ذلك لا يمنع
عن صدق البيع عليها بالحمل الشايع، وإذن فتكون المعاطاة مشمولة
للعمومات الدالة على صحة البيع فيحكم بكونها بيعا في نظر الشارع، كما أن حصول الملكية في بيع الصرف والسلم يتوقف على القبض
الخارجي.
وعليه فإن كان المقصود من ثبوت الخيار في العقد هو تسلط ذي الخيار
على فسخه فسخا فعليا، بأن يتمكن من ارجاع ما انتقل عنه إلى نفسه،
فلا شبهة في أن المعاطاة بناء على الإباحة غير مشمولة لأدلة الخيارات،
بديهة أن الثابت بالفعل لكل من المتعاطيين ليس إلا إباحة التصرف فيما
أخذه من صاحبه، وإنما تحصل الملكية في ذلك بعد تحقيق أحدي
الملزمات، ومن الظاهر أن إباحة التصرف ترتفع بعدم رضي المالك
بالتصرف في المأخوذ بالمعاطاة بلا احتياج إلى فسخ المعاطاة بالخيار
المصطلح.
إلا أن يتوهم أن الإباحة المترتبة على المعاطاة ليست إباحة مالكية
لكي ترتفع بعدم رضي المالك بالتصرف وإنما هي إباحة شرعية، ومن
الظاهر أن الإباحة الشرعية باقية ما لم يحكم الشارع برفعها، ولكن هذا
التوهم فاسد، بديهة أن الإباحة هنا إنما ثبتت بالاجماع، والمتيقن منه
إنما هو بقاء الباذل في إذنه السابق فلا يشمل صورة رجوعه عن إذنه.
وعلى الجملة أنه لو كان الغرض من جعل الخيار في العقد ترتب الأثر
الفعلي عليه لم يجر ذلك في المعاطاة المقصود بها الملك التي تفيد
195

الإباحة، ولكنه بديهي البطلان، ضرورة اجتماع الخيارات العديدة في
البيع وغيره من العقود، وإن كان المقصود من ثبوت الخيار في العقد
تمكن ذي الخيار من إلغاء ما هو مؤثر في النقل والانتقال فلا شبهة حينئذ
في جريان الخيار المصطلح في المعاطاة المقصود بها الملك التي تفيد
الإباحة، لأنها قابلة للتأثير في الملكية.
فإذا حكمنا بثبوت الخيار للمتعاطيين كان لكل منها أن يرفع تلك
القابلية برفع موضوعها لكي لا تلحق بها الملكية، وإذن فيكفي في صحة
جعل الخيار في المعاطاة التمكن من الغائها عن قابلية التأثير في الملكية.
4 - بيان مورد المعاطاة
أن المتيقن من مورد المعاطاة إنما هو تحقق الأخذ والاعطاء من
الطرفين، كما يقتضيه مفهوم المفاعلة، ولا شبهة في صدق البيع على
ذلك وكونه مشمولا للعمومات الدالة على صحة البيع ولزومه، ولو
تحقق الاعطاء من طرف والأخذ من طرف آخر، فهل يصدق عليه مفهوم
البيع، وتحقيق ذلك يقع في نواحي شتى:
الناحية الأولى: أن يكون الغرض من الأخذ والاعطاء مجرد الإباحة، و
لا شبهة في أن ذلك ليس بيعا، نعم جاز للآخذ أن يتصرف في المأخوذ
بالمعاطاة.
الناحية الثانية: أن يكون الغرض من التعاطي هو التمليك والتملك،
وتترتب عليه الملكية في الخارج، فلا شبهة في أن ذلك بيع عرفا، فيكون
مشمولا للعمومات الدالة على صحة البيع، ويحكم بكونه بيعا في نظر
الشارع أيضا.
والوجه في ذلك أن عنوان المعاطاة لم يرد في رواية ولا في آية،
196

ولا أنه معقد للاجماع التعبدي لكي يحفظ على هذا العنوان ويؤخذ منه
بالمقدار المتيقن، بل محور البحث في المقام هو أن البيع يتحقق بالانشاء
الفعلي كما أنه يتحقق بالانشاء القولي، وعليه فلا بد من ملاحظة الفعل
الذي ينشأ به البيع، فإن صدق عليه مفهوم البيع حكم بكونه بيعا وإلا فلا.
ومن الواضح أن الاعطاء من أحد المتعاطيين مع قصد التمليك يعد
ايجابا للبيع عرفا، ويكون الأخذ الخارجي من الطرف الآخر قبولا له، بل
أكثر المعاملات المعاطاتية الواقعة في الخارج من هذا القبيل، لتحققها
في الخارج بالاعطاء من جانب وبالأخذ من جانب آخر.
وعليه فيكون الاعطاء المتأخر من جانب الآخذ وفاء بالعقد، ضرورة
أنه لو كان العطاء من قبله مطاوعة للزم الانفكاك بين الايجاب والقبول في
المعاطاة الواقعة نسيئة، بل لزم كون الانشاء مراعي بالاعطاء المتأخر من
ناحية الأخذ، نهاية الأمر أنه يجوز للآخذ أن يتصرف فيما أخذه من
صاحبه على سبيل التضمين، ولا ريب في أن ذلك كله بديهي البطلان
وخلاف السيرة المتشرعية والعقلائية.
وذكر شيخنا الأستاذ: أن البيع تبديل أحد طرفي الإضافة بإضافة
أخرى، ومن المعلوم أن الاعطاء من طرف واحد والأخذ من الطرف
الآخر ليس مصداقا لذلك، بل نسبته إليه وإلى الهبة المعوضة متساوية،
وهذا بخلاف ما إذا تحقق الاعطاء من الطرفين، فإن التبديل المكاني هنا
بطبعه الأصلي إنما هو تبديل لأحد طرفي الإضافة الاعتبارية بإضافة
أخرى كذلك فهو بيع حقيقة، وعليه فاخراجه من دائرة البيع وادخاله في
دائرة الهبة يحتاج إلى مؤونة زائدة، وعلى الجملة أن التبديل الاعتباري
في باب المعاطاة يدور مدار التبديل الخارجي، وحيث إن التبديل
الخارجي متحقق في فرض حصول التعاطي من الطرفين فيترتب عليه
197

التبديل الاعتباري - انتهى ملخص كلامه (1).
ويرد عليه أن البيع وإن كان تبديل مال بمال، ولكن المراد من التبديل
هنا ليس هو التبديل الخارجي المكاني، بل المراد به هو التبديل
الاعتباري، ومن الظاهر أن هذا المعنى يتحقق بالاعتبار النفساني المبرز
بمبرز خارجي فعلي أو قولي.
الناحية الثالثة: أن يقصد كل من المعطي والآخذ التمليك والتملك،
ولكن لم يحصل في الخارج إلا الإباحة إلى زمان حصول الملك، والظاهر
أن هذا من أفراد البيع الحقيقي، لأن تأخير الملكية لا يخرجه عن كونه
بيعا، كما أن بيع الصرف والسلم لا يخرجان عن حدود البيع بتأخر
الملكية فيهما إلى زمان القبض.
نعم، قد يناقش في جواز التصرف قبل حصول المملك، لأنه لم يثبت
إلا بالاجماع، ومن الظاهر أن المتيقن منه ما يكون التعاطي من الطرفين
لا من طرف واحد، إلا أن يتمسك في اثبات جواز التصرف هنا بدليل
السلطنة، وقد عرفت فيما تقدم أنه غير تام، لا من حيث السند ولا من
حيث الدلالة.
قيل: إنكم حكمتم في الناحية الأولى بجواز التصرف في المأخوذ
بالمعاطاة، وإن كان التعاطي من طرف واحد، فلما ذا لا تحكمون بذلك
في هذه الناحية.
والجواب عنه: أن الإباحة المترتبة على التعاطي في الناحية الأولى
إباحة مالكية، ومن الواضح أن المالك إذا رضي بجواز التصرف في ماله لم
يلزم منه محذور أصلا، وأما الإباحة المترتبة على التعاطي في هذه
الناحية فهي إباحة شرعية، وعليه فلا بد من ملاحظة دليلها، وقد عرفت

1 - حاشية المكاسب للمحقق للنائيني 1: 198.
198

أن الدليل على هذه الإباحة إنما هو الاجماع، والاجماع دليل لبي
فلا يؤخذ منه إلا بالمقدار المتيقن.
ولكن الذي يسهل الخطب أن الاجماع بل السيرة أيضا قائم على جواز
التصرف في المأخوذ بالمعاطاة، وإن كان التعاطي من طرف واحد، ولذا
نري بالعيان ونشاهد بالوجدان أن الناس على اختلاف طبقاتهم وتشتت
أصنافهم يتعاملون فيما بينهم بالمعاملة المعاطاتية في الأشياء الحقيرة
والخطيرة، ولم نر ولم نسمع إلى الآن أن يتوقف أحد في جواز التصرف
في المأخوذ بالمعاطاة، حتى مع تحقق التعاطي من طرف واحد، مع أن
المغروس في أذهان القدماء والمشهور فيما بينهم أن أغلب المعاملات
المعاطاتية إنما تنعقد بالتعاطي من طرف واحد، ويكون الاعطاء من
ناحية الآخذ وفاء بالتزامه لا قبولا للإيجاب المتقدم، وقد تقدم ذلك
آنفا، نعم لو شك في دخوله في معقد الاجماع لاتجه الحكم بعدم دخوله
فيه كما هو واضح.
هل تنعقد المعاطاة بمجرد ايصال الثمن وأخذ المثمن؟
وقد يتوهم انعقاد البيع المعاطاتي بمجرد وصول المثمن إلى
المشتري ووصول الثمن إلى البائع بأي نحو اتفق، وإن لم يصدق عليه
الاعطاء فضلا عن التعاطي، والوجه في ذلك ما أسلفناه سابقا، من أن
عنوان المعاطاة لم يرد في آية ولا في رواية ولا في معقد اجماع لكي
ندور مدار هذا العنوان، ونجعله موردا للنقض والابرام، ومركزا للنفي
والاثبات، بل إنما عبر بها عن المعاملة الخاصة المتعارفة بين الناس،
وإذن فيكون المدار في ذلك هو الصدق العرفي عليه.
فأي فعل كان قابلا لابراز ما في النفس من اعتبار الملكية صدق عليه
199

عنوان المعاملة المعاطاتية و تشمله العمومات الدالة على صحة البيع
ولزومه، سواء أكان ذلك الفعل تعاطيا من الطرفين أم من طرف واحد،
أم لم يكن هنا تعاط أصلا بل كان مجرد وصول الثمن إلى البائع ووصول
المثمن إلى المشتري بأي نحو اتفق.
وقد مثل المصنف لذلك بأمور:
1 - أن يرتوي الظامي من قربة السقاء مع غيبته، وجعل عوضه في
المكان المعد له مع علمه بأن السقاء راض بذلك.
2 - أن يلتقط شخص شيئا حقيرا من مخازن الخضارين أو البقالين أو
العطارين مع غيبتهم عن دكاكينهم، ويجعل عوض ما يأخذه في
صندوقهم، مع العلم أو الاطمئنان العادي برضا المالك بذلك.
3 - أن يرد أحد الحمام ولا يجد فيه صاحبه، ويغتسل فيه ويضع
أجرته في المكان المعد لها، مع علم الوارد بأن الحمامي راض بذلك.
ولكن الظاهر أن الأمثلة المزبورة كلها غريبة عن مقصود المتوهم،
أعني به تحقق المعاطاة بمجرد أخذ المثمن ووضع الثمن مكانه، بل تلك
الأمثلة إما من صغريات الأقسام الماضية أو أنها خارجة عن حدود
المعاطاة بالكلية.
أما المثال الأول، فلأن شرب الماء يختلف حسب اختلاف
الأشخاص والحالات، إذ قد يكون المشرف على الماء من الأشخاص
الظمأ شديد الظمآن، وقد يكون عطشانا عاديا، أما الأول فلا يرتوي إلا
بشرب مقدار كثير من الماء، وأما الثاني فيصير ريانا بشرب المقدار
اليسير منه.
ومن الواضح أن هذا الاختلاف الفاحش يوجب غررية البيع، وإذن
فلا محيص إلا عن جعل أشباه ذلك من قبيل الإباحة بالعوض، والدليل
200

على صحة هذه الإباحة هو السيرة القطعية، لأنها قائمة على ذلك في
الأشياء الحقيرة والأمتعة الزهيدة.
بل يمكن أن يكون المثال المذكور من قبيل المعاوضة الخاصة
التمليكية، فتكون مشمولة لآية التجارة عن تراض، نهاية الأمر أنها
غررية، ومن الواضح أن دليل نفي الغرر، وهو النبوي (1)، مختص بالبيع
فلا يجري في غيره.
وأما المثال الثاني، فهو من مصاديق البيع المعاطاتي المتعارف، غاية
الأمر أن ايجابه ليس بمباشرة المالك بل إنما هو بمباشرة وكيله، وذلك
لأن الخضار والبقال والعطار وأمثالهم من سائر أصناف التجار إنما
يوكلون الأشخاص الواردين على دكاكينهم في بيع أمتعتهم بالقيمة
المتعارفة ووضع أثمانها في الموضع المعد للنقود، كما أنهم يوكلون
غالبا الأشخاص المعينين في ذلك.
وعليه فكل من يأخذ متاعا من دكاكين هؤلاء الكاسبين، فهو ينشئ
البيع بأخذه هذا من قبل المالك ويقبله من نفسه بوضع ثمن ذلك المتاع
في المكان المعد له.
وإذن فيتحقق البيع المعاطاتي هنا بالتعاطي من الطرفين، الذي هو
المقدار المتيقن من مورد المعاطاة، ويكون ذلك نظير قول القائل: أعتق
عبدك عني، وعلى الجملة أنه لا بأس بالالتزام بكون هذا المثال من
البيوع التوكيلية، كسائر البيوع الصادرة من أولياء الملاك ووكلائهم.
وقد ناقش في ذلك شيخنا الأستاذ، وإليك نص مقرره: لا يمكن
تصحيحه بكونه وكيلا من الطرفين في تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله

1 - عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهي عن بيع الغرر، سنن البيهقي 5: 342.
201

لوضوح عدم توكيل المالك شخصا معينا (1).
والجواب عن ذلك: أن تعيين الوكيل إنما يعتبر في الوكالات الشخصية
دون الوكالات النوعية، فلو قال أحد: إني وكلت شخصا من أهل النجف
المحترم في بيع متاعي أو ايجار داري، لكان عقد الوكالة باطلا جزما،
وإذا قال: إن علماء النجف وكلائي في بيع كتبي أو تعمير مدرستي، أو
بناية المساجد من خالص مالي، كان ذلك صحيحا قطعا، بديهة أن تعيين
عنوان كلي في التوكيل الذي ينطبق على أشخاص معينين كتوكيل
شخص معين، لا أنه كتوكيل شخص غير معلوم.
وأما المثال الثالث، فهو أيضا غريب عن البيع المعاطاتي بل هو بعيد
عن الإجارة المعاطاتية أيضا، أما بعده عن البيع المعاطاتي فلأن الماء
الذي يستعمله الوارد على الحمام غير معلوم المقدار، وإذن فلا يصح
بيعه لكونه غرريا، وأما بعده عن الإجارة المعاطاتية فلأنه يشترط في
الإجارة امكان الانتفاع من العين المستأجرة مع بقاء عينها، ومن الواضح
أن الماء المستعمل في الحمام لا تبقى عينه بعد الاستعمال، وعليه
فلا يصح وقوع الإجارة عليه.
قيل: إن العين المستأجرة إنما هي نفس الحمام، والمياه المستعملة
فيه تعد منفعة له، وإذن فيكون مورد المثال الثالث من موارد الإجارة
المعاطاتية.
والجواب عن ذلك: إن من أركان الإجارة إنما هو تعيين المدة فيها، فإذا
انتفي ذلك بطلت الإجارة من أصلها، ومن البديهي أن المغتسلين في
الحمامات يختلفون بحسب الحالات فإنه يتوقف فيها بعضهم ساعة
ويلبث فيها آخر ساعتين هكذا، ومع ذلك لا يمكن الالتزام بكون ما نحن

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 199.
202

فيه من قبيل الإجارة المعاطاتية، وعلى هذا الضوء فالمثال الثالث أيضا
من قبيل الإباحة بالعوض أو من قبيل المعاوضة الخاصة التمليكية، كما
جعلنا المثال الأول أيضا من هذا القبيل.
والمتحصل من جميع ما ذكرناه أنا لم نتصور من تلك الأمثلة قسما
آخر للمعاطاة غير الأقسام الماضية، نعم يمكن تصوير قسم آخر لها،
وهو أن يكون مال كل من الجانبين عند الجانب الآخر، إما بعنوان الوديعة
أو بالغصب أو بإطارة الريح أو بغير ذلك، ثم قصد كل منهما كون ما بيده
عوضا عما في يد صاحبه، وحينئذ فلا يبعد صدق مفهوم البيع على
ذلك، لأنا ذكرنا مرارا أن البيع هو الاعتبار النفساني المبرز بمبرز خارجي.
ومن الظاهر أنه لم ترد آية ولا رواية ولا انعقد اجماع على اختصاص
ذلك المبرز بشئ خاص، ولا أن عنوان المعاطاة قد ورد في دليل لكي
يؤخذ به ويحكم بعدم صدقه على ما نحن فيه، وعليه فابقاء كل من
الجانبين ماله عند الجانب الآخر مبرز خارجي لاعتبار الملكية.
نعم، إذا قلنا بأن المعاطاة المقصود بها الملك لا تفيد إلا الإباحة
الشرعية، لم يجز التصرف لكل من الجانبين فيما عنده من المال، بديهة أن
هذه الإباحة إنما ثبتت بالاجماع وهو دليل لبي، فلا يشمل هذا القسم من
المعاطاة.
خلو المعاطاة من الاعطاء والايصال رأسا
ثم إن للمصنف هنا كلاما لم نحققه إلى الآن، وإليك لفظه: ثم إنه لو
قلنا بأن اللفظ الغير المعتبر في العقد كالفعل في انعقاد المعاطاة أمكن
خلو المعاطاة من الاعطاء والايصال رأسا، فيتقاولان على مبادلة شئ
بشئ من غير ايصال، ولا يبعد صحته مع صدق البيع عليه بناء على
الملك، وأما بناء على القول بالإباحة فالاشكال المتقدم هنا آكد.
203

والوجه في كون الاشكال المتقدم هنا آكد هو العلم بعدم قيام السيرة
هنا على إباحة التصرف دون الصورة السابقة، وهي أن يكون التعاطي من
طرف واحد.
أقول: إن كان غرضه من اللفظ المزبور الصيغة الخاصة الفاقدة لبعض
شرائطها، فلا يترتب عليه أثر بوجه، بل شأنها شأن تسمية الأجرة للبذر
والبقر في عقد المزارعة، وعليه فلا وجه صحيح للمصنف أن يلتزم
بحصول النقل والانتقال بذلك اللفظ - بناء على أن المعاطاة تفيد الملكية -
وأن يناقش في جواز التصرف في العوضين على القول بأنها تفيد الإباحة.
وإن كان غرضه من ذلك أن اللفظ إذا كان فاقدا لبعض شرائط الصيغة
في مقام الانشاء، كان ذلك مقاولة، ومن الواضح أن المقاولة تكشف عن
اعتبار الملكية كما أن صيغة بعت تكشف عن ذلك، وإذن فتشمله
العمومات الدالة على صحة البيع، إن كان مراده من اللفظ هو هذا فيتوجه
عليه أن المبرز بالمقاولة إنما هو التباني على البيع، والمبرز بصيغة بعت
ونحوها إنما هو نفس البيع، ومن الواضح أن أحدهما يباين الآخر.
وإذن فلا يعقل أن يجعل أحد المتباينين مصداقا لصاحبه، ولا أن ابراز
البناء على البيع يستلزم ابراز ما عليه البناء، وهو اعتبار الملكية.
5 - تمييز البائع عن المشتري في البيع المعاطاتي
أنه بماذا يتميز البائع عن المشتري في البيع المعاطاتي، لا شبهة في أن
الغرض من هذا الأمر ليس هو تمييز مفهوم البائع عن مفهوم المشتري،
لأنهما من الأمور الواضحة التي لا يحتاج إلى البيان، ضرورة أن من أنشأ
البيع يسمي بائعا، ومن يقبل ذلك يسمي مشتريا، ولا أن الغرض من
ذلك هو تميز أحدهما عن الآخر في موارد الشبهات المصداقية، بأن
204

يوجد بيع معاطاتي في الخارج ولم يميز فيه البائع عن المشتري من جهة
الأمور الخارجية، بديهة أن ذلك راجع إلى باب المرافعات ولا صلة له
بالمقام.
بل الغرض الأقصى من عقد هذا الأمر إنما هو التعرض لمفهومي البائع
والمشتري سعة وضيقا لكي يستوضح مقدار صدقهما، وقد سمى
المصنف أشباه ذلك في أول كتاب الطهارة بالشبهة في الصدق ومرجعه
في الحقيقة إلى الشبهة المفهومية، ولذا أن الأصحاب لم يجعلوها قسما
آخر وراء الشك في أصل المفهوم.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا كان أحد العوضين نقدا والعوض الآخر
عرضا، فالذي يعطي العرض يسمى بائعا والذي يعطي النقد يسمى
مشتريا، لقيام سيرة العقلاء وديدنهم على ذلك، وإذا كان كلا العوضين
نقدا أو كان كلاهما متاعا ولكن كان نظر أحد المتعاملين من المبادلة إلى
حفظ مالية ماله في ضمن أي متاع كان مع كون غرضه في ذلك هو
تحصيل الربح والمنفعة، كأهل التجارة والكسب، وكان نظر الآخر إلى
رفع حاجته وكشف نوائبه وكرباته فقط، فإن الأول يسمى بائعا والثاني
يسمى مشتريا.
وعلى هذا فيكون الملحوظ فيما يعطيه المشتري هو المالية الخالصة
لكي يكون ذلك قائما مقام النقود ويعنون بعنوان الثمنية.
ومثال ذلك أن يعطي أحد مقدارا من الحنطة ليأخذ لحما وكان غرضه
من اعطاء الحنطة أنها تساوي درهما، فإن هذا يسمى مشتريا وباذل
اللحم يسمى بائعا، وإذا انعكس الأمر انعكس الصدق أيضا.
وإن كان كلا العوضين عرضا أو نقدا، من غير سبق مقاولة تدل على
كون أحدهما بائعا والآخر مشتريا، وكان الغرض لكل من المتعاملين هو
205

تحصيل الربح والمنافع مع حفظ مالية ماله في ضمن أي متاع كان، أو كان
نظر كليهما إلى رفع الاحتياج ودفع الضرورة فقط، كتبديل عباءة بعباءة
أو كتاب بكتاب، إن كان كذلك، فذكر المصنف فيه وجوها أربعة:
1 - أن يكون ذلك بيعا وشراء بالنسبة إلى كل من المتبايعين، لأن البيع
مبادلة مال بمال كما في المصباح (1)، والاشراء ترك شئ والتمسك بغيره
كما في القاموس (2)، ولا شبهة في تحقق هذين العنوانين بفعل كل واحد من
المتعاطيين، وعليه فلو حلف أي منهما على عدم الاشتراء حنث بذلك،
نعم لا يترتب عليهما أحكام البائع ولا أحكام المشتري لانصرافهما في
أدلة تلك الأحكام إلى من كان بائعا محضا أو مشتريا محضا، فلا تثبت
تلك الأحكام لمن كان في معاملة واحدة مصداقا لهما باعتبارين.
ولكن يتوجه عليه أن عنوان البائع وعنوان المشتري بالمعنى المزبور
العام كما يصدق على كل منهما في المقام كذلك يصدق على كل من
المتبايعين في كل بيع، حتى فيما إذا كان أحد العوضين نقدا والعوض
الآخر عرضا، ولازم ذلك أن لا يختص أحد المتبايعين في البيوع
المتعارفة بكونه بائعا وثانيهما بكونه مشتريا، وهذا بديهي البطلان.
2 - أن يكون ذلك بيعا بالنسبة إلى من يعطي متاعه أولا لصدق
الموجب عليه، وشراء بالنسبة إلى الآخذ لكونه قابلا.
ويتوجه عليه أن هذا الوجه وإن كان صحيحا في الجملة إلا أنه لا يتم
في جميع الموارد، بديهة أنه لا شبهة في جواز تقديم القبول على
الايجاب في البيوع اللفظية، وعليه فيمكن أن يقصد المعطي أولا في
البيع المعاطاتي قبول الايجاب المتأخر، وإذن فلا دليل على الحكم

1 - المصباح للفيومي: 69.
2 - القاموس 4: 348، لسان العرب 7: 103.
206

بكون الباذل أولا بائعا وكون الباذل ثانيا مشتريا على وجه الاطلاق.
3 - أن يكون ذلك صلحا معاطاتيا، لأن المصالحة بمعنى التسالم،
ومن الواضح أن كل واحد من المتعاطيين يتسالم على تبديل ماله بمال
صاحبه، ومن هنا حملوا الرواية الواردة في قول أحد الشريكين لصاحبه:
لك ما عندك ولي ما عندي على الصلح (1).
ولكن يرد عليه أنه إن كان المراد من الصلح ما هو مصداق لمفهوم
التسالم بالحمل الشايع فهو حسن، لأن مفهوم التسالم أمر وسيع يشمل
جميع العقود حتى النكاح، إلا أن المنشأ في كل عقد بدء غير ما هو
المنشأ في الصلح، بديهة أن كل معاملة وإن كانت لا تصدر إلا عن تسالم
من الطرفين على تلك المعاملة لكنه غير عقد الصلح الذي يكون المنشأ
فيه نفس عنوان الصلح، فكم فرق بين انشاء الصلح وبين انشاء معاملة وقع
التسالم عليها من الطرفين، نعم إن نتيجة انشاء الصلح بعقده قد تتحد مع
نتيجة بعض العقود الأخر.
وإن كان المراد من الصلح ما هو أنشأ لمفهوم المصالحة التي تتميز عن
بقية العقود فهو واضح البطلان، ضرورة أن التعاطي المذكور بعيد عن
مفهوم الصلح وحقيقته، وأما الرواية المزبورة فلا وجه لحملها على
الصلح بل هي تناسب الهبة المعوضة، وهذا واضح لا ريب فيه.

1 - وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما
طعام عند صاحبه ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه:
لك ما عندك ولي ما عندي، قال: لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما (الكافي 5: 258)،
حسنة بإبراهيم بن هاشم.
إنهم استدلوا بالرواية المذكورة على صحة المصالحة مع جهالة المصطلحين بما وقعت فيه
المنازعة، راجع المسالك 4: 263، الحدائق 21: 92، الجواهر 26: 216.
207

4 - أن يكون ذلك معاوضة مستقلة من غير أن يدخل هذا تحت أحد
العناوين المتعارفة، وهذا هو الصحيح عندنا، وتدل على صحته آية
التجارة عن تراض، ولا ريب أن أمثال هذه المعاملة كثيرة في العرف (1).
6 - أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين
لا ريب في أن أصل المعاطاة - وهي اعطاء كل من المتعاطيين ماله
لصاحبه - يتصور على وجوه، ويحسن بنا قبل التعرض لحكم تلك
الوجوه أن نقدم ما لا يستغني عنه، وهو بيان الفارق بين هذا الأمر وبين
الأمر الثاني، وحاصله:
إن جهة البحث في الأمر الثاني إنما هي متمحضة في بيان مورد
المعاطاة، وبيان ما هو المبرز الخارجي لما قصده المتعاطيان، ولذا ذكر
المصنف في طليعة البحث عنه: أن المتيقن من مورد المعاطاة حصول
التعاطي فعلا من الطرفين، وجهة البحث في الأمر الرابع إنما هي بيان ما
قصده المتعاطيان، ولذا ذكر المصنف في مطلع كلامه هنا: أن أصل
المعاطاة يتصور بحسب قصد المتعاطين على وجوه شتى، وإذن
فمرجع البحث في أحد الأمرين غير ما هو مرجع البحث في الأمر الأخر
فلا تنافي بينهما.
وعليه فلا وجه لما أورده شيخنا الأستاذ على المصنف، وإليك نص
مقرر بحثه:
إن الايجاب والقبول يتحقق بدفع العين أولا من البائع وقبضها من

1 - 5 - ما ذكره المحقق النائيني من كون أحدهما بائعا والآخر مشتريا بلا تعين حتى في
الواقع.
وفيه: أنه غير معقول من جهتين أو من جهات لا تخفي - المحاضرات: 85.
208

المشتري، وخروج ما يدفعه المشتري ثانيا ويقبضه البائع عن حقيقة
المعاوضة، فيلزم أن يكون المعاملة حاصلة دائما بدفع العين أولا
وقبضها، ويكون دفع المشتري دائما خارجا عن حقيقة المعاوضة،
وعلى هذا فلا وجه لما التزم به في الأمر الثاني من أن المتيقن من مورد
المعاطاة هو حصول التعاطي فعلا من الطرفين... لأن المفروض أن العطاء
الثاني لا أثر له ولا يتحقق به إلا عنوان الوفاء بالمعاطاة (1).
ووجه عدم المنافاة بين الأمرين، أنه لا تنافي بين الالتزام بأن الايجاب
والقبول يحصلان بالاعطاء والقبض أولا، وأن دفع العين ثانيا خارج عن
حقيقة المعاطاة بل هو وفاء بالعقد، وبين القول بأن المتيقن من مورد
المعاطاة هو ما إذا حصل التعاطي من الطرفين، فإن العقد وإن تم
بالاقباض والقبض أولا، إلا أن المتيقن منه قبال العقد اللفظي هو ما تعقبه
الاعطاء من الطرف الثاني أيضا، وإذن فلا تنافي بين الأمرين.
وإذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أنه قسم المصنف المعاطاة بحسب
قصد المتعاطيين على أربعة أقسام:
1 - أن يقصد كل من المتعاطيين تمليك ماله بمال الآخر، وعليه فيتم
الايجاب والقبول بدفع العين الأولى وقبضها، ويكون دفع العين الثانية
خارجا عن حقيقة المعاطاة، بل يكون ذلك وفاء لما التزم به بإزاء ما
تملكه، وعلى هذا فلو مات القابل بعد المطاوعة وقبل دفع العوض
لم تبطل المعاطاة لأنه مات بعد تحققها في نظام الوجود.
2 - أن يقصد كل من المتعاطيين تمليك ماله للآخر بإزاء تمليك الآخر
ماله إياه، بحيث تكون المعاطاة متقومة بالعطاء من الطرفين مع كون
التمليك بإزاء التمليك، وعليه فلو مات الثاني قبل أن يملك ماله للأول

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 204.
209

لم تتحق المعاطاة، إذ المفروض أن المقابلة بين التمليكين ولا الملكين،
ولا ريب أن هذا المعنى بعيد عن مفهوم البيع لما عرفته في أول الكتاب،
من أنه يعتبر في مفهوم البيع أن يكون المبيع من الأعيان، ومن الواضح أن
نفس التمليك من الأفعال فلا يقع مبيعا.
نعم هو قريب من الهبة المعوضة من ناحية وبعيد عنها من ناحية
أخرى، أما قربه منها فمن جهة أن كلا من المالين خال عن العوض، إذ
المفروض أن المقابلة قد وقعت بين التمليكين لا بين الملكين، فتكون
كالهبة المعوضة لأجل وقوع التمليك بإزاء التمليك، وأما بعده عنها فمن
جهة أن حقيقة الهبة معوضة كانت أم غيرها عبارة عن العطية بلا بدل
فقوامها بالمجانية، وأما اعتبار العوض في الهبة المعوضة فإنما هو على
نحو الداعوية والاشتراط لا على نحو المقابلة والمعاوضة.
ومن الظاهر أن المفروض في المقام إنما هو وقوع التمليك بإزاء
التمليك لا على نحو المجان ولا بدل، والأولى أن يجعل هذا القسم من
التعاطي إما من قبيل المصالحة على أمر معين أو من قبيل المعاملة
المستقلة، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
3 - أن يقصد الباذل أولا إباحة ماله للآخذ بإزاء أن يملك الآخذ ماله
إياه، فتقع المبادلة بين الإباحة والتمليك.
4 - أن يقصد كل من المتعاطيين إباحة ماله للآخر بإزاء إباحة الآخر ماله
إياه فتقع المقابلة بين الإباحتين، أو تكون الإباحة الأولى بداعي الإباحة
الثانية - انتهى ملخص كلام المصنف.
ولا يخفى على الفطن العارف أن الوجوه المتصورة في المقام وإن
كانت كثيرة، كما أوضحها غير واحد من المحشين، ولكن يتضح حكمها
من الأقسام المذكورة، ومن هنا أغفل المصنف التعرض لجميع الأقسام
المتصورة في المقام.
210

أما القسم الأول - أعني به وقوع المقابلة بين المملوكين - فهو المصداق
الواضح للبيع المعاطاتي، فيكون مشمولا للعمومات الدالة على صحة
البيع ولزومه، وتترتب عليه أحكامه وآثاره، وقد فصلنا ذلك في الأمر
الأول.
وأما القسم الثاني - أعني به وقوع المبادلة بين التمليكين - فلا نعقل له
معنى محصلا، بديهة أن حقيقة البيع عبارة عن اعدام إضافة مالكية عن كل
من العوضين وايجاد إضافة أخرى مالكية في كل منهما من دون أن يلزم
منه تبديل سلطنة المالك بسلطنة أخرى، لكي يحتاج ذلك إلى وجود
سلطنة ثالثة، وهكذا حتى يلزم منه التسلسل، وهذا بخلاف مقابلة
التمليك بالتمليك فإنها تحتاج إلى وقوع المقابلة بين السلطنتين وهو
يحتاج إلى سلطنة أخرى، وهكذا إلى غير النهاية، وإذن فمقابلة التمليك
بالتمليك بعيد عن حدود البيع.
وأضف إلى ذلك أن مفهوم البيع إنما هو انشاء تبديل عين بعوض،
وقد تقدم ذلك عند البحث عن تعاريف البيع، ومن المعلوم أن التمليك
بنفسه من قبيل الأفعال فلا يقع مبيعا.
ثم إن من المستحيل نقل التمليك إلى غيره بدأ باعطاء العين أو بقبول
ملكيتها، بل لا بد في نقل التمليك من انشاء آخر يتضمن ذلك، كقوله:
ملكتك تمليكي العين الفلانية، أو بأن يشترط التمليك في ضمن عقد
لازم بأن باع داره من شخص واشترط في ضمن البيع أن يملكه ماله
الفلاني، بحيث يكون متعلق الشرط نفس التمليك دون المملوك.
وعلى الجملة أن الملكية الشرعية اعتبار شرعي غير قابل للتمليك،
والتمليك العقدي فعل من أفعال العاقد، وهو وإن كان قابلا للتمليك
إلا أنه غير قابل له بتمليك المال لفظا بمثل ملكت، أو باعطاء المال فعلا.
211

وقد اتضح لك مما أوضحناه حكم القسم الثالث والقسم الرابع أيضا،
وأنه لا تتصور الإباحة بإزاء الإباحة ولا الإباحة بإزاء التمليك باعطاء العين
وقبضها.
الاشكال في بعض الأقسام
ثم إن المصنف قد ناقش في القسمين الآخرين - الثالث والرابع - من
ناحيتين:
الأولى: إن الإباحة من حيث هي إباحة لا تسوغ التصرفات المتوقفة
على الملك الأعلى نحو التشريع.
الثانية: إن الإباحة بإزاء التمليك، التي ترجع إلى عقد مركب من إباحة
وتمليك، خارجة عن المعاوضات المعهودة شرعا وعرفا.
ولا شبهة في أن صدق التجارة على هذه المعاوضة محل تأمل، فضلا
عن صدق البيع عليها، وإذن فلا تكون مشمولة لآية التجارة عن تراض
ولا غيرها، ثم أطال الكلام حول ذلك نقضا وإبراما.
ولكن قد ظهر لك مما أسلفناه أنه لا موضوع لهاتين المناقشتين أصلا
ورأسا، إلا أنه لا بأس بالتعرض لهما تأسيا للمصنف (رحمه الله) فنقول:
أما المناقشة الأولى، فحاصل ما ذكره فيها:
أن المالك وإن كان له أن يبيح التصرف في أمواله لشخص آخر، إلا أنه
لا ينفذ إذنه إلا في التصرفات المشروعة مع قطع النظر عن إذن المالك،
بديهة أن إذن المالك ليس مشرعا لكي يوجب جواز التصرف في ماله
للمجاز له على وجه الاطلاق.
وعليه فلا يجوز للمالك أن يأذن لغيره في بيع ماله لنفسه، لأنه لا بيع
إلا في ملك، بل يستحيل عقلا صدق مفهوم البيع عليه، لأن مفهومه
مبادلة مال بمال.
212

ومن الواضح أنه لا يتحقق هذا المفهوم إلا برفع الإضافة المالكية عن
أحد العوضين ووضعها على العوض الآخر.
وعليه فإذا لم يدخل الثمن في ملك من خرج المثمن عنه كان ذلك
خارجا عن مفهوم البيع قطعا، ولا يعقل صدق مفهوم البيع على ما هو
خارج عنه.
نعم لا بأس بالإذن في التصرفات المتوقفة على الملك بوجوه شتى:
1 - أن يكون غرض المبيح من قوله: أبحت لك أن تبيع مالي لنفسك،
توكيل المباح له في نقل ماله - المبيح - إلى نفسه - المباح له - ثم بيع ذلك
المال لنفسه - المباح له - أو أن المبيح يوكل المباح له في بيع ماله ثم نقل
ثمنه إلى نفسه - المباح له، أو يقصد المبيح تمليك ماله للمباح له بقوله:
أبحت لك مالي - الخ، بحيث تكون الإباحة بمنزلة انشاء الهبة، ويكون بيع
المباح له بمنزلة القبول.
وعليه فيكون ذلك نظير قول القائل: أعتق عبدك عني بكذا، حيث إن
القول المزبور استدعاء لتمليك المولي عبده لذلك الرجل، واعتاق
المولى عبده جواب للاستدعاء المزبور، فيتحقق هنا بيع ضمني، وعليه
فيكون العبد ملكا للمستدعي آنا ما ثم ينعتق عن قبله.
وفيه أن ما نحن فيه بعيد عن هذا الوجه بجميع شقوقه، إذ ليس
المقصود هنا إذن المالك للمباح له في نقل المال إلى نفسه أولا، ولا في
نقل الثمن إليه ثانيا، ولا أن المالك قصد التمليك بقوله: أبحت لك - الخ،
ولا أن المخاطب قصد التملك عند البيع لكي يتحقق هنا تمليك ضمني
مقصود للمتكلم والمخاطب بالدلالة الاقتضائية، كما كان كذلك في
قضية: أعتق عبدك عني.
2 - أن يدل دليل خاص على كون مال المبيح ملكا للمباح له بمجرد
213

الإباحة، فيستكشف من ذلك الدليل أن البيع الذي أوقعه المباح له قد
وقع في ملكه، أو قام دليل خاص على صيرورة الثمن ملكا للمباح له،
فإنه يستكشف من ذلك الدليل دخول الثمن في ملك المبيح آنا ما، لكي
لا يستحيل صدق مفهوم البيع عليه، ثم انتقاله من ملك المبيح إلى ملك
المباح له.
وعليه فيكون ما نحن فيه بمنزلة شراء العمودين فإنهما يدخلان في
ملك المشتري آنا ما ثم ينعتقان عليه، جمعا بين ما دل على أنه لا عتق
إلا في ملك، وبين ما دل على أن الانسان لا يملك عموديه.
وهذا الوجه أيضا لا يجري في المقام، إذ لم يدلنا دليل خاص على
صحة هذه الإباحة العامة، وأما دليل السلطنة فلا تزاحم الأدلة الدالة على
توقف بعض التصرفات على الملك، كالعتق والبيع والوطي ونحوها، بل
هي حاكمة على دليل السلطنة.
والسر في ذلك أن دليل السلطنة قد أثبت السلطنة على الأموال دون
الأحكام، فيكون ناظرا إلى نفوذ سلطنة المالك في التصرفات التي ثبت
جوازها في الشريعة المقدسة، مع قطع النظر عن دليل السلطنة، ومن هنا
اتضح لك الفارق بين ما نحن فيه وبين شراء العمودين.
3 - ما أشار إليه في آخر كلامه، وهو أن يكون ما نحن فيه من قبيل
رجوع الواهب عن هبته لكي يقع البيع في ملك الواهب، فكما أن بيع
الواهب يقتضي دخول العين الموهوبة في ملكه كذلك أن تصرف المباح
له تصرفا يتوقف على الملك يقتضي دخول المال المباح في ملكه، وهذا
الوجه أيضا غريب عما نحن فيه، إذ لم يثبت جواز مثل هذا التصرف لكي
تكشف صحته عن الملكية آنا ما ملكية تحقيقية قبل تحقق ذلك التصرف
- انتهى ملخص كلام المصنف.
214

بحث في التصرفات المتوقفة على الملك
أقول: يقع الكلام في التصرفات المتوقفة على الملك في ناحيتين:
الناحية الأولى: أنه هل تشرع هذه التصرفات لغير المالك،
لا ريب في أنها قد تكون تكوينية وقد تكون اعتبارية:
أما التصرفات التكوينية، فلا تجوز لغير المالك وإن كان صدورها عنه
بعنوان النيابة عن المالك، وبيان ذلك: أنه إذا دل دليل بالخصوص على
جواز تلك التصرفات التكوينية لغير المالك أخذ به، كوطي الجارية
المملوكة الثابت جوازه بالتحليل، وإن لم يدل دليل خاص على ذلك،
فلا يمكن اثباته بدليل السلطنة لأنه ناظر إلى جواز التصرفات التي هي
مشروعة للمالك مع قطع النظر عن دليل السلطنة، وأن هذا الدليل يثبت
عدم كون المالك ممنوعا عن تلك التصرفات.
وأما التصرفات التي نشك في مشروعيتها أو نعلم بعدم مشروعيتها
فلا تكون مشمولة لدليل السلطنة، لعدم كونه مشرعا، وعلى هذا فلو أذن
المالك لأحد في التصرف في ماله تصرفا متوقفا على الملك لم يمكن
اثبات مشروعيته بدليل السلطنة هذا كله في التصرفات التكوينية.
أما التصرفات الاعتبارية، فلا تتوقف صحتها على الملك بل
لا تتوقف صحتها على إذن المالك وتوكيله، لما سيأتي من الحكم بصحة
العقود الفضولية التي لحقتها إجازة المالك.
نعم ربما يتوهم قيام الاجماع على بطلان العتاق الصادر من غير
المالك، سواء أكان ذلك بإذن المالك أم كان فضوليا، ضرورة أن إذن
المالك لا يؤثر في مشروعية التصرفات المتوقفة على الملك، وإنما يؤثر
إذنه في رفع الحرمة التكليفية فقط، وإذن فمنزلة العتاق منزلة الطلاق،
215

فكما أن الطلاق لا يصح من غير الزوج كذلك أن العتاق لا يصح من غير
المالك إلا أن يعد فعل غير المالك فعلا للمالك كالوكيل.
ولكن هذا التوهم فاسد، بديهة أنه ليس في المقام اجماع تعبدي، بل
من المحتمل القريب أن يكون مستند المجمعين ما دل على عدم نفوذ
العتق إلا في ملك، وسيأتي عدم ارتباطه بمقصود المستدل، وإذن
فلا محذور في صحة العتق من غير المالك، و هذا لا يقاس بالطلاق
لدلالة الدليل على أنه لا يصح من غير الزوج بخلاف العتاق، فإنه لم يدل
دليل على عدم صحته من غير المالك.
قيل: إنه لا يصح العتاق من غير المالك، لا من جهة الاجماع كما توهم،
بل من جهة ما دل على أنه لا عتق إلا في ملك (1).
والجواب عن ذلك: أن سبيل ذلك سبيل ما دل على أنه لا بيع إلا في
ملك، والمراد بهما أحد الأمرين:
1 - اعتبار الملك الفعلي في صحة البيع والعتق، فلا يصح بيع أو عتق
ما يملكه بعد ذلك.
2 - اعتبار الانتساب إلى المالك في نفوذ البيع والعتق، فلا ينفذ على
المالك بيع الأجنبي.
وعلى كلا التقديرين فالرواية لا تنافي صحة البيع الفضولي، ولا صحة
العتق الصادر من غير المالك مستندا إلى إذن المالك، والمتحصل من
جميع ما بيناه هو صحة العتاق بإذن المالك.
الناحية الثانية: أنه إذا قلنا بجواز التصرفات المتوقفة على الملك لغير
المالك، فهل ترجع نتيجتها إلى المتصرف أم يرجع ذلك إلى المالك.
لا ريب في أن التصرفات التكوينية خارجة عن مورد بحثنا، إذ لا يشك

1 - الكافي 6: 179، قرب الإسناد: 50، التهذيب 8: 218، عنهم الوسائل 23: 15.
216

أحد من العقلاء في أن نتيجة أي فعل يصدر من أي فاعل ترجع إلى فاعل
هذا الفعل لا إلى غيره، بديهة أنه لا معنى لأن يشرب أحد ماء فيرتوي
غيره، أو يأكل أحد طعاما فيشبع الآخر، أو ينام واحد فيستريح صاحبه
، أو يشتغل أحد بالعلوم فيكون غيره عالما، وهكذا سائر الأفعال
التكوينية.
وأما التصرفات الاعتبارية كالبيع ونحوه، فترجع نتيجتها إلى المالك
لا إلى غيره، لما عرفته مرارا من أن حقيقة البيع تبديل عين بعوض في
جهة الإضافة، ومقتضى ذلك هو انتقال المثمن من ملك مالكه إلى ملك
مالك الثمن وبالعكس، بأن يفك البائع إضافته القائمة بالمتاع ويجعلها
قائمة بالثمن، ويفك المشتري إضافته القائمة بالثمن ويجعلها قائمة
بالمتاع.
ومثال ذلك أنه إذا باع زيد طعامه من بكر بدينار، صار الدينار ملكا
لزيد، ولو صار ذلك الدينار ملكا لخالد لما صدق عليه مفهوم البيع
بوجه، وإذن فيستحيل أن ترجع نتيجة البيع إلى غير المالك.
ومن هنا اتضح لك أن قول القائل: بع مالي لنفسك، إن رجع إلى ما ذكره
المصنف من الوجوه الثلاثة المتقدمة فلا بأس به، وإلا فلا مناص عن
الحكم بكونه من الأغلاط.
وقد تجلى لك مما أوضحناه حكم سائر العقود والمعاوضات
التمليكية، وأيضا ظهر لك مما ذكرناه حكم شراء العمودين، كما ظهر
لك من ذلك وجه الالتزام فيه بالملكية الآنية التحقيقية.
ووجه الظهور أنه قد ورد في الشريعة المقدسة أن الانسان لا يملك
عموديه، وورد فيها أيضا أنه يجوز للابن أن يشتري عموديه (1)، وقد

1 - الكافي 6: 177، التهذيب 8: 240، الإستبصار 4: 15.
217

عرفت قريبا أنه يستحيل صدق مفهوم البيع على التبديل الساذج من غير
أن يكون التبديل في جهة الإضافة، ومن الواضح أن الجمع بين هذه الأمور
يقتضي الالتزام بدخول العمودين في ملك الابن آنا ما ثم انعتاقهما عليه
من غير أن يكون لهذه الملكية دوام وثبات، بل حصولها مقدمة لزوالها.
وإذن فالالتزام بهذه الملكية يقتضي تخصيص ما دل على أن الانسان
لا يملك عموديه، ولا يمكن الالتزام بتخصيص ما ذكرناه، وهو أنه
لا يمكن صدق مفهوم البيع على ضده، بديهة أن الأحكام العقلية غير قابلة
للتخصيص، وهذا واضح لا ريب فيه.
وقد ظهر لك من مطاوي ما ذكرناه أن الانسان يملك عموديه آنا ما
ملكية تحقيقية، لا ملكية تقديرية فرضية - على ما اشتهر في السنة
المحصلين - لعدم ترتب الأثر على الملكية التقديرية بوجه، وعلى هذا
فلا وجه للمصنف أن يفرق بين شراء العمودين وبين بيع الواهب عبده
الموهوب أو عتقه، حيث التزم بالملكية الآنية التقديرية في الأول
وبالملكية التحقيقية في الثاني، مع أنهما من واد واحد.
وقد اتضح لك أيضا مما بيناه أن المراد من الجمع بين الأدلة، الذي
يوجب الالتزام بالملكية الآنية التحقيقية، إنما هو الجمع بين الدليل
العقلي - أعني به استحالة صدق مفهوم البيع على ضده - وبين ما دل على
جواز شراء العمودين، وبين ما دل على أن الانسان لا يملك عموديه.
وليس المراد من الجمع بين الأدلة الجمع بين ما دل على أنه لا عتق إلا
في ملك، وبين ما دل على جواز شراء العمودين، وبين ما دل على أن الابن
لا يملك عموديه.
ضرورة أنه لو كان المانع عن شراء العمودين هو نفي جواز العتق إلا في
ملك لأمكن تخصيصه بما دل على جواز شراءهما وانعتاقهما من دون أن
218

يترتب عليه محذور لعدم استحالة العتاق في غير الملك، وهذا بخلاف
ما كان المانع هو الدليل العقلي فإنه غير قابل للتخصيص، هذا كله في
البيع.
وأما العتاق، فهل يمكن أن ترجع نتيجته إلى غير المالك أم لا بد وأن
ترجع إلى المالك فقط.
الظاهر أنه لا ريب في صحة العتق عن غير المالك، إذ لم يرد في آية
ولا في رواية ولا في معقد اجماع عدم جواز ذلك، ولم يقم دليل عقلي
أيضا على استحالته، بل لو التزمنا في الناحية الأولى باشتراط صدور
العتق من المالك، لما دل على نفي جواز العتق إلا في ملك، فإن هذا
لا يكون وجها للالتزام بعدم الجواز هنا إذ المفروض أن المتصدي للعتق
إنما هو المالك لأنه بنفسه أعتق عبده عن غيره تبرعا.
ونتيجة البحث: أن المالك إذا أعتق أحد مماليكه عن نفسه أو عن غيره،
أو أذن لأحد أن يعتقه عن نفسه أو عن المالك أو عن ثالث، كان العتاق
نافذا، إذ لا نري مانعا عقليا ولا مانعا شرعيا عن ذلك، بل يدل على نفوذه
ولزومه قوله تعالى: أوفوا بالعقود.
إذ ليس المراد بالعقد في الآية الكريمة هو العقد المصطلح الذي
يحتاج إلى الايجاب والقبول، لكي تخرج الايقاعات عن حدودها، بل
المراد منه العقد المشدد أو مطلق العقد - على ما أسلفناه في البحث عن
لزوم المعاطاة -، ومن الظاهر أن العقد بأحد هذين المعنيين يشمل
الايقاعات أيضا.
وقد تبين لك مما تلوناه عليك أنا لا نحتاج في تصحيح قول الرجل
لصاحبه: أعتق عبدك عني، إلى ما ذكره الأصوليون من دلالته على
التمليك دلالة اقتضائية - التي تتوقف عليها صحة الكلام عقلا أو شرعا -
219

ووجه عدم الاحتياج إلى ذلك ما ذكرناه قريبا، من أن عتق المالك عبده
عن غيره بمكان من الامكان، وعليه فقول القائل لأخيه: أعتق عبدك عني،
محمول على استدعاء العتق التبرعي المجاني.
هذا كله ما يرجع إلى بيان الكبرى الكلية في حكم التصرف في مال
غيره مع إذن المالك فيه تصرفا تكوينيا أو اعتباريا.
انطباق الضابطة على بعض الأمثلة
ثم إنه يحسن بنا أن نصرف الكلام إلى بيان انطباق تلك الضابطة على
بعض الأمثلة المعروفة في الألسنة، وهو قول القائل: أعتق عبدي عن
نفسك، وقوله: أعتق عبدك عني.
أما المثال الأول، فإن رجع إلى توكيل غيره في تملك العبد ببيع
ونحوه ثم عتقه عن نفسه، فإنه لا يخالف القواعد الشرعية، وإن لم يرجع
ذلك إلى التوكيل بل أخذنا بظاهره وهو العتاق المجاني، فإن قلنا بأن
العتق لا يصدر إلا من المالك - وإن كانت نتيجته راجعة إلى غيره - كان
الكلام المذكور لغوا محضا في نظر الشارع، وإن قلنا بجواز صدور العتق
من غير المالك مع إذن المالك في ذلك، صح الكلام المزبور بظاهره
بلا احتياج إلى التأويل.
أما المثال الثاني أعني به: أعتق عبدك عني - فإن رجع إلى توكيل
المالك في شراء عبده للمستدعي ثم عتقه عنه فلا محذور فيه بوجه،
وإن أخذنا بظاهره وقلنا بجواز العتق عن غيره تبرعا ومجانا، سواء أسبقه
الاستدعاء أم لم يسبقه ذلك، كان المثال المزبور صحيحا بظاهره
بلا احتياج إلى التأويل، وإلا فيكون لغوا محضا.
220

بحث في جواز العتق عن الغير وكفايته عن الكفارة
ثم إنه بقي هنا أمران، ويهمنا التعرض لهما:
الأمر الأول: أنه إذا قلنا بجواز العتق عن غيره فهل يجزي ذلك عن
العتق الواجب كالكفارة ونحوها أم لا.
التحقيق أنه لو قلنا بجواز العتق عن شخص آخر لم يجز ذلك عن العتق
الواجب، لأنا ذكرنا في مبحث التعبدي والتوصلي أن اطلاق الأوامر
المتوجهة إلى المكلفين يقتضي مباشرتهم بامتثالها، ومن هنا لا تسقط
الواجبات العبادية كالصوم والصلاة والحج ونحوها عن أي مكلف
بامتثال غيره، ولا يقاس ذلك بالديون المالية التي يجوز أداؤها لكل أحد
مجانا، إذ علم في الشريعة المقدسة، ضرورة أنه يجوز لأي شخص أن
يؤدي دين أخيه المؤمن تبرعا، بل هو أمر استحبابي جزما.
الأمر الثاني: أنه هل يحكم بضمان المعتق عنه للمالك إذا استدعى منه
عتاق عبده أم لا.
لا شبهة في عدم ضمانه بذلك إذا كان عتق المالك عبده عن غيره تبرعا
ومجانا، وإن لم يكن قصد المالك العتق المجاني فإن علم من حال
المستدعي التماس العتاق مجانا فلا شبهة في عدم الضمان أيضا كما هو
كذلك في موارد التسول وإلا فيحكم بالضمان، ونظير ذلك قول القائل
لأحد: احمل هذا المتاع إلى محل فلأني، أو احلق رأسي أو غير ذلك،
فإن الأمر في جميع هذه الموارد يضمن عمل المأمور جزما (1).

1 - بقي الكلام في أمرين:
أحدهما: أنه بناء على صحة العتق عن غير المالك ووصول ثوابه إليه، فهل تسقط ذمته إذا
كان مشغولا بالعتق بنذر أو غيره أو لا، ظاهر السيد والمحقق النائيني (قدس سرهما) في الحاشية هو
الأول، والصحيح هو الثاني، ولا يبعد كونه مختار المسالك أيضا، فإن سقوط التكليف المتوجه
إلى أحد بفعل غيره على خلاف القاعدة، ففي كل مورد ثبت الدليل، كما في عتق الولد عن والده
الميت، نقول به، وإلا فلا، ومجرد الصحة لا يلازم سقوط ذمة الغير كما هو واضح.
أما ما ذكره السيد (قدس سره) من التمسك بفحوى قوله (عليه السلام): دين الله أحق أن يقضى، حيث طبق
الإمام (عليه السلام) الدين على قضاء الفوائت، ثم أمر بأن دين الله أحق أن يقضى، فمخدوش من
وجهين: الأول: أن تلك الرواية ضعيفة السند، ولم نجد لها مأخذا صحيحا، الثاني: أن مؤداها
حكم على خلاف القاعدة لا بد من الاقتصار على موردها، وهو أداء الدين القربى عن الميت
لا عن الحي.
ثانيهما: أن الأمر بالعتق هل يوجب الضمان أم لا، وأما إذا قصد المالك التبرع أو أقام السائل
قرينة على المجانية فلا اشكال في عدم الضمان، لأن المالك أتلف ماله مجانا، وأما إذا لم يكن
شئ منهما فاحترام مال المسلم يقتضي ضمان الأمر بمجرد أمره، وعليه سيرة العقلاء
والمتشرعة في الأموال والأفعال، فلا وجه للقول بثبوت الضمان على الأمر من جهة دخول
المال في ملكه وخروجه عنه، كما يظهر من المحقق النائيني (قدس سره)، وعليه فإذا عين الثمن في
الأمر يكون الضمان به، وإلا فيضمن بالمثل أو بالقيمة - المحاضرات 2: 92.
221

بحث في جهات
ألف - اخراج المأخوذ بالمعاطاة في ثمن الهدي
قوله (رحمه الله): وعرفت أيضا أن الشهيد في الحواشي (1) لم يجوز اخراج المأخوذ
بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي.
أقول: بقيت هنا جهات من البحث لا بد من التعرض لها:
الجهة الأولى: أنه قد يناقش في اخراج المأخوذ بالمعاطاة في ثمن
الهدي.
ولكن لا وجه لهذه المناقشة، لأن الهدي قد يشتري بالثمن الكلي ثم

1 - حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 158.
222

يعطي ذلك من مال المبيح، وقد يشتري بالثمن الشخصي وهو مال
المبيح، أما الأول فلا شبهة في صحته، إذ لا مانع من أداء الدين من مال
شخص آخر مع إذنه في ذلك، أما الثاني فلا وجه له أيضا، إذ لم يدلنا
دليل على اعتبار كون الهدي ملكا لمن يجب عليه (1).

1 - ثمن الهدي، حيث ادعي اعتبار كونه ملكا للمهدي، وقد استشهد المصنف (رحمه الله) في
عدم جواز وطئ الجارية بالإباحة بما حكاه عن حواشي الشهيد (قدس سره) من منعه اخراج المأخوذ
بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي ولا وطئ الجارية، نقول:
أما الاستشهاد بكلامه (قدس سره) في المقام فغريب، لأن مورده المأخوذ بالمعاطاة المقصود بها
الملك على القول بترتب الإباحة عليها شرعا وكلامنا في الإباحة المالكية، ولا ربط لإحداهما
بالأخرى، فهو أجنبي عما نحن فيه، كما ذكره السيد في الحاشية، وتوضيح ذلك:
أن كلامنا في المقام إنما هو في الكبرى، لعنى جواز التصرف المتوقف على الملك من غير
المالك، ونفوذه بعد الفراغ عن الصغرى، وهي تعلق الإباحة به، وفي المعاطاة بالعكس، أعني
إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك بالمعاطاة المقصود بها الملك وعدمها بعد
الفراغ عن الكبرى، أعني نفوذ التصرفات المتوقفة على الملك لو فرض تعلق الإباحة به، إذ
المفروض كون الإباحة شرعية، فكل من المقامين أجنبي عن الآخر.
وأما أصل المطلب فالظاهر عدم اعتبار الملك في ثمن الهدي، فإن ما يظهر من الأخبار
وجوب سوق الهدي في حج القرآن، ووجوب ذبحه هناك في حج التمتع، وليس في شئ منهما
تعرض لملك الثمن أصلا، بل لا يبعد استفادة عدمه مما ورد في بذل الحج.
هذا، مضافا إلى أنه لا يتصور لاخراج ثمن الهدي من مال الغير معنى معقولا، وذلك لأن
المهدي أما أن يشتري الهدي بذمته ثم يؤديها مما أبيح له، وعليه يكون الثمن مال نفسه، وإنما
أوفاه من مال الغير، وأما أن يشتريه بشخص مال الغير، وعليه أن قصد الشراء للمالك فالهدي
بنفسه يكون للمبيح، فهو نظير أن يبيح له سوق الهدي الموروث له من والده مثلا، وإن قصد
الشراء لنفسه، فهو داخل فيما هو معلوم من شراء أحد بمال الغير لنفسه شيئا، ولا معنى لاخراج
ملك الغير في ثمن الهدي.
ومنها المهر، وقد توهم اعتبار كونه ملكا للزوج، ولكن الظاهر أن أصله ليس ركنا في
النكاح، فيجوز بلا مهر فضلا عن اعتبار كونه ملكا للزوج - المحاضرات 2: 93 و 94.
223

ب - اخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة
الجهة الثانية: أنه هل يجوز اخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس
والزكاة، تارة نقول بتعلق الخمس والزكاة بالعين كما هو الظاهر، وأخرى
نقول بتعلقهما بالذمة، وعلى كلا التقديرين يقع الكلام في ناحيتين:
الناحية الأولى: أنه هل يجوز لأحد أن يعطي الخمس أو الزكاة
المتعلقين بذمة غيره أو ماله، الظاهر هو عدم الجواز، أما بناء على
تعلقهما بالعين فواضح، أما بناء على تعلقهما بالذمة فلأن الأوامر ظاهرة
في ثبوت المكلف به في ذمة نفس المكلف وعدم سقوطه عنه بامتثال
غيره إياه إلا بدليل خاص، ومن الظاهر أن الدليل وإن دل على جواز أداء
الدين الثابت في ذمة شخص آخر إلا أن شموله لما يعتبر فيه قصد القربة
غير معلوم، وأصالة الاطلاق يندفع بها احتمال سقوطه.
الناحية الثانية: أنه هل يجوز لمن تعلق الخمس أو الزكاة بماله وبذمته
أن يؤديهما بمال شخص آخر، إن قلنا بتعلق الخمس أو الزكاة بالعين
لم يجز للمالك أن يعطيهما من مال غيره، نعم يجوز له تبديلهما بغيره من
ماله فقط لدليل خاص، وإن قلنا بتعلقهما بالذمة، أما ابتداء كما ذهب إليه
جمع من الأصحاب، أو قلنا بتعلقهما بالعين بدء ولكنهما قد انتقلا إلى
الذمة بعد اتلافهما، فإن الظاهر أنه لا شبهة في أدائهما من مال شخص
آخر مع الإذن فيه، لا من ناحية اعتبار قصد القربة في ذلك ولا من ناحية
تعلقهما بالعين.
أما عدم الشبهة في ذلك من الناحية الأولى، فلأن ما يعطي بدل الخمس
والزكاة وإن كان ملكا لغيره، ولكن المتصدي للأداء إنما هو نفس المكلف
فله أن يضيف ذلك إلى المولي ويأتي به امتثالا لأمره تبارك وتعالى.
224

أما عدم الشبهة في ذلك من الناحية الثانية، فلأن حق السادة والفقراء
إذا فرضنا تعلقه بالذمة ابتداء أو أنه انتقل إلى الذمة بقاء لتلف العين، كان
لصاحب الذمة أن يطبقه على أي فرد يريد.
ج - الملكية التقديرية في دية الميت
الجهة الثالثة: أنه قد التزم المصنف - على ما هو ظاهر كلامه - بالملكية
التقديرية في دية الميت، ولعله من ناحية الجمع بين ما دل على توقف
الإرث على الملك وبين ما دل على أن دية الميت للوارث.
والتحقيق أنه إن قلنا بعدم توقف إرث الدية على الملك فلا مجال
للالتزام بالملك التقديري، وإن قلنا بتوقفه على الملك - كما هو مبني
كلام المصنف - فلا مناص عن الالتزام بالملكية التحقيقية، إذ لا يترتب أثر
على الملكية الفرضية.
بحث في أقسام الإباحة المعوضة
قوله (رحمه الله): وأما الكلام في صحة الإباحة بالعوض، سواء صححنا إباحة
التصرفات المتوقفة على الملك أم خصصنا الإباحة بغيرها.
أقول: محصل كلامه أن البحث هنا يقع في ناحيتين:
الناحية الأولى: في صحة الإباحة بالعوض، وقد نوقش في ذلك بأنها
خارجة عن المعاوضات المتعارفة المعهودة شرعا، على أنه يتأمل في
صدق عنوان التجارة عليها فضلا عن البيع، نعم يمكن الاستدلال على
صحتها بدليل السلطنة ودليل وجوب الوفاء بالشرط، ويمكن أن يكون
ذلك نوعا من الصلح، لأن الصلح هو التسالم، ومن البين أن ما نحن فيه
مصداق للتسالم.
225

ودعوى أن ذلك لم ينشأ بلفظ الصلح لكي يكون مصداقا له، دعوى
جزافية إذ لم يشترط في حقيقة المصالحة انشاؤها بلفظ الصلح.
ومن هنا حمل الأصحاب ما ورد في الرواية قول أحد الشريكين
لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي على المصالحة (1)، مع أنه لم ينشأ
بمادة الصلح أو التسالم، ومن ذلك أيضا ما ورد في مصالحة الزوجين (2).
الناحية الثانية: أنه إذا قلنا بكون الإباحة بالعوض معاوضة مستقلة،
فهل يحكم بلزومها مطلقا أم من طرف المباح له، أم يحكم بجوازها
مطلقا وجوه، أقواها أولها، لعموم: المؤمنون عند شروطهم (3)، ثم
وسطها، لأن المباح له قد أخرج ماله عن ملكه دون المبيح فإن ماله باق
على ملكه وأنه مسلط عليه.
والتحقيق أن الإباحة بالعوض خارجة عن حدود الصلح، بداهة أنها
مغائرة لمفهوم الصلح، ومجرد انطباق مفهوم التسالم عليها لا يجعلها من
مصاديق المصالحة، وإلا لزم ارجاع جميع العقود حتى النكاح إلى
الصلح، بل الإباحة بالعوض تتصور على وجوه شتى:
1 - أن تجعل نفس الإباحة عوضا في المعاملة، بأن يقول أحد لصاحبه:
بعتك هذا الكتاب بإزاء أن تبيحني كتابك الآخر، وهذا لا شبهة في صحته
ولزومه للعمومات الدالة على صحة العقود ولزومها.

1 - وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما
طعام عند صاحبه ولا يدري كل واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه:
لك ما عندك ولي ما عندي، قال: لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما (الكافي 5: 258)،
حسنة بإبراهيم بن هاشم.
2 - الكافي 7: 130.
3 - عوالي اللئالي 1: 222، الرقم: 99.
226

ودعوى أن الإباحة من قبيل الأعمال والأفعال، فهي لا تكون عوضا
في العقود المعاوضية دعوى جزافية، لأنا ذكرنا في أول الكتاب أن عمل
الحر وإن لم يكن مبيعا في البيع، ولكن يصح جعله عوضا فيه، وإذن
فلا نعرف وجها صحيحا لما ذكره المصنف من التأمل في صدق التجارة
عن تراض على الإباحة المعوضة.
وأما الاستدلال على صحة ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله): المؤمنون عند
شروطهم، فيرد عليه:
أولا: أن الشرط في اللغة بمعنى الربط بين شيئين، ومن الواضح أن
الشروط الابتدائية لا يصدق عليها عنوان الشرط، فتكون خارجة عن
حدود الرواية.
ثانيا: أنا لو سلمنا شمول الرواية للشروط الابتدائية، ولكن ليس المراد
من الالتزام هو الالتزام الوضعي، بمعنى أن ما التزم به المؤمن لا يزول
بفسخه، بل المراد من ذلك أنما هو الالتزام التكليفي، أي يجب على كل
مؤمن الوفاء بشرطه، لأنه من علائم ايمانه.
2 - أن تكون الإباحة مشروطة بالتمليك، بأن يبيح ماله لزيد على أن
يملكه زيد ماله.
3 - أن تكون الإباحة معلقة بالتمليك، بأن يبيح ماله لزيد إذا ملكه زيد
ماله.
4 - أن يكون التمليك عنوانا للموضوع، بأن يقول: أبحت مالي هذا
لمن يملكني عشرة دنانير.
5 - أن يبيح ماله لزيد بداعي أن يملك زيد ماله إياه.
أما الوجه الثاني، فإن كان الشرط فيه من قبيل شرط النتيجة، فبقبول
المباح له ينتقل ماله إلى المبيح، وإن كان ذلك من قبيل شرط الفعل
فيجب عليه التمليك لوجوب الوفاء بالشرط.
227

أما الوجه الثالث، فلا شبهة في أن الإباحة فيه بمنزلة الحكم وما
علقت به الإباحة بمنزلة الموضوع، وعليه فإذا تحقق الموضوع، بأن
ملك المباح له ماله للمبيح، تثبت الإباحة كترتب وجوب الحج على
وجود الاستطاعة الخارجية، ومن هنا ظهر حكم الوجه الرابع أيضا.
أما الوجه الخامس، فهو خارج عن حريم الإباحة المعوضة، إذ
الداعي لا يعتبر عوضا، ولا يضر تخلفه في المعاوضات وغيرها.
7 - جريان المعاطاة في جميع العقود والايقاعات
هل تجري المعاطاة في غير البيع من العقود والايقاعات، تحقيق
المقام أنه:
إذا قلنا بأن مقتضى القاعدة هو انحصار العقود والايقاعات بالألفاظ
لم تجر المعاطاة إلا في مورد قام دليل خاص من نص أو اجماع أو سيرة
على جريانها فيه، وذلك لأن المعاطاة حينئذ على خلاف القاعدة
فيقتصر في مخالفتها على مورد الدليل.
وإذا قلنا بأن القاعدة تقتضي صحة انشاء العقود والايقاعات بكل ما
هو صالح لابراز الاعتبار النفساني، جرت المعاطاة في جميعها إلا إذا قام
دليل خاص على عدم جريانها في فرد خاص، أو قام دليل خاص على
انحصار مبرزه بشئ خاص.
ولكن الظاهر أنه لم يرد في آية ولا في رواية ولا في معقد اجماع
انحصار المبرز في جميع العقود والايقاعات بمبرز معين، وعليه
فلا بأس بالالتزام بجريان المعاطاة في جميعها إلا ما خرج بالدليل، وإذن
فيكون ما هو المنشأ بالأفعال من المعاملات مشمولا للعمومات
والاطلاقات الدالة على صحة العقود والايقاعات ولزومهما.
228

ثم إنه منع شيخنا الأستاذ (1) عن جريان المعاطاة في النكاح والوصية
والتدبير والضمان.
أما الوجه في عدم جريانها في النكاح، فلأن الفعل فيه ملازم لضده
وهو الزناء، بل هو مصداق له حقيقة، ومن البين الذي لا ريب فيه أنه
لا يمكن انشاء شئ من الأمور الانشائية بضده.
أما الوجه في عدم جريان المعاطاة في الوصية والتدبير والضمان،
فلأنها أمور لا تنشأ إلا بالقول، ضرورة أنه ليس في مواردها فعل يكون
مصداقا لأحد هذه العناوين المذكورة، بداهة أن انتقال الدين من ذمة إلى
ذمة الذي هو معنى الضمان، لا يمكن أن يتحقق بأي فعل من الأفعال،
وكذلك العتق والملكية والقيمومة بعد موت الموصي - انتهى ملخص
كلامه.
ويتوجه عليه أن كون الفعل ضدا للنكاح إنما هو من ناحية أن الشارع
قد اعتبر في عقد النكاح مبرزا خاصا - وهو اللفظ - ولا ريب في أن مورد
البحث في المقام إنما هو مع قطع النظر عن ذلك، وعليه فالزوجية في
نفسها - مع قطع النظر عن اعتبار الشارع فيها مبرزا خاصا - قابلة للانشاء
بالفعل، وعليه فيكون الفعل بنفسه مصداقا للنكاح بالحمل الشايع.
ويضاف إلى ذلك أنا لو سلمنا ما أفاده شيخنا الأستاذ ولكنه مختص
بالفعل الخاص ولا يعم كل فعل من إشارة ونحوها، فغاية الأمر أنه
لا تحصل الزوجية في نظر الشارع فيما إذا أنشأت بالفعل، لا أن الفعل
لا يكون مصداقا للتزويج عرفا وفي نظر العقلاء.
أما الضمان، فلعل وجه المناقشة في عدم حصوله بالمعاطاة أنه نقل
المال من ذمة إلى ذمة فلا يتحقق بالفعل الخارجي.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 221.
229

ولكن يتوجه عليه أن النقل إنما هو في عالم الاعتبار كالتمليك في البيع
وغيره، والاعتبار أمر قائم بالنفس واللفظ أو الفعل مبرز له، ولا مانع من
أن يكون الفعل مبرزا لاعتبار الانتقال وإن كان هو الإشارة ونحوها.
أما التدبير والوصية، فمنشأ المناقشة فيهما إنما هو حصر الانشاء
المعاطاتي بالاعطاء والأخذ الخارجيين، فإنه لا يعقل انشاء العناوين
المذكورة بذلك، بداهة أنهما أمران استقباليان فيستحيل انشاؤهما بفعل
يتحقق قبل الموت، وعليه فكل ما يوجد في الخارج من الأفعال لا يكون
مصداقا للتدبير أو الوصية.
والجواب عن ذلك: أن عنوان المعاطاة لم يرد في دليل خاص لكي
يقتصر على تحقق التعاطي من الطرفين حفظا لذلك العنوان، بل إنما
التزمنا بمشروعية المعاملات المعاطاتية من ناحية قيام الفعل مقام القول
في ابراز الأمور النفسانية، وعلى هذا فلا يختص الانشاء الفعلي بالاعطاء،
والأخذ الخارجيين، بل يجري ذلك في جميع ما هو قابل لابراز الاعتبار
النفساني من الإشارة وغيرها، ومن هنا يصح طلاق الأخرس بالإشارة
المفهمة.
وعلى الجملة أن القاعدة الأولية تقتضي جريان المعاطاة في جميع
العقود والايقاعات، بداهة أنها ليست إلا الاعتبارات النفسانية المبرزة
بمبرز خارجي فعلي أو قولي، فإنه على كل حال يصدق على المنشأ
عنوان العقد أو الايقاع، فيكون مشمولا للعمومات والاطلاقات الدالة
على صحة العقود والايقاعات.
نعم ثبت اعتبار مطلق اللفظ في انشاء عقد النكاح، واعتبار لفظ خاص
في انشاء الطلاق، وعليه فيكون ذلك تخصيصا للقاعدة المذكورة كما
لا يخفى.
230

وقد اتضح لك مما حققناه فساد القول بالتفصيل بين العقود
والايقاعات، بدعوى أن بعض الأفعال يصدق عليه عنوان المعاملة
كالاعطاء والأخذ الخارجيين فإنه يصدق عليهما عنوان البيع ونحوه،
وبعض الأفعال لا يصدق عليه ذلك كاخراج الرجل زوجته من بيته، فإنه
لا يصدق عليه عنوان الطلاق.
كما اتضح لك أيضا أنه لا احتياج إلى تطويل الكلام هنا بالنقض
والابرام، كما ارتكبه بعض مشايخنا المحققين (1).
ثم إنه نوقش في جريان المعاطاة - على القول بكونها مفيدة للملك - في
الهبة (2)، لقيام الاجماع على أن الهبة لا تفيد الملكية إلا بالايجاب والقبول
اللفظيين.
وعليه فجريان المعاطاة في الهبة متوقف على القول بإفادة المعاطاة
الإباحة، وهذا مخالف لمذهب المحقق الثاني (3)، فبناء على مسلكه
لا تجري المعاطاة في الهبة.
ولكن هذه المناقشة واضحة الاندفاع، بداهة أنه ليس هنا اجماع آخر
غير الاجماع الذي توهم قيامه على اعتبار اللفظ في انشاء مطلق العقود
والايقاعات، كما نبه عليه السيد في حاشيته (4)، ومن الواضح أن هذا
الاجماع ليس بتمام.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 219 - 223.
2 - كالشيخ في المبسوط 3: 315، والحلي في السرائر 3: 177، والشهيد في المسالك
6: 10، والعلامة في القواعد 1: 274.
3 - جامع المقاصد 4: 59.
4 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 81.
231

المناقشة في تعميمه إلى بعض العقود والايقاعات
ثم إنه وقع الخلاف بين الأصحاب (رحمهم الله) في جريان المعاطاة في طائفة
من العقود والايقاعات:
1 - القرض، حيث إنه وإن كان مقتضيا إلا أن تأثيره مشروط بالقبض
الخارجي، وعليه فلو أنعقد القرض بمجرد الفعل أعني به القبض
والاقباض لزم منه اتحاد المقتضي والشرط وهو محال، ضرورة أن
المقتضي يغاير الشرط في الوجود، وإذا فرضنا اتحادهما لزم منه
اجتماع الضدين، وهذا واضح لا ريب فيه.
وأضف إلى ذلك أن رتبة الشرط متأخرة عن رتبة المقتضي، فلو فرض
اتحادهما لزم منه أن يكون شئ واحد متقدما ومتأخرا.
والجواب عن ذلك: أن الحكم الشرعي إنما يتحقق بجعل الشارع
ويستحيل أن يؤثر فيه موجود خارجي بنحو الاقتضاء أو الاشتراط،
والتعبير عن موضوع الحكم بالسبب أو الشرط اصطلاح من العلماء،
وواقع الأمر أنه لا سببية ولا شرطية بل الحكم قد جعل على نحو القضية
الحقيقية على الموضوع المقدر وجوده بخصوصياته المعتبرة فيه، فقد
اعتبر في صحة القرض تحقق الانشاء وحصول القبض، فقد يتعددان
وجودا وقد يتحدان.
نعم الشرط العقلي - الذي هو عبارة عما تتم به فاعلية الفاعل أو قابلية
القابل - يستحيل اتحاده مع المقتضي لاستلزامه ما تقدم من المحذور.
ويكشف عما ذكرناه أنه لو تمت المناقشة المذكورة لجري مثلها في
الهبة وبيع الصرف والسلم، مع أن وضوح تحققها بالقبض الساذج
كالشمس في كبد السماء.
232

2 - الرهن (1)، حيث إن المعاطاة إما تفيد الإباحة المجردة أو الملكية
الجائزة، ومن البين أن كلتيهما لا تلائم الرهان، بداهة أن العين المرهونة
وثيقة للمرتهن، وبديهي أن جواز الرهن ينافي الاستيثاق.
والجواب عن ذلك أن القول بالإباحة أو الملكية الجائزة إنما هو من
ناحية توهم الاجماع على أن المعاطاة لا تفيد الملكية أصلا أو الملكية
اللازمة من أول الأمر، وإلا لكانت المعاطاة مشمولة للأدلة الدالة على
صحة العقود والايقاعات ولزومهما، ومن الظاهر أن الاجماع دليل لبي
فلا يؤخذ منه إلا بالمقدار المتيقن، وهو العقود التي تتصف باللزوم تارة
وبالجواز أخرى، وأما العقود التي هي لازمة في ذاتها كالرهن، فهي
خارجة عن معقد الاجماع، ولا أقل من الشك في ذلك، فهو كاف في
اثبات مقصودنا.
والذي يدلنا على هذه النكتة القيمة أن كلمات أغلب المجمعين
ظاهرة بل صريحة في أن المعاطاة مفيدة للإباحة أو الملك الجائز،
وليس معقد الاجماع في كلماتهم أن ما ليس فيه لفظ من العقود
والايقاعات فهو غير لازم، وإذن فلا بأس بجريان المعاطاة في الرهن
ويكون لازما من أول الأمر، إذ لا نطمئن بدخوله في معقد الاجماع
المتقدم.
ويضاف إليه أن ذلك الاجماع ليس بحجة، لعدم العلم بكشفه عن رأي
المعصوم (عليه السلام)، وما هذا شأنه لا يكون دليلا على اثبات الحكم الشرعي.
3 - الوقف، حيث إنه صدقة في سبيل الله فيكون لازما، لأنه لو كان
جائزا لأمكن رجوعه، وما كان لله لا يرجع، وعليه فلا تجري فيه
المعاطاة التي هي جائزة في نفسها.

1 - استشكل في التذكرة 2: 12، وجامع المقاصد 5: 45.
233

ولكن قد اتضح جوابه مما ذكرناه في الرهن، على أنه لم يثبت كون
الوقف من الأمور القربية، ويضاف إلى ذلك قيام السيرة القطعية على
تحقق الوقف بالمعاطاة، إذ كثيرا ما يوقفون الأمتعة بالمعاطاة، كالفراش
والسراج والظرف وغيرها (1).
وقد ظهر مما ذكرناه - من جريان المعاطاة في الوقف - جريانها في
العتق أيضا، كما اتضح لك من جميع ما بيناه جريانها في كل عقد وايقاع،
وأن الانشاء الفعلي في جميع ذلك قائم مقام الانشاء القولي، إلا ما خرج
بالدليل كالطلاق والنكاح.
ملزمات المعاطاة
في ملزمات المعاطاة على كل من القول بالملك والقول بالإباحة، قد
ذكرنا في الأمر السابق وغيره أن الانشاء الفعلي قائم مقام الانشاء القولي
في جميع المعاملات، وأن هذا الانشاء الفعلي يصدق عليه عنوان
المعاطاة ويكون مشمولا للعمومات والاطلاقات الدالة على صحة
العقود والايقاعات ولزومهما، وعليه فلا مجال للبحث عن ملزمات
المعاطاة، وهذا بين لا ريب فيه.

1 - من موارد المنع الوقف، فقد ذكر المصنف (قدس سره) أن الجواز غير معروف في الوقف، وفيه
أنه إذا ثبت من الخارج اعتبار اللزوم في الوقف، أما لكونه عباديا وما كان لله تعالى لا يرجع، و
أما لجهة أخرى، فيلحقه حكم الرهن، ويجري ما هناك، إذ لا فرق حينئذ بينهما إلا من حيث
كون اللزوم في الرهن لازما حقيقة، وفي الوقف لازم بحكم الشارع، وأما إذا لم يثبت من
الخارج لزوم الوقف فحاله حال البيع، وعلى التقديرين تجري فيه المعاطاة، ويؤكد جريانها فيه
السيرة القطعية المستمرة على عدم ذكر الصيغة في كثير من الأوقاف، مثل الفرش والحصر
الموقوفة للمساجد أو المشاهد وغير ذلك، ولم يعهد رجوع الواقفين أو وارثهم إلى شئ منها -
المحاضرات 2: 101.
234

نعم يحسن بنا البحث عن ذلك تبعا للمصنف، وقد أسس هو (رحمه الله)
أصلا أمام البحث عن ملزمات المعاطاة، وحاصله أنه بناء على إفادة
المعاطاة الملك فالأصل فيها اللزوم، لما أسلفناه من الوجوه الثمانية
الدالة على لزوم جميع العقود التي منها المعاطاة.
تأسيس الأصل في المعاطاة من حيث اللزوم والجواز
وعلى هذا فالأصل في المعاطاة هو اللزوم، أما بناء على القول
بالإباحة فمقتضى الأصل فيها هو عدم اللزوم لأنه يجوز للمبيح أن يرجع
عن إباحته، لأن الناس مسلطون عن أموالهم.
وقد يتوهم أن الإباحة الثابتة قبل رجوع المبيح عن إباحته ثابتة بعد
رجوعه أيضا، إذ الأصل بقاؤها على حالها، ولكن هذا التوهم فاسد فإن
دليل السلطنة حاكم على الأصل المذكور، ويضاف إلى ذلك أن
الاستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية.
ثم إنك قد عرفت - في البحث عن لزوم المعاطاة - أن ما نظمه المصنف
من الوجوه الثمانية التي استدل بها على لزوم المعاطاة لا يتم إلا بعضه،
وقد تقدم أيضا في الأمر السابق وغيره أن دعوى الاجماع على عدم لزوم
المعاطاة - لكي يكون ذلك تخصيصا للأدلة الدالة على لزوم المعاملات -
دعوى جزافية، لعدم العلم بوجود الاجماع التعبدي على ذلك، وعلى
هذا فلا وجه للبحث عن ملزمات المعاطاة لأنها لازمة من أصلها، نعم بناء
على ثبوت الاجماع على جوازها - كما هو مبنى المصنف - فلا بد من
التكلم في ملزماتها.
ولا يخفى عليك أن الاجماع على جواز المعاطاة - على تقدير
تماميته - ليس مفاده هو الجواز في زمان دون زمان، حتى يقال: إنه بعد
ثبوت الجواز من أول الأمر لا معنى للرجوع إلى العمومات وإنما المرجع
235

حينئذ هو استصحاب حكم المخصص، بل معقد الاجماع هو حصة
خاصة من الجواز، وهي حل العقد بتراد العينين وهذا أمر ثابت غير
محدود إلى زمان، أما الجواز من دون تراد فهو لم يثبت من أول الأمر،
والمراد من الملزم - هنا - ما لا يتمكن معه المتعاطيان من حل المعاطاة
لانتفاء موضوع الجواز، وهو تراد العينين.
وبذلك يظهر أنه لا وجه لما أفاده السيد في حاشيته، وإليك نصه
بلفظه:
لا يخفى أن هذا الأصل إنما ينفع مع قطع النظر عن الاجماع على
الجواز في الجملة واشتراط اللزوم بالصيغة، والمفروض في المقام إنما
هو بعد الاجماع المذكور، إذ الكلام في الملزمات والملزم فرع ثبوت
الجواز، ومعه لا يتم من الوجوه الثمانية إلا استصحاب الملكية منها، إذ
لا يجوز التمسك بالعمومات بعد كون المورد خارجا عنها من أول
الأمر (1).
وعلى الجملة إنا إذا قلنا بإفادة المعاطاة الملكية، فلا شبهة في أصالة
اللزوم مع الشك في ارتفاع الملكية وبقائها، وإذا قلنا بإفادتها الإباحة فقد
ذكر المصنف أن الأصل فيه هو الجواز، ولكن الظاهر أن الأصل فيه هو
اللزوم وتفصيل ذلك أنه:
إذا لم يتحقق في الخارج ما يحتمل معه اللزوم فلا بأس بما ذكره
المصنف من التمسك بدليل السلطنة لاثبات جواز الرجوع لكل من
المتعاطيين إلى ماله، إذ المفروض أنه لم يتحقق في الخارج ما يمنع
المالك عن اعمال سلطنته فيما أعطاه لصاحبه بعنوان المعاملة المعاطاتية
- وإن وقع في الخارج ما يحتمل معه اللزوم - فلا يجوز التمسك بدليل

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 81.
236

السلطنة، لجواز رجوع المالك إلى ماله، لأن القدر المتيقن من الإباحة
الثابتة بالاجماع والسيرة ما لم يتحقق في الخارج ما يحتمل معه اللزوم،
وإلا فنتمسك بالأدلة الدالة على صحة المعاطاة ولزومها فيحكم بترتب
الملكية عليها ملكية لازمة.
وأورد شيخنا الأستاذ على المصنف بأن:
ما اختاره هنا ينافي ما ذكره في الأمر الرابع في الإباحة بالعوض، من
أن الأقوى اللزوم، فإن مدرك الأقوال الثلاثة جار في مطلق ما يفيد
الإباحة، سواء كان قصد المتعاطيين الإباحة أو التمليك مع ترتب الإباحة
على فعلهما، فإن وجه الجواز مطلقا هو أن العقود التسليطية دائرة مدار
الإذن والتسليط... ووجه اللزوم مطلقا كفاية عموم المؤمنون عند
شروطهم لاثبات اللزوم... ووجه التفصيل أن المباح له أخرج ماله عن
ملكه، فلا دليل على امكان ارجاعه إليه ثانيا دون المبيح، فإنه باق على
سلطنته، فإذا كان مختار المصنف اللزوم فكيف يصح قوله: وأما على
القول بالإباحة فالأصل عدم اللزوم (1).
ويرد عليه أن مورد البحث في المقام إنما هو المعاطاة المقصود بها
الملك، وعليه فلا وجه للتمسك بقوله (صلى الله عليه وآله): المؤمنون عند
شروطهم، لأن ما التزم به المتعاطيان - وهو الملك - لم يتحقق في
الخارج، وما حصل في الخارج - وهو الإباحة الشرعية - لم يقصداه
ولم يلتزما به، وهذا بخلاف ما أفاده المصنف في الأمر الرابع، فإن كلامه
هناك مسوق لبيان المعاطاة المقصود بها الإباحة المعوضة، وعليه فيمكن
التمسك فيها بدليل وجوب الوفاء بالشرط ويكون ذلك حاكما على دليل
السلطنة.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 226.
237

تلف العوضين من الملزمات
ثم ذكر المصنف: أن تلف العوضين ملزم اجماعا، على الظاهر
المصرح به في بعض العبائر (1)، أما على القول بالإباحة فواضح، لأن تلفه
من مال مالكه ولم يحصل ما يوجب ضمان كل منهما مال صاحبه،
وتوهم جريان قاعدة الضمان باليد هنا مندفع... بأن هذه اليد قبل تلف
العين لم يكن يد ضمان بل ولا بعده إذا بنى مالك العين الموجودة على
امضاء المعاطاة ولم يرد الرجوع، إنما الكلام في الضمان إذا أراد الرجوع
وليس هذا من مقتضى اليد قطعا.
ويرد عليه أن هذا البيان إنما يتم على القول بكون الإباحة المترتبة على
المعاطاة - المقصود بها الملك - إباحة مالكية، ولكن قد ذكرنا مرارا أنها
إباحة شرعية عليه.
فيجري هنا ما أفاده المصنف - عند التكلم على كلام بعض الأساطين -
من الالتزام بحصول الملكية آنا ما قبل التلف، وإنما التزم بذلك هناك من
ناحية الجمع بين الأدلة.
وإذن فاللازم عليه أن يحكم هنا بكون التلف في ملك المالك الثاني
وكونه ضامنا بالمسمى، بديهة أن الاجماع يقتضي عدم ثبوت الضمان
بالمثل أو القيمة، إذ المفروض أن المعاطاة لم تفد إلا الإباحة وقاعدة
ضمان اليد تقتضي كون التلف من ذي اليد، وأصالة بقاء المال في ملك
مالكه الأول يقتضي عدم تحقق الملكية إلا آنا ما قبل التلف، وإذا

1 - صرح بعدم الخلاف البحراني في الحدائق 18: 362، والشيخ الكبير كاشف الغطاء في
شرحه: 50 (مخطوط)، والسيد المجاهد في المناهل: 269، والسيد العاملي في مفتاح الكرامة
4: 157.
238

حصلت الملكية فلا مناص عن الحكم بالضمان بالمسمى، وهذا واضح
لا ريب فيه.
قوله (رحمه الله): وأما على القول بالملك.
أقول: حاصل كلامه أنه لا شبهة في ثبوت الفارق بين جواز المعاطاة
وبين جواز البيع الخياري، ضرورة أن متعلق الجواز في المعاطاة إنما هو
العين، بحيث إن لكل من المتعاطيين أن يسترد ما أعطاه لصاحبه - نظير
الجواز في الهبة المتعلق برد العين الموهوبة - فإن هذا هو المتيقن من جواز
المعاطاة الثابت بالاجماع، ولم يثبت جواز المعاطاة على نحو جواز
العقد الخياري لكي نستصحبه بعد التلف، وهذا بخلاف متعلق الجواز
في البيع الخياري فإنه نفس العقد، ومن هنا قد عرف غير واحد من
العلماء الخيار بملك فسخ العقد.
وعلى هذا فلا موضوع لجواز التراد في المعاطاة بعد تلف العينين
بخلاف جواز الفسخ في البيع الخياري فإنه باق بعد تلف العينين أيضا، إذ
المفروض بقاء متعلقه وهو العقد.
ويرد عليه أنه إن كان المراد من التراد هو التراد الخارجي فهو غير
مفيد، بديهة أن مجرد رد العين خارجا مع بقائها في ملك الآخذ بالمعاطاة
لا يترتب عليه أثر، وإن كان المراد من التراد هو أن فسخ العقد لا يكون إلا
بتراد العين خارجا أو بعد تحقق التراد في الخارج فهو متين، ولكنه ليس
شيئا آخر وراء تعلق الخيار بنفس العقد، لأن الأدلة الدالة على لزوم
العقود إنما تدل على لزوم كل عقد وقد قام الاجماع على أن المعاطاة
المقصود بها الملك تفيد الإباحة إلى زمان معين.
ومن الواضح أن الاجماع دليل لبي فلا يؤخذ منه إلا بالمقدار المتيقن،
وهو ما إذا أمكن تراد العينين، وفي غير هذه الصورة يتمسك بعموم
العام.
239

وإذن فلا بد للمصنف أن يعلل لزوم المعاطاة مع تلف العينين بأن
المأخوذ بالمعاطاة إنما تلف من ملك المالك الثاني، فلا يجوز للمالك
الأول أن يرجع إليه، إذ المتيقن من جواز الرجوع إنما هو صورة الفسخ
بتراد العينين وهو غير ممكن مع تلفهما.
تلف أحد العوضين
قوله (رحمه الله): ومنه يعلم حكم ما لو تلف إحدى العينين أو بعضها على القول
بالملك.
أقول: حاصل كلامه أنه لا شبهة في لزوم العقد مع تلف إحدى العينين
على القول بالملك، لأن جواز المعاطاة إنما يبقي مع امكان تراد العينين،
والمفروض أن إحداهما قد تلفت وإذن فتصير المعاطاة لازمة.
أما على القول بالإباحة فربما يتوهم (1) أن الأصل هنا عدم اللزوم، لأن
الأصل أن سلطنة مالك العين الموجودة باقية على حالها، ولكن هذا
التوهم فاسد إذ الأصل المذكور معارض بأصالة براءة ذمة المالك المزبور
عن مثل العين التي تلفت عنده وعن قيمته.
وعليه فهذه المعارضة معارضة بالعرض لا معارضة بالذات، ودعوى
ثبوت الضمان هنا لقاعدة الضمان باليد دعوى جزافية، ضرورة أن اليد
هنا ليست بيد ضمان لا قبل تلف العين ولا بعده.
نعم يمكن أن يقال إن أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة عدم
الضمان بالمثل أو القيمة، لأن الشك في الضمان مسبب عن الشك في
السلطنة، ومن الظاهر أنه لا مجال لجريان الأصل المسببي مع جريان
الأصل السببي.

1 - كما استوجبه السيد المجاهد في المناهل: 269، وفاقا للفاضل النراقي في المستند
2: 363، تبعا للمسالك 2: 363.
240

وأضف إلى ذلك أن مالك العين الموجودة ضامن ببدل العين التالفة
جزما، وإنما الاختلاف في أن البدل المضمون هل هو البدل الحقيقي -
أعني به المثل أو القيمة - أو البدل المسمى - أعني به العين الموجودة -
وعليه فلا تجري هنا أصالة عدم الضمان لكي يتوهم تعارضها بأصالة بقاء
السلطنة، بديهة أن أصالة براءة الذمة مخالفة للعلم الاجمالي بالضمان،
ومن البين أن العلم المذكور مانع عن جريان أصالة براءة الذمة، وإذن
فتصبح أصالة بقاء السلطنة سليمة عن المعارض.
ويضاف إلى ذلك كله أن عموم دليل السلطنة كما يقتضي تسلط مالك
العين الموجودة على ماله بأن يأخذه من صاحبه، كذلك يقتضي تسلط
مالك العين التالفة على ماله بأن يأخذ بدله الحقيقي - من المثل أو القيمة -
من الطرف الآخر، وعلى هذا فلا يختص دليل السلطنة بطرف واحد بل
يجري ذلك في كلا الطرفين، وحينئذ فلا مجال للتمسك بالدليل
الفقاهي - أعني به استصحاب براءة الذمة عن المثل والقيمة - مع وجود
الدليل الاجتهادي - أعني به دليل السلطنة - انتهى ملخص كلام
المصنف.
وفيه مواقع للنظر والمناقشة، ويتضح لك ذلك في ضمن أسئلة
وأجوبتها:
1 - أن اليد الموضوعة على المأخوذ بالمعاطاة - على القول بالإباحة -
هل توجب الضمان؟
الظاهر أن اليد هنا يد ضمان، ضرورة أن المعاطاة وإن كانت مفيدة
للإباحة إلا أن الأخذ والاعطاء فيها ليسا بمجانيين، بل في مقابل العوض
المسمى، وعليه فإذا تلفت أحدي العينين وبقيت الأخرى كانت العين
الباقية بدلا جعليا عن العين التالفة.
ومن هنا قد التزم المصنف - عند البحث عن كلام بعض الأساطين -
241

بالضمان المعاوضي في المأخوذ بالمعاطاة، وإنما التزم بذلك من ناحية
الجمع بين الأدلة، وإذا لم تكن العين الباقية بدلا جعليا عن العين التالفة
وجب الخروج عن عهدتها باعطاء المثل أو القيمة.
نعم لا تكون اليد موجبة للضمان في موردين:
الأول: أن يسلط المالك غيره على التصرف في ماله مجانا وبلا عوض
فتلف المال عند المتصرف، فإن اليد هنا ليست مضمنة، لأن المالك قد
الغي احترام ماله بتسليط غيره عليه بلا عوض، وهذا هو الحجر الأساسي
للقاعدة المعروفة، وهي كل ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.
الثاني: أن تكون اليد يد أمانة - سواء في ذلك الأمانة الشرعية والأمانة
المالكية - فإن يد الأمانة لا توجب الضمان، ضرورة أنه ليس على الأمين
سبيل.
ولا ريب أن كلا الوجهين بعيد عما نحن فيه، وإذن فلا مناص - في
المقام - عن القول بالضمان لقاعدة ضمان اليد.
2 - إذا تلفت أحدي العينين وبقيت الأخرى فهل تبقى سلطنة المالك
في العين الباقية على القول بالإباحة؟
لا نعقل وجها صحيحا لبقاء سلطنة المالك في العين الباقية على القول
بالإباحة، أما على مسلكنا فلأن الأدلة قد دلت على صحة المعاطاة
ولزومها من أول الأمر وقد خرجنا عن ذلك حسب الفرض - من قيام
الاجماع على عدم الملكية من أول الأمر - في المقدار المتيقن، وهو ما إذا
كانت العينان موجودتين، أما إذا تلفت إحداهما فلا اجماع على عدم
الملكية في الآن المتصل بالتلف، فيتمسك بتلك الأدلة تثبت بها الملكية
اللازمة في ذلك الآن.
أما على مسلك المصنف فلأن الجمع بين الأدلة - على ما صرح به في
جواب الشيخ كاشف الغطاء (قدس سره) حين ما ادعى أن القول بالإباحة يستدعي
242

تأسيس قواعد جديدة - يقتضي الالتزام بالملكية في آن قبل تلف أحدي
العينين.
وعلى كل حال فقد تلفت العين في ملك مالكها الثاني، وانتقل ماله إلى
الطرف الآخر، ومع ذلك كيف يمكن أن يلتزم ببقاء سلطنته مع ارتفاع
موضوعها، بل لو قلنا ببقاء السلطنة - في العين الموجودة - للمالك الأول
لزم منه الجمع بين العوض والمعوض على مسلكنا ومسلك المصنف
كليهما، بل لزم منه الجمع بين المتنافيين، ضرورة أن الحكم بالملكية مع
تلف أحدي العينين يقتضي انقطاع سلطنة المالك الأول عن العين
الموجودة، ومن الواضح أن القول بثبوتها له مناف لذلك.
وقد انجلي لك مما بيناه أنه لا وجه للقول باستصحاب سلطنة المالك
الأول في العين الموجودة، بداهة أن جريان الاستصحاب مشروط باتحاد
الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة، وإذا تلفت إحدى
العينين استكشفنا منه دخول كل من العوضين في ملك أي من
المتعاطيين، وإذن فيتعدد موضوع الاستصحاب بتعدد القضية المتيقنة
والقضية المشكوكة، ومعه لا مجال للاستصحاب.
نعم، إذا قطعنا النظر عن الدليل الاجتهادي كان مقتضى الأصل بقاء
العين الموجودة في ملك مالكها الأول، ويترتب عليه جواز انتزاعها من
يد من هي بيده بقاعدة السلطنة، كما أن مقتضى الأصل بقاء العين التالفة
في ملك الآخر إلى زمان تلفها ويترتب عليه الضمان بالمثل أو القيمة،
ولكن هذا مقطوع العدم لأنا نعلم بأن ذمة من تلف عنده المال غير مشغولة
بشئ ما لم يطالبه الآخر، وعليه فبقاء كل من المالين في ملك مالكه الأول
معلوم البطلان، وإذن فلا مجال لاستصحاب السلطنة، لا في العين الباقية
ولا في العين التالفة.
ومما ذكرناه يظهر عدم جواز التمسك لاثبات سلطنة المالك الأول
243

على العين الباقية بقاعدة السلطنة، وعليه فلا وجه لتمسك المصنف بها
لاثبات السلطنة لكل من الطرفين، سواء فيه مالك العين الموجودة ومالك
العين التالفة.
بل لو أغمضنا عما ذكرناه من الجزم بثبوت الملكية للآخذ قبل التلف -
ولو بآن - لم يمكن التمسك بقاعدة السلطنة في المقام، لأن التمسك بها
لاثبات السلطنة لأحد المتعاطيين أو لكليهما من قبيل التمسك بالعام في
الشبهة المصداقية، فإن التمسك بدليل السلطنة إنما يصح فيما إذا أحرزنا
موضوع السلطنة وهو المال المضاف إلى المالك.
ومن المحتمل خروج المال الذي انتقل إلى غيره ببيع ونحوه، عن
حدود ذلك الموضوع بحيث صار موضوعا لسلطنة المنقول إليه،
وبديهي أنه مع الشك في ذلك لا مجال للتمسك بدليل السلطنة، وكذلك
الحال في اثبات السلطنة بدليلها في العين التالفة، وعليه فإن جري
استصحاب الملكية ترتب عليه جواز رجوع المالك بماله وإلا لم يمكن
التمسك بقاعدة السلطنة لاثبات جواز الرجوع لأن الشبهة مصداقية.
3 - أن أصالة بقاء السلطنة على تقدير جريانها هل تكون حاكمة على
أصالة البراءة عن الضمان بالمثل أو القيمة؟
ذهب المصنف (رحمه الله) إلى ذلك، ويمكن تقرير الحكومة بوجهين:
الأول: أن يقال إن الشك في ثبوت الضمان بالمثل وعدمه مسبب عن
الشك في بقاء سلطنة المالك الأول وعدم بقائه والأصل الجاري في
الشك السببي حاكم على الأصل الجاري في الشك المسببي.
الثاني: أن يقال إن استصحاب الجاري في طرف يتقدم على البراءة
الجارية في الطرف الآخر، لحكومة دليل الاستصحاب على دليل البراءة،
فإذا علمنا بعدم مطابقة أحدهما للواقع - كما هو الحال في المقام - تعين
العمل بالاستصحاب ويرتفع بذلك موضوع البراءة، وقد ذهب إلى هذا
244

جمع من المحققين، وعليه فيجري استصحاب السلطنة، فيحكم
بالضمان بالبدل الواقعي دون المسمى.
أما الوجه الأول فيرد عليه أنا ذكرنا في محله أن مجرد كون أحد
الأصلين سببيا والآخر مسببيا لا يسوغ حكومة الأول للثاني، بل لا بد في
ذلك أن يكون ارتفاع الثاني أو ثبوت ضده أثرا شرعيا للأول.
ومن البديهي أن عدم البراءة عن الضمان بالمثل أو القيمة ليس من
الآثار الشرعية لاستصحاب السلطنة لكي يترتب عليه ارتفاع أصالة البراءة
عن الضمان بالبدل الواقعي، وإنما الأثر الشرعي المترتب على
استصحاب السلطنة هو جواز رجوع مالك العين إليها، ومن لوازمه
العقلية ضمانه بالبدل الواقعي للعين التالفة، ضرورة قيام القرينة
الخارجية على أن مالك العين التالفة لم يعطها لمالك العين الباقية اعطاء
مجانيا.
ومن البديهي أن هذه الملازمة الخارجية لا تدل على ارتفاع الأصل
المسببي بالأصل السببي إلا على القول بالأصل المثبت، وهذا واضح
لا ريب فيه.
أما الوجه الثاني فيرد عليه:
أولا: إن دليل الاستصحاب إنما يكون حاكما على أصالة البراءة فيما
إذا كان مجراهما واحدا، فإن الواقع حينئذ يحرز بالاستصحاب فلا يبقى
مجال للرجوع إلى البراءة، أما إذا تعدد المجري فلا موجب للتقديم، فإذا
علمنا اجمالا بوقوع نجاسة في الماء أو علمنا بكون المايع الآخر بولا كان
استصحاب عدم وقوع النجس في الماء معارضا بقاعدة الطهارة في المايع
الآخر، لا أن الاستصحاب يجري وتثبت به نجاسة ذلك المايع، والمقام
من هذا القبيل، إلا أن يلتزم بحجية الأصل المثبت، فإنه لا مانع حينئذ من
جريان الاستصحاب وحكومته على أصالة الطهارة أو أصالة البراءة.
245

وعليه فالعمل باستصحاب السلطنة وتقديمه على أصالة براءة الذمة
عن الضمان منوط بحجية الأصل المثبت، فيحكم بعدم براءة الذمة عن
البدل الواقعي لأنه من اللوازم العقلية لبقاء السلطنة.
ثانيا: أنه يمكن قلب أصالة البراءة عن الضمان بالمثل أو القيمة إلى
استصحاب براءة الذمة عن المثل أو القيمة، فإن ذمة مالك العين
الموجودة لم تكن مشغولة بالبدل الواقعي للعين التالفة قبل التلف،
فالأصل عدم اشتغالها بذلك بعد التلف أيضا، وإذن فيقع التعارض بين
الاستصحابين، وبعد ذلك يرجع إلى أصالة البراءة.
وعلى الجملة لم نعقل وجها صحيحا لتقديم استصحاب السلطنة في
العين الموجودة على أصالة البراءة عن البدل الواقعي في العين التالفة.
نعم إذا تمسكنا في المقام باستصحاب الملكية في كلا المالين إلى
زمان تلف أحدهما لم يبق مجال للتمسك بأصالة البراءة، فإن الحكم
باشتغال ذمة الطرف الآخر بالمثل أو القيمة من الآثار الشرعية لبقاء ما
تلف في يده على ملك مالكه الأول، لكن قد عرفت ما في هذا
الاستصحاب آنفا.
وقد ظهر لك مما أوضحناه أن أدلة صحة البيع ولزومه إنما تدل على
ترتب الملكية على المعاطاة من أول الأمر، غاية الأمر أنه على تقدير
تحقق الاجماع لزم منه الالتزام بالإباحة إلى أن تتلف أحدي العينين، وأما
مع التلف فيحكم بالملكية قبله آنا ما لعدم الاجماع حينئذ.
ولو أغمضنا عن الأدلة الاجتهادية إلا أن استصحاب بقاء كل من
المالين على ملك مالكه الأول قاض بضمان المثل أو القيمة، ومعه
لا تصل النوبة إلى أصالة البراءة عن الضمان بالمثل والقيمة،
ولا إلى استصحاب السلطنة في العين الباقية فضلا عن جريانه في العين
التالفة.
246

لو كان أحد العوضين دينا في الذمة
قوله (رحمه الله): ولو كان أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين فعلى القول
بالملك يملكه من في ذمته فيسقط عنه، والظاهر أنه في حكم التلف، لأن الساقط
لا يعود، ويحتمل العود وهو ضعيف.
أقول: قد ذكرنا سابقا - عند البحث عن النقوض المتوجهة على
تعريف البيع وعند البحث عن الحق والحكم - أن كل أحد مالك لذمته
وما فيها بالملكية الذاتية التكوينية لا بالملكية الاعتبارية العرضية،
بداهة أنه لا معنى للثبوت الاعتباري في موارد الثبوت التكويني، فإن
الاعتبار في أمثال الموارد لغو محض وتحصيل للحاصل.
وعليه فإذا ملك الانسان شيئا في ذمة غيره فقد ملكه بالملكية
الاعتبارية، فإذا انتقل ذلك المملوك إلى المملوك عليه - وهو المديون -
تبدلت الإضافة الاعتبارية بالإضافة التكوينية.
وعليه فلا مجال للقول باستحالة مالكية الانسان لما في ذمته ولو كانت
الملكية ملكية ذاتية، كما لا مجال لدعوى ملك الانسان لما في ذمته
حدوثا وسقوطه بقاء، إذ لو أمكن ملكه له ملكية اعتبارية حدوثا أمكن
ذلك بقاء أيضا.
وعلى كل حال فالظاهر لزوم المعاطاة حينئذ من أول الأمر، وذلك
للعمومات الدالة على لزومها، وقد خرجنا عن ذلك بالاجماع ولكنه -
على تقدير تسليمه - مختص بما إذا أمكن التراد، وهو لا يمكن مع فرض
كون أحد العوضين دينا، وبذلك يظهر أنه إذا كان أحد العوضين دينا -
ولو كان على ذمة غير المتعاطيين - حكم بلزوم المعاطاة من أول الأمر.
قوله (رحمه الله): والظاهر أن الحكم كذلك على القول بالإباحة، فافهم.
أقول: ربما يتوهم من ظاهر عبارة المصنف أنه إذا كان أحد العوضين
247

دينا في ذمة أحد المتعاطيين حكم بلزوم المعاطاة على القول بالإباحة،
كما حكم بلزومها أيضا على القول بالملك، ولكن هذا التوهم فاسد،
بداهة أن كون الإباحة موجبة لسقوط ما في الذمة من الدين لا يزيد على
التلف الحقيقي - على القول بالإباحة - وقد عرفت قريبا أن المصنف
لم يلتزم باللزوم في فرض التلف الحقيقي - على القول بالإباحة - بل التزم
بجريان أصالة السلطنة في العين الباقية والرجوع إلى البدل الواقعي في
العين التالفة.
والمظنون قويا أن غرض المصنف من تنزيل القول بالإباحة - هنا -
على القول بالملك هو أن الإباحة توجب سقوط الدين، كما أن التمليك
يوجب سقوطه.
وقد ناقش فيه شيخنا الأستاذ بأن: إباحة الدين على من هو عليه
لا يستلزم السقوط، لأن كون الدين مباحا لمن عليه الدين معناه أنه تجوز
له التصرفات فيه باسقاطه عما في ذمته والمصالحة عليه وسائر أنحاء
التصرفات الجائزة على القول بالإباحة، فيرجع مالك ما في الذمة إلى
ملكه الذي أباحه لمن عليه لعموم الناس مسلطون وسائر الأدلة.
ثم أجاب عن هذه المناقشة بأن: الإباحة التي هي محل البحث في
باب المعاطاة ليست بالمعنى الذي حملها عليه صاحب الجواهر، من أن
إفادة المعاطاة الإباحة إنما هو فيما إذا كان قصد المتعاطيين الإباحة، بل
المراد منها التسليط المالكي على التقريب المتقدم، فإذا أوجدا مصداق
التسليط فلا فرق بينه وبين الملك، فكما أنه لا يعقل أن يتملك الانسان ما
في ذمته فكذلك لا يمكن أن يكون مسلطا عليه، فنتيجة التسليط أيضا
السقوط والتلف والتالف لا يعود (1).

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 244.
248

و الصحيح أن القول باللزوم - فيما كان أحد العوضين دينا - لا يتوقف
على استحالة تملك الانسان لما في ذمته أو سلطنته عليه، وإلا فقد عرفت
أن مالكية الانسان لما في ذمته بمرتبة من الامكان بل هي من أعلى مراتب
المالكية، غاية الأمر أن قوام هذه المالكية بالإضافة الذاتية لا بالإضافة
الاعتبارية العرضية، وكذلك تسلط الانسان على ما في ذمته فإنه بمكان
من الامكان، بل القول باللزوم مبني على ما ذكرناه، من أن الأدلة قد دلت
على صحة المعاطاة ولزومها من أول الأمر.
فلو قلنا بالملكية وسلمنا الاجماع على الجواز لم نقل به في المقام،
لأن المتيقن من معقد الاجماع غير ما إذا كان أحد العوضين دينا، كما أنا
لو قلنا بالإباحة من جهة الاجماع على عدم الملكية بالمعاطاة كان المتيقن
من معقده غير ذلك أيضا، فيلتزم بالملكية وبلزومها بالمعاطاة من الأول
فيما إذا كان أحد العوضين دينا في الذمة لاستحالة تراد العينين حينئذ
فلا يشمله الاجماع القائم على الجواز أو الإباحة.
حكم نقل العوضين أو أحدهما بعقد لازم
قوله (رحمه الله): ولو نقل العينان أو إحداهما بعقد لازم - الخ.
أقول: إذا نقلت العينان أو إحداهما بعقد لازم فلا شبهة في لزوم
المعاطاة، ضرورة أن انتقال المأخوذ بالمعاطاة إلى غيره كالتلف، سواء
في ذلك القول بالملك والقول بالإباحة.
وعلى هذا فلو عادت العين ثانيا إلى ملك الآخذ بالمعاطاة لم يثبت
بذلك حق الرجوع لمالكها الأول لسقوطه بنقل العين إلى غيره، فعوده
إليه ثانيا يحتاج إلى دليل وهو منفي، وكذلك الحال في سائر التصرفات
المتوقفة على الملك.
249

وقد اتضح لك مما ذكرناه أنه لا فارق في لزوم المعاطاة بنقل العين إلى
غيره، بين أن يكون ذلك بعقد لازم وبين كونه بعقد جائز (1).
أما تغير العين المأخوذة بالمعاطاة فهو أيضا يوجب لزوم المعاطاة،
بناء على ما ذكرناه من أن القاعدة تقتضي لزوم المعاطاة من حين العقد،
فلو تم اجماع فالقدر المتيقن منه هو الجواز قبل وقوع ما يحتمل معه

1 - قد يتوهم أن تعلق حق الرجوع بالمأخوذ بالمعاطاة يخرجه عن كونه طلقا، وإذن
فتبطل المعاملة على ذلك قبل لزوم المعاطاة، ولكن هذا التوهم فاسد، لأن الخيار لم يتعلق
بالعين بل إنما تعلق بالعقد.
قيل: إن جواز التراد كان ثابتا قبل التصرف ونشك في سقوطه بعد التصرف الناقل مع رجوع
العين إلى المتصرف فنستصحبه.
والجواب عن ذلك أن جواز الرجوع قد سقط بنقل العين إلى غيره، فلا مجال لاستصحابه،
بل إنما يستصحب عدم جواز الرجوع بعد رجوع العين إلى ناقله، نعم قد وجهه بعض المحققين
وإليك لفظه: موضوع جواز التراد ما يملكه المتعاطيان، وهذا موضوع محفوظ قبل النقل وبعد
الفسخ، وإنما الشك في أن تخلل النقل رافع للحكم عن موضوعه.
ولكن يتوجه عليه أن الجواز في باب المعاطاة وإن كان متعلقا بالعقد كبقية الخيارات، إلا أنه
ثابت بالاجماع، ومن الظاهر أن المتيقن منه إنما هو عدم تحقق التصرفات المتوقفة على الملك،
وإلا فيسقط ذلك فتصير المعاطاة لازمة.
وعليه فلا يبقي مجال للاستصحاب، لا من ناحية التفصيل بين ما ثبت المستصحب بالدليل
اللبي وبين غيره، بل من ناحية عدم وجود المستصحب لأن موضوع جواز الفسخ هنا ليس
مطلق ما يملكه المعاطيان، كما زعمه المحقق المذكور، بل ما يملكه المتعاطيان قبل تحقق
التصرف المتوقف على الملك.
وإذن فلا يبقي مجال لاستصحاب الجواز لانتفاع موضوعه جزما، سواء في ذلك القول
بالإباحة والقول بالملكية، وعليه فأصالة اللزوم محكمة.
وقد تجلي لك مما أوضحناه أنه لا فارق في سقوط الجواز وعدم عوده ثانيا بين أن يكون
رجوع العين بالفسخ والإقالة، وبين رجوعها بمعاملة جديدة أو إرث أو نحوهما، وهذا بين
لا ريب فيه.
250

اللزوم وأما بعده فيتمسك باطلاق ما دل على اللزوم، أما على مسلك
المصنف (رحمه الله) فلا تصير المعاطاة لازمة بذلك، بديهة أن التغير لا يتوقف
على الملك لكي نلتزم به من ناحية الجمع بين الأدلة ونحكم بلزوم
المعاطاة.
لو باع العين ثالث فضولا
قوله (رحمه الله): ولو باع العين ثالث فضولا.
أقول: حاصل كلامه أنه إذا باع العين ثالث فضولا وقلنا بأن المعاطاة
تفيد الملكية لم يبعد أن تكون إجازة المالك الأول رجوعا كبيعه وسائر
تصرفاته المتوقفة على الملك، ولكنه لا يخلو عن اشكال، وإن أجازه
المالك الثاني لزمت المعاطاة بغير اشكال، وإذا قلنا بأن المعاطاة تفيد
الإباحة انعكس الحكم اشكالا ووضوحا بمعنى أنه تنفذ إجازة المالك
بغير شبهة، ولكن يتردد في نفوذ إجازة المباح له فإذا أجاز العقد الواقع
على العين فضولا نفذت إجازته، وأن العين باقية في ملك المالك، فإذا
أجاز المباح له العقد الفضولي الواقع على العين لم تنفذ إجازته لأنه كغيره
من الأجانب.
والتحقيق أنه إذا قلنا بأن المعاطاة تفيد الإباحة وأجاز المالك الأول
العقد الفضولي الواقع على العين كانت إجازته رجوعا عن المعاطاة، لأن
المفروض أن العين باقية على ملكه والناس مسلطون على أموالهم فتكون
إجازته للبيع الواقع على ملكه فضولا كبيعه له بنفسه فيكون فسخا
للمعاطاة.
ومن هنا يظهر أن له رد العقد الفضولي أيضا لأنه هو المالك فله الإجازة
والرد، وهل يكون رده - على القول بالإباحة رجوعا - عن المعاطاة، قد
251

يقال بعدمه، نظرا إلى أن رد العقد الفضولي لا يترتب عليه إلا بقاء ماله على
ما كان عليه مملوكا له، وهذا لا ينافي إباحته للمتعاطي فتبقى الإباحة
على حالها.
ولكن في هذا خلطا بين المعاطاة المقصود بها الإباحة وبين المعاطاة
المقصود بها الملكية مع ترتب الإباحة عليها بالتعبد، ففيما إذا أعطى
المالك ماله وقصد به الإباحة لم يكن رد العقد الواقع عليه فضولا رجوعا
عن الإباحة، بخلاف إجازته، وأما إذا أعطى ماله قاصدا به التمليك فهو
أجنبي عن ذلك المال في اعتباره، والإباحة الشرعية مترتبة على هذا
الاعتبار حدوثا وبقاء، فما دام هذا الاعتبار كان باقيا فهو أجنبي عن المال
فليس له رد العقد الواقع عليه، فرده يكشف بالدلالة الالتزامية عن رجوعه
في المعاطاة وارجاع مملوكه إلى نفسه، فكان الرد كالإجازة في أنه يكون
رجوعا عن المعاطاة.
وإن أجاز المباح له ذلك العقد الفضولي صارت المعاطاة لازمة، فإن
شأن الإجازة الصادرة منه شأن البيع الصادر منه، فكما أن البيع توجب
لزوم المعاطاة كذلك الإجازة.
أما اشكال المصنف (رحمه الله) في تأثير إجازته فلعله مبني على أن الجمع
بين الأدلة - كما أفاده (قدس سره) - يقتضي الالتزام بالملكية آنا ما قبل التصرف
المتوقف عليها، وهذا لا يتحقق في فرض الإجازة، وإنما يتحقق في
فرض بيعه بنفسه، وذلك فإن الصحيح أن الإجازة كاشفة لا ناقلة، وعليه
فلا بد من الالتزام بدخول المال المعطي في ملك المباح له قبل البيع
الفضولي آنا ما، وهذا مناف للقول بالإباحة كما هو المفروض، نعم
لو كانت الإجازة ناقلة صحت إجازة المباح له كبيعه بلا اشكال.
ويندفع هذا الاشكال بما ذكرناه، من أن القول بالإباحة لم يدل عليه
252

دليل غير الاجماع المدعى على عدم تأثير المعاطاة في الملكية، وإلا
فالاطلاقات وافية بإفادتها لها - كما في العقد اللفظي - والمتيقن من
الاجماع على تقدير تسليمه إنما هو ما قبل صدور العقد الفضولي
المتعقب بإجازته، وأما في غيره فيتمسك بالاطلاقات وتثبت بذلك
الملكية من حين صدور العقد فيصح بإجازته وينتقل البدل إليه.
نعم لا يؤثر رده في ابطال العقد الفضولي، إذ المفروض أن العين باقية
في ملك مالكها، وأما المباح له فليس له إلا جواز التصرف فيها دون رد
العقد الواقع عليها.
وإن شئت قلت: إن غاية ما يترتب على رد المباح له أنه لا يضاف إليه
العقد الفضولي، فتكون العين باقية على حالها من عدم تصرف المباح له
فيها، وهذا لا ينافي جواز تصرف المالك فيها بإجازته للعقد المترتب
عليها، فيكون هذا رجوعا عن المعاملة المعاطاتية، هذا كله على القول
بالإباحة.
أما على القول بالملك، فإن أجازه المالك الثاني كانت الإجازة نافذة
بلا اشكال، لأنها إجازة من المالك، ولزمت المعاطاة لانتقال العين إلى
شخص آخر، وإن رده سقط العقد الفضولي عن قابليته للإجازة منه أو من
المالك الأول، إذ المفروض أن الرد قد صدر من المالك فيلغو العقد
الواقع على ماله، على ما هو المعروف من عدم تأثير الإجازة بعد الرد،
ولكنه مع ذلك لا تخرج المعاطاة من التزلزل إلى اللزوم، بديهة أن رده
هذا ليس إلا هدما للعقد الفضولي وجعله كالعدم، وهذا لا يلازم
المعاطاة بوجه.
وإن أجازه المالك الأول أو رده كان ذلك فسخا للمعاطاة لما عرفته
قريبا من دلالة الإجازة أو الرد على رجوعه عن عقد المعاطاة وإلا فهو
253

أجنبي عن إجازة العقد الواقع على ملك غيره ورده، فالإجازة أو الرد
كاشفة عن الرجوع بالدلالة الالتزامية.
أما اشكال المصنف في تأثير إجازته، فلعله مبني على أن فسخ
المالك الأول ورجوعه عن المعاطاة إنما يؤثر من حينه، فالمبيع يرجع
إليه من حين الفسخ، وهذا لا يمكن الالتزام به هنا، فإن الإجازة إذا صحت
لا بد من أن تكشف عن الملكية حال العقد، والمفروض أنه لا يمكن
الالتزام به هنا لفرض أنه لا موجب لرجوع المال إلى مالكه الأول غير
فسخه، وهو متأخر عن العقد الفضولي زمانا، نعم لا بأس بالالتزام بتأثير
الإجازة - على القول بالنقل - إلا أنه خلاف المبني.
ويمكن دفع الاشكال:
أولا: بأنه لو تم فإنما يترتب عليه عدم صحة العقد الفضولي بإجازة
المالك الأول ولا يترتب عليه بقاء المعاطاة على حالها وعدم انفساخها
بتلك الإجازة، ضرورة أن الإجازة - كما عرفته - كاشفة عن رجوع المالك
الأول لا محالة، سواء في ذلك تأثيرها في صحة العقد الفضولي وعدمه.
ثانيا: إن الكشف الذي التزم به المصنف (رحمه الله) هو الكشف الحكمي دون
الكشف الحقيقي، والكشف الحكمي نقل حقيقة، وإنما يفترق عن النقل
بلزوم ترتيب ما هو الممكن من آثار الملكية السابقة من حين الإجازة،
وبما أنه لا يمكن ترتيب آثار الملكية السابقة - حال العقد - من حين
الإجازة فلا يحكم بترتبها، بل يحكم بترتب الملكية حال الإجازة.
ثم إنه ذكر المصنف (رحمه الله) أنه: لو رجع الأول فأجاز الثاني فإن جعلنا
الإجازة كاشفة لغي الرجوع، ويحتمل عدمه، لأنه رجوع قبل تصرف
الآخر فينفذ، ويلغوا الإجازة، وإن جعلناها ناقلة لغت الإجازة قطعا.
والتحقيق أن الإجازة - على القول بالكشف، ويأتي في مبحث البيع
254

الفضولي - قد تكون منزلة المعرف المحض لصحة العقد الفضولي من
الأول من دون دخل لها في صحة العقد أصلا، وقد تكون دخيلة في تأثير
الانشاء السابق، أما على سبيل الشرط المتأخر وأما على سبيل كونه
قيدا، على أن يكون المؤثر في الملكية هو الانشاء السابق المقيد بتعقب
الإجازة.
وعلى المعنى الأول فيمكن الالتزام بأن الإجازة الصادرة من المالك
الثاني - وإن تأخرت - تؤثر في العقد الفضولي، وأما رجوع المالك الأول
- وإن تقدم - فلا يؤثر في ذلك، إذ الإجازة تكشف عن انتقال المال عن
مالكه الأول إلى غيره من حين العقد، وحينئذ فالرجوع الصادر من المالك
الأول لغو محض فإنه رجوع بعد انتقال العين إلى ثالث فلا موضوع له.
والجواب عن ذلك:
أولا: أنه هذا المعنى للكشف وإن كان محتملا في مقام الثبوت، ولكن
لا دليل عليه في مقام الاثبات، بل الأدلة الدالة على اعتبار الرضا في صحة
العقد تدل على عدمه.
ثانيا: إنا لو سلمنا أن الإجازة المتأخرة معرفة لصحة العقد من دون أن يكون لها دخل فيها، إلا أنها إنما تكون كذلك إذا صدرت من المالك الذي
ينتسب إليه العقد بالإجازة لا من كل أحد، ومن الواضح أن رجوع المالك
الأول يرفع موضوع الإجازة من المالك الثاني فلا تكون إجازته صادرة من
المالك لكي تكون معرفة لصحة العقد من أول الأمر.
وبتعبير آخر: أن الإجازة المعرفة إنما هي الإجازة التي تصدر ممن
يرجع إليه أمر العين - التي وقع عليه العقد - بحيث يصح له أن يبيعها، وإذا
فرض أنه خرج عن دائرة اختياره بفسخ المعاطاة لم تصح الإجازة لكي
تكون كاشفة.
255

وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو رد المالك الأول ثم أجاز المالك الثاني،
حيث ذكرنا أن الرد رجوع منه في عقد المعاطاة بالدلالة الالتزامية، وعلى
المعنى الثاني فالأمر أوضح، بداهة أن المؤثر في تأثير الانشاء إنما هو
الإجازة اللاحقة الصادرة من المالك الثاني لا كل إجازة - وإن صدرت من
غير المالك - وقد عرفت آنفا أن المالك الثاني قد انقطعت علاقته عن
المال المعطي له برجوع المالك الأول.
وعليه فلا تؤثر إجازته في انتساب العقد إليه لكي يكون مشمولا
للعمومات الدالة على صحة العقود ولزومها، وإذن فالإجازة المتأخرة
الصادرة من المالك الثاني لاغية.
ثم لو رجع المالك الأول صريحا أو بالدلالة الالتزامية - كما إذا أجاز
العقد الفضولي أو رده - وقارنته الإجازة من المالك الثاني، فإن قلنا
بشمول الاجماع - القائم على جواز المعاطاة - لصورة رجوعه حال إجازة
المالك الثاني فلا يقي مجال لإجازة المالك الثاني، وإن لم نقل بذلك كان
رجوع المالك الأول - في تلك الحالة - لاغيا، هذا كله في حكم المثمن،
وقد ظهر من جميع ما تلوناه عليك حكم الثمن أيضا.
لو امتزجت العينان أو إحداهما
قوله (رحمه الله): ولو امتزجت العينان أو إحداهما سقط الرجوع على القول بالملك،
لامتناع التراد ويحتمل الشركة وهو ضعيف، أما على القول بالإباحة فالأصل بقاء
التسلط على ماله الممتزج بمال الغير، فيصير المالك شريكا مع مالك الممتزج به.
أقول: التحقيق أنه لا قصور في شمول العمومات - الدالة على لزوم
المعاطاة المقصود بها الملك - لمحل الكلام، نهاية الأمر أنه يحكم
بجوازها للاجماع.
256

ومن البين الذي لا شك فيه أن الاجماع - على تقدير تحققه - دليل لبي،
فلا بد من الاقتصار فيه على المقدار المتيقن، وهو ما كان المأخوذ
بالمعاطاة موجودا عند الأخذ بالمعاطاة ومتميزا عن غيره من جميع
الجهات، وعليه فإذا امتزج ذلك بغيره لم نطمئن بوجود الاجماع على
الجواز.
وإذن فلا بد من الحكم بلزوم المعاطاة في هذه الصورة، سواء في ذلك
القول بالملكية والقول بالإباحة، وعلى هذا فلا وجه لما احتمله
المصنف من الالتزام بالشركة على القول بالملك، كما لا وجه
لاستصحاب بقاء السلطنة على القول بالإباحة.
وأضف إلى ذلك قيام السيرة القطعية على عدم جواز الرجوع مع
امتزاج المأخوذ بالمعاطاة بغيره، إذ لو أخذ أحد دهنا من بقال - بالبيع
المعاطاتي - فمزجه بدهن آخر فإنه لا يشك أحد في أنه ليس للآخذ أن
يرده إلى البائع، واحتمال أن تكون المعاطاة حينئذ لازمة من طرف
المشتري وجائزة من طرف البائع بعيد غايته، هذا كله فيما إذا لم يكن
المزج موجبا لصدق التلف على المال المأخوذ بالمعاطاة وإلا كان
الحكم باللزوم مع الامتزاج أوضح.
وقد اتضح لك مما بيناه حكم التصرف المغير للعين، كطحن الحنطة
وفصل الثوب، بل دعوى السيرة المتقدمة هنا بمكان من الوضوح، وإذن
فلا مجال لاستصحاب جواز التراد على القول بالملك، كما لا وجه للقول
بعدم اللزوم على القول بالإباحة.
موت أحد المتعاطيين
قوله (رحمه الله): ليس جواز الرجوع في مسألة المعاطاة نظير الفسخ في العقود
257

اللازمة حتى يورث بالموت ويسقط بالاسقاط ابتداء أو في ضمن المعاملة، بل هو
على القول بالملك نظير الرجوع في الهبة، وعلى القول بالإباحة نظير الرجوع في
إباحة الطعام - الخ.
أقول: لا شبهة في أن جواز الرجوع في المعاطاة جواز حكمي كجواز
الرجوع في الهبة وكجواز الرجوع في إباحة الطعام - كما ذكره المصنف -
إلا أن جواز الرجوع في العقود الخيارية أيضا من قبيل الحكم، لما عرفته
في البحث عن الحكم والحق، من أنه لا فارق بينهما بحسب الواقع بل
الفارق بينهما بحسب الاصطلاح فقط باعتبار أن أي حكم كان رفعه بيد
المكلف يسمي حقا وما لا يكون كذلك يسمي حكما، وإلا فالحق أيضا
حكم شرعي غايته أنه يقبل الارتفاع باختيار المكلف له، ومن الظاهر أن
الجواز في البيع الخياري من هذا القبيل بخلاف الجواز في الهبة، والمتبع
في كل مورد هو دلالة الدليل.
ثم إن الجواز في بيع المعاطاة إنما ثبت لخصوص المتعاطيين ولا يثبت
لوارثهما، والوجه في ذلك أن العمومات الدالة على لزوم العقد تقتضي
لزوم المعاطاة من أول الأمر لكونها عقدا بالحمل الشايع، ولكن الاجماع
- على تقدير تسليمه - قد انعقد على جوازها، وبما أنه دليل لبي فلا بد من
الأخذ بالمقدار المتيقن منه، ومن المعلوم أن المقدار المتيقن من الاجماع
هو ثبوت الجواز في المعاطاة ما دام المتعاطيان باقيين في الحياة،
ولا اجماع على الجواز فيما إذا مات أحدهما أو كلاهما، وإذن فتصير
المعاطاة لازمة للعمومات المزبورة، وعليه فلا مجال لتوهم انتقاله إلى
الوارث بأدلة الإرث.
ولا يفرق في ذلك بين القول بأن المعاطاة تفيد الملكية أو الإباحة، أما
على الأول فواضح، أما على الثاني فلأن الإباحة الثابتة هنا ليست إباحة
258

مالكية، وإنما هي إباحة شرعية قد ثبتت بالاجماع، فإن الكلام إنما هو في
المعاطاة المقصود بها الملك، وقد انعقد الاجماع - على تقدير تسليمه -
على عدم تأثيرها في الملكية وترتب إباحة التصرف عليها، لكن القدر
المتيقن من ذلك ثبوت الإباحة لنفس المتعاطيين وعدم ترتب الملك على
المعاطاة في زمان حياتهما إلى آن قبل موت أحدهما، وحيث لا اجماع
بعد ذلك فالمرجع هي الاطلاقات، وبذلك تثبت الملكية لهما فينتقل
المال من الميت إلى وارثه.
وإذن فمنزلة ما نحن فيه منزلة نقل العين المأخوذة بالمعاطاة إلى غيره
بشئ من النواقل الاختيارية، فكما أن الثاني ملزم للمعاطاة كذلك الأول.
وأضف إلى ذلك قيام السيرة القطعية على لزوم المعاطاة بموت أحد
المتعاطيين إذ لم نر ولم نسمع إلى الآن رجوع الوارث إلى المأخوذ
بالمعاطاة بعد موت مورثه، بل إذا أراد الرجوع إلى ذلك عده الناس
خارجا عن سلك العقلاء، وكذلك الحال في رجوع الحي إلى ورثة
الميت فيما أخذه منه بالمعاطاة.
فالسيرة كاشفة عن انتقال المأخوذ بالمعاطاة إلى وارث الميت
ولزومه، بلا فرق بين القول بأن المعاطاة تفيد الملك والقول بأنها تفيد
الإباحة.
وقد تبين لك مما أوضحناه أنه لو جن أحد المتعاطيين لم يجز الرجوع
إلى الآخر، سواء فيه القول بالملك والقول بالإباحة، فإن الدليل على
جواز المعاطاة إنما هو الاجماع - على تقدير تحققه - ولا نطمئن بوجوده
في هذه الصورة بل يرجع إلى أدلة اللزوم على كلا القولين، وإذن فلا وجه
صحيح لما أفاده المصنف من ثبوت حق الرجوع لولي المجنون على كلا
القولين.
259

جريان الخيارات المصطلحة في المعاطاة
قد تكلمنا في ذلك اجمالا في الأمر الأول، وأوكل المصنف - هناك -
البحث عن ذلك إلى ما سيأتي، وهنا موعده، فنقول:
لا ينبغي الشك في عدم جريان الخيار ولا غيره من أحكام البيع على
المعاطاة المقصود بها الإباحة، إذ لا صلة بين هذا القسم من المعاطاة وبين
البيع بوجه لكي تجري عليها أحكامه، بل شأن المعاطاة المقصود بها
الإباحة شأن إباحة الطعام، ونحوه في الضيافات وغيرها، وهل يسوغ
لأحد أن يتوهم جريان الخيارات - مثلا - في الضيافات وأشباهها من
أقسام الإباحات.
وأيضا لا ينبغي الشك في جريان الخيار وسائر أحكام البيع على
المعاطاة المقصود بها الملك، إذا قلنا بإفادتها الملك اللازم من أول
الأمر، بداهة أنها على هذا الرأي لا يقصر عن البيع اللفظي بشئ فتكون
موضوعا للأحكام الجارية عليه، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، إذ
لا نعرف وجها صحيحا لاختصاص الأحكام المزبورة بالبيع اللفظي،
وإنما الاشكال في جريان الخيار وسائر أحكام البيع على المعاطاة
المقصود بها الملك إذا قلنا بإفادتها الملك الجائز أو الإباحة.
أقسام الخيارات
وقبل تحقيق ذلك لا بد وأن يعلم أن الخيار على ثلاثة أقسام:
1 - أن يثبت فيه بالاشتراط والجعل، ولو من جهة اشتراط فعل على
أحد المتبائعين أو اشتراط صفة في أحد العوضين، فإن مرجع الاشتراط
في هذه الموارد إلى جعل الخيار أيضا، لأنا لا نعقل وجها صحيحا لجعل
260

الشرط في البيع إلا ثبوت الخيار فيه للمشروط له على تقدير التخلف،
بداهة أن مرجع الاشتراط أما إلى توقف أصل العقد على تحقق الشرط أو
إلى توقف لزومه عليه، وعلى الأول فيلزم التعليق في العقود وهو مبطل
للبيع اجماعا، وعلى الثاني فلزوم العقد متوقف على الوفاء بالشرط وإلا
فهو جائز، وهذا هو معنى كون العقد خياريا.
2 - أن يثبت الخيار في البيع بالشرط الضمني حسب ما يقتضيه بناء
العقلاء والارتكاز العرفي، من غير تصريح بالشرط في ضمن العقد،
ومثاله أن يشتري أحد من غيره عرضا خاصا بدينار مع الجهل بقيمته
الواقعية فبان أنه لا يسوي إلا بدرهم، فإنه لا ريب في ثبوت الخيار
للمشتري للارتكاز القطعي وبناء العقلاء على اشتراط البيع بكون
العوضين متساويين في المالية، وإذا تخلف ذلك ثبت للمشروط له خيار
تخلف الشرط الضمني الثابت بالارتكاز.
3 - أن يكون الخيار ثابتا في البيع بالدليل الشرعي التعبدي، بحيث
يكون البيع بنفسه وعنوانه موضوعا لذلك الخيار تعبدا، من غير احتياج
إلى الاشتراط الصريح في متن العقد أو إلى الارتكاز العقلائي، وذلك
كخياري الحيوان والمجلس، فإنهما ثابتان للبيع بدليل خاص تعبدي.
وإذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أنه لا وجه للمناقشة في جريان
الخيار في القسمين الأولين على المعاطاة، بناء على إفادتها الملك الجائز
فإنها بيع عرفا وشرعا، بل لو لم تكن بيعا أيضا لجري عليها الخيار في
هذين القسمين، بداهة أن دليل ثبوت الخيار في هذين القسمين غير
مختص بالبيع، بل يعم كل معاوضة وإن لم يكن بيعا.
وقد نوقش في جريان الخيار عليها حينئذ بأن أثر الخيار إنما هو جواز
العقد، ومن الواضح أن المعاطاة جائزة بالذات فلا معنى لجوازها
261

بالعرض، وعليه فجعل الخيار في المعاطاة لغو محض وتحصيل
للحاصل، كما نوقش - أيضا - في جريان الخيار المختص بالبيع -
كخياري المجلس والحيوان - على المعاطاة، بأن الظاهر من دليل جعل
الخيار اختصاصه بعقد كان وضعه على اللزوم من غير ناحية هذا الخيار،
فلا يشمل المعاطاة لكونها جائزة بطبعها الأولى.
أما المناقشة الأولى فقد تقدم جوابها عند التكلم على الأمر الأول
ويأتي أيضا في مبحث الخيارات.
أما المناقشة الثانية فقد تقدم جوابها أيضا في الأمر الأول، وأضف
إليه أنه إن أريد - من ظهور دليل الخيار في الاختصاص بعقد كان مبناه على
اللزوم - اللزوم عند المتعاقدين، فلا شبهة في أن المعاطاة أيضا كذلك،
وإن أريد من ذلك اللزوم عند الشارع فهو غير صحيح في البيع اللفظي
أيضا، إذ قد يجتمع خيار المجلس والحيوان وهما مع خيار آخر.
وقد اتضح لك مما أوضحناه جريان الأرش هنا أيضا، إذ لا قصور في
شمول دليله لما نحن فيه.
هذا كله على القول بإفادة المعاطاة الملك، أما على القول بإفادتها
الإباحة فلا مانع من ثبوت الخيار لها الذي لا يختص دليله بالبيع فقط - كما
في القسمين الأولين على ما عرفته آنفا - إلا أن أثر ثبوت الخيار حينئذ
ليس رجوع الملك إلى مالكه الأول، إذ المفروض أن المال بعد باق على
ملكه، ولم ينتقل منه إلى غيره ليرجع إليه بالفسخ، بل أثره سقوط العقد
عن قابليته للتأثير بفسخ المعاملة وعدم بقاء أحد المتعاطيين على التزامه،
وقد بينا ذلك في الأمر الأول.
نعم يشكل ذلك في مقام الاثبات وإقامة الدليل، فإن دليل نفوذ الشرط
يختص بالعقد الممضي شرعا، فإذا فرضنا أن الشارع لم يمض عقد
262

المعاطاة وكان كل من المالين باقيا على ملك مالكه - غاية الأمر أنه أباح
لكل من المتعاطيين التصرف في مال الآخر - فكيف يمكن القول بصحة
الشرط الواقع في ضمنه بدليل وجوب الوفاء بالشرط أو بدليل وجوب
الوفاء بالعقد بماله من القيود.
والمتحصل أن دليل ثبوت الخيار وإن لم يشمل جعل الخيار في
المعاطاة - بناء على إفادتها الإباحة - إلا أنه لا اشكال في امكان ثبوته فيها
ويترتب عليه سقوط العقد عن قابليته للتأثير بفسخه، وإنما الاشكال في
ثبوت الخيار الذي اختص دليله بالبيع، قد يقال بعدم ثبوت ذلك في
المعاطاة - على القول بإفادتها الإباحة - لعدم كونها بيعا بل هي معاوضة
مستقلة، كما احتمله الشهيد الثاني في المسالك (1).
ويرد عليه أنها بيع عرفي، وامضاء الشارع لها مشروط بتحقق الملزم،
وعليه فهي كبيع الصرف الذي اشترطت صحته بالقبض في المجلس،
فكما أن حصول الملكية في بيع الصرف متأخر عن البيع كذلك المعاطاة،
نعم تفترق المعاطاة - عن غيرها بجواز تصرف كل من المتعاطيين قبل
حصول الملكية ولا يجوز ذلك في غيرها، والفارق بينهما إنما هو قيام
الاجماع على جواز التصرف في المعاطاة.
وعليه فلا مانع من ثبوت الخيار - المختص دليله بالبيع - في المعاطاة
على القول بترتب الإباحة عليها دون الملك.
نعم إن دليل خياري المجلس والحيوان لا يعم ما إذا لم يصح العقد
شرعا، ولم يتعلق به الامضاء خارجا، وعليه فلا يبقي مجال لثبوت مثل
هذا الخيار في المعاطاة على هذا القول.

1 - المسالك 3: 151.
263

هذا كله قبل أن يتحقق شئ من الملزمات التي تقدمت، أما بعد تحققه
فعقد المعاطاة عقد صحيح يجري عليه خيار المجلس وخيار الحيوان،
فإنه بيع نافذ فيعمه دليل الخيار الثابت فيه، ويترتب على ذلك أن غاية
خيار المجلس - حينئذ - هو الافتراق عن مجلس تحقق فيه البيع بتحقق
شئ من الملزمات، كما أن مبدء الثلاثة في خيار الحيوان إنما هو حين
تحققه.
وبما ذكرناه يظهر جريان الخيار الثابت في القسمين الأولين - أيضا -
على المعاطاة بعد تحقق شئ من الملزمات، بل هذا أولى بالجريان،
فإنها لو سلمت أنها ليست ببيع كانت معاوضة مستقلة وقد رتب عليها
الشارع ابتداء خلاف ما قصده المتعاطيان إلى زمان تحقق الملزم، ورتب
عليها ما قصده المتعاطيان بعد تحقق الملزم، ومن الظاهر أن ذلك لا يمنع
عن جريان الخيار - الذي لم يختص دليله بالبيع - عليها.
العقد الفاقد لبعض شرائط الصيغة هل يرجع إلى المعاطاة أم لا؟
لا ريب في تحقق المعاطاة المصطلحة - التي هي معركة الآراء بين
الخاصة والعامة - بما إذا تحقق انشاء التمليك أو الإباحة بالفعل، وهو
قبض العينين، أما إذا حصل ذلك بالقول غير الجامع للشرائط فهل يترتب
عليه ما يترتب على المعاطاة، الأقوال في المقام ثلاثة:
1 - القول برجوع ذلك إلى المعاطاة.
2 - القول برجوعه إليها إذا تعقبه القبض والاقباض.
3 - القول بعدم رجوعه إليها بل يكون ذلك من البيوع الفاسدة، وقد
أطال المصنف الكلام - هنا - ولكن الظاهر أنه لا يترتب ثمر مهم على هذه
الإطالة.
264

والتحقيق أن حقيقة كل أمر انشائي من الأوامر والنواهي والعقود
والايقاعات متقومة بالاعتبار النفساني المبرز بمظهر خارجي، سواء
أكان هذا المبرز فعلا من الأفعال الجوارحية أم كان قولا، وعليه فلا وجه
لتخصيص ذلك المبرز بالقول أو بحصة خاصة منه بل يعم القول والفعل
كليهما، إلا أن يدل دليل خاص على اعتبار مبرز معين في صحة عقد أو
ايقاع ونفوذه شرعا، كما هو الحال في اعتبار اللفظ في صحة عقد النكاح
وفي اعتبار اللفظ الخاص في صحة الطلاق.
وعلى هذا الضوء فيصح انشاء عقد البيع وغيره بأي مبرز كان، من غير
أن يكون مشروطا بصيغة خاصة فضلا عن أن تكون هذه الصيغة مشروطة
بشرط لكي يتكلم في أنه إذا وقع خلل في بعض ما يرجع إلى هذه الصيغة
من الشرائط هل تشمله العمومات والمطلقات الدالة على صحة ذلك
العقد ولزومه.
ومع الاغضاء عن هذا المنهج الصحيح والالتزام باعتبار قيود معينة في
صيغة البيع أو غيره فهل يحكم بفساد الصيغة مع الاخلال ببعض قيودها
أم يحكم عليها بحكم المعاطاة.
التحقيق أن ما يدل على اعتبار الصيغة الخاصة في البيع - مثلا - قد
يكون ظاهرا في اعتبارها في لزومه، فيحكم بكون البيع بالصيغة الفاقدة
لتلك الخصوصية بيعا صحيحا جائزا، إذ المفروض أن المشروط بتلك
الخصوصية إنما هو لزوم العقد دون صحته.
وعليه فإن كان لدليل الاشتراط اطلاق أخذ به ويحكم بأن العقد الفاقد
لها جائز دائما كسائر العقود الجائزة، ومع وجود الاطلاق لا موضوع
للتمسك باستصحاب الجواز، إذ لا مجال لجريان الأصل العملي مع
وجود الأصل اللفظي.
265

وعليه فيكون الأصل في هذه المعاملة - التي هي مورد بحثنا - هو
الجواز، فلا يحكم بلزومها بما يوجب لزوم المعاطاة، لا من ناحية الجمع
بين الأدلة - كما هو مذهب المصنف - ولا من ناحية الأخذ بالمقدار
المتيقن من دليل الجواز - كما هو المختار عندنا - بل المتبع هو اطلاق
دليل الاشتراط، إلا أن يدل دليل بالخصوص على اللزوم فيما إذا كان
اطلاق.
وأما إذا لم يكن اطلاق في دليل الاشتراط فيتمسك في غير المقدار
المتيقن بعموم أدلة اللزوم في العقود، ومعه - أيضا - لا وجه للرجوع إلى
استصحاب الجواز، كما كان الأمر كذلك على القول بإفادة المعاطاة
الملكية الجائزة.
وقد يكون ما يدل على اعتبار الصيغة الخاصة ظاهرا في اعتبارها في
صحة العقد لا في لزومه، فيحكم بفساد العقد مع الاخلال بها أو بشئ من
شرائطها، وحينئذ فلا يجوز لكل من المتعاطيين أن يتصرف فيما أخذه
من العوض مستندا إلى هذا العقد، سواء أحصل فيه قبض واقباض أم
لم يحصل فيه ذلك، فإن شأن المقبوض بذلك شأن المقبوض بسائر
العقود الفاسدة.
ولا يقاس ذلك بالمعاملة المعاطاتية على القول بعدم إفادتها الملك،
فإن جواز تصرف كل من المتعاطيين فيما انتقل إليه إنما ثبت بالاجماع
وبالسيرة القطعية، ولا اجماع في محل الكلام، فتحصل أن الصيغة
الفاقدة للخصوصية - المعتبرة في ترتب الملكية ونفوذ المعاملة -
وجودها كالعدم، فلا يترتب عليها إباحة التصرف أيضا.
نعم إذا كان القبض والاقباض لا على سبيل الوفاء بالعقد الفاسد بل
على سبيل المعاملة المعاطاتية مع قطع النظر عن العقد السابق، بحيث
266

يكون الفعل مع قطع النظر عن ذلك العقد مبرزا للاعتبار النفساني، إذا كان
كذلك كان ذلك مصداقا للبيع المعاطاتي ويترتب عليه جميع ما يترتب
على المعاطاة من الأحكام والآثار، إذ ليس من شرائط صحة المعاملة
المعاطاتية أن لا يسبقها عقد فاسد.
ومثل ذلك ما إذا رضي المالك بجواز التصرف في ماله غير مبني على
العقد الفاسد، فإنه يجوز التصرف فيه حينئذ، لكن الإباحة في هذا الفرض
إباحة مالكية، وأما الإباحة المترتبة على المعاطاة - على القول بإفادتها
ذلك - إباحة شرعية، وقد تقدم تفصيل ذلك في الأبحاث السابقة، وهذان
الموردان خارجان عن دائرة حرمة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد
خروجا تخصيصا.
وعلى الجملة أنا إذا اعتبرنا لفظا خاصا في صحة البيع كان الفاقد لذلك
بيعا فاسدا، ولا يجري عليه حكم المعاطاة، وأما فرض تحقق المعاطاة
بالقبض والاقباض بعد فساد هذا العقد فهو أجنبي عن محل الكلام، لأن
ما هو صحيح لا صلة له بالعقد اللفظي، وما هو عقد لفظي قد فسد من
أصله، وكذلك الحال في فرض العلم برضا المالك بالتصرف لا من جهة
الوفاء بالعقد الفاسد.
قوله (رحمه الله): ولا يكفي فيه عدم العلم بالرجوع، لأنه كالإذن الحاصل من شاهد
الحال.
أقول: قد يناقش في المنع عن جواز التصرف مع الشك في بقاء الرضا
السابق، بتوهم أن استصحاب الرضا يترتب عليه جواز التصرف ما لم يعلم
بارتفاعه.
ولكن تندفع هذه المناقشة بأن حرمة التصرف في مال غيره بدون إذنه
ورضاه حكم انحلالي بحسب الأفراد العرضية والطولية، وعليه فكل
267

فرد من تلك الأفراد محكوم بحرمة التصرف ما لم يحرز فيه إذن المالك،
ومن الواضح أن اسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر غير داخل في
الاستصحاب، بل هو داخل في القياس.
وعلى الجملة أن الإباحة الثابتة في محل الكلام إباحة مالكية، وهي
تدور مدار الرضا في كل فرد من الأفراد العرضية أو الطولية للتصرف، فما
أحرز به رضا المالك فهو وإلا لم يجز لعموم ما دل على عدم جوازه.
وقد ظهر لك مما ذكرناه بطلان قياس المقام بما إذا شك في رجوع
المالك في المعاملة المعاطاتية، حيث إنه لا شك في جواز التصرف -
حينئذ - على القول بإفادتها الإباحة دون الملك تمسكا باستصحاب عدم
الرجوع.
ووجه الظهور أن الإباحة الثابتة في مورد المعاملة المعاطاتية إباحة
شرعية، غايتها رجوع المالك فإذا شك في تحقق الغاية استصحب
عدمه، أما الإباحة في محل الكلام فهي إباحة مالكية التي تدور مدار رضا
المالك في كل فرد من أفراد التصرف، فإن لم يحرز في فرد لم يجز
التصرف فيه، ولا يمكن الحكم بجوازه مع الشك في ثبوت الجواز لفرد
آخر غيره.
نعم إذا كان المالك قد أذن في تصرف ما بالخصوص أو بالعموم وشك
في بقائه لاحتمال رجوعه عن إذنه صح استصحاب إذنه في جواز ذلك
التصرف في ظرف الشك، لكن أين ذلك من الشك في الإذن بالنسبة إلى
ذلك التصرف حدوثا الذي هو مورد الكلام.
268

الكلام في عقد البيع
اعتبار اللفظ في العقود
قوله (رحمه الله): مقدمة في خصوص ألفاظ عقد البيع.
أقول: حاصل كلام المصنف (قدس سره): إن اعتبار اللفظ في البيع، بل في
جميع العقود من الأمور الواضحة - التي لا ريب فيها - وذلك للاجماع
المنقول (1) والشهرة العظيمة مع الإشارة إليه في بعض النصوص (2)، ولكن
المقدار المتيقن من الاجماع المزبور إنما هو تمكن المتعاقدين من اللفظ،
وإذا عجز أحدهما أو كلاهما عن التلفظ لخرس ونحوه لم يشمله
الاجماع وإن كان قادرا على توكيل غيره.
وهذا التعميم ليس من ناحية أن الأصل هو عدم وجوب التوكيل - كما
قيل (3) - لأن الوجوب بمعنى الاشتراط هو الأصل في المقام، بل الدليل على
التعميم إنما هو فحوى الروايات الدالة على عدم اعتبار اللفظ في طلاق
الأخرس (4)، لأن حملها على صورة العجز عن التوكيل حمل للمطلق على

1 - كما عن الغنية: 214، وجامع المقاصد 5: 309.
2 - مر ذكرها في مبحث: نظرة في الأخبار المذكورة حول المعاطاة.
3 - قاله السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 164.
4 - عن أبي نصر البزنطي قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل تكون عنده المرأة، ثم
يصمت فلا يتكلم، قال: يكون أخرس، قلت: نعم فيعلم منه بغض لامرأته وكراهته، أيجوز أن
يطلق عنه وليه، قل: لا، ولكن يكتب ويشهد على ذلك، قلت: لا يكتب ولا يسمع كيف
يطلقها، فقال: بالذي يعرف منه من فعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها، (الكافي 6: 128،
الفقيه 3: 333، التهذيب 8: 74، الإستبصار 3: 301، عنهم الوسائل 22: 47)، حسنة بإبراهيم بن
هاشم.
وعن يونس في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته، قال: إذا فعل ذلك في قبل
الطهر بشهود وفهم عنه كما يفهم عن مثله، ويريد الطلاق، جاز طلاقه على السنة (الكافي
6: 128، التهذيب 8: 74 و 92، الإستبصار 3: 301، عنهم الوسائل 22: 48)، مجهولة بإسماعيل
ابن مرار.
ثم الظاهر أن يونس لم يرو هذه الرواية عن الإمام (عليه السلام) بل ذكر رأي نفسه في جواب
السائل، وعليه فلا تكون الرواية حجة من هذه الناحية أيضا.
وعن السكوني، عن الصادق (عليه السلام) قال: طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها فيضعها على
رأسها ويعتزلها، (الكافي 6: 128، التهذيب 8: 74، الإستبصار 3: 301، عنهم الوسائل 22: 47)،
معتبرة.
وعن أبان بن عثمان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن طلاق الخرساء، قال: يلف قناعها
على رأسها ويجذبه، (الكافي 6: 128، عنه الوسائل 22: 47)، مجهولة بصالح بن السندي.
قوله (عليه السلام): يجذبه يعني يجذب قناع المرأة لكي يطردها عن نفسه.
269

الفرد النادر، وإذا جاز للأخرس انشاء الطلاق بغير اللفظ جاز له انشاء
سائر العقود بغيره أيضا.
وعليه فيحكم بلزوم العقد الصادر منه حتى المعاطاة، ضرورة أن
العمومات الدالة على لزوم العقد تدل على لزوم المعاطاة أيضا لكونها
عقدا بالحمل الشايع، ولكن قام الاجماع على جوازها ما لم تتحق إحدى
الملزمات - التي ذكرناها في مبحث المعاطاة، ومن الواضح أن المتيقن من
الاجماع المزبور هو أن يكون المتعاطيان قادرين على اللفظ، أما مع
العجز عن ذلك فلا علم لنا بوجود الاجماع على جواز المعاملة
المعاطاتية.
ثم إن الظاهر هو كفاية الكتابة أيضا مع العجز عن الإشارة، لفحوى ما
ورد من النص - الذي ذكرناه في الحاشية - على جوازها في الطلاق، وإذا
270

ثبت ذلك في الطلاق ثبت في غيره بالأولوية القطعية، أما مع القدرة على
الإشارة فهل هي تتقدم على الكتابة أم يجوز العكس، ذهب بعضهم (1) إلى
ترجيح الإشارة على الكتابة لصراحة الإشارة في الانشاء، ولكن في بعض
الروايات - التي ذكرناها في الحاشية - ما يدل على العكس - انتهى ملخص
كلام المصنف (رحمه الله).
تحقيق المقام يقع في نواحي شتى:
1 - الأصل الأولي يقتضي الصحة أم يقتضي الفساد؟
الناحية الأولى: إن الأصل الأولي في العقود والايقاعات هل يقتضي
الصحة أم يقتضي الفساد، ذهب جمع إلى الأول وذهب جمع آخر إلى
الثاني، وهو الحق كما عليه المصنف (رحمه الله).
والوجه في ذلك أن نتائج العقود والايقاعات - من الملكية والزوجية
والعتاق والفراق - أمور حادثة ومسبوقة بالعدم، كما أن نفس العقود
والايقاعات كذلك، فإذا شككنا في تحققها في الخارج من ناحية بعض ما
يعتبر فيها من الشروط كان الأصل عدمه، وحينئذ فيحكم بفسادها.
وقد ناقش في ذلك المحقق الإيرواني بأنه لا مانع من جريان أصالة
البراءة من الشروط التي يشك في اعتبارها في تأثير العقود والايقاعات،
وقال:
لا مانع من هذه الأصالة بناء على جريان البراءة في الأحكام الوضعية
كما يظهر من استدلال الإمام (عليه السلام) بحديث الرفع على فساد طلاق المكره
وعتاقه، فينفي بأصالة عدم الوجوب وجوب كل خصوصية شك فيها،
بمعنى عدم دخلها في تأثير السبب، وعدم كونها من أجزاء السبب،

1 - كالشيخ الكبير كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: 49.
271

ولا يبقي معها مجال الرجوع إلى استصحاب عدم تحقق النقل والانتقال،
لأن هذا في مرتبة السبب وذاك في مرتبة المسبب، والاستصحاب إنما
يقدم على أصالة البراءة حيث يكونان في مرتبة واحدة (1).
وتندفع هذه المناقشة بأن حديث الرفع وإن كان يشمل الأحكام الوضعية - كشموله للأحكام التكليفية - إلا أنه لا يعم خصوص الجزئية
والشرطية والمانعية، ضرورة أن هذه الأمور الثلاثة أمور غير قابلة
للوضع فلا تكون قابلة للرفع أيضا إلا برفع منشأ انتزاعها، وعليه فإذا شك
في شرطية شئ ء أو جزئيته أو مانعيته لم يجز الرجوع فيها إلى البراءة.
أقسام الأحكام الوضعية
وبيان ذلك اجمالا: أنا ذكرنا في بحث الاستصحاب من علم الأصول أن
الأحكام الوضعية على ثلاثة أقسام:
1 - أن يكون مجعولا بنفسه، كالملكية والزوجية والرقية ونحوها،
فإنها أمور متأصلة، أي مجعولة بنفسها وغير منتزعة من التكاليف
الشرعية، بديهة أن انتزاعها من الأحكام التكليفية وإن كان ممكنا في مقام
الثبوت ولكن لا دليل عليه في مقام الاثبات.
إذ النسبة بين الملكية - مثلا - وبين جواز التصرف أو عدم جوازه هي
العموم من وجه، لأنه قد توجد الملكية ولا يترتب عليها جواز التصرف
في المملوك، كالأشخاص المحجورين عن التصرف في أموالهم لسفه أو
فلس أو صغر، وقد يتحقق جواز التصرف ولا توجد الملكية كالمباحات
الأصلية، فإنها غير مملوكة لأحد ويجوز التصرف فيها لكل شخص،

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 89.
272

وكأولياء السفهاء والمجانين والصغار، فإنه يجوز لهم التصرف في أموال
هؤلاء المحجورين وليسوا بملاك، وقد يجتمعان وهو كثير.
وإذن فلا نعقل وجها صحيحا لانتزاع الملكية من الحكم التكليفي
دائما.
أضف إلى ذلك أن المستفاد من الأدلة أن الأحكام التكليفية تترتب على
الملكية والزوجية والرقية وأمثالها ترتب الحكم على موضوعه، ومن
الواضح جدا أن مرتبة الموضوع متقدمة على مرتبة الحكم فيستحيل
انتزاع الأمر المتقدم من الأمر المتأخر.
ومثال ذلك أن جواز تصرف الانسان في ماله مستفاد من قوله (صلى الله عليه وآله): إن
الناس مسلطون على أموالهم، وحرمة تصرفه في مال غيره بدون إذنه
مستفادة من الروايات المستفيضة الدالة على ذلك (1).
ومن الضروري أن جواز التصرف أو حرمته مترتب على المال
المملوك، فلا بد من فرض وجوده قبل الحكم عليه بجواز التصرف
وعدمه، بحيث يكون هذا الحكم من آثار المال المملوك، وبديهي أنه
لا يمكن الالتزام بانتزاع الملكية من آثار نفسها، وهذا واضح لا ريب فيه.
2 - أن يكون الحكم الوضعي راجعا إلى الحكم نفسه، كالشرطية
والسببية والمانعية للوجوب - مثلا - فإن الحكم الشرعي إذا لوحظ
بالإضافة إلى شئ فإما أن يكون مطلقا أو مقيدا بوجوده أو بعدمه،
لا كلام لنا في فرض الاطلاق، أما على فرض التقييد فإن كان الحكم
الشرعي مقيدا بقيد وجودي فيكون القيد معتبرا في موضوعه، وعندئذ
تنتزع منه الشرطية تارة والسببية أخرى، لأن مرجعهما إلى شئ واحد

1 - مر ذكر هذه الروايات في مبحث: الاستدلال على لزوم المعاطاة بحرمة التصرف في
مال غيره.
273

وإنما الفرق بينهما اصطلاح محض، إن كان الحكم الشرعي مقيدا بقيد
عدمي - كتقيد وجوب الصلاة بعدم الحيض - فتنتزع منه المانعية.
وإذن فالشرطية والسببية والمانعية كلها منتزعة من جعل الحكم
ولحاظه مقيدا بقيد وجودي أو عدمي.
3 - أن يرجع الحكم الوضعي إلى متعلق التكليف، كالشرطية والجزئية
والمانعية للمأمور به، فإنها منتزعة من كيفية الأمر، وذلك لأنه إذا تعلق
الأمر بالمركب من الأشياء العديدة انتزعت منه الجزئية، وإذا تعلق بشئ
مقيدا بوجود شئ آخر - كالأمر بالصلاة مقيدة باستقبال القبلة والستر -
انتزعت منه الشرطية، وإذا تعلق بشئ مقيدا بعدم شئ آخر، كتقيد
الصلاة بعدم استصحاب المصلي أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة،
انتزعت منه المانعية.
وإذن فالجزئية والشرطية والمانعية للمأمور به منتزعة من كيفية الأمر.
وإذا عرفت ما تلوناه عليك اتضح لك عدم جريان البراءة في الشرطية
والسببية والمانعية والجزئية لعدم كونها مجعولة بالذات بل هي مجعولة
بتبع منشأ انتزاعها، وعليه فهي غير قابلة للوضع بنفسها، فلا تكون قابلة
للرفع أيضا، سواء أقلنا بشمول حديث الرفع للأحكام الوضعية أم لم نقل
بذلك.
نعم ترتفع هذه الأمور باجراء البراءة في مناشئ انتزاعها، ضرورة أنها
كما تثبت تبعا لثبوت مناشئها كذلك ترتفع بارتفاع مناشئها، وهذا ظاهر
لا خفاء فيه.
أما استدلال الإمام (عليه السلام) في بعض الروايات بحديث الرفع على فساد
274

طلاق المكره وعتاقه (1) فهو بعيد عما نحن فيه، بداهة أن صحة العقود
والايقاعات بنفسها قابلة للوضع فتكون قابلة للرفع أيضا بحديث الرفع،
ومن هنا يحكم بفسادها إذا صدرت كرها، وإذن فلا وجه لقياس الصحة
والفساد بالجزئية والشرطية والمانعية.
وعلى الجملة إذا كانت الجزئية أو الشرطية أو السببية من الأمور
الانتزاعية فهي غير قابلة للجعل إلا بجعل مناشئ انتزاعها.
وعليه فإذا شك في شرطية شئ للمأمور به كان ذلك بعينه شكا في
تعلق الأمر بالمقيد به فيدفع بأصالة البراءة، وأما الأقل - أعني به الطبيعي
الجامع بين المطلق والمقيد - فهو مأمور به قطعا، أما إذا شك في شرطية
شئ لصحة عقد أو ايقاع انعكس الأمر لأن ترتب الأثر كالملكية أو براءة
الذمة على العقد أو الايقاع الواجد لذلك الشرط معلوم وترتبه على الفاقد
مجهول، فيدفع بالأصل.
وهذا هو الفارق بين الشك في شرطية شئ للمأمور به وبين الشك في
شرطيته للعقد أو الايقاع.
2 - التمسك بالعمومات عند الشك في العقود
الناحية الثانية: أنه لا شبهة في أن مقتضى العمومات والمطلقات هو
صحة العقود والايقاعات، ولكن إذا شك في اعتبار قيد في تلك
المعاملات - كاللفظ مثلا - فهل يصح التمسك بالعمومات المذكورة لنفي

1 - عن البزنطي، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يستكره على اليمين
فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك، فقال: لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وضع
عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا، (المحاسن للبرقي: 339، عنه الوسائل
23: 226)، صحيحة.
275

ذلك القيد أم لا، الظاهر هو الأول، بديهة أن القاعدة الأولية تقتضي صحة
الانشاء بكل ما هو قابل لابراز الاعتبار النفساني، سواء فيه الفعل واللفظ،
ولكن المغروس في كلمات الأصحاب والمودع في كتبهم هو قيام
الاجماع على اعتبار اللفظ في العقود والايقاعات.
وقد ذكرنا مرارا أن الاجماع دليل لبي، فلا بد وأن يؤخذ منه بالمقدار
المتيقن، ومن البديهي أن القدر المسلم من الاجماع - على تقدير تحققه
هنا - إنما هو فرض تمكن المتعاقدين من الانشاء اللفظي، ومع عدم
التمكن من ذلك يرجع إلى القاعدة الأولية ويحكم بعدم اعتبار اللفظ في
العقود والايقاعات، إلا مع قيام الدليل الخاص على الاعتبار المزبور،
كقيامه على اعتبار مطلق اللفظ في عقد الزواج، وعلى اعتبار لفظ خاص
في انشاء الطلاق.
على هذا الضوء فإذا شككنا في صحة عقد الأخرس المنشأ بالإشارة
مع تمكنه من التوكيل، أو شككنا في صحة عقده المنشأ بالكتابة مع
تمكنه من الإشارة - بناء على تقديمها على الكتابة - رجعنا إلى العمومات
والمطلقات الدالة على صحة العقود ونفوذها.
وقد ظهر لك مما ذكرناه أن مقتضى القاعدة هو الحكم بلزوم معاطاة
الأخرس - من حين العقد - حتى على القول بأنها تفيد الإباحة مع التمكن
من اللفظ وأنها لا تفيد الملكية، وذلك لعدم العلم بشمول الاجماع الذي
توهم قيامه على جواز المعاطاة أو إفادتها الإباحة، لصورة عدم التمكن
من اللفظ.
وهذا هو السر في تعرض المصنف لمسألة المعاطاة هنا في طي كلامه
مع أنه قضى أمرها قريبا، وهذا نصه في المقام: ثم لو قلنا بأن الأصل في
المعاطاة اللزوم بعد القول بإفادتها للملكية، فالقدر المخرج صورة قدرة
المتبايعين على مباشرة اللفظ.
276

وإذن فلا نحتاج في اثبات صحة عقد الأخرس إلى التمسك بفحوى
الروايات الواردة في طلاقه - ذكرناها قريبا في الحاشية - ولا إلى التمسك
بفحوى الرواية الواردة في قراءته (1)، نعم تلك الروايات مؤكدة للقاعدة
الأولية.
وعلى الاجمال أن مقتضى القاعدة الأولوية وفحوى الروايات
الخاصة الواردة في طلاق الأخرس وقراءته هو كفاية إشارته في مقام
الانشاء ما لم يدل دليل خاص على خلاف ذلك، من غير فارق بين أقسام
الإشارة وكيفياتها، ولا بين ما يكون معتادا للأخرسين أو للأشخاص
الآخرين وبين ما لم يكن كذلك، بل الضابطة الكلية في ذلك أن تكون
الإشارة مفهمة للمراد بالنسبة إلى نوع المخاطبين والحاضرين، ولو كان
الانفهام بمؤونة القرائن، كما هو الشأن في الانشاء اللفظي، بداهة أن
الأفعال والأقوال سيان في حجية ظواهرها من ناحية بناء العقلاء.
ومن هنا اتضح لك جليا أن انشاء الأخرس بالإشارة محكوم بالصحة
وإن لم يفد القطع بالمراد.
إشارة الأخرس وحكمها
قد ذكرنا في الجزء الثاني أن البيع عبارة عن الاعتبار النفساني المبرز
بمبرز خارجي، وعليه فابراز الاعتبار النفساني بالإشارة المفهمة للمراد
مصداق لمفهوم البيع بالحمل الشايع فيكون مشمولا للعمومات،
وعندئذ لا يلزم على الأخرس أن يستحضر الصيغة اللفظية في ذهنه لكي

1 - عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تلبية الأخرس وتشهده وقراءته القرآن في
الصلاة تحريك لسانه وإشارته بإصبعه (الكافي 3: 315، التهذيب 5: 93، عنهما الوسائل
6: 136)، معتبرة.
277

تكون إشارته إليها أولا وإلى مدلولها ثانيا حتى يكون ابراز ما في النفس
بتلك الصيغة الحاضرة في الذهن، كما لا يلزم عليه أن يحرك لسانه على
النهج الذي يحركه عند التكلم بالصيغة.
نعم يعتبر أحد الأمرين في القراءة الصلاتية، إذ المطلوب هناك قراءة
نفس الألفاظ لا ابراز مداليلها.
وأيضا قد ذكرنا في الجزء الثاني - عند البحث عن أصالة اللزوم في
العقود - أن العقد أما بمعنى العهد المطلق كما في بعض الروايات (1)، أو
بمعنى العهد المشدد، وعلى كل تقدير فالمعاملة المعاطاتية من
مصاديق العقود.
وعليه فلا وجه لما ارتكبه بعض مشائخنا المحققين من بيان مقدمة
لاستيضاح كفاية الإشارة من الأخرس، وإليك نصه: إن الأخرس كغيره
له عهد مؤكد وعهد غير مؤكد، فالتعاطي منه في الخارج فقط كالتعاطي
من غيره عهد غير مؤكد فله حكمه، فالإشارة المفهمة الرافعة للاشتباه
منه عهده المؤكد كاللفظ الرافع للاشتباه الذي يتطرق إلى الفعل نوعا عهد
مؤكد من القادر (2).
ثم إذا قلنا بجواز مباشرة الأخرس للعقود والايقاعات ولم يدلنا دليل
على اعتبار اللفظ في ذلك لكي نحكم بوجوب التوكيل عليه، فهل له أن
يتصدى لذلك مخيرا في ابراز ما في نفسه - من الاعتبار - بين الإشارة وبين
الكتابة، أم يجب عليه تقديم الأول على الثاني.

1 - عن علي بن إبراهيم في تفسيره قال: حدثني أبي، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن
سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أوفوا بالعقود، قال: بالعهود، (تفسير القمي 1: 160،
وبمضمونه تفسير العياشي 1: 289، عنه الوسائل 23: 327)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني: 63.
278

ذكر بعضهم (1) أن الإشارة تتقدم على غيرها لكونها أصرح، وذهب
آخر (2) إلى أن الكتابة تتقدم على غيرها لكونها أضبط، ولكن أشباه هذه
الوجوه أمور استحسانية فلا يمكن الاعتماد عليها في استنباط الحكم
الشرعي، إذ لو سلمنا أصرحية الإشارة أو أضبطية الكتابة إلا أنه لا دليل
على تقديم أحدهما على الآخر.
ويضاف إلى ذلك أنه لو كانت أضبطية الكتابة موجبة لتقديمها على
الإشارة لكانت موجبة لتقديمها على اللفظ أيضا، ولم يلتزم الفقهاء
بذلك.
وإذن فمقتضى القاعدة هو الاكتفاء في الانشاء بكل ما يصلح لابراز ما
في النفس من الاعتبار واظهاره بمبرز خارجي، وإن كان بعض المبرزات
أصرح من بعضها الآخر أو أضبط، إلا إذا ورد دليل خاص على تقديم
بعضها على بعض، كما يظهر ذلك من بعض الروايات الواردة في طلاق
الأخرس (3)، فإن الظاهر من ذلك أن الكتابة تتقدم على الإشارة (4).

1 - كالشيخ الكبير كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: 49.
2 - راجع السرائر 2: 678.
3 - عن أبي نصر البزنطي قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل تكون عنده المرأة، ثم
يصمت فلا يتكلم، قال: يكون أخرس، قلت: نعم فيعلم منه بغض لامرأته وكراهته، أيجوز أن
يطلق عنه وليه، قل: لا، ولكن يكتب ويشهد على ذلك، قلت: لا يكتب ولا يسمع كيف
يطلقها، فقال: بالذي يعرف منه من فعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها، (الكافي 6: 128،
الفقيه 3: 333، التهذيب 8: 74، الإستبصار 3: 301، عنهم الوسائل 22: 47)، حسنة بإبراهيم بن
هاشم.
4 - ولكنه مختص بمورده ولا يتعدى عنه، ولا وجه لما ذكره السيد (قدس سره) في الحاشية من
كون الترتيب المذكور في النص إنما هو من باب طبع المطلب، فإن ظهوره في التعيين غير قابل
للانكار - المحاضرات 2: 118.
279

3 - بحث في مادة الصيغة وهيئتها وترتيبها
الناحية الثالثة: في مادة الصيغة وهيئتها وترتيبها - التي ينشأ بها العقد
- وتحقيق هذه الناحية يقع في ضمن جهات:
وقد اختلفت فيها كلمات الفقهاء (قدس سرهم) وتشتت فيها أقوالهم، وهي كما
يلي:
1 - الاقتصار في مادة الصيغة على المقدار المتيقن، فلا يجوز انشاء
العقود والايقاعات بغيره من الصيغ المشكوكة.
2 - الاقتصار فيها على الألفاظ المنقولة عن الشارع المقدس، والظاهر
رجوع هذا الوجه إلى الوجه الأول، فإن هذا هو المقدار المتيقن مما ينشأ
به العقد أو الايقاع.
3 - الاقتصار فيها على الألفاظ التي تعنونت بها عناوين العقود
والايقاعات وأسماء المعاملات، وعليه فيجب انشاء البيع بصيغة بعت،
وانشاء النكاح بصيغة أنكحت، وانشاء الإجارة بلفظة آجرت، وانشاء
المصالحة بكلمة صالحت، وانشاء الطلاق بجملة هي طالق، وهكذا في
سائر العقود والايقاعات، وإذن فلا ينعقد أي عقد أو ايقاع بغير ما عنون
به هذا العقد.
4 - الاقتصار فيها على الألفاظ الحقيقية، وعليه فلا ينعقد شئ من
العقود والايقاعات بشئ من الألفاظ الكنائية والمجازية.
5 - أن يفرق في الألفاظ المجازية بينما يكون مقرونا بالقرائن اللفظية
فيحكم بجواز انشاء العقد به، وبين ما لا يكون كذلك فيحكم بعدم جواز
الانشاء به.
6 - جواز الاكتفاء بكل لفظ يكون صريحا في انشاء العقد أو ظاهرا فيه
280

ولو كان ذلك بمؤونة القرائن الحالية أو المقالية.
ثم إنه ذكر المصنف أن المشهور بين الفقهاء (قدس سرهم) هو عدم وقوع العقد
بالألفاظ الكنائية، ولكنه لم يأت بشئ يطمئن به القلب وتركن إليه
النفس.
نعم نقل في ذلك جملة من كلمات الأصحاب (1)، ولكن هذه الكلمات
مبنية على اجتهاداتهم وآرائهم، ومن البين الذي لا ريب فيه أن رأي فقيه
لا يكون حجة على فقيه آخر، وعندئذ لا بد من ملاحظة دليل المسألة،
فإن كان هناك ما يدل على اعتبار لفظ خاص في الانشاء أخذ به، وإلا
فمقتضى القاعدة هو انعقاد جميع العقود والايقاعات بكل ما يصلح
للانشاء وابراز الاعتبار النفساني، سواء فيه الفعل والقول، وسواء في
القول الحقيقة والمجاز والصريح وغيره، وسواء في المجاز كون القرينة
لفظية وغير لفظية.
والوجه في ذلك كله أنه لم يرد دليل على اعتبار مظهر خاص ومبرز
معين في انشاء العقود والايقاعات إلا الاجماع على اعتبار اللفظ في
صحة العقود أو لزومها، والقدر المتيقن منه - على تقدير قبوله - إنما هو
مطلق اللفظ، أما اللفظ الخاص فلا اجماع على اعتباره جزما.
ويضاف إلى ذلك أن الاجماع المنقول ليس بحجة، لعدم كونه
مشمولا لأدلة حجية الخير، أما الاجماع المحصل فهو غير حاصل
جزما لعدم العلم بوجود الإمام (عليه السلام) بين المجمعين، وقد تقدم تفصيل
ذلك عند البحث عن المعاطاة.
وحينئذ فلا بأس بانشاء العقود والايقاعات بأي مبرز من المبرزات
لأنها مشمولة للعمومات والمطلقات الدالة على صحة البيع وغيره من

1 - كما في التذكرة 1: 462، وغاية المراد: 81.
281

العقود المملكة، ولو كان انشاء الملكية بلفظ مجازي، وهذا واضح
لا ريب فيه.
وتوضيح المقام: أن اللفظ الذي ينشأ به العقد قد يكون صريحا في
مدلوله وموافقا لما قصده المنشئ من دون أن يتطرق إليه احتمال آخر،
وهذا مما لا شبهة في صحة الانشاء به.
وقد يكون ظاهرا في مدلوله بحسب الاطلاق مع احتمال أن يراد منه
معنى آخر، وهذا كانشاء الزوجية بلفظ يحتمل الدوام والانقطاع فإنه
لا فارق بينهما إلا بذكر الأجل وعدمه، فإذا أهمله العاقد - في مقام
الانشاء - اقتضى اطلاقه إرادة الزوجية الدائمة.
وقد يكون ذلك من الألفاظ الكنائية أو المجازية، والمراد من الكناية
هو استعمال اللفظ في الملزوم للانتقال منه إلى لازمه، وحينئذ فيراد منه
الملزوم بالإرادة الاستعمالية، كما أنه يراد منه اللازم بالإرادة الجدية، أو
أن المراد من الكناية هو استعمال اللفظ في اللازم للانتقال منه إلى
ملزومه، وعليه فيراد منه اللازم بالإرادة الاستعمالية كما أنه يراد منه
الملزوم بالإرادة الجديدة.
وعلى كلا التقديرين فقد استعمل اللفظ في معناه الحقيقي - أعني به
الملزوم أو اللازم - ولكن قصد منه المتكلم تفهيم معنى آخر.
وعلى هذا الضوء فمثل زيد كثير الرماد، أو طويل النجاد، أو مهزول
الفصيل إنما استعمل في معناه الحقيقي ولكن قصد منه المتكلم سخاء
زيد أو شجاعته من غير أن يكون استعمال اللفظ فيه مجازا، وهذا واضح
كما حقق في محله.
وإذا عرفت معنى الكناية والمجاز، فاعلم أنه إن كانت الألفاظ الكنائية
أو المجازية ظاهرة في إفادة المطلوب ظهورا عرفيا فلا شبهة في صحة
282

الانشاء بهما مطلقا، أي سواء أكان اللازم والملزوم - في الكناية -
متساويين أم لا، وسواء أكان المجاز قريبا أم لا، وإن لم يكن لتلك
الألفاظ ظهور عرفي في إفادة المقصود وابراز الاعتبار النفساني
ولم ينطبق عليها شئ من عناوين العقود عرفا، فلا يصح بها الانشاء
أصلا.
ومن هنا تجلي لك أنه لا وجه للفرق بين المجاز القريب والمجاز
البعيد، بأن يلتزم بصحة الانشاء بالأول وبفساده بالثاني (1)، كما أنه لا وجه
صحيح لما أفاده المصنف من الالتزام بصحة الانشاء بالألفاظ المجازية
إذا كانت محفوفة بالقرينة اللفظية، وبعدم الصحة إذا كانت محفوفة
بالقرينة غير اللفظية.
بل العجب منه (رحمه الله)، فإنه بعد ما فسر اعتبار الحقائق في العقود باعتبار
الدلالة اللفظية الوضعية، وإن كان الدال على الانشاء من الألفاظ
المجازية، قال:
وهذا بخلاف اللفظ الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال أو
سبق مقال خارج عن العقد، فإن الاعتماد عليه في متفاهم المتعاقدين -
وإن كان من المجازات القريبة جدا - رجوع عما بني عليه، من عدم العبرة
بغير الأقوال في انشاء المقاصد، ولذا لم يجوزوا العقد بالمعاطاة ولو مع
سبق مقال أو اقتران حال تدل على إرادة البيع جزما.
ووجه العجب أن احتفاف اللفظ بالقرينة غير اللفظية لا يخرج دلالته
على معناه عن الدلالة اللفظية، بديهة أن الدلالة اللفظية عبارة عن انفهام
المعنى من اللفظ، سواء أكانت حيثية الدلالة مكتسبة من القرائن - لفظية
كانت أو غيرها - أم كان اللفظ بنفسه دالا على المقصود، فإنه على

1 - كما عن المحقق الثاني 4: 207، حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 149.
283

كلا التقديرين تنسب الدلالة إلى اللفظ فتكون الدلالة لفظية، وليس في
الالتزام بصحة ذلك أية منافاة لما بني عليه من اعتبار اللفظ في صحة العقد
أو في لزومه، وكيف يقاس ذلك بما إذا كان الانشاء بغير اللفظ وكانت
القرينة الدالة على إرادة البيع منه هي اللفظ.
نعم، يمكن أن يكون مراد المصنف (رحمه الله) من العبارة المزبورة أن الفقهاء
(قدس سرهم) قد تسالموا على بطلان الانشاء بلفظ لا يكون ظاهرا في المعنى الذي
قصده المنشئ، بل يعد استعماله فيه عند أهل العرف من الأغلاط ولكن
المنشئ يفهم مراده بالقرائن الحالية أو المقالية، فإن مثل هذا خارج عن
المتفاهم العرفي فلا يصدق على المنشأ بذلك عنوان العقد لكي يكون
مشمولا للعمومات والاطلاقات الدالة على صحة العقود ونفوذها،
وذلك كانشاء الزوجية مثل ملكت وآجرت، وكانشاء التمليك بمثل
زوجت وأبحت وأشباه ذلك.
وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه إلا أنه بعيد عن سياق عبارة
المصنف.
ثم إن الأعجب من ذلك أنه (رحمه الله) قد منع عن جواز الانشاء بالألفاظ
المشتركة مع احتفافها بالقرائن الحالية كانشاء البيع بالتمليك المشترك
بينه وبين الهبة، مع أنه ليس بمجمل ولا مجاز ولا كناية، بديهة أن
الظهور العرفي قد تم فيه من جميع الجهات.
وعلى الاجمال أن الميزان الكلي في صحة انشاء العقود والايقاعات
إنما هو صدق عنوان العقد أو الايقاع على المعنى المبرز بأي مبرز،
وعليه فلا وجه لتخصيص ذلك المبرز بلفظ دون غيره فضلا عن
تخصيصه بلفظ خاص، إذ لا دليل على اعتبار الصيغة في العقود
والايقاعات على وجه الاطلاق.
284

نعم قد ادعى الاجماع على اعتبار اللفظ في النكاح (1)، وأوجب هذا
الاجماع افتراق النكاح عن غيره من العقود، حيث يجوز انشاؤها بكل من
القول والفعل، أما النكاح فلا يجوز انشاؤه إلا باللفظ، كما أن جملة من
الروايات قد دلت على اعتبار لفظ خاص في الطلاق (2).
بحث في ألفاظ الايجاب
قوله (رحمه الله): إذا عرفت هذا فلنذكر ألفاظ الايجاب والقبول، منها لفظ بعت في
الايجاب.
1 - الايجاب بلفظ: بعت
أقول: لا شبهة في أن لفظ بعت، وإن كان من الأضداد بالنسبة إلى البيع
والشراء وأنه مشترك لفظي بينهما - كما صرح به أهل اللغة كافة - إلا أن
كثرة استعماله في البيع فقط توجب انصرافه إليه عند الاطلاق بلا احتياج
في ذلك إلى القرائن الحالية أو المقالية، وعندئذ لا بأس بانشاء البيع بلفظ
بعت.

1 - عن الحدائق: أجمع العلماء من الخاصة والعامة على توقف النكاح على الايجاب
والقبول اللفظين.
وقال المصنف في كتاب النكاح: أجمع علماء الاسلام - كما صرح به غير واحد - على
اعتبار أصل الصيغة في عقد النكاح، وأن النكاح لا يبالي بالإباحة ولا بالمعاطاة، وبذلك يمتاز
النكاح عن السفاح، لأن فيه التراضي أيضا غالبا.
2 - عن محمد بن مسلم أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل قال لامرأته: أنت على حرام أو
بائنة أو بتة أو برية أو خلية، قال: هذا كله ليس بشئ، إنما الطلاق أن يقول لها في قبل العدة بعد
ما تطهر من محيضها قبل أن يجامعها: أنت طالق أو اعتدي، يريد بذلك الطلاق، وشهد على
ذلك رجلين عدلين، (الكافي 6: 96، التهذيب 8: 36، الإستبصار 3: 277، عنهم الوسائل
22: 41).
285

وذكر السيد في حاشيته ما هذا لفظه: يمكن أن يقال: إنه مشترك
معنوي بين البيع والشراء... فيكون بمعنى التمليك بالعوض أعم من
التصريح كما في البيع أو الضمني كما في الشراء (1).
ويتوجه عليه ما ذكرناه آنفا، من أن لفظ بعت من الأضداد وأنه مشترك
لفظي وليس بمشترك معنوي.
أضف إليه أن التمليك الضمني خارج عن حدود البيع، وقد عرفته في
البحث عن تعريف البيع.
2 - الايجاب بلفظ: شريت
قوله (رحمه الله): ومنها لفظ شريت.
أقول: لا ريب في جواز انشاء البيع بلفظ شريت، لتصريح أهل اللغة (2)
بأنه موضوع للبيع تارة وللشراء أخرى فيكون من الأضداد (3)، بل قيل: إن
لفظ الشراء لم يستعمل في القرآن الكريم إلا في البيع (4)، وهو كذلك كما
يظهر لمن راجع القرآن العظيم مراجعة تامة.
ثم إن المصنف مع اعترافه بما ذكرناه ناقش في جواز الانشاء بلفظ
شريت، وقال: ربما يستشكل فيه بقلة استعماله عرفا في البيع، وكونه
محتاجا إلى القرينة المعينة وعدم نقل الايجاب به في الأخبار وكلام
القدماء، ولا يخلو عن وجه.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 87.
2 - قاموس المحيط 4: 347.
3 - شري الشئ يشريه شراء: باعه، شريت الشئ أشريه شراء إذا بعته وإذا اشتريته
أيضا، وهو من الأضداد - لسان العرب 14: 428.
4 - قاله السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 153.
286

وتندفع هذه المناقشة بأنا لم نفهم معنى محصلا لهذا الكلام بعد
الاعتراف بأن لفظ شريت لم يستعمل في القرآن المجيد إلا في البيع، لأنا
لا نسلم وقوع الاستعمالات العرفية على خلاف الاستعمالات القرآنية،
ولو سلمنا ذلك ولكن لا نسلم تقديم الاستعمالات العرفية على
الاستعمالات القرآنية، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
3 - الايجاب بلفظ: ملكت
قوله (رحمه الله): ومنها لفظ ملكت بالتشديد.
أقول: لا ريب في صحة وقوع البيع بكلمة ملكت مشددة، بل استظهر
المصنف من نكت الإرشاد الاتفاق على ذلك (1)، بل الظاهر أن مفهوم
التمليك بالعوض يتحد مع مفهوم البيع، وإنما الفرق بينهما بالبساطة
والتركيب وبالإجماع والتفصيل، حيث إن لفظ البيع ببساطته يدل على
تبديل مال بمال ولفظة التمليك بالعوض تدل مركبة على ذلك، كما أن
لفظ الانسان يدل على الجنس والفصل دلالة اجمالية، ولفظي الحيوان
والناطق يدلان عليهما دلالة تفصيلية.
وعلى هذا الضوء فقول المنشئ: بعت هذا بهذا، تصريح بمصداق
العوض - الذي كان مكنونا في لفظ بعت - لا أنه قيد زائد مذكور في
الصيغة.
هل التمليك مشترك معنوي بين البيع والهبة
وقد يتوهم أن لفظ التمليك مشترك معنوي بين البيع والهبة، ومن
الواضح أنه لا يصح الانشاء بالألفاظ المشتركة معنى.

1 - غاية المراد: 80.
287

ولكن هذا التوهم فاسد، بديهة أن التمليك المطلق وإن كان جامعا
بينهما إلا أن تقييده بالعوض يقطع الاشتراك ويخصه بالبيع فقط، لأن
حقيقة الهبة متقومة بالتمليك المجاني وإنما يؤخذ فيها العوض بعنوان
الاشتراط، ومن الضروري أنه لم يدل دليل على بطلان انشاء البيع
بالألفاظ المشتركة معنى مع قيام القرينة على التعيين.
ومن هنا قيل: إن ايجاب البيع بكلمة ملكت بالعوض أصرح من ايجابه
بكلمة بعت، ضرورة أن البيع موضوع للنقل بالعوض، وحينئذ ففي مقام
الانشاء بلفظ بعت لا بد من تجريده من العوض لكي لا يكون ذكر العوض
تكرارا أو يتكلف بجعله تفصيلا لما أجمل في مفهوم البيع.
وعلى هذا فلا وجه لما ذكره بعض مشائخنا المحققين (1)، وحاصل
كلامه: أن التمليك له حصص كثيرة:
1 - تمليك عين بعوض، ويسمى هذا بيعا.
2 - تمليك منفعة بعوض، ويسمى هذا إجارة.
3 - التمليك المجاني، ويسمى هذا هبة.
ومن البين أن لفظ البيع إنما وضع لحصة من طبيعي التمليك الذي
يتحصص بتعلقه بالعين بمقابلة شئ، لا أنه موضوع لمجموع التمليك
بالعوض، بحيث يكون قيد العوض مأخوذا في مفهوم البيع - انتهى
ملخص كلامه.
ثم قال المصنف نصا: قد عرفت سابقا أن تعريف البيع بذلك تعريف
بمفهومه الحقيقي، فلو أراد منه الهبة المعوضة أو قصد المصالحة بني
صحة العقد به على صحة عقد بلفظ غيره مع النية، ويشهد لما ذكرنا قول

1 - حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني: 68.
288

فخر الدين - في شرح الإرشاد (1) - إن معنى بعت في لغة العرب ملكت
غيري.
وناقش فيه السيد، وإليك نصه:
لا فرق بين الهبة المجانية والمعوضة في كونهما من التمليك حقيقة،
وإنما الفرق ذكر العوض وعدمه، فدعوى أن استعماله في خصوص
الهبة المعوضة مبني على صحة عقد بلفظ غيره كما تري، نعم في
المصالحة يمكن أن يقال بالابتناء المذكور لعدم دلالة لفظ ملكت على
معنى المسالمة المعتبرة في حقيقة الصلح، فتدبر (2).
ولكن الظاهر أن السيد لم يصل إلى غرض المصنف، فإن الظاهر أن
مراده - من كلامه المتقدم - أن مفهوم التمليك بالعوض يساوق مفهوم
البيع، وعليه فإذا أنشئت به الهبة - التي هي متقومة بالتمليك المجاني -
توقفت صحتها على جواز انشاء العقود بغير ألفاظ عناوينها، وكذلك
الكلام في انشاء البيع بصيغة وهبت.
والذي يدل على أن مراد المصنف هو ما ذكرناه، ما ذكره قبل عبارته
المتقدمة، وهذا نصه: وما قيل (3) من أن التمليك يستعمل في الهبة بحيث
لا يتبادر عند الاطلاق غيرها، فيه أن الهبة إنما يفهم من تجريد اللفظ عن
العوض لا من مادة التمليك، فهي مشتركة معنى بين ما يتضمن المقابلة
وبين المجرد عنها، فإن اتصل بالكلام ذكر العوض أفاد المجموع
المركب بمقتضى الوضع التركيبي البيع، وإن تجرد عن ذكر العوض
اقتضى تجريده الملكية المجانية، ثم ساق العبارة المتقدمة.

1 - قاله في شرح الإرشاد، على ما حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 152.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 87.
3 - قاله الشهيد الثاني في الروضة البهية 3: 413.
289

وعلى هذا فشأن انشاء الهبة بصيغة ملكت بالعوض شأن انشاء العقود
المعاوضية، بل غيرها بصيغة سالمت أو صالحت وبالعكس، لأن مفهوم
الصلح وإن كان يتفق مع العقود المعاوضية وغيرها إلا أن صدق مفهوم
الصلح عليها من قبيل صدق الكلي على مصاديقه، ومن المعلوم أنه
لا يمكن انشاء مفهوم الصلح - أعني به التسالم على أمر - إلا بلفظ سالمت
أو صالحت، لا بلفظ البيع ولا التمليك، ولا الشراء ولا شبهها، بديهة أن
المنشأ بهذه الألفاظ ليس عنوان المصالحة والمسالمة.
نعم توجد حقيقة المسالمة ومصداقها عند تحقق أي عقد من العقود،
كما أن عناوين سائر العقود لا تنشأ إلا بألفاظها لا بألفاظ أخرى، إلا على
القول بجواز انشاء العقود بغير ألفاظ عناوينها.
4 - الايجاب بلفظ: اشتريت
قوله (رحمه الله): وأما الايجاب باشتريت.
أقول: في مفتاح الكرامة: إنه قد يقال إنه يصح الايجاب باشتريت،
كما هو موجود في بعض نسخ التذكرة (1)، وقد استظهره المصنف من
عبارة كل من عطف على بعت وملكت لفظ شبههما، أو لفظ ما يقوم
مقامهما (2)، بدعوى أن المعطوف يعم شريت واشتريت كليهما، بديهة أن
إرادة خصوص شريت من المعطوف المزبور بعيد جدا، كما أن إرادة ما
يقوم مقامهما في سائر اللغات للعاجز عن العربية أبعد.
قوله (رحمه الله): لكن الاشكال المتقدم في شريت أولى بالجريان هنا، لأن شريت
استعمل في القرآن الكريم في البيع بل لم يستعمل فيه إلا فيه بخلاف اشتريت.

1 - مفتاح الكرامة 4: 150.
2 - مثل العلامة في التحرير 1: 164، والشهيد في غاية المراد: 80.
290

أقول: قد نوقش في هذا الكلام بأن كثيرا من المفسرين قد صرحوا
باستعمال لفظ الاشتراء في البيع في قوله تعالى: بئسما اشتروا به أنفسهم أن
يكفروا بما أنزل الله (1)، بدعوى أن البيع والشراء إزالة الملك إلى غيره
بعوض يعتاضه منه، ثم استعمل ذلك في كل معتاض من عمله عوضا،
سواء أكان ذلك العوض خيرا أم كان شرا، وعليه فاليهود لما أوبقوا
أنفسهم وأهلكوها بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) سجل الله تعالى عليهم الذم
والتوبيخ، وقال: بئسما اشتروا به أنفسهم أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم
ورضوا به عوضا عن أنفسهم، حيث ألقوها في المهلكة الأبدية والعذاب
الدائم.
وتندفع هذه المناقشة بأن الازراء والتوبيخ - في الآية الكريمة - ليس
على كل واحد من اليهود مع قطع النظر عن غيره، لكي يتوهم أنه لا معنى
لنسبة الاشتراء إليهم إلا بإرادة البيع، وأن كل فرد منهم قد باع نفسه بالكفر
والزندقة والالحاد، بل الازراء والتوبيخ راجع إلى جميعهم بلحاظ
معاملة بعضهم مع بعض، حيث اشترى جمع منهم دين جمع آخر منهم
بثمن بخس، فصار كل واحد منهم بائعا من جهة ومشتريا من جهة
أخرى، وحين ذاك فلا دلالة في الآية الكريمة على إرادة البيع من
الاشتراء، بل يمكن أن يراد من لفظ الاشتراء فيها معناه المتعارف.
وتوضيح ذلك اجمالا:
أن عوام اليهود قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح وأكل الحرام،
وتغيير الأحكام وتحريفها عن وجهها بآرائهم المرجفة وأهوائهم
الفاسدة وأفكارهم المضلة، وعرفوهم بالأقوال الكاذبة والأعمال
الخبيثة والبضاعة الزهيدة، وعرفوهم بالتعصب الشديد، والتغالب

1 - البقرة: 90.
291

والتكالب على حطام الدنيا وزخرفها، وبالجرأة على هتك حرمات الله،
وعرفوهم بغير ذلك من الصفات الخبيثة والأخلاق الرذيلة.
ومع ذلك فوضوا إليهم دينهم وأخذوا منهم أحكامهم، ونبذوا الحق
وراء ظهورهم، وليس عملهم هذا إلا أن هؤلاء العوام من اليهود قد باعوا
أنفسهم من علمائهم بما ينالونه منهم من التحابب والتوادد، والتمشي
معهم حسب ميولهم وأهوائهم، والزلفة إليهم وإلى شياطينهم، أما
علماؤهم فقد تجلى لهم الحق واتضحت لهم نبوة محمد (صلى الله عليه وآله)، ومع
ذلك باعوا أنفسهم من عوامهم بما ينالونه منهم من التعظيم والاكرام
وحفظ كيانهم وزعامتهم ورئاستهم، فعاندوا الحق وجحدوه.
وإذن فأصبح اليهود قد أقاموا السوق السوداء، وأنفقوا عليها من دينهم
وأنفسهم وأموالهم، حتى احتشدت فيها البضائع الزائفة ووضعت فيها
الأراجيف التي شوهت وجه التاريخ، ففي هذه السوق السوداء قد اشترى
عوامهم أنفس علمائهم بثمن بخس، واشترى علماؤهم أنفس عوامهم
بعوض زهيد، وإذن فلفظ: اشتروا لم يستعمل - في الآية الكريمة - إلا
في معنى الابتياع فقط.
وذكر شيخنا الأستاذ أن الاشتراء من الافتعال، ومن الواضح أن باب
الافتعال إنما هو للقبول والمطاوعة، وعليه فلا يناسب استعماله في
الايجاب بل يختص استعماله بالقبول فقط، أما أخذه بمعنى شريت
كأخذ اكتسبت بمعنى كسبت فهو على خلاف ما وضع له، أو على خلاف
الظاهر من محاورات أهل العرف ومحادثاتهم (1).
ويرد عليه أن الاشتراء وإن كان من الافتعال وقد أخذ فيه مفهوم
المطاوعة، ولكن هذه المطاوعة ليست مطاوعة لفعل غيره، بل المراد من

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 279.
292

ذلك أنما هو مطاوعة الذات للمبدء، وسواء أكان المبدء صادرا من نفس
الذات - كالاتجار والاكتساب والاحتطاب - أم كان صادرا من شخص
آخر كالابتياع والاتهاب وأشباه ذلك.
وعلى هذا فلفظ اشتريت إن ذكر في الايجاب فتتخذ الذات المبدأ من
نفسه، ويدل على تمليك البائع ماله لغيره بعوض معلوم، وإن ذكر في
القبول فتتخذ الذات المبدأ من غيره، ويدل على تملك مال غيره بعوض
معلوم فيصير بذلك مصداقا للقبول الحقيقي.
وعليه فايجاب البيع بلفظ اشتريت مناسب لمفهومه اللغوي
لاستعماله فيه لغة (1) بلا احتياج إلى ابتناء ذلك على كونه من الأضداد كما
توهم، ودعوى أنه لا يجوز انشاء الايجاب به لعدم تعارفه بين الناس،
دعوى جزافية، لأن مجرد عدم تعارف الانشاء به لا يمنع عن ذلك بعد
صحة استعماله في البيع لغة.
ثم إنه إذا جاز الانشاء بلفظ اشتريت فما هو المائز بين استعماله في
الايجاب وبين استعماله في القبول.
قال المصنف إن: دفع الاشكال في تعيين المراد منه بقرينة تقديمه
الدال على كونه ايجابا، أما بناء على لزوم تقديم الايجاب على القبول،
وأما لغلبة ذلك غير صحيح، لأن الاعتماد على القرينة الغير اللفظية في
تعيين المراد من ألفاظ العقود قد عرفت ما فيه.
ويتوجه عليه ما ذكرناه سابقا، من صحة الانشاء بكل ما يصح أن يكون
مبرزا لما في النفس من الاعتبار وإن كانت مبرزيته بما يقترن به من القرائن
الحالية أو المقالية.

1 - في لسان العرب 14: 427: والعرب تقول لكل من ترك شيئا وتمسك بغيره قد اشتراه،
ومنه اشتروا الضلالة بالهدي، كذا في القاموس 4: 348.
293

نعم ادعى الاجماع على اعتبار اللفظ الصريح في صحة الانشاء، ولكن
المتيقن منه - على تقدير تسليمه - إنما هو اعتبار الصراحة في اللفظ لأجل
دلالته على تعين عقد خاص وتميزه عما عداه من العقود، لا من حيث
تميز ايجاب كل عقد عن قبوله.
بحث في ألفاظ القبول
قوله (رحمه الله): وأما القبول - الخ.
أقول: لا شبهة في جواز القبول بلفظ قبلت ورضيت وتملكت وملكت
- مخففا - واشتريت وابتعت وشريت، ولا يضر الاشتراك اللفظي في
بعض هذه الألفاظ مع قيام القرينة المقالية أو الحالية على تعيين المراد،
وهذا واضح لا خفاء فيه، وأما أمضيت وأنفذت وأجزت، فذكر
المصنف فيها وجهين ولم يرجح أحدهما.
وذكر شيخنا المحقق أن جواز القبول بهذه الألفاظ مبني على جواز
العقد بالكنايات، بدعوى: أن عنوان الامضاء والإجازة والانفاذ
لا يتعلق إلا بما له مضي وجواز ونفوذ، وما يترقب منه ذلك هو السبب
التام، وهو العقد لتقوم السبب المترقب منه التأثير في الملكية بالايجاب
والقبول معا، فلا معنى للتسبب بقوله أمضيت وأجزت وأنفذت إلا في
مثل العقد الفضولي لا بالإضافة إلى الايجاب فقط إلا بنحو الكناية.
ويرد عليه: أن المعاملة الفضولية والايجاب الساذج سيان في عدم
تأثيرهما في المنشأ مع قطع النظر عن الامضاء والإجازة والانفاذ، ففعلية
التأثير فيهما تتوقف على تحقق الإجازة والقبول، فكما لا مانع من تتميم
العقد الفضولي وإضافته إلى نفسه بالألفاظ المذكورة، كذلك لا مانع من
قبول الايجاب بها.
294

وعليه فيكون مضي العقد ونفوذه بنفس أمضيت وأنفذت وأجزت في
كلا المقامين، غاية الأمر أن دلالتها على الرضاء بالعقد الفضولي
وبالإيجاب كليهما بالالتزام، لأن لازم امضاء العقد أو الايجاب وانفاذه
وإجازته هو الرضاء به، وهذا لا محذور فيه مع قيام القرينة عليه.
القبول بلفظ: بعت
قوله (رحمه الله): أما بعت فلم ينقل إلا من الجامع لابن سعيد (1).
أقول: المحكي عن جماعة من أهل اللغة هو اشتراك لفظ بعت بين البيع
والشراء، ومن هنا ذكر في المصباح أن البيع في الأصل مبادلة مال بمال (2)،
وعليه فلا محذور في استعماله في القبول، غاية الأمر أنه يتميز بينهما
بالقرائن الحالية أو المقالية، كما أن الأمر كذلك في اشتريت وشريت،
ولو سلمنا اختصاصه بالايجاب - ولو بالوضع التعيني لكثرة استعماله
فيه - لكان استعماله في القبول مجازا، ومن الواضح أنه لا مانع عن
استعمال الألفاظ المجازية في القبول، كما لا مانع عن استعمالها في
الايجاب.
نعم إذا كان الاستعمال على نحو يعد في نظر أهل العرف من الأغلاط -
وإن كان صحيحا بحسب القواعد العربية - لم يجز استعماله في مقام
الانشاء، سواء فيه الايجاب والقبول، وقد تقدمت الإشارة إلى جميع
ذلك فيما سبق.

1 - نقله عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 152، لكن الموجود في الجامع:
ابتعت، راجع الجامع للشرايع: 246.
2 - الصحاح 3: 1189، القاموس 3: 8، المصباح المنير: 69.
295

ومع الاغضاء عن ذلك أنه لم يرد في آية ولا في رواية ولم يذكر في
معقد اجماع لزوم توقف العقد على القبول لكي يباحث في كيفية ذلك،
بل المتحصل من كلمات أهل اللغة، والمتفاهم من محاورات أهل
العرف ومحادثاتهم هو أنه لا يتحقق عنوان العقد ولا التجارة عن تراض
إلا بين شخصين من غير نظر إلى اعتبار خصوصية خاصة في الصيغة
والمبرز.
وعليه فلو أوجد المتعاملان معاملة في الخارج بصيغة بعت - بأن تكلم
كل منهما بهذه الصيغة في مقام الانشاء - كان ذلك مشمولا لما دل على
صحة العقود ونفوذها من العمومات والمطلقات، إذ يصدق على المنشأ
بذلك عنوان العقد وعنوان التجارة عن تراض بالحمل الشايع، فيحكم
بصحته ولزومه.
وقد ذكرنا في مبحث المعاطاة أنه إذا وقعت معاملة في الخارج
ولم يتميز فيها الموجب عن القابل حكم بكونها معاوضة مستقلة
صحيحة لآية التجارة عن تراض وإن لم تدخل تحت أحد العناوين
المتعارفة، وهذا واضح لا ستار عليه.
وعلى الجملة أن الحجر الأساسي والركن الرصين - في تحقق عناوين
العقود والايقاعات وترتب الآثار عليها في الخارج - إنما هو اعتبارها في
صقع النفس واظهارها بمظهر خارجي.
ولا شبهة في أن هذا يصدق عليه عنوان العقد أو الايقاع بالحمل
الشايع، فيكون مشمولا لما دل على صحة العقود ولزومها، وبعد هذا
لا يهمنا البحث عن الصغريات، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع
الناس فيمكث في الأرض.
296

الاختلاف في تعيين الموجب والقابل
ثم إن المصنف قد ذكر هنا فرعا وإليك نصه بلفظه: لو أوقعا العقد
بالألفاظ المشتركة بين الايجاب والقبول ثم اختلفا في تعيين الموجب
والقابل، أما بناء على جواز تقديم القبول، وأما من جهة اختلافهما في
المتقدم، فلا يبعد الحكم بالتحالف ثم عدم ترتب الآثار المختصة بكل
من البيع والشراء على واحد منهما.
ويرد عليه أنه لا وجه لاحتمال التحالف في المقام، ضرورة أن
التحالف إنما يستقر فيما إذا ثبت لكل من عنوان البائع وعنوان المشتري
أثر خاص وحكم مخصوص، ومن البديهي أنه لا يترتب أثر خاص ظاهر
على خصوص عنوان البائع، بل الأثر البارز أما يترتب على كلا العنوانين
كخيار المجلس، وأما يترتب على عنوان المشتري فقط كخيار الحيوان،
فإنه - على المشهور - مختص بالمشتري.
وعندئذ يقع النزاع في ثبوت ذلك الأثر لأي منهما من حيث كونه
مشتريا، وعليه فيتوجه الحلف على منكر الخيار فقط، نعم قد يترتب
بعض الآثار النادرة على خصوص عنوان البائع، ولكن لا يصح معه القول
بالتحالف، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
قيل: إنه ثبت في محله أن كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من من مال
بائعه، ومن البين الذي لا ريب فيه أن هذا الحكم الاتفاقي أثر ظاهر لعنوان
البائع.
والجواب عن ذلك أن الأثر المزبور كما يترتب على عنوان البائع
كذلك يترتب على عنوان المشتري أيضا، فيحكم بكون ضمان المثمن
والثمن كليهما - مع التلف قبل القبض - على كل من البائع والمشتري،
297

وهذا التعميم ليس من ناحية أن لفظ المبيع - الذي ذكر في النبوي الآتي -
يصدق على كل من العوض والمعوض، ولا من ناحية إلغاء الخصوصية
من اللفظ المزبور لأجل مناسبة الحكم والموضوع، ولا من ناحية قوله
(عليه السلام) في رواية عقبة بن خالد الآتية: فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله
إليه، بناء على أن الضمير المجرور في كلمة لحقه يرجع إلى البائع، إذ
لا يرجع شئ من هذه الوجوه إلى معنى محصل، ضرورة أن الروايتين
ضعيفتا السند، وعنوان المبيع لا يصدق على الثمن، والضمير المجرور
لا يرجع إلى البائع، ولا أقل من الاجمال، بل التعميم إنما هو من ناحية
السيرة القطعية.
وتحقيق المقام على وجه الاجمال أنه قد استدل على كون تلف المبيع
قبل قبضه من مال بائعه بوجوه شتى:
1 - الاجماع على ذلك، كما عن السرائر وكشف الرموز وجامع
المقاصد والروضة، وعن التذكرة في باب القبض أنه لا خلاف عندنا في أن الضمان على البائع قبل القبض مطلقا، فلو تلف حينئذ انفسخ العقد
وسقط الثمن.
ويرد عليه أن المدرك في حجية الاجماع إنما هو القطع برأي الإمام
(عليه السلام)، ومن الظاهر أن منشأ القطع به إما العلم بدخوله بنفسه في
المجمعين، وهو غير معلوم، أو قاعدة اللطف، وهي غير ثابتة في
محلها، أو الحدس القطعي، وهو مقطوع العدم في هذه المسألة.
وإذن فلا اجماع تعبدي في المقام لكي يكون كاشفا عن رأي
المعصوم (عليه السلام)، ونحتمل قريبا أن مستند المجمعين - هنا - هو الوجوه
الآتية.
298

2 - ما عن عوالي اللئالي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: كل مبيع تلف قبل
قبضه فهو من مال بائعه (1).
ويتوجه عليه أن الحديث المذكور وإن كان يدل على المقصود دلالة
واضحة إلا أنه لم يذكر في كتب الشيعة إلا مرسلا، وقد ذكرنا مرارا
عديدة أن الأحاديث المرسلة ليست بحجة، ودعوى أن ضعفه منجبر
بعمل الأصحاب دعوى جزافية، بداهة أن عملهم برواية ضعيفة لا يجبر
ضعفها كما أن اعراضهم عن العمل برواية صحيحة لا يوجب وهنها،
وقد ذكرنا ذلك في علم الأصول مفصلا، وأشرنا إليه في أوائل الجزء
الأول اجمالا.
3 - رواية عقبة بن مالك (2)، فإنها ظاهرة في أن التلف قبل القبض من مال
بائعه.
ولكن هذه الرواية وإن كانت ظاهرة في المقصود إلا أنها ضعيفة السند
وغير منجبرة بعمل المشهور، لا صغرى ولا كبرى، وهذا واضح
لا ريب فيه.
و التحقيق أن الحكم المزبور قد ثبت بالسيرة القطعية، لأن بناء العقلاء
والمتشرعة قائم على أن التسليم والتسلم من متممات الملكية المترتبة
على البيع، بحيث إن العقلاء لا يرون حصول الملكية التامة قبل القبض

1 - عوالي اللئالي 3: 212، عنه المستدرك 13: 303.
2 - عن الصادق (عليه السلام) في رجل اشترى متاعا من رجل وأوجبه له غير أنه ترك المتاع
عنده ولم يقبضه وقال: آتيك غدا إن شاء الله، فسرق المتاع من مال من يكون، قال: من مال
صاحب المتاع - الذي هو في بيته - حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته
فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله إليه، (الكافي 5: 171، التهذيب 7: 21 و 230، عنهما
الوسائل 18: 24)، مجهولة بمحمد بن عبد الله بن هلال وبعقبة بن خالد.
299

والاقباض بل يرون أن الحاصل قبلهما إنما هو الملكية الناقصة، ومن هنا
يعبر عن البيع كثيرا بالأخذ والاعطاء.
ولا نقول بكون القبض والاقباض من شرائط حصول الملكية في مطلق
البيع لكي لا يفرق في ذلك بين الصرف والسلم وبين بقية البيوع، بل أقول:
إن الايجاب قد أثر في الملكية الناقصة المحدودة بالانفساح بالتلف كما أنها محدودة بالفسخ - في البيع الخياري - وإنما تصير هذه الملكية مطلقة
وتامة - من جميع الجهات في نظر العقلاء، ولا تنفسخ بالتلف السماوي -
بالقبض والاقباض.
ولا ريب أن هذه السيرة كما أنها جارية في ناحية المبيع، كذلك أنها
جارية في ناحية الثمن أيضا، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة.
وإذن فالحكم بأن التلف قبل القبض من مال مالكه لا يختص بالبائع بل
يعم المشتري أيضا، فالمتحصل أنا لا نعقل وجها صحيحا لدعوى
التحالف في المقام.
نعم يمكن أن يقال: إن ذكر المصنف هنا احتمال التحالف مبني على
المسألة المعروفة في كتاب القضاء، من أن المناط في تعيين المدعي
والمنكر هل هو متعلق الدعوى ابتداءا أم المناط فيه هو الغاية المترتبة
على الدعوى، ومثال ذلك أنه إذا تلف مال عمرو عند زيد وادعي زيد أنه
كان عارية - فلا ضمان فيه - وادعي عمرو أنه كان قرضا - فلا بد من أداء
عوضه - كان هذا من قبيل التداعي على المناط الأول، ومن القبيل
المدعي والمنكر على المناط الثاني، وحيث إن وضع اليد على مال غيره
موجب للضمان إلا في موارد الأمانات الشرعية أو المالكية فلا بد لمدعي
العارية من اثبات مدعاه.
وعلى هذا الضوء فإذا كان مصب الدعوى - فيما نحن فيه - هو عنوان
300

البائع وعنوان المشتري كان المورد من صغريات التداعي، فيتعين
التحالف، وإذا كان مصب الدعوى هو الغاية المترتبة على الدعوى كان
المورد من صغريات المدعي والمنكر، وعليه فيتوجه الحلف على
المنكر، ولعل المصنف حيث لم يتضح في نظره ترجيح إحدى
الناحيتين على الناحية الأخرى فاكتفى - في المقام - بذكر احتمال
التحالف، والله العالم.
301

الكلام في شروط العقد
1 - اعتبار العربية في الصيغة
قد ذكر المصنف (قدس سره) أن المحكي عن جماعة منهم السيد عميد الدين (1)
والفاضل المقداد والمحقق والشهيد الثانيان (2) اعتبار العربية في العقد.
أقول: ذهب جمع كثير من أعاظم الأصحاب (قدس سرهم) إلى اعتبار العربية في
صيغ العقود لوجوه شتى:
1 - التأسي والاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله)، ضرورة أنه (صلى الله عليه وآله) كان ينشئ
العقود والايقاعات بالألفاظ العربية، ومن الواضح أن فعله حجة كما أن
قوله وتقريره حجتان.
والجواب عنه: أن النبي (صلى الله عليه وآله) وإن كان قادرا على انشاء العقود
والايقاعات بأي لفظ وبأية لغة، إلا أن قومه كانوا عربي اللسان
ولم يكونوا عارفين بسائر اللغات غالبا، وحينئذ فعدم صدور الانشاءات
العربية منه (صلى الله عليه وآله) غير اللغة العربية إنما هو لعدم ابتلائه بذلك، كعدم
ابتلائه بذلك - غالبا - في سائر محاوراته ومحادثاته، وعليه فلا يكشف
فعله هذا عن عدم جواز الانشاء بغير اللغة العربية.
والذي يدل على صدق مقالنا أنه لو كانت العربية معتبرة في صحة

1 - حكى عن السيد عميد الدين الشهيد في حواشيه، على ما في مفتاح الكرامة 4: 162.
2 - التنقيح الرائع 2: 184، كنز العرفان 2: 72، جامع المقاصد 4: 59، الروضة البهية
3: 225.
302

الانشاء لظهر لنا ذلك وبأن، بل صار بديهيا كالشمس في كبد السماء
لكثرة ابتلاء الناس بذلك، بل كان من الوظائف اللازمة على كل متدين
بدين الاسلام أن يتعلم الصيغ العربية للعقود والايقاعات، كما أنه يجب
على كل مسلم أن يتعلم ما يبتليه من الأحكام الشرعية، ومن الواضح أنه
لم يذكر ذلك في شئ من الأدلة الشرعية، نعم يجب التأسي بالنبي (صلى الله عليه وآله)
في فعله الصادر منه على سبيل المولوية والتشريع إلا أنه بعيد عن مورد
بحثنا.
2 - إن عدم صحة الانشاء بالعربي غير الماضي يستلزم عدم صحته
بغير العربي بطريق أولى.
ويرد عليه أن دعوى الأولوية في المقام ممنوعة، إذ لا صلة بين
المقامين بوجه، على أنه لا دليل على اعتبار الماضوية في العقود،
وستعرفه قريبا.
3 - إن مفهوم العقد لا يتحقق في الخارج إلا بالانشاء بالألفاظ العربية،
وعليه فالانشاء بغيرها خارج عن حدود العقد موضوعا.
والجواب عن ذلك أن العربية غير معتبرة في مفهوم العقد بوجه،
وليس عليه دليل عقلي ولا نقلي ولا شاهد عليه من العرف واللغة، بل
كل ذلك يساعد على صدق مفهوم العقد على المنشأ بغير الألفاظ العربية
فيكون مشمولا للعمومات والمطلقات الدالة على صحة العقود
ولزومها.
والسر في ذلك ما ذكرناه مرارا من أن حقيقة كل أمر انشائي - من
الأوامر والنواهي، والعقود والايقاعات - متقومة بالاعتبار النفساني
المظهر بمظهر خارجي، سواء أكان ذلك المظهر فعلا من الأفعال
الجوارحية أم كان قولا، وسواء أكان القول عربيا أم كان غير عربي، وإذن
303

فلا وجه لتخصيص المظهر بالقول فضلا عن تخصيصه بحصة خاصة
منه، وعليه فيصح الانشاء بالألفاظ غير العربية.
نعم لو أغمضنا عن العمومات والمطلقات لحكمنا بفساد كل عقد
نشك في صحته وفساده - ولو كان ذلك من ناحية الشك في اعتبار العربية
فيه - إلا أن هذا فرض محض لا واقعية له، لما ذكرناه قريبا من أن المنشأ
بغير الألفاظ العربية عقد بالحمل الشايع فتشمله العمومات والمطلقات،
وحينئذ فليس لك أن ترجع إلى أصالة الفساد في العقود، لأن موردها إنما
هو العقد الذي يشك في صحته وفساده من غير أن يكون مشمولا لأدلة
الامضاء، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
ثم إذا قلنا باعتبار العربية في الصيغة وجب اعتبارها في جميع ما هو
دخيل في حقيقة الصيغة وماهيتها وهذا واضح، نعم لا بأس بذكر
الشروط - التي اعتبرت في العقود - بغير الألفاظ العربية، لأنها غير معتبرة
في ماهية العقود وحقيقتها، كما أنه لا بأس بذكر متعلقات الصيغة - من
العوض وغيره - بغير الألفاظ العربية، لأن ذكر تلك المتعلقات وحذفها -
مع قيام القرينة على الحذف - سيان، ومن البديهي أنه إذا لم يضر حذفه
بصحة العقد لم يضر ذكره بها أيضا.
فكما لا بأس بقول القائل: بعت أو قبلت من دون ذكر الثمن أو المثمن،
كذلك لا بأس بقوله: بعت أين كتاب را بده درهم، ولا نحتمل أن يكون
ذكر اللفظ غير العربي مخلا بصحة العقد.
ويؤيد ما ذكرناه ما عن العلاء من أنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام):
الرجل يريد أن يبيع بيعا فيقول: أبيعك بده دوازده؟ فقال: لا بأس إنما
هذه المراوضة فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة.
304

حكم العربي الملحون
وقد اتضح لك مما حققناه حكم العربي الملحون من حيث المادة أو
الهيئة أو الاعراب، فإنه لا يصح الانشاء بذلك، بناء على أن الوجه في
اعتبار العربية في العقود هو كون العربي الصحيح متيقنا من أسباب النقل
والانتقال، وإليه أشار المصنف بقوله: الأقوى ذلك بناء على أن دليل
اعتبار العربية هو لزوم الاقتصار على المتيقن من أسباب النقل.
وعليه فلا وجه لما ذكره السيد من: أن المتعين خلافه - أي خلاف ما
أفاده المصنف - ما لم يتغير المعنى على وجه يخرجه عن حقيقته (1).
ولكن الذي يسهل الخطب هو ما بيناه مرارا، من جواز الانشاء بكل ما
هو قابل لابراز الاعتبار النفساني ما لم يدل دليل خاص على خلافه،
ووقتئذ لا بد من التفصيل في الملحون بين ما يعد غلطا في نظر أهل العرف
- كلفظ بغت بدل بعت - وبين ما لا يعد غلطا في نظرهم وإن كان غلطا
بحسب القواعد العربية - كاللغات الدارجة - فإنه يصح الانشاء بالثاني
لكونه صالحا لابراز الاعتبار النفساني دون الأول، إلا أن الاحتياط يقتضي
انشاء العقود بالألفاظ العربية الصحيحة.
2 - اعتبار علم المتكلم بمعنى الصيغة
قوله (رحمه الله): هل يعتبر كون المتكلم عالما تفصيلا بمعنى اللفظ؟
أقول: ظاهر كلام المصنف أن اعتبار علم المتكلم بمعنى اللفظ
تفصيلا متفرع على اعتبار العربية في الصيغة، ومن هنا قال في وجه ذلك:
لأن عربية الكلام ليست باقتضاء نفس الكلام بل يقصد المتكلم منه

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 87.
305

المعنى الذي وضع له عند العرب، فلا يقال: إنه تكلم وادي المطلب
على طبق لسان العرب إلا إذا ميز بين معنى بعت وأبيع وأوجدت البيع
وغيرها.
والتحقيق أن اعتبار الشرط المذكور - في الصيغة - لا يتفرع على اعتبار
العربية فيها، بل إنما هو من ناحية أخرى التي ستتضح لك قريبا، وتفصيل
الكلام في المقام أن الجهل بمضمون الصيغة على قسمين:
1 - أن يلتفت المنشئ اجمالا إلى معنى الصيغة، ولكن لا يلتفت
تفصيلا إلى وقوع أي جزء منها بإزاء أي جزء من معناها، كما يتفق ذلك
غالبا في غير العارف باللغة العربية، فإنه يلتفت اجمالا إلى معنى جملة
خاصة عربية إلا أنه لا يلتفت إلى كيفية الدلالة فيها ومقابلة أي جزء من
تلك الجملة بأي جزء من معناها.
2 - أن يكون المنشئ جاهلا بمضمون الصيغة رأسا ولا يكون عالما
به، لا اجمالا ولا تفصيلا، بل ربما يكون المرتكز في ذهن المنشئ من
تلك الصيغة غير ما يفهمه أهل العرف منها.
أما القسم الأول: فالظاهر هو جواز الانشاء به، لعدم الدليل على اعتبار
العلم بمضمون الصيغة على النهج المذكور، بل اعتبار العلم بذلك
مقطوع العدم لقيام السيرة القطعية على خلافه، إذ لا يطلع على
خصوصيات الصيغة على النحو المزبور إلا الأفاضل والعلماء، بل ربما
يوجد بعض الألفاظ لا يلتفت إلى كيفية دلالته على معناه إلا الأوحدي من
الناس، مثل كلمة: بيهوده، فإن كثيرا من الناس يتخيل أنها كلمة واحدة
فارسية، مع أن لفظة: بي نافية، ولفظة: هوده بمعنى الفائدة، فقد
ضمت إحداهما إلى الأخرى فصارت كلمة واحدة.
أما عوام الناس - حتى العارفين باللغات - فلا يلتفتون إلى خصوصياتها
306

على الكيفية المتقدمة، ومع ذلك ينشؤون بها العقود والايقاعات،
ولا ريب أن هذا متعارف بينهم قديما وحديثا، ولم يثبت عنه ردع في
الشريعة المقدسة وإلا لظهر وبأن وصار من الأمور الواضحة، ضرورة
ابتلاء الناس بالمعاملات أكثر من ابتلائهم بالعبادات الضرورية التي اتضح
حكمها في الشريعة المقدسة، كالصوم والصلاة والحج وأمثالها.
أما القسم الثاني: فلا يصح الانشاء به جزما، فإن شأنه في نظر
المنشئ شأن استعمال كلمة أكلت وشربت وضربت مكان بعت، فكما
لا يصح الانشاء بتلك الألفاظ كذلك لا يصح الانشاء بما يكون المنشئ
جاهلا بمضمونه رأسا.
3 - اعتبار الماضوية في الايجاب والقبول
قوله (رحمه الله): المشهور كما عن غير واحد (1) اشتراط الماضوية، بل في التذكرة
الاجماع على عدم وقوعه بلفظ أبيعك أو اشتر مني (2).
أقول: اشتراط الماضوية في الايجاب والقبول محكي عن الوسيلة
والشرايع والارشاد وشرحه لفخر الاسلام والدروس والتنقيح
والمسالك، وعن جمع آخر.
بل قال في التذكرة: الثاني - أي من شروط الايجاب والقبول - الاتيان
بهما بلفظ الماضي، فلو قال: أبيعك أو اشترى لم يقع اجماعا لانصرافه
إلى الوعد، ولو تقدم القبول بلفظ الطلب، بأن قال: بعني بدل قوله
اشتريت، فقال البائع: بعتك، لم ينعقد... لأنه ليس صريحا في الايجاب،

1 - منهم المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 145، والمحدث الكاشاني في مفاتيح
الشرايع 3: 49، والسيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 162.
2 - التذكرة 1: 462.
307

فقد يقصد أن يعرف أن البائع هل يرغب في البيع... نعم لو قال المشتري
بعد ذلك: اشتريت أو قبلت، صح اجماعا، ولو تقدم لفظ الاستفهام
فيقول: أتبيعني، فيقول: بعتك، لم يصح اجماعا، لأنه ليس بقبول
ولا استدعاء - انتهى كلامه.
ووجهه بعضهم بأن الانشاء بغير الماضي خارج عن العقود المتعارفة
فلا تشمله العمومات، وبأن الماضي صريح في الانشاء بخلاف غيره من
الأمر والمضارع، فإن الأول استدعاء، والثاني أشبه شئ بالوعد،
والتحقيق ما عن الكامل والمهذب (1)، من جواز الانشاء بالمضارع والأمر،
لأنه يصدق عنوان العقد على المنشأ بهما، فيكون مشمولا للعمومات
توهم أن المضارع والأمر ليسا بصريحين في الانشاء توهم فاسد، إذ لو
أريد من ذلك عدم صراحتهما في الانشاء - ولو بالقرائن الحالية أو المقالية
- فهو جار في الماضي أيضا، لأنه ليس بصريح في الانشاء، ضرورة أنه
يستعمل تارة في الاخبار وأخرى في الانشاء، وعليه فلا يكون صريحا
في الثاني، بل هو وغيره سيان في عدم الدلالة على الانشاء صريحا
بحسب الوضع الأولي، ولو أريد من ذلك عدم صراحتهما في الانشاء
حتى مع اقترانهما بالقرائن فهو ممنوع جزما.
نعم لا شبهة في أن العقود والايقاعات تنشأ بالماضي غالبا، إلا أن
مجرد هذا لا يوجب عدم صحة الايجاب والقبول بغير الماضي، وهذا
واضح لا شبهة فيه.
ودعوى الاجماع على عدم جواز الانشاء بالمضارع والأمر دعوى
جزافية، لأن المدرك في حجية الاجماع إنما هو العلم بكشفه عن قول
المعصوم، ومن البين أنه لا سبيل لنا إلى العلم بذلك هنا، إذ من المحتمل

1 - حكاه عنهما العلامة في المختلف 5: 53.
308

القريب أن يكون مدركه هو الوجوه الاعتبارية التي ذكروها في المقام،
على أن مورد الاجماع - في عبارة التذكرة التي ذكرناها آنفا - إنما هو
خصوص المضارع، وعليه فلا وجه لما في عبارتي المصنف ومفتاح
الكرامة (1) من نسبة الاجماع إلى التذكرة في كل من المضارع والأمر.
ويضاف إلى ذلك كله أنه قد ورد - في جملة من الروايات (2) - الانشاء
بالمضارع، كما يدل على جواز ذلك مطلقا فحوى ما دل عليه في
خصوص النكاح (3).

1 - مفتاح الكرامة 4: 162.
2 - عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يشتري العبد وهو آبق عن أهله، قال: لا
يصلح له إلا أن يشتري معه شيئا آخر ويقول: أشتري منك هذا الشئ وعبدك بكذا وكذا فإن
لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى منه، (الكافي 5: 209، الفقيه 3: 142، التهذيب
7: 69، 6: 124، عنهم الوسائل 17: 354)، موثق بزرعة وسماعة.
وعن رفاعة النخاس قال: سألت أبا الحسن - يعني موسى بن جعفر (عليهما السلام) - قلت له: يصلح
لي أن أشتري من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن وأطلبها أنا، قال: لا يصلح شراؤها إلا أن
تشتري معها منهم شيئا ثوبا أو متاعا فتقول لهم أشتري منكم جاريتكم فلانة وهذا المتاع بكذا و
كذا درهما، فإن ذلك جائز (الكافي 5: 194، التهذيب 7: 124، عنهم الوسائل 17: 353)،
صحيحة.
وعن سماعة قال: سألته عن اللبن يشتري وهو في الضرع، قال: لا إلا أن يحلب لك
سكرجة فيقول: أشتري منك هذا اللبن الذي في السكرجة (الكافي 5: 194، الفقيه 3: 141،
التهذيب 7: 123، الإستبصار 3: 104، عنهم الوسائل 17: 349)، موثق بزرعة وسماعة.
السكرجة - بضم السين والكاف والراء المشددة - إناء صغير يؤكل فيه الشئ القليل من
الأدم، فارسية معربة.
ثم إنه وقع الانشاء بالمضارع فيما ورد في بيع المصحف وبيع الثمر في جملة من الروايات،
وقد مر في مبحث: نظرة في الأخبار المذكورة حول المعاطاة.
3 - عن أبي بصير قال: لا بد من أن تقول في هذه الشروط: أتزوجك متعة كذا وكذا يوما
بكذا وكذا درهما - الخ، (الكافي 5: 455، التهذيب 7: 263، عنهما الوسائل 21: 44)، ضعيف
بعثمان بن عيسى وموقوف.
وعن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف أقول لها إذا خلوت بها، قال: تقول:
أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه لا وارثة ولا موروثة كذا وكذا يوما.... فإذا قالت: نعم
فقد رضيت فهي امرأتك وأنت أولى الناس بها - الخ (الكافي 5: 455، التهذيب 7: 265،
الإستبصار 3: 150، عنهم الوسائل 21: 43)، ضعيف بإبراهيم بن الفضل.
وعن ثعلبة قال: تقول: أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه نكاحا غير سفاح - الخ
(الكافي 5: 455، التهذيب 7: 263، عنهما الوسائل 21: 43)، موقوف.
وعن هشام بن سالم قال: قلت: كيف يتزوج المتعة، قال: تقول يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا
يوما بكذا وكذا درهما - الخ (الكافي 5: 455، عنه الوسائل 21: 44)، مجهول بعبد الله بن
محمد بن عيسى.
309

وقد اتضح لك مما بيناه بطلان ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ، من أن
الانشاء لا يكون إلا بالماضي لصراحته في تحقق الأمر الاعتباري بخلاف
المضارع فإنه أشبه شئ بالوعد، كما أن الأمر أشبه شئ بالمقاولة،
وإذن فلا يصح الانشاء بهما - انتهى ملخص كلامه (1).
ثم إنا ذكرنا مرارا أن الأمور الانشائية متقومة بالاعتبار النفساني المبزر
بمظهر خارجي، بحيث يكون ذلك المظهر صالحا لابراز ما في النفس من
الاعتبار - ولو بمؤونة القرائن.
وعليه فلا بأس بانشاء العقود بالجمل الاسمية - كانشاء البيع بجملة:
هذا لك بعوض، وانشاء الإجارة بجملة: منفعة هذه الدار لك بكذا،
وهكذا، ضرورة أنها - مع اقترانها بالقرائن - صالحة لابراز الاعتبار
النفساني، فيكون المنشأ بها مشمولا لما دل على صحة العقود ولزومها.
نعم لا يصح الانشاء بمثل قولنا: أنا بائع، أو أنت مشتر، أو هذا مبيع

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 283.
310

ونحوها، فإن الانشاء بأشباه هذه الجمل يعد في نظر أهل العرف من
الأغلاط، وقد أسلفنا أنه لا يسمح الانشاء بما لا ينطبق عليه عنوان البيع
أو غيره في نظر أهل العرف، وهذا ظاهر لا خفاء فيه، أما جواز انشاء
الطلاق بجملة: هي طالق، وانشاء العتق بجملة: أنت حر لوجه الله،
فإنما هو من ناحية دليل خاص.
4 - اعتبار تقديم الايجاب على القبول
قوله (رحمه الله): الأشهر - كما قيل (1) - لزوم تقديم الايجاب على القبول.
أقول: قد اختلف الأصحاب في ذلك، فقال الشيخ في بيع المبسوط:
عقد النكاح ينعقد بالايجاب والقبول، سواء تقدم الايجاب... أو تأخر
... بلا خلاف، فأما البيع فإن تقدم الايجاب... صح بلا خلاف، وإن تقدم
القبول... صح، والأقوى عندي أنه لا يصح (2).
وعن الوسيلة والسرائر (3) اشتراط تقديم الايجاب على القبول، وعن
المختلف (4) أنه الأشهر، وعن التذكرة والايضاح والتنقيح (5) أنه الأقوى،
وعن جامع المقاصد (6) وصيغ العقود أنه الأصح، وعن تعليق الإرشاد أنه
الأظهر.

1 - قاله العلامة في المختلف 5: 52.
2 - المبسوط 2: 87.
3 - الوسيلة: 237، السرائر 2: 243.
4 - المختلف 5: 52.
5 - التذكرة 1: 462، إيضاح الفوائد 1: 413، التنقيح 2: 184.
6 - جامع المقاصد 4: 60.
311

بل عن غاية المراد والمسالك (1) حكاية الاجماع على ذلك عن
الخلاف، ولكن الموجود في بيع الخلاف أنه: إذا قال: بعنيه بألف، فقال:
بعتك، لم يصح البيع حتى يقول المشتري بعد ذلك: اشتريت أو قبلت...
دليلا، أن ما اعتبرناه مجمع على ثبوت العقد به (2).
وغير خفي على الناقد البصير أن هذه العبارة التي بين يدي القاري غير
ظاهرة في الاشتراط المزبور، وإن كانت توهمه للمستعجل.
وقد خالف في ذلك جمع من الأعاظم:
فقال العلامة في القواعد (3): وفي اشتراط تقديم الايجاب نظر، وفي
الشرايع (4) أنه أشبه، واختاره الشهيد في حواشيه، وفي اللمعة والروضة (5):
أنه لا يشترط تقديم الايجاب وإن كان تقديمه أحسن، وعن نهاية
الأحكام والميسية والمسالك (6) أنه الأقوى، وعن التحرير والدروس
والكفاية (7) أنه الأقرب، وعن مجمع البرهان (8) أنه الأظهر.
بل قال الشيخ (رحمه الله) في نكاح المبسوط: فأما إن تأخر الايجاب فسبق
القبول، فإن كان في النكاح... صح... بلا خلاف لخبر الساعدي (9)... وإن

1 - غاية المراد: 80، المسالك 3: 154.
2 - الخلاف 3: 39.
3 - القواعد 1: 123.
4 - الشرايع 2: 13.
5 - اللمعة الدمشقية: 109.
6 - المسالك 3: 154، حكى عن الميسية السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 165.
7 - التحرير 1: 164، الدروس 2: 191، الكفاية: 89.
8 - مجمع الفائدة والبرهان 8: 145، كذا في الحدائق 18: 349، الجواهر 22: 254.
9 - عوالي اللئالي 2: 263، الرقم: 8، السنن للبيهقي 7: 242، رواه في الكافي 5: 380،
الرقم: 5، والتهذيب 7: 354، الرقم: 1444.
312

كان هذا في البيع فقال: بعنيها، فقال: بعتكها، صح عندنا وعند قوم من
المخالفين (1) (2).
ثم إنه قال الشهيد الثاني في الروضة: إن محل الخلاف ما لو وقع
القبول بلفظ اشتريت... أو ابتعت أو تملكت... لا بقبلت وشبهه... لأنه
صريح في البناء على أمر لم يقع.
وحكاه في مفتاح الكرامة عن جماعة من الفقهاء (3).
وقد أطنب المصنف في البحث هنا من حيث النقض والابرام،
وصفوة كلامه:
إن القبول قد يقع بلفظ قبلت ورضيت ونحوهما، وقد يقع بلفظ الأمر،
بأن يقول المشتري: بعني المتاع الفلاني بألف، ويقول البائع: بعته إياك
بكذا، وقد يقع بلفظ اشتريت وابتعت وملكت - مخففا -، فإذا وقع القبول
بالقسم الأول لم يجز تقديمه على الايجاب للاجماع، ولأن العمومات
محمولة على العقود المتعارفة، ومن الواضح أنه لم يتعارف تقديم القبول
بلفظ قبلت أو رضيت على الايجاب.
أضف إلى ذلك أن القبول - الذي هو أحد ركني العقد - فرع الايجاب،
فلا يعقل تقدمه عليه، بديهة أن القبول ليس هو مجرد الرضاء بالايجاب
لكي يلتزم بامكان تعلق الرضاء بالأمر المتأخر، بل المراد من القبول إنما
هو الرضاء بالايجاب المتضمن لنقل المال من الموجب إلى القابل نقلا
فعليا.
ومن الواضح أن هذا المعنى لا يتحقق إلا بتأخر الرضاء عن الايجاب،

1 - راجع المغني لابن قدامة 3: 561، المجموع 9: 198.
2 - المبسوط 4: 194.
3 - حكى ذلك في مفتاح الكرامة 4: 165، عن نهاية الإحكام 2: 448، كشف اللثام 2: 12.
313

إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال، ضرورة أن الراضي بمعاوضة
ينشئها الموجب في المستقبل لم ينقل ماله في الحال إلى الموجب،
والسر في ذلك أن كلمة قبلت وأشباهها قد أخذ فيها مفهوم المطاوعة
ولا يتحقق ذلك في الخارج إلا بتقديمها على الايجاب.
وإذا وقع القبول بالقسم الثاني لم يجز تقديمه على الايجاب أيضا،
لأنه لا يعد قبولا للإيجاب المتأخر وإنما هو استدعاء واستيجاب، بل
لو قلنا بجواز التقديم بلفظ قبلت لأمكن المنع هنا، بناء على اعتبار
الماضوية في الايجاب والقبول، وقد نص جمع كثير بعدم جواز التقديم
هنا (1).
وإذا وقع القبول بالقسم الثالث - أعني به ابتعت واشتريت وملكت
مخففا - جاز تقديمه على الايجاب، لأنه عندئذ لم يؤخذ فيه عنوان
المطاوعة لكي يستحيل تقديمه عليه، وإنما استفيدت المطاوعة من
القرائن المقامية، وهي أن النقل يتحقق - غالبا - من قبل البائع قبل تحققه
من قبل المشتري، ومن البين أن هذه القرينة غير مانعة عن تقديم القبول
على الايجاب، بديهة أن المشتري قد أنشأ بالألفاظ المذكورة مليكة
المثمن لنفسه بإزاء الثمن، ولا يفرق في ذلك تقدمها على الايجاب
وتأخرها عنه.
ثم إنه (رحمه الله) تكلم في سائر العقود إلى أن قال: وأما المصالحة المشتملة
على المعاوضة، فلما جاز ابتداء الالتزام بها لكل من المتصالحين -
لتساوي نسبتها إليهما - كان البادي منهما موجبا لصدق عنوان الموجب
عليه لغة وعرفا، ولكن لما انعقد الاجماع على توقف العقد على القبول

1 - الغنية: 214، الخلاف 3: 39، المبسوط 2: 87، السرائر 2: 249، نهاية الإحكام 2: 449،
جامع المقاصد 4: 59، مفتاح الكرامة 4: 161، المسالك 3: 153.
314

لزم أن يكون الالتزام الحاصل من الآخر بلفظ القبول، إذ لو كان ذلك أيضا
بلفظ الصلح للزم تركب العقد من ايجابين، وحينئذ فلا يجوز تقدم القبول
على الايجاب في الصلح أيضا - انتهى ملخص كلامه.
ويرد عليه:
أولا: أنه لا وجه لحمله العمومات على العقود المتعارفة بل هي
تشمل جميعا، سواء فيها المتعارف وغير المتعارف.
ثانيا: أنه لا وجه لما ذكره في آخر كلامه، من قيام الاجماع على توقف
العقد على القبول، لعدم الدليل على اعتبار القبول في مفهوم العقد،
ولا في صحته ولا في لزومه.
بل المتحصل من كلمات أهل اللغة وأهل العرف هو أن العقد لا يوجد
إلا بين شخصين، سواء أكان الصادر منهما مركبا من الايجاب والقبول
أم كان ذلك مركبا من ايجابين فقط، فإنه - على كلا التقديرين - يكون
مشمولا للعمومات الدالة على صحة العقود ولزومها، وقد أشرنا إلى
ذلك آنفا.
ثالثا: أنه لا وجه لمنعه عن تقديم القبول - الذي وقع بلفظ الأمر - على
الايجاب، لأنا ذكرنا مرارا أن حقيقة العقد هي الاعتبار النفساني المبرز
بمظهر خارجي من غير أن تعتبر في ذلك أية خصوصية من الخصوصيات،
ودعوى أن انشاء القبول بلفظ الأمر مخالف لاعتبار الماضوية في العقود
دعوى فاسدة، لما عرفته قريبا من عدم الدليل على اعتبار الماضوية
بوجه.
رابعا: أنه لا وجه لتفصيله (رحمه الله) بين قبلت ورضيت وأمضيت وأنفذت،
وبين اشتريت وتملكت وملكت - مخففا - حيث التزم بعدم الجواز في
القسم الأول، وبالجواز في القسم الثاني.
315

وبيان ذلك: أن العقود قد يعتبر فيها القبول وقد لا يعتبر فيها إلا
الرضاء بفعل الموجب بلا حاجة إلى انشاء آخر غير ما صدر من
الموجب:
أما القسم الثاني فيما أنه لا يعتبر فيه القبول ويكفي فيه مجرد الرضاء
لم يفرق فيه بين تقدم الرضاء وتأخره، فلو استدعي زيد عمروا في بيع
داره فأذن له صح لزيد بيعها وإن لم يتحقق منه انشاء لقبول الوكالة.
نعم هذا القسم من الوكالة الإذنية - التي تتقوم بالإذن الساذج - لا يترتب
عليه حكم الوكالة العهدية - التي تقوم بالالزام والالتزام من الطرفين -
وعليه فإذا رجع عمرو عن إذنه لم يصح بيع زيد بعده وإن لم يبلغه
الرجوع.
ومن هذا القبيل العارية والوديعة فإنهما أيضا لا يحتاجان إلى القبول،
ويكفي في تحققهما مجرد رضاء المستعير والمستودع بانشاء المالك،
بل وكذلك الحال في الوصية، فإذا أوصى بمال لزيد لم يعتبر في صحتها
إلا رضاء زيد بالتمليك من دون حاجة إلى القبول.
وعلى الجملة إن الحاجة إلى الرضاء في هذه العقود كالحاجة إلى
رضاء الزوجة في صحة التزويج علي بنت أختها أو بنت أخيها، ومعه
لا موجب لاعتبار تأخر القبول في العقود المزبورة، لأنه يكفي فيها مجرد
الرضاء، سواء تأخر عن الايجاب أم تقدم عليه.
أما القسم الأول - أعني به العقود العهدية - فهو لا يوجد في الخارج إلا
بانشاء المعاهدة والمعاقدة من الجانبين، ولكن لا دليل على كون أحد
الانشائين معنونا بعنوان الايجاب وكون الآخر معنونا بعنوان القبول -
بمعناه المطاوعي - لكي يستحيل تقدم الثاني على الأول، بل ذكرنا قريبا
أنه إذا صدق على المنشأ بهما عنوان من عناوين المعاملات - كالعقد
316

والبيع والتجارة عن تراض والشرط على القول بصدقه على الشروط
الابتدائية وغير ذلك - حكم بصحته ولزومه للعمومات والمطلقات.
وإذن فلا محذور من تركب عقد خاص من انشائين يتضمن أحدهما
تمليك أحد المالين بعوض ويتضمن ثانيهما تملكه به، سواء أكان ذلك
بلفظ التملك وما يرادفه أم كان بلفظ القبول مع قيام قرينة على انشاء
التملك به، وعليه فلم يبق وجه لاعتبار القبول - بمعناه المطاوعي - في
مفهوم العقود لكي يمنع من تقدمه على الايجاب.
ولو سلمنا احتياج العقد إلى القبول، وسلمنا أيضا أخذ المطاوعة في
مفهوم القبول، ولكنا لا نسلم استحالة تقدم القبول على الايجاب،
ضرورة أن القبول يتعلق تارة بالمعنى المصدري أعني به انشاء البائع،
ويتعلق أخرى باسم المصدر أعني به نفس المبادلة بين المالين مع قطع
النظر عن إضافته إلى البائع.
وعلى الأول فلا يعقل فيه تعلق القبول به قبل تحقق الايجاب في
الخارج كما يستحيل تحقق الانكسار قبل تحقق الكسر.
وعلى الثاني فلا محذور فيه من تحقق المطاوعة قبل تحقق الايجاب،
وذلك لأن مفهوم المطاوعة هو الأخذ، ومن البين أن المشتري إذا أنشأ
تملك مال غيره بإزاء مال نفسه بقوله قبلت مالك بمالي، صدق على
انشائه هذا أنه أخذ المبدأ - كالبيع مثلا - لنفسه.
وإذن فلا يفرق في تحقق مفهوم العقد بين تقديم القبول على الايجاب
وعدمه، وحينئذ فيكون ذلك مشمولا للعمومات الدالة على صحة
العقود ولزومها.
وقد ظهر لك مما بيناه بطلان ما ذكره المصنف، من أن القبول فرع
الايجاب وتابع له فيستحيل تقدم التابع على المتبوع.
317

ونتيجة ما حققناه هي جواز تقدم القبول على الايجاب، من غير فارق
بين ألفاظ القبول ولا بين أفراد العقود، نعم يحسن بنا تقديم الايجاب على
القبول خصوصا في النكاح.
ثم إنه تدل على جواز تقديم القبول على الايجاب الروايات المتقدمة
الواردة في بيع العبد الآبق وبيع المصحف وبيع الثمر (1)، وأيضا يدل عليه
فحوى الأخبار السابقة الواردة في نكاح المتعة، وفحوى ما ورد في
جواز جعل المهر تعليم شئ من القرآن (2).

1 - مر ذكرها قبيل هذا، فراجع.
2 - عن عوالي اللئالي: روى سهل الساعدي أن النبي (صلى الله عليه وآله) جاءت إليه امرأة فقالت: يا
رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقال (صلى الله عليه وآله): لا إربة لي في النساء، فقالت: زوجني بمن
شئت من أصحابك، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها، فقال: هل معك شئ تصدقها،
فقال: والله ما معي إلا ردائي هذا، فقال (صلى الله عليه وآله): إن أعطيتها إياه تبقى ولا رداء لك، هل معك
شئ من القرآن، فقال: نعم سورة كذا وكذا، فقال (صلى الله عليه وآله): زوجتكها على ما معك من القرآن
(عوالي اللئالي 2: 263، عنه المستدرك 15: 61)، مرسل.
ورواه مسلم في صحيحه كتاب النكاح باب جواز كون الصداق تعليم القرآن، والبخاري في
صحيحه كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وفي باب القراءة عن ظهر
القلب، وفي كتاب النكاح باب المهر بالعروض وخاتم حديد، وابن ماجة في سننه 1: 584
كتاب النكاح باب صداق النساء، والنسائي في سننه 2: 81 كتاب النكاح باب التزويج على
سورة من القرآن، وأبي داود في سننه 2: 236 كتاب النكاح باب التزويج على العمل يعمل،
ومالك في موطأ 2: 63 كتاب النكاح باب ما جاء في الصداق والحباء، والبيهقي في سننه 7: 57
كتاب النكاح باب ما أبيح له من التزويج بالمرأة من غير استئمارها.
وعن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: جاءت امرأة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت:
زوجني، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من لهذه، فقام رجل فقال: أنا يا رسول الله زوجنيها، فقال: ما
تعطيها، فقال: ما لي شئ، فقال: لا، قال: فأعادت، فأعاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام، فلم يقم
أحد غير الرجل، ثم أعادت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المرة الثالثة: أتحسن من القرآن شيئا،
قال: نعم، فقال: قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن فعلمها إياه (الكافي 5: 380، التهذيب
7: 354، عنهما الوسائل 21: 242)، صحيح.
ثم لا يخفي عليك أنه يستفاد من الخبرين المزبورين أحكام شتى:
1 - جواز تقديم القبول على الايجاب.
2 - جواز وقوع القبول بلفظ الأمر.
3 - جواز الفصل بين الايجاب والقبول.
4 - جواز جعل المهر تعليم شئ من القرآن.
إلا أن استفادة غير الحكم الأخير منهما مبنية على ما فهمه جمع من أن القبول فيهما هو قول
ذلك الصحابي زوجنيها، والايجاب قوله بعد فصل طويل: زوجتكها على ما تحسن أو ما معك
من القرآن.
318

5 - الموالاة بين الايجاب والقبول
قوله (رحمه الله): ومن جملة شروط العقد الموالاة بين ايجابه وقبوله (1).
أقول: قد حكى المصنف عن الشهيد في قواعده:
أن الموالاة معتبرة في العقد ونحوه، وهي مأخوذة من اعتبار
الاتصال بين المستثني والمستثنى منه، وقال بعض العامة (2): لا يضر قول
الزوج بعد الايجاب: الحمد لله والصلاة على رسول الله قبلت نكاحها،
ومنه الفورية في استتابة المرتد، فيعتبر في الحال، وقيل (3) إلى ثلاثة أيام،
و منه السكوت في أثناء الأذان فإن كان كثيرا أبطله، ومنه السكوت
الطويل في أثناء القراءة أو قراءة غيرها خلالها، وكذا التشهد، ومنه

1 - صرح به في المبسوط 4: 362، الدروس 2: 264، والمسالك 6: 9، 9: 384، وجامع
المقاصد 4: 59.
2 - قاله النووي، أنظر المجموع 17: 307.
3 - قاله العلامة في الإرشاد 2: 189.
319

تحريم المأمومين في الجمعة قبل الركوع، فإن تعمدوا أو نسوا حتى ركع
فلا جمعة، واعتبر بعض العامة تحريمهم معه قبل الفاتحة، ومنه
الموالاة في التعريف بحيث لا ينسى أنه تكرار، و الموالاة في سنة
التعريف، فلو رجع في أثناء المدة استونف ليتوالى (1).
والتحقيق أنه لا شبهة في اعتبار الاتصال بين المستثني والمستثنى
منه، ضرورة أن الاستثناء من النفي يفيد الاثبات كما أن الاستثناء من
الاثبات يفيد النفي، وعليه فإذا اتصل أحدهما بالآخر كان لهما ظهور
واحد ومضمون فأرد، وإذا انفصل أحدهما عن الآخر كان لكل منهما
ظهور خاص ومضمون مستقل.
ومن هنا لو اعترف شخص لصاحبه بخمسين دينارا ثم استثني من
ذلك بعد مدة طويلة خمسة دنانير لم يسمع منه هذا الاستثناء، لأنه
عندئذ لا يعد المستثني والمستثنى منه في نظر أهل العرف كلاما واحدا
بل يعدون المستثني نقضا للمستثني منه، وكذلك إذا قال أحد: لا إله،
ولم يعقبه بقوله: إلا الله، إلا بعد مدة طويلة حكم بكفره، لأن أهل العرف
لا يرونهما كلاما واحدا.
وعلى الاجمال أن اعتبار الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه أمر
بديهي، وربما يكون التأمل في ذلك سببا لاعتبار الاتصال في كل أمر
تدريجي الذي ثبتت له الصورة الاتصالية في نظر أهل العرف، وهذا هو
المراد من قول الشهيد: الموالاة معتبرة في العقد ونحوه، وهي مأخوذة
- الخ.
ثم إن الفورية في استتابة المرتد لا تترتب على اعتبار الاتصال بين
المستثني والمستثنى منه، بديهة أن الاتصال المعتبر بينهما أمر عرفي

1 - القواعد والفوائد 1: 234، القاعدة: 73.
320

ارتكازي ولكن وجوب الاستمرار في الاسلام وعدم قطعه بالكفر أمر
ثابت بالدليل الشرعي، فلا بد من الاستتابة فورا ففورا، وإذن فلا صلة
بينهما بوجه.
وهكذا الكلام في لزوم تحريم المأمومين في الجمعة قبل ركوع
الإمام، فإن ذلك لا يرتبط بالفورية العرفية بل يحتاج إلى الدليل الشرعي،
وعليه فإن كان هناك ما يدل على الفورية أخذ به وإلا فيرجع إلى أصالة
البراءة.
والحاصل أن الأمر التدريجي المتصل إذا أخذ موضوعا للحكم
لم يترتب عليه ذلك الحكم في غير حال الاتصال، ضرورة أن فعلية
الحكم بفعلية موضوعه، ومن البين الذي لا ريب فيه أن الأمر التدريجي
المتصل لا يكون فعليا إلا بفعلية هيئته الاتصالية، وإذا انتفت هذه الهيئة
انتفي الحكم المترتب على ذلك الأمر التدريجي المتصل لانتفاء
موضوعه، وهذا لا شبهة فيه بحسب الكبرى، ولكن البحث في أنه هل
تنطبق تلك الكبرى على العقد المركب من الايجاب والقبول أم لا.
لا خفاء في أن الاتصال - بحسب الدقة - يساوق الوحدة، فإذا انفصل
أحد الأمرين عن الآخر - ولو آنا ما - لم يصدق عليهما عنوان الواحد، نعم
قد يتحقق الاتصال العرفي في الأمور التدريجية مع تخلل العدم في البين،
ومن هنا يقال للكلام الطويل أنه كلام واحد متصل مع تخلل السكوت فيه
قليلا.
ولا يخفي عليك أن هذا الاطلاق إنما هو بحسب التشكيك، إذ
الاتصال المتحقق بين المستثني والمستثنى منه أشد من الاتصال
المتحقق بين بقية أجزاء الجمل، والاتصال المتحقق بينها أشد من
الاتصال المتحقق بين جملة وجملة أخرى، والاتصال المتحقق بين
321

حروف الكلمات أشد من الاتصال المتحقق بين الأمور المذكورة كلها،
وجميع ذلك واضح لا شبهة فيه.
ما استدل به على اعتبار الاتصال بين الايجاب والقبول
إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أنه قد استدل على اعتبار الاتصال بين
ايجاب العقد وقبوله بوجهين:
1 - ما ذكره المصنف (رحمه الله)، وإليك لفظه: أن الأمر المتدرج شيئا فشيئا
إذا كان له صورة اتصالية في العرف فلا بد في ترتب الحكم المعلق عليه
في الشرع من اعتبار صورته الاتصالية، فالعقد المركب من الايجاب
والقبول - القائم بنفس المتعاقدين - بمنزلة كلام واحد مرتبط بعضه
ببعض فيقدح تخلل الفصل المخل بهيئة الاتصالية، ولذا لا يصدق
المعاقدة إذا كان الفصل مفرطا في الطول كسنة أو أزيد، وانضباط ذلك أنما يكون بالعرف، فهو في كل أمر بحسبه.
وإذن فلا يشمله دليل وجوب الوفاء بالعقد، وهذا الذي ذكره
المصنف هو ملخص ما أفاده الشهيد (رحمه الله).
ويتوجه عليه:
أولا: أن دليل صحة المعاملات ولزومها لا ينحصر بآية وجوب
الوفاء بالعقد، بل تدل على ذلك أيضا آية التجارة عن تراض، ومن
البديهي أنا لا ندور في دلالتها على المقصود مدار تحقق العقد، بل يكفي
في ذلك تحقق التجارة عن تراض، وقد أشار المصنف إلى هذا الجواب
بقوله:
وما ذكره حسن لو كان حكم الملك واللزوم في المعاملة منوطا
بصدق العقد عرفا كما هو مقتضى التمسك بآية الوفاء بالعقود... أما لو
322

كان منوطا بصدق البيع أو التجارة عن تراض فلا يضره عدم صدق العقد،
نعم لا يمكن التمسك بآية التجارة عن تراض في خصوص النكاح.
ثانيا: إنا لا نري وجها صحيحا للمنع عن كون العقد الفاقد للموالاة
مشمولا لآية وجوب الوفاء بالعقد، ضرورة أن العقد ليس اسما للفظ
المركب من الايجاب والقبول، بل هو عبارة عن العهد المطلق أو العهد
المشدد، وهذا المعنى أمر نفساني قائم باعتبار الموجب والقابل معا،
ومن الواضح أنه لا ينفصم بتخلل الفصل بين الايجاب والقبول اللفظين.
نعم لا بد وأن يعد ذلك مظهرا - في نظر أهل العرف - لذلك الاعتبار
النفساني، وإذن فلا يكون الوجه المزبور دليلا على اعتبار الموالاة بين
الايجاب والقبول.
وعلى الاجمال أن العقد عبارة عن اتصال أحد الالتزامين بالالتزام
الآخر وشده به مع وجود مظهر لكل منهما في الخارج، فإذا فرضنا أن
البائع قد اعتبر المبادلة في نفسه وأبرزه في الخارج وبقي على اعتباره
حتى انضم إليه اعتبار المشتري المبرز بقبوله، فكيف لا يصدق عليهما
العقد، وهل الانفصال بين حدوثي الاعتبارين أو بين اللفظين يضر بصدق
العقد مع فرض بقاء البائع على اعتباره.
نعم إذا فرض أن البائع رجع عن اعتباره قبل قبول المشتري لم يتحقق
العقد في الخارج لكنه خارج عن محل كلامنا، وعليه فالفصل بين
الايجاب والقبول اللفظيين لا يمنع عن كون العقد المبرز بهما مشمولا
لآية وجوب الوفاء بالعقد، وهذا ظاهر.
2 - ما أفاده شيخنا الأستاذ من: أنه لما كان فيها - أي في العقود
العهدية المعاوضية كالبيع وما يلحق بها كالنكاح - خلع ولبس أو ايجاد
علقة، فلا بد أن يكون مقارنا للخلع لبس، وهكذا مقارنا لايجاد العلقة
323

قبول وإلا يقع الإضافة أو العلقة بلا محل ومضاف إليه (1).
ويرد عليه: أن هذا الوجه يقتضي استحالة تحقق العقد مع وجود
الفصل بين الايجاب والقبول، ولازم ذلك أن لا يوجد عقد في العالم لأنه
لا يتحقق إلا بوجود الفصل بين ايجابه وقبوله - ولو بزمان قليل - ومن
البين أنه لا يفرق في استحالة الفصل بينهما بين أن يكون الفاصل هو الزمان
القصير، وبين أن يكون ذلك هو الزمان الطويل، وهذا بين لا ريب فيه.
والحل: أن الخلع واللبس - في اعتبار البائع - ليس على وجه الاطلاق
وإلا لتحقق ذلك قبل تحقق القبول مع أنه لا يتحقق قبله حتى في اعتبار
نفس البائع فضلا عن امضاء العقلاء أو الشارع، بل الخلع واللبس في
اعتبار البائع معلق على قبول المشتري وعلى فرض تحققه، وعليه
فالخلع مقارن باللبس دائما، سواء تحققت الموالاة بين الايجاب والقبول
أم لم تتحقق.
أضف إلى ذلك قيام السيرة القطعية على عدم اعتبار الموالاة بين
الايجاب والقبول، لأنا نري بالعيان ونشاهد بالوجدان أن بعض الناس
يرسل هدية إلى صاحبه من البلاد النائية وأن تلك الهدية إنما تصل إلى
المهدي إليه بعد مدة طويلة كشهر أو شهرين، ولا شبهة في أن هذه هبة
قد وقع الفصل الطويل بين ايجابها وقبولها، ولم نسمع من أحد أن يناقش
في صحتها مع أنها من القعود.
وتدل أيضا على عدم اعتبار الموالاة بين الايجاب والقبول قصة مارية
القبطية الموهوبة للنبي (صلى الله عليه وآله) (2)، حيث إنه وقع في تلك القصة فصل طويل

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 290.
2 - قد روي أن النجاشي ملك الحبشة - بعد ما تشرف بالاسلام - بعث إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
بهدايا، وبعث إليه مارية القبطية أم إبراهيم، وبعث إليه بثياب وطيب وفرس - البحار 18: 416
باب الهجرة إلى الحبشة.
324

بين ايجاب الهبة وقبولها، ومع ذلك لم يحكم النبي (صلى الله عليه وآله) بفسادها،
فيكشف من ذلك عدم اعتبار الموالاة بينهما، وإذا جاز ذلك في الهبة جاز
في غيرها لعدم القول بالفصل ظاهرا.
ودعوى أن الهبة في القصة المزبورة هبة معاطاتية وبحثنا هنا في
العقود اللفظية دعوى جزافية، إذ لا وجه للتفكيك بينهما في ذلك، كما
أن دعوى كون الايجاب من رسول المالك والقبول من النبي (صلى الله عليه وآله) دعوى
فاسدة، لأن الظاهر أن الموجب هو نفس المالك لا غيره.
وقال شيخنا الأستاذ: إن جميع هذه الأفعال الصادرة من الواسطة
كأنها صادرة من الموجب، فهو بمنزلة من كان في المشرق وكانت يده
طويلة تصل إلى المغرب، فمد يده وأعطي شيئا لمن كان في المغرب فإن
فعله يتم في زمان وصول يده إلى المغرب (1).
ولكن هذا لا يستقيم للفرق الواضح بين ما نحن فيه وبين المثال
المزبور، بداهة أن المهدي - في مورد السيرة - ربما يغفل عن هديته في
زمان وصولها إلى المهدي إليه، وعندئذ لا يمكن تنزيل فعل الرسول
والواسطة منزلة فعل المرسل، وهذا بخلاف المثال المزبور، فإن
المهدي - في ذلك - بنفسه متصد لايجاد العقد وانشائه من دون أن يفصل
فاصل بين ايجابه وقبوله، لأن طول اليد لا يخرج الفعل الواحد عن
وحدته.
وأيضا يدل على عدم اعتبار الموالاة بين الايجاب والقبول قيام السيرة
بين التجار المتدينين على معاملة بعضهم بعضا بالكتابة والبرقية مع تخلل

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 286.
325

الفصل الطويل بين ايجابها وقبولها، ولم يناقش أحد في صحتها،
ودعوى وجود الفارق بينها وبين المعاملات الشفاهية، وأن السيرة غير
جارية في الثانية دعوى جزافية.
وأيضا يدل على جواز الفصل بين الايجاب والقبول فحوى ما ورد في
جواز جعل المهر شيئا من القرآن (1)، بناء على أن القبول في الرواية هو
قول الصحابي: زوجنيها، والايجاب هو قوله (صلى الله عليه وآله) بعد فصل طويل:
زوجتكها على ما معك من القرآن، وإذا جاز ذلك في النكاح جاز في غيره
بالأولوية.
ويضاف إلى ذلك كله أنه لا دليل على اعتبار الموالاة بين الايجاب
والقبول، ودعوى الاجماع عليه دعوى باطلة، إذ لا علم لنا بوجود
اجماع تعبدي - هنا - لكي يكون كاشفا عن رأي المعصوم (عليه السلام).
وعليه فإذا تحقق الايجاب والقبول في الخارج مع وجود الفصل
بينهما وصدق عليهما عنوان العقد كان ذلك مشمولا للعمومات الدالة
على صحة العقود ولزومها، وهذا بديهي لا خفاء فيه.
6 - التنجيز في العقود
قوله (رحمه الله): ومن جملة الشرائط التي ذكرها جماعة التنجيز في العقد.
أقول: تعليق العقد على الشرط قد يكون صريحا، كاقتران العقد بما
يدل على التوقف صريحا، بأن يقول البائع: بعتك هذا إن جاء زيد، أو إن
كان هذا اليوم يوم الجمعة، وقد يكون ضمنيا كما إذ لم يذكر في الكلام
ما يدل بصراحته على الاشتراط والتوقف، ولكن يستفاد ذلك منه ضمنا،
2 كقول البائع: بعتك داري يوم الجمعة، فإن الصيغة وإن كانت خالية عن

1 - مر قبيل هذا، فراجع.
326

التعليق ظاهرا ولكنه مطوي فيها ضمنا، لأن تقديرها: بعتك داري إذا
جاء يوم الجمعة.
وعندئذ لا ينحصر مورد البحث بما يكون الكلام مشتملا على أداة
الشرط ونحوها مما يدل على التعليق، بل مدار البحث - هنا - على
استفادة التعليق من الصيغة بأي وجه كانت الاستفادة.
ثم إن مركز البحث في المقام إنما هو تعليق المنشأ على شئ، كقول
أحد الشخصين لصاحبه: أنت وكيلي في بيع داري إن قدم زيد من سفره،
حيث إن الوكالة ليست بمطلقة بل هي معلقة على قدوم زيد من سفره، أما
إذا كان الانشاء والمنشأ كلاهما مطلقين وكان التعليق في متعلق العقد
فقط فهو خارج عن محل البحث جزما.
ومثال ذلك أن يوكل أحد غيره - في أمر - مطلقا ومنجزا ولكن كان
متعلق الوكالة أمرا خاصا يتوقف حصوله - في الخارج - على تحقق شئ
آخر، كأن يقول الموكل لوكيله: أنت وكيلي في بيع داري يوم الجمعة،
بأن كان يوم الجمعة قيدا للبيع لا للوكالة، ومثله أن يقول: أنت وكيلي على
وجه الاطلاق ولكن لا تتصرف في أموالي إلى وقت معين، كقدوم الحاج
مثلا أو إلى حصول شرط خاص.
ومن هنا يجوز للزوجة أن تشترط على زوجها في عقد الزواج أن تكون
وكيله في طلاق نفسها مطلقا ومنجزا، ويكون أعمال الوكالة مشروطا
بعدم الانفاق أو بالمسافرة إلى بلد كذا أو غير ذلك، فإن هذا كله لا يرتبط
بالعقود المعلقة.
صور التعليق في العقود
ثم إن المغروس في كلمات الفقهاء والمسطور في كتبهم أن التعليق
327

في الجملة مجمع على بطلانه، وإنما الكلام بينهم في تعيين معقد الاجماع.
فقد صرح باعتبار التنجيز في العقود الشيخ والعلامة والمحقق
والشهيدين وغيرهم (1)، بل عن العلامة - في التذكرة (2) - أنه يجب كون
الوكالة منجزة عند علمائنا، وحكي عنه أيضا دعوى الاجماع على عدم
صحة أن يقول الموكل: أنت وكيلي في يوم الجمعة أن تبيع عبدي، وعلى
صحة قوله: أنت وكيلي ولا تبع عبدي إلا في يوم الجمعة، مع كون
المقصود واحدا.
وفرق بين هاتين الصورتين جمع من الفقهاء (3) - بعد اعترافهم بأن الصورة
الثانية أيضا في معنى التعليق - بأن العقود المتلقاة من الشارع منوطة
بضوابط، فلا تقع بدونها وإن أفادت فائدتها.
وعن المحقق والشهيد الثانيين - في جامع المقاصد والمسالك (4) في
مسألة إن كان لي فقد بعته: أن التعليق ينافي الانشاء في العقود
والايقاعات، حيث يكون المعلق عليه مجهول الحصول، وعن فخر
الاسلام - في شرح الإرشاد (5) - أن تعليق الوكالة على الشرط لا يصح عند الإمامية وكذا سائر العقود جائزة كانت أو لازمة، وعن غاية المرام أنه
لا خلاف فيه.

1 - المبسوط 2: 399، الخلاف 3: 354، السرائر 2: 99، اللمعة الدمشقية 3: 168، الدروس
2: 263، المسالك 5: 239، القواعد 1: 252، جامع المقاصد 8: 180، الشرايع 2: 193، كذا في
الكفاية: 128، مفاتيح الشرايع 3: 189.
2 - التذكرة 2: 114.
3 - منهم الشهيد الثاني في المسالك 5: 240، وتبعه السيد العاملي في مفتاح الكرامة
7: 527.
4 - جامع المقاصد 8: 305، المسالك 5: 276.
5 - حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 7: 526.
328

وفي الجواهر شرطها - أي الوكالة - أن تقع منجزة كغيرها من العقود
بلا خلاف أجده بل الاجماع بقسميه عليه، وفي مفتاح الكرامة (1) والدليل
على ذلك - بعد الاجماع نقلا وتحصيلا - أن الأصل عدم جواز الوكالة
خرجت المنجزة بالاجماع وبعض الأخبار وبقي الباقي.
وقد أشار الشيخ - في الخلاف - إلى الأصل الذي ذكره في مفتاح
الكرامة، وقال: إذا قال: إن قدم الحاج أو جاء رأس الشهر فقد وكلتك
في البيع، فإن ذلك لا يصح، دليلنا أنه لا دليل على صحة هذا العقد وعقد
الوكالة يحتاج إلى دليل (2).
ولكن حكي التأمل في ذلك عن الكفاية (3)، لأنه غير مرتبط بدليل واضح،
ولعله تبع في تأمله هذا للمحق الأردبيلي (4)، بل صرح المحقق القمي في
جامع الشتات بأن التعليق في الوكالة لا يضر بصحة عقد الوكالة.
وعلى الاجمال أن ظاهر جملة من العبائر هو بطلان التعليق في العقود
والايقاعات على وجه الاطلاق، وظاهر جملة أخرى منها أنه يحكم
ببطلان التعليق فيما إذا كان المعلق عليه أمرا مجهولا، كما عرفته عن
المحقق والشهيد الثانيين، ولاستيضاح هذا الاختلاف وبيان حكم
التعليق قد تصدي المصنف لذكر أقسام التعليق، وحاصل كلامه:
أن المعلق عليه إما أن يكون معلوم الحصول أو محتمل الحصول،
وعلى كلا التقديرين فإما أن يكون ظرف الحصول هو الحال أو الاستقبال،
وعلى التقادير الأربعة فأما أن يكون الشرط - الذي يذكر في العقد تصريحا

1 - مفتاح الكرامة 7: 527.
2 - الخلاف 3: 354.
3 - الكفاية للسبزواري: 140.
4 - جامع المقاصد 8: 305.
329

أو تلويحا - مما لا تتوقف عليه صحة العقد، كالتعليق على الصفة التي
لا دخل لها في تحقق عنوان العقد وسيأتي.
وأما أن يكون الشرط مما تتوقف عليه صحة العقد كأن يكون المبيع
مما يصح تملكه شرعا، بأن لا يكون خمرا ولا خنزيرا، أو يكون مما
يصح اخراجه عن الملك بأن لا يكون وقفا ولا أم ولد، أو يكون المشتري
ممن يصح تملكه بأن لا يكون عبدا، أو يكون البائع أو المشتري ممن
يجوز معه العقد، بأن لا يكون صبيا ولا مجنونا ولا سفيها - وهو الذي
يصرف أمواله في المصارف اللاغية، وإذن فأقسام التعليق ثمانية - انتهى
ملخص كلام المصنف مع التوضيح الاجمالي.
والصحيح أن يقسم التعليق إلى اثني عشر قسما، بأن يقال:
إن المعلق عليه إما أن يكون معلوم التحقق أو يكون محتمل التحقق، و
على كلا التقديرين فإما أن يكون المعلق عليه أمرا حاليا أو أمرا استقباليا،
وعلى التقادير الأربعة فإما أن يكون الشرط - الذي علق عليه العقد -
دخيلا في مفهوم العقد، أو يكون دخيلا في صحته، أو لا يكون دخيلا
في شئ منهما - ويعبر عنه بالتعليق بالصفة.
حكم التعليق في العقود
أما التعليق على ما يتوقف عليه مفهوم العقد، فلا شبهة في صحته،
بأن يقول البائع: إن كان هذا مالي فقد بعته بكذا، ويقول المشتري: قبلت،
فإنه لا يتحقق مفهوم البيع إلا بكون المبيع ملكا للبائع، فهذا النحو من
التعليق أمر ضروري وغير مضر بصحة العقد، سواء أكان مذكورا فيه
صريحا أم لا، وعليه فلا شبهة في صحة التعليق في أربعة من تلك الأقسام
المذكورة:
330

1 - أن يكون المعلق عليه أمرا حاليا ومعلوم الحصول، كقول الزوج
لزوجته: إن كانت هذه زوجتي فهي طالق، ومن الواضح أن عنوان
الزوجية دخيل في صدور الطلاق من الزوج.
2 - أن يكون المعلق عليه أمرا استقباليا ومعلوم الحصول في ظرفه،
كما إذا قال البائع للمشتري: بعتك داري إن قبلت، مع علمه بأن المشتري
يقبله.
3 - أن يكون المعلق عليه أمرا حاليا مع الجهل بتحققه، كما إذا قال
رجل لامرأة: إن كانت هذه زوجتي فهي طالق، مع جهله بأنها زوجته.
4 - أن يكون المعلق عليه أمرا استقباليا ومجهول التحقق في ظرفه،
كما إذا قال أحد المتبائعين لصاحبه: بعتك هذا المتاع بكذا إن قبلت، مع
احتماله أن لا يقبله صاحبه.
ولا ريب في صحة التعليق في جميع هذه الصور الأربع، بديهة أن ذكر
الشرط في الصيغة بصورة التعليق وعدمه سيان، لأن التعليق في الكلام
لا يزيد على الواقع بشئ، ضرورة أن واقع العقد ومفهومه معلق على
الأمور المذكورة، بحيث لولاها لم يتحقق في الخارج مفهوم العقد أو
الايقاع أصلا و رأسا.
أما التعليق على ما يكون دخيلا في صحة العقد دون مفهومه، فهو
أيضا على أربعة أقسام:
1 - أن يكون المعلق عليه معلوم الحصول في الحال، كقول البائع: إن
كان هذا الشئ مما يملك فقد بعته بكذا درهما، مع علم البائع بكون ذلك
الشئ مما يملك.
2 - أن يكون المعلق عليه معلوم التحقق في المستقبل، كالتسليم
والتسلم في بيع الصرف والسلم، كقول البائع للمشتري: بعتك هذه
331

الشذرة من الذهب بكذا درهما إن أخذتها وسلمت إلي الثمن.
3 - أن يكون المعلق عليه حاليا ومجهول التحقق، كالبلوغ والعقل
وعدم الفلس.
4 - أن يكون المعلق عليه استقباليا ومجهول التحقق.
ولا ريب في أن هذه الأقسام الأربعة من أقسام التعليق لا توجب بطلان
العقد أيضا، لأن صحة العقد واقعا متوقفة على الجهات المزبورة، وإذن
فذكر المعلق عليه - في تلك الأقسام - وحذفه سيان.
وعلى الجملة أنه لا شبهة في صحة العقد الذي كان معلقا على ما
تتوقف عليه صحته، بل هذا هو المتعارف بين الناس كثيرا، ولا سيما
فيما إذا كان المعلق عليه مشكوك الحصول، لأن ذلك العقد مشمول
للعمومات ولم يدل دليل على بطلان التعليق - هنا - لكي يكون ذلك
الدليل مخصصا لتلك العمومات.
وهذا هو الحجر الأساسي والركن الوثيق في صحة التعليق في الموارد
المزبورة، لا ما ذكره الشيخ في المبسوط، من أن المنشئ لم يشترط إلا
ما يقتضيه اطلاق العقد فإذا اقتضاه الاطلاق لم يضر إظهاره بصورة الشرط
كما لو شرط كل من المتبائعين على صاحبه تسليم الثمن أو المثمن أو ما
أشبه ذلك، لأن ما أفاده وإن كان لا بأس به في نفسه ولكنه لا يدفع
محذور التعليق - لو كان فيه محذور.
ومن هنا أورد عليه المصنف وقال نصا: إن المعلق على ذلك الشرط
في الواقع هو ترتب الأثر الشرعي على العقد دون انشاء مدلول الكلام -
الذي هو وظيفة المتكلم - فالمعلق في كلام المتكلم غير معلق في الواقع
على شئ والمعلق على شئ ليس معلقا في كلام المتكلم على شئ بل
ولا منجزا بل هو شئ خارج عن مدلول الكلام.
332

أما التعليق على الصفة - التي لا دخل لها في تحقق عنوان العقد ولا في
صحته - فهو أيضا على أربعة أقسام:
1 - أن يكون المعلق عليه معلوم الحصول فعلا، كأن يقول البائع
للمشتري: إن كان هذا اليوم يوم الجمعة فقد بعتك داري، مع علمه بأن
هذا اليوم يوم الجمعة، وهذا لا شبهة في صحته، ولا نظن أن يتفوه أحد
بفساد البيع في هذه الصورة من ناحية التعليق، فإن المضر بالعقد إنما هو
واقع التعليق لا التعليق الصوري، وما نحن فيه من القبيل الثاني دون
الأول.
2 - أن يكون المعلق عليه معلوم الحصول في المستقبل، وهو على
قسمين، لأن ايقاف البيع عليه قد يكون من قبيل الاشتراط، بمعنى أن البائع
ينشئ المبادلة في ظرف تحقق ذلك الأمر المتأخر، بأن يقول: بعتك
داري إذا دخل شهر رمضان، ويريد من ذلك تحقق البيع من حين دخول
شهر رمضان لا من الآن، وقد يكون من قبيل التعليق لا الاشتراط - نظير
الواجب المعلق - كما إذا علق البائع بيعه من الآن على تحقق ذلك الأمر
المتأخر في ظرفه.
أما الأول فهو مشمول للاجماع القائم على بطلان التعليق في العقود و
الايقاعات.
أما الثاني فهو لا يزيد على الواقع بشئ، للعلم بتحقق المعلق عليه في
ظرفه، ففي الحقيقة ليس هنا تعليق في الكلام - وإن كانت الصورة صورة
التعليق - وإذن فيكون ذلك خارجا عن حدود الاجماع القائم على بطلان
التعليق.
3 - أن يكون المعلق عليه محتمل التحقق في الحال، بأن يقول أحد
لغيره: إن كان هذا اليوم يوم الجمعة فقد بعتك فرسي، حيث إن البائع قد
333

علق بيع فرسه على كون هذا اليوم يوم الجمعة.
4 - أن يكون المعلق عليه محتمل الحصول في المستقبل، ولا يخفى
عليك أن هذين القسمين أيضا باطلان لدخولهما في معقد الاجماع
المزبور.
والمتحصل مما بيناه هو أن الاجماع الذي ادعاه الفقهاء على بطلان
التعليق إنما هو في الأقسام الثلاثة الأخيرة، أما العقود المشتملة على غير
هذه الأقسام فلا مجال لتوهم تحقق الاجماع فيها على البطلان فهي
مشمولة للعمومات الدالة على صحة العقود ولزومها.
وإذن فلا بد من البحث - هنا - في هذه الأقسام الثلاثة وملاحظة ما
استدل به على بطلان العقود مع التعليق فيها من اجماع أو غيره، فإن كان
في تلك الأدلة ما يصلح لتخصيص العمومات المزبورة أخذ به وإلا فهي
محكمة في المقام.
ما استدل به على بطلان التعليق في العقود
قد استدل الفقهاء على بطلان التعليق في العقود بوجوه شتى:
الوجه الأول: دعوى الاجماع على ذلك، حيث ادعاه غير واحد من
الفقهاء، وقد عرفت كلماتهم قريبا.
ويتوجه عليه: أن الاجماع إنما يكون حجة مع القطع بكونه مستندا إلى
رأي الإمام (عليه السلام)، ومن المحتمل القريب أن المجمعين قد استندوا في
دعواهم الاجماع - هنا - إلى الوجوه الاعتبارية التي استدل بها الفقهاء
على بطلان التعليق (1).

1 - خصوصا مع اختلاف مورد كلماتهم، فإن ظاهر الشهيد في القواعد والعلامة هو أن التنجيز شرط في صحة العقد وإلا فيفسد، معللا بعدم الجزم في الانشاء، فإذا فرض ثبوته مع
التعليق أيضا كالتعليق على ما يتوقف عليه حقيقة العقد، مثل الزوجة في الطلاق والقبول في
البيع كان صحيحا، بل التعليق على أمر معلوم الحصول لا ينافي كما عرفت، ويظهر من جملة
منهم أن التعليق في الكلام مانع عن الصحة تعبدا وإن لم يكن منافيا مع الجزم في الانشاء كما
في المثالين المزبورين، ومع هذا الاختلاف كيف يمكن التعويل على الاجماع - المحاضرات
2: 137.
334

الوجه الثاني: إن التعليق في العقود أمر غير معقول، وعندئذ لا يوجد
عقد تعليقي - في الخارج - لكي يبحث عن صحته وفساده، فلا بد من
ايجاده منجزا.
ويتوجه عليه: أن المستحيل إنما هو التعليق في الانشاء، بديهة أن
الانشاء - بأي معنى كان - قد فرض وجوده في الخارج، وعليه فلا يعقل
تعليقه على شئ ما، لأن ما وجد في الخارج يمتنع عدمه فكيف يمكن أن
يكون موجودا على تقدير ومعدوما على تقدير آخر.
وعلى الجملة أن الانشاء أمر لا يقبل التعليق، بل هو أما أن يوجد وأما
أن لا يوجد، ولكن هذا خارج عن مركز بحثنا، لأن كلامنا ليس في التعليق
في الانشاء.
أما التعليق في المنشأ - الذي هو محل البحث في المقام - فلا شبهة في
امكانه، بل إن وقوعه في الأحكام العرفية والشرعية فوق حد الاحصاء،
ضرورة أن الأحكام الشرعية والقوانين العرفية أكثرها من قبيل القضايا
الحقيقية ومن سنخ الأحكام التي هي مشروطة بوجود موضوعها، وقد
وقع ذلك في العقود والايقاعات على نحو الايجاب الجزئي، كالوصية
والتدبير والنذر والعهد واليمين.
والحاصل أن امكان تقييد المنشأ وتعليقه بشئ ووقوع ذلك من
335

البديهيات، وإنما الكلام في صحة العقد أو الايقاع فيما إذا كان المنشأ
فيه مقيدا.
الوجه الثالث: أن الظاهر من آية وجوب الوفاء بالعقد - كسائر
الخطابات الوضعية والتكليفية - أن الحكم بوجوب الوفاء يترتب على
تحقق موضوعه خارجا ولا ينفك عنه زمانا، وهذا يقتضي وجوب الوفاء
بكل عقد فعلي لا تعليق فيه إذ لا يتصور الوفاء فعلا بالعقود التعليقية،
وعليه فيكون ذلك خارجا عن حدود مدلول الآية، والمفروض أنه ليس
هنا خطاب آخر يقتضي وجوب الوفاء بالعقود التعليقية فتكون باطلة (1).
وقد أجاب المصنف عن ذلك بوجوه عديدة:
1 - أن ما دل على صحة العقود ولزومها غير منحصر بآية وجوب
الوفاء بالعقد، بل تدل على ذلك أيضا آية حلية البيع ودليل السلطنة -
انتهى حاصل كلامه.
ويرد عليه:
أولا: أن آية حلية البيع مختصة بالبيع فيبقي غيره - من العقود التعليقية
- خاليا عن دليل الصحة، أما دليل السلطنة فهو ضعيف السند وغير
منجبر بشئ، على أنه لا يجري في مثل النكاح.
ثانيا: أن ما ادعاه المستدل - من ظهور آية وجوب الوفاء بالعقد في
ترتب الأثر من حين تحقق العقد - يجري في آية حل البيع ودليل السلطنة
أيضا، فهما يدلان على ترتب الملكية من حين تحقق البيع أو عقد آخر،
ولا يدلان على صحة البيع أو غيره من العقود المعلقة.
2 - أن المراد من العقد هو العهد المطلق أو العهد المشدد، وعليه
فوجوب الوفاء بالعقد تابع لكيفيته، فإن كان العقد منجزا وجب الوفاء به

1 - قاله صاحب الجواهر في جواهره 23: 198.
336

منجزا، وإن كان معلقا لم يجب الوفاء به إلا بعد حصول المعلق عليه، كما
هو الشأن في وجوب الوفاء بالنذر والعهد وغيرهما.
والسر في ذلك أن أدلة وجوب الوفاء بالعقد أو النذر ناظرة إلى وجوب
الوفاء بهما بأي نحو تحقق في الخارج، سواء فيه المنجز والمعلق.
وعلى الجملة، أن الامضاء الشرعي للعقد تابع لجعل المتعاقدين، فإذا
كان البيع - مثلا - مطلقا فأثره الشرعي الملكية المنجزة غير المشروطة
بشئ، فإذا كان معلقا فأثره الشرعي الملكية المعلقة، وهذا واضح
لا ستار عليه - انتهى ملخص ما أفاده، وهذا الوجه متين جدا.
3 - أنه قد وقع في الشريعة المقدسة تخلف الأثر عن العقد في موارد
شتى، كبيع الصرف والسلم والوصية والمعاملات المعاطاتية، بناء على
أفادتها الإباحة مع قصد الملكية، فلتكن العقود المعلقة من تلكم
المذكورات، وعندئذ لا يفسد العقد من تأخير ترتب الأثر عليه وإلا لزم
القول بفساد المعاملات المزبورة - انتهى حاصل كلامه.
ويرد عليه أنه لا وجه لقياس ما نحن فيه بتلك العقود، لأن صحتها من
ناحية الدليل الخاص فلا مورد للنقض.
4 - إن الدليل المذكور أخص من المدعي، لأنه إنما يلزم تخلف الأثر
عن العقد فيما إذا كان التعليق على أمر خارجي غير دخيل في تحقق
العقد، كقولك: بعتك كتابي هذا بدينار إن قدم الحاج، أما إذا كان التعليق
على أمر حالي كقولك: بعتك هذا الكتاب بدرهم إن قبلت، فإنه حينئذ
لا يلزم تخلف الأثر عن العقد - انتهى حاصل ما أفاده.
وهذا الوجه أيضا متين على تقدير أن يلتزم القائل - بابطال التعليق -
بالبطلان في مثل ذلك أيضا، ولكنك قد عرفت أن مثل هذا التعليق خارج
عن محل الكلام، وعليه فلا يتوجه ما أفاده المصنف (رحمه الله).
337

5 - إن الدليل المذكور أيضا أخص من المدعي، من جهة أنه لا يجري
في التعليق على الشرط الذي يشك في تحققه في الحال، فإن تحقق العقد
عندئذ يكون مراعي بالعلم بظهور الواقع، وعليه فإن انكشف وجود
المعلق عليه في الواقع فيحكم بصحة العقد من حين تحققه وإلا فيحكم
بفساده من غير أن يكون العقد موقوفا على الشرط لكي يلزم منه تخلف
الأثر عن العقد - انتهى الملخص من كلامه، وهذا الوجه أيضا لا بأس به.
6 - إن ذلك الدليل لا يجري في غير البيع من العقود - التي يتأخر
مقتضاها عنها بحسب طبعها - كالوصية والتدبير والسبق والرماية
والجعالة، ومن البين أن مورد البحث - هنا - لا ينحصر بالبيع، ولا أن دليل
وجوب الوفاء بالشرط في كل عقد دليل مستقل لكي يلتزم في بعضه
بجواز التعليق وفي بعضها الآخر بعدم جوازه - انتهى الحاصل من كلامه.
وهذا الوجه أيضا لا بأس به.
الوجه الرابع: إن أسباب العقود والايقاعات أمور توقيفية فلا بد وأن
يقتصر فيها بالمقدار المتيقن، وهو السبب الخالي عن التعليق.
ويتوجه عليه أنه لا وجه لأخذ القدر المتيقن في أمثال الموارد، بديهة
أن العمومات والمطلقات إنما تدل على صحة كل ما صدق عليه عنوان
العقد، نعم لو كان الدليل على صحة العقود هو الاجماع أو السيرة لكان
للتوهم المزبور وجه وجيه.
الوجه الخامس ما ذكره شيخنا الأستاذ، من أن العمومات الدالة على
صحة العقود منصرفة عن العقد المعلق إلى العقد المنجز، بديهة أن
التعليق ليس مما جري عليه أهل العرف والعادة في عهودهم المتعارفة
وعقودهم المرسومة بين عامة الناس - وإن مست الحاجة إليه أحيانا في
العهود الواقعة بين الدول والملوك - وعليه فلا تكون العهود المعلقة
338

مشمولة لأدلة صحة العقود للشك في صدق عنوان العقد عليها عرفا (1).
والجواب عن ذلك أن هذا الوجه ممنوع كبرى وصغرى.
أما الوجه في منع الكبرى، فلأن الانصراف لو صح - فإنما يتم في
المطلقات بدعوى أن ثبوت الاطلاق فيها إنما هو بمقدمات الحكمة، فإذا
لم يكن بعض أفراد المطلق متعارفا في الخارج ومتساوي الأقدام مع بقية
الأفراد كان ذلك قادحا في انعقاد الاطلاق للمطلق، بديهة أن عدم تساوي
الأفراد شئ يصلح للقرينية على عدم إرادة الاطلاق.
وإذن فلا يصح التمسك به في أمثال ذلك، إلا أن هذه الدعوى
لا تجري في العمومات الدالة على صحة كل عقد، لأن التمسك بها غير
مشروط بوجود مقدمات الحكمة، إذ العموم فيها إنما هو بحسب الوضع -
على ما حقق في محله - وعليه فلا مانع من كون العقود المعلقة مشمولة
لتلك العمومات.
أما الوجه في منع الصغرى، فلأنا لو سلمنا وجود الانصراف ولكن
لا نسلم كون العقود المعلقة من العقود غير المتعارفة، ضرورة أنها واقعة
في العرف كثيرا كتعليق البيع على إجازة الأب أو الصديق أو الجار أو
غير ذلك، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا قريبا.
ونتيجة البحث أنه لا دليل على بطلان العقود بالتعليق لكي يكون ذلك
الدليل مخصصا لأدلة صحة العقود، وعليه فالعمدة في المقام هو
الاجماع فإن تم فهو وإلا فالمرجع هو العمومات والاطلاقات، وقد
عرفت عدم تمامية الاجماع في المقام، ومن هنا جزم المحقق القمي
بصحة الوكالة المعلقة، وحكي التأمل في بطلانها عن المحقق الأردبيلي
والكفاية على ما عرفته في طليعة البحث.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 293.
339

7 - التطابق بين الايجاب والقبول
قوله (رحمه الله): ومن جملة شروط العقد التطابق بين الايجاب والقبول.
أقول: التطابق بين الايجاب والقبول يتصور على أنحاء:
1 - أن يكون ذلك من ناحية عنوان المعاملة، بأن يقول أحد المتعاملين
لصاحبه: بعتك داري بكذا، ويقول صاحبه: قبلت البيع بكذا، فلو قال:
قبلت الهبة بكذا، لبطل العقد، بديهة أن العقد أمر وحداني مركب من
الايجاب والقبول.
فإذا أنشأ أحد المتعاملين البيع وقبل الآخر الهبة لم يرتبط كلام
أحدهما بالآخر فلا تتحقق بينهما معاقدة ومعاهدة، بل يكون عهد كل
منهما بعيدا عن عهد الآخر، ضرورة أن ما أنشأه الموجب لم يقبله القابل
وما قبله القابل لم ينشأه الموجب.
ومن هنا قال شيخنا الأستاذ (1): إن اعتبار التطابق بين الايجاب والقبول
من القضايا التي قياساتها معها.
2 - التطابق بين الايجاب والقبول من ناحية المبيع، بأن يقول أحد
المتبائعين لصاحبه: بعتك عبدي بكذا، ويقول الآخر: قبلت هكذا، ولو
قال: قبلت بيع الجارية بكذا، لبطل العقد، لما عرفته قريبا من أنه مع
الاختلاف - بين الايجاب والقبول - لا يرتبط عهد أحدهما بعهد الآخر
لكي يتحقق هنا عقد مركب من الايجاب والقبول.
3 - التطابق بين الايجاب والقبول من ناحية البائع والمشتري، فلو قال
زيد لعمرو: بعتك داري بكذا، ويقول عمرو: قبلت البيع لخالد، أو يقول
خالد: قبلت البيع لنفسي بكذا، لبطل العقد، لعدم ورود الايجاب

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 293.
340

والقبول على مورد واحد كما عرفته في القسمين السابقين.
وقد يتوهم أن اعتبار التطابق بين الايجاب والقبول في الصورة الثالثة
ينافي لما أسلفناه في تعريف البيع، من أنه تبديل عين بعوض في جهة
الإضافة، ضرورة أن مقتضى هذا التعريف هو أن لا يلاحظ البائع
الخاص، ولا أن يلاحظ المشتري المعين في تحقق مفهوم البيع، بل
مقتضى التعريف المزبور أن لا يلاحظ في ذلك كون البائع مالكا للمبيع
وكون المشتري مالكا للثمن.
ومن هنا نحكم بصحة المعاملة الفضولية، ولا يقاس البيع - في ذلك -
بالنكاح، إذ لا بد في النكاح من التطابق بين الايجاب والقبول بالنسبة إلى
الزوجين، فإن منزلتهما في عقد الزواج منزلة العوضين في البيع، وقد
عرفت اعتبار التطابق فيه بين الايجاب والقبول من ناحية العوضين.
ولكن هذا التوهم فاسد، ضرورة أن التعريف المذكور إنما يقتضي
عدم اعتبار التطابق بين الايجاب والقبول بالنسبة إلى البائع الخاص
والمشتري الخاص فيما إذا كان العوضان من الأعيان الخارجية، أما إذا
كان أحدهما كليا في الذمة فإنه عندئذ لا بد من اعتبار التطابق بين الايجاب
والقبول من ناحية البائع والمشتري.
ضرورة أن ذمم الأشخاص مختلفة بحسب قوة الوثاقة وضعفها، إذ
رب شخص لا يعتمد عليه في الأمور الحقيرة ورب شخص تطمئن إليه
النفس في الأمور الخطيرة.
وعليه فإذا باع زيد متاعه من عمر بخمسين دينارا في الذمة، فإنه ليس
لعمرو أن يقبل هذا البيع لغيره ولا لغيره أن يقبله لنفسه، ضرورة أن ذمة
عمرو غير ذمم بقية الأشخاص فالارتضاء بالأولى لا يستلزم الارتضاء
ببقية الذمم.
341

وإذن فالاخلال بالتطابق في الصورة الثالثة أيضا موجب للبطلان، ففي
الحقيقة يرجع اعتبار التطابق في هذه الصورة إلى اعتبار التطابق في
الصورة الثانية.
4 - التطابق بين الايجاب والقبول من ناحية الشروط المذكورة في
العقد، فإذا خالف الايجاب القبول في ذلك قيل بصحة العقد حينئذ
وثبوت الخيار للمشروط له، نظرا إلى أن الشرط لا يرتبط بالعقد وإنما هو
التزام في التزام آخر، إلا أن الصحيح بطلان العقد مع عدم التطابق في هذه
الصورة أيضا.
والوجه في ذلك ما نذكره في مبحث الشروط، من أن مرجع اعتبار
الشرط في العقد إما إلى تعليق العقد على التزام المشروط عليه بشئ أو
إلى تعليق لزومه على شئ أو تعليقهما معا، أما الأول فكاشتراط شرط
في عقد الزواج، أما الثاني فكاشتراط الكتابة في العبد المبيع، أما الثالث
فكاشتراط عمل في البيع ونحوه، ونذكر في المبحث المذكور أن تعليق
اللزوم يرجع إلى جعل الخيار، وجعل الخيار إنما يرجع إلى تحديد
المنشأ، وفي جميع ذلك يكون عدم التطابق موجبا للبطلان.
5 - التطابق بين الايجاب والقبول في أجزاء المبيع والثمن (1)، وعليه

1 - أما من حيث الأجزاء، فتارة يكون الاختلاف في العوضين، كما إذا قال البايع: بعتك
الدار بمائة درهم، وقال المشتري: قبلت نصفها بخمسين، وأخرى في المشتري، كما إذا خاطب
البايع شخصين وقال: بعتكما الدار بمائة، فقال أحدهما: اشتريت نصفها بخمسين.
أما الفرض الأول فالظاهر فيه الصحة وعدم اعتبار التطابق، وذلك لانحلال البيع إلى بيع كل
جزء من المبيع بما يقابله بنسبته من الثمن، ولذا قلنا في بيع ما يملك وما لا يملك، كالشاة و
الخنزير بالصحة فيما يملك بنسبته من الثمن، وفي بيع ملكه وملك غيره بنفوذه في ملكه
وتوقفه على الإجازة في ملك غيره، ففي المثال بيع كل ربع من الدار بربع من الثمن وهكذا.
وعليه، فإذا قبل المشتري البيع في بعض المبيع بما يقابله من الثمن يصح ذلك، غاية الأمر
انتفي وصف الانضمام المشروط ضمنا، فيدخل من هذه الجهة في الاختلاف من حيث الشرط.
وأما الفرض الثاني، فظهر صحته بما بيناه، فإن بيع الدار الواحدة من شخصين ينحل إلى بيع
نصفه لأحدهما، إذ لا يمكن بيع تمامها من شخصين مستقلا، فإذا قبل أحدهما صح بالنسبة إليه،
غايته يلزم تخلف شرط الانضمام فيدخل فيما تقدم.
وليعلم أن مورد الخلاف بيننا وبين المصنف قدس سره في الفرضين إنما هو فيما إذا أنشأ بيع
المجموع أو إلى الشخصين بانشاء واحد، وأما إذا كان بانشاءين فلا اشكال ولا خلاف في
الصحة فيهما - المحاضرات 2: 140.
342

فلو قال البائع: بعتك داري بخمسين دينارا، وقال المشتري: قبلت البيع
في نصف المبيع بخمسة وعشرين دينارا، فقد حكم شيخنا الأستاذ
ببطلان البيع في هذه الصورة أيضا، وإليك نص مقرر بحثه:
ومما ذكرنا ظهر أنه لا بد من اتحاد المنشأ حتى بالنسبة إلى التوابع
والشروط، فلو أنشأ أحدهما مع شرط وقبل الآخر بلا شرط، أو باع
البائع عبدين وقبل المشتري أحدهما، وغير ذلك مما هو نظير ما ذكرناه
لم يصح أيضا لعدم ارتباط كلام أحدهما بالآخر (1).
أقول: إن مرجع بيع الدار بخمسين دينارا إلى بيع كل نصف منها
بخمسة وعشرين دينارا مع اشتراط كل منهما بوجود الآخر، فإذا قبل
المشتري أحدهما دون الآخر رجع ذلك إلى عدم المطابقة من جهة
الشرط وقد مر حكمه.
8 - أهلية المتعاقدين معا حين العقد
قوله (رحمه الله): ومن جملة الشروط في العقد أن يقع كل من ايجابه وقبوله في حال
يجوز لكل واحد منهما الانشاء.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 291.
343

أقول: قد اعتبر المصنف - في صحة العقد - وقوع كل من الايجاب
والقبول في حال يجوز لكل من المتبائعين الانشاء في تلك الحال، وعليه
فلو كان المشتري في حال ايجاب البائع غير قابل للقبول، أو خرج البائع
- حال قبول المشتري - عن قابلية الايجاب لم ينعقد العقد بينهما، لأنه
عندئذ لا يرتبط عهد أحدهما بعهد الآخر، فلا تتحقق المعاهدة
والمعاقدة بينهما بوجه.
وقال شيخنا الأستاذ: إن هذا الشرط - كسابقه - من القضايا التي
قياساتها معها، بديهة أن العقد لا ينعقد إلا بفعل شخصين فإذا انتفي شرط
من شرائط العقد حين انشاء أحدهما بطل العقد، ولا أثر لوجود الشرط
قبل العقد أو بعده، وعلى هذا فلو نام المشتري حين انشاء البائع أو
بالعكس لم يصح العقد، ودعوى الصحة في العقود الجائزة دعوى
جزافية، لأن القول بالصحة إنما هو في العقود الإذنية فقط دون العقود
العهدية - انتهى ملخص كلامه (1).
ويتوجه عليه: أن العقد ليس من مقولة الأفعال، ولا من مقولة الألفاظ
الخارجية، ولا من الاعتبارات النفسية المحض بل هو عبارة عن ارتباط
التزام أحد المتعاقدين بالتزام الآخر واظهاره بمبرز خارجي ولا شبهة
في صدق عنوان العقد على هذا فيكون مشمولا للعمومات والمطلقات
ولم يدل دليل من الكتاب والسنة والاجماع والسيرة على كون كل من
المتعاقدين واجدا لشرائط الانشاء عند انشاء الآخر بل الدليل إنما هو
على اعتبار صدور الانشاء من الواجد لشرائط الانشاء دون الفاقد لها.
وقال الفقيه الطباطبائي عند قول المصنف: ومن جملة الشروط في
العقد أن يقع كل من ايجابه وقبوله في حال يجوز لكل منهما الانشاء، أنه:

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 293.
344

لا دليل على هذه الكلية وعدم صدق المعاقدة والمعاهدة إنما يتم
في بعض الفروض، كما لو كان المشتري في حال ايجاب البائع غير قابل
للتخاطب من جهة الاغماء أو النوم أو الجنون، وأما في بقية الصور
فنمنع عدم الصدق، خصوصا فيما إذا نام البائع بعد الايجاب مع علمه
بذلك وأن المشتري يقبل لا محالة، وكذا فيما إذا كان المانع هو الفلس أو
السرقة أو السفه (1).
ولكن التحقيق يقتضي الالتزام بالصحة إذا فقد المشتري شرائط صحة
الانشاء حال انشاء البائع، وبالفساد في عكسه، والوجه في ذلك أن
المناط في تحقق العقد إنما هو ارتباط التزام البائع بالتزام المشتري - وقد
عرفته سابقا - وعليه فإذا أنشأ البائع حال كون المشتري نائما - أو غافلا
أو مغمى عليه ثم التفت المشتري إلى هذا الانشاء فقبله قبل صدور
ناسخه من البائع - صدق عليه عنوان العقد جزما ويحكم بصحته
للعمومات والمطلقات الدالة على صحة العقود.
بل تدل على ذلك السيرة الواقعة بين التجار، لأن المتعارف فيما بينهم -
غالبا - أن يكتب بعضهم إلى بعض بيع متاعه الخاص بقيمة معينة ويقبله
المكتوب إليه، مع أنه ربما يكون - عند كتابة البائع - نائما أو غافلا أو
مجنونا ولا شبهة في صحة هذه المعاملة، أما إذا لم يبق البائع على
الشرائط حين قبول المشتري حكم بفساد العقد، إذ يرتفع التزام البائع
بانتفاء شرائط الانشاء عنه ولا يتصل التزامه بالتزام المشتري، إلا في مثل
النوم والغفلة فإنهما لا ينافيان بقاء التزام البائع للسيرة المزبورة، وهذا
واضح لا شك فيه.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 92.
345

بحث استطرادي في لحوق الرضاء بالبيع الاكراهي
قوله (رحمه الله): ثم إنهم صرحوا بجواز لحوق الرضاء لبيع المكره.
أقول: حاصل كلامه أن ما ذكرناه من اعتبار أن يكون كل من المتعاقدين
واجدا للشرائط عند تحقق الانشاء من الآخر يقتضي بطلان عقد المكره،
سواء ألحق به الرضاء من المكره - بالفتح - أم لا ولكن التزم الأصحاب
بصحة ذلك مع لحوق الرضاء به، ولعل هذا من جهة الاجماع القائم على
خلاف الأصل والقاعدة.
ويتوجه عليه: أن بيع المكره المتعقب بالرضاء - وإن خرج من للقاعدة
المزبورة، إلا أن خروجه عنها ليس من جهة الاجماع، بديهة أن الاجماع
لا يصحح صدق عنوان العقد على ما ليس بعقد عرفا، وإنما الوجه في
صحة بيع المكره - مع لحوق الرضاء به - هو أن الاختيار له معنيان:
1 - أن يستند الفعل الصادر من الفاعل إلى إرادته، ويقابله صدور الفعل
منه بلا اختيار وشعور كحركة المرتعش.
2 - أن يراد من الاختيار تسلط الفاعل على فعله، ويقابله كونه مجبورا
في فعله ومكرها عليه من ناحية شخص آخر.
أما الاختيار بالمعنى الأول، فلا شبهة في اعتباره في العقود، لأنا ذكرنا
مرارا أن حقيقتها - بل حقيقة جميع الأمور الانشائية - متقومة بالاعتبار
النفساني المظهر بمبرز خارجي، ومن الواضح جدا أنه إذا انتفى القصد
والالتفات من المتعاقدين انتفى منهما الاعتبار النفساني.
وإذن فيكون اللفظ الصادر منهما لفظا ساذجا وغير مظهر للاعتبار
النفساني، ومن البين الذي لا ريب فيه أن اللفظ الساذج بعيد عن مفهوم
العقد.
346

أما الاختيار بالمعنى الثاني، فلا دليل على اعتباره في حقيقة العقد،
ضرورة أن الإرادة والاختيار - بهذا المعنى - من الأمور النفسانية التي
لا تطلع عليها غير علام الغيوب، وعليه فلا يعقل أن تقع موردا للاجبار.
ومن هنا ذكر المصنف - في البحث عن جواز الكذب عند الضرورة - أن
المكره على انشاء العقود إنما أكره على التلفظ بصيغة البيع ولم يكره على
انشاء حقيقة البيع، فالاكراه على البيع الحقيقي يختص بغير القادر على
التورية، كما أن الاضطرار على الكذب مختص بالعاجز عنها.
وعليه فإذا كان شخص مكرها على البيع ولم يور - مع قدرته على
التورية - فقد أوجد البيع بإرادته واختياره - انتهى ملخص كلامه.
أما ما أجاب به المصنف عن ذلك في المبحث المذكور، فهو لا يرجع
إلى معنى محصل فراجع هناك.
وكيف كان، إن المكره على البيع - مثلا - إنما أكره على التكلم بكلمة
بعت من غير أن يجبر على قصد معناه، وحينئذ فإذا تكلم بذلك مع القصد
والالتفات إلى المعنى كان هذا بيعا حقيقة، لأن شأن الأمور الانشائية في
ذلك شأن الأفعال التكوينية، فكما أن المكره على ايجاد فعل تكويني في
الخارج لا يخلو عن القصد والإرادة - ولا يكون الفعل الصادر منه كالفعل
الصادر من النائم والساهي والمجنون وأمثالهم - كذلك الحال في الأفعال
الانشائية.
نعم صحة العقود والايقاعات تدور مدار صدورها من المنشئ في
حال الرضاء وطيب النفس للأدلة الدالة على ذلك، وإذا انتفي الرضاء
فسدت العقود والايقاعات ولم يترتب عليها أثر شرعي أصلا.
وعلى الاجمال أن اعتبار الرضاء في صحة العقود والايقاعات اعتبار
شرعي وليس ذلك من جهة دخله في مفهوم العقد وإلا لم يلتزم بعض
347

العامة بصحة عقد المكره (1)، ضرورة أن ما لا يصدق عليه مفهوم العقد
لا يعقل أن يكون عقدا صحيحا.
وعلى هذا الضوء فصحة بيع المكره مع لحوق الرضاء به ليست من
جهة الاجماع بل من جهة موافقته للقاعدة، حيث إنه لا يستفاد من دليل
اعتبار الرضاء إلا اعتباره على النحو الجامع بين المقارن واللاحق،
وسيأتي توضيح ذلك في البحث عن بيع المكره.
وهذا بخلاف المعاملات الصادرة من المجنون والغافل والمغمى
عليه وأشباههم، فإنه لا يمكن تصحيحها بلحوق رضاهم بها، إذ
لا يصدق عليها أي عنوان من عناوين المعاملات، ولا ينطبق عليها أي
مفهوم من مفاهيمها، بل لا يصح أن يطلق عليها أي اسم من أسماء العقود
والايقاعات إلا أن يكون الاطلاق بنحو من العناية والمجاز.
وأيضا يدلنا أمران على دخل الرضاء - بالمعنى الثاني - في صحة العقد
لا في مفهومه:
1 - أنه لو كان شخص مكرها على اجراء الصيغة لعقد خاص لحكم
بصحة ذلك العقد، ومن الظاهر أنه لو كان فعل المكره كفعل المجنون
وشبهه لحكم بفساده بل حكم بعدم صدق عنوان العقد عليه.
2 - أنه قد استدل الإمام (عليه السلام) - في صحيحة البزنطي - بحديث الرفع
على بطلان طلاق المكره وعتاقه وصدقته (2)، ومن البين الذي لا ريب فيه

1 - سنذكر ما ذهب إليه هذا البعض في البحث عن بيع المكره.
2 - عن البزنطي، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يستكره على اليمين
فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك، فقال: لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وضع
عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا، (المحسن للبرقي: 339، عنه الوسائل
23: 226)، صحيحة.
348

أنه لو لم تصدق عليها هذه العناوين لحكم الإمام (عليه السلام) بالبطلان من جهة
عدم تحقق العناوين المذكورة في الخارج، ولم يحكم بعدم صحتها من
جهة حديث الرفع، بديهة أن التعليل بالأمر الذاتي أولى من التعليل بالأمر
العرضي، وسيأتي تفصيل هذه المسألة في البحث عن بيع المكره إن شاء
الله تعالى.
بحث في اختلاف المتعاقدين في شروط العقد
قوله (رحمه الله): فرع: لو اختلف المتعاقدان - اجتهادا أو تقليدا - في شروط الصيغة.
أقول: إذا اختلف المتعاقدان في شروط الصيغة فهل يصح اكتفاء كل
منهما بما يقتضيه مذهبه، أم لا بد من أن يأتي كل منهما على طبق ما
يقتضيه مذهب كليهما، أم يعتبر في ذلك أن لا يكون العقد الصادر منهما
مما لا قائل بكونه سببا للنقل والانتقال، مثلا إذا فرضنا أنه لا قائل بجواز
تقديم القبول على الايجاب - مع القول بجواز انشاء العقد بالألفاظ
الفارسية - حكم بفساد العقد الفارسي إذا تقدم قبوله على ايجابه وفي غير
ذلك يحكم بالصحة.
ويتوجه على الوجه الأخير أن عدم وجدان القائل بالصحة لا يوجب
الجزم بالبطلان، إذ من المحتمل القريب أن يكون العقد الفارسي - الذي
تقدم فيه القبول على الايجاب - موافقا للواقع، وعليه فيكون اجتهاد كل
من المتعاقدين صحيحا في نفس الأمر (1).

1 - نظير هذه المسألة ما ذكره السيد (رحمه الله) في العروة في الاجتهاد والتقليد من أنه إذا كان
هناك مجتهدان متساويان، وكان أحدهما يري عدم وجوب السورة ولكنه لا يجتزي بمرة
واحدة في التسبيحات الأربعة، والآخر يري الاجتزاء بها ولكنه يري وجوب السورة مقتصرا
على المرة الواحدة في التسبيحات الأربعة ولنفرض انحصار المجتهد في العالم بها، فإن هذه
الصلاة لا قائل بصحتها حينئذ، ومع ذلك يجتزي بها لأن المقلد معتمد في كلا عمليه على حجة
شرعية وهو فتوى من يقلده، والمقام أيضا كذلك، فإن كلا من المتعاقدين معتمد على حجة
شرعية معتبرة كان هناك قائل بصحة المركب أو لم يكن، فهذا التفصيل أردأ الوجوه كما ذكر
المصنف قدس سره - المحاضرات 2: 143.
349

أما الوجهان الأولان فقد ذكر المصنف (رحمه الله) أنهما مبنيان على أن
الأحكام الظاهرية هل هي بمنزلة الأحكام الواقعية الاضطرارية لكي
تكون نسبة الأمارات القائمة عليها نسبة الأسباب إلى مسبباتها ونسبة
الموضوعات إلى أحكامها، أم هي أحكام عذرية بمعنى أن العامل بها
يكون معذورا في عمله لا أنها أحكام حقيقية قبال الأحكام الواقعية، غاية
الأمر يكون العامل بها معذورا في عمله قبل كشف الخلاف.
وعلى الأول، فالمؤثر عند أحدهما مؤثر عند صاحبه أيضا، ولو كان
أحدهما مخالفا للآخر.
وعلى الثاني فلا يترتب عليه أثرا أصلا ورأسا، لأن المنشئ وإن
رأى ترتب الأثر على انشائه إلا أن صاحبه يراه مخطئا في اجتهاده ولاغيا
في انشائه، وحينئذ فلا يترتب عليه الأثر في نظره.
هذا كله فيما إذا كان بطلان العقد عند كل من المتعاقدين المتخالفين
مستندا إلى فعل الآخر كالعربية والصراحة والماضوية والترتيب، أما
الموالاة والتنجيز وبقاء المتعاقدين على صفات صحة الانشاء إلى آخر
العقد، فالظاهر أن اختلافهما في ذلك يوجب فساد العقد، ضرورة أن
فساد القعد من ناحية الأمور المذكورة يسري من أحد الجانبين إلى
الجانب الآخر.
350

وذلك من جهة أن قبول الانشاء التعليقي تعليقي، وأن القبول المنفصل
عن الايجاب بزمان - عند من لا يعتبر التوالي - يوجب الانفصال بينهما
عند من يعتبر ذلك، وأن قبول الايجاب الصادر ممن ليست له أهلية
الانشاء يكون معاملة مع شخص خارج عن أهلية الانشاء.
وعلى الاجمال أن فساد أحد جزئي العقد وإن كان لا يسري إلى الجزء
الآخر، إلا أن منشأ الفساد ربما يسري من جزء إلى آخر، وهذا واضح
لا خفاء فيه - انتهى ملخص كلامه.
ويرد عليه:
أولا: أنه لا وجه لجعل الترتيب مثل الماضوية والعربية والصراحة،
بل هي مثل الموالاة والتنجيز، بديهة أن التقدم والتأخر من الأمور
المتضائفة فإذا تقدم القبول على الايجاب فقد تأخر الايجاب عن القبول.
ثانيا: أن الأحكام الظاهرية الاجتهادية ليست بمنزلة الأحكام الواقعية
الاضطرارية وإلا لزم التصويب، وهذا ظاهر.
ثالثا: أن الاختلاف في طريقية الأمارات أو موضوعيتها إنما هو
بالنسبة إلى من قامت عنده الأمارة، فإنه على القول بالطريقية لا يجوز
الاجتزاء بما أتاه المكلف بعد انكشاف الخلاف، وعلى القول
بالموضوعية يلتزم بالاجزاء، وقد تقرر هذا في مبحث الاجزاء من علم
الأصول.
أما بالنسبة إلى غير من قامت عنده الأمارة فالاكتفاء بمفادها يحتاج إلى
دليل ليدل على أن الحكم الظاهري في حق كل أحد حكم واقعي نافذ في
حق غيره، بأن يقال: إن من كانت صلاته صحيحة ظاهرا - عند نفسه
فللآخر أن يرتب عليها آثار الصحة الواقعية فيجوز الاتمام به.
ولكن لا دليل على هذه الكبرى الكلية إلا في جملة من الموارد:
351

منها: ما إذا أسلم الزوجان أو زوج الكتابية حكم ببقاء النكاح السابق
للأخبار الكثيرة.
ومنها ما إذا اعتقد أحد بصحة العقد الفارسي وتزوج امرأة به لم يجز
لغيره أن يتزوج بهذه المرأة ما دامت في حبال الزوج الأول، للسيرة
القطعية المتصلة بزمان المعصومين (عليهم السلام).
ومنها: غير ذلك من الموارد التي دل الدليل على أن فعل العامل
بالحكم الظاهري موضوع للحكم بالنسبة إلى غيره.
ومن هنا لم يناقش أحد من الفقهاء - الملتزمين باعتبار العربية في
الصيغة في نكاح الأشخاص القائلين بجواز الانشاء بغير اللغات العربية،
وكذلك لم يناقش القائل باعتبار الماضوية فيها في نكاح القائل بجواز
الانشاء بغير الماضي، وهكذا في سائر شرائط العقد التي هي مورد
لاختلاف الفقهاء (قدس سرهم).
المتحصل من جميع ما ذكرناه هو أن مجرد كون مفاد الأمارة حكما
حقيقيا في حق الموجب أو القابل لا يجدي شيئا في المقام، بل لا بد
وأن يكون ذلك حكما حقيقيا في حق غيره أيضا، لأنه أحد طرفي العقد.
وقد ناقش في ذلك بعض مشائخنا المحققين (1)، وملخص كلامه هو:
أن الأمارة إذا قامت على حكم تكليفي فأقصى ما هناك هو تبدل الواقع
بالنسبة إلى من قامت الأمارة عنده على الخلاف دون غيره.
وعليه فيمكن أن يكون الشئ حلالا بالإضافة إلى أحد وحراما
بالإضافة إلى شخص آخر، مثلا إذا قامت الأمارة على حلية العصير
التمري بالغليان عند أحد لم يوجب هذا إلا الحلية الواقعية بالإضافة إلى

1 - حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني: 74.
352

من قامت عنده الأمارة على الحلية دون غيره ممن لم تقم الأمارة عنده،
وإذن فليس لغيره ترتيب أثر الحلية إذا كان من في يده العصير يرى
حليته.
وهذا بخلاف الأحكام الوضعية فإنها إذا تحققت في حق أحد - ولو من
جهة قيام الأمارة عنده - تحققت في حق الجميع، فإذا اشترى من يرى
جواز العقد بغير العربي شيئا بالعقد الفارسي حكمنا بكونه ملكا له واقعا،
بناءا على القول بالسببية والموضوعية، ومع تحقق الملكية واقعا في
اعتبار الشارع - كما هو المفروض - جاز لكل أحد ترتيب الأثر على تلك
الملكية، وحينئذ فيكون اجتهاد أحد نافذا في حق غيره أيضا، ومن هنا
لا يكون - في هذه الموارد - كشف خلاف أصلا بل بتبدل الرأي يتبدل
الموضوع لا محالة.
وقد اتضح مما بيناه الفارق بين المقام وبين ما إذا قامت الأمارة على
وجوب صلاة الجمعة - مثلا - فإن قيام الأمارة وإن كان يوجب - على
الفرض - أن تكون صلاة الجمعة واجدة للمصلحة الالزامية إلا أنه
لا يقتضي أن تكون المصلحة الموجودة فيها بدلا عن المصلحة الواقعية،
وعلى هذا فإذا انكشف الخلاف علم منه أن المصلحة الواقعية باقية على
حالها فيجب تحصيلها، وليست في باب المعاملات مصلحة لازمة
التحصيل لكي يجري فيها هذا البيان - انتهى ملخص كلامه.
أقول: هذا الذي أفاده المحقق المزبور وإن كان متينا بناءا على
السببية، إلا أنا ذكرنا في مبحث الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام
الواقعية من علم الأصول أن الالتزام بالموضوعية والسببية حتى السببية
السلوكية - التي اخترعها المصنف في رسائله - مستلزم للتصويب.
وإذن فلا يمكن الالتزام بذلك، فلا مناص وقتئذ عن القول بالطريقية
353

المحض في جعل الأمارات، ولازم ذلك هو عدم جواز اكتفاء أحد
المتعاقدين بما يراه الآخر صحيحا، فيحكم بالصحة من جانب وبالفساد
من جانب آخر.
وقد يقال: إن العقد فعل واحد تشريكي يحصل من الايجاب
والقبول، وعليه فلا بد وأن يكون صحيحا في مذهب كل منهما لكي
يمكن ترتب الأثر عليه، فلا يجوز الاكتفاء بالعقد الفارسي لمن يرى
بطلانه.
وقد يقال أيضا: إن العقد مركب من الايجاب والقبول فلا يتحقق
مفهومه إلا بهما، وحينئذ فإذا صح من طرف الموجب صح من طرف
القابل أيضا، إذ لا يعقل وقوعه صحيحا من جانب وفاسدا من جانب
آخر.
ولكن التحقيق هو ما ذكرناه - من الحكم بالصحة من جانب وبالفساد من
جانب آخر - ضرورة أن العقد وإن كان متقوما بالايجاب والقبول إلا أن
ذلك لا يقتضي إلا التلازم - في الصحة أو الفساد - بحسب الحكم الواقعي،
لأنه لا يمكن في الواقع أن ينتقل المبيع إلى المشتري ولا ينتقل الثمن إلى
البائع.
أما بالنسبة إلى الحكم الظاهري فلا مانع من الالتزام بالتفكيك، بأن
يعمل كل من الموجب والقابل بما تقتضيه وظيفته الظاهرية، مثلا إذا كان
البائع مقلدا لمن يقول بصحة العقد بالفارسي وكان المشتري مقلدا لمن
يقول ببطلان ذلك، جاز للبائع أن يتصرف في الثمن لأنه يراه ملكا لنفسه،
ولا يجوز له أن يتصرف في المبيع لأنه خارج عن ملكه في نظره، أما
المشتري فلا يجوز له التصرف في المبيع لأنه لا يراه ملكا لنفسه بل يراه
ملكا لمالكه الأول.
354

ولا عجب في ذلك، لأن التفكيك في الأحكام الظاهرية مما
لا يحصي، فإن الماء القليل ينفعل بالنجاسة عند بعض ولا ينفعل بها عند
بعض آخر، وماء البئر ينفعل بملاقاة النجس عند قوم ولا ينفعل بها عند
قوم آخرين، والغسالة محكومة بالنجاسة عند فقيه وبالطهارة عند فقيه
آخر، وإلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي وقع فيها التفكيك في
الأحكام الظاهرية.
355

أحكام المقبوض بالعقد الفاسد
1 - ضمان المقبوض بالعقد الفاسد
قوله (رحمه الله): لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضمونا عليه.
أقول: قد طفحت عبارات الأصحاب بأن المقبوض بالعقد الفاسد غير
مملوك للقابض بل هو مضمون عليه.
فعن غصب المسالك (1) الاتفاق على أن المقبوض بالعقد الفاسد يضمن،
وعن غصب الكفاية (2) أنه مقطوع به في كلام الأصحاب.
وعن التذكرة: البيع الفاسد لا يفيد ملكية المشتري للمعقود عليه...
ولو قبضه لم يملكه بالقبض ولو تصرف فيه لم ينفذ تصرفه فيه عند
علمائنا أجمع (3).
وعن كشف الحق أنه: ذهبت الإمامية أن الشراء الفاسد لا يملك
بالقبض، ولا ينفذ عتقه، ولا يصح شئ من تصرفه، وعن السرائر: أن
البيع الفاسد عند المحصلين يجري مجرى الغصب والضمان (4)، وإلى
غير ذلك من كلماتهم المذكورة في هذه المسألة.
وذكر المصنف أنه لو قبض ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان
مضمونا عليه.

1 - المسالك 6: 110.
2 - الكفاية: 139.
3 - التذكرة 2: 357.
4 - السرائر 2: 285.
356

أما العقد السلبي - أعني به عدم الملك - فلأن المؤثر في حصول
الملكية إنما هو العقد، فإذا حكم بفساده وصيرورته كالمعدوم لم يؤثر
في الملكية.
أما العقد الايجابي - أعني به ثبوت الضمان على القابض - فهو
المعروف بين الأصحاب، بل ادعى الشيخ (1) في باب الرهن وفي موضع من
البيع الاجماع عليه صريحا - انتهى ملخص كلامه.
ثم إنه ربما يستظهر (2) من قول المصنف: وليس استيلادها من قبيل
اتلاف النماء بل من قبيل احداث انمائها غير قابل للملك، فهو كالتالف لا
كالمتلف، اختصاص محل البحث بالتلف وعدم شموله للاتلاف،
بديهة أن الضمان في صورة الاتلاف أمر واضح، وغير خفي على طلبة
العلم فضلا عن الفقيه المتضلع من الفقه.
ووجه الاستظهار هو أن الظاهر كون العبارة المذكورة جوابا عن سؤال
مقدر، وهو أن مورد الخبر الآتي - الوارد في الأمة المبتاعة - من قبيل
الاتلاف، فيخرج عن مورد بحثنا في المقام، لأن البحث - هنا - مختص
بالتلف السماوي، أما الاتلاف فلا شبهة في كونه موجبا للضمان لقاعدة
من أتلف، وأجاب المصنف عن ذلك بقوله: وليس استيلادها - الخ.
ويرد عليه أنه لا وجه للفرق بين التلف والاتلاف، ضرورة أن تسليط
المالك غيره على ماله مع فرض فساد العقد إذا كان مانعا عن ثبوت
الضمان باليد كان مانعا عن ثبوت الضمان بالاتلاف أيضا، وعليه فلا وجه
للتفرقة بين صورتي الاتلاف والتلف بالالتزام بالضمان في الثانية دون
الأولى.

1 - المبسوط 2: 150، 2: 204، وتبعه الشيخ الكبير كاشف الغطاء في شرحه على القواعد
: 52.
2 - استظهره المحقق الطباطبائي في حاشيته: 93، ثم أشكل على ذلك.
357

الاستدلال على الضمان
قد ذكر المصنف: أن هذه المسألة - أعني بها مسألة المقبوض بالعقد
الفاسد - من جزئيات القاعدة المعروفة: كل عقد يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده وما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده... فالمهم بيان معنى
القاعدة أصلا وعكسا، ثم أطال الكلام في ذلك من حيث الشرح
والتفسير، ومن حيث النقض والابرام، ومن حيث الاطراد والانعكاس.
ولكن التحقيق أنه لا يهمنا البحث في شئ من هذه النواحي، ضرورة
أن هذه القاعدة بألفاظها المذكورة لم ترد في آية ولا في رواية، ولا أنها
جعلت موردا للاجماع لكي يبحث عنها وعن مفردات ألفاظها وعن سعة
دلالتها، بل هذه القاعدة غير مغروسة بالألفاظ المزبورة في كلمات
القدماء، وإنما وجدت وحدثت في كلمات المتأخرين.
وإذن فيحسن بنا أن نصرف عنان البحث إلى ما يمكن أن يجعل مدركا
لهذه القاعدة ودليلا على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، لكي يتضح من
ذلك ما هو المدرك لقاعدة ضمان اليد أيضا (1).

1 - ثم إنه ليس المراد من العقد في القاعدة أصلا وعكسا ما يكون بنوعه موجبا للضمان أو
لا يكون موجبا له كذلك، نظير العارية فإنها لا توجب بنوعه الضمان، وإنما ثبت الضمان في
صنف منه، وهو عارية الذهب والفضة أو المشروط فيها الضمان وعليه يدخل عارية الذهب
والفضة فيما لا يضمن، كما أنه ليس المراد به ما يوجب الضمان بصنفه وعليه تدخل عارية
الذهب والفضة فيما يضمن، بل المراد ما يضمن بشخصه وما لا يضمن بشخصه، فإن القاعدة
من قبيل القضايا الحقيقية، فالمعنى أن كل عقد يضمن بصحيحه إذا فرض تحققه في الخارج
صحيحا يضمن بفاسده إذا تحقق فاسدا وهكذا العكس، ولا يعتبر فيه تحقق صنف صحيح من
العقد وصنف فاسد منه.
والسر في ذلك أنه لم يرد في هذه القاعدة دليل لفظي ليحمل على النوع أو على الصنف،
وإنما هي على طبق السيرة، وقوله (صلى الله عليه وآله): على اليد ما أخذت، على فرض اعتباره، فما ينطبق
عليهما إنما هو ما ذكرناه دون غيره.
وعلى ما ذكرناه لا يعتبر أن يكون الضمان وعدمه من مقتضيات نفس العقد في طبعه بل
القاعدة جارية ولو كان الضمان أو عدمه في العقد لخصوصية فيه، فالبيع بلا ثمن والإجارة
بلا أجرة لا ضمان فيهما.
ثم إن الباء في القاعدة يحتمل أن تكون للظرفية ويحتمل أن تكون للسببية وذلك من جهة
أن سبب الضمان في العقد الصحيح أو الفاسد وإن كان هو القبض إلا أنه إنما يوجب الضمان إذا
كان بعنوان الوفاء بالعقد وإلا فالقبض في نفسه مع قطع النظر عن كونه مترتبا على العقد
المعاوضي لا يوجب الضمان قطعا، وأما كونه للسببية التام، فغير محتمل لعدم كون العقد علة
تامة للضمان، لا تكوينا ولا تشريعا، فإن كل مبيع تلف قبل القبض فهو من مال بايعه، كما أن ما
ذكره المصنف (رحمه الله) في سببية العقد الفاسد من أنه منشأ للقبض الذي هو سبب للضمان، لا يمكن
المساعدة عليه فإن الضمان حينئذ لا يستند إلى العقد - المحاضرات 2: 147.
358

فنقول: إنه استدل على الضمان - في محل الكلام الذي سيتضح لك
قريبا - بوجوه شتى:
1 - النبوي المعروف، أعني به قوله (صلى الله عليه وآله): على اليد ما أخذت حتى
تؤديه (1).

1 - رواه الحسن البصري، عن سمرة بن جندب، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، راجع سنن البيهقي
6: 90، كتاب العارية، وكنز العمال 5: 257.
أما الحسن البصري فمضافا إلى انكار جماعة منهم سماعه من سمرة أنه من المنحرفين عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) وله كلمة جافة في حقه لا تصدر إلا ممن عانده وناواه.
قال المبرد في الكامل 3: 118: كان الحسن البصري ينكر الحكومة ويترحم في مجلسه
على عثمان ثلاثا ويلعن قتلته، ويذكر عليا فيقول: لم يزل على رحمة الله يتعرفه النصر و
يساعده الظفر حتى حكم فلم تحكم والحق معك ألا تمضي قدما لا أبا لك وأنت على الحق،
قال المبرد: إن هذه كلمة فيها جفاء.
وفي شرح النهج لابن أبي الحديد 1: 368: كان الحسن البصري يبغض عليا (عليه السلام) ويذمه و
من المخذلين عن نصرته، وقد أنكر على أمير المؤمنين (عليه السلام) إراقته الدماء الكثيرة، فقال له: أو
ساءك، قال: نعم، فقال أبو الحسن (عليه السلام): لا زلت مسوءا، فما رؤي الحسن البصري بعد هذا إلا
مهموما عابسا إلى أن مات.
أما سمرة هو الذي انحرف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان أيام مسير الحسين (عليه السلام) إلى
الكوفة على شرطة ابن زياد، وكان يحرض الناس على الخروج إلى الحسين (عليه السلام) وقتاله.
وعن ابن عدي، قال: قدمت المدينة فجلست إلى أبي هريرة، فقال: ممن أنت، قلت: من
أهل البصرة، قال: ما فعل سمرة بن جندب، قلت: هو حي، قال: ما أحد أحب إلى طول حياة
منه، قلت: ولم ذاك، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لي وله ولحذيفة بن اليمان: آخركم موتا في
النار.
وروى واصل أنه كان له نخل في بستان رجل من الأنصار فكان يؤذيه، فشكا الأنصاري
ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبعث إلى سمرة فدعاه، فقال له: بع نخلك من هذا وخذ ثمنه، قال:
لا أفعل، قال: خذ نخلا مكان نخلك، قال: لا أفعل، قال: فاشتر منه بستانه، قال: لا أفعل، قال:
فاترك لي هذا النخل ولك الجنة، قال: لا أفعل، فقال (صلى الله عليه وآله) للأنصاري: اذهب فاقطع نخله فإنه
لا حق له فيه.
إلى غير ذلك من مطاعنه، وقد ذكر ذلك كله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 4: 77،
المطبوع بمصر سنة 1378.
359

ويرد عليه أن هذا الحديث ضعيف السند، لأنه لم يذكر في أصولنا
المعدة لضبط الأحاديث، وإنما أخذه الأصحاب من أصول العامة
واستدلوا به على مقصودهم في كتبهم الاستدلالية.
وإذن فلا يمكن الاستناد إليه في شئ من الأحكام الشرعية فضلا عن
جعله من القواعد المسلمة بين الفقهاء وتسميته بقاعدة ضمان اليد.
ودعوى أن الحديث المزبور وإن كان ضعيف السند ولكن ضعفه
منجبر بعمل المشهور به وارسالهم إياه إرسال المسلمات دعوى فاسدة،
لأنا ذكرنا مرارا أن عمل المشهور برواية ضعيفة لا يوجب اعتبارها، كما
360

أن اعراضهم عن العمل بالرواية الصحيحة لا يوجب وهنها، لأن الشهرة
في نفسها ليست بحجة فلا تكون موجبة لحجية الخبر وجابرة لضعف
سنده.
وعليه فلا بد من ملاحظة نفس الخبر فإن كان جامعا لشرائط الحجية
أخذ به وإلا فإن ضم غير حجة إلى مثله لا ينتج الحجية، وتفصيل ذلك
في علم الأصول.
ويضاف إلى ذلك أنه لم يتضح لنا استناد المشهور إلى الحديث
المزبور في فتاواهم بالضمان في موارد ضمان اليد، إذ من المحتمل أنهم
استندوا في ذلك إلى السيرة التي سنتعرض لها قريبا، أو استندوا في
ذلك إلى وجه آخر، وإنما ذكروا حديث ضمان اليد تأييدا لمرامهم،
فافهم.
2 - الروايات الدالة على أن الأمة المبتاعة إذا وجدت مسروقة - بعد أن
أولدها المشتري - أخذها صاحبها وأخذ المشتري ولده بالقيمة (1)، حيث

1 - عن جميل بن دراج، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل اشترى
جارية فأولدها فوجدت مسروقة، قال: يأخذ الجارية صاحبها ويأخذ الرجل ولده بقيمته
(الكافي 5: 215، التهذيب 7: 65، الإستبصار 3: 83، عنهم الوسائل 21: 204)، مرسلة.
وعن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم
يجئ رجل فيقيم البينة على أنها جاريته ولم يبع ولم يهب، قال: فقال: ترد إليه جاريته
ويعوضه مما انتفع، قال: كان معناه قيمة الولد (الكافي 5: 216، التهذيب 7: 64، الإستبصار
: 84، عنهم الوسائل 21: 204)، مجهولة بأبي عبد الله الفراء.
وعن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها
ثم يجئ مستحق الجارية، فقال: يأخذ الجارية المستحق ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد
ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه (التهذيب 7: 82، الإستبصار
3: 84، عنهما الوسائل 21: 205)، موثقة بمعاوية بن حكيم.
وعن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج
بها إلى أرضه فولدت منه أولادا ثم أتاها من يزعم أنها له وأقام على ذلك البينة، قال: يقبض
ولده ويدفع إليه الجارية ويعوضه في قيمة ما أصاب من لبنها وخدمتها - وفي التهذيب: أن
أباها بدل من أتاها (التهذيب 7: 83، الإستبصار 3: 85، عنهما الوسائل 21: 204)، مجهولة
بسليم الطربال.
361

إن ضمان الولد بالقيمة - مع كونه نماءا لم يستوفه المشتري - يستلزم
ضمان الأصل بالأولوية.
ويتوجه عليه أن الروايات المذكورة غريبة عن مركز بحثنا، إذ
المفروض - هنا - أن يكون البائع مالكا، أما المذكور في الرواية فهو كون
البائع غاصبا، ومن الواضح الذي لا ريب فيه أنه لم يتوهم أحد عدم
الضمان في هذه الصورة حتى فيما إذا كان القعد غير معاوضي كالهبة،
وحكمنا بعدم الضمان في مورد بحثنا.
3 - الروايات الدالة على عدم حلية مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (1)،

1 - عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي، عن أبي جعفر محمد بن عثمان العمري
(رحمه الله)، عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه، قال: فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره
بغير إذنه (الإحتجاج: 479، اكمال الدين: 520، عنهما الوسائل 9: 540، 25: 386).
عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من كانت عنده أمانة
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه (الكافي
7: 273، الفقيه 4: 66، عنهما الوسائل 5: 120)، موثقة بزرعة وسماعة الواقفين.
وعن تحف العقول، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في خطبة حجة الوداع: أيها الناس إنما
المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه (تحف العقول: 34)، مرسلة.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: المسلم أخو المسلم، لا يحل ماله إلا عن طيب نفسه (عوالي
اللئالي 3: 473، عنه المستدرك 3: 331)، مرسلة.
وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه إلا بإذنه (عوالي اللئالي 1: 146، عنه
المستدرك 3: 331)، مرسلة.
عن محمد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم... لا يحل مال ألا
من وجه أحله الله (الكافي 1: 460، المقنعة: 46، التهذيب 4: 140، الإستبصار 2: 60، عنهم
الوسائل 9: 539)، مرسلة.
أما أهل السنة، فروي البغوي في مصابيح السنة 2: 14 عن سعيد بن زيد، والبيهقي في
السنن الكبرى 6: 97 عن ابن عباس، وروي أبو بكر الهيتمي في مجمع الزوائد 4: 117، وأحمد
في المسند 5: 113، والبيهقي في السنن 6: 97، والهندي في كنز العمال 5: 327، كلهم في
الغصب عن عمرو بن يثربي الضبي، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يحل لامرء من مال أخيه إلا ما
طابت به نفسه.
362

فإنها تشمل المقام أيضا.
ويرد عليه أن نسبة الحل إلى الأموال والأعيان إنما هي باعتبار
التصرف، إذ لا معنى لحلية الأعيان الخارجية، كما أن نسبة الحرمة إليها
بهذا اللحاظ، ضرورة أنه يراد من حرمة الخمر حرمة شربه، ومن حرمة
المال حرمة التصرف فيه، ومن حرمة الأمهات والبنات والأخوات
حرمة نكاحهن، وهكذا في سائر الموارد.
وعليه فالغرض من تلك الروايات إنما هو الحرمة التكليفية دون
الحرمة الوضعية، وإذن فهي بعيدة عن اثبات الضمان، وحينئذ فشأنها
شأن ما دل على حرمة التصرف في مال غيره بدون إذنه، فكما أن الطائفة
الثانية ظاهرة في الحكم التكليفي فقط كذلك الطائفة الأولى، فلا تعرض
فيها للضمان.
4 - قوله (عليه السلام): حرمة ماله - أي المؤمن - كحرمة دمه (1)، فإن الظاهر

1 - عن أبي بصير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سباب المؤمن فسوق
، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه (الفقيه 4: 300، ثواب الأعمال
: 287، الكافي 2: 268، المحاسن: 102، الزهد: 11، عنهم الوسائل 12: 281 و 297)، موثق
بعبد الله بن بكير.
وعن أبي ذر، عن النبي (صلى الله عليه وآله): يا أبا ذر سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه من
معاصي الله، وحرمة ماله كحرمة دمه (أمالي الطوسي 2: 152، عنه الوسائل 12: 280)، ضعيف
بأبي المفضل محمد بن عبد الله بن محمد الشيباني، ورجاء بن يحيى بن سامان العبرتاتي،
ومحمد بن الحسن بن شمون وغيرهم.
363

من هذه الجملة هو أن اتلاف مال المؤمن موجب للضمان وأنه لا يذهب
هدرا، كما أن دمه لا يذهب هدرا.
ويتوجه عليه أن هذه الجملة المباركة - لو دلت على الضمان - فإنما
تدل عليه في فرض الاتلاف دون التلف، إذ لا يتوهم عاقل أنه إذا تلف مال
مؤمن بآفة سماوية ضمن به سائر المؤمنين، وعليه فيكون الدليل أخص
من المدعي.
ويضاف إلى ذلك أن هذه الجملة الشريفة مذكورة في عداد جمل
أخرى التي هي ظاهرة في الحكم التكليفي، وهي ما يلي: سباب المؤمن
فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية.
ومن الواضح أن اتحاد السياق يقتضي إرادة الحكم التكليفي من هذه
الجملة أيضا، وإذن فهي بعيدة عن اثبات الحكم الوضعي أعني به
الضمان، بل الظاهر أن المراد من كلمة الحرمة - في قوله (عليه السلام): حرمة
ماله كحرمة دمه - هو مقابل الحل، فيكون راجعا إلى الحكم التكليفي،
لا بمعنى الاحترام لكي يدل على الحكم الوضعي.
وعليه فمنزلة هذه الجملة منزلة الروايات المتقدمة الدالة على عدم
حلية مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه، وقد عرفت - قريبا - عدم دلالتها
على الضمان.
364

وإن أبيت عن ظهورها في ذلك فلا ظهور لها في اثبات الضمان أيضا،
فتكون مجملة.
وقد تفسر حرمة المال - في الجملة المزبورة - بأنه لا تجوز مزاحمة
صاحبه بوجه حدوثا وبقاء، وهذا وإن كان لا يفيد إلا الحكم التكليفي ما
دامت العين باقية إلا أن عدم تدارك العين بعد اتلافها ابقاء للمزاحمة
المحرمة فلا بد من رفعها ولا يمكن رفعها إلا بأداء مثله أو قيمته، وعليه
فتدل الرواية على الحكم التكليفي بالمطابقة وعلى الحكم الوضعي
بالالتزام.
ولكن يرد عليه أن البحث - هنا - إنما هو في أصل اشتغال الذمة وهو
مشكوك فيه - في المقام - ومن الظاهر أن حرمة المزاحمة لا تثبت إلا بعد
اثبات أصل الضمان.
5 - ما ورد في جملة من الروايات أنه: لا يصلح ذهاب حق أحد (1)، فإنه
يشمل المقام أيضا.
والجواب عن ذلك أن الاستدلال بهذه الجملة على الضمان يتوقف

1 - عن الحلبي ومحمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته هل تجوز شهادة
أهل ملة على غير أهل ملتهم، قال: نعم إذا لم يجد من أهل ملتهم جازت شهادة غيرهم، أنه
لا يصلح ذهاب حق أحد (الكافي 7: 4)، حسن بإبراهيم بن هاشم.
وعن سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شهادة أهل الملة، قال: فقال: لا تجوز إلا
على أهل ملتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية، لأنه لا يصلح ذهاب حق
أحد (الكافي 7: 398).
وعن الكناسي، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شهادة أهل ملة هل تجوز على رجل من غير
أهل ملتهم، فقال: لا، إلا أن لا يوجد في تلك الحال غيرهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت
شهادتهم في الوصية، لأنه لا يصلح ذهاب حق امرئ مسلم ولا تبطل وصيته (الكافي
7: 399)، صحيح.
365

على أن يراد بالحق المال، وأن يكون عدم صلوح ذهابه كناية عن ضمانه
ولم يثبت شئ من الأمرين.
بل إن تلك الجملة واردة في مورد الوصية وأن للمسلم أن يوصي بماله
وهذا حق له، ولا يصلح أن يذهب حقه، وعليه فإن أمكن الاشهاد عليه
من المسلمين فهو وإلا تجوز شهادة غيرهم أيضا، وهذا معنى أجنبي
عما نحن فيه بالمرة.
ويضاف إلى ذلك أنها لا تشمل صورة التلف فيكون الدليل أخص من
المدعى.
6 - الروايات الدالة على نفي الحكم الضرري في الشريعة المقدسة (1)،

1 - عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في قضية سمرة بن جندب - عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
لا ضرر ولا ضرار (الكافي 5: 292، الفقيه 3: 147، التهذيب 7: 146، عنهم الوسائل 25: 428)،
موثق بابن بكير.
عن عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: وقضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أهل البادية أنه
لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، وقال: لا ضرر ولا ضرار (الكافي 5: 293، عنه الوسائل
25: 429)، مجهول بعقبة ومحمد بن عبد الله بن هلال.
وفي حديث آخر لزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) - في قضية سمرة - أنه ذكر في ذيله قول رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لسمرة: إنك رجل مضار، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن (الكافي 5: 294، عنه
الوسائل 25: 429)، مرسل.
وعن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالشفعة بين الشركاء في
الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار (الكافي 5: 280، الفقيه 3: 45، التهذيب
7: 164، عنهم الوسائل 25: 400)، مجهول بعقبة ومحمد بن عبد الله بن هلال.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله): لا ضرر ولا ضرار في الاسلام (الفقيه 4: 243 باب ميراث أهل الملل)،
مرسل.
وعن دعائم الاسلام - في حديث - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لا ضرر ولا ضرار (دعائم
الاسلام 2: 499، عنه مستدرك الوسائل 17: 118)، مرسل.
366

ومن الظاهر أن الحكم بعدم ضمان القابض لما قبضه بالعقد الفاسد ضرر
على المالك فينفي بأدلة نفي الضرر.
والجواب عن ذلك:
أولا: أنه لا دلالة في هذه الروايات على الضمان - هنا - سواء أريد منها
نفي الحكم الضرري بداءة كما عليه المصنف، أم أريد منها نفي الحكم
الضرري بلسان نفي موضوعه كما عليه جمع من المحققين.
والوجه في عدم دلالتها على ذلك هو ما ذكرناه في محله من
اختصاص أدلة نفي الضرر برفع الأحكام المجعولة في الشريعة، أما إذا
كان الضرر ناشئا من عدم جعل حكم - كالضمان في المقام - فأدلة نفي
الضرر لا تفي بنفيه ليثبت الجعل الشرعي أي الضمان.
ثانيا: أن محل الكلام - في المقام - هو الضمان بالبدل الواقعي، فإن
الضمان بالمسمى غير ثابت قطعا، وعليه فتقع المعارضة في شمول أدلة
نفي الضرر لكلا الطرفين، إذ قد يزيد البدل الواقعي على المسمى بكثير،
ووقتئذ الحكم بضمان القابض له مع عدم اقدامه عليه بوجه يوجب
تضرره لا محالة.
ثالثا: إن هذه الروايات لو دلت على الضمان فإنما تدل عليه في موارد
الاتلاف، أو في موارد استيفاء المنافع، أو فيما كان العمل بأمر الآمر، أما
في فرض التلف السماوي - مع تحفظ القابض عليه - فلا موجب لاضراره
دفعا لتضرر المالك.
وعلى الجملة أنه لا دلالة في شئ من الوجوه المتقدمة على الضمان
في المقبوض بالعقد الفاسد، نعم الدليل على الضمان - هنا - إنما هو
السيرة، فإنها قائمة على ضمان اليد في أمثال ذلك ولم يثبت ردعها من
ناحية الشارع المقدس، وسيأتي تفصيل ذلك في الوجه الآتي.
367

7 - قاعدة الاقدام التي ذكرها الشيخ في المبسوط (1)، حيث إنه علل
الضمان في موارد كثيرة من البيع والإجارة الفاسدين بدخول القابض على
أن يكون المال مضمونا عليه بالمسمى، فإذا لم يسلم له المسمى رجع
إلى المثل أو القيمة.
ومن تلك الموارد ما ذكره في فصل تفريق الصفة من البيع وقال نصا:
وإنما وجب الضمان عليه لأنه أخذ الشئ بعوض فإذا لم يسلم العوض
المسمى وجب عوض المثل لما تلف في يده.
وقد ناقش المصنف في هذا الوجه:
أولا: بأن ما أقدم عليه المتعاقدان غير ممضي للشارع، وحينئذ فإذا
ثبت الضمان بالمثل أو القيمة فقد ثبت بدليل خاص لا بقاعدة الاقدام.
ثانيا: بأن ما ذكره من التعليل ليس بمطرد ولا بمنعكس، إذ قد يتحقق
الاقدام ولا يترتب عليه الضمان، كما في صورة تلف المبيع قبل القبض
في البيع الصحيح، فإن المشتري قد أقدم على الضمان - هنا - ولكن
لا ضمان عليه، وقد لا يكون اقدام في العقد الفاسد ومع ذلك يتحقق فيه
الضمان، كما إذا اشترط المشتري في عقد البيع أن يكون ضمان المبيع -
مع تلفه في يده - على البائع، أو قال البائع للمشتري: بعتك متاعي هذا
بلا ثمن، أو قال المؤجر للمستأجر: آجرتك داري هذه بلا أجرة - انتهى
ملخص كلامه.
والظاهر أن ما ذكره شيخ الطائفة موافق للتحقيق، فلا يتوجه عليه
شئ مما ذكره المصنف:
أما الوجه الأول الذي ذكره المصنف فيرد عليه: أن الاقدام في نفسه
ليس علة تامة للضمان لكي يدور الضمان مدار الاقدام وجودا وعدما،

1 - المبسوط 2: 204.
368

وإنما هو متمم لسبب الضمان الذي هو الاستيلاء على مال الغير
بلا تسليط من المالك مجانا، وقد قامت السيرة القطعية العقلائية
الممضاة للشارع على أن التسلط على مال الغير تسلطا غير مجاني
موجب للضمان، وحيث إن الشارع المقدس لم يمض الضمان بالمسمى
فيثبت الضمان بالمثل أو القيمة.
وإذن فثبوت الضمان إنما هو بالاقدام المنضم إلى الاستيلاء من جهة
السيرة العقلائية غير المردوعة من قبل الشارع لا بالاقدام الساذج لكي
يناقش فيه بما ذكره المصنف.
أما الوجه الثاني الذي ذكره المصنف فيرد عليه: أنه لا وجه له لنقض
اطراد القاعدة وانعكاسها بالأمثلة المذكورة.
أما ما ذكره من عدم الضمان في بعض موارد الاقدام - كتلف المبيع قبل
القبض في البيع الصحيح - فلما عرفته من أن الاقدام بنفسه لا يوجب
الضمان، وإنما الموجب له الاقدام المنضم إلى القبض، بل قد تقدم فيما
سبق (1) ويأتي في أحكام القبض أن التسليم والتسلم من متممات الملكية
المترتبة على البيع، بمعنى أن المرتكز في أذهان العامة هو أن ضمان
المشتري للمبيع وضمان البائع للثمن أنما هو مشروط بالقبض، فكل
منهما إنما أقدم على ضمان مال الآخر بشرط أن يقبضه لا مطلقا، وعليه
فالحكم بعدم الضمان قبل القبض حكم على طبق الارتكاز العقلائي.
أما ما ذكره - من تحقق الضمان مع اشتراطه على البائع - فيرد عليه أنه
لا صلة له بما نحن فيه لأن المشتري قد أقدم على ضمان المسمى من
جهة البيع غاية الأمر أنه شرط على البائع ضمانا من دون سبب يقتضيه،
وعليه فإن قلنا بفساد هذا الشرط مع افساده أو عدمه أو قلنا بصحته كان

1 - مر في البحث عن الاختلاف في تعيين الموجب والقابل.
369

ذلك خارجا عما أراد المصنف، من ثبوت الضمان بلا اقدام.
أما ما ذكره - من نقض القاعدة بالبيع بلا ثمن أو بالإجارة بلا أجرة - فهو
غريب عما نحن فيه، لأنهما وإن كانا بحسب الصورة بيعا وإجارة إلا أنهما
في الحقيقة من قبيل الهبة والعارية، نهاية الأمر أنهما قد أنشأتا بلفظي
البيع والإجارة.
ومن الظاهر أن أمثال هذه الانشاءات تعد في نظر أهل العرف من
الأغلاط، إذ لم يتعارف بينهم استعمال كلمة: بعتك المتاع الفلاني
بلا ثمن، في انشاء الهبة، ولا استعمال كلمة: آجرتك الشئ الفلاني
بلا أجرة، في انشاء العارية.
وقد عرفت في البحث عن ألفاظ العقود أن انشاء العقد بالألفاظ
المغلطة في نظر أهل العرف لا يعد انشاء صحيحا عندهم، وإذن فيحكم
بفساد الهبة والعارية المذكورتين ولا يحكم بالضمان عندئذ لعدم
الموجب له.
فتحصل من جميع ما حققناه أن ثبوت الضمان - في المقام - إنما هو
بالاقدام المنضم إلى الاستيلاء من جهة السيرة القطعية العقلائية المتصلة
بزمان المعصومين (عليهم السلام) وغير المردوعة من قبلهم.
أما بقية الوجوه المتقدمة فقد عرفت أن الاستدلال بها على الضمان -
هنا - لا يرجع إلى معنى محصل.
وعليه فيحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد مطلقا من ناحية
السيرة المزبورة، سواء في ذلك التلف والاتلاف، وإذن فمدرك الضمان
في قاعدة ضمان اليد وفي المقبوض بالعقد الفاسد إنما هو هذه السيرة،
هذا ما ساقنا إليه نظرنا القاصر، والله العالم بالواقع.
370

بحث في بعض الأعمال المضمونة
قوله (رحمه الله): ويبقى الكلام حينئذ في بعض الأعمال المضمونة.
أقول: قد عرفت أن المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على القابض،
وهل يحكم بضمان الأعمال التي لا ترجع نفعها إلى الضامن ولم تقع في
الخارج بأمره، كالسبق مثلا في المسابقة الفاسدة، أم لا.
قد حكم الشيخ والمحقق (1) وغيرهما (2) بعدم استحقاق السابق أجرة
المثل، وحكم قوم آخرون (3) بالاستحقاق، والتحقيق هو الأول، لأن مناط
الضمان أما الاستيلاء على أموال الناس أو استيفاء منافعها أو الأمر بعمل
محترم مع صدوره من المأمور في الخارج، سواء أوصل نفع ذلك العمل
إلى الأمر أم لم يصل إليه.
ومن الظاهر أن هذه الجهات كلها منتفية في المسابقة الفاسدة، بديهة
أن الصحيح منها إنما يوجب الضمان من جهة امضاء الشارع هذه المغالبة
لأجل الاهتمام بأمر الجهاد مع الكفار.
حيث إن في المسابقة والمرامات تمرينا للحرب وتهيئا إليها، ولولا
هذه الناحية لم تفترق المسابقة والمرامات من سائر أنواع القمار الذي
نهي عنه وضعا وتكليفا بالآيات المتظافرة والروايات المتواترة من طرقنا
ومن طرق العامة، وقد تعرضنا لها ولحرمة القمار بأنواعه تفصيلا في
الجزء الأول.

1 - المبسوط 6: 302، الشرايع 2: 240.
2 - كالشهيد الثاني في المسالك 6: 109، والسبزواري في الكفاية: 139.
3 - منهم العلامة في القواعد 1: 263، التذكرة 2: 357، وولده فخر المحققين في الإيضاح
2: 368، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 8: 337.
371

وعلى هذا الضوء فإذا فقد شرط من شرائط عقد المسابقة وصار فاسدا
كان ذلك مصداقا للقمار المحرم، فيكون أكل المال به أكلا له بالباطل،
إذ المفروض أنه لم يتحقق - في مورد المسابقة الفاسدة - ما يوجب
الضمان، ضرورة أنه لم يوجد فيها إلا سبق السابق.
ومن البديهي أن هذا السبق ليس بأمر المسبوق، ولا أن نفع هذا العمل
قد وصل إليه، ولا أنه أتلف شيئا من أموال السابق، وإذن فكيف يحكم -
هنا - بالضمان.
وبتعبير آخر أن حرمة القمار من ضروريات الدين الاسلامي، وقد
خرجت منها المسابقة الصحيحة فقط لمصالح خاصة، أما غيرها فهو باق
على حرمته.
لا فرق في الضمان بين علم الدافع وجهله
قوله (رحمه الله): ثم إنه لا فرق فيما ذكرنا من الضمان في الفاسد بين جهل الدافع
بالفساد وبين علمه مع جهل القابض.
أقول: الوجه في ذلك هو ما ذكرناه آنفا من قيام الدليل على الضمان
على وجه الاطلاق، وهو السيرة العقلائية القائمة على ضمان اليد مع
الاقدام.
وقد يتوهم عدم الضمان مع علم الدافع بالفساد، ضرورة أن المالك مع
علمه بالفساد قد سلط القابض على ماله، وعليه فيصبح المال أمانة مالكية
عند القابض، وحينئذ فإذا تلف عنده لم يحكم بضمانه للروايات الدالة
على عدم ضمان الأمين مع عدم التفريط (1).

1 - عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان - الخ
(الكافي 5: 238، التهذيب 7: 179 و 183، الإستبصار 3: 126، عنهم الوسائل 19: 79).
عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن وديعة الذهب والفضة، قال: فقال: كل ما كان
من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم (الكافي 5: 239، التهذيب 7: 179، عنهما الوسائل
19: 80).
372

ويرد عليه أن المالك - عندئذ - وإن سلط القابض على ماله إلا أن هذا
التسليط لا يجعل المقبوض أمانة مالكية عند القابض لكي لا يحكم
بضمانه مع التلف بل إنما هو تسليط بإزاء العوض، ومن الواضح أنه إذا
أقدم القابض على أخذ مال غيره على النهج المزبور حكم بضمانه للمالك
ما لم يسقط ضمانه بمسقط، والمفروض عدم سقوطه بذلك فلا صلة له
بموارد الاستيمان حتى يحكم بعدم الضمان - هنا - من ناحية ما دل على
عدم الضمان هناك.
ودعوى أن الإذن المتحقق في ضمن العقد مسقط للضمان، دعوى
جزافية، بداهة أن الإذن المتحقق في ضمن العقد ليس إذنا مطلقا وإنما
هو إذن مقيد بدفع عوض المقبوض.
وقد يتخيل عدم الضمان مع علم الدافع وجهل القابض لقاعدة
الغرور، ولكن هذا التخيل باطل لأن الغرر بمعنى الخديعة، ومن الظاهر
أنه لا يتحقق إلا بأمرين: أحدهما علم الغار، وثانيهما جهل المغرور،
وبديهي أن القابض وإن كان - هنا - جاهلا بفساد العقد إلا أنه عالم بأن
أخذه هذا ليس أخذا مجانيا بل إنما هو أخذ بإزاء العوض.
نعم لا بأس بالتمسك بهذه القاعدة في الزائد عن العوض المسمى،
ضرورة أن الدافع غار بالنسبة إلى هذا الزائد فيرجع إليه لا إلى القابض
المغرور، وسيأتي تفصيل ذلك في البحث عن بيع الغاصب مع علم
المشتري بالغصب.
373

ثم إنه لا وجه لاثبات الضمان - هنا - باطلاق النص والفتوى - كما في
المتن - لما عرفته آنفا من عدم تمامية النص - أعني به حديث على اليد -
فضلا عن التمسك باطلاقه.
هل تضمن العين المستأجرة فاسدا؟
قوله (رحمه الله): ثم إن مقتضى ذلك عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا، لأن
صحيح الإجارة غير مفيد لضمانها.
أقول: المحكي عن القواعد والتحرير والتذكرة (1) أن صحيح الإجارة
غير مفيد لضمان العين المستأجرة، ومقتضى ذلك أن فاسدها أيضا
لا يفيد الضمان.
وعن جامع المقاصد - في باب الغصب - أن الذي يلوح من كلامهم هو
عدم ضمان العين المستأجرة فاسدا باستيفاء المنفعة (2)، وفي الرياض:
العين مضمونة في يد المستأجر مطلقا، كما نسب إلى المفهوم من
كلمات الأصحاب (3) (4)، وقال المصنف: الظاهر أن المحكي عنه هو
المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة.
والتحقيق أن العين المستأجرة قد تكون تحت يد مالكها ولا يتسلط
عليها المستأجر، كما إذا استأجر دابة لكي يحمل المكاري متاعه معها
إلى مكان خاص، ولا ريب أن ضمان الدابة حين ذاك على المالك لا على
المستأجر، فإن الإجارة المجردة لا توجب ضمان متعلقها.

1 - التحرير 1: 252، القواعد 1:
2 - جامع المقاصد 6: 216.
3 - الظاهر أن المحكي عنه هو المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 10: 5.
4 - الرياض 2: 8.
374

وقد تكون العين المستأجرة عند المستأجر لا من جهة اقتضاء الإجارة
ذلك بل من جهة خارجية، كما إذا فرضنا أن المكاري قد فوض حمل
المتاع في فرض المثال إلى المستأجر فإن الدابة عندئذ تكون أمانة عند
المستأجر، وهذا أيضا لا يوجب ضمانه فإنه أمين.
وقد تكون العين المستأجرة عند المستأجر من جهة اقتضاء الإجارة
ذلك، كما إذا استأجر دارا ليسكنها فانهدمت الدار، وهذا هو مورد
الخلاف بين الأصحاب، حيث ذهب جمع منهم إلى الضمان - هنا - و
ذهب جمع آخر منهم إلى عدمه.
ثم إنه قد استدل على الضمان بوجهين:
1 - إن قاعدة ضمان اليد تقتضي الضمان وقاعدة ما لا يضمن بصحيحه
لا يضمن بفاسده تقتضي عدم الضمان فتخصص الثانية بالأولى.
والجواب عن ذلك أن القاعدة الثانية واردة في مورد القاعدة الأولى
وعليه فلا وجه لتوهم المعارضة كما لا وجه لتوهم التخصيص.
2 - إن العين - في الإجارة - خارجة عن مورد العقد خروجا موضوعيا،
ضرورة أن الإجارة تمليك للمنفعة دون العين، فالضمان في مورد
الإجارة على طبق القاعدة، بداهة أن المراد بما يضمن في العقود وما
لا يضمن هو ما يرد عليه العقد، كالعوضين في البيع والمنفعة وبدلها في
الإجارة، لا ما هو خارج عنه، كالعين في الإجارة، غاية الأمر أن تسليمها
إلى المستأجر في فرض صحة الإجارة إنما كان لأجل استيفاء المنفعة،
فتكون أمانة عنده ويلحقها حكمها.
أما إذا كانت الإجارة فاسدة فإن المؤجر وإن دفع بنفسه العين إلى
المستأجر إلا أن دفعه هذا لأجل بنائه على استحقاق المستأجر للانتفاع
من العين المستأجرة، والمفروض أنه غير مستحق لذلك فتكون يده على
375

العين يد عدوان موجبة للضمان لا يد أمانة، وعليه فلا يرد النقض على
عكس القاعدة بالإجارة الفاسدة.
والجواب عن ذلك أن مورد الإجارة وإن كان هو المنفعة دون العين إلا
أنها داخلة في عقد الإجارة بالشرط الضمني، وعليه فيحكم بعدم
الضمان في صحيح الإجارة وفاسدها بناءا على صحة عكس القاعدة،
ومن هنا اتضح لك جليا أنه لا نحتاج في ادخال العين المستأجرة في عقد
الإجارة إلى ما ارتكبه صاحب الكفاية من التكلف في حاشيته على المتن،
وإليك نصه:
التحقيق أن مورده - أي العقد - فيها - أي في الإجارة - نفس العين،
ولذا يقال: آجرت الدار واستأجرتها، وأن الإجارة عبارة عن إضافة
خاصة بين العين المؤجرة والمستأجر، ومن آثارها تملك منفعتها،
والتعريف بالتمليك تعريف بالرسم، مع أنه لو سلم أنه بالحد كان مورد
عقدها أيضا نفس العين فإنها تمليك المنفعة، ولا يكاد يكون مورده
ومتعلقه إلا العين.
ويضاف إلى ذلك أن الإجارة وإن تعلقت بالعين إلا أن مدلولها تمليك
المنفعة، ولذا تتعلق بما لا يقبل نحوا من التملك والتمليك كالحر،
وعليه فالمنشأ هو تمليك المنفعة والعين المستأجرة خارجة عن موردها
وإن كان يلزم تسليمها إلى المستأجر لاستيفاء المنفعة.
وعليه فعقد الإجارة تمليك للمنفعة مع اشتراط تسليم العين إلى
المستأجر أمانة، وحيث لا ضمان في صحيح الأمانة، كما إذا كانت
الإجارة صحيحة، لا يكون ضمان في فاسدها أيضا.
قيل: إن تمكين المستأجر من استيفاء المنفعة من العين المستأجرة إنما
يكون مقدمة لاستيفاء المنفعة، ومن باب اللابدية جريا على ما يقتضيه
376

عقد الإجارة من تملك المستأجر المنفعة، فإذا فرض فساد الإجارة انتفي
الاستيمان لانتفاء منشئه، وما كان يتوقف عليه وهو تملك المستأجر
المنفعة، وعليه كانت العين مضمونة على المستأجر.
قلنا: إن تسليم العين للمستأجر وإن كان مبنيا على صحة الإجارة
وناشئا من البناء عليها، إلا أن التسليم قد تحقق في الخارج على الفرض،
فلا معنى لتوقفه على صحة الإجارة، فلا محالة يكون البناء على صحتها
أو اعتقادها داعيا إلى التسليم الخارجي، وتخلف الداعي لا يضر بتحقق
التسليم أمانة، ولا يوجب ارتفاع حكم الأمانة وهو عدم الضمان مع
التلف.
ألا ترى أن المالك إذا قدم طعاما للضيف باعتقاد أنه عالم لم يجز له
أكله إذا لم يكن عالما، أو أن ذلك من قبيل تخلف الداعي، لا ينبغي
الاشكال في أن الصحيح هو الثاني، فإن الاقدام على اتلاف المال مجانا
قد تحقق وجدانا، غاية الأمر أنه نشأ من اعتقاد غير مطابق للواقع.
وقد ظهر مما ذكرناه أنه لا فرق في عدم الضمان في موارد الإجارة بين
علم المؤجر بفساد العقد وجهله به.
الموارد التي توهم اطراد القاعدة فيها
1 - الصيد الذي استعاره المحرم
قوله (رحمه الله): ثم إنه يشكل اطراد القاعدة في موارد، منها: الصيد الذي استعاره
المحرم من المحل، بناءا على فساد العارية.
أقول: لا شبهة في أن المستعير إذا استعمل العين المعارة في غير
الجهة التي استعارها لأجلها ضمنها مطلقا وإن لم يشترط ضمانها عليه
ولا أنها كانت من الذهب والفضة، كأن استعار عباءة ليلبسها ولكن
377

استعملها في اطفاء الحريق، أو استعار فراشا ليفترش به إلا أنه استعمله
في سد الساقية، ولا ريب في خروج هذه الصورة عن مورد البحث، بل
مورد البحث إنما هو استعارة الشئ لجهة خاصة واستعماله في تلك
الجهة من دون أن يكون فيه تعد وتفريط.
إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أنه ذهب غير واحد من الأصحاب إلى
ضمان الشخص المحرم بقيمة الصيد الذي استعاره من المحل، وذلك
لفساد العارية مع أنه لا ضمان في العارية الصحيحة (1)، وإذن فيكون ذلك
نقضا لاطراد القاعدة.
ومن هنا ناقش الشهيد الثاني (رحمه الله) (2) في القول بالضمان على تقديري
الصحة والفساد.
وأجاب عنه المصنف وقال: إن وجه ضمانه - بعد البناء على أنه
يجب على المحرم إرساله وأداء قيمته - أن المستقر عليه قهرا بعد العارية

1 - لا بد وأن يفرض ذلك في خارج الحرم، فإن الصيد في الحرم غير جائز لغير المحرم
أيضا، كما إذا فرضنا أن أحد الشخصين محرم خارج الحرم والآخر غير محرم، فصاد الثاني
حيوانا واستعاره منه المحرم، فإنه لا اشكال في وجوب إرساله عليه، وإلا وجب عليه الفداء،
فالمسألة لها شقتان:
أحدهما: ما إذا أرسله المحرم، فإنه لا خلاف في ضمانه له إلا أنه خارج عن محل الكلام،
ولا ينتقض به القاعدة، لأن العارية إنما تكون مما لا يضمن بصحيحه في فرض التلف دون
الاتلاف، ولو كان بإذن الشارع، وإنما قلنا بعدم الضمان بالاتلاف في العقود المتضمنة لإذن
المالك فيه، كالهبة والهدية وتقديم الطعام إلى الضيف.
ثانيهما: ما إذا تلفت العين المستعارة بآفة سماوية، كما إذا ماتت أو كانت طائرا فطار، وهذا
الفرض هو مورد النقض على القول بفساد استعارة المحرم وضعا، وقد وقع الخلاف في ثبوت
الضمان فيه وعدمه، فذهب جمع إلى الضمان مع أن صحيح العارية لا ضمان فيه - المحاضرات
2: 159.
2 - المسالك 5: 139.
378

هي القيمة لا العين، فوجوب دفع القيمة ثابت قبل التلف بسبب وجوب
الاتلاف الذي هو مسبب لضمان ملك الغير في كل عقد لا بسبب التلف.
وحاصل كلامه أنه يجب على المحرم المستعير أن يرسل الصيد الذي
استعاره من المحل، ولا شبهة في أن الارسال لا ينفك عن الاتلاف، ومن
المعلوم أنه متى ما تحقق وجوب الاتلاف تحقق معه وجوب دفع البدل
لمكان الملازمة بين التسبيب تشريعا إلى السبب وبين التسبيب إلى مسببه
لاستحالة انفكاك السبب عن المسبب، فإذا كان التسبيب المزبور موجودا
قبل تحقق التلف في الخارج كان المسبب أيضا موجودا قبله، وعليه فلا
يكون ذلك نقضا لاطراد القاعدة، نعم لو كان الموجب للضمان هو التلف
لتوجه النقض المزبور وقد عرفت خلافه.
ويتوجه عليه أن وجوب الارسال لا يترتب عليه إلا لزوم ايجاد سبب
الضمان، وأين هذا من ثبوت نفس الضمان مع عدم تحقق سببه، ومن هنا
لو عصي المحرم المستعير ورد الصيد إلى مالكه لم يكن ضامنا قطعا،
ونظير المقام ما إذا وجب على المستعير اتلاف العارية لسبب آخر، كما
إذا توقف عليه حفظ نفس محترمة أفهل يحتمل الحكم بالضمان بمجرد
الايجاب ما لم يتحقق الاتلاف في الخارج، بل وإن ردها على المعير
لا شك في عدم احتماله، وليس ذلك إلا من جهة أنه لم يتحقق فيه ما هو
موجب للضمان.
وقد انجلى مما ذكرناه فساد القول بالضمان، من جهة أن ايجاب
الارسال يوجب امتناع أداء المال إلى مالكه والامتناع الشرعي كالامتناع
العقلي، وعليه فعدم التمكن من أداء المال إلى مالكه يقتضي دفع بدل
الحيلولة.
وقد ذكر شيخنا الأستاذ وجها آخر للضمان، وحاصله: أن الصيد -
379

بأخذ المحرم له - يخرج عن ملك مالكه فيكون أخذ المحرم له اتلافا له
على المالك فيضمنه (1).
والجواب عن ذلك أنه لا دليل على خروج الصيد عن ملك مالكه بأخذ
المحرم له، وإنما الثابت أن المحرم لا يملك الصيد لا حدوثا ولا بقاءا
فلو صاد وهو محل ثم أحرم خرج الصيد عن ملكه وبين الأمرين بون بعيد.
فتحصل مما حققناه أن الصحيح هو القول بعدم الضمان بتلف الصيد
عند المحرم المستعير كما هو الحال في غير المحرم.
ثم إنه يظهر من صاحب الجواهر (2) عدم وجود المصرح بالضمان في
صورة التلف السماوي الذي هو مورد البحث - في المقام - وأن حكمهم
بالضمان إنما هو في صورة الارسال بعد الاستعارة فيكون ذلك داخلا في
الاتلاف.
نعم يظهر من المحقق في عارية الشرايع الضمان مطلقا، وإليك لفظه:
ولا يجوز للمحرم أن يستعير من محل صيدا لأنه ليس له إمساكه فلو
أمسكه ضمنه وإن لم يشترط عليه ذلك في العارية (3).
وظاهر كلامه هذا هو الحكم بالضمان في فرض التلف، فإن تعميم
الحكم بالضمان للاشتراط وعدمه ظاهر أن موضوع كلامه هو التلف دون
الاتلاف.
ولكن السيد - بعد ما نقل كلام المحقق - قال: وهذه العبارة - كما تري
- مختصة بصورة الاتلاف بالارسال فلا تشمل ما نحن فيه (4).

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 298.
2 - جواهر الكلام 27: 163.
3 - شرايع الاسلام 2: 172.
4 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 94.
380

ويرد عليه: أن هذا ناشئ من إضافة كلمة: ثم أرسله قبل كلمة
ضمنه إلى عبارة المحقق، إلا أنها غير مذكورة في عبارته، بل زادها
صاحب الجواهر سهوا.
ثم هل يثبت الضمان مع الارسال مطلقا أم يختص ذلك بصورة جهل
المعير بالحال، فذهب السيد إلى الثاني بدعوى أن الدافع مع علمه بالحال
يعد متلفا لما له بدفعه إلى من هو مكلف بالاتلاف فلا وجه لاستقرار
القيمة في ذمته.
والجواب عن ذلك أن المعير وإن كان عالما، إلا أن الاتلاف مستند إلى
المستعير لأنه - بعد ما استعار الصيد من المحل - فقد أتلفه بإرادته
واختياره وحينئذ فيثبت عليه الضمان لا على المعير، وهذا ظاهر
لا خفاء فيه.
2 - المنافع غير المستوفاة من المبيع فاسدا
قوله (رحمه الله): ويشكل اطراد القاعدة أيضا في البيع فاسدا بالنسبة إلى المنافع
التي لم يستوفها، فإن هذه المنافع غير مضمونة في العقد الصحيح مع أنها مضمونة
في العقد الفاسد.
أقول: لم نفهم وجها صحيحا لتقييد المنافع بغير المستوفاة، وذلك
لأن المنافع المستوفاة أيضا غير مضمونة في العقد الصحيح مع أنها
مضمونة في العقد الفاسد.
ولعل وجه تقييدها بغير المستوفاة أن المنافع إذا كانت من الأعيان
كاللبن والصوف فاستيفاؤها اتلاف لها وإذا كانت من غير الأعيان
فالاستيفاء بمنزلة التلف، وعلى كل حال فالحكم بالضمان مع الاستيفاء
لا يمكن أن يكون نقضا للقاعدة بناءا على أن موردها التلف دون الاتلاف،
381

وكيف كان فقد يورد على القاعدة بضمان المنافع غير المستوفاة مع أنها
لم تكن مضمونة في العقد الصحيح.
وقال السيد في الجواب عن النقض: إن المنافع وإن لم تكن مقابلة
بالمال إلا أنها ملحوظة في القيمة وزيادة الثمن، وهذا المقدار يكفي في
صدق كونها مضمونة، ومن هنا يعرف حال الشروط فإنه لو فرض شرط
الخياطة في عقد فاسد فعمل بالشرط يكون من له الشرط ضامنا، لأن في
الصحيح وإن لم يكن الشرط مقابلا بالمال إلا أنه ملحوظ في زيادة الثمن
ونقصانه، فكأنه مقابل بالمال، ولذا اشتهر أن للشرط قسطا من الثمن
يعني في اللب (1).
ويرد عليه أن دخل المنافع في زيادة الثمن لا يستلزم ضمانها وراء
ضمان العين، كما أن الشروط لها دخل في زيادة القيمة مع أنها خارجة
عن حول القاعدة، أما ثبوت الضمان فيما ذكر من مثال الخياطة فلأجل
احترام العمل واستناد تحققه في الخارج إلى أمر المشروط له، وعليه
فلا صلة له بالمقام.
وقال شيخنا المحقق: ربما يتصور ضمان العين بنحو تكون متضمنا
لضمان المنافع الفائتة في الصحيح والفاسد، كما إذا كانت العين لها أمد
خاص وعمر مخصوص، فإذا مضى منه شهر مثلا نقصت قيمة العين،
وهذا النقص ملحوظ في الصحيح والفاسد (2).
ويتوجه عليه أن مضي مدة خاصة من عمر العين وإن أوجب نقصانا
فيها إلا أن الضمان - هنا - بالعين لا بالمنافع غير المستوفاة، ولذا اعترف
في آخر كلامه بأنه: لا فرق حينئذ بين القول بضمان العين والمنافع أو
ضمان العين تامة.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 95.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني: 76.
382

وقال شيخنا الأستاذ: إن المدار على مورد العقد، ومورده في البيع
هو نفس العين، وإنما المنافع في الصحيح تابع للعين بحكم الشارع وفي
الفاسد، حيث إن العين لم تنقل إلى القابض فيضمن منافعها (1).
ويرد عليه أنه لو صح ذلك فلازمه الحكم بالضمان فيما لا يضمن
بصحيحه كالهبة الفاسدة، بديهة أن المنافع في الهبة الصحيحة تابعة
للعين، وحيث إن العين لم تنقل إلى المتهب في الهبة الفاسدة فتضمن
منافعها.
والتحقيق أن النقض غير وارد على القاعدة، وتوهم انتقاضها بما ذكر
إنما نشأ من عدم تطبيق الكبرى على الصغرى.
وتوضيح ذلك أن النسبة بين تملك المنافع وتملك العين هي العموم
من وجه، إذ قد تملك المنافع دون العين كما في الإجارة، وقد تملك
العين دون المنافع كما إذا باعها مسلوبة المنفعة، وقد تملكان معا، وعليه
فملكية العين لا تلازم ملكية المنافع وإنما تملك المنافع في البيع بنفس
السبب لملكية العين، ففي الحقيقة كان الثمن بإزاء العين بالأصالة وبإزاء
منافعها بالتبع.
وعلى هذا فكل من العين والمنفعة مورد للعقد، نهاية الأمر أن العين
مورد للعقد بالأصالة و المنافع مورد له بالتبعية، ومن الواضح أن عقد
البيع مما يضمن بصحيحه وفاسده، سواء في ذلك نفس المبيع ومنافعه،
وإذن فلا وجه لتوهم انتقاض القاعدة طردا بالبيع الفاسد.
نعم إذا ارتفع العقد بالفسخ أو بالإقالة لم تضمن المنافع الفائتة أو
المنافع المستوفاة قبل الارتفاع، ضرورة أن هذه المنافع إنما حصلت في
ملك المشتري فيكون المشتري مسلطا عليها.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 299.
383

نعم إذا تعيبت العين بتصرف المشتري كانت مضمونة عليه فإن الإقالة و
إن كانت عقدا جديدا إلا أنها تقتضي رجوع العين بخصوصياتها التي وقع
عليها العقد، والمفروض أن العقد قد وقع على العين الصحيحة فلا بد
وأن ترجع كما كانت، ومع التخلف يحكم بالضمان.
3 - حمل المبيع فاسدا
قوله (رحمه الله): ويمكن نقض القاعدة أيضا بحمل المبيع فاسدا.
أقول: قد حكي عن الشيخ في المبسوط، والمحقق في الشرايع،
والعلامة في التحرير (1) انتقاض القاعدة بحمل المبيع في البيع الفاسد،
حيث إنه مضمون على المشتري مع أنه غير مضمون عليه في البيع
الصحيح بناءا على أنه للبائع، وعن الدروس (2) توجيه كلام العلامة بما إذا
اشترط دخول الحمل في البيع، وهذا هو المحتمل القريب، وحينئذ
فلا نقض على القاعدة.
وعليه فالنزاع - هنا - لفظي، فإن القائل بالضمان إنما أراد صورة كون
الحمل جزءا من المبيع، وأن القائل بعدمه إنما أراد صورة خروج الحمل
عنه.
فيكون شأن الحمل - هنا - شأن نفس العين في الإجارة، وكما أن العين
خارجة عن مورد عقد الإجارة كذلك الحمل - هنا - وإذن فلا تنتقض
القاعدة بذلك.

1 - المبسوط 3: 65، الشرايع 3: 236، التحرير 2: 137، التذكرة 3: 236.
2 - الدروس 3: 108، كذا في الروضة 7: 24، المسالك 2: 205 (الطبع الحجري)، جامع
المقاصد 6: 202، مجمع الفائدة 10: 511.
384

4 - الشركة الفاسدة
قوله (رحمه الله): ويمكن النقض أيضا بالشركة الفاسدة، بناءا على أنه لا يجوز
التصرف بها، فأخذ المال المشترك حينئذ عدوانا موجب للضمان.
أقول: غير خفي على الناقد البصير والمتأمل الخبير أن تفريع الضمان
على الحكم التكليفي - أعني به حرمة التصرف في مال الغير - واضح
الفساد، إذ لا ملازمة بينهما أصلا ورأسا، لأنه بناءا على أن عقد الشركة
لا يقتضي جواز التصرف في المال المشترك - كما هو الظاهر - فإنه عندئذ
وإن كان لا يجوز لكل من الشريكين أن يتصرف في المال المشترك فيه
بدون إذن صاحبه، إلا أنه لو تلف المال المزبور بغير تفريط من أحدهما
لم يحكم بالضمان، لأن كلا منهما قد فوض زمام ماله إلى شفيعه وجعله
أمينا في ذلك.
ومن الواضح أنه لا ضمان على الأمين، ولا يفرق في ذلك بين الشركة
الصحيحة والشركة الفاسدة، وإذن فلا وجه لتوهم انتقاض القاعدة
بذلك.
5 - النكاح الفاسد
قد يتوهم أن أصل القاعدة ينتقض بالنكاح الفاسد، ضرورة أن النكاح
الصحيح يوجب ضمان الصداق للمرأة دون فاسده، إذا كانت المرأة
عالمة بالفساد فإنها وقتئذ زانية فلا مهر لبغي.
ولكن هذا التوهم فاسد، فإن ضمان المهر في عقد النكاح إنما هو بإزاء
الزوجية دون البضع، فالضمان - هنا - ثابت بنفس العقد، فإذا انتفي العقد
من ناحية حكم الشارع بالفساد انتفي الضمان أيضا، ومحل الكلام - في
385

المقام - هو ما كان سبب الضمان أمرا آخر وراء العقد كالقبض في العقد،
فإن التلف قبله من مال البائع.
وعلى الجملة إن البضع وسائر الاستمتاعات لا مالية لها في حكم
الشارع، ومن هنا لو حبس أحد زوجة غيره وفوت عليه جميع
الاستمتاعات لم يضمن بشئ، وليس ذلك إلا لأجل أن البضع وسائر
الاستمتاعات لا تقابل بالمال، نعم قد ثبت مهر المثل في موارد الوطئ
بالشبهة تعبدا لاحترام الأعراض.
وصفوة الكلام أن مورد البحث في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن
بفاسده إنما هو العقود الصحيحة والفاسدة التي يكون الضمان فيها
مستندا إلى غير العقد، وعليه فثبوت الصداق في النكاح الصحيح وعدم
ثبوته في الزناء بعيد عن محل الكلام رأسا.
وبذلك تظهر الحال في العقد المنقطع - أيضا - فإن الأجرة فيه - أيضا -
بإزاء نفس الزوجية دون البضع، وتبعض الأجرة مع عدم التمكين في
بعض المدة إنما هو من جهة النص الخاص، أما في موت المرأة أثناء
المدة فالتبعض على القاعدة، وإذن فلا تنتقض القاعدة بالنقض المزبور.
مدرك عكس القاعدة
قوله (رحمه الله) ثم إن مبنى هذه القضية السالبة على ما تقدم من كلام الشيخ في
المبسوط (1) هي الأولوية.
أقول: قد عرفت - فيما سبق - أن المدرك الصحيح لأصل القاعدة إنما
هو ضمان اليد الثابت بالسيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع، وقد
عرفت - أيضا فيما تقدم - أن مناط الضمان في ذلك هو التسليط غير
المجاني.

1 - المبسوط 2: 204.
386

أما المدرك لعكس القاعدة - أعني به ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن
بفاسده، فقد ذكر المصنف أن مدركه - على ما تقدم من كلام الشيخ في
المبسوط - هو الأولوية، لأن دليل الضمان عنده إنما هو الاقدام وإذا
لم يوجب الاقدام الضمان في العقد الصحيح كالرهن الصحيح مثلا،
لم يوجب ذلك في العقد الفاسد - أيضا - بالأولوية، ضرورة أن العقد
الفاسد لغو محض وأنه بمنزلة المعدوم - انتهى ملخص كلامه.
ويرد عليه أن عدم الضمان في العقد الصحيح - كالهبة الصحيحة مثلا -
إنما هو من جهة كون المال ملكا مجانيا للقابض، ومن الواضح أنه
لم تحصل له الملكية في العقد الفاسد كالهبة الفاسدة مثلا، وإذن فلا وجه
لدعوى الأولوية - هنا - بوجه، وهذا واضح لا ستار عليه.
ويضاف إلى ذلك ما ذكرناه سابقا، من أن الاقدام الساذج ليس دليلا
على الضمان بل الدليل عليه إنما هو السيرة مع الاقدام.
وقد يتوهم أن قاعدة ضمان اليد وإن كانت مقتضية للضمان في العقود
الفاسدة التي لا ضمان في صحيحها، إلا أنها مخصصة بأدلة الاستيمان،
ولكن هذا التوهم فاسد لأن قاعدة ضمان اليد لا تشمل موارد التسليط
المجاني لكي نحتاج إلى تخصيصها بأدلة الاستيمان، وعليه فمورد
الكلام خارج عن قاعدة ضمان اليد وعن مورد أدلة الاستيمان - أيضا -
خروجا تخصصيا، وهذا ظاهر.
وقد ظهر لك مما حققناه أنه لا وجه لاثبات عدم الضمان في الهبة
الفاسدة بفحوى ما دل على عدم الضمان في موارد الاستيمان كما صنعه
المصنف في المتن، أضف إلى ذلك أن المالك لم يسلط غيره على ماله
في موارد الاستيمان ليتصرف فيه أي تصرف بل سلطه عليه ليحفظه عن
التلف، بخلافه في الهبة الفاسدة، وعليه فلا يمكن قياس أحدهما بالآخر.
387

والتحقيق أن الدليل على عكس القاعدة إنما هو عدم الدليل على
الضمان في موارده لا شئ آخر.
2 - وجوب رد المقبوض بالبيع الفاسد فورا
قوله (رحمه الله): الثاني من الأمور المتفرعة على عدم تملك المقبوض بالبيع الفاسد
وجوب رده فورا إلى المالك.
أقول: تحقيق البحث - هنا - يقع في ضمن جهات:
1 - هل يجوز التصرف في المقبوض بالعقد المعاوضي الفاسد؟
لا شبهة في حرمة التصرف في مال الغير - بحسب الكبرى - شرعا
وعقلا، وإنما البحث فيما نحن فيه إنما هو من ناحية الصغرى، وهي أن
تصرف القابض في المقبوض بالعقد المعاوضي الفاسد هل هو تصرف في
مال غيره بدون إذنه لكي يكون حراما كما عليه المصنف، أم أنه تصرف
فيه بإذن مالكه حتى يكون ذلك جائزا.
وفصل السيد في المقام وقال نصا: لا ينبغي الاشكال في عدم جواز
التصرف فيه مع جهل الدافع، وأما مع علمه فيمكن الاشكال فيه وإن كان
باقيا على ملكه وذلك للإذن فيه في ضمن التمليك (1).
لا اشكال في عدم جواز التصرف في المقبوض مع جهل الدافع
بالفساد، أما مع علمه به فقد يقال بالجواز نظرا إلى أن الدافع - عندئذ - قد
إذن للقابض في التصرف في ماله، فلا يكون حراما، ولكن الظاهر هو عدم
جواز التصرف فيه، لأن القاعدة الأولية إنما تقتضي حرمة التصرف في
أموال الناس إلا بإذن ملاكها

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 95.
388

ومن الواضح أن الدافع إنما جوز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد
من حيث كونه ملكا للقابض لا على وجه الاطلاق، ولما لم تحصل
الملكية للقابض ولا أن المالك قد أذن له في ذلك إذنا جديدا حرم على
القابض التصرف فيه وضعا وتكليفا.
نعم لو أذن المالك للقابض إذنا جديدا في التصرف في المقبوض
بالعقد الفاسد لم يحرم له التصرف فيه لا وضعا ولا تكليفا، ضرورة أن
فساد العقد لا يمنع عن إذن المالك جديدا في التصرف في المقبوض.
وعلى الجملة أن الإذن الحاصل في ضمن التمليك بالعقد الفاسد
لا يكون منشأ لجواز التصرف فيما وقع عليه العقد إلا أن يكون - هنا - إذن
آخر غير الإذن الحاصل في ضمن العقد الفاسد.
ثم إن السيد قد استدل - في حاشيته - على جواز التصرف في
المقبوض بالعقد الفاسد بأن:
هذا التمليك له حيثيتان، فهو إذن من حيثية وتمليك من أخرى،
ولما كان التمليك محتاجا شرعا إلى صيغة صحيحة - والمفروض
عدمها - فهو غير مؤثر من هذه الجهة لعدم حصول شرط، وأما من
الحيثية الأخرى فهو غير مشروط شرعا فيجوز العمل به فإن الإذن مؤثر
في جواز التصرف من غير اشتراط بصيغة خاصة فيشمله عموم ما دل
على جواز التصرف مع الإذن وطيب النفس، وإذا جاز التصرف فلا يجب
الرد إلى المالك فضلا عن كونه فوريا، نعم لو رجع عن إذنه وطلبه وجب
الرد إليه فورا (1).
ويرد عليه: أن جواز التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد متوقف
على أحد أمرين على سبيل مانعة الخلو، أما كون ذلك ملكا للقابض،

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 95.
389

وأما إذن المالك في التصرف فيه، أما الأول فهو منفي على الفرض، أما
الثاني فكذلك، إذ لم يأذن فيه المالك بوجه.
والوجه في ذلك أن الأفعال تارة تتعلق بالعناوين الكلية، كبيع كلي
الفرس ونحوه، وأخرى تتعلق بالجزئيات الخارجية والأفراد
المشخصة، كالأكل والشرب والنوم والضرب والقيام والقعود
وأشباهها، فإذا كان الفعل مما يتعلق بالشخص كان اعتقاد الفاعل بانطباق
كلي ما عليه داعيا إلى ايجاده، فإذا ضرب شخصا باعتقاد أنه كافر فتبين أنه
كان مؤمنا كان هذا من التخلف في الداعي، فإن الضرب قد وقع في
الخارج على واقع المؤمن حقيقة، والتخلف إنما هو في اعتقاد أنه كافر
الذي كان داعيا إلى ايجاده.
أما إذا كان الفعل متعلقا بالكلي فلا يسري إلى غير مصداقه وإن كان
الفاعل يعتقد أنه مصداقه، فلو رضي المالك بدخول العلماء داره وأذن به
لم يجز الدخول لغير العالم وإن اعتقد الإذن أنه عالم.
ولا شبهة في أن متعلق الإذن في قوله عجل الله فرجه: فلا يحل
لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه (1)، إنما هو العنوان الكلي أعني به
عنوان التصرف في مال الغير، وعليه فإنما يجوز التصرف في أموال
الناس فيما إذا أحرز أن المالك قد أذن في التصرف في ماله لكي يكون
ذلك مشمولا للعنوان الكلي الذي ذكر في التوقيع المذبور
ومن البين الذي لا ريب فيه أن هذا المعنى بعيد عن المقبوض بالعقد
الفاسد، بديهة أن المالك لم يأذن للقابض أن يتصرف في ماله وإنما سلمه
إليه باعتباره أنه ملك له، وحيث إنه لم يصر ملكا للقابض ولا أن الدافع قد
أذن له في التصرف فلا يجوز للقابض أن يتصرف فيه.

1 - مر ذكر الروايات في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
390

وقد اتضح لك مما بيناه أنه لا يجوز الاستدلال على جواز التصرف في
ذلك بالتوقيع الشريف المذكور، ولا بالروايات الدالة على حرمة
التصرف في مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه، كما اتضح لك من ذلك -
أيضا - أنه لا وجه للتفصيل بين علم الدافع بالفساد وجهله به، لأنه بعد
فرض أن المالك لم يصدر منه إلا التمليك وهو لم يحصل في الخارج
على الفرض، فلا يبقي مجال للقول بجواز التصرف فيه حتى مع علمه
بالفساد.
وبما ذكرناه - من أنه لم يصدر من المالك في المقام إلا التمليك وتسليم
المال بما أنه ملك للقابض - يظهر فساد ما قد يتوهم من أن العقد الفاسد
وإن لم يؤثر في الملكية ولكن إذن الدافع في التصرف في ماله باق على
حاله فيكون الإذن منفكا عن الملكية.
ووجه الظهور أن إذن المالك لم يكن مطلقا لكي يبقي بعد فساد العقد -
أيضا - بل كان بعنوان أن المقبوض ملك للقابض، والمفروض أنه لم يصر
ملكا له فينتفي الإذن أيضا.
قيل: إن المالك قد أذن للقابض في التصرف في نفس العين الخارجية،
وعليه فيبقي الإذن ما دامت العين باقية على حالها مع بقاء المالك على
إذنه السابق وعدم رجوعه عنه.
ويرد عليه: أن الإذن لم يتعلق بالتصرف في مال الدافع، وإنما تعلق
بالتصرف في مال القابض من جهة استلزام التمليك إياه لا أنه أذن جديد
وراء التمليك، إذ المفروض أن الدافع يرى نفسه أجنبيا عن ذلك المال
فكيف يأذن في التصرف فيه، ومن المفروض أن الملكية لم تحصل
فلا معنى لبقاء الإذن في التصرف فيه، وهذا واضح لا شبهة فيه.
نعم لو أذن المالك - إذنا جديدا - في التصرف في المقبوض بالعقد
391

الفاسد - بعد علمه بفساد العقد - جاز التصرف فيه جزما، ولكنه غير
مربوط بما نحن فيه.
ويضاف إلى ذلك أنه ينتقض بأنه لو قدم شخص طعاما لغيره
باعتقاد أنه من مال صديقه مع علم المعطي له بكون ذلك الطعام للمعطي
لا لصديقه، فإنه - عندئذ - لا يجوز للمعطي له أن يأخذه ويتصرف فيه
بتخيل أن الإذن قد تعلق بذات الطعام الخارجي الشخصي فيجوز العمل
على طبقه، والوجه فيه هو أنه لا أثر للإذن الساذج ما لم يتعلق بعنوان مال
نفسه بحيث ينطبق ذلك العنوان الكلي على الشخص الخارجي انطباق
الكلي على أفراده.
2 - هل يجوز التصرف في المقبوض بالعقد غير المعاوضي الفاسد؟
الجهة الثانية: إن حرمة التصرف في المقبوض بالعقد الفاسد هل
تشمل المقبوض بالعقد غير المعاوضي الفاسد - أيضا - كالهبة والعارية
أم لا، لا شبهة في اختصاص الحكم بالعقود المعاوضية إذا قلنا بثبوت
الملازمة بين حرمة التصرف وبين ثبوت الضمان.
وقد يقال: إن حرمة التصرف في المقبوض بعقد يضمن بصحيحه
وفاسده لا يلازم حرمة التصرف في المقبوض بما لا ضمان فيه كالهبة
والعارية، فإنه كما لا ضمان في صحيحهما وفاسدهما كذلك لا يحرم
التصرف في المأخوذ بهما، ضرورة أن رافع الضمان فيهما هو الرافع
للحرمة لأن اعطاء المالك ماله مجانا للمتهب وبعنوان العارية للمستعير
لو رفع الضمان رفع الحرمة أيضا.
وإذن فلا وجه للتفكيك بين الحرمة الوضعية وبين الحرمة التكليفية،
أما إذا لم نقل بثبوت الملازمة بين الضمان وبين حرمة التصرف فلا وجه
392

لاختصاص الحكم بالعقود المعاوضية بل يعم العقود غير المعاوضية
أيضا.
وهذا هو الحق، بداهة أن كلا من حرمة التصرف في المقبوض بالعقد
الفاسد والضمان أجنبي عن الآخر، فإن التسلط المجاني - في العقود غير
المعاوضية الفاسدة - لا يؤثر إلا في عدم ضمان العين المأخوذة بها، أما
جواز التصرف فيها فلا يترتب على التسليط المزبور، وإنما يترتب على
إذن المالك، ومن المفروض أنه لا إذن في موارد التمليك - كالهبة - على ما
عرفته قريبا، أما في غير تلك الموارد - كالعارية - فالإذن من المالك وإن
كان موجودا إلا أن المفروض أن الشارع لم يمضه فوجوده كعدمه، وإذن
فلا يجوز التصرف في المقبوض بالهبة والعارية الفاسدتين.
3 - وجوب رد المقبوض بالبيع الفاسد إلى مالكه فورا
الجهة الثالثة: إنه إذا بنينا على عدم جواز التصرف في المقبوض بالعقد
الفاسد فله يجب رده إلى مالكه فورا أم لا يجب ذلك.
ذهب المصنف إلى الأول لأن الامساك آنا ما تصرف في مال غيره بدون
إذنه فلا يجوز، بل قال: إن الظاهر أنه مما لا خلاف فيه على تقدير عدم
جواز التصرف فيه (1).
والتحقيق أن القابض بالعقد الفاسد تارة يمتنع عن رد المقبوض إلى
مالكه حتى مع مطالبته، وأخرى لا يمتنع عن ذلك وإنما المالك لا يطالب
ماله أو يطالب اقباضه إياه وتفويضه إليه، وعلى الأول فلا شبهة في
حرمة إمساكه لكونه من أظهر أفراد الغصب، بل إذا تلف المقبوض ضمنه
القابض ولو كان العقد مما لا يضمن بصحيحه، سواء أكان التلف بالتفريط

1 - كما يلوح من مجمع الفائدة 8: 192.
393

أم كان بغير التفريط، وعليه فلا شبهة في وجوب رده إلى مالكه فورا،
ضرورة أن إمساكه حينئذ تصرف في مال غيره ومزاحمة لسلطنته على
ماله وهو حرام عقلا وشرعا، وعلى الثاني فلا يجب رده إلى مالكه فضلا
عن كون الرد فوريا، بديهة أنه لا يجب على القابض إلا التخلية بين المال
ومالكه أما الزائد على ذلك فلم يقم عليه دليل.
ونظير ذلك ما لو أطار الريح ثوب أحد إلى دار جاره، فإن بقاءه في
تلك الدار لا يعد تصرفا فيه لصاحب الدار قطعا لأنه لم يضع يده عليه،
ولا أنه حال بينه وبين مالكه.
وإذن فلا يجب على القابض رد ما قبضه بالعقد الفاسد إلى مالكه فورا
فضلا عن كون مؤونة الرد عليه، كما أن بقاء المقبوض في يد القابض
لا يعد تصرفا في ملك غيره حتى مع عدم مطالبة المالك ذلك أو مطالبته
اقباض العين إياه وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
وقد ظهر لك مما حققناه أن مجرد بقاء مال شخص عند غيره لا يعد
تصرفا محرما لا من جهة أن ذلك خارج عن أدلة حرمة التصرف في مال
غيره بدون إذنه خروجا تخصيصيا بالسيرة العقلائية بل من جهة خروجه
عنها موضوعا وتخصصا، لعدم صدق التصرف عليه، كما لا يصدق
التصرف على مس اليد أو الثوب أو أشباههما بحائط غيره في الشوارع
والأزقة.
ثم إن المصنف قد استدل على وجوب رد المقبوض إلى مالكه وعلى
حرمة إمساكه وابقائه بقوله (عليه السلام): لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال
غيره إلا بإذنه - ثم قال: - ولو نوقش في كون الامساك تصرفا كفي عموم
قوله (عليه السلام): لا يحل مال امرئ مسلم لأخيه إلا عن طيب نفسه، حيث يدل
394

على تحريم جميع الأفعال المتعلقة به التي منها كونه في يده (1).
أقول: أما الرواية الأولى فقد عرفت عدم دلالتها - على ما يرومه
المصنف - مما بيناه من عدم صدق التصرف على مجرد بقاء مال أحد
تحت يد غيره، فإن ذلك نظير النظر إلى مال غيره ومسه، أما الرواية
الثانية فيتوجه على الاستدلال بها أن الحلية أو الحرمة إذا أسندت إلى
الأعيان فلا بد من أن يراد بها الحلية التكليفية وأن يكون الاسناد باعتبار
تقدير فعل يناسب المقام، فيراد من حلية المأكولات حلية أكلها ومن
حرمة الأمهات والعمات والخالات حرمة نكاحهن، وهكذا في كل
مورد من الموارد التي ترد عليك، فإنه لا بد وأن تلاحظ فيها مناسبة
الحكم والموضوع.
وإذن فلا بد وأن يراد من عدم حلية المال مع عدم طيب نفس مالكه
عدم جواز تملكه أو عدم جواز الانتفاع به، وعلى هذين التقديرين لا تدل
الرواية على حرمة إمساك مال شخص آخر بوجه، نعم يحتمل أن يكون
المقدر مطلق التصرف، لكن قد عرفت قريبا أن مجرد الامساك لا يعد
تصرفا بوجه، وعلى كل تقدير فالرواية بعيدة عن الدلالة على حرمة
الامساك بمجرده.
وقد استدل بعضهم على حرمة إمساك المقبوض بالعقد الفاسد،
وعلى وجوب رده إلى مالكه فورا بالنبوي المعروف: على اليد ما
أخذت حتى تؤديه، وتقريب الاستدلال به على ذلك بوجهين:
1 - ما ذكره شيخنا الأستاذ، وإليك نص مقرر بحثه:
ويدل عليه - أي على الرد الفوري - أيضا عموم على اليد ما أخذت

1 - لم نجده على النحو المنقول في كتب الحديث، وقد مر في البحث عن مدرك الضمان
في قاعدة ما يضمن بعض الكلام فيه، فراجع.
395

حتى تؤدي، فإنه وإن لم يكن متعرضا للحكم التكليفي بالدلالة المطابقية
إلا أنه متعرض له بالدلالة الالتزامية، فإن استقرار الضمان على عهدة
القابض ملازم لوجوب الرد، لأنه لا أثر لاستقرار الضمان على العهدة إلا
وجوب رد العين ما دامت باقية ورد المثل أو القيمة لو كانت تالفة فحرمة
إمساك مال الغير من غير إذنه ووجوب رده إليه فورا بالفورية العرفية
لا اشكال فيه (1).
ويرد عليه أن دعوى الملازمة بين الحكم التكليفي والوضعي وإن
كانت صحيحة ولكن الحكم التكليفي الملازم للحكم الوضعي - هنا -
ليس هو وجوب رد العين إلى صاحبها لكي تترتب عليه حرمة الامساك، و
إنما الواجب على القابض هو وجوب التخلية بين المال ومالكه أما الزائد
على ذلك فلم يدل عليه دليل شرعي ولا عقلي.
2 - ما أفاده المحقق الإيرواني، وهذا لفظه: فالأولى تبديل
الاستدلال به - أي بقوله (عليه السلام): لا يحل الخ - بالاستدلال بعموم على اليد،
فإنه إن لم يكن مقصورا ببيان التكليف، فلا أقل من أن يعم الوضع و
التكليف جميعا بتقريب أن مؤداه وجوب دفع العين مع قيامها ودفع البدل
مع التلف (2).
والجواب عن ذلك:
أولا: إن إرادة الحكم التكليفي من حديث على اليد يحتاج إلى تقدير
فعل من الأفعال، فإن الحكم التكليفي لا يتعلق بالمال نفسه وإرادة الحكم
الوضعي منه لا يحتاج إلى تقدير شئ أصلا ورأسا.
ومن الواضح أن المراد بكلمة الماء الموصولة هو المال، ولا يمكن

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 326.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 95.
396

الجمع بين إرادة الحكم التكليفي والوضعي إذ لا يمكن الجمع بين التقدير
وعدمه.
ثانيا: إن حديث: على اليد ما أخذت حتى تؤديه بظاهره آب عن
إرادة الحكم التكليفي منه، ضرورة أن الحكم المستفاد من ذلك مغيا
بوجوب الرد، ومن الواضح أن الغاية لا تناسب إلا مع الحكم الوضعي فقط
لا الحكم التكليفي فحسب، ولا الحكم الوضعي والتكليفي معا، وذلك
لأنه إذا أريد من النبوي المزبور الحكم التكليفي كان معناه أنه يجب رد
المال المأخوذ من مالكه بدون إذنه حتى تؤديه، أي حتى ترده إلى
صاحبه.
وحينئذ فيكون ذلك نظير ما يقال يجب عليك الاتيان بالصلاة حتى
تصلي، ولا شبهة في أن هذا الاستعمال مستهجن جدا وغير معهود عند
أهل المحاورة، وهذا بخلاف ما إذا أريد من الحديث الحكم الوضعي
فقط، فإنه وقتئذ يكون معناه هو ثبوت ضمان المأخوذ على الآخذ حتى
يرده إلى صاحبه، ولا ريب أنه لا استهجان فيه بوجه.
ويضاف إلى ذلك أن حديث على اليد ضعيف السند فلا يمكن
الاستدلال به على شئ من المسائل الفقهية، وقد تقدم تفصيل ذلك
قريبا.
4 - ما هو حكم مؤونة الرد؟
الجهة الرابعة: أنه إذا وجب رد المقبوض بالعقد الفاسد إلى مالكه،
فهل تكون مؤونة الرد على القابض، أم تكون على المالك، قد فصل
المصنف بين ما تكون مؤونة الرد قليلة فحكم بكونها على القابض وبين ما
تكون كثيرة فحكم بكونها على المالك وذلك لأدلة نفي الضرر.
397

وفصل شيخنا الأستاذ بين ما إذا كانت المؤونة مما يقتضيها طبع الرد
فهي على القابض وبين غيره فهي على المالك (1).
وتوضيح كلامه: أن الحكم الشرعي إذا اقتضى في نفسه وبحسب
جعله مقدرا من الضرر، نظير وجوب الخمس والزكاة والصوم والجهاد
وأمثالها من الأحكام الشرعية، كان الحكم المذكور تخصيصا لقاعدة نفي
الضرر، وإذا كان الضرر زائدا على المقدار الذي يقتضيه طبع الحكم
الشرعي لم يكن ذلك تخصيصا لأدلة نفي الضرر، بل أدلة نفي الضرر تكون
حاكمة على دليل ذلك الحكم وموجبا لاختصاصه بغير موارد الضرر،
وعلى هذا الضوء فإن كانت مؤونة الرد بمقدار ما يقتضيه طبع رد المال إلى
مالكه فهي على القابض، وإن كانت زائدة على ذلك فيه على المالك لأدلة
نفي الضرر.
ويرد عليه أن وجوب الرد في نفسه لا يقتضي أي ضرر، إذ قد يكون
الرد غير محتاج إلى المؤونة أصلا، فالمؤونة أمر قد يحتاج إليه الرد وقد
لا يحتاج إليه ذلك، وإذن فدليل نفي الضرر يقتضي اختصاص وجوب
الرد بما لا يحتاج إلى مؤونة.
ومن هنا تظهر الحال في تفصيل المصنف - أيضا - فإن تحمل الضرر
مرفوع في الشريعة المقدسة، ولا فرق بين قليله وكثيره، نعم لا بأس
بالالتزام بكون المؤونة على القابض فيما إذا كانت المؤونة من القلة بمرتبة
لا تعد ضررا عرفا، ولعل هذا هو مراد المصنف من التفصيل الذي نقلناه
عنه قريبا.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 327.
398

5 - هل يجب رد المقبوض إلى مالكه مطلقا؟
الجهة الخامسة: أنا إذا بنينا على أن الواجب على القابض هو التخلية
بين المالك وماله دون رده إليه، فهل هو كذلك على وجه الاطلاق وفي
جميع الموارد أم يجب ذلك في بعض الموارد دون بعض، وتفصيل ذلك أنه قد يكون المالك والمشتري كلاهما في بلد القبض، وقد يكونان في
بلدين، وعلى الثاني فتارة ينتقل البائع إلى بلد آخر غير بلد القبض،
وأخرى ينقل المشتري المقبوض من بلد القبض إلى بلد آخر، وثالثة
ينتقل منه البائع إلى بلد وينتقل منه المشتري إلى غير ذلك البلد.
أما إذا كانا في بلد القبض، فقد عرفت أنه لا يجب حينئذ رد المقبوض
إلى مالكه بل تكفي في هذه الصورة التخلية بينه وبين ماله، فإذا أراد
المالك أن يأخذ ماله في أي وقت أخذه بنفسه، أما إذا كان القابض في بلد
القبض ولكن انتقل المالك إلى بلد آخر ثم طالبه بماله لم يجب عليه الرد
عندئذ قطعا، حتى إذا قلنا بوجوب الرد في الشق الأول فإنه لا دليل على
جواز مطالبته بماله بأزيد من مطالبته في بدل القبض.
أما إذا نقله القابض من بلد القبض إلى بلد آخر وطالب به المالك
فوجب رده إلى بلد القبض، سواء في ذلك كون المال في بلد القبض
وانتقاله إلى بلد آخر، وعليه فمؤونة الرد على القابض، ضرورة أن نقل
المقبوض إلى غير بلد القبض لم يكن بإذن مالكه لكي تكون مؤونة الرد
عليه بل كان ذلك باختيار القابض، وحينذاك فيجب عليه رده إلى بلد
القبض وذلك للسيرة العقلائية المحكمة في أمثال المقام أو لدليل ضمان
اليد.
وقد اتضح لك مما بيناه حكم ما إذا انتقل المالك إلى بلد، ونقل
399

القابض المال إلى بلد آخر، فإن المالك إذا طالب القابض بنقل المال إلى
البلد الذي هو فيه لم تجب على القابض إجابته، وإذا طالبه برده إلى بلد
القبض وجب على القابض رده.
3 - ضمان المنافع المستوفاة
قوله (رحمه الله): الثالث: إنه لو كان للعين المبتاعة منفعة استوفاها قبل الرد كان عليه
عوضها على المشهور.
أقول: المشهور بين الفقهاء أن القابض بالعقد الفاسد يضمن المنافع
التي استوفاها من المقبوض، بل الظاهر من عبارة الحلي المحكية عنه من:
أن البيع الفاسد عند المحصلين يجري مجرى الغصب والضمان (1)، هو
قيام الاجماع على ذلك، وقد نسب الخلاف في ذلك إلى ابن حمزة (2)،
حيث إنه حكم بعدم الضمان - هنا - محتجا بأن الخراج بالضمان كما في
النبوي المرسل (3).
ويحسن بنا أولا بيان الوجوه التي استدل بها على الضمان، ثم صرف
الكلام إلى بيان ما استدل به ابن حمزة على رأيه، فنقول: إنه قد استدل
على الضمان بوجوه شتى:
1 - النبوي المعروف: على اليد ما أخذت حتى تؤديه (4)، فإن عمومه
يشمل المنافع المستوفاة أيضا.
ويتوجه عليه:

1 - السرائر 2: 479.
2 - الوسيلة: 255.
3 - عوالي اللئالي 1: 219، الرقم: 89.
4 - قد تقدم ما يرجع إلى هذا الحديث في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
400

أولا: إنه ضعيف السند وغير منجبر بعمل المشهور به لا صغرى
ولا كبرى.
أما الوجه في منع الصغرى فلعدم الاطمئنان باعتماد القائلين بالضمان
على الحديث المزبور، بل اعتمد أكثرهم على الوجوه الأخر التي
سنذكرها قريبا.
أما الوجه في منع الكبرى فهو ما ذكرناه في علم الأصول وأشرنا إليه
آنفا من أن الشهرة ليست بحجة في نفسها، فكيف تكون سببا لحجية
الخبر الضعيف وجابرة لوهن سنده وتفصيل الكلام في محله.
ثانيا: إنا لو سلمنا شمول صدر الحديث للأعيان المأخوذة والمنافع
المستوفاة إلا أنه لا ينفعنا في المقام، لأن الظاهر من ذيله هو اختصاصه
بالأعيان فقط، بداهة أن الظاهر من الأداء هو رد المأخوذ بعينه بدءا، ومع
عدم التمكن منه ينوب عنه رد المثل أو القيمة، ومن الواضح أن رد
المأخوذ بعينه لا يعقل في المنافع لأنها ما لم توجد في الخارج ليست
بمضمونة وبعد وجودها فيه تنعدم وتنصرم، وحينئذ فلا يمكن أداؤها
إلى المالك لكي يشملها دليل ضمان اليد.
على أن للمناقشة في شمول مفهوم الأخذ للمنافع مجال، إذ قد يقال:
إن مفهوم الأخذ لا يصدق على استيفاء المنافع خصوصا إذا كانت المنفعة
من قبيل الأعمال، كمن أمر غيره بخياطة ثوبه أو بناية داره أو نجارة بابه
ولم يعط أجرته، فإنه لا تطلق كلمة الأخذ على شئ من ذلك، ومن هنا
ذكر المصنف فيما تقدم: أن مورده - أي خبر اليد - مختص بالأعيان
فلا يشمل المنافع والأعمال المضمونة في الإجارة الفاسدة.
ولكن الصحيح أن مفهوم كلمة الأخذ أوسع من ذلك، لعدم اختصاصه
بالأخذ الخارجي وإلا لزم منه خروج كثير من الأعيان عن مورد الحديث،
401

كالدار والأرض والبستان والحديقة وأشباهها مما لا يقبل الأخذ
الخارجي.
ومما يدل على صحة ما ذكرناه أن مفهوم الأخذ يصح انتسابه إلى
الأمور المعنوية، كالعهد والميثاق والرأي وأمثالها، كما أنه يصح
انتسابه إلى الأمور الخارجية، وإذن فلا وجه لتخصيص مفهوم الأخذ
بالأعيان الخارجية، وإنما هو كناية عن الاستيلاء على الشئ كما أن
كلمة بسط اليد كناية عن الجود والسخاء، وكلمة قبض اليد كناية عن
البخل.
ولا ريب أن استعمال لفظ الأخذ في هذا المعنى - الذي ذكرناه - كثير
في القرآن وغيره، ومنه قوله تعالى: لا تأخذه سنة ولا نوم (1).
وإذن فالصحيح في وجه المنع عن شمول الحديث للمنافع هو الوجه
الثاني، وهو اختصاص ذيل الحديث بالأعيان وعدم شموله للمنافع
2 - قوله (عليه السلام): حرمة ماله - أي المؤمن - كحرمة دمه، فإن الظاهر من
هذه الجملة أن اتلاف مال المؤمن موجب للضمان، ومن الواضح أنها كما
تشمل الأعيان كذلك تشمل المنافع المستوفاة - أيضا - لصدق المال
عليها جزما.
ويتوجه على الاستدلال بها أن الظاهر منها هو الحكم التكليفي،
بمعنى أنه لا يجوز اتلاف مال المؤمن بغير إذنه كما لا تجوز إراقة دمه،
وعلى تقدير أن تكون الحرمة بمعنى الاحترام، فغاية ما تدل عليه هذه
الجملة المباركة هي لزوم حفظ مال المؤمن عن التلف وعدم جعله في
معرض الهلاكة، فإن ذلك هو مقتضى الاحترام، أما الضمان فلا يستفاد
من ذلك وإلا يلزم على كل واحد من المؤمنين ضمان مال المؤمن الآخر

1 - البقرة: 255.
402

مع التلف بآفة سماوية، ولا شبهة في أن هذا المعنى لا يمكن الالتزام به
بوجه.
3 - الروايات الدالة على عدم حلية مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه
وعلى حرمة التصرف في مال الغير بدون إذنه (1)، وقد عرفت صدق المال
على المنافع، ولذا تقع ثمنا في البيع وعوضا في الخلع وصداقا في
النكاح وهكذا.
ويتوجه على الاستدلال بها أن المستفاد منها ليس إلا الحكم
التكليفي، أعني به حرمة التصرف في أموال الناس بدون إذنهم، أما
الحكم الوضعي أعني به الضمان فلا يستفاد منها، وقد تقدم تفصيل ذلك
قريبا (2).
4 - قاعدة نفي الضرر، فإن استيفاء منفعة مال المالك وجعله مسلوب
النفع ضرر عليه، وهو منفي في الشريعة المقدسة.
ويتوجه على هذا الاستدلال أن أدلة نفي الضرر ليست مسوقة لاثبات
الحكم الشرعي وإنما هي مسوقة لبيان نفي الحكم الضرري، أضف إلى
ذلك أن القاعدة لا تفي باثبات ضرر على أحد لنفي الضرر عن غيره، فكما
أن الحكم بعدم الضمان فيه ضرر على المالك كذلك الحكم بالضمان فيه
ضرر على القابض.
بل يمكن أن يقال: إن المنافع تنصرم وتنعدم بنفسها، سواء في ذلك
استيفاء المالك وعدمه، فالحكم بعدم الضمان ليس فيه ضرر على
المالك بل إنه من قبيل عدم النفع فلا موضوع للقاعدة أصلا، وقد تقدم

1 - قد تقدم ما يرجع إلى هذا الحديث في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
2 - قد تقدم ما يرجع إلى هذا المبحث في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن،
فراجع.
403

الكلام فيما يرجع إلى الاستدلال بهذه القاعدة في أمثال الموارد قريبا (1).
وعلى الجملة أنه لا دلالة في شئ من الوجوه المتقدمة على ضمان
المنافع المستوفاة، نعم يمكن الاستدلال على الضمان - هنا - بأمرين:
1 - السيرة القطعية العقلائية، فإنها قائمة على أن أموال الناس
لا تذهب هدرا، وعليه فإذا استولى أحد على مال غيره، سواء أكان ذلك
بعنوان الغصب أم كان بعنوان آخر، ضمنه بجميع الخصوصيات التي هي
دخيل في المالية، وحيث إن الشارع المقدس لم يردع عن هذه السيرة
فتكون دليلا على ضمان المنافع المستوفاة.
2 - قاعدة من أتلف مال غيره فهو له ضامن، وهي بهذه الكيفية
والخصوصية وإن لم تذكر في رواية خاصة، ولكنها قاعدة كلية متصيدة
من الموارد الخاصة التي نقطع بعدم وجود الخصوصية لتلك الموارد.
وعليه فتكون هذه القاعدة متبعة في كل مورد تمس بها الحاجة،
والموارد التي أخذت منها هذه القاعدة هي الرهن والعارية والمضاربة
والإجارة والوديعة، وغير ذلك من الموارد المناسبة لها، فإنه قد وردت
فيها الأخبار الكثيرة الدالة على أن اتلاف مال الغير موجب للضمان (2)،

1 - قد تقدم ما يرجع إلى هذا المبحث في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن،
فراجع.
2 - عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السلام) عن الرجل يرهن الرهن بمائة درهم،
وهو يساوي ثلاثمائة درهم فيهلك، أعلى الرجل أن يرد على صاحبه مائتي درهم، قال: نعم
لأنه أخذ رهنا فيه فضل وضيعه - الحديث (الكافي 5: 324، الفقيه 3: 199، التهذيب 7: 172،
الإستبصار 3: 120، عنهم الوسائل 18: 391).
وعن سليمان بن خالد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا رهنت عبدا أو دابة فمات فلا شئ
عليك، وإن هلكت الدابة أو أبق الغلام فأنت ضامن (الكافي 5: 236، التهذيب 7: 173،
الإستبصار 3: 121، عنهم الوسائل 18: 388).
قال في رهن التهذيب بعد نقل هذا الحديث: فالمعنى فيه أيضا أن يكون سبب هلاكها أو إباقه
شيئا من جهة المرتهن.
وعن أبان، عمن أخبره - وفي الفقيه: أبان عن أبي عبد الله - عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال
في الرهن: إذا ضاع من عند المرتهن من غير أن يستهلكه رجع في حقه على الراهن فأخذه،
فإن استهلكه ترادا الفضل بينهما (الكافي 5: 234، التهذيب 7: 172، الإستبصار 3: 120، عنهم
الوسائل 18: 387).
وعن وهب، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا (عليه السلام) قال: من استعار عبدا مملوكا لقوم
فعيب فهو ضامن، بناءا على أن العيب من ناحية المستعير (التهذيب 7: 185، الإستبصار
3: 125، عنهما الوسائل 19: 94).
وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن القصار يفسد، قال: كل أجير يعطي
الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن (الكافي 5: 241، التهذيب 7: 219، الإستبصار
3: 131، عنهم الوسائل 19: 141).
وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يضمن القصار
والصباغ والصائغ احتياطا على أمتعة الناس - الحديث (الكافي 5: 242، الفقيه 3: 162،
التهذيب 7: 219، الإستبصار 3: 131، مستطرفات السرائر: 63، عنهم الوسائل 19: 143).
وعن ابن أبي الصباح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الثوب أدفعه إلى القصار
فيحرقه، قال: أغرمه، فإنك إنما دفعته إليه ليصلحه ولم تدفعه إليه ليفسده (الكافي 5: 242،
الفقيه 3: 161، التهذيب 7: 220، الإستبصار 3: 132، عنهم الوسائل 19: 144).
وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) رفع إليه رجل استأجر رجلا
ليصلح بابه، فضرب المسمار فانصدع الباب، فضمنه أمير المؤمنين (عليه السلام) (الكافي 5: 243،
التهذيب 7: 219، الإستبصار 3: 132، عنهم الوسائل 19: 144).
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في رجل كان له غلام
فاستأجره منه صائغ أو غيره، قال: إن كان ضيع شيئا أو أبق منه فمواليه ضامنون (الكافي
5: 302).
وإلى غير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المزبورة وغيرها.
404

وقد استفاد منها الفقهاء (قدس سرهم) عليهم قاعدة كلية، أعني بها قاعدة من أتلف
مال غيره فهو له ضامن.
فتحصل مما ذكرناه أن المنافع المستوفاة مضمونة على القابض.
ما استدل به على عدم ضمان المنافع المستوفاة
قد استدل ابن حمزة (1) على عدم ضمان المنافع المستوفاة بالنبوي
المشهور: الخراج بالضمان (2).
ويرد عليه:
أولا: أن الحديث المزبور ضعيف السند وغير منجبر بشئ.
ثانيا: أن الاستدلال المذكور منتقض بالمغصوب، حيث إن ضمان
المنافع المستوفاة فيه أمر بديهي لا يعرضه الشك، خلافا للحنفية (3).
ثالثا: أنه لا دلالة في ذلك الحديث على ما يرومه المستدل، وذلك لأنه
يحتمل وجوها:

1 - الوسيلة: 255.
2 - عن عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الخراج بالضمان، وفي جملة أخرى من
الروايات: أنه قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن الخراج بالضمان، وفي جملة أخرى عن رسول الله
(صلى الله عليه وآله): الغلة بالضمان.
سنن النسائي 2: 215 كتاب البيع باب الخراج بالضمان، سنن أبي داود 3: 284 الرقم: 3508
كتاب البيع باب من اشترى عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا، سنن البيهقي 5: 321 كتاب البيع باب
المشتري يجد فيما اشتراه عيبا وقد استغله زمانا، مصابيح السنة للبغوي 2: 10 كتاب البيع باب
المنهي عنه من البيوع، مسند أبي داود الطياليسي 6: 206، الحاكم للمستدرك 2: 15 كتاب البيع،
المسند لأحمد 6: 208، سنن ابن ماجة 2: 31 كتاب البيع باب الخراج بالضمان، تاريخ بغداد
للخطيب 8: 298 ترجمة خالد بن مهران، كنز العمال 2: 211 الرقم: 4571 باب خيار العيب.
3 - في شرح فتح القدير 7: 394: ولا يضمن الغاصب منافع ما غصبه، لأنها حصلت على
ملك الغاصب، إلا أن ينقص باستعماله فيغرم النقصان.
406

1 - أن يكون المراد من كلمة الخراج فيه ما هو المعروف في باب
الخراج والمقاسمة، ويكون المراد من كلمة الضمان فيه هو ضمان
الأراضي الخراجية بسبب التقبل والإجارة.
ولا يخفى عليك أن هذا الاحتمال وإن لم نره في كلمات الفقهاء (قدس سرهم)
ولكنه أقرب المحتملات للإرادة من الحديث، ووقتئذ يكون النبوي
خارجا عما نحن فيه، ولا يكون مربوطا بالمقام أصلا ورأسا.
2 - أن يراد من الخراج مطلق المنافع، أعم من الخراج المصطلح
وغيره، ويراد من الضمان المعنى اللغوي أعني به مطلق العهدة، سواء
أكان ذلك أمرا اختياريا مترتبا على العقود الصحيحة أو الفاسدة أم كان
أمرا غير اختياري مترتبا على الغصب، وعليه فيكون المراد من الباء في
كلمة: بالضمان، هو السببية أو المقابلة، وحينذاك فمعنى الحديث أن
المنافع الحاصلة من الأموال المأخوذة بالعقود الصحية أو الفاسدة أو
المأخوذة بالغصب مملوكة للضامن، وأن ضمان العين سبب لملكية
المنافع، وعليه فتدل الرواية على عدم ضمان المنافع المستوفاة كما
عليه ابن حمزة.
ولكن من البعيد جدا، بل من المستحيل عادة ذهاب ابن حمزة، الذي
هو من أعظم فقهائنا الإمامية، إلى مثل هذا الرأي، بل هو يناسب مثل
أبي حنيفة الذي أفتى بعدم ضمان المنافع مع ضمان العين، وقد نقلنا
رأيه قريبا في الحاشية.
3 - أن يراد من الخراج المنافع المستوفاة، ويراد من الضمان خصوص
الضمان الاختياري المترتب على العقود الصحيحة التي أمضاها الشارع
المقدس كالبيع والإجارة ونحوهما، وعليه فلا يكون النبوي المزبور
مربوطا بما أفتى به ابن حمزة، ضرورة أن مورد كلامه البيع الفاسد لا البيع
الصحيح.
407

4 - أن يراد من الخراج المنافع المستوفاة، ويراد من الضمان الضمان
المعاملي الاختياري، سواء أكان ذلك ممضي للشارع المقدس أم لم يكن
ممضي له، فيشمل البيع الصحيح والفاسد كليهما، وعلى هذا فيصلح
النبوي أن يكون مدركا لابن حمزة.
ويتوجه عليه أنه لا قرينة في الحديث على أن يراد منه هذا الاحتمال
دون سائر الاحتمالات، بل قد عرفت قريبا أن الاحتمال الأول أظهر
المحتملات للإرادة من الحديث.
ويضاف إلى ذلك أن لازم الأخذ بالاحتمال الأخير هو أن كل من
استوفي شيئا من منافع العين فلا بد وأن يرد ذلك إلى الضامن وإن كان
المستوفي هو المالك للعين، ومن الواضح أن هذا أمر لا يمكن الالتزام به
بوجه.
ثم إنه ربما يستنبط ما ذهب إليه ابن حمزة من جملة من الروايات
الواردة في مواضيع شتى، مثل قوله (عليه السلام) في مقام الاستشهاد على كون
منفعة الدار المبيعة في زمان الخيار للمشتري: ألا ترى أنها لو أحرقت
لكانت من ماله، وتفضل (عليه السلام) بنظير ذلك أيضا في رواية أخرى،
وكقوله (عليه السلام) في الرهن: وكذلك يكون عليه ما يكون له (1).

1 - عن إسحاق بن عمار قال: أخبرني من سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وقد سأله رجل وأنا
عنده، فقال له: رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فمشي إلى أخيه فقال له: أبيعك داري هذه
وتكون لك أحب إلى من أن تكون لغيرك، على أن تشترط لي أني إذا جئتك بثمنها إلى سنة
تردها على، قال: لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردها عليه، قلت: فإنها كانت فيها غلة
كثيرة فأخذ الغلة لمن تكون الغلة، فقال: الغلة للمشتري، ألا ترى أنها لو أحرقت لكانت من ماله
(الكافي 5: 171، الفقيه 3: 128، التهذيب 7: 23، عنهم الوسائل 18: 20)، مرسلة. وعن معاوية بن ميسرة قال: سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل باع دارا له
من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط أنك إن أتيتني بمالي ما
بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله، قال: له شرطه، قال له أبو الجارود: فإن ذلك الرجل
قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين، فقال: هو ماله، وقال أبو عبد الله (عليه السلام): أرأيت لو أن
الدار احترقت من مال من كانت تكون الدار دار المشتري (التهذيب 7: 176، عنه الوسائل
18: 20)، مجهولة بمعاوية بن ميسرة، الحاصر: الجدار.
وعن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): الرجل يرتهن الرهن الغلام أو الدار
فيصيبه الآفة على من يكون، قال: على مولاه، ثم قال: أرأيت لو قتل قتيلا على من كأن يكون،
قلت: هو في عنق العبد... ثم قال: أرأيت لو كان ثمنه مائة دينار فزاد وبلغ مائتي دينار لمن كأن يكون، قلت: لمولاه، قال: وكذلك يكون عليه ما يكون له (التهذيب 7: 172)، موثقة بابن
عمار.
408

ويتوجه عليه أن الروايات المذكورة ليست مسوقة لبيان الكبرى
الكلية، بل الغرض منها هو التنبيه على أن الدار ملك للمشتري والرهن
ملك للراهن، فيكون نماء الدار مملوكا لمالكها ونماء الرهن مملوكا
لمالكه، وهذا ظاهر.
حكم المنافع الفائتة بغير استيفاء
قوله (رحمه الله): وأما المنفعة الفائتة بغير استيفاء فالمشهور فيها أيضا الضمان.
أقول: المشهور بين الفقهاء هو أن المنافع الفائتة بغير استيفاء - أيضا -
مضمونة على القابض، بل الظاهر من الحلي هو حكاية الاجماع على
ذلك، حيث حكي عن السرائر (1) في آخر باب الإجارة الاتفاق على ضمان
منافع المغصوب الفائتة، مع قوله في باب البيع إن البيع الفاسد عند
المحصلين يجري مجرى الغصب والضمان، بل يقتضي الحكم بالضمان
صدق عنوان المال على تلك المنافع فإنها عندئذ تكون مشمولة لقاعدة

1 - السرائر 2: 285.
409

من أتلف مال غيره فهو له ضامن، ولكن التحقيق هو عدم الضمان - هنا -
لعدم الدليل عليه وسيتضح لك وجهه.
ثم لا يخفى عليك أن التكلم - هنا - في الضمان وعدمه إنما هو بعد
الفراغ عن الحكم بالضمان في المنافع المستوفاة، أما إذا لم نقل به هناك
فعدمه هنا بالأولوية القطعية.
وأيضا لا يخفى عليك ما في كلام المصنف من الاضطراب، فإنه تارة
يفتي بالضمان وأخرى يفتي بعدمه، وثالثة يتوقف في المسألة.
ثم إن مورد البحث هنا ما إذا لم يكن فوت المنافع من ناحية وضع
القابض يده على المقبوض بالعقد الفاسد، وإلا يكون ذلك من مصاديق
المغصوب ويجري عليه حكمه.
الأقوال في المسألة
ثم إن الأقوال في المسألة ظاهرا خمسة:
1 - الضمان مطلقا، وقد ذهب إليه المشهور.
2 - عدم الضمان كذلك، كما عن فخر المحققين في الإيضاح (1).
3 - التفصيل بين علم البائع بالفساد وبين جهله به، فيحكم بعدم
الضمان في الأول وبالضمان في الثاني (2).
4 - القول بالتوقف في الصورة الثالثة.
5 - التوقف على وجه الاطلاق (3).

1 - إيضاح الفوائد 2: 194.
2 - كما في القواعد 1: 208، على ما استظهره السيد عميد الدين في كنز الفوائد 1: 676،
والمحقق الثاني في جامع المقاصد 6: 324.
3 - كما في الدروس 3: 194، المسالك 3: 154، التنقيح 2: 32.
410

أما القول بالتفصيل، فحيث إنا لم نقل به في المنافع المستوفاة فلا نقول
به هنا أيضا، لأن القائل بعدم الضمان في صورة العلم بالفساد إنما توهم
ذلك من جهة أن المالك قد سلط القابض على ماله لكي يتصرف فيه كيف
يشاء، ولكنا ذكرنا فيما سبق أن إذن المالك في مورد بحثنا إنما كان
مشروطا بحصول الملكية الشرعية وهي لم تحصل، والمفروض أنه
لم يحصل هنا إذن آخر جديد، وإذن فالمسألتان من حيث الضمان
وعدمه سيان.
أما القول بالتوقف، فالظاهر أنه لا يعد رأيا خاصا في المسألة، بديهة
أن واقع التوقف ليس إلا إظهار الجهل بالحكم، ومن البين الذي لا ريب
فيه أن الجهل بالحكم لا يعد قولا برأسه، وإذن فيبقي القولان الأولان
أعني بهما القول بالضمان على وجه الاطلاق والقول بعدمه كذلك.
ويحسن بنا أولا أن نقدم مقدمة أمام البحث عن هذين القولين،
وحاصلها:
أن الغاصب إنما يضمن العين المغصوبة للمغصوب منه بجميع
خصوصياتها الشخصية والنوعية للسيرة القطعية العقلائية، فإنها قائمة
على أن الانسان إذا وضع يده على مال غيره على سبيل القهر والعدوان
لزم عليه رده على مالكه بجميع خصوصياته وشؤونه، ومن الواضح أن
منافع المال تعد من شؤونه، سواء أكانت مستوفاة أم لم تكن كذلك،
فتكون مضمونة على القابض.
ويضاف إلى هذه السيرة أمران:
ألف - قاعدة من أتلف مال غيره فهو له ضامن، وقد عرفت قريبا أن هذه
القاعدة مأخوذة من الأخبار الكثيرة الواردة في مواضيع شتى، ومن
الواضح أن الغاصب قد أتلف المنافع المترتبة على المغصوب فتكون
مضمونة عليه.
411

ب - الأخبار الدالة على وجوب رد المغصوب على المغصوب منه (1)،
فإن الظاهر منها هو رد ذلك عليه مع جميع شؤونه وخصوصياته ولم نجد
مخالفا في ذلك من الخاصة والعامة، إلا الحنفية (2).
نعم قد عرفت ذهاب ابن حمزة إلى عدم الضمان في منافع العين
المقبوضة بالعقد الفاسد، سواء في ذلك المنافع المستوفاة وغيرها،
ولكن ذلك غريب عن المغصوب.
وعلى هذا فيجب على الغاصب رد العين المغصوبة على المغصوب
منه بجميع منافعها حتى المنافع الفائتة بغير استيفاء، وإذا تلفت العين
انتقل الضمان إلى المثل أو القيمة، ولعل هذا المعنى هو المقصود من
العبارة المعروفة بين المحصلين، من أن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال،
وإلا فلا وجه لها بوجه، نعم لا يحكم بكون المغصوب مضمونا على
الغاصب بالخصوصيات الشخصية التي لا دخل لها في زيادة المالية،
ضرورة أنه لا دليل على الضمان في أمثال ذلك.
ثم لا يخفى عليك أن الغاصب إنما يضمن المنافع الفائتة إذا استند
فوتها إليه، أما لو استند ذلك إلى المالك فلا ضمان عليه لعدم الدليل على
ضمان الغاصب في أمثال ذلك.
ومثاله أنه إذا كان من طبع المالك الانتفاع من ماله في زمان دون زمان
وغصبه الغاصب وتركه على حالته الأولية لم يضمن إلا بمنافعه
المستوفاة دون منافعه الفائتة بغير استيفاء، فالمنافع التي لا تكون العين
معدة لاستيفائها لا تضمن بغير استيفاء.

1 - الكافي 7: 412، الفقيه 3: 7، التهذيب 6: 225، عنهم الوسائل 25: 384.
2 - قد أشرنا إلى رأيهم قبيل هذا.
412

ما استدل بضمان المنافع مطلقا
إذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أنه ذهب جمع من الأصحاب إلى
ضمان المنافع مطلقا لوجوه:
1 - حديث ضمان اليد، بدعوى أنه شامل للمنافع الفائتة بغير استيفاء
لكونها مقبوضة بتبع قبض العين، ومن هنا يتحقق قبض المنفعة بقبض
العين المستأجرة، فتدخل المنفعة بذلك في ضمان المستأجر، ويتحقق
قبض الثمن في السلم بقبض الجارية التي جعلت خدمتها ثمنا، وكذلك
يتحقق قبضه بقبض الدار التي جعل سكناها ثمنا.
ويرد عليه:
أولا: أن حديث ضمان اليد ضعيف السند وغير منجبر بشئ، وقد
عرفته فيما تقدم (1).
ثانيا: أنه لا يشمل المنافع المستوفاة فضلا عن شموله للمنافع غير
المستوفاة، وقد تقدم ذلك قريبا (2).
ثالثا: أنا لو سلمنا شموله للمنافع المستوفاة إلا أنه لا يشمل المنافع
الفائتة بغير استيفاء، لأن لفظ الأخذ في الحديث المزبور وإن كان كناية
عن الاستيلاء على الشئ ولكن لا يصح تعلقه بالمنافع الفائتة بغير
استيفاء، لعدم تحققها بالفعل وإن كانت موجودة بالقوة، إلا أن الوجود
الاستعدادي لا يصحح صدق الاستيلاء الموجب للضمان، نعم إذا
قدرت هذه المنافع المعدومة بتقدير خاص كما في الإجارة صح تعلق
الاستيلاء بها.

1 - مر في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
2 - مر في البحث عن حكم المنافع المستوفاة.
413

قيل: إن المنافع غير المستوفاة كما لا تقبل الأخذ كذلك لا تقبل
القبض أيضا، لأن قبضها عبارة عن استيفائها، ومعه تخرج عن حد العدم
وتصير من قبيل المنافع المستوفاة، وإذن فتكون خارجة عن مركز بحثنا
لأن مورد بحثنا هنا إنما هو المنافع الفائتة بغير استيفاء لا المنافع
المستوفاة.
والجواب عن ذلك أن القبض يختلف حسب اختلاف الموارد لأنه قد
يتحقق بالتخلية بين المال ومالكه، وقد يتحقق بالأخذ، وقد يتحقق
بارجاع أمر الشئ إلى شخص، ومن البين أن قبض المنافع غير المستوفاة
إنما يتحقق بارجاع زمام العين ورقبتها إلى مالك منافع العين، وهذا
المعنى لا يستلزم استيفاء المنافع.
وقال المحقق الخراساني: إن مورده - أي حديث ضمان اليد - وإن
كان مختصا بالأعيان إلا أن قضية كونها مضمونة ضمان منافعها، فضمان
المنافع في الإجارة الفاسدة إنما يكون بتبع ضمان العين المستأجرة،
وبالجملة قضية ضمان اليد ضمان المنافع فيما كانت العين مضمونة بها،
فاختصاص مورده بالأعيان لا يوجب اختصاص الضمان بها (1).
ويتوجه عليه أنه إن كان غرضه من هذه العبارة أن مالية الأعيان باعتبار
منافعها المرغوبة للعقلاء، فضمان العين يستلزم ضمان ماليتها المتقومة
بالمنافع، فهو متين، لأن العين بما هي هي ليست لها مالية بوجه بل ماليتها
بلحاظ منافعها، ولكن لا دلالة في ذلك على ضمان المنافع المستوفاة
فضلا عن ضمان المنافع غير المستوفاة وهذا واضح، وإن كان غرضه من
العبارة المذكورة أن الضمان الأعيان علة لضمان منافعها فهو مصادرة
واضحة.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الخراساني: 31.
414

أضف إلى ذلك أن ضمان المنافع المستوفاة أمر بديهي وإن لم تكن
العين مضمونة، كما إذا استوفي عمل حر حيث إن الحر بنفسه غير
مضمون ولكن عمله مضمون.
2 - قوله عجل الله تعالى فرجه: فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال
غيره بغير إذنه (1).
ويتوجه عليه:
أولا: إنه ضعيف السند وغير منجبر بشئ، فلا يمكن الاستناد إليه في
شئ من المسائل الفقهية.
ثانيا: إن نسبة عدم الحل إلى التصرف في مال الغير ظاهرة في الحكم
التكليفي لا في الحكم الوضعي ولا في الأعم منهما، وعليه فلا دلالة في
الرواية على ضمان الأعيان فضلا عن دلالتها على ضمان المنافع.
ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بالروايات الدالة على عدم حلية
مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه على الضمان هنا (2)، ضرورة أن الظاهر من
نسبة الحل إلى المال إنما هو إرادة حرمة التصرف فيه على ما ذكرناه
مرارا، ومن البين أن هذا لا يناسب إلا الحرمة التكليفية لا الحرمة
الوضعية، كما أن المراد من حرمة الأمهات والبنات والخالات حرمة
نكاحهن، وإذن فتبعد الروايات المزبورة عن الدلالة على الحكم الوضعي
أعني به الضمان.
3 - قوله (عليه السلام) في جملة من الروايات: حرمة ماله - أي المؤمن -
كحرمة دمه (3)، بدعوى أن مالية الأعيان باعتبار تنافس العقلاء فيها،

1 - مر ذكر مصادر الحديث في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
2 - مر ذكر مصادر الحديث في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
3 - مر ذكر مصادر الحديث في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
415

وعليه فنفس المنافع من الأموال بل من مهماتها، وإذا ثبت كونها من
الأموال شملتها الجملة الشريفة المذكورة فيثبت بذلك احترامها
وضمانها.
ويتوجه على هذا الاستدلال أن الجملة المزبورة وإن وردت في موثقة
ابن بكير وغيرها ولكن لا دلالة فيها على الضمان بوجه (1).
4 - قاعدة نفي الضرر (2)، حيث إن الحكم بعدم ضمان القابض منافع ما
قبضه من الأعيان ضرر على المالك.
ويتوجه عليه أن الحكم بضمان القابض ضرر عليه أيضا فتقع
المعارضة في شمول القاعدة لكلا الطرفين.
ويضاف إلى ذلك أن القاعدة المذكورة إنما تنفي الأحكام الضررية
ولا دلالة فيها على اثبات حكم آخر الذي يلزم الضرر من عدم جعله.
5 - قاعدة من أتلف، وقد استدل بها السيد في حاشيته عند قول
المصنف: فالمشهور فيها أيضا الضمان، وإليك نصه: هذا هو الأقوى
بمعنى أن حالها حال العين لقاعدة الاتلاف، فإن الاستيلاء على العين
ومنع المالك عن الانتفاع بها تفويت لمنافعها ويصدق عليه الاتلاف
عرفا، ولذا نحكم بالضمان لها في الغصب (3).
ويتوجه عليه أنا نمنع صدق التفويت على المنافع الفائتة بغير استيفاء
إلا إذا استند الفوت إلى القابض، بأن وضع يده على مال الغير وحبسه،
بحيث لا يتمكن مالكه من التصرف فيه، وحينئذ فيكون شأن المقبوض
بالعقد الفاسد شأن المغصوب.

1 - قد عرفت مر تفصيل ذلك في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
2 - قد تقدم ما يرجع إلى هذه القاعدة في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
3 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 96.
416

6 - الاجماع، وقد استظهره المصنف من السرائر والتذكرة (1)، واستند
إليه في الحكم بالضمان هنا.
ويرد عليه أنه لا وجه لدعوى الاجماع في أمثال هذه المسائل
الخلافية، إذ من المحتمل القريب أن يكون مدرك القائلين بالضمان هنا ما
ذكرناه من الوجوه الماضية، ويتضح هذا المعنى لمن أعطف النظر على
كلماتهم في المقام.
ومن هنا ناقش السيد في كلام المصنف وقال: الانصاف أنا لو فرضنا
عدم تمامية ما ذكرناه من الأدلة على الضمان لا وجه للقول به من جهة
هذين الاجماعين المنقولين بعد عدم حجية الاجماع المنقول وعدم
معلومية الشمول للمقام (2).
والعجب من شيخنا الأستاذ حيث دفع المناقشة المزبورة بأن:
اختياره - أي المصنف - الضمان أخيرا ليس لاعتماده على الاجماع
المنقول، مع أنه قدس سره منكر لحجيته في الأصول بل اعتمد على نقل
الاجماع من جهة كشف اتفاق الأعلام على شمول قاعدة اليد والاحترام
للمنافع (3).
ووجه العجب أن المصنف قد ناقش في كلتا القاعدتين صريحا في
صدر كلامه، وحكم بعدم امكان التمسك بهما - هنا - ومعه كيف يعتمد
عليهما في ذيل كلامه، والمصنف وإن ناقش في حجية نقل الاجماع في
فرائده إلا أنه اعتمد عليه في محل البحث وغيره.
ونتيجة البحث إلى هنا هي أن المقبوض بالعقد الفاسد لا يضمن

1 - السرائر 2: 479، التذكرة 2: 381.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 96.
3 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 333.
417

بمنافعه غير المستوفاة لعدم الدليل عليه.
ويؤيد ما ذكرناه من عدم الضمان هنا ما ورد من الروايات في ضمان
المنافع المستوفاة من الجارية المسروقة المبيعة (1)، فإن هذه الأخبار مع
ورودها في مقام البيان غير متعرضة لضمان بمنافعها غير المستوفاة.
وأيضا يؤيد ذلك خبر محمد بن قيس الذي ورد فيمن باع وليدة أبيه
بغير إذنه، فقال الإمام (عليه السلام): الحكم أن يأخذ الوليدة وابنها (2)، وسكت
(عليه السلام) عن بيان الضمان في المنافع غير المستوفاة.
ويضاف إلى ذلك كله أن المنافع غير المستوفاة في المقبوض بالعقد
الفاسد مورد لقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، ضرورة أن
صحيح البيع لا يوجب ضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء، لأنها ملك
للمشتري مجانا كذلك البيع الفاسد.
وهذا لا ينتقض بالقول بالضمان في المنافع المستوفاة وذلك لصدق
الاتلاف على استيفائها فتكون مندرجة تحت قاعدة من أتلف مال غيره
فهو له ضامن.
قيل: إن المقبوض بالعقد الفاسد والمغصوب سيان في ذلك،
والالتزام بالتفكيك بينهما لا يتفق مع القواعد الفقهية.
والجواب عن ذلك أن الفارق بينهما كالشمس في كبد السماء، لأن

1 - قد ذكرناها في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
2 - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه
غائب، فاستولدها الذي اشتراها فولدت منه غلاما، ثم جاء سيدها الأول فخاصم سيدها الآخر،
فقال: وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال: الحكم أن يأخذ وليدته وابنها، فناشده الذي
اشتراها، فقال له: خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينقد - في التهذيب: ينفذ - لك البيع، فلما
أخذه قال له أبوه: أرسل ابني، قال: لا والله، لا أرسل إليك ابنك حتى ترسل ابني، فلما رأى
ذلك سيد الوليدة أجاز بيع ابنه (الكافي 5: 211، الإستبصار 3: 85)، صحيحة.
418

الغاصب إنما يأخذ المال من المغصوب منه بالقهر والعدوان، فيكون
مضمونا عليه بجميع خصوصياته، وهذا بخلاف المقبوض بالعقد
الفاسد، فإن المالك قد دفعه إلى القابض باختياره، والمفروض أنه لا
يمنع المالك عن التصرف فيه بوجه، وعليه ففوت المنافع إنما استند إلى
نفس الدافع لا إلى القابض وإذن، فلا وجه لقياس المقبوض بالعقد الفاسد
بالمغصوب، وعليه فتصبح المنافع الفائتة بغير استيفاء غير مضمونة في
المقبوض بالعقد الفاسد.
4 - الدليل على ضمان المثل في المثلي وضمان القيمة في القيمي
قوله (رحمه الله): الرابع: إذا تلف المبيع فإن كان مثليا وجب مثله بلا خلاف، إلا ما
يحكي عن ظاهر الإسكافي (1).
أقول: لا يخفى عليك أن ظاهر عبارة المصنف هو ذهاب الإسكافي
إلى ضمان القيمة في المثلي، وهذا مناف لما سيأتي منه قريبا من نسبته
ضمان المثل في القيمي إلى الإسكافي (2)، والمظنون قويا - والله العالم -
هو وقوع السقط في عبارته هنا، فكأنه قال: إذا تلف المبيع فإن كان مثليا
وجب مثله وإن كان قيميا وجبت قيمته، بلا خلاف في ذلك بين
الأصحاب إلا عن الإسكافي، فإنه حكم بضمان المثل في القيمي أيضا.
وكيف كان فقد استدل على ضمان المثل في المثلي وضمان القيمة
في القيمي بوجوه شتى:

1 - حكاه العلامة في المختلف 6: 131، والشهيد في غاية المراد: 135.
2 - قال في الأمر السابع: لو كان التالف المبيع فاسدا قيميا فقد حكي الاتفاق على كونه
مضمونا بالقيمة، ثم قال بعد أسطر: فقد حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي.
419

1 - قوله (صلى الله عليه وآله): على اليد ما أخذت حتى تؤديه (1).
ويرد عليه أنه لا دلالة فيه على مذهب المشهور، أعني به الحكم
بضمان المثل في المثلي وضمان القيمة في القيمي، لأن الظاهر منه هو
ثبوت العين بدءا في عهدة الآخذ، وإذا تعذر أداؤها بعينها انتقل الضمان
إلى المثل، وإذا تعذر المثل أيضا انتقل إلى القيمة من غير فرق في ذلك
بين المثلي والقيمي.
ولا ريب في أن هذا المعنى لا ينطبق على مذهب المشهور انطباقا
تاما، بل مقتضاه أن ضمان القيمة في طول ضمان المثل كما أن ضمان
المثل في طول الضمان بنفس العين التي أخذت من مالكها بغير سبب
شرعي.
وقد ظهر لك مما ذكرناه فساد ما قيل، من أن حديث ضمان اليد غير
متعرض لأداء البدل بل هو ظاهر في وجوب رد العين إلى مالكها،
ولا شك في أن هذا الوجوب يسقط بتلف العين.
كما أنه ظهر لك مما بيناه أيضا فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ، من أن
وجوب رد العوض مشروط بكون التالف: مما يتمول عرفا وشرعا،
فمثل الخنفساء والخمر وإن وجب ردهما حين بقائهما لجهة حق
الاختصاص الثابت لمن أخذ منه إلا أنه بعد تلفهما لا يتعلق بهما ضمان.
ووجه الفساد هو أن وضع اليد على متعلق حق الغير بدون سبب
شرعي يوجب ضمانه، وإذا تلف ذلك أنتقل ضمانه إلى المثل، نعم إذا
تعذر المثل أيضا بقي التالف في عهدة الضامن، إذ المفروض أنه ليس
بمال لكي ينتقل ضمانه مع تعذر مثله إلى قيمته.

1 - قد تقدم ما يرجع إلى هذا الحديث وما يأتي في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما
يضمن، فراجع.
420

ولكن الذي يسهل الخطب هو أن حديث ضمان اليد ضعيف السند و
غير منجبر بشئ، كما سمعته مرارا، فلا يمكن الاستناد إليه في شئ من الأحكام الفرعية.
2 - ما دل على احترام مال المؤمن، وأن حرمة ماله كحرمة دمه.
ولكن قد عرفت فيما سبق عدم دلالته على الضمان بوجه، بل الظاهر
منه هو الحكم التكليفي، وعليه فيدل على حرمة التصرف في مال المؤمن
بدون إذنه وطيب نفسه.
ويضاف إلى ذلك أنا لو سلمنا دلالته على ثبوت الضمان ولكن لا نسلم
دلالته على ضمان المثل في المثلي وعلى ضمان القيمة في القيمي، بل
مفاده إنما هو ثبوت الضمان بالبدل الواقعي.
3 - الروايات الدالة على أن الأمة المبتاعة إذا وجدت مسروقة - بعد أن
أولدها المشتري - أخذها صاحبها وأخذ المشتري ولده بالقيمة، حيث إن حكم
الإمام (عليه السلام) بضمان قيمة الولد ظاهر في أن ضمان القيمي بالقيمة.
والجواب عن ذلك أن هذه الروايات وإن كانت صريحة في الضمان إلا
أنها غير ظاهرة في ضمان المثل في المثلي وفي ضمان القيمة في
القيمي، نعم هي غير خالية عن الاشعار بذلك، وقد تقدم ما يرجع إلى
هذه الروايات عند البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
4 - دعوى الاجماع على ضمان المثل في المثلي وعلى ضمان القيمة
في القيمي.
ويتوجه عليه أنا ذكرنا مرارا أن الاجماع لا يكون حجة إلا مع القطع
بكشفه عن رأي المعصوم (عليه السلام)، ومن البين الذي لا ريب فيه أن العلم بذلك
مشكل جدا، بل المظنون قويا هو استناد المجمعين - هنا - إلى الوجوه
المتقدمة، ولا يفرق فيما ذكرناه بين الاجماع المنقول والاجماع
المحصل.
421

أضف إلى ذلك أن الاجماع - هنا - قد انعقد على مفهوم مجمل
لا مفهوم مبين لكي يكون النزاع عند الشك في أن الضمان بالمثل أو
القيمة في تطبيق المفهوم المبين على المشكوك فيه، وهذا ظاهر لا خفاء
فيه.
5 - قوله تعالى: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم (1)، وعن الشيخ أنه استدل بهذه الآية في المبسوط والخلاف (2) على
ضمان المثل في المثلي وضمان القيمة في القيمي، بدعوى أن المماثلة
إنما تقتضي ذلك.
ولكن الظاهر أنه لا دلالة فيها على ما يرومه المستدل، إذ الاستدلال بها
على ذلك يتوقف على أمور ثلاثة:
الأول: أن تكون كلمة ما في الآية الكريمة موصولة لا مصدرية.
الثاني: أن يراد من هذه الكلمة الموصولة الشئ المعتدي به، بأن يكون
المعنى: فاعتدوا عليه بمثل الشئ الذي اعتدي به عليكم.
الثالث: أن يراد من كلمة المثل في الآية الشريفة المثل في المثلي
والقيمة في القيمي، وأنى للمستدل اثبات هذه الأمور كلها.
أما الأمر الأول فيرده أنه لا قرينة على أن يراد من كلمة: ما كونها
موصولة، بل يحتمل أن تكون مصدرية غير زمانية، وعليه فتكون معنى
الآية: أنه اعتدوا عليه بمثل اعتدائه عليكم، وإذن فتختص الآية بالاعتداء
بالأفعال، وتبعد عن مورد البحث، بداهة أن مماثل الاتلاف هو الاتلاف
دون الضمان، ومن الواضح أن هذا الاحتمال يمنع عن الاستدلال بالآية
الكريمة على المقصود.

1 - البقرة: 194.
2 - المبسوط 3: 65، الخلاف 3: 402.
422

بل المحكي عن المحقق الأردبيلي في آيات أحكامه هو تعين هذا
الاحتمال، فإنه بعد ما ذكر جملة من الآيات التي منها الآية المتقدمة
الظاهرة في جواز الاعتداء بالمثل قال: فيها دلالة على جواز القصاص
في النفس والطرف والجروح، بل جواز التعويض مطلقا، حتى ضرب
المضروب وشتم المشتوم بمثل فعلهما - إلى أن قال: - وتدل على عدم
التجاوز عما فعل به وتحريم الظلم والتعدي.
أما الأمر الثاني فيرده أنه لا قرينة على أن المراد من الشئ هو
المعتدي به، أعني به الأعيان الخارجية من النقد والعرض، بل يحتمل
أن يراد به الفعل أعني به الاعتداء، وعليه فتكون الآية غريبة عن غرض
المستدل، حتى مع جعل كلمة: ما فيها موصولة.
ويحتمل أن يراد من الشئ ما هو الأعم من الفعل والمعتدي به،
وحينئذ فتدل الآية على جواز اعتداء المضروب بالضرب واعتداء
المشتوم بالشتم، وعلى جواز اتلاف المال في مقابل الاتلاف، وعلى
جواز أخذ الحنطة بدل الحنطة، وأخذ الفضة بدل الفضة وهكذا.
وعلى هذا الاحتمال لا يستفاد من الآية الضمان - أيضا - بل ولا جواز
تملك المغصوب منه شيئا مما أخذه من الغاصب، بل غاية ما يستفاد منها
حينئذ إنما هو جواز التصرف في أموال الغاصب على سبيل التقاص
بلا كونها ملكا للمتصرف، ضرورة أنه لا ملازمة بين جواز التصرف في
شئ وبين كونه ملكا للمتصرف، ومن هنا يجوز التصرف في المأخوذ
بالمعاطاة مع عدم كونه ملكا للآخذ، بناءا على أنها تفيد الإباحة فقط.
ولو أغمضنا عن جميع ذلك وسلمنا اختصاص لفظ الموصول
بالشئ المعتدي به، ولكن لا نسلم انطباق الآية على مسلك المشهور من
جميع الجهات، بديهة أن مفاد الآية على هذا المنهج إنما هو الاعتداء
423

بمثل المعتدي به، وعليه فتكون الآية ظاهرة في ضمان المثل في كل من
المثلي والقيمي، وحينئذ فإذا تعذر المثل كان دفع القيمة بدلا عن المثل
الثابت في الذمة لا بدلا عن العين التالفة ابتداءا، كما يرومه المستدل.
أما الأمر الثالث فيرده عدم وجود القرينة على إرادة ضمان المثل من
الآية في المثلي وإرادة ضمان القيمة في القيمي، لأن المماثلة لا تقتضي
هذا المعنى بل هي أعم من ذلك.
وتحصل من جميع ما ذكرناه أنه لا دلالة في شئ من الوجوه الماضية
على مسلك المشهور، أعني به ضمان المثل في المثلي وضمان القيمة
في القيمي.
والتحقيق أن يستدل على ذلك بالسيرة، كما أنا اعتمدنا عليه في القول
بالضمان في أصل المسألة، أعني بها مسألة المقبوض بالعقد الفاسد،
وبيان ذلك:
إن العقلاء متفقون على أن الانسان إذا أخذ مال غيره ووضع يده عليه
بغير سبب شرعي ضمنه بجميع خصوصياته الشخصية والمالية
والنوعية، وأنه لا يخرج عن عهدته إلا برد عينه على مالكه، وإذا تلفت
العين وجب على الضامن رد ما هو أقرب إليها، لأن تلفها لا يسقط الضمان
عنه جزما.
ومن الواضح أن الأقرب إلى العين التالفة إنما هو المثل في المثلي
والقيمة في القيمي، وعلى هذا فلا يكتفي برد أحدهما في موضع الآخر
إلا برضى المالك، وهذا واضح لا شك فيه.
ويؤيد ذلك أن المرتكز في أذهان العقلاء هو أنه لا يحصل فراغ الذمة
إلا بأداء المثل في المثلي وبأداء القيمة في القيمي.
424

تعريف المثلي والقيمي
قد اختلفت كلمات الفقهاء في ذلك، فعن الشيخ والحلي والمحقق
والعلامة (1) وجمع آخر (2) أن المثلي ما تتساوى أجزاؤه من حيث القيمة، بل
هذا هو المشهور بين الأصحاب (3).
وعن التحرير (4) أنه ما تماثلت أجزاؤه وتقاربت صفاته، وعن الدروس
والروضة (5) أنه المتساوي الأجزاء والمنفعة المتقارب الصفات، وعن غاية
المراد أنه ما تتساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعية.
وعن بعض العامة (6) أنه ما قدر بالكيل والوزن، وعن آخر منهم (7) زيادة
جواز بيعه سلما، وعن ثالث منهم زيادة جواز بيع بعضه ببعض، وإلى
غير ذلك من التعاريف (8)، أما القيمي فعرفوه بعكس ما عرفوا به المثلي.
ثم إنه قد كثر النقض والابرام حول التعاريف المذكورة، تارة بعدم
الاطراد، وأخرى بعدم الانعكاس، وثالثة من سائر الجهات، ولكن
لا يهمنا التعرض لشئ من تلك التعاريف ولا التعرض لما يتوجه عليها

1 - المبسوط 3: 59، السرائر 2: 480، الشرايع 3: 239، القواعد 1: 203.
2 - كالفاضل الآبي في كشف الرموز 2: 382، وابن زهرة في الغنية: 278، وأبي العباس في
مهذب البارع 4: 251.
3 - حكاه الشهيد الثاني في المسالك 2: 208 (الطبع الحجري)، والسبزواري في الكفاية
: 257، والسيد الطباطبائي في الرياض 2: 303.
4 - التحرير 2: 139.
5 - الدروس 3: 116.
6 - بداية المجتهد 2: 317، المغني لابن قدامة 5: 239، المحلى 6: 437.
7 - راجع مغني المحتاج 2: 281.
8 - راجع التذكرة 2: 381.
425

من المناقشات، ضرورة أن لفظي المثلي والقيمي لم يردا في آية ولا في
رواية ولا انعقد عليهما اجماع، لا المحصل ولا المنقول، لكي نبحث
عنهما تارة من حيث الشرح والتفسير، وأخرى من حيث الاطراد
والانعكاس، وثالثة من سائر الجهات، بل ذكرهما الفقهاء لتعيين ما
وجب على الضامن حين الأداء، ولعل هذا هو المقصود من التعاريف
المذكورة من غير أن يجعلونها تعاريف حقيقية.
ولعله من هذه الجهة أضيف إلى تعريف المثلي أنه يجوز بيعه سلما أو
بعضه ببعض كما عرفته قريبا، إذ لو كان الغرض من تلك التعاريف
التعاريف الحقيقية لما جاز ذكرهما فيها لأنهما من الأحكام الشرعية،
فلا معنى لأخذها في التعريف، وإذن فالتعاريف المذكورة وغيرها كلها
تعاريف لفظية، وإنما ذكرت هنا لبيان غرض وحداني، فاللازم علينا هو
بيان هذا الغرض الوحيد.
وتوضيح ذلك اجمالا: أن أوصاف الأشياء على قسمين: إذ قد يكون
لها دخل في المالية، وقد لا يكون لها دخل في المالية بوجه.
أما القسم الثاني فهو خارج عن مركز بحثنا لعدم دخله في مالية
الموصوف فلا يكون تفويته موجبا للضمان.
أما القسم الأول فإن كانت للموصوف أفراد متماثلة بحسب النوع أو
الصنف فهو مثلي، ضرورة أن أفراد الكلي مع فرض تماثلها متساوية
الاقدام ومتقاربة الأوصاف من دون تفاو ت بينها في نظر العرف وإن كان
بينها فرق بالدقة العقلية، وإن لم يكن الموصوف كذلك فهو قيمي.
وعلى هذا فالمراد من كلمة الأجزاء التي ذكرت في التعاريف
المتقدمة إنما هو أفراد الطبيعة لا أجزاء المركب، كما هو واضح، وهذا
هو الحجر الأساسي والضابط الكلي في المقام.
426

وقد اتضح لك مما بيناه أن التماثل بين أفراد الموصوف يختص في
الخارج بالاتحاد النوعي والصنفي، أما الاتحاد الجنسي فهو بنفسه
لا يصحح التماثل في جميع الموارد، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
ثم لا يخفى عليك أن المثلي والقيمي يختلفان بحسب الأزمنة
والأمكنة، فإن الأثواب وإن كانت من القيميات في الأيام السالفة ولكنها
أصبحت من المثليات غالبا في العصر الحاضر، لأن أكثرها منسوج بنسج
واحد وأنها متماثلة الأفراد في الخارج غالبا.
ومن هنا ظهر أن النقود الرائجة من المثليات لتساوي أفرادها على
النهج المزبور، أما الجواهر فهي قيمية، لاختلاف أفرادها غالبا إذ قد
يساوي مقدار حمصة من الياقوت - مثلا - ربع دينار، ويسوي فرد آخر
منه بالمقدار المزبور مائة دينار، وهكذا الفيروزج وأشباهه.
وعلى الجملة أن التأمل فيما بيناه من الضابط الكلي للمثلي والقيمي
يوضح لنا الشبهات الواردة على تعاريفهما، فافهم واغتنم.
الضابط فيما شك في كونه مثليا أو قيميا
قد وقع الخلاف بين الفقهاء في كثير من الأشياء أنها مثلية أو قيمية:
منها الذهب والفضة المسكوكان، فقد حكي التصريح عن الشيخ في
المبسوط (1) بكونهما قيميين، وظاهر غير واحد من الفقهاء (2) أنهما مثليان.
ومنها الحديد والنحاس والرصاص، فإن الظاهر من العبائر المحكية

1 - المبسوط 3: 61.
2 - كالمحقق في الشرايع 3: 240، والعلامة في التحرير 2: 139، والتذكرة 2: 384،
المختلف 6: 122، والشهيد في الدروس 3: 116، ونسبه الشهيد الثاني إلى المشهور، راجع
المسالك 2: 209، وفي الكفاية: 258 مثله.
427

عن المبسوط والغنية والسرائر (1) أنها من قبيل القيميات، ولكن حكي
التصريح عن العلامة في التحرير (2) بأن أصولها مثلية إلا أن المصوغ منها
قيمي.
ومنها الرطب والعنب والزبيب والتمر، حيث حكي التصريح عن
الشيخ في المبسوط (3) بكون الأولين قيميين وكون الأخيرين مثليين، وعن
العلامة في المختلف (4) أن في الفرق اشكالا، بل ذكر المصنف أنه صرح
بعض من قارب عصرنا (5) بكون الرطب والعنب مثليين، وإلى غير ذلك من
الموارد الكثيرة التي لم يستوضح كونها مثلية أو قيمة.
وكذلك لم يستوضح أن الأصل اللفظي في الموارد المشكوكة هل
يقتضي كونها مثلية إلا ما خرج بالدليل أم يقتضي كونها قيمية إلا ما خرج
بالدليل، ولعل الوجه في ذلك أن الأئمة (عليهم السلام) قد أغفلوا هذه الجهات
ولم يتفضلوا بما هو الضابط الكلي في ذلك، بل إنما تعرضوا لبيان أصل
الضمان في موارد شتى ولم يتعرضوا لكيفية الضمان إلا في موارد قليلة.
وعليه فإذا علمنا بكون شئ مثليا أو قيميا، لانطباق ما ذكرناه من
الضابط الكلي عليه، فهو وإن شك في ذلك فلا بد من الرجوع إلى الأصول
العملية.
وقرروا ذلك بوجوه شتى:
1 - القول بضمان المثل فقط لا غير.

1 - المبسوط 3: 60، الغنية: 278، السرائر 2: 480.
2 - التحرير 2: 139.
3 - المبسوط 3: 99.
4 - المختلف 6: 135.
5 - صرح به المحقق القمي في جامع الشتات (الطبع الحجري) 2: 543.
428

2 - القول بضمان القيمة فقط لا غير.
3 - القول بتخيير المالك بين المثل والقيمة.
4 - القول بتخيير الضامن بينهما.
أما الوجه في الحكم بضمان المثل فقط، فلأن الواجب على الضامن
ابتداء إنما هو أداء المثل حتى في القيميات لكونه أقرب إلى التالف من
غيره، أما أداء القيمة في القيميات فإنما هو من باب الارفاق للضامن، إذ
لا يوجد - غالبا - مثل القيميات في الخارج، ثم إن فراغ الذمة بأداء ما
يحتمل تعينه قطعي وبأداء غيره مشكوك فيه فالأصل هو عدم سقوط ما
في ذمة الضامن إلا بأداء المثل، لأنه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير
وجب الأخذ بما احتمل تعينه.
ويرد عليه أن الواجب على الضامن ابتداء إنما هو أداء القيمة في
القيميات دون أداء المثل وقد عرفت ذلك قريبا.
ويضاف إلى ذلك أنا لو سلمنا صحة المبني إلا أنا لا نسلم صحة البناء،
وذلك لأن القاعدة تقتضي الالتزام بالتعيين تارة وبالتخيير أخرى
لا الحكم بالأخذ بما احتمل تعينه.
وبيان ذلك أنه إذا كان هنا حكم واحد ودار أمره بين التعيين، لاحتمال
الأهمية، وبين التخيير، حكم بالتخيير ولم يؤخذ بمحتمل الأهمية.
وإذا كان هنا حكمان ودار أمرهما بين التعيين والتخيير في مرحلة
الامتثال والفعلية من ناحية المزاحمة، وجب الأخذ بما احتمل تعينه،
والوجه في ذلك أن المزاحمة بين الحكمين في باب المزاحمة إنما نشأت
من شمول الاطلاق في كل من الحكمين لحال الاتيان بمتعلق الآخر، وإذا
استحال امتثالهما معا في مورد المزاحمة لم يبق كلا الاطلاقين معا على
حالهما، وعليه فإن كان أحد الحكمين بالخصوص أهم من الآخر أخذ به
وسقط الاطلاق في ناحية المهم.
429

وإذا كان ملاك كل منهما مساويا لملاك الآخر سقط كلا الاطلاقين
لبطلان الترجيح بلا مرجح، وإذا كان أحد الحكمين محتمل الأهمية
وجب الأخذ به وسقط الاطلاق في غيره قطعا، والوجه في ذلك أنه
لا يجوز للمكلف تفويت الغرض الملزم بعد احرازه إلا بعجزه عن
الامتثال تكوينا، أو بتعجيز المولى إياه بأن يأمره بما لا يجتمع معه في
الخارج، وإذا لم يوجد شئ من الأمرين حكم العقل بقبح التفويت
واستحقاق العقوبة عليه.
وعلى هذا فإذا كان أحد الحكمين المتزاحمين معلوم الأهمية
فلا شبهة في وجوب الأخذ به، لأن الملاك في الطرف الآخر وإن كان
ملزما في نفسه إلا أن تفويته مستند إلى تعجيز المولي، ضرورة أن
المولي قد أمر المكلف بصرف قدرته في الأهم، فإذا أتاه المكلف كان
معذورا في ترك المهم وتفويت ملاكه، وهذا بديهي لا ريب فيه.
وإذا كان أحد الحكمين المتزاحمين محتمل الأهمية فأيضا لا شبهة
في لزوم الأخذ به، وذلك لما عرفته - قريبا - من أنه لا يجوز للمكلف
عقلا أن يترك الملاك الملزم بعد احرازه إلا بالعجز عن الامتثال تكوينا أو
تشريعا، ومن الواضح أن المكلف قادر على الامتثال بمحتمل الأهمية
ولو بترك الآخر، وإذن فلا يجوز ترك محتمل الأهمية لحكم العقل
بالاشتغال واستحقاق العقاب على تحركه من غير عذر.
ولا يخفى عليك أن هذه الكبرى التي قدمناها في المتزاحمين
لا تجري في فرض اتحاد الحكم الذي دار أمره بين التعيين والتخيير،
كالشك في أن تقليد الأعلم واجب تعييني أو أن المكلف مخير بينه وبين
تقليد غير الأعلم، حيث إن - هنا - حكما واحدا يحتمل تعلقه بالمعين
ويحتمل تعلقه بالجامع بينه وبين غيره، وحينئذ فتعلقه بالجامع معلوم
وبالخصوص مجهول فيدفع بالبراءة.
430

وبعبارة أخرى أنا نعلم في أمثال ذلك بتعلق التكليف في الجملة
بالجامع الانتزاعي الذي يعبر عنه بعنوان أحد الشيئين، ولكنا نشك في
كونه مأخوذا على نحو الاطلاق أو متقيدا بقيد خاص، ومن الواضح أن
الشك في أمثال ذلك وإن كان شكا في الامتثال إلا أن منشأ ذلك هو الشك
في اطلاق الحكم وتقيده، فإذا رفعنا احتمال التقيد بأصالة البراءة ارتفع
الشك في الامتثال أيضا، وإذن فيحكم بالتخيير وبجواز الاكتفاء بكل
واحد من الطرفين في مرحلة الامتثال.
ومقامنا من هذا القبيل لأن ثبوت مالية التالف في ذمة الضامن معلوم إلا
أن ثبوت تعينها بخصوص المثل مشكوك فيه فيدفع بالبراءة، واذن
فاحتمال تعين المثل من ناحية لزوم الأخذ بمحتمل الأهمية عند دوران
الأمر بين التعيين والتخيير ضعيف جدا.
ولكن التحقيق مع ذلك هو تعين الضمان بالمثل عند الشك في ضمان
المثل أو القيمة، والوجه في ذلك هو قيام السيرة القطعية على أن وضع
اليد على مال الغير بلا سبب شرعي موجب للضمان.
وعليه فإن كان المال المزبور موجودا بعينه فلا بد من رده على مالكه
على النحو الذي أخذه منه، أي بجميع خصوصياته النوعية والشخصية
والمالية، وإذا تعذر ذلك لتلف ونحوه سقط عنه وجوب رد العين وانتقل
الضمان إلى المثل، أعني به الكلي الجامع لجميع الأوصاف التي هي
دخيل في مالية الشئ وموجبة لزيادتها لا الأوصاف التي لا دخل لها في
مالية الشئ أصلا ورأسا، وإنما هي دخيل في التشخص فقط.
وعلى هذا الضوء فمقتضى القاعدة هو الضمان المثل إلا إذا ثبت كون
التالف قيميا أو كان التالف مثليا ولكن تعذر مثله في الخارج فإنه عندئذ
يجب على الضامن أداء القيمة، وكل ذلك من ناحية السيرة العقلائية غير
431

المردوعة من قبل الشارع، وهكذا الحال إذا قلنا بأن مدرك الضمان في
المقبوض بالعقد الفاسد هو حديث ضمان اليد.
أما الوجه في الحكم بضمان القيمة فقط عند الشك في كون التالف
مثليا أو قيميا، فهو أن المقام من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر،
فلا بد من الأخذ بالأقل ويدفع وجوب أداء الأكثر بالأصل، وبيان ذلك أن
المراد من القيمة هنا إنما هو المالية المشتركة بين جميع الأموال، سواء
أكانت تلك الأموال مثلية أم كانت قيمية، وعليه فما نحن فيه من قبيل
دوران الأمر بين الأقل والأكثر، لأن اشتغال الذمة بالجهة المشتركة معلوم
واشتغالها بغير ذلك من الخصوصيات مشكوك فيه، وقد ذكرنا في محله
أن المرجع في أمثال ذلك هو البراءة، وعلى هذا فلا يجب على الضامن إلا
أداء القيمة إلا إذا رضي بأداء المثل، فإنه وقتئذ يكون مخيرا بين أداء القيمة
وأداء المثل.
ويرد عليه أن الوجه المزبور مبني على أن يكون المراد من القيمة التي
نبحث عنها في المقام هو مطلق المالية السارية في الأموال كلها، فإنه على
هذا جاز للضامن أن يؤدي عن التالف أي شئ أراده من الأموال إذا كانت
قيمته تساوي قيمة التالف، ولكن هذا خلاف المتسالم عليه، بل خلاف
ما هو المرتكز في الأذهان، لأن المتبادر من كلمة القيمة إنما هو المالية
الخالصة، كالنقود الرائجة بين الناس وأمثالها مما يتمحض في المالية من
دون أن تلاحظ فيها آية خصوصية من الخصوصيات التي تتفاوت بها
الرغبات.
وعليه فيكون دوران الأمر بين وجوب رد المثل ورد القيمة من قبيل
دوران الأمر بين المتبائنين، فلا بد في ذلك من الاحتياط، وليس هذا من
قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر لكي يؤخذ بالأول ويترك الثاني.
432

أما الوجه في تخيير الضامن بين أداء المثل والقيمة، فهو أن الضامن
يعلم اجمالا باشتغال ذمته بأحد أمرين: أما المثل أو القيمة، ومقتضى
الاحتياط هو تحصيل القطع بالبراءة، لما عرفته الآن من أن المورد من
قبيل دوران الأمر بين المتبائنين، ومن الواضح أن القطع بفراغ الذمة في
أمثال هذه الموارد لا يحصل إلا بأداء كلا الأمرين لكي تحصل الموافقة
القطعية، ولكن مقتضى الاجماع بل الضرورة بل مقتضى قاعدة نفي
الضرر هو أن الضامن لا يلزم بأداء كلا الأمرين، وإذن فيكون مخيرا بين أداء
المثل وأداء القيمة.
أما الوجه في تخيير المالك بين مطالبة المثل ومطالبة القيمة، فهو ما
ذكره بعض من أن ذمة الضامن وإن كانت مشغولة إما بالمثل أو بالقيمة إلا
أن ما يختاره المالك، إما هو البدل الواقعي أو أنه بدل البدل، وعلى
كلا التقديرين فيكون ذلك مسقطا لما في ذمة الضامن، أما على الأول
فواضح، أما على الثاني فلرضاء المالك بذلك على الفرض، وإذن فما
يختاره المالك مسقط لما في ذمة الضامن قطعا دون غيره، لأنه مشكوك
فيه فالأصل عدم سقوطه إلا بما يختاره المالك.
ويرد على كلا الوجهين أن اشتغال الذمة بالمثل أو بالقيمة واقعا وقيام
الاجماع والضرورة على عدم وجوب أدائهما معا لا يقتضيان تخيير
الضامن بين أداء المثل والقيمة، ولا تخيير المالك في استيفاء أيهما شاء،
بل يمكن تعيين ما في الذمة بالصلح القهري، بأن يرجع الضامن والمالك
كلاهما إلى الحاكم الشرعي ويحكم الحاكم بذلك، ويمكن أن يرجع في
تعيين أحد الأمرين إلى القرعة، بناءا على جريانها في كل أمر مشكل
ولو كان في الشبهات الحكمية، ولكن الظاهر تسالمهم على عدم
جريانها في الشبهات الحكمية.
433

وعليه فلا مناص عن الرجوع إلى الحاكم فيلزمهما بالصلح إن لم يكن -
هنا - ما يتعين به الضمان بالمثل أو القيمة (1).
القابض بالعقد الفاسد لا يلزم إلا بأداء مثل المقبوض أو القيمة
ثم إنه يحسن بنا التنبيه على أمر لا غناء عنه في مورد بحثنا، وهو أن
القابض بالعقد الفاسد لا يلزم إلا بأداء مثل المقبوض أو القيمة،
و لا يكلف بأزيد من ذلك، لما ذكرناه آنفا من أن نفس العين باقية في عهدة
القابض ما لم يؤدها إلى مالكها دون عوضها، وإذا تعذر رد العين بنفسها
لتلف ونحوه وجب عليه رد بدلها، وهو المثل في المثلي والقيمة في
القيمي، ولا يفرق في ذلك بين كون المثل حين الأداء مساويا لقيمة العين
حين الأخذ وعدمه.
ويدل على ما ذكرناه أن نقص القيمة السوقية لا يضمن عند أداء نفس
العين فكيف يضمن عند أداء مثلها، وعليه فإذا أخذ شيئا بالبيع الفاسد ثم
نزلت قيمته لم يجب عليه شئ زائدا على رد نفس المبيع، فإذا تعذر رده
لتلف ونحوه انتقل الضمان إلى مثله من دون زيادة.
ويؤيد ذلك ما ورد في استقراض الدراهم التي أسقطها السلطان
وأجاز غيرها (2)، من أنه ليس لصاحب الدراهم إلا الدراهم الأولى الساقطة

1 - فإن قلت: إذا توقف تحصيل العلم بفراغ ذمة الضامن على جعل الاختيار بيد المالك
وجب ذلك بحكم العقل من دون التماس دليل آخر.
قلت: نعم، إلا أن الضامن ربما يكون مجنونا أو صغيرا لا يجب عليه تفريغ الذمة، فيبقي
جهة الكلام فيما ثبت في ذمته مع القطع بعدم الفرق بينهما وبين غيرهما، ولا يمكن حينئذ جعل
الاختيار بيد المالك، لأنه على خلاف مصلحة القاصر - المحاضرات 2: 189.
2 - عن يونس قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنه كان لي على رجل دراهم وأن
السلطان أسقط تلك الدراهم وجاء بدراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى، ولها اليوم وضيعة
فأي شئ لي عليه، الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان، فكتب (عليه السلام):
الدراهم الأولى (التهذيب 7: 117، الإستبصار 3: 99)، صحيحة.
وعن صفوان قال: سأله معاوية بن سعيد عن رجل استقرض دراهم من رجل وسقطت تلك
الدراهم أو تغيرت ولا يباع بها شئ الصاحب الدراهم، الدراهم الأولى أو الجائزة التي تجوز
بين الناس، قال: فقال: لصاحب الدراهم الدراهم الأولى (التهذيب 7: 117، الإستبصار 3: 99)
، صحيحة.
434

عن الرواج لا الدراهم الجائزة بين الناس، نعم يعارضه خبر آخر ولكنه
ضعيف السند (1).
ثم لا يخفى عليك أنه إذا سقطت العين عن المالية بالمرة كالجمد في
الشتاء، لم يكف أداء المثل بل يجب على الضامن أداء قيمته، لأنا وإن
حكمنا بثبوت المثل في الذمة بعد تلف العين إلا أنه ليس على وجه
الاطلاق بل بما أنه مال، وعليه فإذا سقط المثل عن المالية انتقل الضمان
إلى القيمة.
وهذا المعنى هو الذي تقتضيه السيرة العقلائية غير المردوعة من قبل
الشارع وحديث ضمان اليد.
قيل: إن ما ورد في الدراهم الساقطة عن الرواج يدل باطلاقه على جواز
ردها إلى مالكها الأول وإن سقطت عن المالية، وإذا ثبت هذا المعنى في
الدراهم ثبت في غيرها لعدم القول بالفصل.

1 - عن محمد بن عيسى قال: قال لي يونس: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إن لي على رجل
ثلاثة آلاف درهم وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام، وليس تنفق اليوم إلى عليه
تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس، فكتب (عليه السلام) إلى: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين
الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس (التهذيب 7: 117، الإستبصار 3: 99)، ضعيفة بسهل بن
زياد.
435

والجواب عن ذلك أن الدرهم لا يصاغ إلا من الفضة، وعليه فلا معنى
لسقوطه عن المالية بالمرة فلا اشعار في ذلك بجواز رد الدراهم الساقطة
عن المالية إلى مالكها الأول فضلا عن الدلالة عليه.
5 - إذا لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمن المثل
قوله (رحمه الله): الخامس: ذكر في القواعد (1) أنه لو لم يوجد المثل إلا بأكثر من ثمن
المثل ففي وجوب الشراء تردد.
أقول: إذا تلف المقبوض بالعقد الفاسد أو ما في حكمه عند القابض
وترقت قيمة مثله، أما لعزته وعدم وجوده إلا عند من يطلب بأكثر من
قيمته أو لكثرة الراغبين فيه، فهل يجب على القابض شراؤه ورده إلى
المالك أم لا يجب ذلك، بل لا بد وأن يصبر المالك إلى أن يكثر المثل أو
تنزل قيمته السوقية، أم يفصل بين ما كانت زيادة القيمة من جهة الرواج
فيحكم بوجوب الشراء، وبين ما كانت الزيادة لمطالبة من عنده بالزيادة
فيحكم بعدم وجوب الشراء، وهذا هو الحق.
والوجه في ذلك ما ذكرناه سابقا، من أن الثابت في ذمة القابض ابتداء
ليس إلا نفس العين بجميع خصوصياتها النوعية والمالية والشخصية،
وإذا تلفت العين وجب عليه أداء مثلها، وهو الكلي الجامع لجميع
الخصوصيات الدخيل في المالية لا الخصوصيات الدخيل في التشخص
الخارجي.
وإذن فزيادة القيمة السوقية لا تؤثر في جواز تأخير الأداء تمسكا بأدلة
نفي الضرر، ضرورة أنه لم يتوجه على الضامن ضرر آخر غير الضرر
المتوجه عليه من ناحية حكم الشارع بضمان المثل، ومن الظاهر أن

1 - القواعد 1: 204.
436

الحكم بالضمان لوروده مورد الضرر لا يرتفع بدليل نفي الضرر.
ويضاف إلى ذلك أن أدلة نفي الضرر مسوقة للامتنان، ولا ريب أن رفع
الضمان خلاف الامتنان على الأمة بل الامتنان في ثبوته، نعم لو استلزم
أداء المثل ضررا آخر ارتفع وجوبه بدليل نفي الضرر، وعليه فلا يجب
شراء المثل ممن لا يبيعه إلا بأكثر من قيمته السوقية.
ثم إن المصنف بعد ما نفي الاشكال عن وجوب شراء المثل في الصورة
المتقدمة ونقل عليه الاجماع عن المبسوط قال: ووجهه عموم النص
والفتوى بوجوب المثل في المثلي، ويؤيده فحوى حكمهم بأن تنزل
قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة (1).
وغرضه من الفحوى هو أن عدم الانتقال إلى القيمة عند نزول قيمة
المثل حين الدفع إنما هو لصدق المماثلة، ومن الواضح أنه إذا صدقت
المماثلة مع نقص القيمة، مع أن المثل عندئذ لا يساوي العين في المالية
صدقت مع زيادة القيمة السوقية أيضا بالأولوية.
ولكن لا يتم شئ مما أفاده:
أما الاجماع، فلعدم العلم بكونه اجماعا تعبديا لكي يستكشف به قول
المعصوم (عليه السلام).
أما النصوص، فقد عرفت عدم تماميتها أما من حيث السند وأما من
حيث الدلالة، أما الفتوى فلا اعتبار بها.
أما الفحوى، فلأن كلامنا ليس في صدق المماثلة وعدم صدقها لكي
نتمسك في ذلك بالفحوى، بل محل بحثنا إنما هو لزوم شراء المثل
بالقيمة العالية وعدم لزوم شرائه بذلك وقد عرفت لزومه من ناحية
السيرة.

1 - المبسوط 3: 103، الخلاف 3: 415.
437

أما إذا كانت زيادة القيمة لقلة الوجود وعدم وجدانه إلا عند من يبيعه
بأكثر من قيمته السوقية، فقد ذكر المصنف هنا أن: الأقوى مع ذلك
وجوب الشراء، وفاقا للتحرير، كما عن الإيضاح والدروس وجامع
المقاصد (1)، بل اطلاق السرائر (2)، ونفي الخلاف المتقدم عن الخلاف لعين ما
ذكر في الصورة الأولى.
ويرد عليه أن ما استند إليه من الوجوه في الصورة الأولى لا يرجع إلى
معنى محصل كما عرفته لكي نعتمد عليه في الصورة الثانية، وإنما
التزمنا بوجوب شراء المثل في الصورة الأولى من جهة السيرة، ومن
الواضح أنها لا تجري في الصورة الثانية، بديهة أن زيادة القيمة هنا
لم تنشأ من ناحية ثبوت المثل في الذمة بل إنما نشأت من ناحية الأمور
الخارجية.
ومن الظاهر أن إلزام الضامن بهذه الزيادة ضرر غير مربوط ببناء حكم
الشارع بأداء المثل على الضرر، وإذن فوجوب أداء المثل يدفع بأدلة نفي
الضرر.
ومن هنا اتضح لك أنه إذا بقي المقبوض بالعقد الفاسد عند الضامن
وتوقف رده إلى مالكه على تضرر الضامن لم يجب رده لأدلة نفي الضرر.
قيل: يجب شراء المثل في الصورة الثانية أيضا، وإن كان الشراء بقيمة
عالية، لأن الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال.
ويرد عليه أن هذا الوجه يختص بالغصب فلا يجري في المقبوض
بالعقد الفاسد، أضف إلى ذلك أنه لا دليل على أخذ الغاصب بأشق
الأحوال.

1 - التحرير 2: 139، إيضاح الفوائد 2: 178، الدروس 3: 113، جامع المقاصد 6: 260.
2 - السرائر 2: 480.
438

وعليه فالحاق الصورة الثانية بصورة الاعواز - التي سنتكلم فيها - وجيه
جدا.
وعلى الجملة أنه لا يجب شراء المثل مع عزة وجوده، بحيث لا يوجد
إلا بأكثر من القيمة السوقية لقاعدة نفي الضرر.
قيل: إن الضرر هنا ليس في متعلق التكليف أعني به أداء المثل، وإنما
هو في مقدماته أعني بها شراء المثل بأزيد من القيمة السوقية، ومن
الظاهر أن أدلة نفي الضرر لا تشمل مقدمات التكليف، لأن وجوب
المقدمة عقلي لا شرعي.
والجواب عن ذلك أن أدلة نفي الضرر مسوقة لرفع التكاليف الضررية،
سواء أكان التكليف أصليا أم كان مقدميا، ومن هنا لا نحكم بوجوب
الصلاة قائما على من يقدر على القيام ولكن كان النهوض ضرريا،
وكذلك لا نحكم بوجوب الحج على من يقدر على الاتيان بمناسك الحج
ولكن كانت مقدماته ضررية، وهكذا وهكذا، وليس ذلك كله إلا من
ناحية أدلة نفي الضرر، هذا بناءا على وجوب المقدمة شرعا.
أما بناءا على عدم وجوب المقدمة إلا عقلا - كما هو الحق - فالتحقيق
أن يقال: إن أدلة نفي الضرر على ما ذكرناه في محله إنما هي تنفي الحكم
الناشئ من قبله الضرر.
وإذن فكل حكم ضرري مرتفع في عالم التشريع، سواء أكان الحكم
بنفسه ضرريا أم كان الضرر ناشئا من قبله.
وعليه فوجوب المقدمة وإن كان عقليا إلا أنه إذا كان ضرريا كان
مشمولا لأدلة نفي الضرر، بداهة أن الضرر هنا إنما نشأ من قبل حكم
الشارع بوجوب ذي المقدمة.
439

6 - إذا تعذر المثل في المثلي
قوله (رحمه الله): السادس: لو تعذر المثل في المثلي فمقتضى القاعدة وجوب دفع
القيمة مع مطالبة المالك.
أقول: إذا لم يتمكن الضامن من تحصيل المثل وجب عليه دفع القيمة،
وهذا لا شبهة فيه، وإنما البحث في أن القيمة التي يجب دفعها هل هي
قيمة يوم التلف، أم قيمة يوم الدفع، أم قيمة يوم الأخذ، أم أعلى القيم
من زمان التلف إلى زمان الأخذ، أم أعلى القيم من زمان الأخذ إلى زمان
الدفع، أم غير ذلك من الوجوه.
لا يهمنا التعرض لهذه الوجوه نقضا وإبراما، كما تعرض لها المصنف
وغيره وأطالوا الكلام فيها وفي أدلتها وفي المناقشة فيها.
وأيضا لا يهمنا التعرض لتأسيس الأصل في المقام لكي يكون ذلك
مرجعا فيما لم يتعين أحد الوجوه المذكورة أو غيرها، كما صنعه شيخنا
المحقق، لأن ذلك كله فيما إذا التزمنا بانتقال الضمان إلى القيمة فإنه
عندئذ يصح النزاع في تعيين زمان الانتقال، أما إذا أنكرنا ذلك والتزمنا
ببقاء المثل في عهدة الضامن بعد تلف العين وشيدنا أساس هذا القول،
فلا وجه لتوهم انتقال الضمان إلى القيمة بعد تلف العين قبل يوم الأداء.
قيل: إن الضمان لا بد وأن ينتقل إلى القيمة عند اعواز المثل في
الخارج وإلا لم ينتقل إلى المثل أيضا عند تلف العين الشخصية.
والجواب عن ذلك أن انتقال الضمان إلى المثل بعد تلف العين أمر
قهري، لأنه لا معنى لبقائها في الذمة بعد التلف، وهذا بخلاف المثل فإنه
أمر كلي قابل للبقاء في الذمة إلى حين الأداء، وعليه فلا يجب على
الضامن إلا قيمة وقت الأداء وهذا ظاهر.
440

هل يجوز للضامن اجبار المالك على أخذ القيمة؟
هل يجوز للضامن أن يجبر المالك على أخذ القيمة مع تعذر المثل
واعوازه أم لا.
الظاهر أنه لا يجوز ذلك، لأن متعلق الضمان ليس هو نفس القيمة بل
إنما هو المثل، ومن الواضح أنه ليس للمديون اجبار ذي الحق على قبول
شئ آخر بدلا عن حقه الخاص، بل هو مخير بين أخذ البدل وبين الصبر
إلى أن يتمكن المديون من أداء حقه، سواء أكان ذو الحق مأيوسا من
وجدان المثل أم لم يكن مأيوسا من ذلك، كما أنه ليس للضامن اجبار
المالك على قبول شئ آخر بدل العين قبل تلفها، لأن الناس مسلطون
على أموالهم.
هل يجوز للمالك اجبار الضامن على اعطاء القيمة؟
هل يجوز للمالك اجبار الضامن على اعطاء القيمة مع تعذر المثل أم
لا.
لا شبهة في جواز ذلك، لأن المالك مسلط على حقه وهو مخير بين
مطالبة بدله مع الاعواز وبين الصبر إلى تمكن الضامن من أداء المثل نفسه.
قيل: إن اجبار الضامن على اعطاء القيمة ضرر عليه فيرتفع بأدلة نفي
الضرر.
والجواب عن ذلك أن اعطاء القيمة لا ضرر فيه على الضامن بوجه،
وإنما هو رضاء من المالك بإلغاء الخصوصيات التي هي دخيل في متعلق
الضمان وهو المثل، ففيه ارفاق للضامن لا أنه ضرر عليه لكي يرتفع بأدلة
نفي الضرر.
441

وقد ظهر لك مما بيناه أنه لا فارق في جواز الاجبار وعدمه في كلتا
الصورتين - أعني بهما صورة اجبار الضامن وصورة اجبار المالك - بين
تعذر المثل ابتداء وبين تعذره بعد مدة، كما أنه لا فارق في ذلك بين
التعذر الاستمراري وبين التعذر في وقت دون وقت، وكل ذلك واضح
لا ستار عليه.
المناط في صدق التعذر والاعواز
المحكي عن العلامة في التذكرة (1) أن المراد من اعواز المثل هو أن
لا يوجد ذلك في البلد وما حوله، وعن المسالك أنه زاد قوله: مما ينقل
عادة منه إليه كما ذكروا ذلك في انقطاع المسلم فيه (2)، وعن جامع
المقاصد: الرجوع فيه إلى العرف (3).
ولكن الظاهر أن الميزان في تعذر المثل واعوازه هو التعذر الشخصي
وعدم امكان الوصول إليه بشخصه، وعليه فإذا تمكن الضامن من الوصول
إلى المثل ولو كان ذلك في البلاد النائية لم يصدق عليه الاعواز بل وجب
عليه تحصيله، كما أنه إذا لم يتمكن الضامن من تحصيل المثل ولو كان
موجودا في البلد وأمكن تحصيله لغيره وجب عليه دفع القيمة.
والوجه في ذلك أن تقدير تعذر المثل بحد خاص لم يرد في دليل
خاص لكي نجعله مرجعا في البحث، بل لا بد من الرجوع في ذلك إلى
الاعتبار العقلي، ومن الواضح أن الاعتبار العقلي لا يساعد إلا على ما
ذكرناه.

1 - التذكرة 2: 383.
2 - المسالك (الطبع الحجري) 2: 208.
3 - جامع المقاصد 6: 245.
442

نعم لو كان نقل المثل من البلاد النائية إلى بلده محتاجا إلى مؤونة زائدة
بحيث يتضرر بها الضامن لم يجب عليه النقل في هذه الصورة لقاعدة نفي
الضرر.
ومن هنا اتضح لك جليا ما هو الفارق بين ما نحن فيه وبين السلم، فإن
الضمان فيه اختياري ثابت بالعقد، ولا يبعد انصرافه إلى وجود المبيع
الثابت في الذمة في بلد المعاملة وما حوله.
ويضاف إلى ذلك أن ظاهر جملة من الروايات (1) هو أن العبرة في باب
السلم بوجود المبيع في بلد المعاملة وما حوله.

1 - عن ابن فضال، قال: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام): الرجل يسلفني في الطعام فيجئ
الوقت وليس عندي طعام أعطيه بقيمته دراهم، قال: نعم (الكافي 5: 187، التهذيب 7: 30،
الإستبصار 3: 75، عنهم الوسائل 18: 306)، ضعيف بسهل بن زياد.
وعن العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم
بحنطة، حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابا ورقيقا ومتاعا، أيحل له أن
يأخذ من عروضه تلك بطعامه، قال: نعم (الكافي 5: 186، الفقيه 3: 165، التهذيب 7: 31،
الإستبصار 3: 75، عنهم الوسائل 18: 306)، صحيح.
وعن أبان، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يسلف الدراهم في الطعام
إلى أجل فيحل الطعام، فيقول: ليس عندي طعام ولكن انظر ما قيمته فخذ مني ثمنه، قال:
لا بأس بذلك (الكافي 5: 185، التهذيب 7: 30، الإستبصار 3: 75، عنهم الوسائل 18: 305)،
مرسل.
وعن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان
وغير ذلك إلى أجل مسمى، قال: لا بأس إن لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه أن
يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها، ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم،
ويأخذون دون شروطهم ولا يأخذون فوق شروطهم، قال: والأكسية أيضا مثل الحنطة
والشعير والزعفران والغنم (الكافي 5: 221، عنه الوسائل 18: 303)، حسن بإبراهيم بن
هاشم.
443

وعلى هذا فلا يمكن قياس ما نحن فيه بباب السلم.
المدار مع تعذر المثل على قيمة المثل في بلد المطالبة
ثم إن المدار حين الأداء مع تعذر المثل على قيمة المثل في بلد
المطالبة وإن كانت أزيد من قيمته في بلد الضمان، ولا يفرق في ذلك بين
تعذره قبل وقت الأداء وعدمه، لأن هذا هو مقتضى بقاء المثل في ذمة
الضامن إلى حين الأداء على ما عرفته سابقا.
ثم إنه ذكر بعضهم في صورة تعذر المثل أنه يقدر وجوده لا على نحو
العزة فيقوم، ولكن الظاهر أنه يقدر وجوده حتى على نحو العزة، لأن
المفروض أن الثابت في الذمة هو المثل والقيمة هي قيمته بلا زيادة، نعم
إذا فرضنا أن دفع الزائد كان من جهة أخرى، كما إذا طالب من عنده المثل
بقيمة زائدة على القيمة السوقية لم يجب الدفع لنفي الضرر.
حكم سقوط العين عن المالية
ثم إنك قد عرفت آنفا ثبوت المثل في الذمة إلى وقت الأداء وعدم
انتقاله إلى القيمة إلا حينه، وهذا مما لا شبهة فيه، كما لا شبهة في
وجوب أداء القيمة عند سقوط المثل عن المالية بالمرة، كالماء على
الشاطي إذا أتلفه في المفازة، والثلج في الشتاء إذا أتلفه في الصيف، لأن
خروجه عن القيمة يعد من التالف عرفا.
وإنما البحث في أن المراد من هذه القيمة هل هو قيمة يوم الأخذ، أم
قيمة يوم التلف، أم قيمة يوم سقوط المثل عن المالية، أم أعلى القيم من
زمان الأخذ إلى زمان التلف، أم أعلى القيم من زمان التلف إلى زمان
سقوط المثل عن المالية، أم غير ذلك من الوجوه.
444

الظاهر هو الوجه الثالث، لما ذكرناه مرارا، من أن الثابت في ذمة
الضامن بعد تلف العين إنما هو المثل وأنه باق فيها إلى حين الأداء، وعليه
فيحكم فيما نحن فيه ببقاء المثل في الذمة إلى زمان سقوطه عن المالية،
وحينئذ فينتقل الضمان إلى القيمة، لكون المثل - عندئذ - كالتالف في
نظر أهل العرف، كما أن تلف العين يوجب انتقال الضمان منها إلى مثلها،
وهذا واضح لا خفاء فيه.
فرع: ما هو حكم التمكن من المثل عند تعذره
قوله (رحمه الله): فرع: لو دفع القيمة في المثل المتعذر ثم تمكن من المثل، فالظاهر
عدم عود المثل في ذمته.
أقول: إذا طلب المالك حقه مع تعذر المثل في الخارج وجب على
الضامن أداء قيمته - كما عرفته قريبا - فإن لم يؤد حتى وجد المثل وجب
عليه أداء المثل، لما عرفته من عدم الانتقال إلى القيمة بالمطالبة، كما
لا اشكال في أن المالك إذا رضي باسقاط حقه بأخذ القيمة لم يجب أداء
المثل حتى مع التمكن منه من أول الأمر.
وإنما الاشكال فيما إذا طالب المالك بالقيمة من جهة الضرورة
واللا بدية لأجل عدم التمكن من المثل ودفع الضامن القيمة ثم وجد
المثل ولم يرض بها المالك، فهل يجب على الضامن اعطاء المثل ثانيا
وارجاع القيمة أم لا يجب ذلك.
قد ذكر المصنف أنه إذا دفع الضامن القيمة بدلا عن المثل المتعذر ثم
تمكن منه، فإن قلنا ببقاء المثل في الذمة وعدم انتقاله إلى القيمة إلا حين
الأداء فلا وجه لعوده ثانيا، لأنه دين في الذمة فقد سقط بأداء عوضه مع
التراضي فلا يجوز لصاحب الدين أن يرجع إلى الساقط ثانيا لأن الساقط
445

لا يعود، وإن قلنا بأن تعذر المثل أوجب تبدل العين المضمونة من المثلي
إلى القيمي بمعنى أنها كانت مثلية، وبعد تعذر المثل انقلبت قيمية إن قلنا
بذلك فعدم عود المثل إلى الذمة ثانيا أولي منه في الفرض الأول، لأن
المدفوع وقتئذ إنما هو نفس الموجود في الذمة لا عوضه، وإن قلنا بأن
تعذر المثل قد أوجب انقلاب المثل - الثابت في الذمة - إلى القيمة فكأنه
تلف بتعذره فلزمت قيمته إن قلنا بذلك احتمل وجوب المثل عند
وجوده، لأن القيمة - حينئذ - بدل الحيلولة عن المثل، وسيأتي أن حكمه
إنما هو عود المبدل عند انتفاء الحيلولة - انتهى حاصل كلامه.
ويرد عليه أن الالتزام بأن دفع القيمة في هذا الفرض إنما كان من باب
دفع البدل من جهة الحيلولة لا يجتمع مع الانقلاب كما هو المفروض،
فإن المدفوع على فرض الانقلاب إنما هو نفس ما اشتغلت به الذمة لا أنه
بدله، وإذن فلا فرق بين أن تنقلب العين التالفة قيمية وبين أن ينقلب المثل
الثابت في الذمة قيميا، نعم لا يبعد أن يلتزم بأن دفع القيمة على القول
بعدم الانقلاب وبقاء المثل في الذمة إنما كان من جهة دفع البدل وعليه
فيجب دفع نفس ما اشتغلت به الذمة عند التمكن منه.
وعليه فلا وجه لما ذكره السيد وشيخنا المحقق من الايراد على
المصنف، من أن بدل الحيلولة مختص بالأعيان (1)، ومحل البحث - هنا -
في الذمم فلا صلة بينهما بوجه، وذلك لأن مدرك وجوب بدل الحيلولة
إنما هو قاعدة الجمع بين الحقين، ومن الواضح أنه لا اختصاص لهذه
القاعدة بالأعيان بل تعم الذمم أيضا، وعلى ما ذكرناه كان على المصنف
أن يحتمل بل يستظهر وجوب دفع المثل عند وجوده دون ما إذا قلنا
بالانقلاب.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 100، وللمحقق الأصفهاني: 98.
446

ولكن الصحيح هو عدم وجوب دفع المثل مطلقا، وذلك لما سنبينه
في محله من أنه لم يثبت وجوب دفع بدل الحيلولة من أصله ولم يدل
عليه دليل شرعي ولا عقلي.
ثم إنه إذا اختلف الضامن والمضمون له في تعيين المثل - الذي تؤخذ
قيمته - فالمدار على تعيين الضامن لأنه المكلف بأداء كلي المثل فيتخير
في تعيين أفراده إلا أن يكون ما اختاره الضامن من الفرد خارجا عن
مصاديق ذلك الكلي في نظر أهل العرف، فإنه عندئذ لا يجب على
المضمون له قبول ما اختاره الضامن، وهذا ظاهر.
7 - ضمان القيمي بالقيمة في المقبوض بالعقد الفاسد
قوله (رحمه الله): السابع: لو كان التالف المبيع فاسدا قيميا فقد حكي الاتفاق (1) على
كونه مضمونا بالقيمة.
أقول: المشهور بين الأصحاب أن المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف
وكان قيميا حكم بضمان قيمته.
ولكن حكي الخلاف في ذلك عن الإسكافي، وعن الشيخ والمحقق
في الخلاف والشرائع (2) في باب القرض، إلا أن المحكي عن الإسكافي هو
أنه: إن تلف المغصوب دفع قيمته أو مثله إن رضي به صاحبه (3)، ومن
الظاهر أن هذه العبارة غير ظاهرة في الخلاف المزبور.
وأيضا أن الموجود في باب الغصب من الخلاف (4)، وفي بابي الغصب

1 - استظهر السيد المجاهد عدم الخلاف بين الأصحاب، المناهل: 298.
2 - الخلاف 3: 175، الشرايع 2: 68، كذا في السرائر 2: 480، التذكرة 2: 383.
3 - حكى عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 6: 243.
4 - الخلاف 3: 402، المسألة: 11، و 3: 406، المسألة: 18.
447

والمقبوض بالعقد الفاسد من الشرايع هو الحكم بضمان القيمة في
القيمي، ولعل الحكم بضمان المثل في القيمي مختص عند الشيخ
والمحقق بالقرض فقط، والله العالم.
والتحقيق أن يحكم بضمان المثل في القيمي - أيضا - كما حكمنا
بذلك في المثلي، وعليه فإذا تلف المقبوض بالعقد الفاسد ولم يمكن
رده انتقل الضمان إلى مثله، وهو الكلي المتحد مع العين التالفة من جميع
الخصوصيات إلا الخصوصيات غير الدخيل في المالية بل في التشخص
الخارجي فقط، وحينئذ فلا ينتقل الضمان إلى القيمة إلا مع تعذر المثل.
وعلى هذا فلو وجد المثل للتالف أو اشتغلت ذمة المالك - للضامن -
بما يماثل التالف لوجب على الضامن أداء المثل في الصورة الأولى
وسقط ما في ذمتي المالك والضامن بالتهاتر في الصورة الثانية، نعم لو
تعذر أداء المثل على الاطلاق تلغى الصفات النوعية أيضا، فإن اعتبار
اشتغال الذمة بها مع تعذر الوفاء بها من اللغو الظاهر.
ومن هنا ظهر فساد ما اختاره السيد في حاشيته، من المنع عن الانتقال
إلى القيمة على وجه الاطلاق.
أضف إلى ذلك أن لازم ما اختاره هو جواز امتناع المضمون له عن
قبول القيمة في فرض تعذر المثل على الاطلاق، وهذا مما لا يمكن
الالتزام به.
ويؤيد ما ذكرناه - من الضمان بالمثل في فرض امكانه - ما ورد في باب
القرض من الروايات (1) الدالة على جواز أداء المثل عن القيمي.

1 - عن الصباح بن سيابة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن عبد الله بن أبي يعفور أمرني
أن أسألك، قال: إنا نستقرض الخبز من الجيران فنرد أصغر منه أو أكبر، فقال (عليه السلام): نحن
نستقرض الجوز الستين والسبعين عددا فيكون فيه الكبير والصغير فلا بأس (الفقيه 3: 116،
عنه الوسائل 18: 361)، مجهول بابن سيابة.
وعن إسحاق بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): استقرض الرغيف من الجيران ونأخذ
كبيرا ونعطي صغيرا ونأخذ صغيرا ونعطي كبيرا، قال: لا بأس (التهذيب 7: 162، عنه الوسائل
18: 361)، مجهول بالحكم بن مسكين.
وعن فقه الرضا (عليه السلام)، عن الصادق (عليه السلام) وسئل عن الخبز بعضها أكبر من بعض، قال:
لا بأس إذا اقترضته (فقه الرضا (عليه السلام)، عنه المستدرك 13: 410)، ضعيف.
448

هذا ما تقتضيه القاعدة، ولكن الظاهر من الروايات الكثيرة (1) هو ضمان

1 - عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن المملوك بين شركاء فيعتق أحدهم
نصيبه، قال: إن ذلك فساد على أصحابه لا يقدرون على بيعه ولا مؤاجرته، قال: يقوم قيمة
فيجعل على الذي أعتقه عقوبة وإنما جعل ذلك عليه عقوبة لما أفسده (الكافي 6: 182، عنه
الوسائل 23: 36)، حسن بإبراهيم بن هاشم.
وعن سماعة، قال: سألته عن المملوك بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه، فقال: هذا فساد
على أصحابه يقوم قيمة ويضمن الذي أعتقه لأنه أفسده على أصحابه (الكافي 6: 183، التهذيب
8: 220، الإستبصار 4: 3، عنهم الوسائل 23: 38)، ضعيف بعثمان بن عيسى.
وعن عبد الرحمان بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوم ورثوا عبدا جميعا
فأعتق بعضهم نصيبه منه، كيف يصنع بالذي أعتق نصيبه منه هل يؤخذ بما بقي، قال: نعم يؤخذ
بما بقي منه بقيمته ثم أعتق (الكافي 6: 183، التهذيب 8: 219، الإستبصار 4: 3، عنهم الوسائل
23: 38)، ضعيف بالمعلي بن محمد.
وعن محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: من كان شريكا في عبد أو أمة قليل أو كثير
فأعتق حصته وله سعة فليشتره من صاحبه فيعتقه كله وإن لم يكن له سعة من مال نظر قيمته
يوم أعتق منه ما أعتق ثم يسعى العبد بحساب ما بقي حتى يعتق (الكافي 6: 183، التهذيب
8: 221، الإستبصار 4: 4، عنهم الوسائل 23: 37)، حسن بإبراهيم بن هاشم.
وعنه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في عبد كان بين رجلين، فحرر
أحدهما نصيبه وهو صغير وأمسك الآخر نصفه حتى كبر الذي حرر نصفه، قال: يقوم قيمة يوم
حرر الأول وأمر المحرر أن يسعى في نصفه الذي لم يحرر حتى يقضيه (الكافي 6: 183، الفقيه 3: 67، عنهما الوسائل 23: 37)، حسن بإبراهيم بن هاشم.
وعن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، كثير
لحمها وخبزها وبيضها وجبنها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): يقوم ما فيها ويؤكل
لأنه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرم له الثمن - الخبر (الوافي 11: 23). معتبر.
وقد عرفت الروايات الواردة في ضمان قيمة الجارية المبتاعة التي وجدت مسروقة، فإنها
ظاهرة في تعين القيمة وقد أوردناها في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن، وستأتي
صحيحة أبي ولاد الظاهرة في ذلك أيضا، وإلى غير ذلك من الروايات المتفرقة الظاهرة فيما
ذكرناه.
ثم إن المصنف قد جعل من أدلة ضمان القيمة في القيمي ما دل على أنه إذا تلف الرهن بتفريط
المرتهن سقط من دينه بحساب ذلك، فلولا ضمان التالف بالقيمة لم يكن وجه لسقوط الدين
بمجرد ضمان التالف، ونظره من ذلك إلى ما ورد في روايات الرهن من أن الراهن والمرتهن
يترادان الفضل من الرهن والدين مع تلف الرهن بالتفريط أو الاتلاف، وقد تقدمت جملة منها
في البحث عن حكم المنافع المستوفاة.
449

القيمة في القيميات.
وأيضا قد عرفت - سابقا - أن المرتكز في أذهان العقلاء وما جرت
عليه سيرتهم هو ضمان المثل في المثلي وضمان القيمة في القيمي،
وعليه فلا يجوز للمضمون له أن يجبر الضامن على اعطاء المثل في
القيمي، سواء أكان ذلك متيسرا اتفاقا أم كان متعذرا كما هو الغالب.
نعم يجوز للضامن اجبار المالك بقبول القيمة، على عكس ما تقدم في
المثلي الذي تعذر مثله في الخارج، فبالنظر إلى هذه الروايات وما جرت
عليه السيرة العقلائية يصح ما ذهب إليه المشهور من ضمان القيمي
بالقيمة، وتكون النتيجة أن ما تعذر مثله في نوعه كان ضمانه بالقيمة - وإن
وجد له مثل اتفاقا - وما لم يتعذر مثله نوعا يضمن بالمثل وإن تعذر ذلك
اتفاقا وفي بعض الأحيان.
أما الروايات المتقدمة الدالة على الضمان بالمثل في القيمي فهي
450

مختصة بالقرض فلا ربط لها بما نحن فيه، على أنها ضعيفة السند.
ثم إن المصنف (رحمه الله) قد حمل الروايات الدالة على ضمان القيمي
بالقيمة على صورة تعذر المثل، ولكنه خلاف الظاهر منها ولا يمكن
المصير إليه إلا بالقرينة ومن الواضح أنها منتفية في المقام.
وعلى الجملة أن القاعدة الأولية وإن اقتضت الضمان بالمثل في
القيمي، ولكن قد دلت الروايات المتقدمة على ضمان خصوص القيمة
في القيمي فلا بد من الأخذ بها في المقام، وإذن فيقع البحث في تعيين
هذه القيمة.
الأقوال في تعيين قيمة المقبوض بالعقد الفاسد إذا كان قيميا
قد اختلف الأصحاب في تعيين قيمة المقبوض بالعقد الفاسد إذا كان
قيميا على أقوال شتى:
1 - إن العبرة في ذلك بقيمة يوم القبض لصحيحة أبي ولاد الآتية،
بالتقريب الذي سيأتي قريبا.
2 - إن العبرة في ذلك بقيمة يوم التلف، كما حكي ذلك عن الشيخين
وأتباعهما (1)، بل عن الدروس نسبته إلى الأكثر (2)، والوجه فيه أن انتقال
الضمان إلى البدل إنما هو في يوم التلف إذ الواجب على الضامن كان رد
نفس العين، فإذا تلفت ضمن قيمتها.
3 - إن العبرة في ذلك بقيمة يوم الأداء، وهذا هو الوجه الذي اختاره
السيد في حاشيته بدعوى: أن نفس العين باقية في الذمة والعهدة
ويجب الخروج عن عهدتها، لكن لما لم يمكن رد نفسها وجب دفع

1 - حكاه في غاية المراد: 85 عنهما.
2 - الدروس 3: 113، الروضة 7: 41، راجع الجواهر 37: 105.
451

عوضها وبدلها فهي بنفسها باقية في العهدة إلى حين الأداء واعطاء البدل
إنما هو من باب الوفاء، كما فيما إذا كان له عليه من من الحنطة ولم يمكنه
أداؤه، فإن الذمة مشغولة بالحنطة حتى حين التعذر ودفع البدل من باب
الوفاء بغير الجنس ولا ينتقل إلى البدل من حين التعذر، والبدل الواجب
أداؤه هو المثل في المثليات والقيمة في القيميات، بمعنى أنه لو أراد
أحدهما غير ذلك لم يجبر عليه.
وقال في موضع آخر: التحقيق أن الذمة مشغولة بنفس العين إلى حال
الأداء، إذ هو المستفاد من أدلة الضمان حسبما أشرنا إليه سابقا والتعذر
لا ينافي ذلك لعدم إناطة الأحكام الوضعية بالقدرة.
أو يقال: إن هذا الوجه مبني على اشتغال الذمة بالمثل حتى في
القيمي، فالانتقال إلى القيمة إنما يكون وقت الأداء.
4 - إن العبرة في ذلك بأعلى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف، وقد
قيل إن هذا القول هو الأشهر.
5 - إن العبرة في ذلك بأعلى القيم من يوم التلف إلى زمان الأداء.
6 - إن العبرة في ذلك بأعلى القيم من يوم القبض إلى يوم الأداء.
ثم الظاهر من هذه الوجوه في نفسها هو الوجه الثاني لما عرفته من أن
زمان الانتقال إلى القيمة إنما هو زمان التلف، وإذن فلا مناص عن الالتزام
به ألا مع تعبد شرعي، أما بقية الوجوه غير الوجه الأول فسيأتي البحث
فيها قريبا.
الاعتبار بقيمة يوم القبض
أما الوجه الأول فقد استدل عليه بصحيحة أبي ولاد الحناط (1)، فإن تم

1 - قال: اكتريت بغلا إلى القصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا، وخرجت في طلب
غريم لي، فلما صرت قرب قنطرة الكوفة خبرت أن صاحبي توجه إلى النيل، فتوجهت نحو
النيل، فلما أتيت النيل خبرت أن صاحبي توجه إلى بغداد، فاتبعته وظفرت به وفرغت مما
بيني وبينه ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوما، فأخبرت صاحب
البغل بعذري وأردت أن أتحلل منه مما صنعت وأرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهما، فأبى أن
يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، فأخبرته بالقصة وأخبره الرجل، فقال لي: وما صنعت بالبغل،
فقلت: قد دفعته إليه سليما، قال: نعم بعد خمسة عشر يوما، فقال: ما تريد من الرجل، قال:
أريد كري بغلي فقد حبسه على خمسة عشر يوما، فقال: ما أري لك حقا لأنه اكتراه إلى قصر ابن
هبيرة فخالف وركبه إلى النيل وإلى بغداد فضمن قيمة البغل وسقط الكري، فلما رد البغل
سليما وقبضته لم يلزم الكري.
قال: فخرجنا من عنده، وجعل صاحب البغل يسترجع، فرحمته مما أفتي به أبو حنيفة،
فأعطيته شيئا وتحللت منه، فحججت تلك السنة فأخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) بما أفتي به
أبو حنيفة، فقال: في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء ماءها، وتمنع الأرض بركتها، قال:
فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فما تري أنت، قال: أري له عليك مثل كري بغل ذاهبا من الكوفة إلى
النيل، ومثل كري بغل راكبا من النيل إلى بغداد، ومثل كري بغل من بغداد إلى الكوفة توفيه
إياه، قال: فقلت: جعلت فداك إني قد علفته بدراهم فلي عليه علفه، فقال: لا لأنك غاصب،
فقلت: أرأيت لو عطب البغل ونفق أليس كان يلزمني، قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته، قلت: فإن
أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز (وفي التهذيب: عقر، وفي الوافي: غمر) فقال: عليك قيمة ما
بين الصحة والعيب يوم ترده عليه، قلت: فمن يعرف ذلك، قال: أنت وهو إما أن يحلف هو على
القيمة فتلزمك، فإن رد اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل
بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين أكري كذا وكذا فيلزمك، قلت: إني كنت أعطيته دراهم
ورضي بها وحللني، فقال: إنما رضي بها وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة بالجور والظلم،
ولكن ارجع إليه فأخبره بما أفتيتك به، فإن جعلك في حل بعد معرفته فلا شئ عليك بعد ذلك.
قال أبو ولاد: فلما انصرفت من وجهي ذلك لقيت المكاري، فأخبرته بما أفتاني به أبو عبد الله
(عليه السلام) وقلت له: قل ما شئت حتى أعطيكه، فقال: قد حببت إلى جعفر بن محمد (عليهما السلام) ووقع
في قلبي له التفضيل وأنت في حل، وإن أحببت أن أرد عليك الذي أخذت منك فعلت (الكافي
5: 290، التهذيب 7: 215)، صحيحة.
قال في مرآة العقول 3: 433: وقال في المغرب: قصر ابن هبيرة على ليلتين من الكوفة
وبغداد منه على ليلتين.
والظاهر أن هذا التحديد من غير طريق الماء وإلا فإن قصر ابن هبيرة من الكوفة على نحو
عشرين فرسخا في الماء، كما يكشف عن ذلك صحيح آخر عن أبي ولاد الوارد في حد المسير
الذي تقصر فيه الصلاة.
قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة،
وهو من الكوفة على نحو عشرين فرسخا في الماء - الحديث (التهذيب 3: 298، عنه الوسائل
8: 469).
والنيل - بالكسر - نهر بمصر، وقرية بكوفة، وبلد بين بغداد وواسط، وفي لسان العرب:
النيل نهر مصر، ونهر بالكوفة، وحكى الأزهري قال: رأيت في سواد الكوفة قرية يقال لها النيل
يخرقها خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير، قال: وقد نزلت بهذه القرية - انتهى.
الدبر - بالتحريك - كالجراحة تحدث من الرحل وغيره، وغمزت الدابة: مالت من رجلها،
والغمر: العطش، والعقر: الجرح.
452

فهو وإلا فمقتضى القاعدة هو الالتزام بالوجه الثاني، وإذن فلا بد من
التكلم في دلالة الصحيحة على ذلك.
ثم لا يخفى عليك أن الصحيحة وإن وردت في المغصوب ولكنه إذا
تم الاستدلال بها على ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب صح
الاستدلال بها بالأولوية القطعية على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد
بقيمة يوم القبض.
ضرورة أن العين التالفة قد تكون قيمتها يوم الأداء أكثر من قيمتها يوم
القبض، فإذا التزمنا بضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب والتزمنا بضمان
المقبوض بالعقد الفاسد بقيمة يوم الأداء لزم أن يكون الثاني أسوء حالا
من الأول، وهو واضح البطلان.
ثم إنه لا شبهة في صحة رواية أبي ولاد سندا، وعليه فيختص البحث -
454

هنا - بدلالتها، فنقول: إنه سأل أبو ولاد الإمام (عليه السلام) عن ضمان البغل في
فرض تلفه وقال: أرأيت لو عطب البغل ونفق (1) أليس يلزمني، فأجاب
عنه الإمام (عليه السلام) بقوله: نعم قيمة بغل يوم خالفته.
وقد استدل بهذه الجملة على أن العبرة في تعيين القيمة بقيمة يوم
الغصب بوجهين:
الوجه الأول: إن الظرف وهو لفظ: يوم قيد لكلمة: قيمة،
وتقريب ذلك بأنحاء شتى:
1 - أن يكون الظرف متعلقا بكلمة قيمة، بدعوى أنها وإن لم تكن
معنى حديثا ولكن فيها شائبة الحدثية، لأنها ليست من الجوامد المحض
حتى لا يصح تعلق الظرف بها، وعليه فينون لفظ بغل على الجر
بإضافة القيمة إليه.
ويؤيد هذا التقريب أن لفظ البغل في نسخة الوافي وفي بعض نسخ
التهذيب محلي بلام التعريف، وحينئذ فلا يصلح للإضافة إلى ما بعده.
وإذن فمفاد الصحيحة هو أن الثابت على الغاصب إنما هو قيمة يوم
المخالفة، فتدل على ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب.
2 - أن تضاف جملة قيمة بغل أي المضاف والمضاف إليه إلى قوله:
يوم خالفته، وحينئذ فيكون الغرض من تلك الجملة المباركة هو أن

1 - عطب الرجل عطبا هلك يكون في الناس وغيرهم، وعطب البعيرة انكسر، ونفق
الرجل والدابة نفوقا ماتا وخرجت روحهما - أقرب الموارد.
ثم الظاهر أن عطف لفظ نفق على كلمة عطب عطف تفسير، وعليه فيكون المراد من
كلمة عطب هو الموت والهلاك لا الكسر، لأن السائل سأل عنه بسؤال آخر بقوله: فإن
أصاب البغل كسر - الخ.
وإذن فالصحيح هو أن يكون العطف بالواو - كما في الكافي 5: 291 - لا العطف بأو - كما في
التهذيب 3: 177، والاستبصار 3: 134.
455

القيمة المتخصصة بإضافتها إلى البغل الثابتة يوم المخالفة لازمة على
الغاصب، ولا بعد في هذه الإضافة لوقوعها كثيرا في لغة العرب وغيرها،
فيقال: ماء ورد خالد وحب رمان زيد، وإن لم يكن ورد لخالد ولا رمان
لزيد، إلى غير ذلك من الاستعمالات المتعارفة، ولا محذور من الالتزام
بهذا التقريب، إلا أنه لا يتفق، ونسخة الوافي وبعض نسخ التهذيب من
اقتران لفظ بغل بلام التعريف، فإن ذلك مانع عن إضافته إلى ما بعده.
3 - ما أفاده المصنف وإليك نصه: إن اليوم قيد للقيمة أما بإضافة
القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانيا، يعني قيمة يوم المخالفة للبغل،
فيكون اسقاط حرف التعريف من البغل للإضافة، لا لأن ذا القيمة بغل غير
معين حتى توهم الرواية مذهب من جعل القيمي مضمونا بالمثل والقيمة
إنما هي قيمة المثل.
وظاهر هذه العبارة أن لفظ القيمة قد أضيف مرتين، مرة إلى كلمة
بغل، ومرة أخرى إلى كلمة يوم، وحينئذ فيكون المراد من قوله:
فيكون اسقاط حرف التعريف من البغل للإضافة أن تعريف كلمة بغل
إنما هو للإشارة إلى بغل معين خارجي الذي وقعت عليه الإجارة، ومن
الواضح أن هذا حاصل بالإضافة المسوقة لبيان العهد الخارجي، وإذن
فيكون ذكر اللام فيها لغوا محضا وخاليا عن الفائدة.
ويرد عليه أن المضاف إلى شئ أولا لا يضاف إلى غيره ثانيا، لأن ذلك
مخالف لطريقة أهل المحاورة والاستعمال.
ويمكن أن يكون مراد المصنف من العبارة المذكورة هو أن كلمة
القيمة قد أضيفت إلى كلمة بغل أولا ثم أضيف المجموع - أي القيمة بما
هي مضافة إلى بغل - إلى يوم المخالفة، وهذا يستلزم سقوط حرف
التعريف من كلمة بغل، فيكون ذلك نظير قولك: ماء رمان زيد، فإن
456

الغرض من هذه العبارة إنما هو افهام أن ماء الرمان لزيد وإن لم يكن له
رمان، وهكذا قولنا: ماء ورد بكر، ونظائره، وعليه فيرجع هذا الوجه إلى
الوجه الثاني المزبور.
ولكنك قد عرفت آنفا أن الموجود في بعض النسخ هو اقتران لفظ بغل
بلام التعريف، ومن الظاهر أن هذا ظاهر في انقطاع الإضافة بين قوله (عليه السلام):
نعم قيمة البغل، وبين قوله (عليه السلام): يوم خالفته.
4 - ما ذكره المصنف ثانيا، وحاصله: أن لفظ يوم قيد للاختصاص
المفهوم من إضافة لفظ القيمة إلى كلمة البغل فيكون الظرف منصوبا
للاختصاص، وعليه فالمعنى أنه تلزم على الغاصب القيمة المختصة
بالبغل يوم المخالفة.
ويرد عليه أن العامل في الظرف لا يكون إلا الفعل أو شبهه دون
الحرف، ويضاف إلى ذلك أن الاختصاص الحاصل من الإضافة معنى
حرفي لا يمكن أن يكون محكوما به ولا محكوما عليه، وإذن فلا معنى
لتقييده أصلا.
5 - أن تضاف كلمة القيمة إلى كلمة البغل، وتضاف كلمة البغل إلى
كلمة اليوم، وعليه فيكون معنى الرواية أنه تلزم على الغاصب قيمة هي
قيمة بغل يوم المخالفة.
ويرد عليه أنا لا نعرف وجها صحيحا لإضافة لفظ بغل إلى لفظ يوم، إذ
لا يمكن أن يتخصص لفظ البغل بجملة يوم المخالفة، كما لا يصح أن
يقال: دار يوم وأرض أمس وغرفة غد.
أضف إلى ذلك أن هذا الوجه لا يتم على نسخة الوافي وبعض نسخ
التهذيب، من اقتران لفظ: بغل بلام التعريف، ضرورة أن الاسم
المحلي باللام لا يضاف إلى ما بعده، وهذا ظاهر.
457

وقد يناقش في هذا الوجه بأنه يستلزم تتابع الإضافات، وهو مذموم
في كلمات الفصحاء.
ويرد عليه أن هذه المناقشة فاسدة، لأن تتابع الإضافات واقع في
الكلمات الفصيحة، ومن ذلك قوله تعالى: مثل دأب قوم نوح وعاد (1).
الوجه الثاني - من وجهي الاستدلال بقوله (عليه السلام): نعم قيمة بغل يوم
خالفته على ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب - أن يكون الظرف
متعلقا بقوله (عليه السلام): نعم، لأن لفظ نعم من جهة قيامه مقام الفعل أعني به
يلزمك شبيه بالفعل (2).
وعلى هذا فلا دلالة في الرواية على الضمان بقيمة يوم المخالفة دلالة
مطابقية، لأن معناها عندئذ أنه تلزمك القيمة يوم المخالفة من غير تعرض
لبيان أن هذه القيمة هل هي قيمة يوم المخالفة، أم هي قيمة يوم الدفع، أم
هي قيمة يوم التلف أم غير ذلك.
نعم لا بأس بدلالتها على ذلك التزاما، فإن ذكر القيمة فيها ثم إضافتها
إلى كلمة بغل، ثم ذكر يوم المخالفة بعد ذلك، من القرائن الظاهرة على أن
الإمام (عليه السلام) إنما قدر مالية المغصوب وبين أن ضمانها بقيمة يوم
المخالفة، إذ لا معنى لكون الضمان يوم الغصب فعليا ويكون المدار فيه
على قيمة يوم آخر، وعلى الجملة أن تعلق الضمان - بالقيمة يوم الغصب
- بمالية المغصوب ظاهر في أن الضمان بقيمة ذلك اليوم.
ويرد على هذا الوجه أنه لا معنى لجعل الظرف متعلقا بلفظ نعم، من
جهة قيامه مقام الفعل، ضرورة أن ذلك يقتضي الحكم بضمان القيمة من
يوم الغصب مع أنه واضح البطلان، لأن الضمان لا يتعلق بالقيمة قبل تلف

1 - المؤمن: 31.
2 - احتمله في مفتاح الكرامة 6: 244، المستند 2: 368، الجواهر 37: 101.
458

العين، إذ الانقلاب إلى القيمة إنما يكون بعد تلفها.
المناقشة في الاستدلال بالصحيحة وجوابه
قد نوقش في الاستدلال بالصحيحة المزبورة على المقصود بوجوه
مستفادة من نفس الصحيحة:
1 - أنه لو كان المناط في الضمان هو قيمة يوم المخالفة والغصب لما
تعرض الإمام (عليه السلام) لقيمة يوم الاكتراء بقوله: أو يأتي صاحب البغل
بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين أكري كذا وكذا، فيعلم من هذه
الجملة الشريفة أنه لا خصوصية لقيمة يوم المخالفة لكي يكون المدار
في الضمان عليها.
والجواب عن ذلك أن هذه الجملة لا تنافي الجملة السابقة في الدلالة
على المقصود بل تساعدها وتوافقها، وذلك لأن اكتراء المراكب
واستئجارها قد يكون للمسير إلى مسافات بعيدة وأمكنة نائية، نظير مكة
والمدينة وسائر الأعتاب المقدسة بالنسبة إلى أهل إيران وأفغان وهند
وأمثالها، وقد يكون ذلك للذهاب إلى مسافة قريبة كالمشي من النجف
الأشرف إلى الكوفة، وعلى الأول فقد جرت العادة على اكتراء الحمولة
قبل الخروج إلى المقصد بعدة أيام، وعلى الثاني فلا يكون الاستئجار إلا
يوم الخروج.
وحيث إن أبا ولاد - بمقتضى الظاهر - قد اكترى البغل إلى قصر ابن
هبيرة يوم خروجه من الكوفة لقلة المسافة بينهما، فلم يفصل بين زمان
مخالفته - حين ما وصل إلى قرب قنطرة الكوفة - وبين اكترائه البغل إلا
ساعة أو ساعتان، وإذن فيوم المخالفة يتحد مع يوم الاكتراء، فالإمام
(عليه السلام) قد عبر عن يوم المخالفة بيوم الاكتراء، لأجل أن يوم الاكتراء إنما
459

هو يوم يعرفه الشهود - غالبا - ومن الظاهر أنه لا تتفاوت قيمة البغل في
ساعة أو ساعتين.
2 - أنه قال أبو ولاد: قلت: فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز، فقال
(عليه السلام): عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترده عليه، حيث إن الظاهر
من هذه الجملة المباركة هو أن الضمان بقيمة يوم الرد، لأن الظرف متعلق
بلفظ عليك لتضمنه معنى يلزمك، وعليه فتكون هذه الجملة منافية
لما ذكرناه من دلالة الجملة المتقدمة على الضمان بقيمة يوم المخالفة.
ويرد عليه أن الالتزام بذلك يقتضي استقرار الضمان على الغاصب في
زمان الرد مع أنه واضح البطلان، لأن ضمان المغصوب يستقر على
الغاصب من زمان الغصب.
ويضاف إلى ذلك أن الظاهر من الصحيحة على الاحتمال المذكور هو
أن التفاوت فيما بين الصحة والعيب يثبت على الغاصب يوم الرد من غير
تعرض فيها لبيان أن هذا التفاوت هل يلاحظ من يوم الغصب، أم هل
يلاحظ من يوم التلف، أم يلاحظ من يوم الرد، وعليه فليكن تعيين أن
العبرة بقيمة يوم الغصب في الفقرة السابقة قرينة على المراد في هذه
الفقرة.
قيل: إن الظرف في الجملة المزبورة متعلق بلفظ قيمة، وعليه
فالمعنى أنه عليك تفاوت ما بين الصحة والمعيب يوم الرد، وإذن فتدل
الصحيحة على أن رد البغل فقط لا يكفي في رفع الضمان بل لا بد وأن
يرد معه تفاو ت ما بين الصحيح والمعيب أيضا، وعلى هذا فتبعد هذه
الجملة عن مورد البحث.
وقد ناقش فيه المصنف وهذا نصه: فالظرف متعلق بعليك لا قيد
للقيمة، إذ لا عبرة في أرش العيب بيوم الرد اجماعا، لأن النقص الحادث
460

تابع في تعيين يوم قيمته لأصل العين.
ولكن هذه المناقشة واضحة الاندفاع، لأن قيام الاجماع على تبعية
الأرش لضمان العين في تعيين القيمة لا يدفع هذا الاحتمال، إذ لو كانت
العبرة بيوم الرد في تعيين الأرش كشف ذلك عن أن العبرة في تعيين قيمة
العين أيضا بيوم الرد ولا اجماع على خلاف ذلك بين الأصحاب.
والصحيح في الجواب أن يقال: إنه لا ملزم للالتزام بكون الظرف قيدا
للقيمة من دون قرينة تدل عليه بل إن ظهور الجملة السابقة - في أن العبرة
بيوم الغصب - يدفع هذا الاحتمال، ومع الغض عن ذلك فالظاهر أن
الظرف متعلق بلفظ العيب لاقتران أحدهما بالآخر وعليه فتدل الصحيحة
على أن العيب الحادث إنما يوجب الضمان بالأرش فيما إذا استمر العيب
إلى زمان رد العين وإلا فلا ضمان في ذلك، وإذن فلا تعرض فيها لتعيين
قيمة يوم الغصب ولا لتعيين قيمة يوم التلف، ولا لتعيين قيمة يوم الرد،
ولا شبهة في أن هذا الاستظهار موافق للقواعد العربية وكلمات أهل
اللسان.
وناقش فيه المصنف وقال نصا: لكن يحتمل أن يكون العيب قد
تناقص إلى يوم الرد، و العبرة حينئذ بالعيب الموجود حال حدوثه، لأن
المعيب لو رد إلى الصحة أو نقص لم يسقط ضمان ما حدث منه وارتفع
على مقتضى الفتوى، فهذا الاحتمال من هذه الجهة ضعيف أيضا.
ويرد عليه أولا: إن عدم سقوط الضمان ليس مقتضى فتوى الكل بل
المسألة خلافية، لأنه قيل بسقوط الضمان مطلقا، وقيل بعدم سقوطه
كذلك، وقيل بالتفصيل بين الوصف القابل للزيادة كالسمن وبين ما
لم يكن كذلك كوصف الصحة، فإذا زال السمن حكم بالضمان، بخلاف ما
حدثت نقطة في عين الدابة ثم ارتفعت فإن ذلك لا يوجب الضمان.
461

بل قال السيد في حاشيته وإليك لفظه:
إن الواجب رد العين كما كانت، وهو متحقق مع العود إلى الصحة،
والظاهر أن فتواهم أيضا على هذا لا على ما ذكره المصنف، بل لم أجد
من صرح بما ذكره وإن لم أتتبع، نعم صرح في المسالك بما ذكرنا من
سقوط الضمان،، بل مقتضى ما ذكره في مسألة زيادة القيمة لزيادة صفة
ونقصانها بزوالها وعودها بعودها من عدم ضمانه لذلك الوصف ما ذكرنا،
إذ لا فرق بين وصف الكمال والصحة (1).
وقال في غصب المبسوط: وإن كانت الزيادة من جنس الأول مثل أن
سمنت - أي الجارية - فبلغت ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم سمنت
فعادت إلى الألف، أو تعلمت القرآن فبلغت ألفا ثم نسيت فعادت إلى
مائة ثم تعلمت القرآن فعادت إلى الألف، قيل فيه وجهان: أحدهما
لا يضمن شيئا... الثاني عليه الضمان...، والأول أقوى لأن الأصل براءة
الذمة (2).
بل في الجواهر: أن ملاحظتها - أي الزيادة التالفة - مع الموجودة حال
التلف غير معقولة، ضرورة كونه بمنزلة ملاحظتها مرتين، إذ ليست هي
إلا صنعة واحدة والمتجددة ليست غيرها على وجه تضم معها، وعلى
كل حال فلا ضمان للأصل وصدق الأداء لما أخذ... وقاعدة نفي الضرر
وأن الظالم لا يظلم وغير ذلك (3).
بل الظاهر من اطلاق المحقق في غصب الشرايع هو عدم الفرق بين
وصف الصحة وبين وصف الكمال، وهذا نصه: لو زادت القيمة لزيادة

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 105.
2 - المبسوط 3: 76.
3 - الجواهر 37: 102.
462

صفة ثم زالت الصفة ثم عادت الصفة والقيمة لم يضمن قيمة الزيادة
التالفة لأنها انجبرت بالثانية، ولو نقصت الثانية عن قيمة الأول ضمن
التفاوت (1).
فتحصل مما ذكرناه أنه لا يسمح للمصنف أن ينسب عدم سقوط
الضمان - هنا - إلى مقتضى الفتوى.
ثانيا: إن مقتضى السيرة ودليل ضمان اليد هو أن المغصوب مضمون
على الغاصب ما لم يرده إلى المغصوب منه صحيحا، فإذا رده إليه كذلك
سقط عنه الضمان، سواء أحدث فيه عيب قبل الرد وارتفع أم لا،
والمفروض - هنا - أن المغصوب صحيح حال الرد، وإذن فلا يلزم تدارك
النقص الحاصل في زمان العيب.
3 - أنه سأل أبو ولاد الإمام (عليه السلام) عن المقوم الذي يعرف تفاوت ما بين
الصحة والعيب وقال: قلت: فمن يعرف ذلك، قال (عليه السلام): أنت وهو إما
أن يحلف هو على القيمة فتلزمك فإن رد اليمين عليك فحلفت على
القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل
حين أكرى كذا وكذا فيلزمك.
وقد ذكر المصنف أن هذه الفقرة من الصحيحة مؤيدة لكون المدار -
في تعيين قيمة القيمي - على قيمة يوم التلف.
وحاصل كلامه أنه: إذا اختلف الغاصب والمالك في قيمة العين
المغصوبة وكانت العبرة - في تعيين القيمة - بقيمة يوم المخالفة كان
المالك مدعيا لدعواه زيادة القيمة المخالفة للأصل، وكان الغاصب
منكرا لانكاره تلك الزيادة.
وعليه فمقتضى القاعدة أن يتوجه الحلف على الغاصب لا على

1 - الشرايع 2: 82.
463

المالك بل تجب على المالك إقامة البينة على دعواه، والحال أن
الصحيحة قد دلت على كون كل من اليمين وإقامة البينة وظيفة للمالك،
مع أنه إن كان مدعيا فما هو الوجه في توجه الحلف عليه، وإن كان منكرا
فما هو الوجه في طلب البينة منه، بديهة أنهما لا يجتمعان في مورد
واحد.
وعلى الجملة إنا إذا حملنا الرواية على أن الملاك في تعيين القيمة إنما
هو يوم المخالفة كانت الصحيحة مخالفة للقواعد من ناحيتين:
الأولى: إن دعوى الزيادة من المالك مخالفة للأصل، فلا تتوجه إليه
اليمين بوجه.
الثانية: إن اليمين إذا توجهت إلى المالك لم تسمع منه البينة، وإذن
فكيف حكم الإمام (عليه السلام) بقبول كلا الأمرين من المالك.
وعلى هذا فلا بد من حمل الصحيحة على أن الملاك - في تعيين القيمة
- إنما هو يوم التلف لا يوم المخالفة، فإنه عندئذ يصح توجه كلا الأمرين
على المالك، وبيان ذلك:
أن الإمام (عليه السلام) قد تعرض في الفقرة المذكورة لصورتين من صور
التنازع بين المالك والغاصب:
الصورة الأولى: أن يتفق المالك والغاصب على أن قيمة البغل يوم
الاكتراء كذا وكذا، ولكن اختلفا في تنزله عن تلك القيمة يوم التلف
وعدم تنزله عن ذلك، فإنه حينذاك وجب الأخذ بقول المالك، لأن
الغاصب يدعي نقصان القيمة والمالك ينكره فيقدم قول المالك مع يمينه
لكونه موافقا للأصل، مثلا إذا اتفقا على أن قيمة البغل يوم الاكتراء كانت
عشرين دينارا ولكن ادعى الغاصب نقصانها إلى يوم التلف وادعى
المالك بقاءها على حالها، ولا شبهة في أن قول المالك حينئذ موافق
464

للأصل فيقدم مع يمينه بخلاف قول الغاصب فإنه مخالف للأصل فتلزمه
إقامة البينة.
الصورة الثانية: أن يتفق المالك والغاصب على أن قيمة يوم التلف
متحدة - اجمالا - مع قيمة يوم المخالفة ولكنهما اختلفا في تعيين تلك
القيمة، بأن ادعى المالك كونها يوم المخالفة عشرين دينارا وادعى
الغاصب كونها عشرة دنانير، ومن الواضح أن المالك - عندئذ - يدعي
زيادة القيمة فتجب عليه إقامة البينة على ذلك، أما الغاصب فهو منكر
لتلك الزيادة فتتوجه عليه اليمين.
وعلى الاجمال إنا إذا حملنا الصحيحة على كون المناط - في تعيين
القيمة - هو قيمة يوم التلف أمكن لنا تصوير التغاير بوجه قريب بين إلزام
المالك بالحلف وبين إلزامه بإقامة البينة وإذا حملنا الصحيحة على كون
المناط - في ذلك - هو قيمة يوم الغصب فتصوير التغاير بين الأمرين بعيد
جدا لأنه على هذا لا بد من حملها على صورة اتفاق المالك والغاصب
على قيمة اليوم السابق على يوم المخالفة أو على قيمة اليوم اللاحق بيوم
المخالفة ثم ادعى الغاصب نقصان القيمة السابقة، ولكنه خلاف الظاهر
من الصحيحة، فلا يمكن الالتزام به مع عدم القرينة عليه، هذا غاية ما
يمكن أن يقال في توجيه كلام المصنف.
ويرد عليه أن حمل الصحيحة على إرادة يوم التلف ثم حمل توجه
الحلف على المالك على صورة وتوجه البينة عليه على صورة أخرى
خلاف الظاهر منها جدا، ضرورة أن الظاهر منها هو تخير المالك بين
الوظيفتين في اثبات مقصوده، إما إقامة البينة أو الحلف، كما يقتضيه
عطف إحدى الوظيفتين على الوظيفة الأخرى بأو، وإذن فلا وجه لجعل
الجملة المتقدمة التي هي مورد بحثنا فعلا مؤيدة لإرادة يوم التلف دون
يوم المخالفة والغصب.
465

بل الظاهر - والله العالم - هو الأخذ بظاهر الصحيحة من توجه كلا
الأمرين - أي الحلف وإقامة البينة - على المالك في خصوص الدابة
المغصوبة أو في مطلق القيمي المغصوب، وإذن فتكون الصحيحة
مخصصة لقاعدة البينة على المدعي واليمين على المنكر، فلا غرو في
ذلك، لأن تلك القاعدة ليست من القواعد العقلية حتى لا تقبل التخصيص
أو التقييد بل هي قاعدة فقهية قابلة لذلك، كما أن سائر القواعد الفقهية
كذلك.
وعليه فالمستفاد من الصحيحة أنه إذا اختلف المالك والغاصب في
زيادة القيمة ونقصانها جاز للمالك أن يحلف على ما يدعيه من زيادة
القيمة، أو يرده إلى الغاصب، أو يقيم بينة على ذلك، فكان هذا الحكم
تفضل من الشارع المقدس للمالك على رغم من الغاصب.
وقال المحقق الإيرواني: إن قضية البينة على المدعي واليمين على
من أنكر قضية واردة في المخاصمات، وفي مورد الرواية لم تفرض
مخاصمة، بل الراوي سأل عن أنه من يعرف قيمة البغل وهو تالف فقال
(عليه السلام): أما أنت أو هو، فيكون الحلف من كل منهما لأجل أن يذعن
الطرف المقابل الجاهل بالقيمة، لا لأجل إلزام خصمه المنكر له (1).
ويرد عليه أن حمل الحلف - هنا - على الحلف المتعارف الذي يرضي
به المحلوف له ويصدقه في دعواه من دون محاكمة خلاف الظاهر من
الصحيحة، لأنها واردة في مورد المخاصمة فلا يجوز حملها على غير
موردها، وهذا ظاهر.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 103.
466

الاعتبار بأعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف
قد استدل على الضمان بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف
بوجوه:
1 - ما عن الشهيد الثاني، من الاستشهاد بالصحيحة المتقدمة على
ذلك، وقال المصنف نصا: لم يعلم لذلك وجه صحيح ولم أظفر بمن
وجه دلالتها على هذا المطلب (1).
ولكن يمكن توجيه دلالتها على ذلك، بأن المغصوب مضمون على
الغاصب في جميع أزمنة الغصب التي منها زمان ارتفاع القيمة، إذ يصدق
على ذلك زمان المخالفة أيضا، ضرورة أن المراد من يوم المخالفة - في
الصحيحة - إنما هو طبيعي يوم المخالفة الذي يصدق على كل يوم من
أيام الغصب لا اليوم الخاص.
وعليه فإن رد الغاصب نفس المغصوب فهو وإلا فإن رد أعلى القيم
فقد رد قيمة يوم المخالفة بقول مطلق لدخول القيمة السفلى في القيمة
العليا، بديهة أنه لا يجب على الغاصب قيم متعددة حسب تعدد أيام
المخالفة، كما أنه لو رد القيمة النازلة لما رد قيمة يوم المخالفة بقول
مطلق بل أدى قيمة بعض أيام المخالفة.
والجواب عن هذا التوجيه: أن الظاهر من قوله (عليه السلام) في الصحيحة:
نعم قيمة بغل يوم خالفته، هو أول يوم حدثت فيه المخالفة لا مطلق
أيام المخالفة، إذ يوجد الطبيعي في الخارج بأول وجود فرده، لأن
موضوع الضمان في الصحيحة إنما هو صرف وجود المخالفة.

1 - المسالك 2: 209، الروضة البهية 7: 43، حكاه السيد العاملي في مفتاح الكرامة
6: 244.
467

ونظير ذلك ما إذا قال المولي لعبده: إذا خالفتني في الأمر الفلاني
وجب عليك أن تصوم يوم مخالفتك، فإن الظاهر من هذه العبارة أنه يجب
على العبد صوم أول يوم من أيام مخالفته لا جميع أيامها.
أضف إلى ذلك أن ذيل الصحيحة شاهد صدق على عدم إرادة الطبيعة
السارية من يوم المخالفة، بل المراد منه هو اليوم الخاص المعهود،
وذلك الذيل هو قوله (عليه السلام): أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أن
قيمة البغل حين أكري كذا وكذا، إذ لو كان المراد من يوم المخالفة هو
الطبيعي لما كان وجه لتعيين ذلك اليوم بيوم الاكتراء في هذه الفقرة،
ولا لتعيين قيمة المغصوب - في ذلك اليوم - بالشهود، وقد عرفت فيما
سبق أن المراد من يوم الاكتراء هو يوم المخالفة.
2 - إن الغاصب إذا وضع يده على المغصوب اشتغلت ذمته به، وعليه
فلو أدى المغصوب بعينه مع بقائه أو أدى قيمته العليا مع تلفه لفرغت
ذمته يقينا، ولو أدى قيمته المتوسطة أو قيمته السفلي لما حصل العلم
بفراغ ذمته.
ويرد عليه أن المورد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر فيؤخذ
بالأقل لأنه متيقن، والزائد عليه تجري عنه البراءة.
3 - إن العين المغصوبة مضمونة على الغاصب بقاعدة ضمان اليد
فنستصحب ضمانها إلى زمان دفع أعلى القيم من زمان الغصب إلى زمان
التلف، للشك في ارتفاع الضمان بدفع ما هو أقل من ذلك.
ويرد عليه أن المراد من استصحاب الضمان إن كان استصحاب ضمان
نفس العين، فلازمه أن يدفع الغاصب قيمة يوم الرد، إلا أن هذا لا يحتاج
إلى الاستصحاب، لأن القاعدة الأولية تقتضي ذلك على ما عرفته قريبا.
وإن كان المراد منه استصحاب ضمان القيمة ففيه أن اشتغال الذمة
468

لم يثبت إلا بالقيمة النازلة أما الزائد عليها فهو مشكوك فيه فتجري عنه
البراءة، فما هو المتيقن قد ارتفع يقينا أما غيره فلم يتعلق به اليقين من
الأول.
وعلى الجملة أن الاستصحاب - في محل الكلام - إما أنه غير جار
أصلا، أو أنه يجري ولكن لا يثبت إلا الاشتغال بقيمة يوم الرد دون أعلى
القيم.
4 - إن العين المغصوبة بنفسها مضمونة على الغاصب من ابتداء
اغتصابها إلى نهاية بقائها في نظام الوجود، ومن الواضح أن اختلاف
قيمتها بالصعود والنزو ل دخيل في اختلاف ماليتها من جهة الزيادة
والنقيصة، وعليه فإن حكمنا باشتغال ذمة الغاصب بأعلى القيم فهو وإلا
يتضرر المالك بفوت مقدار من مالية ماله، والضرر منفي بقاعدة نفي
الضرر.
ويرد عليه:
أولا: إن أدلة نفي الضرر إنما تنفي الأحكام الضررية فقط ولا تثبت
حكما آخر لكي يدفع به الضرر.
ثانيا: إن زيادة القيمة السوقية غير مضمونة على الغاصب وإلا يلزم
الحكم بضمانها أيضا - في صورة بقاء العين - مع نقصان قيمتها السوقية
يوم الأداء عن قيمتها السابقة ولم يلتزم به أحد فيما نعلم.
وبتعبير آخر أنا قد ذكرنا في محله أن الضرر عبارة عن النقص في
الأموال أو الأعراض أو الأعضاء والأطراف أو الأنفس، ومن البين الذي
لا ريب فيه أن نزول القيمة السوقية بعيد عن تلك الجهات كلها، ومن هنا
يجوز لأي تاجر استيراد مال التجارة وإن أوجب ذلك نقصا في قيمة
أموال التجار الآخرين.
469

ثالثا: إن أدلة نفي الضرر واردة في مقام الامتنان على الأمة، ومن الظاهر
أن الحكم بكون أعلى القيم مضمونا على الغاصب مناف للامتنان عليه،
فلا يكون مشمولا لأدلة نفي الضرر.
5 - ما أفاده المصنف وحاصل كلامه: أن الغاصب قد أزال يد المالك
عن المغصوب بماله من المالية في كل زمان من أزمنة بقاء المغصوب
تحت يد الغاصب، ومن تلك الأزمنة ارتفاع قيمته السوقية.
وعلى هذا فإن رد الغاصب نفس العين المغصوبة على مالكها فقد
خرج عن عهدتها، بداهة أن المأخوذ بالغصب إنما هو نفسها لا ماليتها
الخالصة، وإذا تلفت لم يمكن الخروج عن عهدتها إلا برد كل مالية زالت
عنها يد المالك، لأن حيلولة الأجانب بين الأموال وملاكها توجب
الضمان بمجموع المالية الفائتة، ومن الظاهر أنه لا يحصل الفراغ عن ذلك
إلا برد أعلى القيم، كما أنه لو تلفت العين عند ارتفاع القيمة السوقية
لوجب تداركها بأداء تلك القيمة.
ويرد عليه أنه لا صلة بين موارد بدل الحيلولة وبين ما نحن فيه، ضرورة
أن القائلين ببدل الحيلولة إنما التزموا به من جهة الجمع بين الحقين،
بمعنى أن تكليف الغاصب برد العين حين التعذر تكليف بما لا يطاق وهو
غير جائز عقلا ونقلا، ومنع المالك عن حقه مع مطالبته إياه ظلم وعدوان
ومخالفة لمقتضي دليل السلطنة، ولا شبهة في حرمته عقلا ونقلا،
وإذن فالجمع بين الحقين يقتضي الالتزام بوجوب أداء بدل الحيلولة إلى
المالك، وسيأتي التعرض لذلك تفصيلا.
وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن كلامنا - هنا - في أصل ضمان الغاصب
القيمة العليا لا في وجوب أداء ما هو ثابت في ذمة الضامن مع مطالبة
المالك إياه.
470

أضف إلى ذلك أن بدل الحيلولة إنما ثبت في مورد لم تتلف العين تلفا
حقيقيا بل تعذر الوصول إليه من ناحية الموانع الخارجية.
ومن الظاهر أن هذه الكبرى لا تنطبق على مورد بحثنا، لأن العين في
زمان وصولها إلى القيمة العليا لم يتعذر ردها على مالكها، لأن حيلولة
الغاصب بين المالك وماله غير مستندة إلى التعذر النازل منزلة التلف بل
هي اختيارية للغاصب، أما في زمان تلفها حقيقة فقد انتقل ضمانها إلى
القيمة فما هو الموجب لضمانه أعلى القيم، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
6 - ما ذكره المحقق الإيرواني وإليك لفظه: فالأحسن في الاستدلال
على ضمان أعلى القيم أنه يصدق عند صعود القيمة أن الغاصب معتد يوم
صعود القيمة بمالية صاعدة ومقتضى: فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
جواز أخذ تلك المالية منه بعد التلف مجازاة لاعتدائه (1).
ويتوجه عليه أنه لا دلالة في الآية الكريمة على أصل الضمان - على ما
عرفته في أوائل المسألة - فضلا عن دلالتها على الضمان بأرفع القيم.
7 - إن العين مضمونة على الغاصب في جميع أوقات الغصب التي منها
زمان وصولها إلى القيمة العليا.
ويرد عليه أنه إن كان الغرض من هذا الوجه هو كون العين بنفسها
مضمونة على الغاصب ما دامت باقية فهو صحيح، ولكن لا دلالة في ذلك
على الضمان بأعلى القيم، بداهة أن الضمان إنما ينتقل إلى القيمة - بعد
تلف العين - إما في زمان التلف أو في زمان الأداء على الخلاف في ذلك،
وعليه فلا يمكن الالتزام بضمان القيمة قبل تلف العين وقبل انتقال
الضمان منها إلى القيمة.
وإن كان الغرض من هذا الوجه هو اثبات الضمان بالقيمة العليا ضمانا

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 104.
471

فعليا منجزا، سواء أكانت العين باقية بعد انتهائها إلى تلك القيمة أم كانت
تالفة، فهو خلاف ما تسالموا عليه، من أن ارتفاع القيمة السوقية مع عدم
تلف العين، غير مضمونة على الغاصب، على أن ذلك يستلزم الجمع بين
العوض والمعوض أحيانا، إذ المفروض أن العين باقية في ملك مالكها
ولو التزمنا - معه - بانتقال الضمان إلى بدلها للزم المحذور المذكور.
وإن كان الغرض من ذلك أن الضمان بأرفع القيم فعلي ولكن استقراره
في ذمة الغاصب مراعي بالتلف، فهو مصادرة واضحة، ولا يساعده
النقل ولا الاعتبار، بل هو مخالف لأصالة البراءة من غير دليل شاغل.
عدم امكان الاستناد إلى هذه الوجوه
ثم إنا لو سلمنا دلالة هذه الوجوه الاعتبارية المتقدمة على الضمان
بأعلى القيم، ولكن لا يمكن الاستناد إليها في ذلك لأنه اجتهاد في مقابل
الصحيحة المتقدمة الدالة على الضمان بقيمة يوم المخالفة، ودعوى أن
الصحيحة مجملة فلا يتضح لنا المراد منها، دعوى غير مسموعة لما
عرفته قريبا من ظهورها في الضمان بقيمة يوم الغصب.
وقد ظهر لك مما حققناه أنه لا دلالة في الصحيحة على القول بضمان
قيمة يوم الدفع، ولا على القول بضمان قيمة يوم التلف، ولا على غير
ذلك من الوجوه، بل هي ظاهرة في خصوص ما ذكرناه فقط، وعليه
فلا يصغى إلى الاستدلال على الأول بقاعدة ضمان اليد، فإنها محكومة
بالصحيحة المتقدمة.
نعم ربما يتوهم الاستدلال على الثاني بجملة من الأخبار (1) الواردة في

1 - عن ابن بكير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرهن، فقال: إن كان أكثر من مال
المرتهن فهلك أن يؤدي الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان أقل من ماله فهلك الرهن أدي إليه
صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن سواء فليس عليه شئ (الكافي 5: 234، التهذيب 7: 171،
الإستبصار 3: 119، عنهم الوسائل 18: 391)، موثقة بابن بكير.
وعن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول علي (عليه السلام) في الرهن: يترادان الفضل،
فقال: كان علي (عليه السلام) يقول ذلك، قلت: كيف يترادان الفضل، فقال: إن كان الرهن أفضل مما
رهن به ثم عطب رد المرتهن الفضل على صاحبه، وإن كان لا يسوي رد الراهن ما نقص من حق
المرتهن، قال: وكذلك كان قول علي (عليه السلام) في الحيوان وغير ذلك (الكافي 5: 234، التهذيب
7: 171، الإستبصار 3: 119، عنهم الوسائل 18: 390)، ضعيف بسهل بن زياد.
وعن عبد الله بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: وسألته عن رجل رهن عند رجل رهنا
على ألف درهم والرهن يساوي ألفين فضاع، قال: يرجع عليه بفضل ما رهنه، وإن كان أنقص
مما رهنه عليه رجع على الراهن بالفضل، وإن كان الرهن يساوي ما رهنه عليه فالرهن بما فيه
(الفقيه 3: 196، التهذيب 7: 171، الإستبصار 3: 130، عنهم الوسائل 18: 392)، ضعيف بعبد
الله بن الحكم وغيره.
472

باب الرهن، الظاهرة في أن القيمي إذا تلف انتقل ضمانه بمجرد التلف إلى
القيمة، لأنها تدل على لزوم رعاية قيمة العين المرهونة حين تلفها
وملاحظة نسبتها مع الدين، فإن كانت مساوية له فلا شئ على الراهن
وإن زادت عليه أخذ الزيادة وإن نقصت عنه رد على المرتهن مقدار ما
نقص.
ولكن يتوجه عليه أن مورد هذه الروايات إنما هو الاتلاف أو التفريط،
إذ لا ضمان - في تلف الرهن - على المرتهن من دون تعد وتفريط،
والشاهد على ذلك جملة أخرى من روايات الرهن (1)، وعليه فزمان التلف
والضمان واحد في صورة الاتلاف، فلا منافاة عندئذ بين روايات الرهن
وبين الصحيحة الدالة على أن العبرة بقيمة يوم المخالفة، أما في صورة
التفريط فيمكن أن يتغاير يوم التلف مع يوم الضمان.

1 - قد نقلناها في البحث عن حكم المنافع المستوفاة.
473

ولكن الذي يسهل الخطب أنه لا دلالة في روايات الرهن على الضمان
بقيمة يوم التلف ولا بقيمة يوم المخالفة ولا بقيمة أخرى غيرهما، بل
الظاهر منها هو ثبوت أصل الضمان بالقيمة في فرض التعدي والتفريط،
وقد عرفت دلالة الصحيحة على الضمان بقيمة يوم المخالفة، وإذن
فلا منافاة بينها وبين روايات الرهن في فرض التفريط أيضا.
ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بما ورد في العتق (1) على الضمان
بقيمة يوم التلف، لأن ذلك ورد في الاتلاف وقد عرفت أن زمان التلف
والضمان واحد في صورة الاتلاف.
ختام البحث في القيمي
قد يتوهم أن الالتزام بانتقال القيمي التالف إلى القيمة ينافي لما تسالم
عليه الأصحاب من صحة المصالحة بين التالف وبين أي مقدار من
الدراهم والدنانير، والوجه في ذلك أنه لو كان التلف موجبا لانتقال
التالف إلى القيمة لما صحت المصالحة إلا على المقدار الذي يساوي
قيمة التالف، فإن المصالحة على الزائد عليه يستلزم الرباء.
ولكن هذا التوهم فاسد، بداهة أن القيمة الثابتة في ذمة الضامن ليست
هي خصوص الدراهم ولا أنها خصوص الدنانير بل إنما هي أمر كلي
تتقوم به الأشياء وأنه أعم من الدراهم والدنانير، وإذن فمصالحة التالف

1 - كقوله (عليه السلام) في رواية عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله: نعم يؤخذ بما بقي منه بقيمته
يوم أعتق (الكافي 6: 183، التهذيب 8: 219، الإستبصار 4: 3، عنهم الوسائل 23: 38).
وكقوله (عليه السلام) في رواية محمد بن قيس: وإن لم يكن له سعة من مال نظر قيمته يوم أعتق منه
ما أعتق ثم يسعى العبد بحساب ما بقي حتى يعتق (الكافي 6: 183، التهذيب 8: 221،
الإستبصار 4: 4، عنهم الوسائل 23: 37).
474

على الدراهم أو على الدنانير لا تستلزم وقوع المصالحة بين المتجانسين
الربويين لكي يلزم منها الرباء.
الاعتبار بيوم البيع فيما كان فساده من جهة التفويض إلى حكم المشتري
قوله (رحمه الله): ثم إنه حكي عن المفيد والقاضي والحلبي الاعتبار بيوم البيع فيما
كان فساده من جهة التفويض إلى حكم المشتري (1).
أقول: لم يتضح لنا وجه صحيح لما ذكره هؤلاء الأعاظم إلا أن يوجه
رأيهم هذا بما وجهه به المصنف من إرادة يوم القبض من يوم البيع لغلبة
اتحادهما زمانا، كما وقع التعبير - في صحيحة أبي ولاد - عن يوم
المخالفة بيوم الاكتراء.
وكيف كان فلا وجه لتقييد فساد المعاملة بخصوص تفويض الثمن إلى
المشتري، ضرورة أن مورد البحث إنما هو المقبوض بالعقد الفاسد بل
المغصوب أيضا، وعليه فأية خصوصية للتقييد المزبور.
قوله: فافهم.
أقول: لعله إشارة إلى أن إرادة يوم القبض من يوم البيع وإن كان بعيدا
في نفسه، ولكنه لا بد من ذلك صونا لكلام هؤلاء الأكابر عن اللغوية،
ولعلهم تبعوا في هذا التعبير للصحيحة المتقدمة حيث عرفت قريبا أن
الإمام (عليه السلام) قد عبر فيها عن يوم المخالفة بيوم الاكتراء، والله العالم
بالضمائر.
ثم قال المصنف: إنه لا عبرة بزيادة القيمة بعد التلف على جميع

1 - المقنعة: 593، ذكر في المختلف 5: 243 عن المفيد والقاضي والحلبي، ولم نعثر عليه
في الكافي والمهذب.
475

الأقوال، إلا أنه تردد فيه في الشرايع (1)، ولعله - كما قيل (2) - من جهة احتمال
كون القيمي مضمونا بمثله ودفع القيمة إنما هو لاسقاط المثل، وقد
تقدم أنه مخالف لاطلاق النصوص والفتاوي.
أقول: قد عرفت فيما سبق أن مقتضى القاعدة هو بقاء العين بعد تلفها
في الذمة على نحو الكلي الذي يعبر عنه بالمثل ولا تنتقل إلى القيمة إلا
يوم الرد، وإذن فلا مناص عن الالتزام بضمان القيمة الزائدة للعين بعد
تلفها، ودعوى أن هذا مخالف للاجماع، دعوى جزافية، لعدم العلم
بوجود الاجماع التعبدي في المقام.
ولكن الذي يسهل الخطب هو دلالة الصحيحة المتقدمة على الاعتبار
بقيمة يوم المخالفة، وعليه فلا مجال للأخذ بمقتضى القاعدة أعني به
الضمان بقيمة يوم الرد.
ارتفاع القيمة بسبب الأمكنة
قوله (رحمه الله): ثم إن ما ذكرنا من الخلاف إنما هو في ارتفاع القيمة بحسب الأزمنة.
أقول: لما بنى المصنف على الاعتبار بقيمة يوم التلف في ضمان
التالف بنى على اعتبار محل التلف أيضا في ذلك، ضرورة أن الأشياء كما
تختلف قيمتها باختلاف الأزمنة كذلك تختلف قيمتها باختلاف الأمكنة،
فالمالية إذا قدرت بقيمة يوم التلف قدرت بقيمة مكان التلف أيضا، فإن
العين إنما تضمن بجميع خصوصياتها حين التلف ومن جملتها خصوصية
بلد التلف.
ولكنا لما بنينا على الاعتبار بقيمة يوم المخالفة لدلالة الصحيحة

1 - الشرايع 3: 240.
2 - قاله الشهيد الثاني في الروضة 7: 40.
476

المتقدمة على ذلك فلا مناص عن الاعتبار بقيمة مكان المخالفة أيضا،
لأن الإمام (عليه السلام) مع كونه في مقام البيان لم يفكك بينهما، على أن التفكيك
بينهما خلاف المرتكز العرفي.
ويدل على ما ذكرناه قوله (عليه السلام) في نفس الصحيحة: أو يأتي صاحب
البغل بشهود يشهدون أن قيمة البغل حين أكري كذا وكذا فيلزمك، فإن
الظاهر من هذه الجملة المباركة هو اختيار الشهود من أهل الكوفة التي هي
مكان المخالفة، ضرورة أن الاتيان بالشهود من أهل بغداد، التي كانت
نهاية لسير أبي ولاد، بعيد جدا.
ومن الواضح أنه إذا كان الشهود من أهل الكوفة لم يشهدوا إلا على ما
هو قيمة البغل في الكوفة لا على قيمته في مكان آخر، لأن شهادتهم على
الثاني تحتاج إلى عناية زائدة وهي غير مذكورة في الصحيحة.
ارتفاع القيمة بسبب الزيادة العينية
قوله (رحمه الله): ثم إن جميع ما ذكرنا من الخلاف إنما هو في ارتفاع القيمة السوقية
الناشئة من تفاوت رغبة الناس.
أقول: الزيادات الحاصلة في العين تارة تكون منفصلة وأخرى تكون
متصلة، أما الأولى فحكمها حكم نفس العين، وعليه فإن كانت باقية
فوجب ردها على مالكها، وإن كانت تالفة فوجب رد بدلها عليه من المثل
أو القيمة، أما الثانية فلا شبهة في كونها مضمونة على الضامن أيضا،
سواء أكانت هذه الزيادات من قبيل الكيف كوصف الكتابة والنجارة
والبناية وأمثالها، أم كانت من قبيل الكم كالسمن ونحوه، أم كانت من
قبيل وصف الصحة.
وبتعبير آخر كما أن العين مضمونة على الغاصب كذلك أوصافها
477

الدخيل في مالية العين، فإنها أيضا مضمونة على الغاصب، سواء في ذلك
أوصاف الصحة وأوصاف الكمال، وهذا ظاهر.
ثم إن الخلاف المتقدم في الضمان بقيمة العين المغصوبة يجري في
الضمان بقية الزيادات الفائتة أيضا، وقد عرفت فيما تقدم قريبا أن
الاعتبار في ضمان العين التالفة بقيمة يوم الغصب، وهكذا في المقام
طابق النعل بالنعل والقذة بالقذة.
والوجه في ذلك أن العين إنما تكون مضمونة على الغاصب مع
أوصافها الدخيل في ماليتها لا مجردة عنها، وعليه فتحديد العين بقيمة
وقت خاص تحديد لأوصافها أيضا بقيمة ذلك الوقت، وقد عرفت دلالة
الصحيحة على أن الاعتبار في الضمان إنما هو بقيمة يوم الغصب
ومقتضى اطلاقها - والله العالم - هو الالتزام بضمان العين مع أوصافها من
يوم المخالفة، وإن كانت الأوصاف حاصلة بعد ذلك، وعليه فتقدر العين
موصوفة بتلك الأوصاف حين المخالفة فتقوم ويضمن بتلك القيمة،
وإذن فلا عبرة بالقيمة حين حدوث الأوصاف.
تعذر الوصول إلى العين في حكم التلف
قوله (رحمه الله): ثم إن في حكم تلف العين في جميع ما ذكر من ضمان المثل أو
القيمة حكم تعذر الوصول إليه وإن لم يهلك كما لو سرق أو غرق أو ضاع أو أبق.
أقول: تحقيق البحث عن بدل الحيلولة ونواحيه يقع في ضمن أسئلة
وأجوبتها:
1 - الدليل على ثبوت بدل الحيلولة
ما هو الدليل على الالتزام ببدل الحيلولة عند تعذر الوصول إلى العين.
478

قد استدل على ذلك بوجوه شتى:
الوجه الأول قاعدة نفي الضرر، بدعوى أن تكليف المالك بالصبر إلى
أن يعود المال إلى يده ضرر عليه، أو يقال: إن عدم الحكم بضمان البدل
ضرر على المالك، أو يقال: إن امتناع الضامن عن أداء البدل ضرر على
المالك.
ويرد عليه أن الاستدلال بقاعدة نفي الضرر على اثبات بدل الحيلولة
يتوقف على مقدمتين:
الأولى: إن قاعدة نفي الضرر مسوقة لرفع الأحكام الضررية لا رفع
الموضوعات الضررية، وقد ذكرنا في محله أن هذه المقدمة صحيحة
لا شك فيها.
الثانية: أن يلتزم بأن أدلة نفي الضرر كما تشمل الأحكام الوجودية
كذلك تشمل الأحكام العدمية أيضا، أي كلما توجه ضرر على المكلفين
من ناحية حكم الشارع بشئ أو عدم حكمه به فأدلة نفي الضرر تقتضي
ارتفاع الحكم في الأول وجعله في الثاني.
وهذه المقدمة مخدوشة بما ذكرناه في محله، وحاصله أن أدلة نفي
الضرر ناظرة إلى نفي الضرر في عالم التشريع، أي الضرر الناشئ من
تشريع الأحكام في الشرع المقدس الاسلامي، وعليه فتلك الأدلة غير
ظاهرة في تدارك الضرر المتوجه على المكلفين من غير ناحية تشريع
الحكم الشرعي، وإلا فيلزم الحكم بوجوب تدارك الضرر المتوجه على
أحد المسلمين من بيت المال أو من أموال سائر المسلمين.
وحينئذ فلا يمكن التمسك بالقاعدة المزبورة لاثبات بدل الحيلولة،
وبعبارة أخرى أنه لا استحالة في حكومة قاعدة نفي الضرر ثبوتا وامكانا
479

على الأحكام الوجودية والعدمية، ولكن لا دليل عليه في مرحلة الاثبات
والوقوع، بديهة أن أدلة نفي الضرر قاصرة عن اثبات هذا المعنى.
ويضاف إلى ذلك أن النسبة بين موارد بدل الحيلولة وموارد تضرر
المالك هي العموم من وجه، إذ قد لا يتضرر المالك بصبره إلى زمان
التمكن من الوصول إلى ماله لاستغنائه عنه، ومع ذلك يحكم بلزوم أداء
بدل الحيلولة، وقد يتضرر المالك من حيلولة الغاصب بينه وبين ماله مدة
قليلة كساعة أو ساعتين مع أنه لا يكون موردا لبدل الحيلولة، لأن الفقهاء
(قدس سرهم) قد اعتبروا في ثبوت بدل الحيلولة تعذر وصول المالك إلى ماله مدة
طويلة، وسيأتي ذلك قريبا، وإذن فلا يمكن الاستدلال على اثبات بدل
الحيلولة بقاعدة نفي الضرر.
ويؤيد ما ذكرناه أنا لم نجد أحدا يستدل بقاعدة نفي الضرر على ثبوت
بدل الحيلولة فيما إذا حال أحد بين المالك وماله بمنعه عن التصرف فيه،
ودعوى ثبوت الفارق بين هذا وبين ما نحن فيه دعوى جزافية.
ولو أغمضنا عن جميع ذلك ولكن تضرر المالك بالصبر إلى زمان
الوصول إلى ماله معارض بتضرر الضامن برد بدل الحيلولة فيتساقطان،
وعليه فلا يكون مورد بدل الحيلولة مشمولا لقاعدة نفي الضرر.
ودعوى أن الضامن قد أقدم بنفسه على الضرر فلا يعارض بضرر
المالك دعوى فاسدة، ضرورة أن الضامن لم يقدم إلا على ضمان العين
فقط لا على ضمان سائر الجهات الخارجة عن العين.
الوجه الثاني: قوله (صلى الله عليه وآله): إن الناس مسلطون على أموالهم، وتقريب
الاستدلال بهذا الحديث على المقصود هو أن السلطنة على العين وإن
كانت ممنوعة بالتعذر إلا أن السلطنة على ماليتها غير ممنوعة، وعليه
فيجب على الضامن رد البدل على المالك حفظا لسلطنته على مالية ماله.
480

ويرد عليه:
أولا: إن دليل السلطنة ضعيف من جهة الارسال وغير منجبر بشئ.
ثانيا: إن مفاده إنما هو اثبات السلطنة للمالك فيما يجوز له التصرف
في ماله كالبيع واللبس والسكنى وأمثال ذلك، ومن الواضح أنه ليس
لأحد أن يزاحم المالك في أشباه هذه التصرفات، وأما بقية الجهات
فهي بعيدة عن دليل السلطنة.
وببيان آخر: أن دليل السلطنة إنما يدل على عدم محجورية المالك
عن ماله في التصرفات السائغة، فلا دلالة فيه على اثبات السلطنة له في
التصرفات غير السائغة في ماله.
وعلى هذا الضوء فيجوز للمالك أن يطالب ماله من الغاصب بمقتضى
دليل السلطنة، ولكن لا يستفاد من ذلك جواز مطالبة بدل الحيلولة منه،
إذ لا صلة بينهما بوجه، كما أنه لا يستفاد من الدليل المزبور جواز إيذاء
الغاصب بالضرب والشتم والحبس ونحوها.
أضف إلى ذلك أن النسبة بين دليل السلطنة وبين موارد بدل الحيلولة
هي العموم من وجه، وحينئذ فلا يصح الاستدلال به على ثبوت بدل
الحيلولة في جميع الموارد، بل إنما يصح ذلك في بعض الموارد وعلى
سبيل الايجاب الجزئي، على أنا لو جوزنا ثبوت بدل الحيلولة مع تعذر
وصول المال إلى مالكه للزم القول بثبوته مع تعذر وصول المالك إلى ماله
من جهة الحبس ونحوه، ضرورة أنه لا يفرق في ذلك بين أن يكن التعذر
بحبس المالك ومنعه عن الوصول إلى ماله وبين القاء المال في مكان
لا يصل إليه مالكه عادة إلا بعد مدة طويلة، مع أنه لم يلتزموا الفقهاء
بثبوت البدل في الصورة الأولى وهذا ظاهر.
الوجه الثالث: قاعدة الضمان بالاتلاف، بدعوى أن الغاصب قد فوت
481

سلطنة المالك على ماله في موارد بدل الحيلولة، فحيث إنه غير قادر على
إعادة تلك السلطنة بعينها فلا بدله من إعادة مثلها، ومن الواضح أن هذا
لا يمكن إلا بأداء بدل الحيلولة.
ويرد عليه:
أولا: إن التمسك بهذا الوجه يقتضي الحكم بلزوم بدل الحيلولة فيما
كان تعذر الوصول إلى المال من جهة حبس المالك ومنعه عن التصرف
فيه، كما أن التمسك به يقتضي الالتزام ببدل الحيلولة، فما كانت مدة
الحيلولة قليلة مع أن القائلين ببدل الحيلولة لم يلتزموا به في
كلا الموردين.
ثانيا: أنه إن كان المراد من فوت السلطنة فوت منافع العين، فلا شبهة
في كونها مضمونة على الغاصب كما أن نفس العين مضمونة عليه، ولكن
هذا بعيد عن بدل الحيلولة، وإن كان المراد من ذلك فوت نفس السلطنة
على العين فلا دلالة في القاعدة المزبورة على كون السلطنة الفائتة
مضمونة على الغاصب، بداهة أن مفاد القاعدة هو أن العين التالفة مضمونة
على المتلف دون سائر الجهات.
أضف إلى ذلك أن هذه القاعدة ليست بمدلول آية أو رواية لكي
نتمسك باطلاقها، بل هي متصيدة من أدلة الضمان الواردة في موارد
خاصة، وعليه فلا بد من الاقتصار على الموارد المتيقنة أعني بها نفس
العين التالفة.
الوجه الرابع: قوله (صلى الله عليه وآله): على اليد ما أخذت حتى تؤديه، فإن أداء
العين كما يكون بأداء البدل في صورة التلف كذلك يكون بأداء البدل في
فرض الحيلولة.
ويرد عليه:
482

أولا: إن الحديث المزبور ضعيف السند وغير منجبر بشئ، وقد
عرفته فيما تقدم (1).
ثانيا: أنه لو جاز التمسك به - هنا - لما يفرق فيه بينما كانت مدة التعذر
قليلة وبينما كانت مدته طويلة، مع أن الفقهاء لم يلتزموا ببدل الحيلولة
في الصورة الأولى.
ثالثا: إنا ذكرنا في مبحث المقبوض بالعقد الفاسد أن قاعدة ضمان اليد
إنما تدل على ثبوت العين في عهدة الغاصب بجميع خصوصياتها الفردية
والصنفية والنوعية التي هي دخيل في المالية، وذكرنا أيضا أن فقدان أية
خصوصية من تلك الخصوصيات لا يوجب اضمحلال غيرها.
وعليه فإذا كانت العين موجودة لزم على الغاصب ردها مع تلك
الخصوصيات بأجمعها لاستحالة أدائها بدون تلك الخصوصيات، وإذا
تلفت حقيقة كالاحتراق ونحوه، أو صارت في حكم التلف في نظر أهل
العرف كالسرقة والإباق والاغتراف والضياع وأشباهها مما يوجب
اليأس عن الوصول إليها إذا كان كذلك أنتقل الضمان إلى المثل، وإذا تعذر
المثل أيضا مع مطالبة المالك حقه وجب على الغاصب أداء القيمة أعني
بها المالية الخالصة، ووقتئذ لا يجوز للمالك مطالبة المثل ولا مطالبة
العين بعد ارتفاع المانع عن الوصول إليها، وإلا يلزم الجمع بين العوض
والمعوض.
وهذا بخلاف ما إذا لم يوجب التعذر التحاق العين بالتالف، فإنه حينئذ
ليس للمالك مطالبة البدل ولا للغاصب أداء غير العين المغصوبة إلا مع
التراضي، نعم يجوز للمالك أن يطالب بالمنافع الفائتة فيكون المأخوذ
بإزاء تلك المنافع بمنزلة الأجرة للعين في مدة غيابها عن المالك،

1 - مر في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
483

ولا شبهة في أن هذا كله غير مربوط ببدل الحيلولة، وإذن فلا وجه لاثباته
بحديث ضمان اليد.
وقد اتضح لك مما تلوناه عليك أنه لا يمكن الاستدلال على ثبوت بدل
الحيلولة بالروايات (1) الدالة على ضمان التالف في الأمانات المضمونة
كما صنعه المصنف، لأنها راجعة إلى صورة التلف، ومحل بحثنا غير
هذه الصورة.
الوجه الخامس: دعوى الاجماع على ثبوت بدل الحيلولة مع تعذر
وصول المالك إلى ماله، ويرد عليه أنا لو سلمنا وجود الاجماع في
المقام، ولكن يحتمل قريبا أن يكون مستنده هي الوجوه المتقدمة،
وإذن فلا علم لنا بوجود الاجماع التعبدي في المقام.

1 - عن إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم
فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، وقال الآخر: إنما كانت عليه قرضا، قال: المال
لازم له إلا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة (الكافي 5: 239، الفقيه 3: 194، التهذيب 7: 179،
عنهم الوسائل 19: 85).
وعن ابن محبوب قال: كتب رجل إلى الفقيه (عليه السلام): رجل دفع إلى رجل وديعة وأمره أن
يضعها في منزله أو لم يأمر، فوضعها في منزل جاره فضاعت، فهل يجب عليه إذا خالف أمره
وأخرجها عن ملكه، فوقع (عليه السلام): هو ضامن لها إن شاء الله (الكافي 5: 239، الفقيه 3: 194،
التهذيب 7: 180، عنهم الوسائل 19: 82).
وعن أبان، عن محمد، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن العارية يستعيرها الانسان
فتهلك أو تسرق، قال: فقال: إذا كان أمينا فلا غرم عليه (الفقيه 3: 192، التهذيب 7: 182،
الإستبصار 4: 124، عنهم الوسائل 19: 93).
وعن ابن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العارية، فقال: لا غرم على مستعير عارية
إذا هلكت إذا كان مأمونا (الكافي 5: 239، التهذيب 7: 182، الإستبصار 3: 124، عنهم الوسائل
19: 92).
وقد تقدم ما يدل على ضمان الأجير في البحث عن حكم المنافع المستوفاة.
484

2 - مورد بدل الحيلولة
هل يقيد ثبوت بدل الحيلولة بما إذا حصل اليأس من الوصول إلى
العين الغائبة، أم يقيد بعدم رجاء وجدانها، أم لا يقيد بشئ منهما بل
يحكم بثبوت بدل الحيلولة بمجرد التعذر الفعلي، سواء أعلمنا بامكان
الوصول إليها بعد مدة طويلة أم علمنا بالوصول إليها بعد مدة قصيرة
يتضرر المالك بعدم الوصول إلى ماله في هذه المدة؟
ذكر المصنف (رحمه الله) أن ظاهر الأدلة التي استدلوا بها على ثبوت بدل
الحيلولة هو اختصاص الحكم بإحدى الصورتين الأوليين، ولكن
المستفاد من فتاوي الأصحاب (قدس سرهم) هو الصورة الثالثة، ويظهر ذلك من
اطلاق قولهم إن اللوح المغصوب في السفينة إذا كان نزعه معرضا لتلف
مال لغير الغاصب انتقل إلى القيمة حتى تصل السفينة إلى الساحل،
ويؤيد هذا المعنى أن فيه جمعا بين الحقين - انتهى ملخص كلامه.
ويرد عليه أن ما استظهره من كلمات الفقهاء في مسألة اللوح
المغصوب في السفينة وإن كان استظهارا وجيها ولكن لا دليل على
حجية فتواهم للفقهاء الآخرين، أما التأييد المزبور فلا فائدة فيه، إذ
لم يتضح لنا من الأدلة المتقدمة جواز مطالبة المالك الغاصب ببدل
الحيلولة في مدة انقطاعه عن ماله، وقد عرفته قريبا.
ولو أغمضنا عن ذلك، ولكن الصورة الأولى، أعني بها صورة يأس
المالك من الوصول إلى ماله لاحقة بالتلف الحقيقي، وقد تقدمت الإشارة
إلى ذلك قريبا، وإذن فلا وجه لجعل هذه الصورة من موارد بدل
الحيلولة.
أما الصورتين الأخريين فيختلف الحكم فيهما باختلاف مدارك بدل
485

الحيلولة، لأنه إن كان الدليل على ثبوت بدل الحيلولة هو الاجماع
فالمتيقن منه إنما هو الصورة الأولى التي قد عرفت خروجها عن مورد
البحث، وإن كان الدليل عليه هو قاعدة السلطنة أو قاعدتي لا ضرر
وضمان اليد فقد عرفت أن مفادها ثبوت بدل الحيلولة بمجرد التعذر،
سواء أكان زمان التعذر طويلا أم كان قصيرا.
وعليه فجميع الصور المتقدمة داخلة في محل البحث مع أنه بديهي
البطلان، فإن الفقهاء لم يلتزموا بثبوت بدل الحيلولة إلا فيما تعذر
الوصول إلى العين في مدة طويلة لا مطلقا.
3 - المراد بالتعذر
هل يعتبر التعذر العقلي في ثبوت بدل الحيلولة أم لا؟
لما فرغ المصنف من البحث عن الصور الثلاث السالفة نهض إلى
البحث عن اعتبار التعذر العقلي وعدمه في ثبوت بدل الحيلولة،
وحاصل كلامه مع التوضيح الاجمالي:
إن الظاهر من دليل السلطنة وحديث ضمان اليد وقاعدة نفي الضرر
هو عدم اعتبار التعذر العقلي في ثبوت الضمان ببدل الحيلولة، بحيث
لا يتمكن الضامن عقلا من الوصول إلى العين بل يكفي في ذلك مجرد
التعذر العرفي، وإن تمكن الغاصب من الوصول إلى العين بالسعي في
مقدمات الوصول، وعليه فيحكم بثبوت بدل الحيلولة في زمان السعي
أيضا.
ولعله لأجل هذا المعنى قد أفتى الفقهاء (قدس سرهم) بالانتقال إلى القيمة في
اللوح المغصوب في السفينة مع امكان الوصول إليه ولو بالسعي في
مقدمات ايصال السفينة إلى الساحل.
486

نعم قد عبر بعض الفقهاء (1) عن عدم الوصول إلى العين بكلمة التعذر،
ولا شبهة في ظهورها في التعذر العقلي، وهذا هو الأوفق بأصالة عدم
تسلط المالك على أزيد من إلزام الغاصب برد العين، ثم أمر بالتأمل.
ولعله إشارة إلى أن الأصل المذكور محكوم بدليل السلطنة وقاعدتي
نفي الضرر وضمان اليد، وأنه لا يفرق في أدلة بدل الحيلولة بين الزمان
اليسير والزمان القليل.
وقد ظهر لك مما تلوناه عليك فساد ما ذكره السيد (رحمه الله) في حاشيته،
وإليك نصه: لا يخفى أن هذا ليس مطلبا آخر بل هو نفس الوجه الأخير
الذي أيده بأن فيه جمعا بين الحقين كما أن تعبير البعض بالتعذر هو نفس
الوجه الأول، وهو اليأس من الوصول فلا وجه للتكرار (2).
ووجه الفساد أن اليأس من الوصول إلى العين أعم من التعذر العقلي،
فإذا اعتبر الثاني في سقوط التكليف برد نفس العين فمجرد اليأس - الذي
هو الصورة الأولى من الصور الثلاث المتقدمة - لا يوجب سقوطه، كما أن
اعتبار التعذر العرفي في سقوط التكليف برد العين أعم من الصورة
الأخيرة، وهي الحكم بثبوت بدل الحيلولة بمجرد التعذر الفعلي، وإذن
فلا تكرار في عبارة المصنف.
4 - ما هو حكم القيمة مع تعذر الوصول إلى العين؟
ما هو شأن القيمة مع تعذر الوصول إلى العين، وهل للضامن اجبار
المالك حينئذ على أخذها؟

1 - كالمحقق في الشرايع 3: 239، والعلامة في القواعد 1: 205، والتحرير 2: 139،
والشهيد في الدروس 3: 112.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 107.
487

لا شبهة في أن العين إذا تلفت انتقل الضمان إلى بدلها من المثل أو
القيمة، كما لا شبهة في أن بقاء الضامن مشغول الذمة ضرر عليه، وإذن
فيجوز له اجبار المالك على قبول حقه.
ولكن شيئا من ذلك لا يجري فيما نحن فيه، لأنا لو سلمنا تمامية الأدلة
المتقدمة الدالة على ثبوت بدل الحيلولة، إلا أنه لا دلالة فيها على جواز
اجبار الضامن المالك على قبول البدل، وليس هنا دليل آخر يدل على
ذلك غير تلك الأدلة، وعليه فيتخير المالك بين قبول البدل وبين الصبر
إلى زمان زوال العذر، بل هذا المعنى هو الذي تقتضيه قاعدة السلطنة،
ضرورة أن المالك يستحق على الضامن العين بنفسها، ومن الظاهر أن
اجبار الضامن إياه على قبول بدلها خلاف سلطنته.
وهذا هو الذي أراده المصنف من تمسكه بقاعدة السلطنة في المقام،
وليس مراده من التمسك بها هو سلطنة المالك على امتناع قبول البدل مع
كونه ملكا له لكي يتوجه عليه أنه ليس للمالك الامتناع من قبول ماله
بدليل السلطنة، وهذا ظاهر لا خفاء فيه.
قوله (رحمه الله): وكما أن تعذر رد العين في حكم التلف وكذا خروجه عن التقويم.
أقول: قد تقدم حكم الخروج عن التقويم في الأبحاث السابقة (1)،
وقلنا إن المدار في ذلك على انتهاء أمد المالية غاية الأمر أنه يحكم في
القيميات بضمان قيمة يوم الغصب لصحيحة أبي ولاد المتقدمة.
5 - هل يصير البدل المبذول ملكا لمالك العين؟
ما هو حكم البدل المبذول، فهل يكون ذلك ملكا لمالك العين أم لا؟
ذكر المصنف أن المال المبذول يملكه المالك بلا خلاف، كما في

1 - مر في البحث عن المناط في صدق التعذر والاعواز.
488

المبسوط والخلاف والغنية والتحرير (1)، وظاهرهم إرادة نفي الخلاف
بين المسلمين - ثم قال:
والوجه فيه أن التدارك لا يتحقق إلا بذلك، ولولا ظهور الاجماع
وأدلة الغرامة في الملكية لاحتملنا أن يكون مباحا له إباحة مطلقة وإن لم يدخل في ملكه نظير الإباحة المطلقة في المعاطاة على القول بها فيها
ويكون دخوله في ملكه مشروطا بتلف العين، وحكي الجزم بهذا
الاحتمال عن المحقق القمي (رحمه الله) في أجوبة مسائله (2).
ولكن ناقش في هذا الرأي المحقق والشهيد الثانيان.
فقال الأول في محكي جامع المقاصد: إن هنا اشكالا فإنه كيف يجب
القيمة ويملكها الآخذ ويبقي العين على ملكه وجعلها في مقابل
الحيلولة لا يكاد يتضح معناه (3).
وقال الثاني: إن هذا لا يخلو من اشكال من حيث اجتماع العوض
والمعوض على ملك المالك من دون دليل واضح، ولو قيل بحصول
الملك لكل منهما متزلزلا وتوقف تملك المغصوب منه للبدل على
اليأس من العين وإن جاز له التصرف كان وجها في المسألة (4).
والتحقيق أن حكم هذه المسألة يختلف باختلاف مدرك بدل
الحيلولة، فإن قلنا بأن مدركه قاعدة نفي الضرر فإنها تقتضي كون البدل
مباحا للمالك لا ملكا له، لأنا لو سلمنا شمول أدلة نفي الضرر للأحكام
العدمية ولكنها لا تقتضي التشريع إلا بالمقدار الذي يرتفع به ضرر

1 - المبسوط 3: 95، الخلاف 3: 412، الغنية: 282، السرائر 2: 486.
2 - لم نعثر عليه.
3 - جامع المقاصد 6: 261.
4 - المسالك (الطبع الحجري) 2: 210
489

المالك، ومن البديهي أن تضرره إنما كان من ناحية عدم تمكنه من
التصرف في ماله وهذا يرتفع بإباحة التصرف في بدل الحيلولة مثلما
يتصرف في ملكه، فإن دخول البدل في ملك المالك ليس بدخيل في
ارتفاع ضرره.
وإن قلنا بأن مدرك بدل الحيلولة إنما هو دليل السلطنة، أو قلنا بأن
الغاصب قد فوت على المالك سلطنته على ماله فيجب عليه تدارك هذه
السلطنة للمالك، إن قلنا بذلك فلا يثبت للمالك أيضا إلا إباحة التصرف
في البدل على النحو الذي يتصرف في ملكه، لأنه لا دلالة في دليل
السلطنة إلا على لزوم إعادة سلطنة المالك الزائلة، ولا ريب في حصول
هذا المعنى بجواز تصرفه في بدل الحيلولة وإن لم يصر البدل ملكا له.
ويتضح ذلك جليا بأن الملكية أو السلطنة من الأحكام الوضعية، ومن
البين أن الأحكام الشرعية لا تقابل بالمال، نعم مقتضى ذلك هو الالتزام
بالملكية الآنية قبل التصرف المتوقف على الملك، وقد تقدم نظير ذلك
في المعاطاة على القول بإفادتها الإباحة المطلقة.
وقد يتوهم أن سلطنة المالك قد زالت مع المالية القائمة بالعين، ومن
الواضح أنه لا يمكن إعادة السلطنة المزبورة إلا بإعادة نفس العين أو
بإعادة ما يقوم مقامها في المالية، وعليه فلا بد من الالتزام بملكية المالك
تحقيقا للبدلية.
ولكن هذا التوهم فاسد، إذ لا دليل على الملازمة بين إعادة السلطنة
وبين إعادة العين أو إعادة ماليتها، بل تمكن إعادة السلطنة الزائلة في
ضمن مال الغاصب، ضرورة أن السلطنة عبارة عن القدرة على تصرف
المالك تصرفا سائغا، ولا ريب في تحقق ذلك في شئ آخر يقوم مقام
ملك المالك.
490

وإن كان المدرك لبدل الحيلولة هو الاجماع، فلا شبهة في أن المتيقن
منه إنما هو قيام البدل مقام المبدل في خصوص التصرفات المالكية لا في
الملكية، وإن كان المدرك لذلك هو قاعدة من أتلف فهي تقتضي صيرورة
البدل ملكا للمالك، بديهة أن الضمان لا يرتفع إلا بذلك، وإن كان المدرك
لذلك هو قاعدة ضمان اليد، فإنها تقتضي وجوب رد العين إلى مالكها
ومع تلفها يلزم على الآخذ رد بدلها من المثل أو القيمة، ومن الواضح أن
مقتضى البدلية هو كون البدل ملكا لمالك المبدل.
وبيان ذلك أن المستفاد من قاعدة ضمان اليد إنما هو ثبوت العين في
عهدة الضامن بجميع شؤونها، وأنه يجب ردها إلى مالكها مع العجز عن
ذلك من جهة التلف أو لتعذر الوصول إليها وجب على الضامن رد بدلها
مع مطالبة المالك، وهذا البدل وإن لم يكن عين المبدل من جميع
الجهات ولكنه مثله في بعض الجهات، لما ذكرناه سابقا من أن المضمون
على الضامن ابتداءا بقاعدة ضمان اليد إنما هو العين الخارجية بجميع
خصوصياتها، ومع انتفاء بعض الخصوصيات يبقي بعضها الآخر
مضمونا عليه، لأن اضمحلال أية خصوصية منها لا يوجب اضمحلال
غيرها، وعليه فرد المأخوذ بالغصب وإن لم يكن بتمام خصوصياته إلا أنه يمكن ذلك فاقدا لبعض الخصوصيات غير الدخيل في المالية
ولا محذور فيه لكونه برضى المالك، وإذن فلا يتحقق عنوان البدلية
بأداء بدل الحيلولة إلا بقيام البدل مكان المبدل في الإضافة الملكية.
وعلى الجملة أن مقتضى قاعدة ضمان اليد هو أن البدل - أعني به
المثل أو القيمة - أمر كلي ينطبق على المبدل والبدل كليهما، انطباق
الكلي على أفراده والطبيعي على مصاديقه، وعليه فلا مناص عن الالتزام
بصيرورة بدل الحيلولة ملكا للمالك، وهذا واضح لا شبهة فيه.
491

6 - هل يكون المبدل ملكا للضامن باعطاء البدل؟
هل تنتقل العين إلى الضامن باعطاء البدل أم لا؟
قد يقال بأن المضمون له يملك بدل الحيلولة والضامن يملك العين
المتعذرة، لاستحالة بدلية شئ عن شئ إلا بقيام البدل مكان المبدل في
جهة من الجهات، وتلك الجهة في المقام هي الإضافة الملكية.
وقد يقال بأن المالك يملك البدل، أما الضامن فلا يملك المبدل، لأن
المأخوذ بعنوان البدلية ليس عوضا حقيقيا حتى تستحيل البدلية إلا
بدخول العين المتعذرة في ملك الضامن بل هو غرامة خالصة، نظير دية
المقتول أو المجروح وكالمبذول عند تلف العين، ومن البين أن عنوان
الغرامة لا يستلزم خروج البدل من ملك الضامن ولا دخول العين
المتعذرة في ملكه لكي يكون ذلك معاوضة قهرية شرعية.
ولكن التحقيق أن كون العين المتعذرة ملكا للضامن متفرع على كون
البدل ملكا للمالك، فإنه بناءا على صيرورة البدل ملكا للمضمون له - كما
تقتضيه قاعدتا من أتلف وضمان اليد - صار المبدل ملكا للضامن
بالمعاوضة القهرية الشرعية، إذ لولا ذلك لزم اجتماع العوض والمعوض
في ملك مالك العين.
ومن هنا ناقش المحقق والشهيد الثانيان (1) في الالتزام بكون البدل غرامة
خالصة من غير أن يكون المبدل ملكا للضامن ولا أن يكون البدل ملكا
للمالك، وقد تقدم كلامهما قريبا، ويؤيد ذلك ما ورد (2) في الدابة

1 - جامع المقاصد 6: 261، المسالك (الطبع الحجري) 2: 210
2 - عن سدير، عن أبي جعفر (عليه السلام) في الرجل يأتي البهيمة، قال: يحد دون الحد ويغرم
قيمة البهيمة لصاحبها لأنه أفسدها عليه وتذبح وتحرق وتدفن إن كانت مما يؤكل لحمه، وإن
كانت مما يركب ظهره أغرم وجلد دون الحد وأخرجها من المدينة التي فعل بها فيها إلى بلاد
أخرى حيث لا تعرف فيبيعها فيها كيلا يعير بها (الكافي 7: 204)، حسنة بسدير بن حكيم.
492

الموطوءة من إلزام الواطي بأخذ الدابة واعطاء ثمنها لمالكها.
بحث في فروع مهمة
ثم إنه تستخرج مما ذكرناه فروع مهمة، وهي ما يلي:
1 - أنه إذا توضأ أحد غفلة بماء مغصوب أو مقبوض بالعقد الفاسد،
والتفت بعد الغسلات وقبل المسحات بغصبية الماء، فإنه بناءا على
دخول الماء في ملك الضامن بعد أداء بدله يصح المسح بما بقي من رطوبة
يده ويصح وضوئه، وبناءا على عدم دخول الماء في ملك الضامن
لا يصح مسحه بتلك الرطوبة ولا يصح وضوؤه.
هذا على تقدير أن الرطوبة الباقية باقية على كونها ملكا بل مالا، أما إذا
فرض أن الماء المستعمل في الوضوء يعد من التالف عرفا جاز المسح
بالرطوبة الباقية، من غير فرق في ذلك بين امكان انتفاع المالك بتلك
الرطوبة وعدم امكانه.
2 - أنه إذا غصب أحد خمرا محترمة لغيره أو غصب دابة وماتت الدابة
وانقلبت الخمر خلا، فإنه على القول بوقوع المعاوضة القهرية بين البدل
والمبدل كان الخل وميتة الدابة للضامن بعد أداء البدل وإلا فهما
للمضمون له.
3 - أنه إذا خاط أحد ثوبه بخيوط مغصوبة، فإنه على القول بدخول
الخيوط في ملك الغاصب بعد أداء البدل جازت له الصلاة في ذلك الثوب
وكذلك التصرفات الآخر وإلا فلا، ويمكن التحاق تلك الخيوط بالتلف
493

الحكمي، إذ لا يمكن ردها غالبا إلا بعد سقوطها عن المالية بالنزع، وقد
حكي الجزم بعدم وجوب النزع عن مجمع البرهان بل قال: يمكن أن
لا يجوز (1).
ولعله من جهة كون النزع اتلافا للمال على مالكه فهو لا يجوز،
ويتضح الحكم بالتحاق ذلك بالتلف الحكمي فيما إذا كان المخيط
بالخيوط المغصوبة جرح النفس المحترمة أو ثوب غيره بحيث كان النزع
موجبا للتلف أو الضرر.
4 - أنه لو غصب أحد دهنا وخلطه بطعامه، فإنه بناءا على دخول
المبدل في ملك الغاصب - بعد رد بدله - جاز له التصرف في ذلك الطعام
وإلا فلا يجوز التصرف فيه إلا برضى مالك الدهن.
وإلى غير ذلك من الفروع التي ترد عليك في مواضيع شتى.
خلاصة البحث في بدل الحيلولة
وصفوة الكلام من أول البحث عن بدل الحيلولة إلى هنا، هي أن
القاعدة الأولية تقتضي ثبوت العين المغصوبة أو ما في حكمها في عهدة
الغاصب بجميع خصوصياتها الدخيل في المالية، وإذا تلفت العين أو
التحق بالتالف انتقل الضامن إلى المثل أو القيمة، فيكون ذلك بدلا حقيقيا
عن العين التالفة أو النازلة منزلة التالف، وحينئذ فتخرج العين عن ملك
مالكها وتدخل في ملك الغاصب، وإذا لم تتلف العين لا حقيقة
ولا حكما ولكن تعذر الوصول إليها فإن القاعدة تقتضي ثبوتها في عهدة
الغاصب إلى زمان التمكن من أدائها.
وإذن فليس للمالك إلا مطالبة أجرة العين في مدة الحيلولة من الغاصب

1 - مجمع الفائدة والبرهان 10: 521.
494

إلا إذا رضيا بالبدل، فإنه على هذا تتحقق المعاوضة الشرعية بين البدل
والمبدل فيكون المدفوع بدلا حقيقيا عن العين.
نعم إذا دل دليل على كونه غرامة لا بدلا عن العين أخذ به نظير دية
المقتول، ولكنك قد عرفت المناقشة في الأدلة التي استدل بها على
اثبات بدل الحيلولة بعنوان الغرامة.
وقد تجلى لك مما ذكرناه انحلال المناقشة المعروفة التي أوردوها
على مسألة تعاقب الأيدي، وحاصل تلك المسألة هو أن المغصوب منه
يتخير في أخذ البدل لماله بين الرجوع إلى أي شخص من هؤلاء
الغاصبين الذين تعاقبت أيديهم، ولكن إذا رجع إلى الغاصب الأول رجع
الأول أيضا إلى الثاني، وهكذا حتى تنتهي سلسلة الغصاب، وتثبت
الغرامة على الغاصب الأخير الذي تلفت العين في يده، أما إذا رجع
المالك في ذلك إلى الغاصب المتوسط لم يرجع هذا المتوسط إلى
الغاصبين السابقين بل يرجع إلى الغصاب اللاحقين، وحاصل تلك
المناقشة هو سؤال الفارق بين الصورتين.
وملخص الجواب عنها أن الغاصب الأول إذا أعطى البدل عن العين
المغصوبة التالفة ملكها على الغاصب الثاني فيجوز له الرجوع إليه، وإذا
رجع المالك إلى الغاصب المتوسط لم يرجع هذا المتوسط إلى سابقه لأنه
لا يملك عليه شيئا بل يرجع إلى لاحقه.
ودعوى أن التالف أمر معدوم أو بمنزلة المعدوم فلا يقبل الملكية
دعوى جزافية، لأن الملكية من الأمور الاعتبارية فلا محذور في تعلقها
بالأمور العدمية مع ترتب الأثر عليه كتعلقها بالأمور الوجودية كذلك وقد
ذكر الفقهاء أجوبة أخرى عن تلك المناقشة، ولكن لا يرجع شئ منها
إلى معنى محصل يطمئن به القلب وتركن إليه النفس، وسيأتي التعرض
لتلك المسألة وأجوبتها.
495

7 - حكم تمكن الغاصب من العين بعد اعطاء بدلها
لو تمكن الغاصب من العين المغصوبة بعد أداء بدلها لمالكها فهل
يجوز له الرجوع إليها أم لا؟
الظاهر أن جواز الرجوع هنا إلى العين وعدمه متوقف على أن ملكية
البدل لمالك العين ملكية لازمة أو ملكيا جائزة، وعلى الأول فلا يجوز له
ذلك وعلى الثاني فلا بأس به، وقد تقدم نظيره في مبحث البيع
المعاطاتي وذكرنا هناك أن القاعدة تقتضي أن لا يرجع كل من المتعاطيين
إلى صاحبه في المأخوذ بالمعاطاة لكونه أكلا للمال بالباطل، ومن البين
أن ما ذكرناه هناك جار في المقام أيضا.
نعم إذا لم نقل بصيرورة العين ملكا للضامن لا بالمعاوضة القهرية
الشرعية ولا بمعاوضة غير قهرية جاز للمغصوب منه أن يرجع إلى العين
المغصوبة بعد خروجها عن التعذر، ولكن قد عرفت فساده قريبا.
وقد اتضح لك مما ذكرناه فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ من أنه: إذا ارتفع
العذر وتمكن من رد العين إلى مالكه وجب الرد فورا حتى على القول
بالمعاوضة القهرية الشرعية، لأن حكم الشارع بالمعاوضة مترتب على
عنوان التعذر ويدور مداره (1).
8 - حكم ارتفاع القيمة السوقية بعد أداء البدل
ذكر المصنف: أن مقتضى صدق الغرامة على المدفوع خروج الغارم
عن عهدة العين وضمانها فلا يضمن ارتفاع قيمة العين بعد الدفع، سواء
أكان للسوق أو للزيادة المتصلة بل المنفصلة كالثمرة، ولا يضمن منافعه

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 357.
496

فلا يطالب الغارم بالمنفعة بعد ذلك، وعن العلامة في التذكرة (1) وعن بعض
آخر (2) هو كون المنافع مضمونة على الضامن، وقد قواه في المبسوط (3) بعد
أن جعل الأقوى خلافه.
والتحقيق أن المأخوذ بعنوان الغرامة إن كان بدلا عن العين المتعذرة
كما يقتضيه دليل ضمان اليد، فلا شبهة في انقطاع علاقة المالك عن العين
وصيرورتها ملكا للضامن بجميع شؤونها حتى النماءات المنفصلة فضلا
عن زيادة القيمة السوقية، وإن كان المأخوذ بدلا عن السلطنة الفائتة - كما
تقتضيه قاعدة السلطنة - ضمن الغاصب جميع شؤون العين، سواء أكانت
تلك الشؤون فائتة أم لا.
وحينئذ فالالتزام بكون المأخوذ بدلا عن السلطنة الفائتة دون العين
يناقض الحكم بعدم ضمان المنافع الفائتة بعد دفع الغرامة، وهذا ظاهر
لا خفاء فيه.
بحث في أسباب الضمان
قوله (رحمه الله): سواء كان الذاهب نفس العين كما في التلف الحقيقي.
أقول: ملخص كلامه أن أسباب الضمان أمور أربعة:
الأول: أن يكون الضامن سببا لتلف العين حقيقة، فيجب عليه أن
يخرج من عهدتها لأدلة الضمان.
الثاني: أن يكون سببا لانقطاع سلطنة المالك عن ماله، كالاغتراق
والإباق والضياع وأشباه ذلك، وقد عرفت أن هذا مورد لبدل الحيلولة.

1 - التذكرة 2: 382.
2 - المسالك (الطبع الحجري) 2: 210، مفتاح الكرامة 6: 249.
3 - المبسوط 3: 96.
497

الثالث: أن يكون سببا لزوال الأوصاف التي هي دخيل في مالية العين
مع انحفاظ العين بنفسها في ملك مالكها وتسلطه عليها تسلط الملاك
على أملاكهم، وعليه فالضمان هنا بالمالية الخالصة فقط دون العين
المغصوبة.
الرابع: أن يكون سببا لسقوط العين عن المالية والملكية معا، بحيث
لم يبق فيها للمالك إلا حق الاختصاص.
والظاهر هو وجوب رد العين مع القيمة في جميع الصور الثلاث
الأخيرة، وأن صيرورة البدل ملكا للمغصوب منه لا تقتضي خروج العين
المغصوبة عن ملكه أو متعلق حقه ودخولها في ملك الضامن أو متعلق
حقه في جميع موارد الضمان - انتهى ملخص كلامه.
أقول: أما القسم الأول فالحكم فيه ظاهر، فإنه إذا تلفت العين
وانعدمت من أصلها لم يبق هنا مورد للملكية بل يكون اعتبارها لغوا
محضا، سواء أقلنا بعدم انعدام الأشياء عن حقيقتها بل إنما تتبدل صورها
النوعية بصور نوعية أخرى، كما عليه جمع من الفلاسفة، أم قلنا
بانعدامها رأسا، بداهة أن الأحكام الشرعية غير مبتنية على التدقيقات
الفلسفية، نعم يصح اعتبار الملكية على المعدوم مع ترتب الأثر على
الاعتبار المزبور، كما أشرنا إليه قريبا.
أما القسم الثاني، فقد عرفت فيما تقدم أنه لا حق بالتلف الحقيقي،
فلا وجه لجعله موردا لبدل الحيلولة كما صنعه المصنف.
أما القسم الثالث، فظاهر المصنف (رحمه الله) أن مالية العين المغصوبة تزول
بزوال أوصافها الدخيل في المالية ولكن العين لا تخرج بذلك عن ملك
مالكها.
وحينئذ فيتوجه عليه ما ذكره السيد وإليك نصه: لا يخفى أنه مع
الخروج عن التقويم لا معنى لبقائها على صفة الملكية، فإن الرطوبة
498

الباقية نظير القصعة المكسورة، فإنه لا يقال: إن أجزائها باقية على ملك
مالكها مع عدم فائدة فيها إلا نادرا (1).
والتحقيق أن يوجه كلام المصنف بأن العين المضمونة إما أن يفوت
بعض منافعها عند الضامن أو جميعه.
وعلى الأول فيلزم على الضامن أداء قيمة المنافع الفائتة لقاعدة ضمان
اليد، نعم قد دلت الرواية المعتبرة - تقدمت هذه الرواية قريبا - على
ضمان الواطي للدابة بقيمتها مع أنها لا تسقط بذلك عن المالية، ولكن
لا يجوز التعدي عن موردها إلى غيره.
وعلى الثاني فقد يزول الانتفاع من العين على وجه الاطلاق بحيث
لا يمكن الانتفاع منها بوجه، وقد يزول الانتفاع منها مستقلا، أي
لا يمكن الانتفاع من العين بنفسها بلا انضمامها إلى شئ آخر، أما إذا
ضممناها إلى غيرها أمكن الانتفاع منها كحبة من الحنطة المغصوبة فإنه
لا يمكن الانتفاع منها بنفسها ولكن يمكن الانتفاع منها مع ضمها إلى
غيرها.
ومن ذلك أيضا الورق الذي كتبت فيه قصيدة راقية، فإنه إذا غصبه
الغاصب ومزقه لم يمكن الانتفاع من قطعاته الممزقة، إلا أن فيها أهم
الانتفاع إذا انضم بعضها إلى بعض، وعلى الأول فاعتبار الملكية في العين
لغو محض كما هو واضح، وعلى الثاني فلا يكون الاعتبار المذكور لغوا،
وهذا هو مراد المصنف، والله العالم.
وحينئذ فالعين المغصوبة ملك للضامن لا للمالك، لما عرفته قريبا من
تحقق المعاوضة القهرية الشرعية بينها وبين البدل الذي أعطاه الضامن
للمالك.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 108.
499

أما القسم الرابع - أعني به سقوط العين عن المالية والملكية معا -
فلا شبهة في أن المتلف يضمن بدل العين من المثل أو القيمة، وهذا
ظاهر.
بحث في حق الاختصاص ووجه ثبوته
ثم إنه إذا سقطت العين عن المالية والملكية معا فلا شبهة في بقاء حق
الاختصاص في تلك العين للضامن كما هو المختار عندنا، أو للمالك كما
هو المختار عند المصنف، وإنما البحث في منشأ هذا الحق مع أن
العلاقة الثابتة بين المال ومالكه - وهي الإضافة الملكية - قد زالت على
الفرض ولم تحدث هنا علاقة أخرى لكي نسميها بحق الاختصاص،
ومع الشك في حدوثها فأصالة العدم محكمة.
وتحقيق البحث هنا يقع في نواحي شتى:
ألف - ما استدل به على منشأ حق الاختصاص
الناحية الأولى: فيما استدل به على منشأ حق الاختصاص، وقد
استدل عليه بوجوه عديدة:
الوجه الأول: إن حق الاختصاص سلطنة خاصة في الأموال في عرض
الملكية وقبالها، فإذا زالت الملكية عن مستقرها بقي الحق على حاله،
ضرورة أن كلا منهما ناشئ من سبب خاص لا صلة لأحدهما بالآخر.
ويتوجه عليه أن هذه الدعوى وإن كانت ممكنة في مقام الثبوت ولكن
لا دليل عليها في مقام الاثبات.
الوجه الثاني: إن حق الاختصاص مرتبة ضعيفة من الملكية، فإذا
ارتفعت الملكية بحدها الأقوى بقيت منها المرتبة الضعيفة التي نسميها
500

بحق الاختصاص، بديهة أن المرتبة القوية وإن كانت تستلزم المرتبة
الضعيفة في الثبوت ولكنها لا تستلزمها في الزوال، ويتضح ذلك
بملاحظة الألوان والكيفيات حيث تزول عنها المرتبة الشديدة وتبقى
المرتبة الضعيفة على حالها.
ويرد عليه أن الملكية، سواء أكانت حقيقية أم كانت اعتبارية، ليست
بقابلة للشدة والضعف، وإنما هي أمر بسيط فإذا زالت زالت برأسها،
وعليه فلا يبقي هنا شئ لكي يسمي بحق الاختصاص.
أما ما ذكره غير واحد من الأعلام كالسيد (1) وغيره، من أن الحق مرتبة
ضعيفة من الملك، فلعل مرادهم من ذلك هو أن الملك والحق كليهما من
مقولة السلطنة، ولكن الملك سلطنة قوية والحق سلطنة ضعيفة، بمعنى
أن صاحب الحق مالك لشئ يرجع أمره إليه كمالكية الملاك لأملاكهم،
وبديهي أن هذا المعنى أمر آخر وراء اختلاف حقيقة الملك بالشدة
والضعف والكمال والنقص، نظير اختلاف الألوان والكيفيات بذلك.
وإذن فشأن المقام شأن تسمية الرجحان الضعيف - في مبحث الأوامر
- استحبابا والرجحان الشديد وجوبا، وهكذا تسمية المرجوحية
الضعيفة - في باب النواهي - كراهة والمرجوحية الشديدة حرمة، وهذا
شئ آخر غير كون الاستحباب مرتبة ضعيفة من الوجوب وكون الكراهة
مرتبة ضعيفة من الحرمة، وهذا ظاهر.
الوجه الثالث: أنه ثبت في الشريعة المقدسة حرمة التصرف في مال
غيره إلا بطيب نفسه ورضاه، وقد دلت على ذلك السيرة القطعية وجملة

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 109.
501

من الأخبار (1) فإذا ارتفعت الملكية والمالية، ولكنا شككنا في ارتفاع
الحكم المذكور فإن الاستصحاب يقتضي الحكم ببقائه.
ولكن يتوجه عليه أن موضوع الحكم بحرمة التصرف في مال غيره -
في السيرة والروايات - إنما هو عنوان مال الغير وعنوان مال المسلم،
ومن الواضح أن الشئ إذا سقط عن المالية سقطت عنه حرمة التصرف
أيضا، لاستحالة بقاء الحكم بعد زوال موضوعه بل يرتفع الحكم المزبور
وإن كان ذلك الشئ باقيا على ملكيته، إذ لم يدلنا دليل على حرمة
التصرف في ملك غيره كدلالته على حرمة التصرف في ماله، وعليه
فيسقط الحكم المذكور عن الشئ مع بقائه على صفة الملكية، وكيف إذا
زالت عنه الملكية أيضا.
نعم إذا كان الموضوع في الاستصحاب ذات المال المضاف إلى الغير
أعني به المادة والهيولي جري الاستصحاب هنا، ضرورة بقاء الهيولي
بعد تبدل الصورة النوعية الأولى بصورة نوعية أخرى.
ولكن يتوجه عليه أن مثل هذه الموضوعات ليست بأمور عرفية لكي
يجري فيها الاستصحاب بل هي أمور فلسفية، ومن الظاهر أن الأحكام الشرعية لا تبتني على التدقيقات الفلسفية.
ومن هنا اتضح لك فساد ما ذكره المصنف، فإنه بعد ما ناقش في
الاستصحاب قال: إلا أن يقال: إن الموضوع في الاستصحاب أمر عرفي.
أضف إلى ذلك أن الاستصحاب لا يجري في الأحكام الكلية الإلهية
لمعارضتها دائما بأصالة عدم الجعل، وقد حققناه في علم الأصول.
الوجه الرابع: دعوى الاجماع على بقاء حق الاختصاص في الأعيان
بعد زوال ملكيتها.

1 - قد ذكرنا هذه الروايات في الاستدلال على لزوم المعاطاة.
502

ولكن هذه الدعوى جزافية، لأن اثبات الاجماع التعبدي هنا مشكل
جدا، إذ من المحتمل أن المجمعين قد استندوا في ذلك إلى الوجوه
المزبورة، وإذن فلا يكون الاجماع هنا اجماعا تعبديا مستندا إلى رأي
المعصوم (عليه السلام).
الوجه الخامس: دلالة المرسلة المعروفة بين الفقهاء: من حاز ملك،
وقوله (صلى الله عليه وآله): من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو أحق به، على
ثبوت حق الاختصاص في الأشياء التي سقطت عنها المالية.
والجواب عن هذا الوجه أن حديث الحيازة وإن اشتهر بين الفقهاء
ولكنا لم نجدها في أصول الحديث للخاصة والعامة، والظاهر أنه قاعدة
فقهية متصيدة من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة كاحياء الموات
والتحجير وغيرهما، ولو سلمنا كون ذلك رواية ولكن لا دلالة فيه إلا
على ثبوت مالكية المحيز للمحاز فلا صلة له بما نحن فيه، ويضاف إلى
ذلك أنه مرسل فلا يمكن الاستناد إليه في اثبات الحكم الشرعي.
أما حديث السبق فيتوجه على الاستدلال به:
أولا: أنه ضعيف السند وغير منجبر بشئ.
ثانيا: أنه مختص بالمباحات الأصلية وبالأموال التي أعرض عنها
ملاكها - على القول بجواز اعراض المالك عن ماله - وبسائر الموارد
المشتركة بين المسلمين، بأن يكون لكل واحد منهم حق الانتفاع بها،
كالأوقاف العامة من المساجد والمشاهد والمدارس والرباط وغيرها،
فإذا سبق إليها أحد من الموقوف عليهم واشغلها بالجهة التي انعقد عليها
الوقف حرمت على غيره مزاحمته في ذلك، وإذا عممناه إلى موارد
الحيازة فإنما يدل على ثبوت الحق الجديد للمحيز في المحاز، ولا يدل
على بقاء العلقة بين المالك وملكه بعد زوال الملكية.
503

فتحصل أن الحديث المذكور أجنبي عما نحن فيه بالكلية، لأن شيئا
من موارده لم يحرز في المقام، وعلى هذا فلو حاز أحد ميتة حيوان
لأحد وشك في كونها ملكا له أم لا، فإن الأصل عدم صيرورته ملكا له.
إلا أن يقال إن موضوع دليل السبق إنما هو الشئ الذي لا يكون موردا
لحق أحد أو ملكه، فإنه حينئذ يمكن احراز ذلك بالأصل، ولكن دون
اثباته خرط القتاد.
والتحقيق أن حق الاختصاص أمر ثبت بالسيرة الشرعية والعقلائية
فإنها قائمة على ثبوت ذلك للمالك في أملاكهم التي سقطت عن المالية
والملكية بالجهات العارضة، كالماء على الشط، والحيوان المملوك إذا
مات، والأراضي المملوكة إذا جعلها الجائر بين الناس شرعا، سواء كان
يأخذها من ملاكهم غصبا ويجعلها طرائق وشوارع كما هو مرسوم
البلدان في العصر الحاضر، وقد قامت السيرة الشرعية والعقلائية على
المنع عن مزاحمة الأجانب عن تصرف الملاك في أشباه الأمور المزبورة
ما لم يعرض عنها ملاكها.
ومن هنا لو مات حيوان أحد ثم أحيي بدعاء نبي أو وصيه فإنه لا يتوهم
أحد كونه من المباحات الأصلية وأن المالك وغيره متساويان فيه، بل
يحكم العقلاء والمتشرعة بأن ذلك الحيوان ملك لمالكه الأصلي،
وكذلك الخل إذا صار خمرا ثم عاد خلا وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد
بيان وإقامة برهان.
ب - ما هو حكم المغصوب إذا خرج عن صورتها النوعية ثم رجع إليها؟
الناحية الثانية: أنه إذا أخذ الغاصب مال غيره، ثم أخرجه عن صورته
النوعية الأولى إلى الصورة النوعية الأخرى، ثم أرجعه إلى سيرته الأولى
504

فهل يضمن بدله من المثل أو القيمة، أم يجب عليه وقتئذ رد العين
المغصوبة بنفسها؟
ومثال ذلك هو أن يغصب خل غيره فصيره خمرا ثم انقلبت الخمر
خلا، قد يقال بضمان البدل، بداهة أن المغصوب غير موجود بعينه
لانعدامه بزوال صورته النوعية والموجود ثانيا غيره لتخلل العدم بينهما،
ومن البين أن المعدوم لا يعاد، وقد يقال بضمان العين نفسها لأن
الموجود ثانيا عين الأول في نظر أهل العرف.
والتحقيق أن هنا مسألتين:
إحداهما قبل أداء البدل، والثانية بعد أدائه.
أما المسألة الأولى، فالظاهر أنه يجب على الغاصب أداء العين نفسها،
لما ذكرناه مرارا من أن الثابت في الذمة ابتداء إنما هو نفس العين فيجب
عليه ردها على مالكها وإذا تلفت العين انتقل الضمان إلى بدلها من المثل
أو القيمة.
ومن الظاهر أنه إذا عادت العين ثانيا فثبوت الضمان فيها أولى من ثبوته
في بدلها لكونها جامعة لجميع الخصوصيات التي كانت موجودة في
العين المغصوبة بداءة، ولا يفرق في ذلك بين كون العائد عين الأول أو
غيره.
أما المسألة الثانية، فالظاهر أنها من صغريات ما أسلفناه قريبا، من أن
العين إذا تلفت وأعطي الغاصب بدلها للمالك سقط ضمانه بنفس العين
علي وجه الاطلاق وإن رجعت ثانيا إلى نظام الوجود.
الوجه في ذلك هو أن أدلة الضمان من السيرة وغيرها قد سقطت كلها
بمجرد أداء البدل، وليس هنا دليل آخر يقتضي الضمان بالعين ثانيا.
505

ج - حكم حق الاختصاص بعد أداء البدل
الناحية الثالثة: أنك قد عرفت قريبا ثبوت حق الاختصاص في العين
التي سقطت عن المالية وخرجت عن الملكية، ولا ريب في أن هذا الحق
للمالك قبل أن يأخذ البدل من الغاصب، وإنما البحث في أن الحق
المزبور هل ينتقل إلى الغاصب بعد أداء البدل أم يبقي للمالك فقط؟
ظاهر المصنف هو الثاني، وأيد رأيه هذا بأنه لو صار الخل المغصوب
خمرا ثم انقلبت الخمر خلا لوجب رده إلى مالكه بلا خلاف في ذلك،
ووجه التأييد أن لزوم رد الخل المزبور إلى مالكه ليس إلا من جهة بقاء
حقه فيه الذي يسمى بحق الاختصاص.
وقد أجاب شيخنا المحقق (1) عن هذا التأييد بأن وجوب رد الخل إلى
مالكه لا يكشف عن بقاء حق الأولوية فيه، بل ليس هذا إلا من قبيل عود
الملك إلى مالكه فيكون من باب رد الملك لا من باب رد ما يكون المالك
أولى به.
والسر في ذلك أن الملكية يتسبب من الأسباب العديدة، كالإرث
والبيع والهبة والصلح والحيازة، ومن المعلوم أن هذه الأسباب إذا
اقترنت بمانع سقطت عن التأثير وإذا ارتفع ذلك المانع أثرت أثرها.
وعليه فما يقتضي حدوث الملكية في المثال المزبور من العقد وغيره
باق على حاله، ولكنه سقط عن التأثير بقاء لاقترانه بالمانع، وهو انقلاب
الخل خمرا، فإذا زال المانع أثر المقتضي أثره من دون أن يثبت هنا حق
الأولوية عند سقوط المقتضي عن التأثير - انتهى ملخص كلامه.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني: 111.
506

والجواب عن ذلك أن الملكية من الأحكام الشرعية وهي غير مسببة
عن الموجودات الخارجية، وإنما هي فعل اختياري للمولى وتابع
لكيفية جعله من حيث السعة والضيق، وعليه فاسراء أحكام المقتضيات
الخارجية والموانع التكوينية إلى الأحكام الشرعية بلا موجب، بل
المتبع في هذه الموارد دلالة الدليل.
ومن الواضح أن الدليل قد دل على أن الخل يملك بالهبة والإرث
ونحوهما، ولكنه إذا انقلب خمرا خرج عن الملكية وحينئذ فلو عاد إلى
حالته الأولى كان الحكم بملكيته للمالك الأول محتاجا إلى دليل، وهو
منفي في المقام.
9 - هل يعود البدل إلى الضامن بعد تمكنه من المبدل؟
هل الغرامة المدفوعة تعود إلى الغارم بمجرد طرو التمكن؟
ذكر المصنف أنه إذا تمكن الغاصب من رد العين المغصوبة إلى مالكها
وجب عليه ذلك وجوبا تكليفيا فقط، ولا تكون عليه عهدة جديدة
بالنسبة إلى العين وراء العهدة السابقة التي أفرغها بأداء البدل، وإذا أعطاها
لمالكها الأول عادت الغرامة إلى ملك الضامن ثانيا، لأنها كانت بدلا عن
السلطنة الفائتة، والمفروض عودها إلى مالكها برد العين.
ولو تسامح الضامن في دفع العين بعد تمكنه منها لجاز للمالك
مطالبتها، لعموم قوله (صلى الله عليه وآله): إن الناس مسلطون على أموالهم،
ولا يجوز للضامن حبس العين ومطالبته بالغرامة من المالك، لأن البدل
إنما كان بدلا عن السلطنة الفائتة لا عن القدرة على دفع العين فمتى ما
لم ترجع السلطنة لا يكون للضامن حق في مطالبة الغرامة، وإذا تلفت
العين قبل دفعها إلى مالكها استقر ملك مالكها على الغرامة.
507

أقول: قد عرفت فيما سبق آنفا أن الالتزام بصيرورة الغرامة بدلا عن
نفس العين لا يتفق مع الالتزام بجواز مطالبة المالك العين من الغاصب بعد
التمكن منها فإن ذلك التزام بالمتناقضين، فإذا كان دليل بدل الحيلولة ما
يقتضي تحقق المعاوضة بينه وبين العين - كدليل ضمان اليد ونحوه -
فلا شبهة عندئذ في انقطاع حق المالك عن العين انقطاعا دائميا،
ولا يجوز له أن يطالبها من الضامن في أي وقت من الأوقات.
نعم إذا كان المدرك لذلك ما يقتضي وقوع البدل بإزاء السلطنة دون
العين وجب على الغاصب رد العين على مالكها بمجرد تمكنه منها وجاز
للمالك أن يطالبه بنفس العين لعدم تحقق المعاوضة بينها وبين البدل لكي
يمنع ذلك عن وجوب رد العين على مالكها، ولكنه مع ذلك لا يجوز
للمالك أن يتصرف في البدل في فرض جواز مطالبته بنفس العين، لأنا لو
سلمنا كون البدل بدلا عن السلطنة الفائتة، إلا أنه بدل عنها حال التعذر من
مطالبة العين لا مطلقا، فإذا ارتفع التعذر زالت البدلية.
ومن ثم إذا حصل التعذر ثم ارتفع قبل أداء البدل لم يكن للمالك
مطالبة البدل بلا اشكال، وعلى ذلك فلا بد من الالتزام برجوع البدل إلى
ملك الغاصب وضمان الغاصب العين بضمان جديد بالمثل أو القيمة.
ختام البحث في بدل الحيلولة
قوله (رحمه الله): ولذا لا يباح لغيره بمجرد بذل الغرامة.
أقول: غرضه من هذه العبارة أن بدل الحيلولة إنما هو بدل عن السلطنة
علي الانتفاع من العين التي فاتت بتعذر العين، لا أنه بدل عن مطلق السلطنة
حتى السلطنة على المطالبة لكي يسقط ذلك أيضا بعد تمكن الضامن من
رد العين، ولذا لا يجوز لغير المالك أن يتصرف فيها بمجرد بذل الغرامة
وبدل الحيلولة.
508

وعلى هذا فلا تنافي هذه العبارة مع ما ذكره (رحمه الله) سابقا، من أن البدل
بدل عن السلطنة، فإن مراده في كلا الموضعين هو ما ذكرناه.
ثم إنك قد عرفت أنه على القول بثبوت بدل الحيلولة فإنه لا يثبت إلا
في الموارد التي يتعذر الوصول إلى العين، بحيث لا يتمكن المالك من
الانتفاع بها، وقد تقدم ذلك قريبا، وهذا لا يجري في صورة امتزاج العين
بعين أخرى، ضرورة امكان الانتفاع بها غاية الأمر كون العين الممتزجة
مشتركة بين المالكين، وعليه فيجب على الغاصب اعطاء الأرش للمالك
لأن الشركة عيب في العين المغصوبة.
ثم إن المناط في ثبوت بدل الحيلولة - على القول به - إنما هو عدم
تمكن الغاصب من رد العين على مالكها، سواء أكان المالك بنفسه متمكنا
من ذلك أم لا، ضرورة أن وضع اليد على مال الغير سبب لثبوت ضمانه
على الآخذ لقاعدة ضمان اليد وإذا تلف وجب عليه بدله الحقيقي من
المثل أو القيمة، ومع ضياعه أو اغتراقه في البحر وجب عليه بدل
الحيلولة، وإذن فتمكن المالك من الوصول إلى ماله لا يرفع الضمان عن
الغاصب وهذا واضح لا ريب فيه.
509

شروط المتعاقدين
1 - البحث حول تصرفات الصبي
قوله (رحمه الله): المشهور كما عن الدروس والكفاية بطلان عقد الصبي (1).
أقول: المشهور بين أصحابنا (قدس سرهم) هو بطلان عقد الصبي، فعن الشيخ في
المبسوط (2) والخلاف أنه لا يصح بيع الصبي ولا شراؤه أذن له الولي أم
لم يأذن، وعن الغنية (3) دعوى الاجماع على ذلك.
وعن العلامة في التذكرة: أن الصبي محجور عليه بالنص والاجماع،
سواء أكان مميزا أم لا، وهو محجور عن جميع تصرفاته إلا ما استثنى،
كعباداته واسلامه واحرامه وتدبيره ووصيته وايصال الهدية وإذنه في
الدخول على خلاف في ذلك (4).
وعن الشهيد أنه نسب إلى المشهور بطلان معاملات الصبي (5).
نعم عن الشيخ وبعض آخر أنه يجوز بيع الصبي إذا بلغ عشر سنين، أما
جواز تصرفه عند العامة ففيه تفصيل المذاهب (6).

1 - الدروس 3: 192، الكفاية: 89، حكي عنهما في المناهل: 286.
2 - المبسوط 3: 3.
3 - الغنية: 210.
4 - التذكرة 2: 73.
5 - الدروس 3: 192.
6 - الحنفية قالوا: إن الصبي إذا كان غير مميز لا ينعقد شئ من تصرفه، أما إذا كان مميزا
فتصرفه على ثلاثة أقسام: لأنه أما أن يكون ضارا بماله ضررا بينا، كالطلاق والعتاق والقرض
والصدقة، وأما أن يكون نافعا بينا كقبول الهدية والدخول في الاسلام، وأما أن يتردد بين النفع
والضرر كالبيع والشراء، أما الأول فلا شبهة في عدم نفوذه وإن أجازه الولي، وأما الثاني
فلا شبهة في نفوذه وإن لم يجزه الولي، أما الثالث فينعقد موقوفا على إجازة الولي وليس للولي
أن يجيزه إذا كان فيه غبن - فقه المذاهب 2: 363.
وعن المالكية: أنه إذا تصرف الصبي المميز بيع وشراء ونحوهما من كل عقد فيه معاوضة
فإن تصرفه فيه يقع موقوفا، ثم إن كانت المصلحة في إجازته تعين على الولي أن يجيزه، وإن
كانت المصلحة في رده تعين على الولي أن يرده - فقه المذاهب 2: 364.
وعن الشافعية: أنه لا يصح تصرف الصبي، سواء كان مميزا أو غير مميز، فلا تنعقد منه
عبارة ولا تصلح له ولاية لأنه مسلوب العبارة والولاية، فإذا نطق ولد الكافر بالاسلام لم ينفع
اسلامه ولو تولى نكاحا لا ينعقد إلا أن الصبي المميز تصح عبادته كما يصح إذنه للغير بدخول
الدار - فقه المذاهب 2: 365.
وعن الحنابلة: أن تصرف الصبي الذي لا يميز باطل مطلقا، أما الصبي المميز فإنه يصح إذا
أذن له الولي - فقه المذاهب 2: 366.
510

بحث في اسلام الصبي
هل يقبل اسلام الصبي وأنه يخرج بذلك عن تبعة العمودين الكافرين
أم لا؟
قد ذهب إلى هذا الرأي جمع من الأصحاب، وخالف فيه صاحب
الجواهر (1)، حيث أنكر توجه الواجبات العقلية الأصولية على الطفل، كما أن الواجبات الشرعية لا تتوجه عليه، بل نسب القول بذلك إلى الاجتهاد
في مقابل النص، ثم قال: وأما قبول اسلام علي (عليه السلام) فهو من خواصه -
انتهى ملخص كلامه (2).

1 - الجواهر 22: 261.
2 - أما اسلام أمير المؤمنين (عليه السلام) فيكفي فيه قول الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله): أنت أول
المؤمنين ايمانا واسلاما، كما مدحته الصحابة بذلك، وهم أبصر من غيرهم يوم كانوا يغترفون
من مستقي العلم ومنبع الدين، وعلى هذا الأساس تظافر الثناء عليه من العلماء والمؤلفين
والشعراء وسائر طبقات الأمة بأنه أول من أسلم.
لو تنازلنا عن جميع ذلك، فمن أين علمنا أن اشتراط البلوغ في التكليف كان مشروعا في
أول البعثة، فلعله كبقية الأحكام التدريجية نزل الوحي به فيما بعد، ولقد حكي الخفاجي
الشافعي في شرح الشفا 3: 125 باب دعاء النبي (صلى الله عليه وآله) على صبي، عن البرهان للحلبي
والسبكي أن اشتراط الأحكام بالبلوغ نزل الوحي به بعد أحد، وفي السيرة الحلبي 1: 304 باب
أنه أول الناس ايمانا: كان الصبيان مكلفون وإنما رفع القلم عن الصبي عام خيبر، وعن البيهقي
أن الأحكام إنما تعلقت بالبلوغ في عام الخندق أو الحديبية، وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز.
511

وقد عرفت - في الحاشية - عن الشافعية أنه إذا نطق ولد الكافر بالاسلام
لم ينفع اسلامه، ولكن الظاهر هو الأول، وذلك لأن الكفر والإسلام أمران
واقعيان يصدران من كل مميز وإن لم يكن بالغا، ومن هنا يعنون ولد
الكافر بعنوان أبيه ويطلق المجوسي على ولد المجوسي، ويقال
النصراني لولد النصراني، ويطلق اليهودي على ولد اليهودي، وهكذا،
كما أنه يطلق المسلم على ولد المسلم.
ويضاف إلى ذلك أن الاسلام يدور مدار الاقرار بالشهادتين، وبذلك
يحرم ماله ودمه، والروايات الدالة على هذا متظافرة من الفريقين (1)، فإن

1 - عن سماعة، عن الصادق (عليه السلام): الاسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول
الله (صلى الله عليه وآله)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس (
الكافي 2: 25).
وعن سفيان بن السمط، عن الصادق (عليه السلام): الاسلام هو الظاهر الذي عليه الناس، شهادة أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وحج
البيت، وصيام شهر رمضان، فهذا الاسلام (الكافي 2: 24).
وعن أبي هريرة أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله،
فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله (صحيح البخاري باب
قتل من أبي قبول الفرائض: 50).
وعنه، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أقاتل حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما
جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (صحيح
مسلم باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله 1: 39).
وعن أوس الثقفي، قال: دخل علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن في قبة في مسجد المدينة،
فأتاه رجل فساره بشئ لا ندري ما يقول، فقال (صلى الله عليه وآله): اذهب قل لهم يقتلوه، ثم دعاه فقال:
لعله يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، قال: نعم، فقال: اذهب فقل لهم يرسلوه أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها حرمت على دماؤهم
وأموالهم إلا بحقها وكان حسابهم على الله (كنز العمال في حكم الاسلام طبعة دائرة المعارف
العثمانية 1: 275.
512

اطلاق هذه الروايات يشمل البالغ وغيره، إذ لا ينبغي الاشكال في قبول
اسلام الصبي المميز والحكم بترتب أحكام الاسلام عليه، لأن المدار في
ذلك أنما هو إظهار الشهادتين، بل قد يكون بعض الأطفال أقوى ايمانا من
أكثر البالغين ومتمكنا من الاستدلال على وجود الصانع وارساله الرسل
وانزاله الكتب على نحو لا يتمكن منه إلا الخواص.
نعم لا تترتب الأحكام الإلزامية على صغارهم وإن كانوا مميزين،
وهكذا طفل المسلم إذا ارتد عن دينه، وذلك لرفع القلم عن الصبي حتى
يحتلم، كما ارتفع قلم التكليف عن أولاد المسلمين ما لم يصلوا إلى حد
البلوغ.
وعلى الجملة أن مقتضى الاطلاقات هو الحكم باسلام الصبي المميز
إذا أظهر الاسلام، كما أن مقتضاها هو الحكم بكفر ولد المسلم إذا أظهر
الكفر وكان مميزا، نعم لا يحكم عليه بأحكام الارتداد لرفع القلم عنه.
قيل: إن الحكم باسلام ولد المسلم وكفر ولد الكافر ليس من جهة
513

الاعتناء باسلام الأول ولا من جهة الاعتناء بكفر الثاني، بل لأجل التبعية
التي هي من المسلمات بين الفقهاء ومن محكمات الفقه التي لا تشوبها
شائبة خلاف، بل ادعى غير واحد من الأعلام الاجماع على ذلك.
ويضاف إلى ذلك قيام السيرة المستمرة على ترتب آثار الكفر على
أولاد الكفار من الأسر والتملك ونحوهما، على أن ذلك مقتضى جملة
من الروايات (1).
والجواب عن ذلك أن المقدار المتيقن من الاجماع والسيرة إنما هو
الطفل غير المميز والذي لا يتمشى منه الاسلام والكفر، أما ولد الكافر
المميز المظهر للاسلام فلا اجماع ولا سيرة على المعاملة معه معاملة
الكفر، وكذلك ولد المسلم إذا أظهر الكفر وهو مميز فإنه لا دليل على
المعاملة معه معاملة الاسلام من الحكم بطهارته ووجوب تجهيزه إذا
مات.

1 - روى وهب بن وهب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهم السلام)، قال: قال علي (عليه السلام):
أولاد المشركين مع آبائهم في النار، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة (الفقيه 3: 317)،
ضعيف بوهب بن وهب.
وعن عبد الله بن سنان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن أولاد المشركين يموتون قبل أن
يبلغوا الحنث، قال: كفار والله أعلم بما كانوا عاملين، يدخلون مداخل آبائهم (الفقيه 3: 317)،
صحيحة.
الحنث: الذنب والإثم.
وفي حديث آخر: أما أطفال المؤمنين فيلحقون بآبائهم، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم،
وهو قول الله عز وجل: بايمان ألحقنا بهم ذريتهم، (الكافي 3: 248)، مرسلة.
وعن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: والذين آمنوا
واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم، قال: قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحق الله
عز وجل الأبناء بالآباء لتقر بذلك أعينهم (توحيد الصدوق باب في الأطفال: 404)، مجهولة
بالحضرمي.
514

أما الروايات المتقدمة فهي لا تتفق ومذهب الإمامية، بديهة أن كل
أحد إنما يؤاخذ بعمل نفسه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالله تعالى
لا يؤاخذ عبدا بمجرد علمه بأنه يعمل المعاصي ويرتكب الخبائث، بل
لا بد وأن يتركه حتى يبلغ ويختبر ثم يؤاخذه بعمله لكي لا تكون له على
الله حجة، بل تكون لله عليه الحجة البالغة ويهلك من هلك عن بينة
ويحيي من حي عن بينة.
ومن هنا قد ورد في روايات كثيرة (1): إن الله تعالى يمتحن الأطفال

1 - عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته هل سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الأطفال،
فقال: قد سئل، فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، ثم قال: يا زرارة هل تدري قوله الله أعلم بما
كانوا عاملين، قلت: لا، قال: لله فيهم المشية، أنه إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الأطفال
والذي مات من الناس في الفترة - أي ما بين رسولين من رسل الله - والشيخ الكبير الذي أدرك
النبي (صلى الله عليه وآله) وهو لا يعقل والأصم والأبكم الذي لا يعقل والمجنون والأبله الذي لا يعقل،
وكل واحد منهم يحتج على الله عز وجل، فيبعث الله إليهم ملكا من الملائكة فيؤجج لهم نارا،
ثم يبعث الله إليهم ملكا فيقول لهم: إن ربكم يأمركم أن تثبوا فيها، فمن دخلها كانت عليه بردا
وسلاما وادخل الجنة، ومن تخلف عنها دخل النار (الكافي 3: 248)، حسنة بإبراهيم
بن هاشم.
وعن عبد الله بن سلام مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: أخبرني
أيعذب الله عز وجل خلقا بلا حجة، فقال: معاذ الله، قلت: فأولاد المشركين في الجنة أم في
النار، فقال: الله تبارك وتعالى أولى بهم، إنه إذا كان يوم القيامة وجمع الله عز وجل الخلائق
لفصل القضاء يأتي بأولاد المشركين... فيأمر الله عز وجل نارا يقال لها: الفلق، أشد شئ في
جهنم عذابا، فيخرج من مكانها سوداء مظلمة بالسلاسل والأغلال... ثم يأمر الله تبارك وتعالى
أطفال المشركين أن يلقوا أنفسهم في تلك النار، فمن سبق له في علم الله عز وجل أن يكون
سعيدا ألقى نفسه فيها، فكانت عليه بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم (عليه السلام)، ومن سبق في
علم الله عز وجل أن يكون شقيا امتنع ولم يلق نفسه في النار، فيأمر الله تبارك وتعالى النار
فتلقطه لتركه أمر الله وامتناعه من الدخول فيها، فيكون تبعا لإبائه في جهنم، وذلك قوله
عز وجل: فمنهم شقي وسعيد، (توحيد الصدوق باب في الأطفال: 400).
وإلى غير ذلك من الروايات الكثيرة بل المتواترة الدالة على أن الأطفال الذي ماتوا قبل
البلوغ يمتحنون بالنار ولا يلحقون بآبائهم بلا حجة وامتحان.
515

الذين ماتوا قبل أن يبلغوا بالنار، ولا يلحقون بآبائهم بغير حجة وامتحان
لأنه تعالى لا يعذب خلقا بلا حجة.
ولو سلمنا موافقة الأخبار المذكورة مع مذهب الإمامية، ولكن لا نسلم
دلالتها على كون أولاد الكفار كفارا وأولاد المسلمين مسلمين من جهة
التبعية، بل مفادها أن مداخل أولاد الكفار مداخل آبائهم في دار الآخرة
وأنهم يعاقبون معهم في الجحيم، لأن الله تعالى يعلم أن أولاد الكفار
كآبائهم في خبث الباطن وسوء السريرة وفساد النية وارتكاب القبائح،
كما أن أولاد المؤمنين مداخلهم مداخل آبائهم، لأنه تعالى يعلم أنهم
كآبائهم في حسن نياتهم وصفاء باطنهم وصدور الخير منهم، ولا شبهة
في أن هذا المعنى غير مربوط بالتبعية المزبورة.
الاستدلال بحديث الرفع على عدم اعتبار اسلام الصبي
وربما يتوهم أن حديث رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم - سنذكره
قريبا - كما يدل على رفع الأحكام الفرعية كوجوب الصوم والصلاة
والحج وغيرها، كذلك يدل باطلاقه على رفع الأحكام الأصلية أيضا،
وعليه فلا اعتبار بكفر الأطفال ولا باسلامهم.
والجواب عن ذلك أن حديث رفع القلم عن الصبي إنما يدل على رفع
الأحكام الإلزامية عن الصبي امتنانا عليه فلا يشمل اسلامه، إذ ليس في
رفعه منة عليه وكذلك كفره، فإنه لا يرتفع بحديث الرفع فإن الحكم بكفره
516

ونجاسته مثلا موضوع لأحكام الزامية بالنسبة إلى المكلفين ولا ترتفع
تلك الأحكام بحديث الرفع، نعم الأحكام الإلزامية المترتبة على الكفر
ترتفع عن الصبي لا محالة.
ومن هنا لا يحكم عليه بأحكام الارتداد، فلا تبين زوجته منه مثلا ما
لم يبلغ مرتدا.
ومما ذكرناه ظهر لك أنه لو ارتد ولد المسلم ثم مات لم يجب تغسيله
ولا سائر تجهيزاته، فإنها مترتبة على الاسلام والمرتد ليس بمسلم.
هل ترتفع عن الصبي بحديث الرفع الأحكام الفرعية التي هي
كالأسباب بالنسبة إلى مسبباتها، كالنجاسة والجنابة ونحوهما، أم لا.
الظاهر أنها لا ترتفع بالحديث المزبور، لأن الحكم المرفوع بذلك لا بد
وأن يكون مترتبا على فعل الصبي بما هو فعله، وحينئذ فلا يشمل ذلك
أمثال الأمور المذكورة لأنها مترتبة على عنوان خاص، كالنجاسة
المترتبة على عنوان الملاقاة والجنابة المترتبة على عنوان الوطي.
وعليه فإذا لاقي بدن الانسان جسما نجسا جهلا لم يمكن الحكم بعدم
تأثير النجاسة فيه من ناحية حديث الرفع، فإن تنجس الملاقي لم يترتب
علي الملاقاة بما هو فعل الانسان لكي يرتفع ذلك بحديث الرفع بل هو
مترتب على نفس الملاقاة.
ومن هنا لا يفرق في تحقق النجاسة بين كون الملاقاة بالإرادة
والاختيار وبين كونها بالجهل أو الغفلة أو النسيان أو بالقهر.
صحة عبادات الصبي
العبادات إما واجبة أو مستحبة:
أما العبادات المستحبة، فلا شبهة في صحتها عن الأطفال، لأن أدلتها
517

تشملهم كشمولها للبالغين، وهذا ظاهر لا شبهة فيه، وإنما البحث في أنه
هل هنا تناف بين أدلة المستحبات وبين ما دل على رفع القلم عن الصبي
لكي يقدم الثاني على الأول بالحكومة أم لا، الظاهر أنه لا تنافي بينهما،
ضرورة أن المراد من رفع القلم إنما هو قلم التكليف، ومن البين أنه
لا تكليف في المستحبات حتى يرتفع بذلك.
وقد يتوهم أن المراد من رفع القلم هو رفع الكتابة والجعل، بمعنى أنه
لم يكتب عليهم حكم من الأحكام الشرعية، فالحكومة على حالها،
ولكنه توهم فاسد، لأنه خلاف الظاهر من دليل رفع القلم عن الصبي، لأنه
إنما ورد في مقام الامتنان، ومن الظاهر أنه لا امتنان في رفع المستحبات.
أما العبادات الواجبة، فربما يتوهم أن المرتفع منها بدليل رفع القلم عن
الصبي إنما هو الالزام فقط وأما مطلوبيتها فهي باقية على حالها، وعليه
فتصح عبادات الصبي.
ولكن يتوجه عليه أن قلم الرفع إنما تعلق بما تعلق به قلم الوضع، ومن
الواضح أن المجعول أمر بسيط غير قابل للتقسيط، وكذلك المرفوع، بل
قد ذكرنا في محله أن صيغة الأمر وما في معناها موضوعة لابراز اعتبار
المادة على ذمة المكلف فقط، وأما الوجوب فإنه نشأ من ناحية العقل
الحاكم بوجوب إطاعة المولى ما لم يرخص في الترك، فما هو قابل للرفع
والوضع شرعا هو نفس الاعتبار دون الوجوب المترتب عليه.
والتحقيق أن يستدل على مشروعية عبادات الصبي بالروايات (1) الدالة

1 - عن الحلبي، عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام) قال: إنا نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني
خمس سنين فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا
كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، إن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل، فإذا غلبهم العطش والغرث أفطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني
تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم، فإذا غلبهم العطش أفطروا، (الكافي
410: 124، التهذيب 2: 380، 4: 284، الإستبصار 1: 409، 2: 132، الفقيه 1182، عنهم
الوسائل 10: 234، 4: 19.
وعن الراوندي بإسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا أبناء
ست سنين (البحار 104: 50، المستدرك 3: 19).
وعن الجعفريات بإسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا أبناء عشر
سنين (الجعفريات: 51، عنه المستدرك 3: 19).
518

علي الأمر بأمر الصبيان بالصلاة والصوم، وقد ذكرنا في مبحث الأوامر
من علم الأصول أن الأمر بالأمر أمر بالفعل حقيقة، إذ الغرض منه ليس إلا
تحقق ذلك الفعل في الخارج، فيكون الأمر بالأمر طريقا إليه إلا أن تكون
هنا قرينة حالية أو مقالية تدل على الموضوعية، ولكنها منتفية في تلك
الروايات.
ويضاف إلى ذلك أنه ورد في جملة أخرى من الروايات (1) تكليف

1 - عن الفضيل بن يسار قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يأمر الصبيان يجمعون بين
المغرب والعشاء (الكافي 3: 409، التهذيب 2: 380، 8: 111، عنهم الوسائل 4: 21).
وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) في الصبي متى يصلي، قال: إذا عقل الصلاة،
قلت: متى يعقل الصلاة وتجب عليه، قال: لست سنين (التهذيب 2: 381، الإستبصار 1: 408،
عنهما الوسائل 4: 19)، صحيحة.
هذه الرواية محمولة على الاستحباب لما دل على عدم وجوبها عليه.
وعن عبد الله بن فضالة، عن الصادق أو الباقر (عليهما السلام) في حديث، قال: سمعته يقول: يترك
الغلام حتى يتم له سبع سنين، فإذا تم له سبع سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك، فإذا غسلهما
قيل له: صل، ثم يترك حتى يتم له تسع سنين، فإذا تمت له علم الوضوء وضرب عليه وأمر
بالصلاة وضرب عليها (الفقيه 1: 182، عنه الوسائل 4: 20).
وعن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أتى على الصبي ست سنين وجب
عليه الصلاة، وإذا أطاق الصوم وجب عليه الصيام (التهذيب 2: 381، الإستبصار 1: 408،
عنهما الوسائل 19: 490).
هذه الرواية أيضا محمولة على الاستحباب لما عرفته قريبا.
وعن أبان بن الحكم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الصبي إذا حج به فقد قضى حجة
الاسلام حتى يكبر (الفقيه 2: 267، عنه الوسائل 11: 48).
وعن زرارة، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إذا حج الرجل بابنه وهو صغير، فإنه يأمره أن يلبي
ويفرض الحج، فإن لم يحسن أن يلبي لبوا عنه ويطاف به ويصلي عنه (الوافي: 8، باب 23
حج المملوك والصبي: 52).
وإلى غير ذلك من الروايات المذكورة في المصادر المزبورة وغيرها.
519

الصبيان بالصلاة والصوم والحج بغير عنوان الأمر بأمرهم بها، فتدل على
مشروعية عباداته.
نعم قامت القرينة الخارجية على عدم إرادة الوجوب من تلك
الروايات، وهذه القرينة هي الأدلة الدالة على رفع التكليف عن الصبي
حتى يحتلم، وإذن فالصبيان مأمورون بالعبادات كالبالغين فتكون عباداته
مشروعة مستحبة.
بحث في معاملات الصبي
يقع الكلام في معاملات الصبي - أعم من العقود والايقاعات - في أربع
جهات:
1 - تصرفات الصبي في أمواله مستقلا
الجهة الأولى: في جواز تصرفاته في أمواله مستقلا على وجه
الاطلاق، الظاهر أنه لا خلاف ولا اشكال في أنه لا يجوز للصبي
الاستقلال في التصرفات في أمواله بدون إذن الولي، ولم يخالف في ذلك
520

أحد فيما نعلم إلا الحنفية، فإنهم ذهبوا إلى جواز استقلال الصبي في
بعض التصرفات، وقد ذكرنا رأيهم في الحاشية آنفا.
ويدل على رأينا هذا قوله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم (1).
ووجه الدلالة هو أن الله تعالى سجل اعتبار الرشد في جواز تصرفات
الصبي في أمواله مستقلا بعد تسجيله اعتبار البلوغ فيه، ومن الواضح
جدا أنه لو كان الرشد بوحدته كافيا في جوازها بدون إذن الولي لكان
اعتبار البلوغ في ذلك قبل الرشد لغوا محضا.
فيعلم من ذلك أن نفوذ تصرفات الصبي يتوقف على أمرين: البلوغ
والرشد، وإذن فالآية الكريمة دالة على المنع عن تصرفات الصبي قبل
البلوغ وإن كان رشيدا.
وقد ظهر مما ذكرناه أن ما ذكره المحقق الإيرواني على خلاف الظاهر
من الآية، وإليك نصه:
لا يبعد استفادة أن المدار في صحة معاملات الصبي على الرشد من
الآية: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم، على أن تكون الجملة الأخيرة استدراكا عن صدر الآية وأنه مع
استيناس الرشد لا يتوقف في دفع المال ولا ينتظر البلوغ، وأن اعتبار
البلوغ طريقي اعتبر أمارة إلى الرشد بلا موضوعية له (2).
وقد استدل بهذه الآية المباركة على نفوذ تصرفات الصبي قبل البلوغ،
بدعوى أن قوله تعالى: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح، يقتضي أن
الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ، والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في

1 - النساء: 6.
2 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 106.
521

أنه هل له تصرف صالح أم لا، وإنما يحصل هذا المعنى باعطاء شئ من
المال ليتصرف فيه فيرى تصرفه كيف يكون، فإن أحسن فيه كان راشدا
وإلا كان على سفهه.
وهذا الاختبار يحصل بأي تصرف من التصرفات السائغة في نفسها
بدليل صحة الاستثناء، ضرورة أنه يصح أن يقال: وابتلوا اليتامى إلا في
التصرف الفلاني، وإذن فتدل الآية الشريفة على جواز تصرفات الصبي
مستقلا على وجه الاطلاق.
ويرد عليه أن اختبار الصبي لا يتوقف على دفع ماله إليه ليستقل
بالتصرف فيه، بل يمكن ذلك بمباشرة البيع والشراء بنظارة الولي أو
بنظارة شخص منصوب من قبله أو بمباشرته مقدماتهما ليتصدى الولي
ايقاعهما بنفسه.
وبتعبير آخر أن الممنوع قبل العلم بالرشد إنما هو اعطاء اليتيم جميع
ماله ليستقل بالتصرف فيه، أما اعطاؤه طائفة من ماله لكي يتصرف فيها
تحت مراقبة الولي ونظارته لأجل الاختبار والابتلاء، فلا منع فيه بوجه،
بل هذا هو المأمور به في هذه الآية المباركة.
والسر في أن الاختبار لا بد وأن يكون قبل البلوغ هو أنه لو كان ذلك بعد
البلوغ لزم حجرهم عن أموالهم في زمان الاختبار، وهو مناف لقاعدة
سلطنة الناس على أموالهم وسبب لمنع تصرف المالك في ماله
بلا موجب.
وتدل على ما ذكرناه - من عدم جواز تصرف الصبي في ماله بدون إذن
الولي - الروايات الآتية، فإنها تدل على أن أمر الصبي لا يجوز ما لم يبلغ
الحلم.
ثم إن المذكور في الآية المباركة وإن كان هو اليتيم إلا أن تعليق جواز
522

دفع ماله إليه على بلوغه ورشده يدل على أن المنع عن دفع المال إليه إنما
هو لأجل عدم البلوغ، وعليه فيعم الحكم غير اليتيم أيضا، على أن الآية
الكريمة تشمل لمن كان له الجد ولكن مات أبوه، وكذلك يعم الحكم من
كان أبوه حيا أيضا لعدم الفصل جزما.
2 - تصرف الصبي مستقلا بإذن الولي
الجهة الثانية: في جواز تصرفات الصبي في أمواله مستقلا مع إذن
الولي بذلك.
قد ظهر حكم هذه الجهة من الجهة الأولى، بديهة أن الولي لا يجوز له
أن يدفع مال الصبي إليه ويأذن له في البيع والشراء وأمثالهما، فإن جواز
ذلك يتوقف على بلوغه ورشده وإلا فهو محجور عليه في التصرف في
أمواله.
3 - مباشرة الصبي اجراء العقود
الجهة الثالثة: في صحة مباشرة الصبي العقود أو الايقاعات في أمواله
بإذن الولي أو يكون وكيلا من قبله في ذلك وعدم صحتها؟
لا اشكال في أن الآية المباركة لا تدل على عدم جواز ذلك، فإن
الممنوع فيها هو دفع مال اليتيم إليه ليكون هو المتصرف فيه باستقلاله،
فلا تعم ما إذا باشر انشاء عقد أو ايقاع في ماله بإذن من الولي.
ومع ذلك فقد يقال بأن الصبي مسلوب العبارة للروايات الواردة في
عدم نفوذه أمره، وفي رفع القلم عنه، وفي كون عمده وخطأه واحدا،
ولكن لا دلالة في شئ من هذه الروايات على الرأي المذكور.
وتوضيح ذلك: أن هذه الروايات على ثلاث طوائف:
523

الطائفة الأولى: الروايات (1) الدالة على أن أمر الصبي لا ينفذ، ولكن
الظاهر أن هذه الروايات بعيدة عن مقصود المستدل، لأنها صريحة في
المنع عن نفوذ أمر الصبي في البيع والشراء وغيرهما.
ومن البين أن الظاهر من عدم نفوذ أمر الصبي المنع عن استقلاله في أمر
المعاملة وتسلطه عليها نحو تسلط البالغين على أموالهم وشؤونهم، إذ
لا يقال لمجرى الصيغة فقط إن أمر المعاملة تحت يده، ومن هنا لا يجري
عليه ما جرى على المتعاملين من الشرائط والأحكام.
وبتعبير آخر أن لفظ الأمر المذكور في هذه الطائفة وإن كان بمفهومه
اللغوي شاملا لأي فعل يصدر من الصبي ولكن اسناد لفظ يجوز -

1 - عن حمران، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: إن الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع
سنين ذهب عنها اليتم، ودفع إليها مالها، وجاز أمرها في البيع والشراء... والغلام لا يجوز أمره
في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليتم حتى يبلغ خمس عشر سنة (الكافي 7: 197،
مستطرفات السرائر: 428، عنهما الوسائل 1: 43)، ضعيف بعبد العزيز العبدي وغيره.
وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سأله أبي وأنا حاضر عن اليتيم متى
يجوز أمره، قال: حتى يبلغ أشده، قال: قلت: وما أشده، قال: احتلامه، قال: قلت: قد يكون
الغلام ابن ثمان عشرة سنة أو أقل أو أكثر ولا يحتلم، قال: إذا بلغ وكتب عليه الشئ جاز أمره
إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا (تفسير العياشي 2: 291، عنه تفسير البرهان 2: 419، المستدرك
1: 88).
وعن محمد بن علي بن الحسين قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا بلغت الجارية تسع سنين
دفع إليها مالها وجاز أمرها في مالها وأقيمت الحدود التامة لها وعليها (الفقيه 4: 164، عنه
الوسائل 18: 411)، مرسل.
وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا بلغ الغلام أشده ثلاث عشرة سنة
ودخل الأربع عشرة سنة وجب عليه ما وجب على المحتلمين... وجاز له كل شئ من ماله إلا أن يكون ضعيفا أو سفيها (الخصال: 495، عنه الوسائل 18: 412، المستدرك 1: 87)، حسن
بالحسن بن علي المعروف بابن بنت الياس.
524

الذي ذكر فيها - إليه ومناسبته له يقتضي أن يراد منه سلطنة الصبي على
أمواله وتصرفه فيها كيف يشاء، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون تصرفه
فيها بإذن وليه أو بدونه، ومن الظاهر أن هذا المعنى لا يتحقق بمجرد
اجراء الصيغة.
وإذن فالطائفة المزبورة تمنع عن كون الصبي مستقلا في معاملاته ولو
كان ذلك بإذن وليه، وعليه فلا ظهور فيها بوجه في سلب عبارات الصبي،
بل المعاملة الصادرة من الصبي في أمواله إذا وقعت على نحو استقلاله
فيها لم يحكم بفسادها مطلقا لأنه غير مسلوب العبارة، فإذا أجازها الولي
حكم بصحتها، لأن العقد المزبور وإن كان صادرا من الصبي حدوثا
ولكنه عقد للولي بقاء، ومن الظاهر أن عدم نفوذها من حيث صدورها من
الصبي لا ينافي نفوذها من جهة إضافتها إلى الولي.
وإلى ذلك أشار المصنف، وإليك نصه: لكن الانصاف أن جواز الأمر
في هذه الروايات ظاهر في استقلاله في التصرف، لأن الجواز مرادف
للمضي، فلا ينافي عدمه ثبوت الوقوف على الإجازة كما يقال بيع
الفضولي غير ماض بل موقوف.
والذي يدل على صدق مقالنا من نفس تلك الروايات هو وقوع
الاستثناء في جملة منها بقوله (عليه السلام): إلا أن يكون سفيها أو ضعيفا،
ووجه الدلالة هو أن السفيه ليس مسلوب العبارة، وإذن فيعلم من
الاستثناء أن المراد من عدم نفوذ أمر الصبي فيها إنما هو عدم استقلاله في
التصرف.
الطائفة الثانية: ما دل على رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم (1)، وقال

1 - عن ابن ظبيان قال: أتي عمر بامرأة مجنونة قد زنت، فأمر برجمها، فقال علي (عليه السلام):
أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن
النائم حتى يستيقظ (الخصال: 93 و 175، عنه الوسائل 1: 45)، مجهول بمحمد بن عبد الله
الحضرمي وغيره.
525

المصنف: وأما حديث رفع القلم ففيه: أولا: إن الظاهر منه قلم
المؤاخذة لا قلم جعل الأحكام، ولذا بنينا كالمشهور على شرعية
عبادات الصبي.
ويرد عليه أن العقوبة والمؤاخذة - كالمثوبة والأجرة - من الأمور التي
لا صلة لها بعالم الجعل بوجه بل هي مترتبة على الجعل ترتب الأثر على
ذي الأثر، وعليه فلا معنى لتعلق الرفع بما لم يتعلق به الجعل، نعم ترتفع
العقوبة بارتفاع منشئها أعني به التكاليف الالزامية، ولكنه غير رفع
المؤاخذة ابتداء، أما مشروعية عبادات الصبي فغريبة عن الحديث
بالكلية وإنما هي من جهة الروايات الخاصة وقد عرفتها قريبا.
والتحقيق في الجواب أن يقال: إن حديث رفع القلم عن الصبي إنما
يدل على رفع الأحكام الإلزامية المتوجهة إلى الصبيان كتوجهها إلى
غيرهم، فإن هذا هو الموافق للامتنان.
ومن الواضح أن مجرد اجراء الصيغة ليس من الأحكام الإلزامية
ولا موضوعا لها لكي يرتفع بحديث الرفع، وإنما الموضوع لها هو نفس
المعاملة التي أوجدها المتعاملان، وإذن فما هو موضوع للأحكام
الالزامية لم يصدر من الصبي لكي يشمله حديث الرفع، وما هو صادر منه
ليس بموضوع لها، وهذا ظاهر.
وعلى الجملة أن ارتفاع قلم التكليف عن الصبي لا ينافي الالتزام
بصحة العقود والايقاعات الصادرة منه، بل إن رفع القلم عن الصبي لا يدل
526

على أزيد من رفع إلزامه بشخصه ما دام صبيا، فهو لا يدل على رفع إلزام
البالغين بفعله أو على إلزامه بفعله بعد بلوغه، كما هو الحال في جنابته أو
في اتلاف مال غيره.
وإلى هذا أشار المصنف في ثالث أجوبته وقال: لو سلمنا اختصاص
الأحكام حتى الوضعية بالبالغين، لكن لا مانع من كون فعل غير البالغ
موضوعا للأحكام المجعولة في حق البالغين، فيكون الفاعل كسائر غير
البالغين خارجا عن ذلك الحكم إلى وقت البلوغ.
وإذن فلا دلالة في حديث الرفع على بطلان معاملة الصبي فضلا عن
دلالته على سلب عبارته.
ثم إن المصنف قد ذكر في الجواب الثاني: أن الأحكام الوضعية
ليست مختصة بالبالغين، فلا مانع من أن يكون عقده سببا لوجوب الوفاء
بعد البلوغ أو على الولي إذا وقع بإذنه أو إجازته كما يكون جنابته سببا
لوجوب غسله بعد البلوغ وحرمة تمكينه من مس المصحف.
ولكنه يناقض ما قد بني عليه في أصوله، من أن الأحكام الوضعية
منتزعة من الأحكام التكليفية، وإذا فرضنا انتفاء الحكم التكليفي عن
الصبي فلا منشأ هنا لانتزاع الحكم الوضعي.
الطائفة الثالثة: ما دل على أن عمد الصبي وخطأه واحد، وهذه
الطائفة علي ثلاثة أقسام:
1 - ما دل على ذلك مطلقا من غير أن يكون مقيدا بشئ (1).
2 - ما دل على الحكم المزبور مقيدا بكون دية الجناية الصادرة من

1 - عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عمد الصبي وخطأه واحد (التهذيب
10: 233، الرقم: 920)، صحيحة.
527

الصبي خطأ على عاقلته (1).
3 - ما دل على هذا الحكم مع قيد آخر، وهو رفع القلم عن الصبي،
كرواية أبي البختري عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام): أنه كان يقول في
المجنون المعتوه الذي لا يفيق، والصبي الذي لم يبلغ عمدهما خطأ
تحمله العاقلة، وقد رفع عنهما القلم (2).
قيل: إن القسم الأول من هذه الطائفة يدل على عدم الاعتناء بأقوال
الصبي وأفعاله، ضرورة دلالة صحيحة محمد بن مسلم على نزول ذلك
منزلة الخطأ، وعليه فلا يعتنى بصيغ العقود والايقاعات الصادرة منه كما
لا يترتب الأثر عليها إذا صدرت من البالغين نسيانا أو غفلة أو في حالة
النوم أو خطأ، ولا تنافي بين هذا القسم وبين القسم الثاني والقسم الثالث
لكي يحمل المطلق على المقيد، بديهة أنه لا تنافي بين أن يكون عمد
الصبي بمنزلة الخطأ في الجنايات وبين كون عمده بمنزلة الخطأ في غير
موارد الجنايات، وإذن فلا موجب لرفع اليد عن الاطلاق فإنه منحصر
بالتنافي كما قرر في محله.

1 - عن إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا (عليه السلام) كأن يقول: عمد
الصبيان خطأ تحمله العاقلة (التهذيب 10: 233، الرقم: 921)، ضعيفة بغياث بن كلوب.
وعن علي (عليه السلام): ليس بين الصبيان قصاص، عمدهم خطأ يكون فيه العقل (الجعفريات
: 124، عنه المستدرك 18: 242)، مجهولة بموسى بن إسماعيل.
وعن دعائم الاسلام، عن علي (عليه السلام): أنه ما قتل المجنون المغلوب على عقله، والصبي
فعمدها خطأ على عاقلتهما (دعائم الاسلام 2: 417، عنه المستدرك 18: 243)، مرسلة.
وعنه، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: وما جني الصبي والمجنون على عاقلتهما (دعائم
الاسلام 2: 417، عنه المستدرك 18: 243). مرسلة.
2 - قرب الإسناد: 155، دعائم الاسلام 2: 417، عنه المستدرك 104: 389)، ضعيفة بأبي
البختري.
528

نعم لا يبعد أن يستأنس - بما اشتمل على التقييد - اختصاص الحكم
بالجناية فيكون ذلك قرينة على انصراف المطلق إليها، كما أنه يمكن أن
يستأنس ذلك (1) بما ورد في الأعمي من أن عمد الصبي خطأ ولكن مجرد
الاستيناس لا يوجب تقييد القسم الأول الذي هو مطلق.
والجواب عن ذلك أن دلالة الرواية على تنزيل عمد الصبي منزلة
خطاه من جميع الجهات إنما تتم إذا كان الظاهر منها هو نفي الحكم بلسان
نفي الموضوع، بأن يقول الإمام (عليه السلام): عمد الصبي ليس بعمد أو كلا
عمد، نظير قوله (عليه السلام): ليس بين الرجل وولده ربا، وليس بين السيد
وعبده ربا (2)، وكقوله (عليه السلام): ليس على الإمام سهو، ولا على من خلف
الإمام سهو، ولا على السهو سهو (3)، وكقوله (عليه السلام): لا ضرر
ولا ضرار (4)، فإن الظاهر من أمثال هذه التنزيلات أن المنزل كالمنزل عليه
في جميع الآثار، وعليه فيترتب على عمد الصبي ما يترتب على خطاه.
والسر في ذلك أن تنزيل شئ منزلة عدمه لا يقتضي وجود الأثر
للمنزل عليه لكي يكون التنزيل باعتبار ذلك الأثر، بل التنزيل هنا باعتبار

1 - عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن أعمى فقأ عين رجل صحيح متعمدا،
فقال: يا أبا عبيدة أن عمد الصبي مثل الخطأ هذا فيه الدية من ماله، فإن لم يكن له مال فإن
دية ذلك على الإمام ولا يبطل حق مسلم (التهذيب 10: 232، الرقم: 917)، موثق
بعمار الساباطي.
وعن الحلبي، عن الصادق (عليه السلام): الأعمى جنايته خطأ تلزم عاقلته يؤخذون بها في ثلاث
سنين في كل سنة نجما، فإن لم يكن للأعمى عاقلة لزمته دية ما جني في ماله (التهذيب
10: 233، الرقم: 98)، مهمل بمحمد بن عبد الله.
2 - الكافي 5: 147، الفقيه 3: 176، التهذيب 7: 18، عنهم الوسائل 18: 35.
3 - الكافي 3: 359، التهذيب 2: 344، عنهما الوسائل 8: 240.
4 - مر في البحث عن مدرك الضمان في قاعدة ما يضمن.
529

عدم الأثر لأجل أن ما هو عديم النفع ينزل منزلة العدم، وهذا بخلاف
تنزيل أحد الأمرين الوجوديين منزلة صاحبه، فإن ذلك لا يتحقق إلا
بلحاظ وجود الأثر للمنزل عليه.
عدم امكان استفادة الاطلاق من الروايات
وإذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أنه لا يمكن أن يراد الاطلاق من تلك
الروايات لوجود المانع وعدم المقتضي:
أما وجود المانع، فلأن الأخذ باطلاقها مخالف لضرورة المذهب
وموجب لتأسيس فقه جديد، بديهة أن لازم العمل باطلاقها هو أن
لا يبطل صوم الصبي مع عدم الاجتناب عن مبطلات الصوم فإن ارتكابه
بها خطأ لا ينقض الصوم، والمفروض أن عمد الصبي خطأ، وأيضا لزم
من ذلك القول بصحة صلاة الصبي إذا ترك عمدا أجزاءها التي لا يضر
تركها خطأ بصلاة البالغين، وهكذا الكلام في ناحية الزيادة العمدية فيها.
بل يلزم منه الالتزام بصحة صلاة الصبيان إذا اقتصروا فيها بالنية
والتكبير للاحرام والركوع والسجدة الواحدة والسلام، فإن ترك ما
سوى ذلك خطأ لا يضر بصلاة البالغين، والمفروض أن عمد الصبي
خطأ.
بل يلزم من العمل باطلاق تلك الروايات أن لا تصح عبادات الصبيان
أصلا، فإن صحتها متوقفة على صدورها من الفاعل بالإرادة والاختيار،
وقد فرضنا أن عمد الصبي خطأ فلا يعقل صدور عبادة صحيحة منه،
ولا أظن أحدا أن يلتزم بشئ من هذه اللوازم، ودعوى انصراف تلك
الروايات عن هذه الموارد دعوى جزافية.
أما عدم المقتضي للاطلاق، فلأن تنزيل عمد الصبي منزلة خطاه على
530

وجه الاطلاق يقتضي أن يكون هنا أثر خاص لكل منهما عند صدورهما
من البالغين لكي يكون تنزيل عمد الصبي منزلة خطاه بلحاظ ذلك الأثر،
كما أن الأمر كذلك في تنزيل الطواف منزلة الصلاة في قوله (صلى الله عليه وآله):
الطواف بالبيت صلاة (1).
ومن الواضح أنه لا مصداق لهذه الكبرى إلا الجنايات، فإنها إن
صدرت من الجاني عمدا فيقتص منه وإن صدرت منه خطأ فديتها على
عاقلته، وعلى هذا فيصح تنزيل جناية الصبي عمدا منزلة جنايته خطأ
فتكون ديتها مطلقا على عاقلته.
أما في غير الجنايات فلا مورد لمثل هذا التنزيل أصلا، نعم قد ثبت
أثر خاص لكل من العمد والخطأ في الصلاة وفي تروك الاحرام فإن من
ترك جزء من صلاته عمدا فتبطل صلاته وإن تركه خطأ، فتجب عليه
سجدتا السهو، وأن المحرم إذا صاد حيوانا عمدا ثبتت عليه الكفارة
زائدة على ما إذا صاده خطأ.
ولكن أمثال هذه الموارد خارجة عن حدود الروايات الواردة في
تنزيل عمد الصبي منزلة خطاه، ضرورة أن الآثار المذكورة إنما تترتب
علي الخطأ - في تلك الموارد - إذا صدر من غير الصبي، أما إذا صدر من
الصبي ارتفع أثره بحديث الرفع.
وبتعبير أوضح أن تنزيل عمد الصبي منزلة خطاه متقوم بأمرين:
الأول: ثبوت الأثر لكل منهما.
الثاني: أن يكون أثر الخطأ ثابتا لغير الفاعل.

1 - عن ابن عباس، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الطواف بالبيت صلاة، ولكن الله أحل فيه
المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير (سنن البيهقي 5: 87، مستدرك الحاكم 1: 459.
531

ولا ريب أنه لا مصداق لهذه الكبرى إلا باب الجنايات، وهذا المعنى
هو الموافق للذوق الفقاهي.
ومما يدل على اختصاص تلك الروايات بباب الجنايات قوله (عليه السلام)
في بعضها: عمد الصبيان خطأ تحمله العاقلة، إذ من المعلوم أن العاقلة
لا تحمل سجدتي السهو ولا الكفارة في الحج وإنما تحمل الدية في
الجنايات، وإذن فلا دلالة في شئ من تلك المطلقات أيضا على كون
الصبي مسلوب العبارة.
بحث في ذيل رواية أبي البختري
بقي الكلام في ذيل رواية أبي البختري، وهو قوله (عليه السلام): وقد رفع
عنهما القلم، وقد استظهر المصنف (رحمه الله) من هذه الجملة دلالتها على
كون الصبي مسلوب العبارة وكون عقده وايقاعه مع القصد كعقد الخاطي
والغالط والهازل و ايقاعاتهم، وحاصل كلامه:
إن هذه القطعة من الرواية لا تتصل بسابقتها إلا بأخذها علة لثبوت الدية
علي العاقلة، أو معلولا لقوله (عليه السلام): عمدهما خطأ، بمعنى أن علة رفع
القلم عن الصبي والمجنون هو كون قصدهما بمنزلة عدم القصد في نظر
الشارع، ومن البين أن اتخاذها علة لثبوت الدية على العاقلة أو معلولا
لتنزيل عمد الصبي منزلة الخطأ لا يستقيم إلا بأن يراد من رفع القلم رفع
المؤاخذة عن الصبي والمجنون، سواء أكانت المؤاخذة دنيوية أم كانت
أخروية، وسواء تعلقت المؤاخذة الدنيوية بالنفس كالقصاص أم تعلقت
بالمال كغرامة الدية.
وعليه فلا يؤخذ الصبيان والمجانين بأفعالهم وأقوالهم الصادرة حال
الصبوة والجنون بعد البلوغ والإفاقة، سواء أكان صدور الأقوال
532

والأفعال منهم في تلك الحال بإذن الولي أم لم يكن كذلك.
وعلى الجملة إن الرواية وإن وردت في باب الجناية ولكن مقتضى
التعليل هو تنزيل قصد الصبي والمجنون منزلة عدمه، وأنه لا اعتبار
بشئ مما يصدر منهما قولا وفعلا بل هما مسلوبان في عالم الاعتبار من
جهة الفعل والعبارة، ضرورة أن ذكر العلة في مورد خاص لا يقتضي
اختصاصها به، بل هو من باب تطبيق الكبرى على الصغرى، وإذن
فلا محذور لنا في الأخذ بعموم العلة في سائر الموارد أيضا.
ويتوجه عليه أنه لا وجه لجعل رفع القلم علة لكون الدية على العاقلة
لعدم العلية بينهما لا شرعا ولا عرفا ولا عقلا، بل نسبة أحدهما إلى
الآخر كوضع الحجر في جنب الانسان، والعجب من المصنف فإنه قد
التزم بثبوت العلية والمعلولية بين رفع القلم عن الصبي، وبين ثبوت الدية
علي العاقلة ولكن لم يستوضح المناسبة والسنخية بينهما.
غاية الأمر أنه ثبت في الشريعة المقدسة أن دم المسلم لا يذهب هدرا،
ومن الظاهر أن هذا الحكم - مع ما دل على أن عمد الصبي خطأ - يلازم
ثبوت دية الجناية الصادرة من الصبي على عاقلته.
والصحيح أنه لا ملازمة بينهما أيضا، لأن الحكمين المذكورين
لا يدلان على ثبوت الدية على خصوص العاقلة، إذ يمكن أن تكون الدية
علي جميع المسلمين أو من بيت المال أو غير ذلك، كما أنه لا وجه
لجعل رفع القلم معلولا لقوله (عليه السلام): عمدهما خطأ، فإن رفع القلم مقوم
لتنزيل العمد بمنزلة الخطأ، لا أنه معلول له.
والتحقيق أن وجه المناسبة بين قوله (عليه السلام): رفع عنهما القلم، وبين
قوله (عليه السلام): عمدهما خطأ، هو أن تنزيل عمد الصبي منزلة خطائه
متقوم بأمرين:
533

أحدهما: حكم سلبي، وهو أنه لا يترتب عليه أحكام العمد ولا يلزم
الصبي بشئ من أفعاله.
ثانيهما: حكم ايجابي، وهو أنه يترتب عليه أحكام الفعل الخطائي.
وقد بين (عليه السلام) الأمر الثاني بقوله (عليه السلام): تحمله العاقلة، وبين الأمر
الأول بقوله (عليه السلام): رفع عنهما القلم، وإذن فلا دلالة في هذه الجملة
علي أزيد مما دل عليه قوله (عليه السلام): رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم (1).
ويضاف إلى ذلك أن الرواية ضعيفة السند بأبي البختري، فلا يصح
الاستدلال بها على شئ من المسائل الفقهية.
فتحصل مما ذكرناه أنه لا دليل على أن عبارة الصبي مسلوبة، بحيث
لا يترتب على ما أنشأه من العقود والايقات أثر أصلا.
4 - كون الصبي وكيلا عن غيره
الجهة الرابعة: في جواز كونه وكيلا عن غيره في عقد أو ايقاع، ولو كان
التوكيل على نحو التفويض، سواء أكان الموكل وليا أم كان غيره،
وحينئذ فيوقع الصبي العقد أو الايقاع ولو كان على نحو الاستقلال
وبدون إذن الولي، فضلا عما إذا أوقعه بإذنه أو كان وكيلا في اجراء
الصيغة فقط.
والتحقيق هو نفوذ تصرفات الصبي في هذه الصورة للعمومات
والاطلاقات مع عدم دليل على التخصيص أو التقييد، وذلك لأن الآية
المتقدمة لا اشعار فيها بعدم الجواز أصلا فضلا عن الدلالة عليه، ضرورة
أن قوله تعالى: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم (2)، كالصريح

1 - قد تقدم قبيل هذا الكلام فيه مفصلا، فراجع.
2 - النساء: 6.
534

في أن الآية راجعة إلى تصرفات اليتامى في أموال أنفسهم لا في أموال
غيرهم.
وعليه فمقتضى الأصل هو جواز تصرفات الصبي في مال غيره وكالة
عنه، فإن المنع عن ذلك لا بد وأن يكون بدليل، ومن المعلوم أن الدليل
على المنع أما عدم القول بالفصل بين التصرف في مال نفسه والتصرف في
مال غيره وأما الأخبار المتقدمة الدالة على عدم نفوذ أمر الصبي قبل
البلوغ:
أما دعوى عدم الفصل، فعهدتها على مدعيها.
أما الأخبار، فلا دلالة في شئ منها على عدم نفوذ تصرفات الصبي
في هذه الصورة، إذ قد عرفت أن ما دل على رفع القلم عن الصبي أو أن
عمده خطأ لا دلالة فيه على بطلان عقده أو ايقاعه، وأنه مسلوب العبارة،
فإذا كان صدوره منه وكالة عن وليه أو غير وليه، ولو كان التوكيل بنحو
التفويض والاستقلال فالعقد عقد للموكل حقيقة، وحيث إن المفروض
أن ما وقع عليه العقد ليس بمال الصغير فلا مانع عن شمول أدلة صحة البيع
و نحوه له.
أما ما دل على عدم نفوذ تصرف الصبي وأمره من الروايات المتقدمة،
فقد يتوهم دلالتها على عدم النفوذ في هذه الصورة أيضا نظرا إلى
الاطلاق، ولكن الصحيح هو عدم صحة ذلك:
أما أولا، فلاختصاص تلك الروايات باليتيم وأنه ما لم يذهب يتمه
لا يجوز أمره ولا يدفع إليه ماله، فهي لا تدل إلا على عدم نفوذ تصرف
الصبي في ماله دون ما إذا كان في مال غيره بإذنه.
نعم قد علمنا أنه لا خصوصية لليتيم في الحكم وإنما ذكر ذلك لأجل
أنه هو المورد المتوهم لدفع ماله إليه، فنتعدى منه إلى غير اليتيم أيضا من
535

الصغار، أما خصوصية أن موضوع المنع هو تصرف الصغير في مال نفسه
فلا مقتضى لرفع اليد عنها.
أما ثانيا، فلأجل أنا لو سلمنا الاطلاق فغاية ما يستفاد منها هو عدم
نفوذ تصرف الصبي بما أنه عقده، وهذا لا ينافي نفوذ ذلك التصرف بما أنه
مضاف إلى الموكل، سواء فيه الولي وغيره.
ومن هنا أن الصبي إذا باع ماله ثم أجازه الولي حكم بصحة البيع لأنه بيع
الولي بقاءا، نعم قد عرفت أنه لا يجوز أن يأذن الولي في تصرف الصبي
استقلالا ولا يكون تصرفه ماضيا للمنع عنه في الآية المباركة.
فالمتحصل مما ذكرناه أنه لا مانع من مباشرة الصبي العقد والايقاع في
مال نفسه إذا كان ذلك بإذن الولي وكان الصبي وكيلا في اجراء الصيغة
فقط، كما لا مانع من مباشرته لهما على نحو الاستقلال فيما إذا توكل عن
أجنبي من ولي أو غيره.
هل يؤخذ الصبي باتلافه مال الغير؟
قوله (رحمه الله): ثم إن مقتضى عموم هذه الفقرة بناء على كونها علة للحكم عدم
مؤاخذتهما بالاتلاف الحاصل منهما.
أقول: إذا أتلف الصبي مال غيره وجب عليه الخروج من عهدته بعد
بلوغه لقاعدة من أتلف.
وقد يتوهم عدم الضمان لأن عمد الصبي خطأ، ولأن قلم التكليف قد
ارتفع عنه حتى يحتلم، ولكن هذا التوهم فاسد، إذ لا شهادة في شئ من
الوجهين المزبورين على عدم الضمان:
أما الأول، فلأن الظاهر أن تنزيل عمد الصبي منزلة خطائه إنما هو في
الأفعال التي لا تكون موضوعا للأحكام الشرعية إلا إذا صدرت من الفاعل
536

بالإرادة والاختيار ومع القصد والعمد، لا في الأفعال التي هي بنفسها
موضوع للأحكام الشرعية من غير أن يعتبر فيها القصد والعمد كالجنابة،
فإنها توجب الغسل وإن تحققت حال النوم، وكمباشرة النجاسات فإنها
توجب نجاسة البدن وإن كانت المباشرة بغير التفات إلى النجاسة،
وكالأحداث الناقضة للطهارة وإن صدرت جهلا أو غفلة أو بغير اختيار،
فإن شيئا من تلك الأمور لا يتوقف تأثيرها على صدورها بالإرادة
والاختيار.
ولا ريب في أن اتلاف مال الغير من القبيل الثاني فإنه يوجب الضمان
وإن صدر حال الغفلة والجهل وبدون الإرادة والاختيار، ضرورة أنه
لم يؤخذ في قاعدة من أتلف عنوان آخر غير صدق الاتلاف.
ويضاف إلى ذلك ما ذكرناه آنفا من اختصاص الحديث بما إذا كان
للفعل العمدي أثر وللفعل الخطائي أثر آخر بالنسبة إلى غير الفاعل
فيحكم على فعل الصبي عندئذ بحكم الخطأ، ومن الظاهر أن حكم العمد
والخطأ لا يختلف في الاتلاف، وإذن فلا يكون الاتلاف مشمولا
للحديث.
أما الوجه الثاني: فقد عرفت آنفا أن المراد من دليل رفع القلم عن
الصبي إنما هو رفع الأحكام الإلزامية عنه منذ نعومة أظفاره إلى حد
بلوغه، وهذا لا ينافي توجه تلك الأحكام عليه بعد زمان البلوغ، وقد
تقدم أن فعل الصبي قد يكون موضوعا لتوجه الأحكام الإلزامية عليه بعد
بلوغه.
والسر في ذلك أن دليل رفع القلم والتكليف قد تعلق بالصبي فيدور
مدار صبوته، وعلى هذا الضوء فاتلاف الصبي مال غيره سبب للضمان
جزما ولكنه لا يستتبع الحكم الالزامي إلا بعد بلوغه وإذا بلغ توجه عليه
537

التكليف ووجب عليه الخروج عن عهدته، لأنه وقتئذ يصدق عليه أنه
أتلف مال غيره كما يتوجه عليه عندئذ وجوب الاغتسال مع تحقق
الجنابة منه قبل البلوغ.
قوله (رحمه الله): فإذا لم يلزمه شئ بالتزاماته ولو كانت بإذن الولي فليس ذلك إلا
لسلب قصده، وعدم العبرة بانشائه.
أقول: قد عرفت فيما سبق أن أمر الصبي وإن كان غير نافذ ولو بإذن
وليه، ولكنه غير مربوط بسلب عباراته لكي يترتب عليه بطلان انشائه،
بديهة أن معنى عدم نفوذ أمره هو عدم ترتب الأثر على معاملاته، وهذا
لا ينافي جواز مباشرته انشاء الصيغة إذ لا صلة بينهما بوجه.
هل ترتفع تعزيرات الصبيان بحديث الرفع؟
قوله (رحمه الله): ثم إن القلم المرفوع هو قلم المؤاخذة الموضوع على البالغين، فلا
ينافي ثبوت بعض العقوبات للصبي كالتعزير.
أقول: إن كان الغرض من حديث رفع القلم عن الصبي هو رفع التكاليف
الالزامية الثابتة في حق البالغين كما هو غير بعيد، فالتعزيرات الثابتة في
حق الصبيان خارجة عن ذلك موضوعا، فإن تلك التعزيرات لم تثبت في
حق البالغين وإنما هي ثابتة في حق الصبيان لحكمة خاصة وهي تأديبهم
علي ارتكاب القبائح وصيانتهم من اغواء المضلين وسوقهم إلى تهذيب
الأخلاق، فإن تعود الأفعال الشنيعة داء عضال، وإن كان الغرض من
الحديث المزبور هو رفع مطلق الأحكام الإلزامية فيشمل عمومه
لتعزيرات الصبيان أيضا، ولأجل ذلك توهم بعضهم أنها ترتفع عنهم
بدليل رفع القلم.
والتحقيق أن التعزيرات الثابتة في الشريعة المقدسة إن أخذ في
538

موضوعها البلوغ، فهي ترتفع عن الصبيان لعدم موضوعه، وإن أخذ في
موضوعها الصباء فهي غير قابلة للارتفاع عن الصبيان، لأن المصلحة
الملزمة قد اقتضت ثبوتها في حقهم بعنوان الصبوة فلا يعقل ارتفاعها
عنهم بحديث الرفع، ولعل تلك المصلحة ارتداعهم عن ركوب القبائح
وتجنبهم عن ارتكاب المنكرات.
وحينئذ فيخت حديث الرفع بما إذا كان التعزير أو غيره من الأحكام
الإلزامية ثابتا للطبيعي الجامع بين البالغ والصبي فهي ترتفع عن الصبي.
ما هو حكم فعل الصبي المعتبر فيه قصد الفاعل؟
قوله (رحمه الله): عدم الاعتبار بما يصدر من الصبي.
أقول: ملخص كلامه أن المتحصل من الأدلة المتقدمة من الاجماع
وغيره هو عدم الاعتبار بما يصدر من الصبي من الأفعال التي يعتبر فيها
قصد الفاعل إلى مقتضاها، كانشاء العقود والايقاعات أصالة ووكالة،
والتصدي للقبض والاقباض، وكذلك كل ما يلتزم به من قبل نفسه من
ضمان أو اقرار أو نذر أو ايجار أو غير ذلك، ثم ساق عبارة العلامة في
التذكرة تأييدا لمرامه.
ولكن يرد عليه ما ذكرناه قريبا، من أنه لا دليل لنا على سقوط فعل
الصبي وقوله عن الاعتبار، بل الدليل إنما دل على عدم جواز استقلاله في
التصرف في أمواله، وعليه فأي فعل من أفعاله لا يعد في العرف تصرفا في
أمواله استقلالا لا مانع عن جوازه، فيحكم بصحة تحجيره وحيازته
والتقاطه وصيده واحيائه الموات وما شاكل ذلك.
وقد يتوهم أن الأمور المذكورة غير جائزة لأن عمد الصبي خطأ،
ولكنه توهم فاسد لما ذكرناه من عدم دلالة الحديث على إلغاء قصد
539

الصبي وأنه كعدمه على ما تقدم بيانه، على أنه يتوقف على اعتبار القصد
في هذه الأمور وهو لم يثبت، بل إن مقتضى قوله (عليه السلام) مثلا: أيما قوم
أحيوا شيئا من الأرض وعمروها فهم أحق بها وهي لهم (1)، هو ثبوت
الملكية بنفس الاحياء، سواء قصد المحيي التملك أم لم يقصده.
هل يصح قبض الصبي؟
قد حكي عن العلامة في التذكرة (2) أنه كما لا يصح تصرفاته اللفظية كذا
لا يصح قبضه، ولا يفيد حصول الملك في الهبة، وهذا المعنى يظهر من
المصنف أيضا، حيث إنه نقل كلام العلامة تأييدا لمرامه ولم يناقش فيه
أصلا.
ولكن الظاهر أن قبض الصبي يفيد الملكية في الهبة وغيرها، لقيام
السيرة على ذلك، بل مقتضى جملة من الروايات الواردة في جواز اعطاء
الصدقة والكفارة للصبيان (3) هو صيرورتهما ملكا بمجرد القبض.

1 - الكافي 5: 279، التهذيب 7: 152، الإستبصار 3: 107، عنهم الوسائل 25: 412.
2 - حكي عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 172.
3 - عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يموت ويترك العيال أيعطون من
الزكاة، قال: نعم (الكافي 3: 548، التهذيب 4: 102، عنهما الوسائل 9: 226)، حسن بإبراهيم
بن هاشم.
وعن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ذرية الرجل المسلم إذا مات يعطون من
الزكاة والفطرة، كما كان يعطي أبوهم حتى يبلغوا (الكافي 3: 549، عنه الوسائل 9: 227).
ضعيف بمعلى بن محمد.
وفي قرب الإسناد عن محمد بن الوليد، عن يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي عبد الله
(عليه السلام): عيال المسلمين أعطيهم من الزكاة فاشترى لهم منها ثيابا وطعاما وأري أن ذلك خير لهم،
قال: فقال: لا بأس (قرب الإسناد: 24، عنه الوسائل 9: 227)، موثق بابن الوليد.
وعن البجلي قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): رجل مسلم مملوك ومولاه رجل مسلم وله
مال يزكيه وللمملوك ولد صغير حر، أيجزي مولاه أن يعطي ابن عبده من الزكاة، فقال: لا بأس
(الكافي 3: 563، عنه الوسائل 9: 294)، مجهول بمحمد بن إسماعيل النيسابوري.
وعن يونس بن عبد الرحمان، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن رجل عليه كفارة عشرة
مساكين أيعطي الصغار والكبار سواء والرجال والنساء، أو يفضل الكبار على الصغار والرجال
علي النساء، فقال: كلهم سواء (التهذيب 8: 297، الإستبصار 4: 53، عنهما الوسائل 22: 387)،
مجهول.
540

بحث في نفوذ أمر الصبي في موارد
وقد وقع الخلاف بين الأصحاب في نفوذ أمر الصبي في مواضيع شتى:
1 - وصية الصبي
قال العلامة في القواعد: يشترط في الموصي البلوغ والعقل
والحرية، فلا تنفذ وصية الصبي وإن كان مميزا في المعروف وغيره (1).
وهذا الرأي هو المحكي عن السرائر والايضاح وشرح الإرشاد لفخر
الاسلام وغيرهم (2)، وعن ظاهر التذكرة واللمعة والنافع والدروس
التوقف (3)، وعن المقنعة والمراسم والنهاية والمهذب والغنية وكشف
الرموز والارشاد والروض والكفاية والمفاتيح وأبي الصلاح وأبي على
أنه تجوز وصية من بلغ عشرا مميزا في البر والمعروف.

1 - القواعد 1: 224.
2 - السرائر 3: 207، جامع المقاصد 7: 82، الحدائق 18: 369، الرياض 1: 511، جواهر
الكلام 22: 362..
3 - التذكرة 2: 145.
541

وهذا هو الحق للروايات الدالة على أن الصبي إذا بلغ عشرا تجوز
وصيته (1)، فتكون هذه الروايات مخصصة للروايات الدالة على عدم نفوذ
أمر الصبي، وهذا ظاهر.
نعم في صحة وصيته للغرباء اشكال، وذلك من جهة التصريح بعدم
نفوذها في صحيحة محمد بن مسلم.

1 - عن عبد الرحمان بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إذا بلغ الغلام عشر سنين
جازت وصيته (الكافي 7: 28، الفقيه 4: 145، عنهما الوسائل 19: 362)، موثق بابان بن عثمان.
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصي بثلث ماله
في حق جازت وصيته، وإذا كان ابن سبع سنين فأوصي من ماله باليسير في حق جازت وصيته
(الكافي 7: 29، الفقيه 4: 145، التهذيب 9: 182، عنهم الوسائل 19: 361)، صحيح.
وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الغلام إذا حضره الموت
فأوصي ولم يدرك جازت وصيته لذوي الأرحام ولم تجز للغرباء (الكافي 7: 28، الفقيه
4: 146، التهذيب 9: 181، عنهم الوسائل 19: 360)، صحيح.
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله
ما أعتق أو تصدق وأوصي على حد معروف وحق فهو جائز (الكافي 7: 28، الفقيه 4: 145،
التهذيب 9: 181، عنهم الوسائل 19: 362)، ضعيف بموسى بن بكر.
وعن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن وصية الغلام هل تجوز، قال:
إذا كان ابن عشر سنين جازت وصيته (التهذيب 9: 182، عنه الوسائل 19: 363)، مجهول بعلي
ابن محمد بن الزبير.
وعن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل،
وصدقته ووصيته وإن لم يحتلم (الكافي 6: 124)، مجهول بابن الزبير، ورواه في الكافي في
باب طلاق الصبيان 6: 124 بسندين آخرين أحدهما ضعيف والآخر موثق.
وعن أبي بصير وأبي أيوب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغلام ابن عشر سنين يوصي، قال:
إذا أصاب موضع الوصية جازت (التهذيب 9: 181، عنه الوسائل 19: 363)، مجهول بابن
الزبير.
542

2 - اعتبار قول الصبي في الإذن بدخول الدار
ما ذكره العلامة في التذكرة من أنه: لو فتح الصبي الباب وإذن في
الدخول عن إذن أهل الدار وأوصل الهدية إلى انسان عن إذن المهدي،
فالأقرب الاعتماد لتسامح السلف فيه (1).
ولكن لا وجه لاستثناء هذين الأمرين من الأدلة المانعة عن نفوذ أمر
الصبي:
أما الأول، فلأن جواز الدخول في الدار مع إذن الصبي من جهة حصول
الاطمئنان به نوعا، فلا صلة له باعتبار قول الصبي في ذلك، والشاهد
على هذا أنه لو إذن البالغ في ذلك ولم يحصل منه الاطمئنان به حرم
الدخول فيها.
أما الثاني، فلأن ايصال الهدية إلى المهدي إليه لا ربط له أيضا بما نحن
فيه، فإن الصبي آلة في ايصالها إليه كايصال الهدية إلى المهدي إليه
بواسطة حيوان معلم.
وعلى الاجمال إن أمثال هذه الموارد خارجة عن العمومات المانعة
عن نفوذ أمر الصبي خروجا تخصصيا لا تخصيصيا.
3 - نفوذ معاملات الصبي في المحقرات
ما عن صاحب المفاتيح (2) وإليك نصه: الأظهر جواز بيعه وشرائه فيما
جرت العادة به منه في الشئ الدون، دفعا للحرج في بعض الأحيان (3).

1 - التذكرة 2: 145.
2 - مفاتيح الشرايع 3: 46.
3 - في فقه المذاهب 2: 160: أما الصبي المميز ينعقد بيعه ولكن لا ينفذ إلا بإذن الولي.
وعن الحنابلة: أنه يصح بيع الصبي وشراؤه للشئ اليسير ولو كان دون التميز، ولو
لم يأذنه وليه، لما روي من أن أبا الدرداء اشترى عصفورا من صبي فأرسله.
وعن الشافعية: أنه لا ينعقد بيع الصبي سواء كان مميزا أو غير مميز.
543

وقال المحقق التستري بعد نقل هذه العبارة: ويمكن أن يستأنس
لذلك - مضافا إلى السيرة المستمرة وقضاء الحاجة والضرورة في كل من
المعاملة ودفع العوض وأخذه منه - بما رواه الشيخ في الموثق كالصحيح
عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن شهادة الصبي
والمملوك، فقال: على قدرها يوم أشهد تجوز في الأمر الدون ولا تجوز
في الأمر الكثير (1). (2)
والجواب عن ذلك: أن استقرار السيرة على معاملات الصبي في
الأمور الحقيرة وإن كان غير قابل للانكار ولكنه لا يكشف عن نفوذ
معاملاتهم في ذلك استقلالا، بل إنما هو من جهة ما ذكرناه في البيع
المعاطاتي، من جريان المعاطاة بين الناس في المحقرات بوضع الثمن في
الموضع المعد له وأخذ المتاع بإزائه، ومثلنا لذلك بأمثلة فراجع،
ومقامنا من القبيل المذكور، وإذن فلا وجه لجعل ذلك من المستثنيات
من عدم نفوذ أمر الصبي إذ لا صلة بينهما بوجه.
وأما الرواية المذكورة فهي غريبة عما نحن فيه وإنما هي راجعة إلى
باب الشهادة، ومن الظاهر أنه لا ملازمة بين قبول شهادته في المحقرات
وبين نفوذ معاملاته فيها.
ولو سلمنا قيام السيرة على نفوذ معاملات الصبي في الأمور اليسيرة،
وسلمنا دلالة الرواية على ذلك فلا بد من الالتزام بتخصيص العمومات
المانعة عن معاملات الصبي.

1 - التهذيب 6: 252، الرقم: 650.
2 - مقابس الأنوار: 113.
544

ومن هنا لا ينقضي العجب من المحقق التستري حيث قال بعد كلامه
المتقدم: وهذا القول لا يخلو عن قوة إلا أن الأصحاب تركوا العمل
بالخبر، وأما السيرة والضرورة فالتمسك بها في مقابل اطلاق الآية
والرواية وفتوى الإمامية وغيرهم خروج عن جادة الصواب وعدول عن
طريق الاحتياط (1).
والحاصل أنه إن كان المراد من السيرة هو السيرة العقلائية، فهي
مردوعة بالروايات الدالة على عدم نفوذ أمر الصبي، وقد تقدمت هذه
الروايات سابقا، وإن كان المراد بها هو السيرة الشرعية فهي قائمة على
كون الصبي آلة لا على صحة معاملاته الصادرة منه استقلالا ولا أقل من
الشك في ذلك، وإذن فلا وجه لنا للحكم بصحة معاملات الصبي ولو في
الأمور المحقرة.
الاستدلال به بالرواية النبوي
وربما يستدل على نفوذ معاملات الصبي مطلقا أو في المحقرات
برواية السكوني عن الصادق (عليه السلام) قال: نهى رسول الله
(صلى الله عليه وآله) عن كسب
الإماء، فإنها إن لم تجد زنت، إلا أمة قد عرفت بصنعة يد، ونهى عن
كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده، فإنه إن لم يجد سرق (2).
ووجه الاستدلال بها على المقصود هو أن المراد من النهي في الرواية
هو النهي التنزيهي فيدل على نفوذ معاملات الصبي، لا على فسادها،
والشاهد على ذلك أنه لو كانت معاملات الصبي فاسدة لما حصل النقل
والانتقال بينه وبين غيره، وكان التصرف فيما بيده تصرفا في مال غيره
بدون إذنه.

1 - مقابس الأنوار: 113.
2 - الكافي 5: 127، التهذيب 6: 367، عنهما الوسائل 17: 163.
545

وعليه فكان تعليل الفساد بذلك أولى من تعليله بصدور السرقة من
الصبي، لأن التعليل بالأمر الذاتي أولى من التعليل بالأمر العرضي.
والجواب عن ذلك أن هذه الرواية ضعيفة السند بالنوفلي (1) وغير
منجبرة بشئ فلا يمكن الاستناد إليها في الأحكام الشرعية.
ويضاف إلى ذلك أن المراد من كلمة كسب المضافة إلى كلمة
الغلام في الرواية إما المعنى المصدري أو يراد منها المكسوب المعبر
عنه باسم المصدر:
وعلى الأول فالمراد من الكسب هو الكسب المتعارف أعني به مباشرة
الصبي التجارة عند احتياج وليه إلى ذلك إلا أن هذه المباشرة ليست
مباشرة استقلالية بل مباشرة تبعية وأن الصبي - وقتئذ - بمنزلة الآلة لوليه
في ايجاد المعاملة بينه وبين المشتري، وقد تعارف هذا المعنى في
الخارج كثيرا، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد نهى عنه تنزيها، معللا بأنه إذا
لم يحصل من تجارته شئ سرق خوفا من وليه.
والقرينة على هذه الدعوى قوله (عليه السلام) في صدر الرواية: نهى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) عن كسب الإماء فإنها إن لم تجد زنت، مع أنه لا شبهة في نفوذ
كسب الأمة بإذن مولاها.
ويؤيد ما ذكرناه أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد قيد النهي عن كسب الأمة والغلام
بعدم معرفتهما صناعة اليد، فإنه مع العلم بذلك لا يقع الصبي على
السرقة ولا أن الأمة تقع على الزناء، لأنه - وقتئذ - ينتفي ما يوجب السرقة
والزناء أعني به الفقر، ضرورة أنهما متمكنان من تحصيل المال.
وعلى الثاني فالمراد من كسب الغلام ما يتحصله من الأموال بطريق
الالتقاط أو الاستعطاء أو الحيازة من المباحات الأصلية، كما أن المراد

1 - هذا على مبناه السابق، لكن عدل عنه وقال بتوثيقه، راجع معجم رجال الحديث.
546

من كسب الأمة على هذا الاحتمال ما تتحصله بإحدى الطرق المذكورة،
وعليه فحكمة النهي عن كسب الغلام صيانته عن الاستراق من الناس كما أن حكمة النهي عن كسب الأمة محافظتها عن الفجور، وحينئذ فلا دلالة
في تلك الرواية على نفوذ معاملات الصبي.
4 - طلاق الصبي المميز
قد وقع الخلاف في ذلك بين الخاصة والعامة (1)، فذهب جمع من
أصحابنا القدماء والمتأخرين إلى صحته، وذهب المشهور من متأخريهم
إلي فساده، ومنشأ الخلاف في ذلك أنما هو اختلاف الروايات، وقد يقال
إن جملة منها تدل على نفوذ طلاقه وجملة أخرى منها تدل على عدم
نفوذه، وبعد تعارض كلتا الطائفتين وتساقطهما يرجع إلى العمومات
الدالة على عدم نفوذ أمر الصبي حتى يحتلم.
والتحقيق أن الذي ظهر لي من النظر في الروايات أن الأخبار الواردة
في طلاق الصبي على أربعة أنحاء:
منها: ما دل على نفوذ طلاق الصبي (2).

1 - يشترط في المطلق أن يكون بالغا، فلا يقع طلاق الصغير الذي لم يبلغ ولو مراهقا
مميزا، ولا يحسب عليه طلاقه حال الصغر مطلقا ولو كبر،
نعم الحنابلة قالوا: يقع طلاق المميز الذي يعرف معنى الطلاق وما يترتب عليه من تحريم
زوجته ولو كان دون عشر سنين، ويصح أن يوكل غيره بأن يطلق عنه كما يصح للغير أن يوكله
في الطلاق - فقه المذاهب 4: 284.
2 - عن سماعة، قال: سألته عن طلاق الغلام ولم يحتلم وصدقته، فقال: إذا طلق للسنة
ووضع الصدقة في موضعها وحقها فلا بأس وهو جائز (الكافي 6: 124، الفقيه 3: 325، التهذيب
8: 76 و 94، الإستبصار 3: 303، عنهم الوسائل 22: 79)، موثق بسماعة وغيره.
547

ومنها: ما دل على عدم نفوذه (1).
ومنها: ما دل على نفوذه إذا عقل (2).
ومنها: ما دل على نفوذه إذا بلغ عشر سنين (3).
وحيث لا يحتمل أن يكون طلاق من بلغ عشرا ولم يعقل صحيحا،
فلا بد من تقييد ما دل على نفوذ طلاق الصبي إذا عقل بما دل على نفوذ
طلاقه إذا بلغ عشرا، وبذلك يقيد ما دل على عدم النفوذ بغير من بلغ

1 - عن أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس طلاق الصبي بشئ
(الكافي 6: 124، التهذيب 8: 76، الإستبصار 3: 303، عنهم الوسائل 22: 77)، صحيح.
وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يجوز طلاق الصبي ولا السكران (الكافي
6: 124، عنه الوسائل 22: 78)، موثق بابن سماعة وغيره.
وعن زكريا بن آدم قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن طلاق السكران والصبي والمعتوه
والمغلوب على عقله ومن لم يتزوج بعد، فقال: لا يجوز (التهذيب 8: 73، عنه الوسائل 22: 83
)، مجهول بمحمد بن سهل.
2 - عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل ووصيته
وصدقته وإن لم يحتلم (الكافي 6: 124، التهذيب 8: 76، الإستبصار 3: 303، عنهم الوسائل
22: 78)، موثق بابن بكير، وفي بعض النسخ: لا يجوز.
3 - عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يجوز طلاق الصبي إذا
بلغ عشر سنين (الكافي 6: 124، التهذيب 8: 75، عنهما الوسائل 22: 77).
وعن محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين
جميعا، عن ابن فضال، عن ابن بكير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يجوز طلاق الصبي إذا بلغ
عشر سنين (الوسائل 22: 78)، موثق بابن بكير.
قال سيدنا الأستاذ: إن هذه الرواية وإن كانت غير موجودة في نسخة الكافي إلا أنه يحتمل
أن يكون السقط من النساخ وقد أخرجها الشيخ وصاحب الوسائل من النسخة التي كانت هي
موجودة فيها.
ولكن الظاهر أن هذه هي رواية ابن أبي عمير المتقدمة، وأن هذا السند لحديث آخر
المذكور قبلها، وكان السقط من النساخ كما يظهر من ملاحظة الكافي.
548

عشرا، وعليه فيرتفع التعارض، ولو سلمنا التعارض ولكن لا بد من
تقديم روايات النفوذ لأنها مخالفة لأكثر العامة.
ثم إنه يظهر من روايتي السراد والكناسي (1) أنه يجوز طلاق الغلام
البالغ عشر سنين إذا أقر بذلك وأمضاه بعد البلوغ، ولكن لا يمكن العمل
بهما:
أما رواية السراد، فهي رواية الفقيه عن محمد بن موسى بن المتوكل،
وهو لم يثبت توثيقه من القدماء، نعم وثقه العلامة في رجاله (2) إلا أنه
اجتهاد منه وهذا ظاهر.
أضف إلى ذلك أنها مخالفة للاجماع القطعي، فإن الفقهاء بين قائل
بالصحة وبين قائل بالفساد، وإذن فلا واسطة بينهما.
أما رواية الكناسي المفصلة بين الدخول وعدمه، فهي - مع أنها أيضا
لا قائل بمضمونها - ضعيفة السند، لأن الكناسي لم يثبت توثيقه.

1 - الحسن بن محبوب السراد، عن ابن رئاب، عن ابن مسكان، عن الحلبي قال: قلت
لأبي عبد الله (عليه السلام): الغلام له عشر سنين فيزوجه أبوه في صغره أيجوز طلاقه وهو ابن عشر
سنين، قال: فقال: أما التزويج فصحيح، وأما طلاقه فينبغي أن تحبس عليه امرأته حتى يدرك
فيعلم أنه كان قد طلق، فإن أقر بذلك وأمضاه فهي واحدة بائنة، وهو خاطب من الخطاب، وإن
أنكر ذلك وأبي أن يمضيه فهي امرأته - الحديث (الوافي: 12، باب 175 طلاق الصبي: 166).
وعن يزيد الكناسي، عن أبي جعفر (عليه السلام) - في حديث تزويج الأب ابنته أو ابنه - قال: قلت
له: جعلت فداك فإن طلقها في تلك الحال ولم يكن أدرك أيجوز طلاقه، قال: إن كان مسها في
الفرج فإن طلاقه جائز عليها وعليه، وإن لم يمسها في الفرج ولم يلذ منها ولم تلذ منه فإنها
تعزل عنه وتصير إلى أهلها، فلا يراها ولا تقربه حتى يدرك النساء فيسأل ويقال: إنك كنت
طلقت امرأتك فلانة، فإن هو أقر بذلك وأجاز الطلاق كانت مطلقة بائنة، وكان خاطبا من
الخطاب (التهذيب 7: 382، الإستبصار 3: 237، عنهما الوسائل 20: 278).
2 - خلاصة الأقوال: 251، الرقم: 857.
549

2 - اعتبار القصد إلى مدلول العقد في صحته
قوله (رحمه الله): مسألة: ومن جملة شرائط المتعاقدين قصدهما لمدلول العقد الذي
يتلفظان به.
أقول: قد اتفقت كلمات الأصحاب (قدس سرهم) على هذا الشرط، حتى
أرسلوه في كتبهم الفقهية إرسال المسلمات، ولذا لم ينقل الخلاف هنا
من أحد، بل في التذكرة ادعي الاجماع على ذلك.
ولا يخفي عليك أن الفقهاء وإن أصابوا في أصل اعتبار القصد في
العقد إلا أنهم قد أخطأوا في أخذه من شرائط المتعاقدين أو العقد، بل
إنما هو من مقوماته بحيث لا يتحقق مفهومه بدون القصد.
وتوضيح ذلك اجمالا: أنا ذكرنا في المباحث السابقة أن البيع مثلا
ليس عبارة عن الانشاء الساذج، سواء أكان الانشاء بمعنى الايجاد المعنى
باللفظ كما هو المعروف بين الأصوليين وغيرهم، أم كان عبارة عن إظهار
أمر نفساني بمبرز كما هو المختار عندنا، ولا أن البيع عبارة عن مجرد
الاعتبار النفساني من دون إظهاره في الخارج بمبرز وإلا لزم تحققه
بمجرد اعتبار البائع ملكية ماله لشخص آخر بإزاء الثمن وإن لم يظهر
اعتباره بمظهر خارجي، ولا ريب أن كل ذلك بديهي البطلان.
بل حقيقة البيع عبارة عن الاعتبار النفساني المظهر بمبرز خارجي،
سواءا أمضاه العرف والشرع أم لا، وسواء أكان في العالم شرع وعرف أم
لا، وهكذا الكلام سائر الأمور الانشائية برمتها من العقود والايقاعات
والأوامر والنواهي وغيرها، وإذن فلا يوجد أي عقد أو ايقاع إلا بالقصد
الذي هو فعل نفساني مع إظهاره بمبرز خارجي، وإذا انتفى أحدهما
انتفى الآخر، فإن المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه.
550

أما ما أفاده صاحب المسالك (1) من عدم تحقق القصد في العقد الصادر
من المكره أو الفضولي، فسيأتي فساده في أول بيع المكروه.
اعتبار تعيين المالك في صحة البيع
هل يعتبر في صحة البيع تعيين المالك، وهل يلزم ذلك على
المتبائعين؟
تارة يقع الكلام في المعاملة بالأعيان الشخصية، وأخرى في المعاملة
بالأمور الكلية، بأن يكون المبيع أو الثمن كليا:
أما الجهة الأولى، فلا شبهة في أن تعيين المالك ليس من مقومات البيع
ولا من شرائطه، بداهة أن البيع اعتبار تبديل شئ بشئ في أفق النفس
واظهاره بمبرز خارجي من اللفظ وغيره، ولا ريب في أن هذا المعنى
يتحقق بدخول العوض في ملك من خرج عن ملكه المعوض وبالعكس،
بلا احتياج إلى تعيين مالك الثمن أو تعيين مالك المثمن، ولم يقم دليل
تعبدي على ذلك.
ولا يفرق فيما ذكرناه بين صدور العقد من نفس المالكين وبين صدوره
من غيرهما كالوكيل والولي والفضولي، وعلى هذا الضوء فالقصد إلى
العوض وتعيينه يغني عن القصد إلى المالك وتعيينه.
نعم يعتبر في مفهوم البيع قصد المتبايعين دخول العوض في ملك من
خرج المعوض عن ملكه وبالعكس، وإلا فلا يصدق عليه البيع، ضرورة
أنه ليس إلا تبديل شئ بشئ في جهة الإضافة.
وعليه فلو اشترط على البائع دخول الثمن في ملك الأجنبي أو اشترط
على المشتري دخول المبيع في ملك غيره كان ذلك موجبا لبطلان

1 - المسالك 3: 156.
551

المعاملة، لكونه على خلاف مقتضى العقد.
نعم لو كان ذلك من قبيل الفوائد المترتبة على العقد لما كان الاشتراط
أو القصد المزبورين من الأمور اللاغية، ومثال ذلك أن يشتري أحد من
الخباز خبزا ويشترط عليه أن يعطيه للفقير أو يتصدى هو بنفسه الاعطاء
له، فإن الخبز يدخل في ملك المشتري بالشراء وإن كان ينتقل بعد ذلك
إلي الفقير بهبة ونحوها.
اعتبار تعيين المالك في سائر العقود
ثم لا يخفى عليك أن ما ذكرناه من عدم اعتبار تعيين من يقع له العقد في
صحة البيع إنما يجري في كل عقد لا يكون القصد إلى المالك ركنا من
أركان العقد وإلا يبطل العقد بعرائه عن ذلك، كالزوجين في عقد الزواج،
فإنهما بمنزلة العوضين في البيع، ضرورة عدم حصول الغرض بصيرورة
المرأة زوجا لرجل مبهم، وعدم صيرورة الرجل زوجا لامرأة مبهمة،
وكذلك الموقوف عليه والموهوب له والموصي له والوكيل، فإنهم من
الأركان في الوقف والهبة والوصية والوكالة، فلا ينعقد شئ منها بدون
القصد إلى هؤلاء ومن غير تعيينهم.
أما الجهة الثانية، فالكلي بما هو كلي لا يمكن بيعه في مقام الثبوت إلا
بإضافته إلى ذمة خاصة من الذمم، إذ البيع - كما عرفته عند البحث عن
تعريف البيع - تبديل شئ بشئ في جهة الإضافة، ومن البين الذي
لا ريب فيه أن الكلي بما هو كلي غير مضاف إلى أحد لكي يكون تبديله
بشئ من قبيل تبديل شئ بشئ في جهة الإضافة.
أضف إلى ذلك أن الكلي ما لم يضف إلى ذمة شخص لا يكون مالا
ولا ملكا، وإذن فلا تقع المبادلة بين المالين، ولا يقاس ذلك بطلاق زوج
552

من الأزواج، أو بعتاق مملوك من المماليك، لصحة تعلق الطلاق والعتق
بالجامع، وهو عنوان أحدي الزوجات أو أحد العبيد، وعليه فيستخرج
الواقع بالقرعة لأنها لكل أمر مشتبه، هذا كله في مقام الثبوت.
أما في مقام الاثبات، فلا ريب في إضافة الكلي إلى البائع وانتساب
البيع إليه بمجرد تكلمه بصيغة بعت لانصراف الاطلاق إلى المنشئ
انصرافا عقلائيا، لأن فعل كل فاعل ينسب إليه ويحكم بوقوعه عنه ما
لم ينصب قرينة حالية أو مقالية على خلافه.
وقد اتضح لك مما تلوناه عليك وقوع الخلط بين مقامي الثبوت
والاثبات في كلام شيخنا الأستاذ، وإليك نص مقرر بحثه: وأما إذا كان
أحدهما كليا فإن كان الشخصي ملك شخصه وجب تعيين من يقع الكلي
في ذمته وأما لو انعكس فلا يجب التعيين، وذلك لأنه لو كان الشخصي
ملك غيره تعلق الكلي بذمة نفسه لأن ذمة الغير يحتاج إلى التعيين وإلا
انصرف إلى النفس حتى فيما لو كان وكيلا عن الغير (1).
اعتبار تعيين من له العقد
هل يعتبر في العقود تعيين من له العقد اثباتا، بناءا على اعتبار قصده
ثبوتا، بأن يكون البائع عالما بمن يقع الشراء له، والمشتري عالما بالبائع.
يقع البحث هنا في جهات شتى، وقد تعرض المصنف لبعضها
وأغفل التعرض لبعضها الآخر:
الجهة الأولى: في أنه إذا كان من له العقد مقصودا للمتعاقدين
ولم يتعين في مقام العقد للآخر فالظاهر أن يحكم بصحة العقد، لأن قصد
المالك لبا وإن كان ركنا في العقد كما هو المفروض ولكن تعيينه للطرف

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 408.
553

في المعاملة ليس بركن فيه لحصول الغرض الأقصى مع إبهامه أيضا في
مقام الاثبات.
وعليه فيصح أن يتوجه الموجب إلى القابل ويخاطبه بقوله: بعتك منا
من الحنطة، بلا تصريح باسم من تكون الحنطة في ذمته وإنما يصرح
باسمه بعد تمامية العقد، أو يقول وهبت هذا المال لمن قصدته ثم يبين
الموهوب له، أو يقول زوجتك المرأة المعهودة عندي ويعينها بعد
تمامية عقد الزواج، وهكذا الكلام في ناحية القبول.
والوجه في ذلك هو أن حقيقة البيع عبارة عن اعتبار التبديل بين شيئين،
وحقيقة الهبة عبارة عن اعتبار ملكية العين الموهوبة للمتهب، وحقيقة
الزواج عبارة عن اعتبار عدلية أحد الزوجين للآخر، ولا شبهة في تحقق
تلك الحقائق بالصيغ المذكورة، ولا يعتبر فيها معرفة الموجب لمن هو
مقصود القابل، ولا معرفة القابل لمن هو مقصود الموجب، بديهة أن
خصوصيات الأشخاص وإن كانت دخيلا في الأغراض الشخصية
ولكنها غير دخيل في حقيقة العقود ولا في صحتها.
الجهة الثانية: أن يقصد الموجب وقوع العقد لشخص خاص وقصد
القابل وقوعه لغيره، والظاهر أنه لا ريب في بطلان ذلك، لأن ما أنشأه
الموجب لم يتعلق به القبول وما تعلق به القبول لم ينشئه الموجب، سواء
في ذلك أن يكون من له العقد ركنا فيه كالنكاح وما حذا حذوه، وما
لم يكن كذلك كالبيع وما تلا تلوه.
والسر في ذلك ما عرفته قريبا من أن العقود عبارة عن الاعتبار
النفساني المقرون بالمظهر الخارجي من اللفظ وغيره فبانعدام أحد
الأمرين تنعدم حقيقة العقد (1).

1 - إذا كان الثمن والمبيع شخصيا وكان عدم التطابق من جهة الخطأ في التطبيق صح العقد، كما إذا قصد البايع البيع لشخص المشتري بثمن شخصي باعتقاد أنه المالك له وكان
المالك في الواقع موكله صح البيع، لأنهما قصدا حقيقته وقصد خصوص المشتري إنما كان من
الخطأ فلا اعتبار به - المحاضرات 2: 239.
554

ثم لا يخفى عليك أن البحث في هذه الجهة من صغريات البحث عن
اعتبار التطابق بين الايجاب والقبول، وقد تقدم في محله أنه إذا لم يرد
الايجاب والقبول على محل واحد لم يكن أحدهما مطاوعة للآخر
حينئذ فلا تتحقق المعاقدة بين المتعاقدين، بل يكون هنا أمران لا يتصل
أحدهما بالآخر.
الجهة الثالثة: هل يجوز توجيه الانشاء إلى المخاطب وقبوله لغيره مع
عدم علم الموجب لذلك أو اسناد الايجاب إلى نفسه في ظاهر الكلام
وقصد وقوعه عن غيره مع عدم علم القابل لذلك.
للمسألة صور:
الأولى: أن يعلم من الخارج عدم إرادة خصوص المخاطب لكل من
المتعاملين، كما هو الحال في غالب البيوع والإجارات ونحوها، ففي
مثل ذلك لا يعتبر علم كل من الطرفين لمن يقع له العقد واقعا، فلو قال:
بعتك هذه الدار بكذا ثم انكشف أن المشتري كان وكيلا لم يضر ذلك
بالتطابق وبصحة العقد.
الثانية: أن يعلم من الخارج إرادة خصوص المخاطب، كما في النكاح
والوقف والوصية ونحوها، ففي مثلها لا بد من اعتبار ذلك، فلو قال:
زوجتك فلانة، وقبل المخاطب لغيره بطل النكاح بلا اشكال، لعدم
المطابقة بين الايجاب والقبول.
الثالثة: أن لا يعلم من الخارج، لا إرادة الخصوصية ولا إرادة عدمها،
فالظاهر في هذه الصورة أنه لا بد من الاعتبار، كما اختاره المصنف قدس
555

سره، وذلك لعدم احراز التطابق المعتبر في صحة العقد فيما إذا قصد
المخاطب شخصا آخر مع عدم اعلام ذلك لطرف العقد، فإذا لم يعلم أن
الموجب مثلا قصد تمليك ماله للأعم من المخاطب وغيره لم يجز
للمخاطب قبول التمليك لغيره (1).
3 - اعتبار الاختيار في صحة العقد
قوله (رحمه الله): مسألة: ومن شرائط المتعاقدين الاختيار.
أقول: الفارق بين هذه المسألة والمسألة السابقة هو أن الكلام هناك
مسوق لاعتبار قصد المعنى في العقود، إذ الاخلال به يوجب الاخلال
بعناوين العقود كما عرفته آنفا، بخلاف المقام، فإن البحث هنا في لزوم
كون القصد ناشئا من الاختيار، وإذن فالمسألتان متغايرتان.

1 - وبعبارة أخرى لا بد في صحة القبول عن كل من احراز كون الايجاب للمخاطب أعم
من نفسه أو من موكله، وإلا فلا يصح القبول عن الموكل، لأن الشبهة مصداقية لا مفهومية، لأن
مفهوم البيع واضح مبين، وهو المبادلة بين المالين، والشبهة في كون الايجاب الخاص مع
القبول عن الموكل هل هو مصداق له أم لا، فيكون التمسك بالعام حينئذ من التمسك به في
الشبهة المصداقية.
الجهة الرابعة: إن الموجب إذا قصد الايجاب لموكل المخاطب، فهل يجوز له بلفظ الخطاب،
كأن يقول: بعتك، ويقصد البيع لموكله، أو يقول: زوجتك، ويقصد التزويج لموكله، الظاهر عدم
صحة ذلك إلا فيما إذا كان للفظ ظهور عرفي في المنشأ، لأنه يعتبر في العقد أمران: الاعتبار
النفساني وابرازه خارجا بما هو مبرز له، وأما ما لا يكون في العرف مبرزا له كابراز المبادلة بين
المالين بلفظ ضربت، فلا يصح ذلك.
وفيما نحن فيه إذا أبرز علقة الزوجية بين المرأة وموكل القابل بلفظ زوجتك الذي هو غير
مبرز له، لا يصح العقد وهو ظاهر، ولذا لا يصدق الزوج على مجري القبول، نعم لا يبعد كون
بعتك مبرزا عرفا لإنشاء العقد للمخاطب الأعم من كونه بنفسه مشتريا أو الشراء لموكله -
المحاضرات 2: 240.
556

ثم إن المراد من الاختيار الذي نبحث عن اعتباره في العقد هنا هو
صدور الفعل من العاقد عن الرضاء وطيب النفس مقابل الكراهة وعدم
الرضاء، لا الاختيار مقابل الجبر والالجاء، وإلا لكان عقد المكره خارجا
عن العقد موضوعا لخلوه عن القصد المعتبر في حقيقة العقد.
ثم إنه قد جرت عادة الفقهاء على البحث عن عقد المكره في كتاب
الطلاق، ولعله لورود الروايات الكثيرة على بطلان طلاق المكره، وإلا
فلا اختصاص لذلك بالطلاق.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه اتفق الأصحاب على بطلان عقد المكره، أما
عند العامة فلا يصح بيع المكره (1) ولا طلاقه (2)، على تفصيل في المذاهب.

1 - الحنابلة قالوا: يشترط في البيع أن يكون العاقدان مختارين ظاهرا وباطنا، فإذا كانا
مختارين في الظاهر فقط كأن اتفقا على بيع عين لأحدهما فرارا من ظالم يريد اغتصابها، فإن
هذا البيع يقع باطلا ولا ينعقد، لأنهما وإن تعاقدا باختيارهما ظاهرا ولكنهما في الباطن
لا يريدان هذا البيع ويسمي بيع التلجئة والأمان، أما إذا باع شيئا فرارا من ظالم ونحوه من غير أن يتفق مع المشتري على أن هذا بيع تلجئة وأمانة فإن البيع يقع صحيحا، لأنه صدر من غير
اكراه في هذه الحالة.
الحنفية قالوا: إن كل عقد يكره عليه الشخص ينعقد، لأن القاعدة عندهم في المكره أن كل
ما يكره على النطق به ينعقد، فإذا أكرهه ظالم على بيع ملكه فإن البيع ينعقد فاسدا ويملكه
المشتري ملكا فاسدا وللمكره أن يجيز البيع بعد زوال اكراهه، وله أن يسترد العين حيث
وجدها.
الشافعية قالوا: بيع المكره لا ينعقد رأسا إلا إذا قصد ايقاع العقد ونواه حال الاكراه، فإنه في
هذه الحالة لا يكون مكرها.
المالكية قالوا: الاكراه الذي يمنع نفاذ البيع هو الاكراه بغير حق - فقه المذاهب 2: 161.
2 - الحنفية قالوا: طلاق المكره يقع خلافا للأئمة الثلاثة، فلو أكره شخص آخر على تطليق
زوجته بالضرب أو السجن أو أخذ المال وقع طلاقه.
المالكية قالوا: لا يقع الطلاق على المكره... حتى لو أكره أن يطلق طلقة واحدة فأوقع أكثر
فإنه لا يلزمه شئ، لأن المكره لا يملك نفسه كالمجنون.
الشافعية قالوا: طلاق المكره لا يقع بشروط:
أحدها: أن يهدده بالايذاء شخص قادر على تنفيذ ما هدده به عاجلا.
ثانيها: أن يعجز المكره عن دفعه بهرب أو استغاثة بمن يقدر على دفع الايذاء عنه.
ثالثها: أن يظن المكره أنه إن امتنع عن الطلاق يلحقه الايذاء الذي هددوه به.
رابعها: أن يكون الاكراه بحق، فإذا أكره على الطلاق بحق فإنه يقع.
خامسها: أن لا يظهر من المكره نوع اختيار، كما إذا أكره على أن يطلقها ثلاثا فطلق واحدة.
سادسها: أن لا ينوي الطلاق فإن نواه في قلبه وقع، أما التورية فإنها غير لازمة.
الحنابلة قالوا: طلاق المكره لا يقع بشروط:
أحدها: أن يكون بغير حق.
ثانيها: أن يكون الاكراه بما يؤلم.
ثالثها: أن يكون المهدد قادرا على فعل ما هدد به.
رابعها: أن يغلب على ظن المكره أنه إن لم يطلق يقع به الايذاء.
خامسها: أن يكون عاجزا عن دفعه وعن الهرب منه - فقه المذاهب 4: 284.
557

بحث في عقد المكره
توجيه قول الشهيد من أن المكره والفضولي قاصدان إلى اللفظ فقط
قبل الاستدلال على المقصود يحسن بنا التعرض لما ذكره في
المسالك (1)، من أن المكره والفضولي قاصدان إلى اللفظ لا إلى مدلوله،
وقد أشرنا إليه في مطلع المسألة السابقة، ووعدنا لك هناك التعرض له
في هذه المسألة، وهنا موعده.
وربما يستظهر رأي صاحب المسالك من كلام العلامة أيضا في

1 - المسالك 3: 156، الدروس 4: 192، الروضة البهية 3: 226.
558

التحرير (1)، من أنه لو أكره الزوج على الطلاق فطلق ناويا فالأقرب وقوعه،
إذ لا اكراه على القصد، ولكنه لا وجه صحيح لهذا الاستظهار، فإن الظاهر
من العلامة هو التفصيل في المكره - بالفتح - بين المتمكن من التورية وبين
غير المتمكن منها، بأنه إن كان الزوج قادرا على التورية وطلق زوجته من
غير أن يوري في انشائه فيحكم بصحة طلاقه، وإن لم يكن قادرا عليها
وطلق زوجته وقتئذ فيحكم بفساد طلاقه، ومن البين أن هذا المعنى غير
مربوط بما تضمنه كلام الشهيد الثاني في المسالك.
وكيف كان فقد ذكر جمع من الأصحاب وجوها في توجيه ما في
المسالك، ونقتطف منها ما يلي:
1 - إن الصادر من المكره والفضولي إنما هو مجرد اللفظ بلا توجه إلى
معناه:
أما المكره فلأنه لا يقصد وقوع النقل والانتقال خارجا، وإنما غرضه
الانشاء الساذج دفعا للخوف المتوعد عليه من ناحية الجائر.
أما الفضولي فلأنه يعلم جزما عدم ترتب الأثر على عقده مع قطع
النظر عن امضاء المالك، وعليه فيكون انشاؤه خاليا عن قصد المعنى.
أما ما ذكر في المكره فيتوجه عليه أن عقد المكره كسائر أفعاله
التكوينية الصادرة منه كرها، كالأكل والشرب والقيام والقعود ونحوها،
ولا نظن أن يتفوه أحد بصدورها من المكره بغير قصد، وكذلك العقد،
غاية الأمر أنه لم ينشأ من الرضاء وطيب النفس، على أن المكره لا يقدر
غالبا على قصد خصوص اللفظ دون المعنى لعدم الالتفات إليه.
ويضاف إلى ذلك أن انتفاء قصد المعنى يقتضي انتفاء حقيقة العقد،
لما عرفته في المسألة السابقة من استحالة تحقق العقد بدون القصد،

1 - التحرير 2: 51.
559

ومعه لا مجال للبحث عن اعتبار الاختيار فيه، لأن موضوع البحث في
عقد المكره إنما هو العقد الجامع للشرائط غير الرضاء بالعقد، ولأجل
ذلك يحكم عليه بالصحة إذا لحق به الرضاء، وإذا كان خاليا عن القصد
لم يكن قابلا للحكم عليه بالصحة أبدا، لأنك عرفت أن عنوان العقد
لا يتحقق بدون القصد وإذا تحقق في الخارج ما ليس بعقد لم يكن ذلك
عقدا بالرضاء المتعقب أيضا، لأن الشئ لا ينقلب عما هو عليه، مع أن
المشهور حكموا بصحة عقد المكره بالرضاء المتعقب، نعم قد يتعلق
قصد المكره بخصوص اللفظ كما في التورية، ولكنه خارج عن مورد
البحث.
أما ما ذكر في الفضولي فيتوجه عليه أن عقد الفضولي أيضا مقترن
بالقصد وإلا لاستحال تأثيره بالإجازة أيضا، على ما عرفته قريبا.
ومع الاغضاء عن ذلك أن ما ذكر من التوجيه لكلام الشهيد إنما يتم في
غير الفضولي المعتقد لمالكية نفسه، أما فيما إذا اعتقد الفضولي أنه مالك
فلا شبهة في حصول القصد إلى المعنى.
وعلى الجملة فلا اشكال في تحقق القصد في المكره والفضولي
كتحققه في غيرهما.
2 - ما ذكره المصنف، وهذا نصه: المراد بعدم قصد المكره عدم
القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج، وأن الداعي له إلى الانشاء
ليس قصد وقوع مضمونة في الخارج، لا أن كلامه الانشائي مجرد عن
المدلول.
ويرد عليه أنه إن كان مراده من عدم القصد إلى وقوع مضمون العقد في
الخارج هو عدم وجود الاعتبار النفساني فهو بديهي البطلان، لما عرفته
قريبا من تحقق القصد في المكره، وأن عقده من هذه الناحية كسائر
560

العقود الصادرة من المختارين، وإن كان مراده من ذلك هو عدم القصد إلى
امضاء الشارع وحكمه بصحة العقد لكي يترتب عليه الأثر، بل قصده إلى
الحصة الفاسدة، فيتوجه عليه:
أولا: إن هذا أخص من المدعى، لأن المكره قد لا يلتفت إلى فساد
العقد شرعا، بل يتخيل صحته، وعليه فهو قاصد لترتب الأثر الشرعي
أيضا.
ثانيا: إن ذلك لا يضر بصحة العقد، فإن قوام البيع - كما ذكرناه - إنما هو
باعتبار المبادلة بين المالين في أفق النفس واظهاره في الخارج بمظهر،
سواء أمضاه الشارع أم لم يمضه، وسواء التفت المنشئ إلى ذلك أم
لم يلتفت إليه.
وعلى الجملة إن الأحكام الشرعية المترتبة على العقود والايقاعات
خارجة عن حقيقتها، ولأجل ذلك لو أنشأ عقدا فاسدا باعتقاده - كما إذا
تعامل مع أبيه معاملة ربوية ثم انكشف جواز ذلك - لم يحكم بفساده،
وإذن فلا أثر لقصد الامضاء الشرعي وعدمه.
3 - ما ذكره شيخنا الأستاذ من أن المكره لم يقصد ما هو ظاهر انشاء
كل منشئ من رضائه بوقوع المدلول في الخارج، كما أن الفضولي
لم يقصد ما هو ظاهر المعاملة من وقوعها لنفسه (1).
وبتعبير آخر أن ظاهر كلام العاقد هو وقوع انشائه بالرضاء وطيب
النفس، وأن ما أنشأه من العقد مستند إلى نفسه، ولكن الأول منفي في
المكره، والثاني منفي في الفضولي، لأنهما لم يقصدا ذلك.
ويرد عليه:
أولا: إن هذا أخص من المدعى، فإن هذا لو سلم فإنما يسلم مع عدم

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 418.
561

التفات الناس إلى حال المكره والفضولي وإلا لم يكن القصد مخالفا
لظهور كلامه.
ثانيا: إن عدم ظهور عقد المكره في طيب نفسه وعدم ظهور عقد
الفضولي في البيع لنفسه أجنبيان عن قصد العاقد للفظ دون معناه.
وعلى الجملة أنه لم يتحصل لنا معنى معقول من كلام الشهيد، من أن
المكره والفضولي قاصدان إلى اللفظ دون مدلوله، وهو (رحمه الله) أعرف بمقاله.
وقد ظهر لك مما تلوناه عليك فساد ما ذكره النراقي في المستند (1)، من
أن الوجه في بطلان البيع الاكراهي هو عدم وجود ما يدل على قصد البيع،
حيث إن اجراء الصيغة مع الاكراه غير كاشف عن القصد فلا يكون من البيع
العرفي، لأنه يعتبر فيه أن يكون هناك كاشف عن كونه مريدا لنقل الملك،
وكونه مكرها قرينة على عدم إرادة ظاهر اللفظ.
ما استدل به على بطلان بيع المكره
قد ظهر لك من مطاوي ما ذكرناه أن مقتضى القاعدة هو صحة بيع
المكره، فإنه عقد عرفي فيشمله ما دل على وجوب الوفاء بالعقد، ولكن
استدل على فساده بوجوه، وهي ما يلي:
الوجه الأول: الاجماع.
ويرد عليه أن الاجماع وإن كان مسلما ولكنا لا نطمئن بكونه اجماعا
تعبديا، إذ من المحتمل القريب أن يكون مدرك المجمعين الوجوه الآتية.
الوجه الثاني: قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض (2)، وقد ذكرنا في المباحث السالفة أن دخول الباء

1 - المستند 2: 364.
2 - النساء: 29.
562

المفيدة للسببية في كلمة الباطل ومقابلتها في الآية مع التجارة عن تراض
قرينتان على أن الآية الشريفة في مقام تمييز الأسباب الصحيحة عن
الأسباب الفاسدة.
ثم إن المراد من الأكل في الآية المباركة ليس هو الازدراد - على ما هو
معناه الحقيقي - وإنما هو كناية عن تملك مال الناس من غير استحقاق
شرعي، سواء أكان المال المزبور من المأكولات أم كان من غيرها.
وقد تعارف استعمال كلمة الأكل في التملك في الكتاب الكريم وفي
كلمات الفصحاء، بل وفي غير العربية أيضا، ومن ذلك قوله تعالى:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلي الحكام لتأكلوا فريقا من أموال
الناس بالإثم وأنتم تعلمون (1).
ثم إن الاستثناء في الآية المباركة، سواء أكان متصلا - كما هو الظاهر -
أم كان منقطعا يفيد حصر الأسباب الصحيحة للمعاملات بالتجارة عن
تراض، أما على الأول فواضح، وأما على الثاني فلأن الاستثناء المنفصل
وإن كان لا يفيد الحصر بنفسه، ولكن الله تعالى حيث كان في مقام بيان
الأسباب المشروعة للمعاملات وفصل صحيحها عن فاسدها وكان
الاهمال مخلا بالمقصود، فلا محالة يستفاد الحصر من الآية بالقرينة
المقامية.
ونتيجة ما ذكرناه حول الآية الكريمة أنه لا يجوز تملك أموال الناس
بسبب من أسباب المعاملات إلا أن يكون السبب المملك هو التجارة عن
تراض، ومن الواضح الذي لا ريب فيه أن بيع المكره لا يعد من التجارة
عن تراض فيكون فاسدا.

1 - البقرة: 188.
563

ثم لا يخفى على الفطن العارف أن المراد من الرضاء المذكور في الآية
المتقدمة هو طيب النفس لا الرضاء بمعنى القصد والإرادة أو الملازم
لهما، فإن ما هو شرط لصحة التجارة هو الأول، أما الثاني فإنه مقوم للعقد،
فقد عرفت أن الله تعالى في مقام بيان الميز بين السبب الصحيح والسبب
الباطل للمعاملات، ومع عدم تحقق العقد لا يبقي مجال لتقسيم أسباب
المعاملات إلى الصحيح والفاسد.
أضف إلى ذلك أن العقد من الأمور القصدية المظهرة بمظهر خارجي
فلا يعقل صدوره من غير القاصد، وعليه فلو كان المراد من الرضاء في
الآية القصد والإرادة أو ما يلازمهما لكان ذكره فيها مستدركا، لأن كلمة
التجارة المذكورة فيها تغني عن ذكر كلمة الرضاء، تعالى كلامه سبحانه
عن ذلك علوا كبيرا، وعليه فالمراد من الرضاء في الآية الشريفة إنما هو
طيب النفس لا القصد والإرادة.
ويحسن بنا توضيح ذلك اجمالا فنقول:
إن الأفعال الاختيارية الصادرة من الأشخاص المختارين إنما تستند
إلى مقدمات طولية كلها موجودة في أفق النفس، منها التصور، ومنها
التصديق بالفائدة، ومنها الميل، ومنها الشوق المؤكد المعبر عنه غالبا
بالإرادة التي هي تأثير النفس في حركة العضلات، ولا شبهة في أن الفعل
إذا عري عن القصد والاختيار لحق بالأفعال غير الاختيارية.
الفوائد المترتبة على الفعل الاختياري
ثم إن الفائدة المترتبة على الفعل الاختياري على ثلاثة أقسام:
1 - الفائدة الخالصة المترتبة على الفعل الخارجي، وذلك كالربح
المترتب على التكسب والاتجار، وكالتلذذ المترتب على أكل
564

المطعومات، وكحرارة البدن المترتبة على لبس الألبسة، وإلى غير ذلك
من الأمثلة.
2 - أن تكون الفائدة المترتبة على الفعل مما يدفع به الضرر الخارجي
المتوجه إلى الشخص، بأن يكون اختيار هذا الفعل لأجل قضاء الضرورة
من دون أن تكون هذه الضرورة من ناحية الظالم ونحوه، ومثال ذلك أن
يضطر أحد إلى بيع داره لصرف ثمنها في علاج مريضه المشرف على
الهلاك، أو للانفاق على عياله، أو لأداء الدين الواجب، أو لدفع جريمة
ثبتت عليه في المحكمة الخاصة، ومن هذا القبيل أن يطلب الجائر من
شخص مالا لا يتمكن منه إلا ببيع داره أو كتبه أو متاع بيته أو أشباه ذلك،
فإن الاجبار إنما يكون بالنسبة إلى دفع المال لا بالنسبة إلى بيع ما ذكر.
3 - أن تكون الفائدة المترتبة على الفعل دفعا لضرر الظالم الناشئ من
ترك الفعل لا من الجهات الخارجية، ومثال ذلك أن يحمل الجائر أحدا
علي فعل خاص مع الايعاد على تركه بالضرب أو القتل أو نحوهما، فإن
نفس الفعل هنا وإن صدرت بمقدماته الاختيارية التي أشرنا إليها قريبا،
ولكن الفاعل لم يرض به.
ويتضح الفارق بين هذا القسم وبين سابقه بملاحظة ما يلي، وهو أن
الظالم إذا أكره أحدا على بيع داره وأوعده بالضرب على تركه حكم بفساد
البيع لخلوه عن الرضا المعتبر في صحة البيع، وهذا بخلاف ما إذا أكرهه
بداءة على اعطاء ألف دينار، وكان سبيل نجاته عن هذه الغرامة هو بيع
داره، فإنه حينئذ يحكم بصحة البيع لوقوعه برضا المالك وطيب نفسه،
غاية الأمر أن الداعي إلى البيع إنما هو الاضطرار.
وأيضا أن الفارق بينهما كالفارق بين من فسد جزء من أجزاء بدنه بحيث
انحصر علاجه بقطعه وإلا يهلكه، وبين من أجبره الجائر على قطع إصبعه
565

وإلا يقتله، فإن الشخص الأول مبتهج بقطع عضوه بخلاف الثاني، وهذا
واضح.
وقد اتضح لك مما بيناه أن ما نحن فيه من القبيل الثالث، لأن البيع
الصادر من المكره كرها كسائر أفعاله الاختيارية مسبوق بالمقدمات، من
التصور والتصديق بالفائدة والميل والإرادة التي هي بمعنى الاختيار،
ولكن هذا البيع الصادر من المكره فاقد للرضا وطيب النفس، وعلى هذا
فعنوان التجارة لا يتحقق إلا بالإرادة والاختيار، فبيع المكره تجارة غايته
تجارة عن غير تراض.
الوجه الثالث: الروايات (1) الدالة على حرمة التصرف في مال غيره إلا
بطيب نفسه، ومن الظاهر أنه لو كان بيع المكره نافذا لكان سببا لحلية ماله
للمشتري بغير الرضاء وطيب النفس.
الوجه الرابع: الروايات الدالة على بطلان طلاق المكره وعتاقه (2)، فإنها
وإن وردت في الطلاق والعتاق ولكنها بضميمة عدم القول بالفصل
بينهما وبين غيرهما من العقود والايقاعات تدل على المقصود.

1 - قد مر في الاستدلال على لزوم المعاطاة.
2 - عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لو أن رجلا مسلما مر
بقوم ليسوا بسلطان فقهروه حتى يتخوف على نفسه أن يعتق أو يطلق ففعل لم يكن عليه شئ
(الكافي 6: 126، عنه الوسائل 22: 86)، مرسل.
وعن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن طلاق المكره وعتقه، فقال: ليس طلاقه
بطلاق ولا عتقه بعتق (الكافي 6: 127، عنه الوسائل 22: 86)، حسن بإبراهيم بن هاشم.
وعن يحيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: لا يجوز
الطلاق في استكراه، ولا يجوز عتق في استكراه، وإنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير
استكراه ولا اضطرار (الكافي 6: 127، التهذيب 8: 74، عنهما الوسائل 22: 87)، ضعيف
بيحيى.
566

الوجه الخامس: ما دل على رفع الاكراه في الشريعة المقدسة (1).
ووجه الاستدلال به على بطلان عقد المكره هو ما ذكرناه في علم
الأصول، من أنه لا اختصاص لحديث الرفع بالأحكام التكليفية بل يعم
الأحكام الوضعية أيضا، كما أنه لا اختصاص له بمتعلقات الأحكام بل هو
يجري في الموضوعات أيضا، فإن فعل المكلف كما يقع متعلقا للتكليف
كذلك يقع موضوعا له، وعليه فإذا أكره المكلف على ايجاد الموضوع

1 - عن حريز بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): رفع عن
أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا
إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة (الفقيه 1: 365،
الخصال: 417، التوحيد: 353، عنهم الوسائل 8: 249، 15: 369)، مجهول بأحمد بن محمد
بن يحيى العطار.
وعن أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره، عن إسماعيل الجعفي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: سمعته يقول: وضع عن هذه الأمة ست خصال: الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه،
وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه (نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 62، عنه
الوسائل 23: 237، المستدرك 12: 24).
وعنه، عن الحلبي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وضع عن أمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 62، عنه الوسائل
23: 237، المستدرك 12: 24).
وعنه، عن ربعي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عفي عن أمتي ثلاث:
الخطأ والنسيان والاستكراه، قال أبو عبد الله (عليه السلام): وهنا رابعة، وهي ما لا يطيقون (نوادر
أحمد بن محمد بن عيسى: 62، عنه الوسائل 23: 237، المستدرك 12: 24).
وعن أحمد بن أبي عبد الله في المحاسن، عن أبيه، عن صفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد
ابن أبي نصر جميعا، عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق
والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك، فقال: لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وضع عن أمتي ما
أكرهوا عليه، وما لم يطيقوا، وما أخطأوا (نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 75، المحاسن
: 339، عنهما الوسائل 23: 237)، صحيح.
567

لحكم كالافطار في شهر رمضان أو انشاء بيع ارتفع حكمهما.
وعلى هذا فلا احتياج في الاستدلال بحديث الرفع على بطلان بيع
المكره إلى التمسك باستدلال الإمام (عليه السلام) بذلك على بطلان اليمين
بالطلاق والعتاق (1) مع ضميمة عدم القول بالفصل - بينهما وبين سائر
العقود والايقاعات - إلى الاستدلال المزبور، كما لا نحتاج إلى القول بأن
اعراض الإمام (عليه السلام) عن الحكم ببطلان العتاق والطلاق بدءا إلى التمسك
بحديث الرفع شاهد صدق على شمول ذلك الحديث لأمثال الموارد،
ولا احتياج إلى شئ منهما وإن كان كل منهما تاما في نفسه.
وعلى الجملة أنه لا شبهة في دلالة حديث الرفع على بطلان عقد
المكره.
بحث في عقد المضطر
بقي هنا أمران يحسن بنا التعرض لهما:
الأول: إنه قد يتوهم أنه إذا ثبت بطلان بيع المكره من جهة حديث
الرفع، فلا بد وأن يحكم بفساد العقود والايقاعات الصادرة من المضطر
لأجل الاضطرار لعين ذلك الحديث، وقد تقدم مثاله قريبا.
ولكنه يندفع بأن حديث الرفع وارد في مقام الامتنان، ومن الواضح أن
الحكم بفساد معاملة المضطر على خلاف الامتنان، وعليه فلا تكون
المعاملة الاضطرارية مشمولة لحديث الرفع.
حكم المعاملة الصادرة من المكره إذا كان الاكراه بحق
الثاني: إن حديث الرفع إنما يدل على بطلان عقد المكره فيما إذا كان

1 - هذا المعنى مذكور في رواية البرقي المتقدمة في الحاشية السابقة.
568

المكره - بالكسر - من سنخ البشر، أما إذا كان المكره - بالكسر - هو الله
تعالى بلسان سفرائه الطاهرين، فإنه وقتئذ لا يحكم بفساد العقد الواقع
كرها ولا يكون ذلك مشمولا لحديث الرفع، فإن ذلك اكراه بحق فلا يمنع
عن نفاذ البيع، وإلا لزم أن يكون حكمه سبحانه بوقوع العقد الاكراهي
لغوا محضا، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
وقد تحقق هذا المعنى في موارد شتى، ونذكر منها ما يلي:
1 - أن يحكم القاضي ببيع ملك المديون لايفاء الغرماء حقوقهم، فإنه
اكراه بحق لا يمنع عن نفاذ البيع بل يقع معه صحيحا نافذا.
2 - الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (قدس سرهم) في اجبار المحتكر على بيع
ما احتكره من الطعام فيما إذا لم يوجد الباذل، بل عن المهذب البارع
الاجماع عليه، وعن التنقيح عدم الخلاف في ذلك، وقد وردت جملة
من الروايات في ذم المحتكر وحرمة الاحتكار، وكونه من الجرائم
الموبقة، ويأتي البحث عن ذلك في أواخر كتاب البيع إن شاء الله.
3 - أن لا ينفق الرجل على من تجب نفقته عليه، من الأب والأم
والأولاد والأزواج وغيرهم، فإنه حينئذ يجبر هذا الشخص الممسك
علي بيع أمواله وصرف ثمنها في نفقة هؤلاء، ولا يؤثر هذا الاكراه في
بطلان بيعه، لما عرفته قريبا في المحتكر.
4 - أنه إذا امتنع الراهن من أداء دينه فإنه يجبره الحاكم على بيع العين
المرهونة وأداء دين المرتهن من ثمنها، فلا يؤثر الاكراه في فساد بيعه.
ثم إنه بقي هنا شئ آخر لا بأس بالتعرض له، وهو أن المحقق
الإيرواني قد استدل على فساد عقد المكره بما حاصله:
أن عنوان المعاملة لا يتحقق عرفا بانشاء المكره، بداهة أنه وإن قصد
المعنى قلبا وتكلم باللفظ لسانا إلا أنه لا رابطة بينهما لبا، ضرورة أنه
لم يأت باللفظ لأجل المقدمية والتوصل إلى المعنى لكي يكون ذلك
569

وسيلة إلى تحقق عنوان المعاملة بل إنما أتى به بداع آخر، وعليه فقصد
المكره للمعنى كالقصد الساذج الخالي عن الانشاء، كما أن انشاءه
كالانشاء الساذج الخالي عن القصد، وإذا لم يتحقق هنا عنوان المعاملة
لم يترتب عليه أثر شرعي (1).
ولكن يتوجه عليه ما عرفته مرارا، من أن عنوان أي عقد أو ايقاع إنما
يتحقق بالاعتبار النفساني وابرازه بمبرز خارجي من اللفظ وغيره،
ولا ريب في أن هذا المعنى متحقق في عقد المكره، غاية الأمر أنه فاقد
لطيب النفس إلا أنه غير دخيل في عنوان العقد وإنما هو دخيل في
صحته.
ويضاف إلى ذلك أنه لو لم يكن انشاء المكره مربوطا بالقصد وكان كل
منهما غريبا عن الآخر، كما يرومه المستدل، كان عقد المكره فاسدا من
ناحية انتفاء موضوع العقد لا من ناحية الكره، وقد عرفت آنفا أن محل
بحثنا إنما هو فيما يكون العقد واجدا لسائر ما يعتبر فيه غير طيب النفس
والرضاء.
بحث في حقيقة الاكراه
1 - هل يعتبر في الاكراه وجود حامل على المكره عليه؟
قوله (رحمه الله): إن حقيقة الاكراه لغة وعرفا حمل الغير على ما يكرهه.
أقول: هل يعتبر في مفهوم الاكراه وجود شخص حامل على الفعل
المكره عليه بحيث لولاه لما كان هنا اكراه كما هو الظاهر من المصنف، أم
لا يعتبر ذلك في مفهومه بل يكفي فيه مجرد الاعتقاد بوجود المكره -
بالكسر - وإن كان الاعتقاد المزبور مخالفا للواقع.

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 111.
570

ويحسن بنا أولا أن نقدم مقدمة في طليعة البحث عن ذلك، وملخصها
أن النسبة بين عنوان الكراهة وعدم طيب النفس هي العموم المطلق،
ضرورة أنه كلما تحقق هنا كره تحقق عدم طيب النفس، بخلاف العكس
فإنه قد لا يوجد الكره ولكن يتحقق عدم الرضاء وعدم طيب النفس، كما
إذا تخيل أحد أن الجائر أجبره على بيع داره أو طلاق زوجه أو عتاق عبده
وفعل ذلك، ثم تبين أنه ليس هنا مكره - بالكسر - فإن عنوان الاكراه وإن
كان غير متحقق في المقام واقعا ولكن لم يوجد هنا رضاء أيضا
بالمعاملة.
وقد يتوهم أن النسبة بين عنوان الاكراه وبين عدم الرضاء هي العموم
من وجه، إذ قد يتحقق الاكراه ولا يتحقق عدم الرضاء، كما إذا باع أحد
داره برضاه ثم علم بوجود المكره في الواقع حيث لو لم يفعله لقتله،
ولكنه توهم فاسد، بديهة أن حقيقة الاكراه متقومة بوجود المكره -
بالكسر - واقعا وعلم المكره - بالفتح - به، فإذا انتفى أحدهما انتفى عنوان
الاكراه.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه إن كان الدليل على بطلان معاملة المكره هو
حديث الرفع، فلا مناص عن التكلم في حقيقة الاكراه وبيان ما يعتبر فيها
من القيود والشرائط لكي يتضح ما هو المقصود من الحديث المزبور،
وإن كان الدليل على بطلان معاملة المكره هو عدم اقترانها بالرضاء
وطيب النفس فلا نحتاج إلى البحث عن حقيقة الاكراه فإن المدار في
صحة معاملات المكره وفسادها وقتئذ إنما هو وجود طيب النفس
وعدمه.
وعليه فيحكم بفساد العقد الصادر من شخص بتوهم أن الجائر قد أمره
بذلك وأوعده على تركه بالضرب والقتل ونحوهما، وإن كان اعتقاده
هذا موافقا للواقع، فإن العقد المزبور فاقد لطيب النفس، نعم إذا طابق
571

اعتقاده الواقع اجتمعت حقيقة الاكراه مع عدم طيب النفس.
وعلى الجملة أن الميزان في بطلان بيع المكره إنما هو عراؤه عن طيب
النفس، سواء استند ذلك إلى مجرد الخوف من دون أن يكون هناك
مخوف أم استند إلى خوف مستند إلى الجائر.
2 - هل يعتبر في تحقق الاكراه الوعيد من الأمر؟
قوله (رحمه الله): ويعتبر في وقوع الفعل من ذلك الحمل اقترانه بوعيد منه.
أقول: هل يعتبر في تحقق الاكراه الوعيد من الأمر، أم يكفي في ذلك
توجه الضرر على المكره - بالفتح - ولو من ناحية غير الأمر، الظاهر من
المصنف هو الأول.
وقال السيد - عند قول المصنف: اقترانه بوعيد منه -: فعلي هذا
لا يصدق على ما أشرنا إليه سابقا من طلب الغير منه فعلا إذا خاف من تركه
الضرر السماوي أو ضررا من جانب شخص آخر إذا اطلع على ذلك مع
عدم توعيده، بل وكذا إذا فعل الفعل لا بأمر الغير لكن خاف منه الضرر،
وحينئذ فالاقدام على الفعل قبل اطلاع الجائر بتخيل أنه إذا اطلع على
الترك أوصل إليه الضرر لا يعد من الاكراه (1).
وتبعهما في ذلك شيخنا الأستاذ، وإليك نص مقرر بحثه: يعتبر
توعيد الطالب على الترك ثم يعتبر الظن أو الاحتمال العقلائي على ترتب
ذلك الوعيد على الترك، فمجرد أمر الغير مع عدم اقترانه بتوعيد منه
لا يدخل في موضوع البحث وإن خاف من تركه ضررا سماويا أو الضرر
من شخص آخر غير الأمر (2).

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 122.
2 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 420.
572

ولكن التحقيق أن يحكم بفساد العقد إذا ترتب على تركه الضرر ولو من
ناحية غير الأمر، كما إذا أمره ابن السلطان ببيع ماله فباعه خوفا من الضرر
المتوجه إليه من ناحية السلطان إذا علم بمخالفة أمر ولده.
ولا يفرق في ذلك بين كون المدرك لبطلان عقد المكره هو حديث
الرفع، وبين كونه عدم طيب النفس، أما على الثاني فواضح، أما على
الأول فلما عرفته من أن حقيقة الاكراه حمل الغير على فعل مع الايعاد
علي تركه بالضرر، سواء أكان الضرر متوجها إليه من الأمر، أم كان
متوجها إليه من غيره.
نعم إذا كان الوعيد بالضرر السماوي، كما إذا أمر أحد من أولياء الله
شخصا خاصا ببيع داره وإلا طلب من الله تعالى أن يمطر عليه حجارة من
السماء أو يرسل عليه ريحا عاصفة، فباعها خوفا من الغضب الإلهي، فإن
البيع المذكور يحكم بصحته لما عرفته قريبا من أن المرفوع بحديث
الرفع إنما هو الاكراه من ناحية العباد لا الاكراه من ناحية الله سبحانه،
وهذا ظاهر.
3 - هل يعتبر في الاكراه العلم بترتب الضرر على ترك المكره عليه؟
هل يعتبر في صدق الاكراه العلم أو الظن بترتب الضرر على ترك
المكره عليه، أم يكفي في ذلك مجرد الاحتمال؟
ذكر المصنف أنه يعتبر في ذلك كون الضرر مظنون الترتب على ترك
ذلك الفعل، بحيث يضر بحال الفاعل أو بحال من يتعلق به أو يضر بماله.
وقد اكتفى شيخنا الأستاذ في صدق الاكراه على ذلك باحتمال ترتب
الضرر على ترك المكره عليه، وقد عرفت عبارة مقرر بحثه آنفا، وهذا
هو الصحيح لما عرفته قريبا من أن المدار في فساد عقد المكره على
573

انتفاء طيب النفس، وهو حاصل بمجرد الخوف النفساني الحاصل من
وعيد الأمر، ومعه لا دليل على اعتبار العلم بالترتب أو الظن به بل يكفي
في ذلك مجرد الاحتمال العقلائي.
ثم ذكر السيد: أنه لا بد في صدق الاكراه من كون الضرر المتوعد به
مما لم يكن مستحقا عليه، فلو قال: افعل كذا وإلا قتلتك قصاصا... أو
وإلا طالبتك بالدين الذي لي عليك ونحو ذلك، لا يصدق عليه الاكراه (1).
وقد يناقش فيه بأن المعاملة عندئذ فاقد لطيب النفس والرضاء،
فتكون فاسدة، ولكن الظاهر أن ما ذكره السيد هو الصحيح، وذلك من
جهة أن الاكراه ينصرف عرفا إلى غير ذلك، وعلى فرض عدم الانصراف
فالحديث لا يشمله لأنه على خلاف الامتنان.
وتوهم أن المعاملة حينئذ فاقدة لطيب النفس، مدفوع بأن دفع الضرر
المستحق عليه أقوى سبب لتحقق الرضاء بالمعاملة، فإن الضرر إذا كان
مستحقا عليه لزمه الالتزام به بحكم الشارع أو دفعه عن نفسه باختياره
وبالتراضي بينه وبين من يستحق عليه.
4 - هل يعتبر في الاكراه عدم امكان التفصي عن الضرر؟
قوله (رحمه الله): ثم إنه هل يعتبر في موضوع الاكراه أو حكمه عدم امكان التفصي
عن ذلك الضرر المتوعد بما لا يوجب ضررا آخر.
أقول: هل يعتبر في موضوع الاكراه عدم امكان التفصي عن الضرر
المتوعد به بتورية أو بغيرها، أم لا يعتبر ذلك في موضوعه بل يعتبر في
حكمه أعني به الأثر المترتب على الاكراه من بطلان المعاملة وغيره، أم
يفصل بين المعاملات وغيرها ويلتزم بعدم الاعتبار في الأول دون الثاني،

1 - حاشية المكاسب للمحقق الطباطبائي: 122.
574

أم يفصل بين التورية وغيرها ويلتزم في تحقق مفهوم الاكراه باعتبار
العجز عن غير التورية دونها، أم لا يعتبر شئ من المذكورات.
حقيقة التورية
وقبل التعرض لتلك الوجوه يحسن بنا أن نقدم أمام البحث بيان حقيقة
التورية، وهي في اللغة بمعنى الستر والاخفاء والقاء كلام ظاهر في
معنى وإرادة خلاف ظاهره، مع إخفاء القرينة على المراد، فكان المتكلم
واري مراده عن المخاطب باظهار غيره، وخيل إليه أنه أراد ظاهر كلامه.
وقد ذكر الطريحي في مجمع البحرين: وريت الخبر - بالتشديد -
تورية إذا سترته وأظهرت غيره، حيث يكون للفظ معنيان، أحدهما
أشيع من الآخر، وتنطق به وتريد الخفي (1)، وفي القاموس: ورآه تورية
أخفاه، وفي تلخيص المفتاح: ومنه التورية وتسمي الايهام أيضا،
وهو أن يطلق لفظ له معنيان قريب وبعيد ويراد البعيد - الخ.
ولكن لا يخفى عليك أن التورية كما تتحقق في الأقوال كذلك تتحقق
في الأفعال أيضا، ولا وجه لتخصيصها بالأولي كما يلوح من ظاهر
تفاسير القوم، أما جريانها في الأقوال فكما إذا أراد أحد أن ينكر مقالته
الصادرة منه فيقول: علم الله ما قلته، حيث يظهر كلمة الموصول على
صورة أداة النفي، ويخيل إلى السامع أنه ينكر كلامه الصادر منه.
ومن هذا القبيل ما ذكره سلطان العلماء والمحققين في حاشيته على
المعالم عند البحث عن المجمل، من أنه سئل أحد العلماء عن علي (عليه السلام)
وأبي بكر بأنه أيهما خليفة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فقال: من بنته في بيته، ومنه
قول عقيل: أمرني معاوية أن ألعن عليا ألا فالعنوه.

1 - مجمع البحرين 1: 435.
575

ومن القبيل المذكور ما سئل بعض الشيعة عن عدد الخلفاء فقال: أربعة
أربعة أربعة، وقصد من ذلك الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، وزعم السائل أنه
أراد الخلفاء الأربع.
ثم لا يخفى عليك أن الكلام الذي يوري به قد يكون ظاهرا في بيان
مراد المتكلم ولكن المخاطب لغباوته وقصور فهمه لا يلتفت إليه،
ولا ريب أن مثل ذلك خارج عن حدود التورية موضوعا، وإنما هو كسائر
الخطابات الصادرة من المتكلم في محاوراته ومحادثاته، ومنه ما نقل عن
بعض الأجلة أن شخصا اقترح عليه أن يعطيه شيئا من الدراهم ويعينه
بذلك، وكان المسؤول يرى السائل غير مستحق لذلك، فألقى السبحة
من يده على الأرض وقال: والله إن يدي خالية، وتخيل السائل من
كلامه أنه غير متمكن من اعطاء سؤله وقضاء حاجته.
أما جريان التورية في الأفعال، فهو من الوضوح بمكان وإن لم يتعرض
له من فسر التورية وبين حقيقتها، ومثال ذلك أن يكره الجائر أحدا على
شرب الخمر فأخذها المكره - بالفتح - وأهرقها على جيبه وخيل إلى
الجائر أنه شربها، وأن يكره أحدا على أخذ أموال الناس بالظلم
والعدوان، فأخذ المكره - بالفتح - مال الظالم سرا ودفعه إليه جهرا
ويخيل إليه أنه أخذه من الناس وأعطاه إياه، وأن يأمر أحد عماله أن
يضرب مظلوما في الليل المظلم فيوري العامل في فعله بضرب سوطه
على الجدار ويأمر المظلوم بالنياحة والبكاء لكي يفهم الظالم أنه يضربه،
وإلى غير ذلك من الأمثلة.
وعليه فإذا قلنا بوجوب التورية في الكلام مع التمكن منها قلنا به في
الأفعال أيضا فإن سبيلهما واحد، وهذا واضح لا ستار فيه.
576

تفصيل المصنف باعتبار العجز عن التفصي في غير المعاملات
ثم إنه فصل المصنف هنا بين المعاملات وغيرها، حيث اعتبر العجز
عن التفصي في حقيقة الاكراه في الثاني دون الأول، وملخص كلامه:
إن المناط في الاكراه الرافع لأثر المعاملات إنما هو عدم طيب النفس
بمفاد المعاملة، ولا ريب أن هذا المعنى قد يتحقق مع امكان التفصي،
ومثاله أنه لو جلس أحد في مكان خاص فأكرهه الجائر على بيع داره فإن
المكره - بالفتح - وإن كان له في غير هذا المكان خدم يكفونه عن شر
المكره - بالكسر - إلا أنه يكره الخروج عن مكان جلوسه ولا يتمكن في
هذه الحالة من دفع ضرر الجائر عن نفسه، وعليه فالاكراه بمعنى عدم
طيب النفس متحقق هنا، وحينئذ فيحكم بعدم ترتب الأثر على هذه
المعاملة الصادرة من المكره.
وهذا بخلاف الاكراه على أمر محرم، كالكذب وشرب الخمر والزناء
وأشباهها، فإن الشخص المزبور في المثال المذكور لا يعذر بمجرد
كراهة الخروج عن ذلك المنزل، فإن المناط في الاكراه - المعتبر في
تسويغ المحرمات - هو الاكراه بمعنى الجبر، والمناط في الاكراه -
المعتبر في رفع الأثر عن المعاملات - هو عدم طيب النفس كما عرفته
قريبا وكم فرق بينهما.
ويدل على التفرقة بين المقامين خبر ابن سنان، قال: قال أبو عبد الله
(عليه السلام): لا يمين في غضب ولا في قطيعة رحم ولا في جبر ولا في اكراه،
قال: قلت: أصلحك الله فما فرق بين الاكراه والجبر؟ قال: الجبر من
السلطان يكون، والاكراه من الزوجة والأب والأم وليس ذلك بشئ (1).

1 - الكافي 7: 442، التهذيب 8: 286، الفقيه 3: 235، معاني الأخبار: 166 و 389، عنهم
الوسائل 23: 235.
577

حيث إن الظاهر من هذا الخبر هو أن ما يرفع أثر المعاملات إنما هو
الاكراه بمعنى عدم طيب النفس، وإن لم يتوجه على ترك المكره عليه
ضرر، كما في اكراه الأب والأم والزوجة، فيكون أوسع دائرة من الاكراه
المسوغ لسائر المحرمات.
ولكن يتوجه عليه:
أولا: إن معنى الاكراه هو حمل الغير على ما يكرهه مع الايعاد على
تركه، ولا ريب أن هذا المعنى ينطبق على جميع موارد الاكراه بنسق
واحد، من دون فارق بين المعاملات والمحرمات، وعليه فمجرد مقابلة
الاكراه مع الاجبار - في الرواية - لا تدل على التفرقة بين المعاملات
والمحرمات، بل غاية ما يستفاد منها أن دائرة الاكراه الرافع لأثر
المعاملات أوسع من دائرة الاجبار المسوغ للمحرمات، فإنه يتسامح في
الأول بما لا يتسامح في الثاني.
ويضاف إلى ذلك أنه لم يذكر في الرواية أن الاجبار يكون في
المحرمات فقط، بل المذكور فيها هو بيان الفارق بين السلطان، وبين
الأب والأم والزوجة.
وعليه فما ذكره المصنف - في المثال المزبور من بيان المائز بين
المعاملات وبين المحرمات - لا يبتني على أساس صحيح، بل كما
لا يسوغ مع الاكراه - المذكور في المثال - ارتكاب المحرمات كذلك
يحكم معه بنفوذ المعاملات، بديهة أن الاكراه إنما يؤثر في فساد
المعاملة إذا كانت المعاملة المكره عليها فاقدة لطيب النفس من ناحية
الخوف المستتبع لترتب الضرر على الترك ولم يقدر المكره - بالفتح -
على دفعه عادة.
578

ومن البين الذي لا ريب فيه أن طيب النفس متحقق في المثال لتمكن
البائع من عدم البيع ولو بالاستنصار من خدمه وعشيرته لكي يدفعوا عنه
الضرر.
ثانيا: أنه لا دلالة في الرواية المذكورة على التفرقة بين المقامين،
ضرورة توجه الضرر على ترك المكره عليه في الأمثلة التي ذكرت في
الرواية، كيف فإن ترك ما يريده الأب أو الأم أو الزوجة قد يوجب
اختلال العيش واضطراب الفكر، بل ربما ينجر ذلك إلى ما هو أعظم من
ذلك، وإذن فتبعد الرواية عن اثبات صدق الاكراه بدون توجه الضرر على
ترك المكره عليه.
أضف إلى ذلك أن الرواية ضعيفة السند، فإن الراوي عن ابن سنان هو
عبد الله بن القاسم، وهو إما مجهول أو ضعيف.
تفصيل آخر للمصنف بين العجز عن التفصي بالتورية وغيرها
ثم إن المصنف قد فصل هنا تفصيلا آخر، وهو التفصيل بين العجز عن
التفصي بالتورية وغيرها، حيث اعتبر الثاني في مفهوم الاكراه دون
الأول، وحاصل كلامه أن الظاهر من النصوص والفتاوي هو عدم اعتبار
العجز عن التورية في موضوع الاكراه أو حكمه، إذ من البعيد جزما أن
يحمل عموم حديث الرفع وخصوص النصوص، الواردة في طلاق
المكره وعتقه والشهرات المدعاة في حكم المكره، على صورة العجز
عن التورية لجهل أو دهشة، بل مورد بعضها يأبى عن الحمل المذكور،
كما يتضح ذلك لمن يراجعها.
ويضاف إلى ذلك أن القدرة على التورية لا يخرج الكلام عن حين
579

الاكراه عرفا، بداهة أن الأصحاب (1) - وفاقا للشيخ في المبسوط (2) - جعلوا
من شروط تحقق الاكراه علم المكره أو ظنه بوقوعه في الضرر المتوعد به
مع الامتناع عن ايجاد المكره عليه.
ومن البين أنه لا شبهة في وجود الملازمة بين امتناع المكره - بالفتح -
عن الفعل المكره عليه، وبين وقوعه في الضرر الذي هو المعتبر في
صدق الاكراه مع التمكن من التورية، كما لا شبهة في انتفاء هذه الملازمة
مع التمكن من غيرها، وإذن فموضوع الاكراه متحقق في الأول فيلحقه
حكمه دون الثاني مع أن العجز عنها لو كان معتبرا لأشير إليها في قضية
عمار وأبويه (3).
ولكن يتوجه على ذلك أنه لم يتضح لنا الفارق بين امكان التفصي
بالتورية وغيرها، فكما لا يتحقق مفهوم الاكراه في الثاني كذلك لا يتحقق
مفهومه في الأول أيضا.
ومن هنا لو أكره أحد على شرب الخمر مع تمكنه من هراقته على جيبه
حرم عليه شربها جزما، وقد تقدم أن التورية كما تجري في الأقوال
تجري في الأفعال أيضا، وكذا لو أكره الجائر أحدا على ارتكاب محرم أو

1 - كالمحقق في الشرايع 3: 13، والعلامة في التحرير 2: 51، والشهيد الثاني في الروضة
6: 20، والسبزواري في في الكفاية: 198.
2 - المبسوط 5: 51.
3 - قصة عمار على ما رواها المفسرون في شأن نزول قوله تعالى: إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالايمان - النحل: 106 - أن قريشا أكرهوه وأبويه ياسر وسمية على الارتداد، فأبى
أبواه فقتلوهما، وهما أول شهيدين في الاسلام، وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا مكرها، فقيل:
يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال: كلا إن عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الايمان
بلحمه ودمه، فأتى عمار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يبكي، فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) يمسح عينيه، وقال:
ما لك، إن عادوا لك فعدهم بما قلت.
580

ترك واجب ثم غاب عنه بحيث لا يلتفت إلى حاله، وأنه يفعل الفعل
المكره عليه أو لا يفعله فإن أحدا لم يتوهم تحقق الاكراه هنا، مع أن
الملازمة المزبورة متحققة هنا في مورد المثالين جزما.
ويضاف إلى ذلك ما ذكرناه سابقا من أن المناط في بطلان معاملة
المكره إنما هو انتفاء طيب النفس والرضاء، كما بنى عليه المصنف فيما
سبق، ومن الواضح أن طيب النفس متحقق فيمن تمكن من التفصي
بالتورية، ومعه كيف يتحقق الاكراه.
أما ما ذكره من التمسك باطلاق حديث الرفع وسائر الروايات الواردة
في طلاق المكره وعتاقه والنصوص الواردة في تجويز الحلف الكاذب،
بدعوى أن الظاهر منها هو عدم اعتبار العجز عن التفصي في حكم المكره
عليه.
فيتوجه عليه أن التمسك بذلك أنما هو بعد احراز الموضوع أعني به
تحقق الاكراه، وقد عرفت عدم تحققه مع التمكن من التفصي.
بحث حول قضية عمار
أما ما ذكره من أن العجز عن التورية لو كان معتبرا في رفع الأثر عن
الفعل المكره عليه لأشير إليه في قضية عمار وأبويه من جهة شفقة النبي
(صلى الله عليه وآله) عليه.
فيتوجه عليه:
أولا: إن عظمة عمار ونبوغه في العلم والتقوى مانعة عن تكلمه بكلمة
الكفر مع قصده إلى معناها، بل هو لم يتكلم بكلمة الكفر إلا ظاهرا بلسانه
وكان قلبه مطمئنا بالايمان، وعليه فشأن تكلمه بكلمة الكفر شأن تكلم
الكفار بكلمة الشهادة عند الخوف والدهشة من غير إرادة جدية، وإذن
فلم تكن حاجة إلى التنبيه.
581

ثانيا: إن الرسول (صلى الله عليه وآله) وإن لم ينبه عمارا على التورية وأغفل تعليمه
إياها، ولكنه من جهة عدم مشروعيتها في أمثال المقام، فإن إظهار الكفر
ولو مع التورية محرم في نفسه، لأنه هتك لله سبحانه وتجاسر لعظمته،
وكذلك التكلم بكلمة الفحش وأشباهها، ومن البديهي أنه لو جازت
التورية في إظهار كلمة الكفر عند التقية لجازت مطلقا ولو في غير حال
التقية.
ومن العجب أن المصنف ذكر أنه لو سلم اعتبار العجز عن التفصي
بالتورية في موضوع الاكراه وحقيقته كان مقتضى عموم حديث الرفع
وخصوص النصوص الواردة في طلاق المكره وعتاقه ومعاقد
الاجماعات والشهرات المدعاة الحاق القادر بالعاجز حكما، إذ من
البعيد جدا حمل جميع ذلك على صورة العجز عن التورية لجهل أو
دهشة، بل لا يمكن الالتزام بهذا الحمل في بعضها من جهة المورد كما
لا يخفي على من راجعها، ووجه العجب أنا لم نجد رواية تدل على
الحاق غير المكره بالمكره حكما.
أما حديث الرفع وما ورد في طلاق المكره، فلم يذكر في هذه
الروايات إلا مادة الكراهة وما يقتطف منها، ولا تعرض فيها لبيان
موضوع الاكراه ولا لتنزيل غير المكره منزلة المكره حكما.
وأعجب من الكل دعواه الاجماع على التنزيل، مع أنا لم نر من ذلك
في كلمات الفقهاء عينا ولا أثرا.
بحث في متعلق الاكراه
قوله (رحمه الله): أما لو كانا عقدين أو ايقاعين، كما لو أكره على طلاق إحدى
زوجتيه، فقد استشكل غير واحد.
582

أقول: تحقيق البحث في المقام أنه إذا كان المكره عليه أحد الأمرين
علي سبيل التخيير دون الواحد المشخص، فهل يتحقق الاكراه باختيار
كل منهما ويترتب عليه أثره أم لا.
تحقيق ذلك يقع في ناحيتين: الأولى في الأفراد العرضية، والثانية في
الأفراد الطولية.
1 - إذا كان الاكراه بأحد الأمرين العرضيين
أما الناحية الأولى، فقد ادعى بعض الأصحاب عدم تحقق الاكراه فيما
إذا كان المكره عليه هو الجامع بين الأمرين أو أمور كثيرة، بداهة أن الفاعل
مخير في اختيار أيهما، فيكون صدوره منه بطيب نفسه ورضاه، فيحكم
بصحته إن كان ذلك معاملة، وبحرمة الاتيان به إن كان من المحرمات.
وقد ناقش فيه المصنف بالنقض بأنه لو لم يكن هذا مكرها عليه
لم يتحقق الاكراه أصلا، إذ الموجود في الخارج دائما أحدي
خصوصيات المكره عليه، إذ لا يكاد يتفق الاكراه بجزئي حقيقي من
جميع الجهات، نعم هذا الفرد مختار فيه من حيث الخصوصية وإن كان
مكرها عليه من حيث القدر المشترك، بمعنى أن وجود الخارجي ناشئ
عن اكراه واختيار، ولذا لا يستحق المدح أو الذم باعتبار أصل الفعل
ويستحقه باعتبار الخصوصية.
والجواب عن هذه المناقشة أنه فرق بين وقوع الاكراه على بيع الدار
وبين وقوعه على طلاق أحدي الزوجتين أو عتاق أحد العبدين، فإن
المكره عليه وإن كان كليا في كلا الموردين إذ لم يلاحظ بيع الدار من
شخص خاص ولا في وقت معين، إلا أن خصوصية كل فرد من طلاق
إحدى الزوجتين أو عتاق أحد العبدين محط نظر المكره - بالكسر - وهذا
583

بخلاف الخصوصيات الموجودة في بيع الدار، فإنها عوارض فردية
وخارجة عن مورد الاكراه فالقياس مع الفارق.
والتحقيق في المقام أنا قد ذكرنا في مبحث الواجب التخييري من علم
الأصول، أن الواجب هنا هو الجامع العنواني الانتزاعي، وهو مفهوم
أحدهما الصادق على كل منهما، إذ لا ريب في امكان تعلق الطلب بأحد
الفعلين أو الأفعال على البدل، ضرورة أنه لا يعتبر في متعلق الوجوب أن
يكون من الكليات المتأصلة، بل يجوز أن يكون من الكليات الانتزاعية،
وإذا فرض ترتب الغرض الواحد على أحد الفعلين أو الأفعال على البدل
فإنه لا بد وأن يكون متعلق الايجاب أيضا كذلك.
أضف إلى ذلك أنه لا شبهة في امكان تعلق الصفات الحقيقية ذوات
الإضافة بأحد الأمرين أو الأمور، كما إذا علمنا بفسق أحد الرجلين مع
احتمال فسق الآخر أيضا وكان كلاهما فاسقا في الواقع، فإن متعلق العلم
هنا هو أحد الفاسقين على نحو الابهام والاجمال لعدم تعينه في الواقع،
وإذا أمكن تعلق الصفات الحقيقية ذوات الإضافة بأحد الأمرين أو الأمور
أمكن ذلك في الأمور الاعتبارية أيضا جزما.
ومقامنا هذا نظير الواجب التخييري، فإنه إذا أكره أحد على الاتيان
بأحد الأمرين أو اضطر إلى ذلك كان الاكراه أو الاضطرار على الجامع
لا علي خصوص كل فرد من الأفراد.
وهذا المعنى لا ينافي وجود الطبيعة الكلية في ضمن كل فرد من
الأفراد، فإن لازم ذلك أن كل فرد مصداق للمكره عليه لا أن يكون بنفسه
مكرها عليه، للفرق الواضح بين تعلق الاكراه بشئ بداءة وبين تعلقه به
بواسطة الكلي، فإن اختيار أي فرد من الأفراد بعد تعلق الاكراه بالكلي من
باب الاضطرار.
584

ومن هنا اتضح لك الفارق بين الاكراه على بيع الدار وبين الاكراه على
تطليق إحدى الزوجتين أو عتاق أحد العبدين، بديهة أن الأول بنفسه
مورد للاكراه دون الثاني، فإن مورد الاكراه فيه هو الجامع، وأما كل من
الخصوصيتين فهو غير واقع تحت الاكراه.
وقد ظهر لك مما بيناه فساد ما ذكره المحقق الإيرواني (1)، من أن
الأشخاص تعد مكرها عليها بالاكراه على القدر المشترك.
2 - إذا كان الاكراه بالقدر المشترك بين الفعلين
وإذا عرفت ما تلوناه عليك فاعلم أنه إذا تعلق الاكراه بالقدر المشترك
بين الفعلين، فإما أن يكون كلاهما من المحرمات التكليفية أو يكون
كلاهما عقدا، أو يكون أحدهما عقدا والآخر محرما، أو يكون
أحدهما عقدا والآخر مباحا، أو يكون أحدهما محرما والآخر مباحا،
فإن كان كلا الأمرين حراما تكليفيا وكانا متساويين في ملاك التحريم
ولم يكن أحدهما أشد مبغوضية من الآخر في نظر الشارع كان المكره -
بالفتح - مخيرا في اختيار أي منهما، ضرورة أن نسبة المكره عليه - وهو
الجامع - إلي كل منهما على حد سواء، وإن اختلفت الأفراد ولم تكن
متساوية الاقدام في ملاك التحريم فإنه وقتئذ لا بد وأن يختار ما كان أقل
مبغوضية.
ومثال ذلك ما إذا أكره شخص على شرب أحد الإنائين وكان أحدهما
نجسا والآخر نجسا ومغصوبا معا، فإن الاكراه هنا إنما يتعلق بشرب
النجس فلا يجوز للمكره - بالفتح - أن يشرب ما هو مغصوب ونجس،
وهكذا لو أكره شخص على شرب أحد المايعين وكان أحدهما خمرا

1 - حاشية المكاسب للمحقق الإيرواني: 112.
585

والآخر متنجسا، فإنه لا يسوغ له أن يختار شرب الخمر، لعدم كونه
بالخصوص موردا للاكراه، بل لا بد له من اختيار ما يكون ملاك
المبغوضية فيه أقل وأخف.
وقد انجلى لك مما ذكرناه أنه إذا أكره شخص على أحد الفعلين وكان
أحدهما مباحا والآخر حراما لم يكن المكره عليه مخيرا في الاتيان بأي
منهما، بل لا بد له من اختيار المباح، كما إذا أكره شخص على شرب أحد
الكأسين وكان أحدهما ماء والآخر خمرا، لم يجز له شرب الخمر
حينئذ بزعم تعلق الاكراه به بواسطة تعلقه بالقدر المشترك بينهما.
وإن كان كلا الأمرين عقدا أو ايقاعا أو كان أحدهما عقدا والآخر
ايقاعا، فإن كان الأثر مترتبا على أحدهما دون الآخر، بأن أكره على البيع
الصحيح أو الفاسد واختار المكره - بالفتح - انشاء البيع الصحيح حكم
بصحته لأنه لم يصدر من المكره كرها بل إنما صدر منه باختياره وطيب
نفسه، فلا وجه لبطلانه.
وإن كان الأثر مترتبا على كل منهما من غير أن يختص أحدهما
بخصوصية زائدة، كان الجامع بالنسبة إليهما متساوي الاقدام، وحينئذ
فيصير كل واحد من الأمرين مصداقا للمكره عليه، أعني به الجامع، وقد
عرفت أن مجرد كون الشئ مصداقا للمكره عليه وإن لم يوجب ارتفاع
الحكم، ولكن حيث كان المكره - بالفتح - مضطرا إلى اختيار أحدهما
فارتفع عنه الحكم من جهة الاضطرار.
وبعبارة أخرى أن الاكراه قد تعلق بداءة بالقدر المشترك بين الأمرين،
والقدر المشترك لا يتحقق إلا في ضمن أحدهما، لاستحالة وجود
الطبيعي في الخارج بدون أفراده، وإذن فالمكره مضطر إلى ايجاد أحد
الأمرين لا على التعيين لأن تركهما معا يستلزم توجه الضرر عليه، ومن
586

الظاهر أن الاضطرار يوجب ارتفاع الحكم الوضعي والتكليفي كما أن
الاكراه يوجب ذلك.
لا يقال: إن الاضطرار إلى ايقاع عقد أو معاملة لا يوجب ارتفاع أثره -
كما تقدم - فكيف يحكم بالبطلان في المقام من جهة الاضطرار.
فإنه يقال: فرق واضح بين ما نحن فيه وبين ما تقدم، حيث إن الاضطرار
هناك إنما نشأ من الجهات الخارجية، كالانفاق للزوجة وعلاج المريض
وبناية الدار وخياطة الثوب وأشباه ذلك، وبيع الدار مثلا وسيلة إلى دفع
الاضطرار، وهذا بخلاف المقام فإن الاضطرار فيه قد نشأ من الاكراه وهو
متفرع عليه، ومن ثم كان الحكم بالبطلان في المقام موافقا للامتنان
بخلاف ما تقدم.
وإذا أكره على أحد الفعلين وكان أحدهما مباحا كشرب الماء والآخر
معاملة كبيع الدار واختار المكره - بالفتح - المعاملة لم يحكم ببطلانها،
بداهة أنها لم تكن بخصوصها موردا للاضطرار، ولا متعلقا للاكراه إذ كان
للمكره أن يختار شرب الماء، فاختياره بيع الدار ناشئ من الرضاء
وطيب النفس.
3 - إذا كان الاكراه على الجامع بين البيع الصحيح والبيع الفاسد
ومن هنا اتضح لك حكم ما لو أكره على الجامع بين البيع الصحيح
والبيع الفاسد، فإن ما تعلق به الاكراه - أعني به الجامع - لا أثر له لكي
يرتفع بالاكراه، وما له الأثر - وهو الصحيح - لا اكراه عليه حتى يوجب
ارتفاع أثره، وإن كان هو أو مقابله مما لا بد من تحققه، ولكنك قد عرفت
أن مجرد اللابدية لا يوجب تحقق الاكراه وإنما يوجب تحقق الاضطرار،
ومن الواضح أن الاضطرار كما يندفع باختيار الفرد الصحيح كذلك يندفع
587

باختيار الفرد الفاسد أيضا، وعليه فاختيار الفرد الصحيح إنما نشأ من
الرضاء وطيب النفس فيحكم بصحته.
وقد اتضح لك مما ذكرناه أنه لو أكره شخص على ايجاد أحد الأمرين:
إما بيع شئ من أمواله أو أداء مال مستحق عليه، فاختاره المكره - بالفتح -
البيع لما حكم ببطلانه، وكذا لو أكره الراهن - عند حلول أجل الدين - على
بيع العين المرهونة أو بيع غيرها مما لا يستحقه المرتهن واختار الراهن
الثاني لحكم بصحته.
ومن هنا علم أنه لو أكره أحد إما على بيع داره أو على بيع دار صاحبه
فضولا فباع دار نفسه فإنه لا يحكم بفساده، إذ لا محذور عليه هنا في انشاء البيع الفضولي، لأن هذا لا يعد تصرفا في مال غيره لكي يكون من
قبيل الاكراه على أحد الأمرين الذين يكون أحدهما مباحا والآخر
محرما، بل هو بمنزلة الاكراه إما على بيع الدار أو على شرب الماء، فإذا
اختار بيع الدار وترك شرب الماء حكم بصحته لأنه لم يصدر إلا من
الرضاء وطيب النفس لا من الجبر والاكراه.
4 - إذا كان الاكراه على أحد الأمرين مع كون واحد منهما معاملة والآخر
حراما أو ترك واجب
وإذا أكره على أحد الأمرين مع كون واحد منهما معاملة كبيع الدار
والآخر حراما كشرب الخمر أو ترك واجب كالصلاة ونحوها، فالكلام
فيه يقع في جهتين: الأولى في الحكم التكليفي، والثانية في الحكم
الوضعي:
أما الجهة الأولى، فلا شبهة في حرمة الاقدام على الحرام وترك
المعاملة، بداهة أن البيع بنفسه أمر مباح كسائر المباحات الشرعية.
588

ومن الواضح أنه لا يسوغ ترك المباح والاقدام على الحرام عند دوران
الأمر بين الارتكاب أحدهما، إذ الحرام ليس بنفسه موردا للاضطرار
ولا متعلقا للاكراه بل يمكن التفصي عنه بفعل المباح، وقد عرفت ذلك
فيما سبق.
أما الجهة الثانية، فالظاهر أن يحكم ببطلان البيع مع الاقدام عليه
لصدوره من المكره كرها لا من الرضاء وطيب النفس، فيشمله دليل رفع
الاكراه.
وبعبارة أخرى أنه إذا أكره أحد إما على فعل الحرام أو على بيع داره
مثلا وترتب الضرر على ترك المكره عليه - كان متعلق الاكراه هو البيع
فقط، بداهة أن الاقدام على الحرام بنفسه ضرر مترتب على ترك البيع وإذن
فيرتفع أثر ذلك البيع بحديث الرفع، وإلى هنا انتهى الكلام في الأفراد
العرضية.
5 - إذا كان الاكراه بأحد الأمرين الطوليين
أما الناحية الثانية - أي البحث في الأفراد الطولية - فهل يجري فيها
جميع ما أسلفناه في الأفراد العرضية، أم كان حكم الاكراه والاضطرار
هنا منحصرا بالفرد الأخير، أم يفصل بين المعاملات والمحرمات
فيحكم بحرمة المبادرة إلى فعل المحرمات وبجواز الاقدام على
المعاملات.
ذهب شيخنا الأستاذ إلى الأخير، وإليك نص مقرر بحثه:
والظاهر في هذه الصورة - أي في الاكراه على الأفراد الطولية - الفرق
بين المحرمات والمعاملات، فلو كان مكرها أو مضطرا إلى شرب الخمر
موسعا فلا يجوز له المبادرة إليه في أول الوقت، سواء احتمل التخلص
589

منه لو أخره أم لم يحتمل، إذ لا بد من ارتكاب المحرم من المسوغ له حين
الارتكاب، فإذا لم يكن حين الشرب ملزما فاختياره فعلا لا مجوز له...
وأما لو كان مكرها في بيع داره موسعا فلو كان مأيوسا من التخلص عنه
فاقدامه على البيع في أول الوقت لا يخرجه عن الاكراه، وأما لو احتمل
التخلص فلو باع أول الوقت فهو مختار والفرق واضح (1).
وقد ذكر في مبحث التزاحم من علم الأصول أنه إذا كانت القدرة في
كل من الواجبين شرطا عقليا وكان أحد الواجبين أهم من الآخر فيقدم فيه
الأهم على غيره.
والسر فيه أن الأهم بما هو كذلك يصلح أن يكون معجزا مولويا
للمكلف عن الطرف الآخر دون العكس، فتكون نسبة الأهم إلى غيره
كنسبة الواجب إلى المستحب أو المباح، فكما لا يمكن أن يكون المباح
أو المستحب مزاحما للواجب، كذلك لا يمكن أن يكون المهم مزاحما
للأهم، ولا يفرق في ذلك بين كون المتزاحمين عرضيين وبين كونهما
طوليين، كما لا فرق بين كون خطاب كل من المتزاحمين الطوليين فعليا
وبين كون أحدهما فعليا دون الآخر مع تمامية ملاكه.
أقول: أما ما أفاده من القاعدة الكلية في مزاحمة الأهم والمهم فهو
متين جدا، و قد قررناه في المبحث المذكور من علم الأصول.
أما ما ذكره من التفصيل بين المعاملات وغيرها فلا يرجع إلى معنى
محصل، بداهة أن الاتيان بالفرد المتقدم مع سعة الوقت لا ينطبق عليه
عنوان المكره عليه ولا المضطر إليه لكي يرتفع حكمه، سواء أكان ذلك
من قبيل المعاملات أم كان من قبيل الأمور المحرمة، فإن الذي يترتب
عليه الضرر إنما هو ترك المجموع لا ترك خصوص الفرد الأول، وعليه

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 440.
590

فلا ملزم له في فعله، نعم إذا تركه لزمه الاتيان بالفرد الأخير من جهة ترتب
الضرر على تركه.
وعلى هذا فلو أكره أحد على بيع داره إما يوم الجمعة أو يوم السبت
فبادر إلى بيعها يوم الجمعة فإنه يحكم بصحة هذا البيع لصدوره عن
الرضاء وطيب النفس، وكذا إذا أكره على فعل المحرم إما يوم الجمعة أو
يوم الخميس فإنه لا تجوز المبادرة إلى فعل ذلك يوم الخميس، إذ لا مانع
عن توجه النهي إلى المكره عندئذ، وعليه فمتعلق الاضطرار في الأفراد
الطولية إنما هو الفرد المتأخر فقط، سواء في ذلك المعاملات وغيرها.
6 - الاكراه بأحد الأمرين في الواجبات
لا يخفى عليك أن ما ذكرناه في الأفراد العرضية والطولية جار في
الواجبات أيضا.
ومثال ذلك أنه إذا اضطر أحد إلى الافطار أو أكره عليه أما في اليوم
الأول من شهر رمضان أو في اليوم الثاني منه، فإنه لا تجوز له المبادرة إلى
الافطار في اليوم الأول منه، لعدم كونه موردا للاكراه لكي يكون مشمولا
لحديث الرفع، إذ لا يترتب الضرر على تركه وإنما يخاف من ترتب الضرر
على ترك الافطار في اليوم الثاني بعد فرض أنه صام في اليوم الأول،
فالصوم في اليوم الثاني هو الذي لا يقدر المكلف عليه دون الصوم في
اليوم الأول.
وببيان آخر أن كل يوم من أيام شهر الصيام له حكم خاص ووجوب
مستقل لا يمس بوجوب يوم آخر من تلك الأيام، ومن الواضح أن عجز
المكلف عن صوم يوم لا يرفع التكليف عن صوم يوم آخر.
وعليه فلا بد في كل يوم من ملاحظة حال المكلف فإن تمكن من
591

صومه وجب عليه ذلك لفعلية الأمر بفعلية موضوعه وإلا فلا، ومن هنا
إذا أكره أحد على الافطار في شهر رمضان إما في العشرة الأولى أو في
العشرة الثانية لم يقل أحد بكون المكلف مخيرا في ذلك بل يجب عليه
الصوم إلى أن يتعين عليه افطار يوم خاص.
عدم شمول الحكم للواجبات الضمنية
ثم إن ما ذكرناه من عدم جواز ترك الواجب فعلا - عند دوران الأمر بين
تركه وترك الواجب المتأخر - يختص بالواجبات الاستقلالية، أما
الواجبات الضمنية فلا يجري فيها ذلك، وبيانه أنه متى تعذر الاتيان
بأحد أجزاء الواجب أو قيوده سقط أصل الواجب، لكون وجوب الأجزاء
ارتباطيا وعدم تمكن المكلف من الاتيان بالواجب بتمامه.
ولا فرق في ذلك بين أن يكون الجزء المتعذر متعينا أو مرددا بين
أمرين أو أمور، فإذا أكره المكلف على ترك جزء في الركعة الأولى أو
الركعة الثانية كان مقتضى القاعدة هو سقوط وجوب أصل الصلاة لعدم
التمكن من الاتيان بتمام أجزائها، ولكن حيث علمنا بأن الصلاة لا تسقط
بحال فقد علمنا بوجوبها في الجملة.
وعليه فيدور الأمر بين أن يكون الساقط هو الجزء الأول وبين أن يكون
هو الجزء الثاني، وحينئذ فإن استفدنا من دليل الجزئية أو العبرة - في
اعتباره في الواجب - بالقدرة عليه في ظرف اعتباره فلا بد من أن يكون
الساقط هو الجزء المتأخر.
وذلك كما إذا دار الأمر بين ترك القيام في الركعة الأولى وتركه في
الركعة الثانية فإنه عندئذ يلزم القيام في الأولى، لما ورد من أن المصلي إذا
592

قوي فليقم (1)، وإن لم يثبت ذلك وصلت النوبة إلى الأصل العملي وهو
يقتضي التخيير، لأنا نعلم باعتبار أحد الأمرين لا محالة ولكن نشك في
اعتبار خصوص الأول فيدفع احتمال اعتباره بأصالة البراءة.
وهذا الذي ذكرناه جار في جميع موارد دوران الأمر بين ترك جزء
وترك جزء آخر، وكذلك بين ترك جزء وترك شرط، أو ترك شرط وترك
شرط آخر.
هذا كله فيما إذا لم يعلم من الخارج تعين الأخذ بأحدهما وإلا لزم
الأخذ به ويسقط الآخر، وذلك كما إذا دار الأمر بين الوقت وغيره، أو
بين الطهور وغيره، فإنه حينئذ لا اشكال في أن الساقط يكون غير الوقت
والطهور، كما أنه إذا دار الأمر بين الطهور والوقت كان الساقط هو الوقت
وتمام الكلام في محله.
7 - اكراه أحد الشخصين على فعل واحد
قد ذكر المصنف: أن اكراه أحد الشخصين على فعل واحد بمعنى
إلزامه عليهما كفاية وايعادهما على تركه كاكراه شخص واحد على أحد
الفعلين في كون كل منهما مكرها.
تحقيق ذلك: أن الاكراه قد يتعلق بفعل محرم، وقد يتعلق بمعاملة:

1 - الأصل في ذلك ما رواه زرارة - في المستحاضة - عن الصادق (عليه السلام)، من أنها تصلي
ولا تدع الصلاة على حال، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: الصلاة عماد دينكم (الكافي 3: 99، التهذيب
1: 173، عنهما الوسائل 2: 373)، صحيح.
عن جميل بن دراج قال: سألت أبي عبد الله (عليه السلام) ما حد المرض الذي يصلي صاحبه قاعدا،
فقال: إن الرجل ليوعك ويحرج، ولكنه إذا قوي فليقم (الكافي 3: 410، التهذيب 1: 177)،
صحيح.
ليوعك: ليحم، الوعك: الحمي.
593

أما الأول، فكاكراه أحد الشخصين على فعل محرم والايعاد على
تركه بالضرر، فإن علم أحدهما أو اطمأن بأن الآخر لا يفعله، إما لتمكنه
من دفع الضرر المتوجه عليه أو لتوطين نفسه عليه، جاز له الاتيان بالمكره
عليه لخوفه من توجه الضرر عليه، بل لو احتمل احتمالا عقلائيا بأن
الآخر يفعله فخاف من الضرر على تركه جاز له الارتكاب لدفع الضرر عن
نفسه، أما إذا علم أو اطمأن بأن الآخر يرتكب المكره عليه، إما لعدم
مبالاته في الدين أو لخوفه من توجه الضرر عليه حرم عليه ارتكابه.
والسر في ذلك أن الأحكام الشرعية وإن كانت مجعولة على نحو
الكلية ولكنها منحلة إلى الأحكام الجزئية باعتبار تعدد موضوعاتها
الشخصية، وعليه فكل فرد من أفراد المكلفين له حكم مستقل غير
مربوط بحكم المكلفين الآخرين.
وحينئذ ففي ما نحن فيه، إن خاف كل واحد من الشخصين من ترتب
الضرر على تركه ارتكاب الحرام شمله حديث الرفع ويحكم بإباحة
الفعل الصادر منه وإلا يكون مشمولا لدليل التحريم فيحكم بحرمة ما
ارتكبه من الفعل.
أما الثاني، فقد يكون متعلق الاكراه عقدا واحدا وقد يكون متعلقه
عقدين:
أما الأول، فلا شبهة في بطلانه، كما إذا أكره الجائر أحدا من الوكيل أو
الموكل على بيع خاص، ووجه البطلان أن الوكيل والموكل وإن كانا
متعددين خارجا ولكن الصادر من أي منهما مملوك لشخص واحد وهو
الموكل، وعليه فمتعلق الاكراه أمر وحداني غير متعدد بتعدد
الأشخاص، وإذن فشأن ذلك شأن اكراه الشخص الواحد على ارتكاب
فعل فأرد.
594

ومن هنا اتضح لك الفارق بين ما نحن فيه وبين ما تقدم، أعني به اكراه
شخص واحد على أحد العقدين، بداهة أن بطلان العقد هناك من جهة
الاضطرار إلى أحد البيعين بخلافه هنا، فإن البطلان فيه من جهة الاكراه،
وهذا واضح.
أما الثاني، فيأتي فيه ما ذكرناه في اكراه أحد الشخصين على فعل
محرم، وعليه فإن علم كل منهما أو اطمأن بصدور العقد من الآخر حكم
بصحته إذا صدر منه لعدم كونه مكرها في فعله وترتب عليه جميع آثاره
الوضعية والتكليفية، وإن علم أو اطمأن أو احتمل احتمالا عقلائيا بأن
الآخر لا يفعله حكم ببطلانه لأنه صدر منه كرها فيكون مشمولا لحديث
الرفع.
وقد ظهر لك مما ذكرناه أنه لا وجه للأخذ باطلاق كلام المصنف
والحكم بأن اكراه أحد الشخصين على فعل واحد كاكراه شخص واحد
على أحد الفعلين في كون كل منهما مكرها، فلاحظ وتأمل.
8 - تعلق الاكراه بالمالك دون العاقد
قوله (رحمه الله): واعلم أن الاكراه قد يتعلق بالمالك.
أقول: قد يتعلق الاكراه بالمالك العاقد، وقد يتعلق بالمالك دون
العاقد، وقد يتعلق بالعاقد دون المالك.
أما الأول، فقد تقدم تفصيله آنفا، وعرفت أنه يحكم ببطلان العقد
الاكراهي لحديث الرفع.
أما الثاني كالاكراه على التوكيل بطلاق زوجه ووقوع الطلاق من
الوكيل من غير اكراه، فلا شبهة في عدم استناد الطلاق عندئذ إلى الزوج
لحديث الرفع، وعليه فيكون التوكيل بمنزلة العدم لتحققه بدون رضاء
595

الموكل، وعلى هذا فإن لم تلحق الإجازة بالطلاق حكم بفساده جزما
وإن لحقت به الإجازة، فإن قلنا بصحة الايقاعات الفضولية حكم بصحة
الطلاق وإلا فلا.
ولا يفرق في ذلك بين لحوق الرضاء والإجازة بالتوكيل الاكراهي
وعدمه، أما بناءا على كون الإجازة ناقلة فواضح، بديهة أن التصرفات
الصادرة من الوكيل قبل إجازة الموكل بمنزلة التصرفات الصادرة من
الأجانب، غاية الأمر أنه بعد التحاق الإجازة بالوكالة حكم بصحة الوكالة
ولا تحتاج إلى التوكيل ثانيا، أما بناءا على كون الإجازة كاشفة فإن الطلاق
وإن لم يكن فضوليا بالمعنى المصطلح عليه إلا أنه فضولي حقيقة فإنه قد
صدر ممن تتوقف وكالته على الإجازة وقد فرضنا أن الايقاع لا يصح
بالإجازة.
وعلى الجملة أن صدور العقد أو الايقاع من الوكيل بالرضاء وطيب
النفس لا يكفي في صحة ذلك مع كون التوكيل اكراهيا.
9 - تعلق الاكراه بالعاقد دون المالك
أما الثالث وهو اكراه العاقد، فقد ذكر المصنف (رحمه الله) أن الأقوى هنا
الصحة، لأن العقد هنا من حيث إنه عقد لا يعتبر فيه سوي القصد
الموجود في المكره إذا كان عاقدا والرضاء المعتبر من المالك موجود
بالفرض، فهذا أولى من المالك المكره على العقد إذا رضي لاحقا.
والتحقيق أن هنا صورا:
الأولى: أن يكون الاكراه من المالك وكان العاقد مكرها عليه في انشائه، والظاهر
أنه لا اشكال في صحة العقد حينئذ، فإن المعتبر في
صحة العقد أن يصدق عليه أنه تجارة عن تراض من المالكين، كما يدل
596

عليه قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل (1)، فلا أثر لرضاء
الأجنبي وعدمه، والعاقد غير المالك أجنبي فلا أثر لعدم رضاه وكونه
مكرها في انشاء العقد.
وقد يتوهم أن حديث الرفع يدل على عدم ترتب الأثر على هذا العقد،
ولكنه توهم فاسد، ضرورة أنه ليس هنا أثر مترتب على فعل المكره عليه
بالإضافة إليه حتى يرتفع بحديث الرفع، أما بالنسبة إلى المالك فلا اكراه
على أن رفع الأثر بالإضافة إلى المكره عليه خلاف الامتنان.
الثانية: أن يكون الاكراه من غير المالك لغير الوكيل من المالك، والعقد
في هذه الصورة فضولي فتتوقف صحته على الإجازة والوجه فيه ظاهر.
الثالثة: أن يكون الاكراه من غير المالك ولكن المكره يكون وكيلا
مفوضا من قبل المالك، والظاهر أن يحكم ببطلان المعاملة في هذه
الصورة فيما إذا لم يعلم رضاء المالك بالعقد، وذلك لأن المعتبر في
صحة العقد هو استناده إلى المالك، فلو لم يكن الوكيل مكرها كان رضاه
بمنزلة رضاء المالك وانتسب العقد إليه، أما إذا كان الوكيل مكرها فهو
غير راض بالعقد، والمفروض أنه لا كاشف آخر عن رضاء المالك.
نعم إذا علم رضاء المالك حكم بصحة العقد، لأن رضاء الوكيل إنما
يعتبر بما أنه طريق وكاشف عن رضاء الموكل من جهة توكيله، فلو علم
رضاء الموكل مع صدور العقد من الوكيل حكم بصحته.
ومن هنا اتضح لك أنه لا وجه لقياس ما نحن فيه بالمجنون، لأن
المجنون مسلوب العبارة فلا تأثير في عقده، وهذا بخلاف المكره فإنه
ليس بمسلوب العبارة.

1 - النساء: 29.
597

10 - اختلاف متعلق العقد الصادر من المكره مع ما تعلق به الاكراه
قوله (رحمه الله): فرع: ولو أكرهه على بيع واحد غير معين من عبدين فباعهما أو باع
نصف أحدهما ففي التذكرة (1) اشكال.
أقول: العقد الصادر من المكره - بالفتح - قد يكون متحدا مع ما تعلق به
الاكراه، وقد يباينه، وقد يزيد عليه، وقد ينقص منه، فهنا صور:
أما الصورة الأولى، فقد تقدم الكلام فيه.
أما الصورة الثانية، فلا ينبغي الاشكال في صحة العقد فيها، لأن ما
تعلق به الاكراه لم يتحقق في الخارج وما تحقق فيه ليس بمكره عليه،
وذلك كما إذا أكرهه على بيع داره فباعه كتابه، نعم إذا كان بيع الكتاب
لأجل احتمال أن يقنع المكره - بالكسر - به فيرفع اليد عن اكراهه كان باطلا
لا محالة، وذلك لفقدانه طيب النفس وأنه من جهة الاضطرار.
وبعبارة أخرى أنه إذا كان بيع الكتاب لأجل أن يرفع المكره يده عن
الاكراه على بيع الدار تعيينا، ورضي ببيع أحد الأمرين من الدار والكتاب
وقد رضي المكره - بالكسر - أيضا بذلك، كان البيع الواقع بغير طيب
النفس لا محالة فيحكم بفساده.
أما الصورة الثالثة، فقد يقع العقد فيها تدريجا، كما إذا أكرهه على بيع
أحد عبديه فباع أحدهما ثم باع الآخر، وقد يقع دفعيا كما إذا باعهما
دفعة واحدة، أما إذا باعهما تدريجا فلا شبهة في بطلان البيع الواقع أولا،
ضرورة أن المكره عليه إنما هو عنوان أحدهما، ومن الواضح أن انطباقه
على أول أمر قهري، أما البيع الثاني فيحكم بصحته جزما إذ الاكراه قد
ارتفع بالبيع الأول فيقع الثاني برضاء المالك وطيب نفسه، وهذا ظاهر.

1 - التذكرة 1: 462.
598

ولكن احتمل المصنف أنه يرجع إلى البائع في استيضاح المكره عليه
وميزه عن غيره، سواء ادعى البائع العكس أم لا.
ويتوجه عليه أنه لم يبق موضوع للاكراه بعد تحقق العقد الأول لكي
يحتمل وقوع العقد الثاني عن كره حتى يرجع إلى البائع في التعيين بل
لا يبعد صحة البيع الثاني حتى فيما إذا كان بيعه متفرعا على الاكراه ومن
تبعات البيع الأول، كما إذا أكرهه الجائر على بيع أحد مصراعي الباب
فباعه ثم باع المصراع الثاني فإن بيع المصراع الثاني وإن كان لأجل عدم
الانتفاع به وحده ومن تبعات البيع الأول لكنه حيث وقع عن الرضاء وبغير
الكره فيحكم بصحته.
أما إذا باع المكره عليه وغيره دفعة، كما إذا باع العبدين مرة واحدة،
فإن لم يكن البيع من جهة الاكراه بل كان من جهة طيب النفس، كما إذا
فرضنا أنه كان راغبا إلى بيع عبديه فأكرهه الجائر على بيع أحدهما فاغتنم
الفرصة فباعهما، فلا اشكال في صحة البيع.
أما إذا كان البيع من جهة الاكراه ولولاه لم يكن يقدم عليه، ففي صحته
أو فساده مطلقا، أو الصحة في غير المقدار المكره عليه وجوه، قد ذهب
المصنف إلى صحة البيع في المجموع، بدعوى أن ما تعلق به الاكراه
لم يقع في الخارج وما وقع فيه لم يتعلق به الاكراه.
ولكنه يندفع بأن بيع المجموع وإن لم يقع عن اكراه إلا أن بيع أحدهما
وقع عن اكراه لا محالة، ولولاه لم يقدم على البيع أصلا - كما هو
المفروض - فلا وجه لصحة البيع في الجميع، أما وجه الفساد مطلقا فهو
أن المكره عليه لا تعين له في الواقع وأن نسبته إلى كل من الفردين على
حد سواء، والحكم بفساد أحدهما معينا دون الآخر ترجيح بلا مرجح.
ولكن الصحيح أن يحكم بفساد البيع بالنسبة إلى المقدار المكره عليه،
599

ويحكم بصحته بالنسبة إلى المقدار الزائد عليه ويتعين الفاسد بالقرعة.
قيل: إن القرعة إنما يرجع إليها فيما إذا كان المطلوب متعينا واقعا
ومجهولا ظاهرا، ومن الواضح أن المكره عليه مردد بين الأمرين ظاهرا
وواقعا من غير أن يكون له تعين في مرحلة من المرحلتين.
والجواب عن ذلك أن مورد القرعة غير منحصر فيما ذكر، بل هي
تجري في كل أمر مشكل أو مشتبه لاطلاق أدلتها، ومن هنا أطبق الفقهاء
(قدس سرهم) على الرجوع إلى القرعة فيما إذا طلق شخص أحدي زوجاته من غير
تعيين، مع أن المطلقة لا تعين لها لا واقعا ولا ظاهرا، ومقامنا من القبيل
المذكور.
ونظير ما ذكرناه من التفصيل قد وقع في المحرمات أيضا، كما إذا أكره
الجائر أحدا على أن يشرب إما الخمر أو البول فشربهما، فإنه يعاقب
على أحد الشربين جزما لوقوعه بالإرادة والاختيار.
أما الصورة الرابعة، وهي بيع ما يكون أنقص من المكره عليه،
فالتحقيق فيها أن البيع المزبور قد يكون مستندا إلى الرضاء وطيب النفس
بحيث لو لم يكن في البين اكراه أيضا لكان راضيا ببيعه ولا شبهة في صحة
ذلك، وقد يكون بيع النصف لرجاء أن المكره - بالكسر - يكتفي بذلك
ولا يكرهه على بيع مجموع الدار، ولا شبهة في بطلان البيع وقتئذ
لحديث الرفع، بداهة أن الاكراه شامل لبيع كل جزء من أجزاء الدار على
سبيل الاستغراق، وعليه فيكون الاكراه على بيع مجموع الدار اكراها
على بيع نصفها.
نظير ما لو أكره أحد على بيع دارين فباع أحدهما فإنه لا شبهة في
الحكم بوقوعه عن اكراه، ولا وجه للفرق بينه وبين ما لو أكره على بيع دار
واحدة فباع نصف تلك الدار، وقال المصنف وفي سماع دعوى البائع
600

ذلك مع عدم الأمارات نظر، ولعل وجه النظر هو أن ما نحن فيه من قبيل
ما لا يعلم إلا من قبل المدعي فتسمع دعواه.
ومن أن الظاهر أن هذا العقد واقع باختياره فلا تسمع دعواه الاكراه،
ولكنك قد عرفت أن الاكراه على المجموع اكراه على بعضه خارجا،
والاكراه بنفسه أمارة على عدم وقوع البيع عن الرضاء وطيب النفس.
ونظير ذلك ما إذا أكره الجائر أحدا على شرب كمية خاصة من الخمر
فشرب نصفه برجاء أن يقتنع المكره ويرفع اليد عن اكراهه.
بحث في طلاق المكره إذا نواه
قوله (رحمه الله): بقي الكلام فيما وعدنا ذكره من الفرع المذكور في التحرير، قال في
التحرير: لو أكره على الطلاق فطلق ناويا فالأقرب وقوع الطلاق - انتهى (1).
أقول: قبل التعرض لشرح كلام العلامة وبيان صحته أو بطلانه يحسن
بنا التعرض لصور المسألة، وإليك ما يلي:
1 - أن يكون الطلاق الصادر من المكره - بالفتح - مقترنا بالرضاء وطيب
النفس من دون أن يستند وقوعه إلى الاكراه بل يقترن الطلاق بالاكراه زمانا
فقط، وذلك كما إذا بني الزوج على طلاق زوجه وأكرهه الجائر عليه مع
جهله بحاله، فإنه لا شبهة حينئذ في صحة طلاقه لوقوعه عن الرضاء.
2 - أن يستند صدور الطلاق إلى الكره وأوقعه المكره - بالفتح - خوفا
من الضرر المتوعد عليه، ولكن مع ذلك ليس قصد المكره إلا ايقاع
الطلاق حقيقة، إما من ناحية الجهل ببطلان طلاق المكره أو من جهة
الاعتقاد بصحة طلاقه (2).

1 - التحرير 2: 51.
2 - كما عن الحنفية، وقد ذكرنا رأيهم فيما مر.
601

وقد تردد المصنف في الحكم بصحته وفساده ثم قال: إلا أن تحقق
الاكراه أقرب، والظاهر أن يحكم ببطلان الطلاق هنا أيضا لأن المناط في
صحة العقود والايقاعات صدورها عن الرضاء وطيب النفس، ومن
الظاهر أن الطلاق المزبور ليس كذلك.
وتدل على ما ذكرناه صحيحة البزنطي عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل
يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه
ذلك، فقال: لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه (1).
ووجه الدلالة هو أن الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة وإن كان باطلا
عندنا مع الاختيار أيضا إلا أن استشهاد الإمام (عليه السلام) على عدم وقوع
الأمور المذكورة بحديث الرفع دليل على بطلان الطلاق الاكراهي، وهذا
ظاهر.
ثم إنه لا يفرق في بطلان الطلاق عن كره بين أن يرجع الضرر المتوعد
عليه إلى نفس المكره - بالفتح - أو إلى عرضه وشرفه أو إلى ماله أو إلى من
يهمه أمره من عشيرته وأقاربه ونحو ذلك، كأن يقول الجائر لأحد: طلق
زوجك وإلا قتلتك، أو قتلت ابنك وعشيرتك، أو أخذت أموالك، أو
يخوفه بأشباه ذلك مما يضر المكره - بالفتح -، أما إذا لم يكن الضرر راجعا
إلى المكره - بالفتح - كما إذا قال له الأجنبي: بعني دارك وإلا قتلت نفسي
أو ارتكب معصية، فلا يتحقق في مثله الاكراه جزما.
ثم إن بطلان الطلاق في هذه الصورة يختص بما إذا لم يتمكن من
التورية، وإلا فالأقرب وقوعه، على ما عرفته من اعتبار العجز عن التورية
في تحقق الاكراه موضوعا وحكما، ولعل هذه الصورة هي مراد العلامة
(رحمه الله) حيث قرب وقوع الطلاق إذا كان المكره ناويا، نعم بناء على عدم

1 - نوادر أحمد بن محمد بن عيسى: 75، المحاسن: 339، عنهما الوسائل 23: 237.
602

اعتبار العجز عن التورية في موضوع الاكراه أو حكمه حكم بفساد الطلاق
أيضا.
3 - أن يكون الاكراه مقتضيا لوقوع الطلاق وجزء سبب لتحققه في
الخارج ويكون جزؤه الآخر الرضاء، وعليه فيكون صدور الطلاق من
المكره - بالفتح - مستندا إلى أمرين: أحدهما الرضاء والآخر الاكراه،
وبانتفاء أحدهما ينتفي الطلاق.
ولكن الظاهر هو بطلان الطلاق في هذه الصورة أيضا، لأن المناط في
بطلان عقود المكره وايقاعاته هو عدم وجود ما يقتضي الصحة، لأن
الأدلة الدالة على اعتبار الرضاء في العقود و الايقاعات ظاهرة في كون
الرضاء سببا مستقلا لصدورها لا جزءا لذلك، وعليه فإذا اقترن الرضاء
بالاكراه واجتمع معه استند الفعل إليهما لا إلى الرضاء فقط، وحينئذ
فالاكراه وإن لم يقتض الفساد إلا أن ما يقتض الصحة أيضا غير متحقق،
لعدم صدور الطلاق عن الإرادة والرضاء.
4 - أن يكون كل واحد من الرضاء والاكراه علة تامة وسببا مستقلا في
نفسه لوقوع الطلاق، بحيث لو لم يكن هنا اكراه لوقع الطلاق أيضا وهكذا
العكس، والظاهر أنه لا شبهة في صحة الطلاق عندئذ لوجود المقتضي
أعني به الرضاء وطيب النفس، ولا تقاس هذه الصورة بالصورة السابقة
في الحكم ببطلانه، لما عرفته من عدم المقتضي للصحة في الصورة
السابقة بخلاف هذه الصورة، فإن ما يقتضي الصحة فيها موجود كما
عرفته قريبا.
وقد اتضح لك مما ذكرناه فساد ما ذكره شيخنا الأستاذ من أنه: حيث
لا يمكن توارد علتين مستقلتين على معلول واحد فيصير كل واحدة إذا
اجتمعتا جزء السبب والفعل يستند إليهما معا، وكل علتين مستقلتين إذا
603

وردتا على معلول واحد وكان بينهما تدافع فلا يؤثر كل منهما - الخ (1).
ووجه الظهور أن الاكراه لا يقتضي الفساد لكي يكون المقام من قبيل
توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد، بل مع وجود الاكراه ينعدم
ما يقتضي الصحة وإذا تحقق الرضاء وجد ما يقتضي الصحة، وعليه
فيكون المقام من قبيل تعارض ما يقتضي الشئ مع ما لا يقتضيه، لا من
قبيل تعارض المقتضيين.
ويضاف إلى ذلك أن الحكم ببطلان الطلاق هنا على خلاف الامتنان
لكون المطلق راضيا به وغير مهجور عن فعله فلا يكون مشمولا لحديث
الرفع.
5 - أن يكون الاكراه داعيا إلى وقوع الطلاق لا علة تامة لذلك ولا جزء
سبب له، بأن استند الطلاق إلى الاكراه طوليا كما إذا أكره على الطلاق
ولكن وطن نفسه عليه ورضي به من جهة الاكراه تكوينا.
ففي هذه الصورة يحتمل الصحة لأن الطلاق وقع عن إرادة ورضاء،
ويحتمل البطلان لأن الشئ يستند إلى أسبق علله فالطلاق مستند إلى
الاكراه بالآخرة، ومع الاغماض عنه فلا شك في الصدق العرفي وأن
الطلاق وقع مكرها عليه، وهذا الاحتمال هو الأقرب، ولعل هذه الصورة
هي مراد العلامة حيث حكم بصحة الطلاق ناويا، والله العالم.
بحث في الرضاء اللاحق بالعقد الاكراهي
قوله (رحمه الله): ثم المشهور بين المتأخرين (2) أنه لو رضي المكره بما فعله صح العقد.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 427.
2 - كالمحقق في الشرايع 2: 14، والعلامة في القواعد 1: 1204، والتحرير 1: 164،
والشهيد في الدروس 3: 192، واللمعة: 110، والشهيد الثاني في المسالك 3: 155، واللمعة
3: 226.
604

أقول: قد وقع الخلاف بين الأعلام في أن الرضاء اللاحق بالعقد
الاكراهي يوجب صحته أم لا.
فذهب بعضهم إلى الأول، بل عن الرياض تبعا للحدائق (1) أن عليه اتفاق
العلماء لأنه عقد حقيقي فيؤثر أثره مع اجتماع باقي شرائط البيع وهو
طيب النفس.
وذهب بعضهم إلى بطلان ذلك لوجوه:
1 - إن الرضاء بالعقد مأخوذ في مفهومه، فإذا فقد الرضاء لم يكن هنا
عقد ليحكم بصحته.
ويرد عليه أنه لا شاهد لهذه الدعوى من العرف واللغة، على أن لازم
ذلك أن لا يكون العقد الفضولي وعقد المكره بحق من العقود حقيقة مع
أنها من العقود بالحمل الشايع.
2 - اعتبار رضاء العاقد في تأثير عقده.
ويرد عليه أن لازمه أن لا يصح عقد المكره بحق مع أنه صحيح جزما،
كما إذا أكرهه الحاكم الشرعي على بيع أمواله ليعطي الناس حقه أو أكره
المحتكر على بيع ما احتكره عند المجاعة، فإن الاكراه في أمثال ذلك
اكراه بحق لا يمنع عن نفاذ البيع.
3 - إن مقارنة الرضاء للعقد مأخوذة في صحته.
ويرد عليه أن هذا وإن كان ممكنا في مقام الثبوت ولكن لا شاهد عليه
في مقام الاثبات، لأن ما يمكن أن يستدل به على ذلك وتقيد به المطلقات
الدالة على صحة العقود إما الاجماع أو العقل أو آية التجارة عن تراض

1 - الرياض 1: 511، الحدائق 18: 373.
605

أو الروايات الدالة على حرمة التصرف في مال المسلم بدون إذنه ورضاه
أو حديث الرفع.
ولكن لا دلالة في شئ منها على ما يرومه المستدل:
أما الاجماع والعقل، فلأنهما من الأدلة اللبية، ومن الواضح أن القدر
المتيقن منهما إنما هو اعتبار مطلق الرضاء في صحة العقد أعم من المقارن
واللاحق.
أما الآية المباركة أو الروايات الدالة على حرمة أكل مال المسلم من
دون رضاه، فلأنها تدل على توقف حلية المال ونقله إلى غيره على تحقق
الرضاء من المالك، ومن الظاهر أنا نلتزم بذلك حيث لا نحكم بالحلية إلا
بعد الرضاء وطيب النفس، غاية الأمر أنا لا نخصص الرضاء بالرضاء
المقارن بل نعممه إلى الرضاء اللاحق أيضا، بديهة أن التخصيص
بخصوص المقارن تقييد للأدلة الدالة على اعتبار الرضاء في حلية المال
ونقله إلى غيره.
وعلى الجملة إن الظاهر من تلك الأدلة هو أن الرضاء معتبر في أصل
حلية المال ونقله إلى غيره، سواء فيه الرضاء المقارن واللاحق لا أنها
مختصة بخصوص الرضاء المقارن بل التخصيص بذلك تقييد لها بلا
مقيد.
قيل: إن ظاهر الآية المباركة أن التجارة لا بد وأن تكون مسببة عن
الرضاء وناشئة منه، وعليه فلا بد من اقترانه بالعقد ولا يكفي لحوقه به،
لأنه إذا انعقد فاسدا ابتداءا لم ينقلب بعد ذلك عما هو عليه.
ومن هنا يظهر أنه لا وجه لقياس المقام بالعقد الفضولي المتعقب
بالرضاء والإجازة من المالك، فإن العقد الفضولي لا ينتسب إلى المالك
إلا حين إجازته فهو حين ما ينتسب إلى المالك ينشأ من طيب نفسه
606

ورضاه، وهذا بخلاف عقد المكره فإنه حين صدوره من المالك وانتسابه
إليه قد حكم عليه بالفساد ولم يصدر منه عقد ثانيا، وإنما رضي بالعقد
السابق وهو لا ينقلب عما هو عليه.
ولكن الصحيح هو تأثير الإجازة اللاحقة والرضاء المتأخر في المقام
أيضا، بيان ذلك أن التجارة بالمعنى المصدري وإن كان أمرا يحدث
ويفني إلا أنها بمعنى اسم المصدر له بقاء، وبهذا المعنى أمرنا بانهاء
العقد واتمامه، وعليه فالتجارة الصادرة من المكره إذا تعقبها الرضاء
والإجازة يصدق عليها أنها تجارة عن تراض.
ومما يدل على ذلك أن الآية المباركة واضحة الدلالة على أن سبب
أكل مال الغير منحصر في أمرين: الأسباب الباطلة والتجارة عن تراض،
ولا ريب في أنه لا يكون الأكل في محل الكلام أكلا بالباطل فيكون من
جهة التجارة عن تراض.
ثم إن المصنف قد التزم بعدم اعتبار مقارنة الرضاء للعقد، بأن دلالة
آية التجارة على ذلك، إما بمفهوم الحصر أو بمفهوم الوصف:
أما الأول، فهو منفي في المقام، بداهة أن الدلالة على الحصر إنما
يكون إذا كان الاستثناء في تلك الآية متصلا، ومن الواضح أن الاستثناء
فيها منقطع إذ التجارة عن تراض ليست داخلة تحت الأسباب الباطلة
للتجارة لكي يكون خروجها عنها بعنوان الاستثناء المتصل.
أما الثاني، فلأن مفهوم الوصف على القول به إنما يثبت فيما إذا لم يرد
الوصف مورد الغالب وإلا فلا مفهوم له، ومن الواضح أن الوصف في
الآية الشريفة قد ورد مورد الغالب لا للاحتراز - انتهى ملخص كلامه.
ويرد عليه:
أولا: إن انكار مفهوم الحصر هنا مناف لما استدل هو (رحمه الله) بالآية
607

المذكورة على لزوم العقود، ومن المعلوم أن استدلاله بها على ذلك
لا يتم إلا على فرض دلالتها على الحصر، لأن الأكل بفسخ العقد لا يحرم
إلا بعدم كونه تجارة عن تراض وإذن فالأكل المحلل منحصر بالتجارة عن
تراض.
ثانيا: إنا ذكرنا مرارا أن دخول باء السببية على كلمة الباطل ومقابلتها
في الآية مع التجارة عن تراض قرينتان على توجه الآية إلى فصل الأسباب
الصحيحة للمعاملة عن الأسباب الباطلة لها، كما أن المراد من كلمة الأكل
في الآية ليس هو الازدراد الذي هو معناه الحقيقي وإنما هي كناية عن
تملك مال غيره من غير استحقاق.
وعليه فإن كان الاستثناء في الآية المباركة متصلا - كما هو الظاهر
الموافق للقواعد العربية - يكون مفاد الآية هو المنع عن تملك أموال
الناس بشئ من الأسباب، إلا أن يكون ذلك السبب تجارة عن تراض فإن
الأكل بغيره باطل وبغير حق، فتدل الآية على حصر الأسباب الصحيحة
للمعاملات بالتجارة عن تراض.
وإن كان الاستثناء منقطعا فالآية وقتئذ وإن لم تكن ظاهرة في الحصر
ابتداء، إلا أنه تعالى لما كان في مقام بيان الأسباب المشروعة للمعاملات
وفصل صحيحها عن فاسدها وكان الاهمال مخلا بالمقصود فلا محالة
يستفاد الحصر من الآية الكريمة بالقرينة المقامية، وإذن فالآية الشريفة
تدل على حصر الأسباب الصحيحة للمعاملات بالتجارة عن تراض،
سواء أكان الاستثناء متصلا أم كان منقطعا، وأما غير التجارة عن تراض
من سائر أسباب المعاملات فهو باطل.
ومن هنا يظهر أنه لا يتوقف الاستدلال بالآية على اعتبار مقارنة الرضاء
للعقد على كون الاستثناء متصلا كما هو الظاهر، ولا على الالتزام بمفهوم
608

الوصف وأن الحكم المذكور في القضية لم يثبت للجامع بين واجد
الوصف وفاقده كما هو الصحيح، وإذن فلا يبقي لمناقشة المصنف
مجال.
وعليه فالصحيح ما ذكرناه، من أنه لا دلالة في الآية إلا على عدم جواز
الأكل ما دام التراضي غير موجود، فإذا وجد الرضاء من المكره انقلبت
التجارة إلى التجارة عن تراض فلا يكون الأكل بسببها أكلا بالباطل.
أما حديث الرفع، فلا يدل إلا على عدم ترتب الأثر على بيع المكره
مثلا ما دام الاكراه فإذا ارتفع الاكراه وتبدل بالرضاء لم يكن مانع من
التمسك بالعمومات الدالة على صحة العقود من بيع أو غيره، فإنا حققنا
في محله أنه إذا ورد عام ثم خصص بمخصص في زمان خاص لم نرفع
اليد عن ذلك العام إلا بمقدار دلالة المخصص.
وعليه ففي ما نحن فيه أن عمومات صحة المعاملات قد خصصت
بحديث الرفع، ومن الظاهر أنا نرفع اليد عن تلك العمومات بمقدار زمان
الاكراه ويبقي الباقي تحت العام.
ومع الاغماض عن ذلك نقول: إن حديث الرفع حيث ورد في مقام
الامتنان فلا يدل إلا على رفع حكم يكون جعله مخالفا للامتنان ويكون
رفعه موافقا له، أما إذا كان رفع الحكم مخالفا للامتنان وكان جعله موافقا
له كصحة البيع عند الاضطرار فإن رفع أثر البيع وقتئذ مخالف للامتنان
ووضعه موافق له فهو لا يكون مشمولا لحديث الرفع.
ومن هنا يظهر أنه إذا كان الحكم لا يعد في نفسه وطبعه موافقا للامتنان
ولا مخالفا له بل كانت مخالفته للامتنان وموافقته له باعتبار حصصه
وأفراده فلا محالة كان المجعول ما هو موافق للامتنان ويرفع ما هو
مخالف له.
609

ولا شبهة في أن ما نحن فيه من القبيل الثالث، بديهة أن الحكم بترتب
الأثر على العقد المكره عليه من حين حدوثه مخالف للامتنان فيرتفع
بحديث الرفع، ولكن الحكم بترتب الأثر عليه بقاء أي بعد لحوق الرضاء
به موافق للامتنان فلا يكون مشمولا لحديث الرفع.
وبعبارة أخرى الحكم بصحة العقد غير المقترن بالرضاء ولا الملحوق
به مخالف للامتنان فهو غير مجعول لحديث الرفع، أما العقد المكره عليه
الملحوق بالرضاء فلا امتنان في رفع أثره والحكم بعدم صحته من حين ما
رضي المالك به فلا يشمله حديث الرفع الوارد في مورد الامتنان.
المناقشة في التمسك بحديث الرفع لاعتبار الرضاء المقارن في صحة العقد
ثم أجاب المصنف عن التمسك بحديث الرفع لاعتبار الرضاء المقارن
في صحة العقد بوجهين:
الوجه الأول: إن حديث الرفع إنما يرفع المؤاخذة لأنه وارد في مقام
الامتنان، ورفع المؤاخذة عن المكلف منة عليه فترتفع بحديث الرفع، أما
الحكم بوقوف عقد المكره على الرضاء راجع إلى أن له أن يرضى بذلك
فيكون هذا حقا له لا عليه، وحينئذ فرفع الأثر عن عقده بعد تعقبه بالرضاء
علي خلاف الامتنان فلا يكون مشمولا لحديث الرفع - انتهى ملخص
كلامه في الوجه الأول.
ويرد عليه أن المرفوع بحديث الرفع هو نفس المجعول الشرعي
المتعلق بالمكره عليه أو المترتب عليه من الحكم التكليفي أو الوضعي،
وعليه فدعوى أن المرفوع هو المؤاخذة والزام المكره بما صدر منه
دعوى غير صحيحة، وإن شئت قلت: إن المرفوع بحديث الرفع في
العقد الاكراهي هو صحة العقد لكنه لا على الاطلاق لأنه على خلاف
610

الامتنان بل ما دام الاكراه باقيا، فإذا تعقب بالرضاء كان مشمولا
للاطلاقات، أما توقف عقد المكره على الرضاء المتأخر فهو لم يكن
مجعولا حتى يقال إنه حكم له لا عليه فلا يشمله حديث الرفع، لأن
المرفوع به المؤاخذة والأحكام المتضمنة الالزام المكره بشئ.
الوجه الثاني: إن أدلة صحة المعاملات تقتضي باطلاقها ترتب الأثر
على العقد بمجرد تحققه في الخارج وحكومة حديث الرفع على الأدلة
المذكورة تقتضي رفع السببية المستقلة عن العقد المجرد عن الرضاء
وترتيب هذه السببية على العقد الصادر لا عن اكراه، ولا ينافي ذلك كون
العقد جزء السبب ووقوف تأثيره على الرضاء المتأخر - انتهى ملخص
كلامه في الوجه الثاني.
ولكنه ناقش في ذلك بما حاصله: أن المطلقات الدالة على السببية
المستقلة إذا قيدت بما إذا صدر العقد من غير اكراه لم يبق هنا ما يدل على
صحة عقد المكره فيما إذا تعقبه الرضاء، وعليه فالمرجع عندئذ هو
الأصل وهو يقتضي الفساد، ثم ذكر أن حديث الرفع لا يمكن أن يكون
حاكما على المطلقات فلا مانع من التمسك بها لصحة عقد المكره
المتعقب بالرضاء.
وبيان ذلك أن المطلقات قد قيدت بالأدلة الأربعة، المقتضية لحرمة
أكل المال بالباطل ومع عدم طيب النفس، بما إذا كان العقد مرضيا به
سابقا أو لاحقا، وإلا كان الأكل أكلا للمال بالباطل، وإذا كان كذلك
فتستحيل حكومة حديث الرفع عليها، وذلك لأن العقد المقرون بالرضاء
يستحيل عروض الاكراه عليه والعقد الملحوق بالرضاء قد حكم عليه
بالصحة بما أنه مكره عليه، ومثل ذلك غير قابل لأن يشمله حديث الرفع
فإنه يختص بما إذا كان الأثر مترتبا على ذات الشئ من غير دخل
611

للاختيار والاكراه فيه فيرتفع أثره عند الاكراه، وذات العقد في المقام
لا أثر له إلا أنه جزء السبب المؤثر، ولا يمكن رفع هذا الأثر بحديث
الرفع - هذا ملخص ما أفاده قدس سره.
أقول: أما ما أفاده أولا فيرد عليه أن مقتضى الاطلاقات هو سببية العقد
مطلقا لترتب الأثر عليه، لكن حديث الرفع اقتضى عدمه فيما إذا لم يكن
العاقد راضيا به لا سابقا ولا لاحقا على ما عرفته، فيبقي ما لحقه الرضاء
تحت المطلقات لا أن المرجع هو الأصل الذي يقتضي الفساد.
أما ما أفاده أخيرا فهو مبني على الالتزام بتقييد المطلقات أولا بما دل
علي حرمة أكل المال بالباطل ثم ملاحظة النسبة بينها وبين حديث الرفع،
ولكن هذا غير صحيح، فإن حديث الرفع في عرض سائر المقيدات،
ونتيجة الكل أن العقد إذا لم يكن مرضيا به لا سابقا ولا لاحقا لم يؤثر
أثره، أما إذا كان مكرها عليه حدوثا ولكن رضي به المالك بعد ذلك
فلا دلالة في شئ من المقيدات على بطلانه فيحكم بصحته بمقتضى
الاطلاقات.
بحث في أن الرضاء المتأخر كاشف أو ناقل
قوله (رحمه الله): بقي الكلام في أن الرضاء المتأخر ناقل أو كاشف.
أقول: بعد البناء على أن الرضاء المتأخر يوجب صحة بيع المكره، قد
وقع الكلام بين الأعلام في أنه كاشف عن صحة العقد من أول الأمر أو
ناقل من حين تحقق الرضاء، مقتضى الأصل هو القول بالنقل، فإنه يشك
في حصول الملكية إلى زمان الرضاء، فالأصل يقتضي عدمه.
أما بحسب الدليل الاجتهادي فقد ذهب المصنف إلى القول بالكشف
612

من جهة ما ورد في تزويج الصغيرين (1)، حيث حكم الإمام (عليه السلام) بالتوارث
بينهما إذا مات أحدهما ولكن بعد احلاف الحي على أن امضاءه لعقد
النكاح ليس من ناحية الطمع في المال بل من جهة رغبته في النكاح.
ولكن يرد عليه أن الرواية قد وردت في النكاح الفضولي، والتعدي
منه إلى سائر المعاملات الفضولية وإن كان جائزا لعدم الفارق بينها وبين
النكاح من ناحية الفضولية إلا أنه لا يمكن التعدي منه إلى بيع المكره
المتعقب بالرضاء إلا بدليل.
وذلك للفرق الواضح بينه وبين البيع الفضولي، فإن بيع المكره يستند
إلى المالك من أول الأمر وقد فرضنا أنه لم يحكم بصحته إلا بعد تحقق
الرضاء، وأما البيع الفضولي فهو يستند إلي المالك من حين إجازته
فيمكن الحكم بصحته من أول الأمر، هذا.

1 - عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن غلام وجارية زوجهما وليان
لهما وهما غير مدركين، فقال: النكاح جائز وأيهما أدرك كان له الخيار... قلت: فإن كان الرجل
الذي أدرك قبل الجارية ورضي بالنكاح، ثم مات قبل أن تدرك الجارية أترثه، قال: نعم يعزل
ميراثها منه حتى تدرك فتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلا رضاها بالتزويج، ثم يدفع
إليها الميراث ونصف المهر... (الكافي 5: 401، التهذيب 7: 383)، صحيح.
ورواه الشيخ في باب توارث الأزواج من الصبيان من كتاب الميراث عن علي بن فضال،
عن محمد بن علي، عن السراد، عن ابن رئاب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، ولكن الظاهر أن ابن رئاب
يروي عن الحذاء وهو يروي عن أبي جعفر (عليه السلام)، كما عرفته في المصادر المتقدمة، لأن ابن
رئاب من أصحاب الصادق (عليه السلام) لا الباقر (عليه السلام)، فالسقط إنما هو من قلم النساخ.
وعن الحلبي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الغلام له عشر سنين فيزوجه أبوه في صغره
أيجوز طلاقه وهو ابن عشر سنين، قال: فقال: أما التزويج فصحيح وأما طلاقه، قلت: فإن
ماتت أو مات فقال: يوقف الميراث حتى يدرك أيهما بقي ثم يحلف بالله ما دعاه إلى أخذ
الميراث إلا الرضاء بالنكاح ويدفع إليه الميراث (الوافي 12، الباب 175،: 166)، مجهول
بمحمد بن موسى المتوكل، وقد تقدم صدره في البحث عن صحة طلاق الصبي.
613

والصحيح هو القول بالكشف في كلا المقامين، وذلك لأن الإجازة
وإن كانت متأخرة عن العقد إلا أنها متعلقة بالعقد وامضاء له ولازم ذلك
هو الحكم بتأثيره من أول الأمر، وسيأتي توضيح ذلك في بحث البيع
الفضولي.
ونزيد على ذلك في المقام بأن مقتضى العمومات والاطلاقات هو
صحة العقد وتأثيره من حين حدوثه، لكن حديث الرفع وغيره دل على
اعتبار الرضاء الأعم من المقارن والمتأخر في ذلك، ومقتضى الجمع
بينهما هو الحكم بالصحة وترتب الأثر عليه من أول الأمر.
فإن قلت: إذا حكم عليه بالصحة من أول الأمر فقد كان سبب الحل
وأكل المال التجارة لا عن تراض، وقد فرضنا انحصاره بالتجارة عن
تراض.
قلت: الحكم بالصحة إنما هو بعد الرضاء، ولكن متعلق الحكم إنما هو
الصحة من حين العقد، فمن أكره على بيع داره مثلا ثم رضي بما فعله
يحكم عليه من حين رضاه بأنه مالك للثمن من حين العقد، كما أن
المشتري مالك للدار، وسيجئ في البحث عن البيع الفضولي بيان ذلك
إن شاء الله تعالى، وأنه غير الكشف الحكمي الذي التزم به المصنف
قدس سره.
ثم إن المصنف قاس ما نحن فيه بفسخ العقد، بدعوى أن الفسخ وإن
كان حلا للعقد السابق وجعله كأن لم يكن إلا أنه لا ترفع به الملكية السابقة
علي الفسخ لأن العبرة بزمان حدوث الفسخ لا بزمان حدوث متعلقه.
ويتوجه عليه أن هذا قياس باطل لوجود الفارق بين الفسخ وبين ما نحن
فيه، بداهة أن الفسخ عبارة عن حل العقد ويقابله اقراره وامضاؤه، وأما
إجازة العقد فيقابله رده فلا منافاة بين أن يكون أثر الفسخ من حينه كما هو
ظاهر أدلته وأن يكون أثر الإجازة ترتيب أثر العقد من حينه.
614

ثم إنه هل للطرف غير المكره فسخ العقد قبل صدور الرضاء من
المكره، فيه كلام سيأتي في بحث العقد الفضولي، فإن الملاك مشترك فيه
بين البابين، وإلى هنا جف القلم في بيع المكره وتوابعه، والحمد لله أولا
و آخرا.
4 - إذن المولى لو كان العاقد عبدا
قوله (رحمه الله): مسألة: و من شروط المتعاقدين إذن السيد لو كان العاقد عبدا،
فلا يجوز للمملوك أن يوقع عقدا إلا بإذن سيده.
أقول: لا شبهة في أن العبد ليس كالحر العاقل بحيث يكون مستقلا في
التصرف، ولا أنه مثل المجانين بحيث لا يترتب على فعله وعبارته أثر
بوجه، وإنما هو برزخ بينهم وبين الحر العاقل.
الأقوال في تصرفات العبد
ثم إن الأقوال في تصرفات العبد ثلاثة:
1 - إنه محجور عن كل تصرف إلا الضروريات التي بها عيشه.
2 - إن جميع تصرفاته نافذة إلا ما يكون تصرفا في سلطنة المولى،
وحينئذ فلا بأس في نفوذ تصرفاته بما لا ينافي حق المولى، كأن يتوكل
عن غيره في معاملة أو ايقاع، أو يضمن دين شخص بشرط أن يؤديه
لصاحب الدين بعد انعتاقه أو أشباه ذلك.
3 - إنه لا يجوز تصرفه في كلما يعد شيئا معتدا به بحسب العرف
والعادة، من غير فرق في ذلك بين ما يتعلق بأموال سيده وما يتعلق بنفسه
من عقد أو ايقاع وما يتعلق بأمواله، بناءا على كونه مالكا شرعا، وما
يتعلق بسائر الناس من التصرف في أموالهم أو أنفسهم بعقد أو ايقاع، فإن
615

صحة جميع ذلك يتوقف على إذن المالك وإجازته.
وعلى الجملة يحكم بلغوية كل تصرف يستقل العبد فيه من دون أن
يتقيد بقسم خاص، وإذن فلا تصح وكالة العبد عن غيره أيضا حتى في
اجراء الصيغة فضلا عن كونه وكيلا مفوضا ما لم يكن ذلك بإذن سيده.
ذهب المصنف إلى الوجه الأخير، حيث حكم بأنه لا يجوز للمملوك
أن يوقع عقدا إلا بإذن سيده، سواء أكان لنفسه في ذمته أو بما في يده أم
كان لغيره.
الاستدلال على القول الثالث والمناقشة فيه
واستدل على رأيه هذا بقوله تعالى: ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر
على شئ (1)، وبصحيحة زرارة عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، قالا:
المملوك لا يجوز طلاقه ولا نكاحه إلا بإذن سيده، قلت: فإن كان السيد
زوجه بيد من الطلاق، قال: بيد السيد، ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر
على شئ، فشئ الطلاق (2).
ووجه الاستدلال بهما أنه كلما صدق عليه أنه شئ معتد به فلا يقدر
العبد على التصرف فيه شرعا من دون إذن مولاه، وعليه فلا يجوز للعبد
أن يكون وكيلا عن غيره في اجراء الصيغة فضلا عن كونه وكيلا مفوضا،
ولا على ايجاد الملكية أو الزوجية لنفسه، ولا على طلاق زوجه،
ولا علي الالتزام بشئ والتعهد بدين، وإن اشترط أداءه بعد حريته، لأن
كل ذلك يصدق عليه عنوان الشئ، فلا يقدر عليه العبد شرعا بدون إذن
سيده.

1 - النحل: 75.
2 - الفقيه 3: 350، التهذيب 7: 347، الإستبصار 3: 214، عنهم الوسائل 22: 102.
616

وعلى الجملة أن الظاهر من الآية والرواية هو أن العبد غير مستقل في
جميع تصرفاته، سواء أكانت راجعة إلى نفسه حال عبوديته أم تعلقت
برقبته، كأن يضمن الشئ لشخص بشرط أن يعطيه إياه بعد حريته،
وسواء أكانت راجعة إلى سيده أم كانت راجعة إلى الأشخاص الآخرين،
وإن لم يكن هناك ما يزاحم حق المولى، كأن يتوكل عن غيره في عقد أو
ايقاع.
والسر في ذلك هو أن عدم قدرته على شئ ليس إلا عدم تمكنه من
التصرف فيه وأنه يحتاج في ذلك إلا الاستعانة من غيره، ومن الواضح أن
المحتاج إلى غيره في فعل لا يكون قادرا على التصرف فيه استقلالا،
وعليه فشأن العبد شأن الصبي، فكما أن الصبي لا ينفذ تصرفه في شئ
إلا بإذن وليه كذلك المملوك فإنه لا ينفذ تصرفه في شئ إلا بإذن سيده -
انتهى ملخص كلامه مع التوضيح الاجمالي، وتبعه في ذلك شيخنا
الأستاذ (1).
والتحقيق أنه لا دلالة في الآية ولا في الرواية على ما ذهبا إليه، وبيان
ذلك أنه ليس المراد من عدم القدرة في الآية هو عدم القدرة عقلا، ولا أن
المراد من الشئ هو الشئ التكويني الخارجي، بداهة أن العبد مثل الحر
في قدرته على الأمور الخارجية.
وأيضا ليس المراد من نفي القدرة هو نفي القدرة الشرعية التكليفية،
ضرورة أن ما هو مباح للأحرار في الشريعة المقدسة الاسلامية من
المأكولات والملبوسات والمشروبات مباح للعبيد أيضا، وليس لإذن
المولى دخل في ذلك بوجه، بل المراد من قوله تعالى: لا يقدر على
شئ، هو عدم نفوذ تصرفات العبد في شئ.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 476.
617

وعلى هذا فلا وجه لما ذكره شيخنا الأستاذ (1)، من أن قوله تعالى:
لا يقدر على شئ قيد توضيحي، لأن العبد لا ينقسم إلى القادر
والعاجز بل المملوكية مساوقة للعجز، لا وجه لذلك من جهة أن المراد
من عدم القدرة هو عدم نفوذ التصرف، ولا شبهة في أن هذا حكم وضعي
فلا معنى لأخذه قيدا للموضوع أو توضيحا له.
ثم إن لفظ مملوكا في الآية الكريمة بمنزلة العلة لقوله تعالى:
لا يقدر على شئ، فكأنه تعالى قال: إن العبد لا ينفذ تصرفه لكونه
مملوكا، وعليه فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي أن يراد من عدم قدرة
العبد عدم نفوذ تصرفه فيما يرجع إلى نفسه وأمواله من حيث عبوديته.
أما عدم نفوذ تصرفه في أموال سيده أو أموال الأشخاص الآخرين فهو
ليس من جهة كونه عبدا مملوكا بل من جهة الأدلة الدالة على حرمة
التصرف في أموال الناس بدون إذنهم.
ولا ريب في أن هذا المعنى لا تقتضيه العبودية بل هو مشترك فيه بين
العبد والحر، ولو سلمنا أن الآية ليست بظاهرة في هذا المعنى إلا أنه
لا سبيل إلى انكار كونه محتملا منها، وعليه فتكون الآية مجملة، وإذن
فلا يمكن الاستدلال بها على عدم نفوذ تصرف العبد فيما يرجع إلى سيده
أو إلى شخص آخر غير سيده.
وقد اتضح لك مما بيناه أنه لا وجه لما ذكره شيخنا الأستاذ (2)، من جعل
لفظ مملوكا في الآية قيدا توضيحيا، بدعوى أن العبد لا ينقسم إلى
مملوك وغير مملوك.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 478.
2 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 478.
618

هل يفرق بين كون العبد وكيلا عن غيره في أمر وبين توكيله غيره في ذلك
وقد ظهر لك مما ذكرناه أيضا أنه لا بد من أن يفرق بين كون العبد وكيلا
عن غيره في انشاء عقد أو ايقاع وبين توكيله غيره في ذلك:
أما الأول، فيجوز له ذلك، لأنه لا يعد تصرفا فيما يرجع إلى نفسه لكي
يحكم بفساده بدون إذن مولاه، بداهة أن كون العبد مملوكا لمولاه
لا يلازم سقوط ألفاظه وعباراته والعقد أو الايقاع بما أنه للغير فلا مانع من
الحكم بصحته.
أما الثاني، فلا يجوز له ذلك، إذ ليس للعبد أن يستقل في التصرف فيما
يرجع إلى نفسه أو أمواله بدون إذن سيده، فإذا لم يجز له ذلك لم يجز له
توكيل غيره فيه، هذا ما يرجع إلى الآية المباركة.
أما رواية زرارة، فإنها ظاهرة أيضا في عدم نفوذ تصرفات العبد فيما
يرجع إلى نفسه فلا اشعار فيها بكون مطلق تصرفاته متوقفا على إذن
سيده، والقرينة على هذه الدعوى من نفس الرواية هي قوله (عليه السلام):
المملوك لا يجوز طلاقه ولا نكاحه إلا بإذن سيده، قلت: فإن كان السيد
زوجه بيد من الطلاق؟ قال (عليه السلام): بيد سيده.
ثم إنا إذا قلنا بعدم نفوذ تصرف العبد فيما يرجع إلى غير المولى أيضا
إلا بإذنه، فلو تصرف العبد بدون إذن سابق ولكن لحقته الإجازة من
المولى فهل يحكم بصحته، فيه خلاف بين الأعلام، قد احتمل المصنف
أولا عدم نفوذه، وحاصل كلامه:
إن الإجازة إنما تتعلق بمضمون العقد أعني به انتقال المال بعوض،
ولا ريب في أن هذا المعنى فيما نحن فيه ليس منوطا برضاء المولى، إذ
المفروض أنه أجنبي عن العوضين بل حق المولى من جهة كون انشاء هذا
619

المضمون قائما بعبده، ومن الواضح أن الانشاء إذا صدر منه على وجه
الاستقلال لم يخرج عن استقلاله، لأن الشئ لا ينقلب عما هو عليه.
وبتعبير آخر أن ما ترتبط به إجازة المولى أعني به الانشاء لا يعقل أن
تلحقه الإجازة فيكون صادرا من قبل المولى لاستلزامه الانقلاب المحال،
وما لا يستلزم المحال من تعلق الإجازة به وهو مضمون العقد غير مرتبط
بالمولى، وسيأتي الجواب عن هذه المناقشة قريبا.
هل يصح تصرفات العبد بالإجازة اللاحقة؟
ثم إنه (رحمه الله) قوي صحة تصرفات العبد بالإجازة اللاحقة بوجوه:
وحاصل الوجه الأول: إن العمومات والمطلقات قد دلت على صحة
العقود والايقاعات، سواء أكانت صادرة من الأحرار أم كانت صادرة من
المماليك، وقد خرج منها العقد الصادر من العبد من دون استناده إلى إذن
المولى أصلا، لا سابقا ولا لاحقا، ويبقى الباقي تحت العمومات
والمطلقات.
وببيان أوضح أن مفاد المخصص إنما هو عدم ترتب الأثر على العقد
الصادر من العبد من دون إذن سيده سابقا أو إجازته لاحقا، وليس مفاد
المخصص اعتبار الإذن السابق فقط في تصرفات العبد.
ولو أغمضنا عن ذلك وشككنا في أن مفاد المخصص هل هو المعنى
الأول أو المعنى الثاني وجب الأخذ بالمعنى الأول، لأن المخصص
المنفصل إذا كان مجملا، بأن كان مرددا بين الأقل والأكثر، أخذنا بالقدر
المتيقن منه، وهو في المقام العقد الصادر من العبد بلا إذن سابق
ولا إجازة لا حقة، وفي غير ذلك نتمسك بالعمومات.
620

وأورد عليه شيخنا الأستاذ (1)، بأن دليل اعتبار الإذن في تصرف العبد
ظاهر في الإذن السابق فلا يشمل الإجازة اللاحقة، لأن الإجازة غير
الإذن، وعليه فلا اجمال في المخصص لكي يتمسك بالعموم ويحكم
بنفوذ تصرف العبد مع الإجازة اللاحقة أيضا.
ويرد عليه أن دليل اعتبار الإذن في تصرفات العبد لا ظهور له في إرادة
الإذن السابق:
أما الآية فواضح لأن المستفاد منها كما عرفته سابقا هو عدم نفوذ
تصرف العبد لكونه مملوكا لا يقدر على شئ فلا بد في نفوذه من دخل
إذن المولى فيه، ولكن لا يستفاد منها أن دخله فيه بأية كيفية أهو بالإذن
السابق، أم كان ذلك أعم منه ومن الإجازة اللاحقة، وعليه فيدور الأمر
بين الأقل والأكثر، فمقتضى القاعدة في أمثال ذلك هو الأخذ بالأقل
لكونه متيقن الإرادة.
أما صحيحة زرارة، فلا يستفاد منها إلا بطلان نكاح العبد وطلاقه من
دون إذن سيده بأن يكون مستقلا في تصرفه.
أما بطلان تصرفه إذا لحقته الإجازة، فاستفادته تتوقف على اثبات
ظهور لفظ الإذن في الإذن السابق وهو أول الكلام.
وحاصل الوجه الثاني: أن صحيحة زرارة المتقدمة قد دلت على
صحة النكاح والطلاق بالإذن، وحيث ثبتت بالأخبار الخاصة صحة
النكاح بالإجازة اللاحقة فيستكشف من ذلك أن المراد من الإذن في
الصحيحة أعم من السابق واللاحق، وحينئذ فنلتزم بصحة سائر العقود
أيضا بالإجازة اللاحقة لعدم الفارق بين النكاح وبين بقية العقود، ولازم
هذا التعميم وإن كان يقتضي الالتزام بصحة الطلاق أيضا بالإجازة

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 480.
621

اللاحقة إلا أنه خرج ذلك بالدليل الخارجي.
وتوهم أنه يلزم وقتئذ تأخير البيان عن وقت الحاجة توهم فاسد، لأن
المقصود من الصحيحة هو نفي استقلال العبد في الطلاق وأنه يبطل بدون
إذن سيده، لا بيان جميع الخصوصيات المعتبرة في طلاق العبد وعليه
فكفاية الإذن اللاحق فيه وعدمها أمر خارج عن مقام البيان.
ويتوجه عليه أنه يمكن نقضه باستظهار عكسه من الصحيحة، بأن يقال:
لما كانت الصحيحة مشتملة على الطلاق الذي لا يصح بالإجازة اللاحقة
استكشفنا بذلك أن المراد من كلمة الإذن فيها إنما هو الإذن السابق فقط
لا الأعم منه ومن الإجازة اللاحقة.
وعليه فصحة النكاح بالإجازة اللاحقة إنما ثبت بالدليل الخارجي،
ولا يلزم عندئذ تأخير البيان عن وقت الحاجة، لأن الإمام (عليه السلام) كان في
مقام بيان حكم النكاح في الجملة لا مطلقا، وعليه فلا بد من ملاحظة
الصحيحة في نفسها، إذ لا تعرض فيها لبيان أن المراد من الإذن هل هو
الإذن السابق أو الأعم منه ومن الإجازة اللاحقة فتبقي الصحيحة على
اجمالها.
الوجه الثالث: استفادة ذلك مما دل على أن إجازة المولى توجب
صحة نكاح العبد الواقع بدون إذنه (1)، وذلك لوجهين:

1 - عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل تزوج عبده بغير إذنه فدخل بها
ثم اطلع على ذلك مولاه، فقال: ذلك إلى مولاه إن شاء فرق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما، فإن
فرق بينهما فللمرأة ما أصدقها إلا أن يكون اعتدي فأصدقها صداقا كثيرا، فإن أجاز نكاحه فهما
علي نكاحهما الأول، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإنه في أصل النكاح كان عاصيا، فقال أبو جعفر
(عليه السلام): إنما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله وإنما عصى سيده، ولم يعص الله إن ذلك ليس
كاتيانه ما حرم الله تعالى عليه من نكاح في عدة وأشباهه (الكافي 5: 478)، ضعيف بموسى بن
بكر.
وعنه، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذاك إلى
سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك الله إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم
النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد ولا تحل له إجازة السيد له، فقال أبو جعفر
(عليه السلام): إنه لم يعص الله إنما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز (الكافي 5: 478)، حسن
بإبراهيم بن هاشم.
622

1 - إن مقتضى هذه الأخبار هو صحة ما عقده العبد لنفسه للعموم
المستفاد من ترك الاستفصال، وعلى هذا فلا يمكن حملها على ما إذا
عقد غيره له لكي يخرج بذلك عن عنوان عقد المملوك ويدخل تحت
عنوان عقد الفضولي الذي لا ربط لصحته بالإجازة اللاحقة بصحة عقد
العبد بإجازة المولى، وإذا صح نكاح العبد صحت بقية العقود الصادرة
منه بالأولوية.
فالمتحصل من هذه الأخبار هو صحة معاملات العبد إذا أجازها
سيده، سواء أكان المباشر للصيغة هو العبد أم كان غيره، وسواء أكانت
العقود للعبد أم كانت لغيره وإنما باشرها العبد وكالة، وكل ذلك من
ناحية ترك الاستفصال.
2 - إن قوله (عليه السلام): إنه لم يعص الله إنما عصى سيده فإذا أجازه فهو له
جائز، علة لصحة العقد الصادر من العبد، ومفاد هذه العلة هو أن المعيار
في صحة معاملة العبد بعد عدم كونها مخالفة لله، كالمعاملة على الخمر
والخنزير والميتة ونحوها إنما هو وقوعها برضاء المولى، سواء فيه
الرضاء السابق واللاحق.
وعليه فإذا أوقع عقدا بدون رضاء سيده الذي هو معنى عصيانه، ثم
رضي به سيده صح العقد لأن معاملة العبد عندئذ ليست معصية لله حتى
623

يحكم بفسادها، بل هي معصية لسيده فيحتاج إلى إجازته وقد فرضنا
تحققها.
وإذن فالرواية في مقام بيان الضابطة الكلية، وهي أن كل عقد كان فيه
عصيان لله فهو فاسد، كالعقد على المحارم وبيع الخمر والخنزير، وكل
عقد لم يكن فيه عصيان لله فهو صحيح، غاية الأمر أنه يحتاج إلى إجازة
سيده، هذا.
المناقشة في هذه الأمور والجواب عنها
وقد ناقش شيخنا الأستاذ في الأمر الأول (1)، وحاصل مناقشته هو أن
العبد إذا عقد لنفسه كان مضمون العقد، أعني به المنشأ، متوقفا على
الإجازة، أما الانشاء الذي - هو جهة الاصدار - فهو معنى حرفي
وملحوظ تبعي، وإذا عقد لغيره فضولا أو وكالة كان مضمون العقد
راجعا إلى غير المولى فلا يرتبط بإجازته بل المربوط بإجازته إنما هو
جهة الاصدار أعني به الانشاء، وعليه فجهة الاصدار معنى اسمي
وملحوظ استقلالي.
وحينئذ فإذا قام الدليل على إجازة المضمون في القسم الأول كان
ذلك دليلا على إجازة جهة الاصدار فيه أيضا لكونها ملحوظة تبعا، ولكن
لا يمكن التعدي من ذلك الدليل إلى جهة الاصدار في القسم الثاني أيضا
لكونه معنى اسميا، ومن الظاهر أن قياس المعنى الاسمي بالمعنى
الحرفي قياس مع الفارق.
ولكن لا وجه لهذه المناقشة، بديهة أن كون متعلق الإجازة ملحوظا
للمجيز استقلالا تارة وتبعا أخرى لا يرتبط بجهة الاستدلال.

1 - حاشية المكاسب للمحقق النائيني 1: 481.
624

بيان ذلك أن العقد الواقع على ملك السيد تتوقف صحته على إجازته
وإذنه، ولو كان صادرا من غير عبده، كما أن عقد عبده يحتاج إلى ذلك
ولو تعلق بمال غيره.
وعليه فإذا أوقع العبد عقدا على مال المولى، كما في النكاح، كان
ذلك مجمعا للعنوانين، وإذا ثبتت صحة ذلك فيما إذا تعقبته إجازة
المولى ثبتت صحة عقده بمال غير المولى إذا تعقبته الإجازة أيضا.
ثم إن التمسك بهذه الوجوه لاثبات صحة تصرفات العبد بالإجارة
اللاحقة إنما يفيد في مرحلة الاثبات بعد فرض الامكان في مرحلة
الثبوت، وإذا حكمنا بالاستحالة ثبوتا من ناحية الانقلاب المحال لم يفد
التمسك بها اثباتا.
وعليه فلا يجتمع ما احتمله المصنف في مطلع كلامه بدءا من
الاستحالة في مقام الثبوت مع حكمه بصحة تصرفات العبد بالإجازة
اللاحقة من ناحية الوجوه المتقدمة، وإليك لفظه:
وكيف كان فانشاءات العبد لا يترتب عليها آثارها من دون إذن
المولى، أما مع الأذن السابق فلا اشكال، وأما مع الإجازة اللاحقة
فيحتمل عدم الوقوع، لأن المنع فيه ليس من جهة العوضين بل المنع من
جهة راجعة إلى نفس الانشاء الصادر وما صدر على وجه لا يتغير منه
بعده... فإذا وقع على وجه يستقل به العبد فلحوق الإجازة لا يخرجه عن
الاستقلال الواقع عليه قطعا - ثم انتقل إلى مقام الاثبات وقال: - إلا أن
الأقوى هو لحوق إجازة المولى - الخ.
إلا أن يقال إن غرض المصنف من التمسك بالوجوه المذكورة في مقام
الاثبات هو أن الأدلة الدالة على اعتبار رضاء المولى في تصرف العبد إنما
هو بالمعنى الأعم من الرضاء السابق واللاحق.
625

وعليه فإذا صدر عقد من العبد من دون رضاء سيده لم يتصف ذلك
بمجرد صدوره بدون إذن المولى بالاستقلال لكي يلزم من لحوق الإجازة
به الانقلاب المحال، بل اتصافه بالاستقلال مراعي بعدم لحوق الرضاء
وإذا اقتضت العمومات والاطلاقات صحة عقد العبد مع الرضاء اللاحق
حكمنا بها من دون استلزامه الانقلاب المحال.
وكيف كان يمكن الجواب عن المناقشة المذكورة بأن العقد الصادر من
العبد له جهتان: جهة الانشاء وجهة المنشأ، ومن الواضح أن المحتاج
إلي إذن المولى إنما هو المنشأ أعني به الاعتبار النفساني المبرز بمظهر
خارجي دون الانشاء، أعني به ابراز ذلك الاعتبار النفساني.
ويدل على صحة ذلك قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة المتقدمة:
المملوك لا يجوز طلاقه ولا نكاحه إلا بإذن سيده، ووجه الدلالة هو
أن الطلاق والنكاح ليسا مجرد الانشاء، بل الطلاق عبارة عن اعتبار حل
العلقة المبرز بمظهر خاص خارجي، والنكاح عبارة عن اعتبار العلقة
الزوجية في صقع الذهن المبرز بمظهر خارجي.
وعليه فشأن ما نحن فيه شأن ما ثبتت في محله، من أن صحة نكاح بنت
الأخ وبنت الأخت متوقفة على إجازة العمة والخالة، فإن المتوقف على
إجازتهما ليس هو صحة الانشاء فقط بل صحة ما يصدق عليه النكاح
بالحمل الشايع.
ولا يخفى عليك أن ما ذكرناه من الجواب عن المناقشة المتقدمة مبني
على كون صحة انشاء العبد لغيره وكالة أو فضولا متوقفة على إجازة
المولى، أما بناءا على ما ذكرناه - عند التعرض للآية المتقدمة من عدم
كون المولى مالكا لإنشاء العبد - فإنه لا شبهة في صحة انشائه لغيره وكالة
أو فضولا، سواء رضي به المولى أم لم يرض به، إذ المولى ليس مالكا
لكلمات العبد وألفاظه لتتوقف صحتها على إجازته.
626

إجازة المولى لعقد العبد كاشفة أو ناقلة؟
ثم إنه بقي هنا شئ لم يتعرض له المصنف، وهو أن إجازة المولى
لعقد العبد هل هي كاشفة أو ناقلة؟
مقتضى القاعدة أنها ناقلة لأصالة عدم تحقق الأثر إلى زمان الإجازة،
ولم يرد هنا دليل على الكاشفية لكي يخرج به عن القاعدة المزبورة كما
ورد في الفضولي، نعم إذا قلنا بأن الكشف على طبق القاعدة - سيأتي
الكلام في ذلك في البحث عن البيع الفضولي - التزمنا هنا بالكشف أيضا.
فرع: اشتراء العبد نفسه من مولاه
قوله (رحمه الله): فرع: لو أمر العبد آمر أن يشتري نفسه من مولاه فباعه مولاه صح
ولزم، بناءا على كفاية رضاء المولى الحاصل من تعريضه للبيع من إذنه الصريح،
بل يمكن جعل نفس الايجاب موجبا للإذن الضمني.
ولكن نوقش فيه بوجهين:
الوجه الأول: إن عبارة العبد متحدة مع عبارة سيده فيلزم من ذلك
اتحاد الموجب والقابل، وهذا يوجب بطلان العقد.
ويتوجه عليه ما ذكره المصنف، وحاصله أن الالتزام بذلك يقتضي
المنع أيضا عن نفوذ عقد العبد لو أذن له سيده سابقا، وهذا ظاهر لا خفاء
فيه.
ويضاف إلى ذلك أنه لا دليل على اعتبار التغاير بين الايجاب والقبول
بل يكفي التغاير بينهما اعتبارا، على أنه لا اتحاد في المقام، لأن كون
العبد مملوكا لمولاه لا يقتضي ذلك.
الوجه الثاني: أنه تعتبر في صحة العقد قابلية كل من المتبائعين للانشاء
عند تحقق الايجاب والقبول كليهما، وعليه فلو كان المشتري عند
627

ايجاب البائع غير قابل للقبول أو خرج البائع حال قبول المشتري عن
قابلية ايجاب البيع لم ينعقد العقد بينهما، لأنه وقتئذ لا يرتبط عهد
أحدهما بعهد الآخر فلا تتحقق المعاهدة والمعاقدة بينهما بوجه،
وحيث إن العبد فيما نحن فيه غير قابل للقبول في زمان الايجاب، لعدم
كونه مأذونا في ذلك من قبل المولى، فيحكم حينئذ بفساد العقد.
ويتوجه عليه أنه لا أساس صحيح لهذا الشرط - على ما ذكرناه في
محله - لأن المناط في تحقق العقد إنما هو ارتباط التزام البائع بالتزام
المشتري.
وعليه فإذا تحقق انشاء البائع حال كون المشتري نائما أو غافلا أو
مغمى عليه ثم التفت المشتري إلى هذا الانشاء فقبله قبل صدور ناسخه
من البائع، صدق عليه العقد جزما وحكم بصحته ولزومه للأدلة الدالة
على نفوذ العقود ولزومها.
نعم إذا لم يبق البائع على شرائط الانشاء حين قبول المشتري حكم
بفساد العقد لارتفاع التزام البائع بانتفاء الشرط عنه وعدم اتصال التزامه
بالتزام المشتري.
هذا كله فيما إذا وكل المشتري العبد في الاشتراء من سيده، أما لو وكله
في الاشتراء من وكيل المولى فإن كان الوكيل وكيلا مفوضا فلا شبهة في
أن شأنه شأن المولى فيعود النزاع المتقدم، وإن كان الوكيل وكيلا في
خصوص اجراء الصيغة فلا شبهة في احتياج الاشتراء إلى الإجازة من
المولى، هذا تمام الكلام في البحث عن معاملات العبد (1).

1 - إلى هنا تم الجزء الثالث حسب تجزئة المؤلف (رحمه الله)، ذكر المؤلف هنا: قد وقع الفراغ من
ذلك سنة 1374 هج‍.
628

5 - اعتبار كونهما مالكين أو مأذونين من المالك
قوله (رحمه الله): مسألة: ومن شروط المتعاقدين أن يكونا مالكين أو مأذونين من
المالك أو الشارع، فعقد الفضولي (1) لا يصح أي لا يترتب عليه ما يترتب على عقد
غيره من اللزوم.
أقول: قبل التعرض لحكم العقود الفضولية يحسن بنا أن نتعرض
لأمرين:
1 - صحة الايقاعات الفضولية
الأول: إذا قلنا بصحة العقود الفضولية فهل يمكن أن يحكم بصحة
الايقاعات الفضولية أم لا؟
إذا قلنا بأن الالتزام بصحة العقود الفضولية إنما هو على خلاف

1 - الفضولي لغة هو الاشتغال بما لا يعني، قال في المصباح: وفضل فضلا من باب قتل
زاد، وخذ الفضل أي الزيادة، والجمع فضول، مثل فلس وفلوس، وقد استعمل الجمع
استعمال المفرد فيما لا خير فيه، ولهذا نسب إليه على لفظه فقيل فضولي لمن يشتغل بما لا
يعنيه، لأنه جعل علما على نوع من الكلام، فنزل منزلة المفرد، وسمي بالواحد، وفي أقرب
الموارد: الفضول جمع الفضل كما مر، والفضول العمل الفضولي، وهو مفرد هنا، يقال: إن
ذلك فضول منه أي اشتغال بما لا يعنيه، أقول: لولا تنزيل الجمع منزل المفرد لكان القياس أن
يقال في مقام النسبة فضلي لا فضولي.
أما في الاصطلاح، فعن الشهيد في غاية المراد: 177: هو الكامل الغير المالك للتصرف و
لو كان غاصبا، وفي شرح فتح القدير: الفضول جمع فضل، غلب في الاشتغال بما لا يعنيه،
وما لا ولاية له فيه.
وكيف كان الفضولي صفة للعاقد، وما هو صفة للعقد إنما هو الفضول، فجعل الفضولي صفة
للعقد مجازا، ومن قبيل توصيف الشئ بحال متعلقه.
629

القاعدة، أعني بها أصالة الفساد، وأن الاطلاقات والعمومات لا تشملها
حكمنا بفساد العقود والايقاعات الفضولية إلا ما خرج بالدليل، قيل: إن
مقتضى القاعدة وإن كان هو الحكم بصحة العقود والايقاعات ولكن قام
الاجماع على عدم جريان الفضولية في الطلاق والعتاق بل في مطلق
الايقاعات.
وإذا قلنا بأن صحة العقود الفضولية موافقة لمقتضي القاعدة حكمنا
بصحة الايقاعات الفضولية أيضا إلا ما خرج بالدليل، لأن العمومات
والمطلقات كما تشمل العقود الفضولية كذلك تشمل الايقاعات
الفضولية أيضا، وعليه فما ورد بالخصوص في صحة العقود الفضولية
يكون مؤيد لتلك العمومات والمطلقات.
ويرد عليه: أنا لو سلمنا وجود الاجماع هنا ولكن لا نسلم كونه
اجماعا تعبديا، إذ من المحتمل أن القائلين ببطلان الطلاق الفضولي قد
استندوا في ذلك إلى أن بطلان طلاق المكره (1) يقتضي بطلان طلاق
الفضولي بالأولوية، أو إلى الروايات الدالة على أن الطلاق لا ينفذ إلا إذا
صدر من الزوج أو ممن هو مأذون من قبله أو من قبل الشارع (2)، وأن
القائلين ببطلان العتاق الفضولي قد استندوا في ذلك إلى الروايات الدالة
على أنه لا عتق إلا في ملك، وأن القائلين ببطلان مطلق الايقاعات
الفضولية قد استندوا في ذلك إلى عدم قابلية الايقاع للتعليق واقعا أو إلى
غير ذلك من الوجوه الاعتبارية.
وإذن فيرجع البحث إلى تلك الوجوه، فلا يكون هنا اجماع تعبدي،

1 - عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن طلاق المكره وعتقه، فقال: ليس طلاقه
بطلاق ولا عتقه بعتق (الكافي 6: 127، عنه الوسائل 22: 86)، صحيحة.
2 - عن النبي (صلى الله عليه وآله): الطلاق بيد من أخذ بالساق (كنز العمال 5: 155، الرقم: 3151).
630

أما الوجوه المزبورة، فهي أيضا ليست بتامة، فلا تدل على بطلان
الايقاعات الفضولية، أما بطلان طلاق المكره كبطلان بيعه فإنما هو في
حد ذاته مع قطع النظر عن لحوق الإجازة.
ويدل على عدم تحقق الاجماع المزبور أنه ذهب غير واحد من
الأصحاب إلى صحة عتق الراهن العبد المرهون توقعا للفك أو الإجازة،
وذهب بعضهم إلى صحة عتق المرتهن عن الراهن مع إجازته ذلك.
وأما الروايات الواردة في المنع عن نفود الطلاق الصادر من غير
الزوج، فالمراد منها هو أن الانسان ليس له أن يطلق زوجة غيره مستقلا
وبغير إذنه وإجازته، وهذا لا ينافي نفوذ الطلاق الصادر من غير الزوج
مع الإجازة من الزوج بحيث يستند الطلاق إليه لا إلى مجري الصيغة.
ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال ببطلان العتاق الفضولي
بالروايات المانعة عن العتق الصادر من غير المالك.
ويضاف إلى ذلك أن أمثال هذه الروايات واردة في البيع أيضا، كقوله
(عليه السلام): لا بيع إلا في ملك، فلو التزمنا بظاهرها فلا بد من الالتزام ببطلان
البيع الفضولي أيضا.
وأما دعوى أن التعليق في الايقاعات أمر مستحيل دعوى جزافية،
ضرورة أن المعاني الايقاعات كالمعاني العقدية في قبولها للتعليق،
وعلى الجملة أنه لا دليل على بطلان الايقاعات الفضولية.
وإذا قلنا بكون الوصية من الايقاعات، كانت الوصية بما زاد على الثلث
من الايقاعات الفضولية، ولا اشكال في صحتها مع إجازة الورثة.
وعلى الجملة فلا نعقل وجها صحيحا لدعوى الاجماع التعبدي
على بطلان الايقاعات الفضولية مطلقا أو في الجملة.
631

2 - خروج العقد من عنوان الفضولي بمجرد رضاء المالك باطنا
الأمر الثاني: إنه هل يخرج العقد من عنوان الفضولي بمجرد رضاء
المالك باطنا من دون أمارة عليه أم لا.
ذهب المصنف إلى الأول وحكم بعدم توقفه على الإجازة اللاحقة،
سواء علم العاقد بالرضاء الباطني حين العقد أم لم يعلم به حين ذلك،
وسواء انكشف له بعد العقد بأن المالك كان راضيا بالعقد حين وقوعه أم
لم ينكشف له ذلك أصلا، واستدل على رأيه هذا بوجوه:
الوجه الأول: إن هذه المعاملة مشمولة لآيتي وجوب الوفاء بالعقد
والتجارة عن تراض.
ولكن لا دلالة في الآيتين على ذلك، أما آية وجوب الوفاء بالعقد فلأن
مفادها هو أن كل مكلف يجب عليه الوفاء بعقد نفسه، ومن الظاهر أن
مجرد اقتران العقد برضاء المالك لا يخرج العقد الصادر من الأجنبي عن
الفضولية ولا يجعله عقدا للمالك، بل العقد إنما يصير عقدا للمالك
ويستند إليه إما بمباشرة نفسه أو بنيابة الغير عنه بالإذن أو بالإجازة
اللاحقة - كما في الفضولي -، وشئ من ذلك لم يتحقق في المقام،
وإذن فلا يكون العقد الصادر من الفضولي مع اقترانه برضاء المالك عقدا
للمالك.
ومن هنا ظهر الجواب عن الاستدلال بآية التجارة عن تراض، إذ
لا تتحقق التجارة عن تراض بمجرد الرضاء الباطني بالبيع الواقع على ماله
فضولا، ولا يقال للمالك إنه اتجر بماله.
وقد ظهر لك مما بيناه أنه لا يمكن الاستدلال على ذلك بقوله تعالى:
632

أحل الله البيع (1)، فإن مفادها: أحل الله بيوعكم، وعليه فالممضى إنما
هو البيع المنسوب إلى المالك لا مطلق البيع وإن لم ينسب إليه.
الوجه الثاني: ما دل على حرمة مال امرء مسلم إلا بطيبة نفسه (2)، ومن
الواضح أن المالك في الصورة المفروضة راض بالتصرف في ماله فيكون
خارجا عن الفضولية وإلا لم يجز التصرف فيه.
وفيه: أن المراد من حلية البيع إن كانت هي الحلية التكليفية كحرمة
الأكل والشرب، فالروايات المزبورة خارجة عن محل الكلام، لأن
البحث إنما هو في نفوذ البيع الفضولي مع الرضاء الباطني من المالك،
وإن كان المراد هو الأعم من الحلية الوضعية والتكليفية فهو وإن كان
لا بأس به ولكن لا دلالة فيها، على أن المعتبر في حلية المال إنما هو
خصوص رضاء المالك وطيب نفسه، بل الظاهر منها هو أن الرضاء معتبر
في حلية المال، وهذا لا ينافي اعتبار شئ آخر فيها كاظهار الرضاء
بمبرز خارجي من الإذن أو الإجازة.
والسر في ذلك هو أن أمثال هذه الجمل والمركبات كقوله (عليه السلام):
لا صلاة إلا بطهور (3) أو بفاتحة الكتاب (4)، ولا عمل إلا بنية (5)،

1 - البقرة: 275.
2 - عوالي اللئالي 2: 113، الرقم: 309.
3 - عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا صلاة إلا بطهور (التهذيب 1: 49، الإستبصار
1: 55، عنهما الوسائل 1: 315 و 365)، صحيحة.
4 - عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب
في صلاته؟ قال: لا صلاة له إلا أن يقرأ بها في جهر أو إخفات (الكافي 3: 317، التهذيب
2: 147، الإستبصار 1: 310، عنهم الوسائل 6: 37)، صحيحة.
5 - عن أبي حمزة عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: لا عمل إلا بنية (الكافي 2: 69، عنه
الوسائل 1: 46)، صحيحة.
633

لا تدل على الحصر، وأن الصلاة مثلا لا تتحقق إلا بالطهور أو بفاتحة
الكتاب، وأن العمل لا يتحقق إلا بنية، فإنه لا يستفاد منها إلا اعتبار كون
الفعل مقرونا بالنية أو الطهور أو بفاتحة الكتاب، لا أن الفعل لا يوجد إلا
بالأمور المذكورة، وكذلك الأمر فيما نحن فيه، بل المستفاد منها إنما هو
اعتبار المستثني في المستثني منه، سواء اعتبر فيه شئ آخر أم لا.
الوجه الثالث: ما دل على أن علم المولي بنكاح العبد وسكوته اقرار
منه بذلك، فإن الظاهر من هذه الطائفة هو كفاية الرضاء الباطني في خروج
العقد عن الفضولية (1).

1 - عن معاوية بن وهب قال: جاء رجل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: إني كنت مملوكا لقوم
وإني تزوجت امرأة حرة بغير إذن موالي ثم أعتقوني بعد ذلك، فأجدد نكاحي إياها حين
أعتقت، فقال له: أكانوا علموا أنك تزوجت امرأة وأنت مملوك لهم؟ فقال: نعم وسكتوا عني
ولم يغيروا على، فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم اقرار منهم، أثبت على نكاحك الأول (
الكافي 5: 478، التهذيب 8: 204، عنهما الوسائل 21: 117)، صحيحة.
عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث المكاتب قال: لا يصلح له أن يحدث
في ماله إلا الأكلة من الطعام ونكاحه فاسد مردود، قيل: فإن علم سيده بنكاحه ولم يقل شيئا،
فقال: إذا صمت حين يعلم ذلك فقد أقر، قيل: فإن المكاتب عتق، أفتري يجدد نكاحه أم
يمضي على النكاح الأول؟ قال: يمضي على نكاحه (الكافي 5: 478، الفقيه 3: 76، التهذيب
8: 269، عنهم الوسائل 21: 117)، صحيحة.
عن الحسن بن زياد الطائي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني كنت رجلا مملوكا فتزوجت
بغير إذن مولاي، ثم اعتقني الله بعد فأجدد النكاح؟ قال: فقال: علموا أنك تزوجت؟ قلت:
نعم قد علموا فسكتوا ولم يقولوا لي شيئا، قال: ذلك اقرار منهم أنت على نكاحك (الفقيه
3: 283، التهذيب 8: 343، عنهما الوسائل 21: 118)، صحيحة.
عن عروة بن أبي الجعد البارقي قال: عرض للنبي (صلى الله عليه وآله) جلب، فأعطاني دينارا وقال: أي
عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال: فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين
بدينار فجئت أسوقهما، أو قال: أقودهما، فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار، فجئت
بالدينار، فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم، قال: كيف صنعت؟ قال: فحدثته
الحديث، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين
ألفا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع (مسند أحمد 4: 376، السنن الكبرى
للبيهقي 6: 112، وفي مستدرك الوسائل 13: 245 عن ثاقب المناقب: 40، عوالي اللئالي
3: 205، الرقم: 36)، ضعيفة.
الجلب: ما جلب من خيل وإبل ومتاع إلى الأسواق للبيع.
634

ويرد عليه:
أولا: إن سكوت السيد عن نكاح عبده مع اطلاعه عليه كاشف عرفي
عن الرضاء بالعقد، ومورد بحثنا ما إذا لم يكن هنا كاشف عرفي عن ذلك.
وثانيا: إن مجرد رضاء المولي باطنا بنكاح عبده يكفي في صحته، لما
سيأتي من التفصيل بين كون الإجازة لتحقيق استناد العقد إلى من يملك
التصرف ليكون العقد عقدا له وبين كونها بمجرد تعلق حق الغير، حيث
نلتزم بكفاية الرضاء الباطني في الثاني دون الأول، ومن الظاهر أن نكاح
العبد من قبيل الثاني، حيث إن عقد النكاح مستند إلى العبد جزما وإنما
الاحتياج إلى إجازة المولي من جهة أن فعل العبد متعلق حقه فقط.
الوجه الرابع: رواية عروة، فإنها ظاهرة في جواز الاكتفاء في صحة
العقد بالرضاء الباطني وإن لم يقترن بالكاشف.
ويتوجه عليه:
أولا: إن الرواية غير مذكورة في أصول الشيعة مسندا وإنما هي
مذكورة في كتب العامة بسند ضعيف، فلا يمكن الاستناد إليها في شئ
من الأحكام الشرعية.
وثانيا: أنه يمكن أن البارقي كان وكيلا مفوضا عن النبي (صلى الله عليه وآله) في أمر
شراء الشاة وبيعها، وإذن فتكون الرواية بعيدة عن محل بحثنا.
635

وثالثا: إن اقباض عروة المبيع وقبضه للثمن مع تقرير النبي (صلى الله عليه وآله)
ذلك لا يدل إلا على رضاه (صلى الله عليه وآله) بهما فقط لا على رضاه (صلى الله عليه وآله) بأصل البيع
أيضا، ضرورة أنه لا ملازمة بين جواز القبض والاقباض وبين صحة البيع،
إذ قد يكون البيع صحيحا ولا يجوز القبض والاقباض كبيع الوكيل الذي
هو وكيل في أصل المعاملة فقط، وقد يجوز القبض والاقباض مع فساد
المعاملة كما إذا كان أحد مأذونا فيهما من قبل المالك لا في أصل
المعاملة، وإذن فرضاء النبي (صلى الله عليه وآله) بالقبض والاقباض لا يدل على صحة
ما أنشأه عروة من البيع.
ثم إن المصنف قد استظهر خروج الفرض المتقدم عن الفضولية وعد
توقفه على الإجازة اللاحقة من كلمات الفقهاء (رحمهم الله)، كقولهم في مقام
الاستدلال على الصحة أن الشرائط كلها حاصلة إلا رضاء المالك،
وقولهم: إن الإجازة لا يكفي فيها السكوت لأنه أعم من الرضاء، وإلى غير
ذلك من كلماتهم.
ويتوجه عليه:
أولا: إنه لا حجية في كلماتهم، فإن رأي فقيه لا يكون حجة على فقيه
آخر.
وثانيا: إنه لا ظهور في كلماتهم فيما يرومه المستدل، لأن المراد من
الرضاء المذكور في كلماتهم هو الاختيار الذي هو في مقابلة الكراهة
والاضطرار، حيث إنهم ذكروها في بيع المكره وقالوا إن من شرائط
المتعاقدين الاختيار وليس المراد منه طيب النفس، وعليه فلا ربط لها
بما نحن فيه، ولا أقل من الاحتمال فتكون كلماتهم مجملة.
ثم قال: لو سلم كونه فضوليا لكن ليس كل فضولي يتوقف لزومه على
الإجازة، لأنه لا دليل على توقفه مطلقا على الإجازة اللاحقة.
636

ويتوجه عليه: إن هذا الكلام يعد من الغرائب، لأنا إذا قلنا باحتياج
المعاملات الفضولية إلى الإجازة اللاحقة كان ما نحن فيه من صغرياتها،
فتحتاج صحته إلى الإجازة اللاحقة، ولا يكفي فيها مجرد وجود الرضاء
الباطني، وإن قلنا بعدم احتياجها إلى الإجازة اللاحقة لكونها مشمولة
للعمومات والمطلقات الدالة على صحة العقود ولزومها، فليكن المقام
كذلك، وإذن فلا وجه لجعله من المعاملات الفضولية ثم الحكم بعدم
احتياجه إلى الإجازة اللاحقة.
ثم قال: مع أنه يمكن الاكتفاء في الإجازة بالرضاء الحاصل بعد البيع
المذكور آنا ما، إذ وقوعه برضاه لا ينفك عن ذلك مع الالتفات.
يرد عليه: أنه إذا قلنا بكفاية الرضاء الباطني المتأخر ولو آنا ما في
صحة البيع واخراجه عن الفضولية، قلنا بذلك في الرضاء المقارن أيضا
بالأولوية، فلا وجه لتخصيص الحكم المزبور بالرضاء المتأخر، ثم إنا لو
اكتفينا في خروج العقد عن الفضولية بالرضاء الباطني للزم القول بكون
الكراهة الباطنية موجبة لفساد البيع مع أنها لا توجب بطلانه، ومن هنا لو
باع الغاصب العين المغصوبة مع كراهة المغصوب منه ذلك ثم رضي به
لحكم بصحته، فيعلم من ذلك أن الكراهة الباطنية لا تؤثر في فساد
المعاملة، وكذلك الرضاء الباطني لا يكفي في صحتهما لأن سبيلهما
واحد.
ثم قال: إنه لو أشكل في عقود غير المالك فلا ينبغي الاشكال في عقد
العبد نكاحا أو بيعا مع العلم برضاء السيد له، لعدم تحقق المعصية التي
هي مناط المنع في الأخبار، وعدم منافاته لعدم استقلاله في التصرف.
ويرد عليه: أنه لا وجه لتخصيص الحكم بالعبد، بل يجري ذلك في
كل عقد كان فضولية من ناحية كونه متعلقا لحق الغير، كبيع الراهن العين
637

المرهونة مع رضاء المرتهن بذلك باطنا ونكاح الباكرة بدون إذن الولي،
والنكاح علي بنت الأخ أو الأخت بدون إذن العمة والخالة، فإن الرضاء
الباطني يكفي في صحة العقد فيها وفي أمثالها وسيأتي ذلك تفصيلا.
ثم إنه ذهب شيخنا الأستاذ (1) إلى عدم خروج العقد بالرضاء الباطني عن
الفضولية مطلقا، سواء كانت فضوليته لتعلق حق الغير بذلك أم كانت
فضوليته من ناحية صدوره من غير المالك، وإليك لفظ مقرر بحثه:
والحق عدم صحة العقد الصادر من غير من بيده زمام أمر المعقود
عليه بمجرد الرضاء الباطني من المالك ومن له الحق، مرتهنا كان
أو مولى، وذلك لأنه لو كان أمر العقد موقوفا وغير ماض، إما لعدم
كون العاقد مالكا أو لعدم كونه مستقلا، فلا يخرج عن التوقيف إلا
باستناده إلى المالك أو ذي الحق، والاستناد والتنفيذ من الأمور
الانشائية، ويكونان كسائر الايقاعات لا بد من ايجادهما إما باللفظ أو
بالفعل، فلا الكراهة الباطنية رد ولا الرضاء الباطني إجازة، بل كل منهما
يحتاج إلى كاشف.
والتحقيق هو التفصيل في المقام، بين ما كانت الإجازة لتحقيق استناد
العقد إلى المالك بحيث يكون العقد الصادر من الفضولي عقدا له بالحمل
الشايع، وبينما كانت الإجازة لأجل كون المبيع متعلقا لحق الغير، فكل
مورد تعتبر الإجازة في العقد لأجل استناده إلى من له العقد فإن الرضاء
الباطني الساذج لا يصح ذلك، وفي كل مورد اعتبرت الإجازة لا لتلك
الجهة بل لجهة أخرى لا شبهة في كفاية الرضاء الباطني في ذلك.
وعلى الأول فلا يكفي في استناد العقد إلى المالك مجرد الرضاء
الباطني، وأن الاقتران برضاء المالك لا يخرج العقد عن الفضولية ما

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 3.
638

لم يكن إذن وتوكيل من المالك، والوجه في ذلك أن العقد الصادر من
الفضولي لا يكون مشمولا لقوله تعالى: أوفوا بالعقود (1)، بديهة أن العقد
لا يكون مشمولا لتلك الآية إلا باستناده إلى المالك، لأن مقارنة الجمع
بالجمع في الآية الكريمة يقتضي أن كل مكلف يجب عليه الوفاء بعقده،
أي أوفوا بعقودكم لا ما عقدتهم.
ومن الواضح أن العقد لا يكون عقدا للمالك إلا بالاستناد إليه، إما
بالمباشرة كما إذا أوجده بنفسه أو بالتسبيب كما إذا أوجده وكيله
بالإضافة إليه كما إذا رضي بالعقد الفضولي مع إظهاره ذلك بمظهر
خارجي، ومن الظاهر أن مجرد الرضاء الباطني بالعقد الصادر من
الفضولي أجنبي عن ذلك كله.
وعلى الثاني فيكفي في صحة العقد مطلق الرضاء، وإن كان باطنيا
وغير منكشف بكاشف، وذلك كالأمثلة التالية:
1 - أنه إذا باع الراهن العين المرهونة، فإن اعتبار إجازة المرتهن في
البيع المزبور ليس من ناحية لزوم استناد العقد إليه، بل من ناحية أن العين
وثيقة عنده، فلا يجوز للراهن أن يتصرف فيها بدون إذن المرتهن، فإذا
رضي به المرتهن ولو باطنا صح البيع.
وبعبارة أخرى أن المناط في صحة العقد هو كونه مشمول للاطلاقات
والعمومات الدالة على صحة العقود ولزومها، ومن الظاهر أن المناط
المزبور موجود في بيع الراهن، غاية الأمر أن التصرف في العين المرهونة
موقوف برضاء المرتهن، فإذا رضي بذلك لم يكن هناك مانع عن التصرف
أيضا.

1 - المائدة: 1.
639

2 - بيع المفلس فإنه مستند إليه ومشمول للعمومات إلا أن المبيع
متعلق لحق الغرماء فتعتبر إذنهم في ذلك من هذه الناحية.
3 - العقد علي بنت الأخ وبنت الأخت، فإن صحة ذلك موقوفة على
إجازة العمة والخالة، لا من جهة عدم استناد العقد إلى الزوجين إلا
بإذنهما بل من جهة أخرى.
4 - عقد العبد لغير سيده وبدون إذنه نكاحا كان أو غير نكاح، فإن
احتياجه إلى إجازة السيد ليس من ناحية كون العقد عقدا للسيد وهو
لا يتحقق إلا بإجازته بل من جهة أنه ليس للعبد الاستقلال في التصرف في
قبال سيده.
5 - الوصية بما زاد على الثلث فإنها تحتاج إلى إجازة الورثة لكن لا من
جهة عدم استنادها إلى الموصي بل لأجل نفوذ الوصية.
6 - عقد الباكرة بدون إذن وليها، بناء على اعتبار إذنه في ذلك، فإن
اعتباره فيه من جهة النفوذ لا من جهة الاستناد.
وعلى الجملة أن في كل مورد كانت الإجازة لأجل استناد العقد إلى من
له العقد، بحيث يكون العقد عقدا وتشمله العمومات لا يكفي فيها
الرضاء الباطني، وفي كل مورد كانت الإجازة لأجل نفوذ العقد لا للجهة
المزبورة يكفي فيها الرضاء الباطني لأنه يكفي في النفوذ، ولا دليل على
إظهاره بمظهر خارجي.
وهذا بخلاف الاستناد إلى المالك، فإنه ما لم يظهر في الخارج
لا يصدق على ما أوجده الفضولي أنه عقد للمالك ولا أنه بيعه ولا أنه
تجارته، ويتضح ذلك وضوحا بمراجعة العرف واللغة.
وإذن فلا يتم ما ذكره المصنف على وجه الاطلاق، ولا ما ذكره
640

شيخنا الأستاذ (1): وأظن أن كلام المصنف لا ينافي التفصيل المذكور،
لأنه ذكر في آخر كلامه ثم إنه لو أشكل في عقود غير المالك فلا ينبغي
الاشكال في عقد العبد - الخ، خصوصا إذا حمل ما ذكره على المثال
وإن كان الحمل عليه بعيدا من ناحية التعليل في كلامه بقوله: لعدم تحقق
المعصية.
فما ذكره شيخنا الأستاذ من: أن الاستناد والتنفيذ من الأمور الانشائية
ويكونان كسائر الايقاعات لا بد من ايجادهما إما باللفظ أو بالفعل، إنما
يتم في الاستناد فقط لا في التنفيذ كما عرفته قريبا.
وقد ظهر لك مما ذكرناه فساد ما أفاد شيخنا الأستاذ في آخر كلامه،
من أنه ثبت من الأدلة الخارجية عدم استقلال العبد والراهن والباكرة وكل
من كان من قبيل هذه الطوائف الثلاث في عقودهم، ولا يخرجون عن
الاستقلال بمجرد رضاء ذي الحق فإن به لا يسند العقد إليه.
ثم إنه ربما يستدل على كفاية الاقتران بالرضاء الباطني في خروج
العقد عن الفضولية بصحيحة محمد بن مسلم (2) ورواية الحميري (3)،

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 7.
2 - عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن شراء أهل الذمة، فقال: لا بأس بها، فتكون إذا
كان ذلك بمنزلتهم تؤدي عنها كما يؤدون قال، وسألته عن رجل من أهل النيل عن أرض
اشتراها بفم النيل، وأهل الأرض يقولون: هي أرضهم، وأهل الأستان يقولون: هي من أرضنا،
قال: لا تشترها إلا برضا أهلها (التهذيب 7: 149، الكافي 5: 283، عنهما الوسائل 17: 334)،
صحيحة.
قال في الوافي: الأستان - بالضم - أربع كور ببغداد، وفي أقرب الموارد: الكورة - بالضم -
المدينة والصقع، وفي المفردات وقيل لكل مصر كورة، وهي البقعة التي يجتمع فيها قري
ومحال جمعه كور.
النيل - على ما في معجم البلدان 5: 334 - نهر يخرج من الفرات الكبير فيمر بالحلة وعلى
هذا النهر بلدة صغيرة قرب الحلة.
3 - عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام) أن بعض
أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان فيها حصة، وأكرته ربما زرعوا وتنازعوا
في حدودها وتؤذيهم عمال السلطان وتتعرض في الكل من غلات ضيعته، وليس لها قيمة
لخرابها، وإنما هي بائرة منذ عشرين سنة، وهو يتحرج من شرائها لأنه يقال: إن هذه الحصة
من هذه الضيعة كانت قبضت من الوقف قديما للسلطان، فإن جاز شراؤها من السلطان كان ذلك
صونا وصلاحا له وعمارة لضيعته، وأنه يزرع هذه الحصة من القرية البائرة بفضل ماء ضيعته
العامرة، ويتحسم عن طمع أولياء السلطان، وإن لم يجز ذلك عمل بما تأمره إن شاء الله،
فأجابه (عليه السلام): الضيعة لا يجوز ابتياعها إلا من مالكها أو بأمره أو رضاء منه (الإحتجاج: 487،
عنه الوسائل 17: 337)، ضعيفة لارسالها.
الأكرة: الفلاحون، الواحد أكار.
641

فإنهما تدلان على حصر الشراء الصحيح برضاء المالك، فيستفاد منهما
أن المناط في صحة البيع إنما هو مجرد الرضاء، وإن لم يبرز في الخارج.
ولكن يتوجه عليه: أنه لا يستفاد من أمثال هذه التراكيب إلا كون
المستثنى شرطا فيما يقع بعد كلمة: لا، كقوله (عليه السلام): لا صلاة إلا
بطهور، لا أن حقيقة مدخول كلمة: لا منحصرة بالمستثنى، وعليه
فيدل الخبران على اعتبار الرضاء لا على كفايته على وجه الاطلاق،
فيكون شأنهما شأن بقية الأدلة الدالة على اعتبار الرضاء في العقود
والايقاعات.
على أنه يمكن أن تحمل الروايتان على الرضاء بمعنى الاختيار الذي
يقابل الكراهة، وقد تقدم اعتباره في العقود والايقاعات.
642

المسألة (1)
أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع من المالك
قوله (رحمه الله): ثم اعلم أن الفضولي قد يبيع للمالك.
أقول: يقع البحث هنا في مسائل ثلاث: الأولى: أن يبيع الفضولي
للمالك، الثانية: أن يبيع له مع سبق المنع عنه، الثالثة: أن يبيع لنفسه كبيع
الغاصب.
أما المسألة الأولى، فيقع البحث فيها من جهة أنه هل يعتبر في صحة
العقود صدور انشائها من المالك بالمباشرة أو ممن يقوم مقامه كالوكيل
والمأذون، أم لا يعتبر في صحتها ذلك بل المناط في صحة العقود هو
استنادها إلى من له العقد، ومن الظاهر أن هذا المعنى كما يتحقق
بالمباشرة والتسبيب كذلك يتحقق بالإجازة اللاحقة أيضا.
ولا يخفى عليك أنا إذا قلنا بصحة العقد الفضولي في هذه المسألة،
فيقع الكلام في صحته وفساده في المسألتين الآتيتين، وإذا قلنا بفساده
هنا فلا شبهة بفساده في المسألتين الآتيتين، لأن ما يبحث عنه في المسألة
الأولى هو المتيقن من العقد الفضولي، فإذا حكم بفساده حكم بفساد ما
يبحث عنه في المسألتين الآتيتين بالأولوية القطعية.
ثم إنه وقع الكلام في صحته وفساده، فالمحكي عن الأكثر هو صحته،
كالمقنعة والنهاية والوسيلة والشرايع والنافع وكشف الرموز والعلامة
في جملة من كتبه (1)، وحواشي الشهيد ومسائله والدروس واللمعة،
وجامع المقاصد والتنقيح وتعليق الإرشاد وايضاح النافع والميسية

1 - التذكرة 1: 462، المختلف 5: 53.
643

والروضة والمسالك وغيرها (1).
وحكي المصنف عن غاية المراد (2) حكاية القول بالصحة عن جمع من
المذكورين وغيرهم، ثم قال: واستقر عليه رأي من تأخر عدا فخر الدين
وبعض متأخري المتأخرين كالأردبيلي (3) والسيد الداماد، وبعض
متأخري المحدثين (4).
وقال في التذكرة: مسألة: يشترط أن يكون البائع مالكا أو من له
ولاية كالأب والجد له والحاكم وأمينه والوكيل، فلو باع الفضولي صح
ووقف على إجازة المالك، وبه قال مالك وإسحاق وأبو حنيفة
والشافعي في القديم، وأحمد في أحدي الروايتين، وقال أبو ثور وابن
المنذر والشافعي في الجديد، وأحمد في الرواية الأخرى يبطل البيع،
وهو قول لنا - وقال بعد أسطر: - لو اشترى فضوليا فإن كان بعين مال الغير
فالخلاف في البطلان والوقف على الإجازة، إلا أن أبا حنيفة قال: يقع
للمشتري بكل حال وإن كان في الذمة لغيره وأطلق اللفظ، قال علماؤنا:
يقف على الإجازة - الخ (5).
وعن الحدائق: أن القول بالصحة كاد يكون اجماعا (6).
وذهب جمع آخر إلى فساده، فعن المبسوط: من باع ما لا يملك كان
البيع باطلا.

1 - الكافي: 292، المراسم: 150، المقنعة: 606، النهاية: 385، الوسيلة: 249، شرايع
الاسلام 2: 14، المهذب 2: 194، رياض المسائل 1: 522، مقابس الأنوار: 123.
2 - غاية المراد: 178.
3 - مجمع الفائدة 8: 158، زبدة البيان: 428، ضوابط الرضاع (كلمات المحققين): 56.
4 - المحدث البحراني في الحدائق 18: 378.
5 - التذكرة 1: 462.
6 - حدائق الأحكام 21: 207.
644

وفي الخلاف: إذا باع انسان ملك غيره بغير إذنه كان البيع باطلا وبه
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: ينعقد البيع ويقف على إجازة صاحبه،
وبه قال قوم من أصحابنا، دليلنا اجماع الفرقة، ومن خالف منهم لا يعتد
بقوله، ولأنه ممنوع من التصرف في ملك غيره والبيع (1).
وعن الغنية نحوه من الصراحة (2)، وحكي القول بالبطلان أيضا عن
الإيضاح.
واختاره في الحدائق وأطنب فيه الكلام، ولكنه لم يأت بشئ تركن
إليه النفس ويطمئن به القلب، وذكر جملة من النصوص محتجا بالعثور
عليها والاهتداء إلى الاستدلال بها، وستأتي الإشارة إليها وإلى عدم
دلالتها على ما يرومه، بل دلالة بعضها على خلاف مقصوده (3).

1 - الخلاف 3: 168، المسألة: 275.
2 - الغنية: 207.
3 - وفي شرح فتح القدير: ومن باع ملك غيره بغير إذنه فالمالك بالخيار إن شاء أجاز
البيع وإن شاء فسخ، وهو قول مالك وأحمد، وقال الشافعي: لا ينعقد لأنه لم يصدر عن ولاية
شرعية لأنها بالمالك أو بإذن المالك وقد فقدا، ولا انعقاد إلا بالقدرة الشرعية، وصار كبيع الآبق
والطير في الهواء في عدم القدرة على التسليم (شرح فتح القدير 5: 309.).
وفي الفقه على المذاهب الأربعة عن الشافعية: ومن شرائط المعقود عليه أن يكون للعاقد
عليه ولاية فلا يصح بيع الفضولي، وفيه عن الحنفية: أما بيع ملك الغير بوكالة منه فإنه صحيح
نافذ وبيعه بدون وكالة فهو صحيح موقوف على إجازة المالك وهذا هو بيع الفضولي، وفيه:
وأما الموقوف وهو بيع ما يتعلق به حق للغير فإنه من أقسام الصحيح وأنه ينعقد بدون أن
يتوقف على القبض، وفيه: ومن شروط العاقد أن يكون مالكا أو وكيلا عن مالك فلا يلزم بيع
الفضولي (الفقه على المذاهب الأربعة 2: 166 و 240 و 224 و 168.
وفي شرح العناية بهامش شرح فتح القدير: ومن باع ملك غيره بغير إذنه فالمالك بالخيار
إن شاء أجاز البيع وإن شاء فسخ، وهو مذهب مالك وأحمد في رواية، وقال الشافعي في
الجديد، وهو رواية عن أحمد لم ينعقد (شرح العناية بهامش شرح فتح القدير 5: 319).
645

وهنا قول ثالث، وهو صحة البيع وبطلان الشراء، وهو القول الآخر
للشيخ في الخلاف، قال في كتاب النكاح: لو اشترى لغيره بغير إذنه
لم يقف على إجازته وكان باطلا - ثم قال: - وعندنا أن البيع يقف على
إجازة مالكه.
وفي المسألة وجهان آخران: أحدهما: أنه إن وثق برضاء المالك
فأجاز صح وإلا فلا، ثانيهما: أنه إن لم يسبق منه منع ولم يظهر كراهة
صح وإلا بطل.
ما يستدل به على صحة بيع الفضولي
وقد استدل على القول بصحة البيع الفضولي مع توقفه على الإجازة
بوجوه:
الوجه الأول
وهو العمومات والمطلقات الدالة على صحة العقود ولزومها.
وبيان ذلك أنه لا شبهة في أن صدق عنون العقد أو التجارة عن تراض
أو البيع، أو صدق أي اسم من أسماء أية معاملة كانت لا يتوقف على
مباشرة المالك بنفسه للعقد، بل يكفي في ذلك النيابة بأن يكون المباشر
لذلك غير المالك.
غاية الأمر لا بد وأن تكون هذه المباشرة بإذن المالك لكن يكون ذلك
سببا لانتساب العقد الصادر من المباشر إلى المالك، ومن المعلوم أن
انتساب العقد إلى المالك كما يتحقق بمباشرة نفس المالك أو بمباشرة
غيره مع الإذن منه كذلك يتحقق بالإجازة اللاحقة من المالك، وحينئذ
فيصدق على العقد الصادر من الفضولي أنه عقد للمالك أو تجارته أو
646

بيعه، وإذن فيكون ذلك مشمولا للعمومات والمطلقات المزبورة.
وبتعبير آخر أنا ذكرنا فيما سبق أن المراد من: أوفوا بالعقود (1) هو
أوفوا بعقودكم لا ما عقدتم، والمراد من: أحل الله البيع (2) هو حلية
بيوعكم، والمراد من: تجارة عن تراض (3) ما يصدق عليه هذا العنوان،
وجميع هذه العناوين لا يتحقق في الخارج إلا بالاستناد إلى المالك، ومن
الظاهر أنها تستند إليه بالإجازة كاستنادها إليه بالمباشرة أو بالإذن،
فتشملها العمومات.
غاية الأمر أنا نشك في اعتبار مباشرة المالك شرعا، أو اقتران رضاؤه
بالعقد، أو وجود الإذن السابق على العقد، فحيث إن كل ذلك تقييد
للمطلقات أو تخصيص للعمومات بغير مخصص ومقيد فندفعه بأصالة
الاطلاق أو العموم.
وهذا هو مراد المصنف (رحمه الله) من الأصل في المقام لا أصالة البراءة، وإن
احتمله بعيدا المحقق الإيرواني (4)، بناء على جريان البراءة في الأسباب
والأوضاع.
وقد يتوهم أن التمسك بالعمومات هنا يتوقف على حصول إضافة
عقد الفضولي إلى المالك بالإجازة اللاحقة لكن الإضافة لا تحصل بذلك،
بعد وضوح أن المراد من عقودكم العقود الصادرة منكم ولو بالتسبيب
لا العقود المنتسبة إليكم بأية نسبة كانت، ولو نسبة كونها مجازة لكم،
ومن المعلوم أن عقد الغير لا يصير عقدا صادرا من شخص بإجازته له.

1 - المائدة: 1.
2 - البقرة: 275.
3 - النساء: 29.
4 - حاشية المحقق الإيرواني (رحمه الله) على المكاسب: 115.
647

ولكن هذا التوهم فاسد، إذ لا فارق في انتساب العقد من الأجنبي إلى
المالك بين الإذن السابق والإجازة اللاحقة، فكما أن الإذن السابق كاف
في صحة العقد واستناده إليه كذلك الإجازة اللاحقة، لأنهما متساويان
في حصول الرضاء الذي هو الأصل في ذلك.
وقد اتضح لك مما بيناه فساد ما نوقش به في التمسك بالعمومات
على صحة العقد الفضولي، من أن المخاطب بتلك العمومات إما العاقد
الفضولي أو الملك أو غيرهما، ولا سبيل إلى كل منهما، أما العاقد
الفضول فلعدم وجوب الوفاء عليه بعقده قطعا، وهذا واضح، وأما
المالك فقبل إجازته كذلك وإلا لوجبت عليه الإجازة وأما بعدها فهو
مجيز لا عاقد.
ووجه الوضوح هو ما ذكرناه قريبا من أن معنى أوفوا بالعقود هو
أوفوا بعقودكم لا ما عقدتم.
وقد عرفت أن العقد الصادر من الفضولي يكون عقدا للمالك بالإجازة
اللاحقة ويستند إليه استنادا تاما فيكون مشمولا للعمومات من حين
الإجازة لا من حين العقد، فزمان الإجازة هو زمان شمول العمومات
للعقد الفضولي.
ومن هنا ظهر لك ما في كلام المحقق الإيرواني من الغرابة حيث قال:
إن التمسك بالعموم بعد الإجازة مبني على ثبوت عموم أزماني في
العمومات وليس له وجود وقد اعترف به المصنف (رحمه الله) في خيار
الغبن (1).
ووجه الظهور هو أن المصنف لم يدع شمول العمومات للعقد
الفضولي من حين العقد ثم خروجه عنها إلى زمان الإجازة بالمخصص،

1 - حاشية المحقق الإيرواني (رحمه الله) على المكاسب: 117.
648

لكي يكون التمسك بها بعد الإجازة محتاجا إلى ثبوت العموم الأزماني
للعمومات، بل غرضه هو ما ذكرناه، من أن زمان الإجازة إنما هو أول
زمان صار العقد الفضولي مصداقا للعمومات الدالة على صحة العقود.
ثم إنه يمكن أن يرجع إلى ما ذكرناه استدلال جمع من الفقهاء - كما عن
المختلف وغيره (1) - على صحة البيع الفضولي، بأنه عقد صدر من أهله في
محله، بداهة أن كون العاقد أهلا للعقد من حيث كونه بالغا عاقلا مع كون
المبيع قابلا للبيع لا يثبتان الصحة إلا بضميمة مقدمة أخرى ثابتة
بالعمومات، بأن يقال: إن العقد الفضولي عقد صدر من أهله في محله،
وكل ما صدر من أهله في محله صحيح شرعا للعمومات والمطلقات.
وإن أبيت عن كون مرادهم ذلك لتوجه عليهم مما عن الشهيد في غاية
المراد (2) من كونه مصادرة، ضرورة أن تحقق الأهلية التامة عين الدعوى
وجعلها دليلا على المدعي صرف مصادرة، ولا يمكن دفعها إلا بما
ذكرناه.
وإذن فلا وجه لما ذكره شيخنا المحقق من: أن اشتراط تأثير العقد
بالرضاء لا ربط له بأهلية العاقد ولا بكون المبيع قابلا لوقوع العقد عليه،
بل أهلية العاقد بما هو عاقد منوطة بكونه عاقلا عقلا وبكونه بالغا شرعا،
وقبول المحل منوط بكونه مما يتمول ومما يملك، فلا قصور في العاقد
ولا فيما وقع عليه العقد، والمفروض حصول الإجازة الكاشفة عن
الرضاء والمحققة للانتساب فلا مصادرة، وكون المبيع للغير لا يسقط
العاقد بما هو عاقد عن أهلية العاقدية، ولا المحل عن قبول وقوع العقد
عليه، فما أفاده المصنف في توجيه المصادرة وأجاب عنها باثباتها

1 - المختلف 5: 54، الرياض 1: 512، المهذب 2: 356، المناهل: 287.
2 - غاية المراد: 178.
649

بالعموم خال عن الوجه (1).
والوجه في ذلك هو أن مجرد كون العاقد عاقلا بالغا، وكون المحل
مما يتمول، وحصول الرضاء بالإجازة اللاحقة الكاشفة لا يثبت صحة
العقد، لاحتمال اشتراط العقد بمقارنة الرضاء أو سبق الإذن، فإنه مع هذا
الاحتمال لا تتم الأهلية التامة للعاقد، فلا يمكن نفيه إلا بأصالة
العموم الاطلاق، وبذلك تثبت الأهلية التامة للعاقد.
وقد تحصل مما قدمناه أن عقد الفضولي صحيح على القاعدة
بمقتضى العمومات والاطلاقات الدالة على صحة العقود ولزومها،
وعليه فلا نحتاج إلى الاستدلال على صحته ونفوذه بالأدلة الخاصة إلا
لمزيد الوضوح ومن جهة التأييد.
وعليه فلو ناقشنا في الأدلة الخاصة إما من حيث السند أو من حيث
الدلالة فلا يضر هذه المناقشة بصحة عقد الفضولي ونفوذه بوجه.
الوجه الثاني
رواية عروة (2)، ووجه الاستدلال هو أن عروة قد باع أحدي الشاتين

1 - حاشية المحقق الأصفهاني (رحمه الله) على المكاسب: 128.
2 - لعروة بن أبي الجعد البارقي روايتان، إحداهما: قال: عرض للنبي (صلى الله عليه وآله) جلب،
فأعطاني دينارا وقال: أي عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال: فأتيت الجلب فساومت صاحبه
فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما، أو قال: أقودهما، فلقيني رجل فساومني فأبيعه
شاة بدينار، فجئت بالدينار، فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم، قال: كيف
صنعت؟ قال: فحدثته الحديث، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف بكناسة
الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع (مسند أحمد 4:
376، السنن الكبرى للبيهقي 6: 112، وفي مستدرك الوسائل 13: 245 عن ثاقب المناقب: 40،
عوالي اللئالي 3: 205، الرقم: 36)، ضعيفة.
الجلب: ما جلب من خيل وإبل ومتاع إلى الأسواق للبيع.
أما الأخرى فهي أنه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث معه بدينار يشتري له أضحية، وقال مرة شاة
، فاشترى له اثنتين، فباع واحدة بدينار وأتاه بالأخرى، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو
اشترى التراب لربح فيه (مسند أحمد 4: 375)، ضعيفة.
وعن حكيم بن حزام أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث معه بدينار يشتري له أضحية، فاشتراها بدينار
وباعها بدينارين، فرجع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فتصدق به النبي
(صلى الله عليه وآله) ودعا أن يبارك له في تجارته (البحار 103: 136)، ضعيفة.
650

بدينار من غير إذن النبي (صلى الله عليه وآله)، وأقره (صلى الله عليه وآله) وأظهر رضائه بذلك ودعا
له، فلو كان البيع الفضولي باطلا لم يقرره النبي (صلى الله عليه وآله)، بل كان عليه (صلى الله عليه وآله)
زجر عروة والأمر برد الدينار وأخذه الشاة أو تجديد المعاملة بعد
تحصيل الإذن من النبي (صلى الله عليه وآله)، مع أنه لم يفعل شيئا من ذلك.
هذا ما يرجع إلى الاستدلال بالرواية من ناحية بيع عروة أحدي الشاتين
بدينار، وأما شراؤه الشاتين بدينار مع أنه كان مأذونا في شراء شاة بدينار
الظاهرة في الشاة لواحدة، فذكر المصنف (رحمه الله) أنه يمكن توجيه شرائه
على وجه يخرج عن الفضولية، ولكن لم يبين الوجه في ذلك، ولعل نظره
في ذلك إلى أن قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعروة: اشتر به شاة، يمكن أن يراد به
كون الشراء الشاة الواحدة بدينار، ويمكن أن يراد به كون شراء جنس
الشاة بدينار.
وعلى الثاني فلا شبهة في عدم كون الشراء فضوليا، لأن المأذون به
يشمل الواحد والاثنين، وعلى الأول فإن كان الظاهر في بادي النظر هو
كون الشراء فضوليا أيضا ولكنه خارج عن ذلك جزما، لأن الشخص إذا
كان مأذونا في شراء شاة واحدة بدينار فيكون مأذونا في شراء شاتين
بدينار بالأولوية القطعية، وعليه فإذن النبي (صلى الله عليه وآله) لعروة في شراء الشاة
651

الواحدة بدينار إذن له في شراء شاتين أيضا بدينار، فيكون الشراء خارجا
عن الفضولية على كل حال.
وقد ناقش المصنف في الاستدلال بالرواية المزبورة على صحة البيع
الفضولي، بأن ذلك متوقف على دخول المعاملة المقرونة برضاء المالك
في بيع الفضولي، وقد عرفت أنها خارجة عنه، وبيان ذلك:
إن عروة كان عالما ظاهرا برضاء النبي (صلى الله عليه وآله) بما فعله من البيع وإلا لما
أقبض المبيع ولم يقبض الثمن، لأن ذلك تصرف في مال غيره بدون رضاه
وهو حرام عقلا ونقلا، وعليه فلا بد أما من الالتزام بأن عروة فعل الحرام
بقبضه الثمن واقباضه المثمن، وهو مناف لتقرير النبي (صلى الله عليه وآله) وتبريكه
(صلى الله عليه وآله)، وأما من القول بجواز التصرف قبل الإجازة مع العلم بتعقبه لها،
وسيأتي ضعفه.
وإذن فيدور الأمر بين القول بخروج المعاملة المقرونة برضاء المالك
عن الفضولية، وبين القول بعلم عروة برضاء النبي (صلى الله عليه وآله) باقباضه ماله
للمشتري حتى يستأذن من النبي (صلى الله عليه وآله)، مع علم المشتري بكون البيع
فضوليا حتى يكون دفعه الثمن إلى البايع على وجه الأمانة وإلا
فلا يستحق الفضولي قبض المال، لعدم كونه مالكا ولا وكيلا عنه، ولكن
الظاهر هو الوجه الأول، أعني به خروج البيع الصادر من عروة عن
المعاملة الفضولية، إذ من المستبعد جدا علم المشتري بكون بيع عروة
فضوليا.
ويتضح ذلك بملاحظة أن الظاهر هو عدم كون المعاملة فضولية في
مورد الرواية، بل وقعت بعنوان المعاطاة، لأنها وقعت بين النبي (صلى الله عليه وآله)
وبين مشتري الشاة ويكون عروة آلة محضا في ايصال العوضين، وقد
عرفت في مبحث البيع المعاطاتي أنه يكفي في صحة المعاطاة مجرد
652

رضا المالكين بالنقل والانتقال مع وصول العوضين إلى كل من
المتعاطيين، ولو كان الوصول بإطارة ريح أو بفعل صبي أو بواسطة
حيوان، ومن الظاهر أنه يتسامح في المعاطاة بما لا يتسامح به في العقود
اللفظية.
ويرد على ما ذكره المصنف:
أولا: ما ذكرناه آنفا من أن اقتران العقد الصادر من الأجنبي بالرضا
الباطني من المالك لا يخرجه عن الفضولية.
وثانيا: إن كون الصادر من عروة فضوليا أو مندرجا تحت الكبرى
المتقدمة متوقف على عدم كونه وكيلا مطلقا ومفوضا من النبي (صلى الله عليه وآله) في
أمر شراء الشاة، أو مطلقا الذي سمي في لغة فارس بكلمة وكيل خرج،
ومن المحتمل أن يكون هو كذلك، وعليه فلا يمكن الاستدلال بالرواية
على صحة بيع الفضولي، إذ لا قرنية في الرواية ولا من الخارج على كون
البيع الصادر من عروة فضوليا.
وعلى الجملة أن ما صدر من عروة قضية شخصية واقعة في مورد
خاص ولم يعلم جهتها، فلا يمكن الاستدلال بها على صحة البيع
الفضولي، وإن أصر عليه جمع من الفقهاء، ولا حملها على الكبرى
المتقدمة.
وثالثا: أن تحقق القبض والاقباض بين عروة وبين المشتري لا يكون
قرينة على عدم كون البيع الواقع بينهما فضولا، بدعوى أنه لو كان فضوليا
لكان التصرف في الثمن والمثمن بالقبض والاقباض حراما، وذلك لما
ذكرناه آنفا من عدم الملازمة بين كون البيع فضوليا وبين حرمة التصرف
في الثمن أو المثمن، ضرورة أن العلم بالرضا الباطني للمالك يفيد جواز
التصرف تكليفا لا جوازه وضعا.
653

ورابعا: أنا لو سلمنا صحة المعاطاة الفضولية لكن لا نسلم كون فعل
عروة ظاهرا في المعاطاة، لعدم القرينة على ذلك.
ودعوى أن القرينة على ذلك هو أن الغالب المعتاد في أمثال ذلك هو
البناء على المعاطاة، دعوى جزافية، لأنا لو سلمنا وجود الغلبة ولكنها
لا تفيد إلا الظن وهو لا يغني من الحق شيئا.
ومن هنا ذكر السيد في حاشيته بقوله: لم أفهم هذه الدعوى ولم أدر
من أين هذا الظهور (1).
وخامسا: أنا ذكرنا في الجزء الثاني أن الأمثلة التي ذكروها لتحقق
المعاطاة بمجرد ايصال العوضين إلى كل من المالكين غير ظاهرة في ذلك
بل هي من أمثلة المعاطاة المتعارفة.
وسادسا: ما ذكره المحقق الإيرواني، وإليك نصه:
إن هنا خلط بين الرضاء الكافي في المعاطاة والرضاء الحاصل في
المقام، فإن الرضاء الكافي في المعاطاة عن القصد إلى انشاء البيع بايصال
المبيع بأي وجه اتفق وبواسطة أي حامل كان، والرضاء الموجود في
المقام هو الرضاء بالبيع من أي بايع تحقق بلا قصد إلى ايجاد البيع في
الخارج (2).
ويضاف إلى جميع ما ذكرناه أن الرواية ضعيفة السند وقد عرفته
قريبا.
الوجه الثالث
صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قضى أمير

1 - حاشية المحقق الطباطبائي (رحمه الله) على المكاسب: 130.
2 - حاشية المحقق الإيرواني (رحمه الله) على المكاسب: 117.
654

المؤمنين (عليه السلام)... (1)، لأن قوله (عليه السلام) فيها في معالجة فك الولد بعد
المناشدة: خذ ابنه حتى ينفذ لك البيع، ظاهر في نفوذ البيع الفضولي
بالإجازة اللاحقة، إذ لو كانت الإجازة فاسدة وغير مؤثرة في العبد
الفضولي لما أمر الإمام (عليه السلام) بحبس الابن حتى يجيز الأب بيعه، فيعلم من
ذلك أن إجازة بيع الفضولي تؤثر في صحتها.
وقد نوقش في الاستدلال بها على ذلك من وجوه شتى:
1 - إن القائلين بصحة عقد الفضولي قد التزموا بصحة التأهلية وبقائه
على حاله موقوفا على إجازة المالك، فإن أجازه لزم وإن فسخه انفسخ،
وإذا انفسخ لم تؤثر فيه الإجازة اجماعا، مع أن الصحيحة ظاهرة في نفوذ
الإجازة بعد الرد من نواحي شتى:
ألف - قوله (عليه السلام): الحكم أن تأخذ الوليدة وابنها، فإن هذا الحكم
لا يصح إلا بعد الرد.
ب - قول السائل: ثم جاء سيدها الأول فخاصم سيدها الآخر فقال:
وليدتي باعها ابني بغير إذني، ومن الظاهر أن المخاصمة ظاهرة في الرد،
إذ لولاه لما وقعت المخاصمة بين السيد الأول والسيد الثاني، بل كانت
الوليدة وابنها للسيد الثاني من دون أن تكون هناك مخاصمة ومرافعة.
ج - مناشدة المشتري للإمام (عليه السلام) والحاجة إليه في علاج فك ولده،

1 - عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في وليدة باعها
ابن سيدها وأبوه غائب فاستولدها الذي اشتراها، فولدت منه غلاما، ثم جاء سيدها الأول
فخاصم سيدها الآخر فقال: وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال: الحكم أن يأخذ وليدته وابنها،
فناشده الذي اشتراها، فقال له: خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ لك البيع، فلما أخذه قال
له أبوه: أرسل ابني، قال: لا والله لا أرسل إليك ابنك حتى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيد
الوليدة أجاز بيع ابنه (الكافي 5: 211، التهذيب 7: 74 و 7: 488، الإستبصار 3: 85، الفقيه
3: 140، عنهم الوسائل 21: 203)، صحيحة.
655

ومن الواضح أنه لو لم يكن البيع مردودا من قبل السيد الأول لم يكن وجه
لهذه المناشدة والحاجة إليها.
د - قول الإمام (عليه السلام) في مقام تعليم علاج فك الولد للمشتري: خذ
ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ لك البيع، إذ لو لم يكن البيع مردودا
لم يبق طريق للسيد الأول إلى أخذ الوليدة وابنها.
فهذه القطعة من الرواية صريحة في أخذ السيد الأول ابن الوليدة وأخذ
الابن ظاهر في رد البيع من حيث إن أخذ الابن لأجل كونه نماء للوليدة التي
هي مملوكة له.
فتحصل أن الرواية ظاهرة فيما هو مخالف للاجماع، وإذن فلا بد أما
من طرحها وارجاع علمها إلى أهلها، وأما من رفع اليد عن ظهور كون
الإجازة بعد الرد، أو يراد من الإجازة البيع الجديد، أو حملها على ما
ذكره المحدث الكبير العلامة المجلسي (رحمه الله) في مرآة العقول، قال:
الظاهر أن هذا من حيله التي كان يتوسل بها إلى ظهور ما هو الواقع (1).
ولا بأس بتعليم هذه الحيلة لكشف الواقع، خصوصا مع علم الحاكم
بالواقع واقتضاء المصلحة لذلك، مثل أن عليا (عليه السلام) كان عالما في مورد
الرواية بكون الابن وكيلا في بيع وليدة أبيه، وأنكر الأب وكالة ابنه وادعى
عدم الإذن في ذلك، فاحتال علي (عليه السلام) حيلة لكي يصل بها الحق إلى
صاحبه، أو تحمل الصحيحة على غير ذلك من المحامل.
وعلى الجملة أن ما هو مسلم عند القائلين بصحة العقد الفضولي،
وهو عدم كون الإجازة مسبوقا بالرد فالرواية أجنبية عنه، وما اشتملت
عليه الرواية من تأثير الإجازة بعد الرد مخالف للاجماع، وإن التزم السيد
بظاهرها وقال: فالانصاف أن الرواية لا مانع من العمل بها وتكون دليلا

1 - المرآة 3: 407.
656

على صحة الإجازة حتى بعد الرد، ولكن الظاهر أنه لا اشعار في الرواية
بكون الإجازة بعد الرد فضلا عن الدلالة عليه.
أما قوله (عليه السلام): الحكم أن يأخذ وليدته وابنتها، فلا دلالة فيه على ما
يرومه الخصم، وذلك لأن الرواية خالية عن تعرض المالك لفسخ العقد
أو امضائه، بل غاية ما يظهر منها هو عدم رضاه باقباض ابنه، ولذا استرد
الوليدة وابنها.
ومن الظاهر أنه يجوز للمالك قبل إجازة العقد الفضولي أن يتصرف
في المبيع حتى على القول بالكشف، غاية الأمر أنه إذا أجاز العقد
الفضولي انكشف بطلان تصرف، لا أنه لا يجوز تصرفه في ماله تكليفا قبل
الإجازة، ولا شبهة في أن تصرفه هذا قبل الإجازة لا يكشف عن رد البيع،
بل يمكن أن يكون ذلك من جهة تردده بين الفسخ والامضاء، ولا يشترط
في تأثير الإجازة وقوعها عقيب عرض البيع على المالك من دون أن
يفصل بينهما التردد بين الفسخ والامضاء أو التوقف في ذلك، بل العبرة
في تأثير الإجازة بكونها قبل الفسخ.
ويدل على ما ذكرناه ما ذهب إليه الأصحاب، من الحكم بصحة إجازة
المكره بعد زوال اكراهه، فيعلم من ذلك أن الكراهة الباطنية لا توجب
فسخ المعاملة فضلا عن التردد بين الفسخ والامضاء.
أما مناشدة المشتري للإمام (عليه السلام) في فكاك ولده، فلا تدل أيضا على
أن المالك قد رد البيع وأخذ ابن الوليدة لكونه مملوكا له، لأن الولد
لا يملك على تقديري الإجازة والفسخ لكونه حرا كما سيأتي، بل
المناشدة من حيث إن المشتري طلب من الإمام (عليه السلام) علاجا لفك الولد
وإجازة البيع، فعلمه الإمام (عليه السلام) طريقا لذلك، وهو قوله (عليه السلام): أخذ
ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ لك البيع.
657

ومن هنا اتضح لك أنه لا دلالة في قول المشتري: حتى ترسل ابني،
على تحقق الرد قبل الإجازة، نعم له ظهور في عدم الإجازة، وهو أعم من
الرد.
كما اتضح لك أنه لا دلالة في قوله (عليه السلام): أخذ ابنه - إلى آخره، على
تحقق الرد قبل الإجازة، بل هو طريق علمه الإمام (عليه السلام) للمشتري لكي
يتشبث به في فكاك ولده إجازة للبيع.
وأما المخاصمة فلا دلالة فيها أيضا على رد البيع، غاية الأمر أنها تدل
على عدم رضا المالك بالبيع وعدم إذنه فيه، وهذا ظاهر.
وعلى الجملة أنه لا دلالة في شئ من الوجوه المتقدمة على تحقق
الرد قبل الإجازة، بل هي أعم منه ومن التردد بين الإجازة والرد أو
التوقف فيهما.
2 - إن الإمام (عليه السلام) قد حكم للسيد الأول بأخذ الوليدة وابنها مع أن
الابن حر لتولده من الشبهة، وذلك لأن المشتري لم يعلم بكون الوليدة
لغير البائع، إذ لو كان عالما بذلك لكان الوطي حراما وصار الولد رقا
لتولده من الزنا، فيعلم من ذلك أن المشتري لم يكن عالما بالحال وأن
الولد إنما تولد من الشبهة، وقد حقق في محله أن ولد الشبهة ملحق بأبيه
فيكون حرا، ومعه كيف يجوز للسيد الأول أن يأخذه.
وقد أجيب عن هذه المناقشة بوجهين:
الوجه الأول: إنه لا مانع عن كون المشتري عالما بالحال، وعليه
فيكون الولد من الزناء فيصير رقا للسيد الأول لولا الإجازة.
ويرد عليه أنه لو كان الأمر كما ذكر لما حكم الإمام (عليه السلام) بأخذ الابن
لانفاذ البيع، بل يجب على المشتري حد الزناء.
الوجه الثاني: إن الولد وإن كان حرا ولكن أخذه السيد الأول
658

لاستحصال قيمة يوم الولادة، لأنه وإن لم يكن مالكا للولد لكونه حرا
ومتولدا من الشبهة ولكن له أن يطالب قيمته يوم الولادة لكونه نماء
لمملوكه وهو الوليدة.
وقد حمل الرواية على هذا الشيخ (رحمه الله) في الإستبصار، وإليك لفظه:
فالوجه في هذا الخبر إنما يأخذ وليدته وابنها إذا لم يرد عليه قيمة
الولد فأما إذا بذل قيمة الولد فلا يجوز أخذ ولد الحر (1).
وتبعه المحقق التستري في مقابيسه وجعل هذا وجه الجمع بين
الروايات، حيث قال في خلال كلامه: وذكر في جملة من الأخبار أن
للمالك قيمة الولد وفي بعضها أنه رق، والجمع بين الروايات يقتضي
جواز حبس الولد للتوصل إلى أخذ قيمته وإن لم يجز تملكه (2)، ثم
استشهد على ذلك ببعض الروايات، وهذه الروايات مروية في
الإستبصار (3).
والظاهر أنه لا بأس بهذا الوجه بعد مساعدة الروايات عليه، فراجع
المقابيس.
ويرد عليه أن المطالب - بالفتح - هنا إنما هو المشتري، فلو جاز حبس

1 - الإستبصار 3: 85.
2 - مقابيس الأنوار: 123.
3 - عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يشتري الجارية من السوق ثم
يجئ مستحق الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد ويرجع
على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه (الإستبصار 3: 84، التهذيب 7: 82،
عنهما الوسائل 21: 205)، صحيحة.
عن جميل عن بعض الأصحاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل اشترى جارية فأولدها
فوجدت الجارية مسروقة، قال: يأخذ الجارية صاحبها ويأخذ الرجل ولده بقيمته (الإستبصار
3: 84، التهذيب 7: 65، الكافي 5: 215، عنهم الوسائل 21: 204)، ضعيفة بالارسال.
659

المديون لاستحصال الدين فلا بد وأن يحبس المشتري دون ولده غير
المقصر.
والتحقيق أن يجاب عن المناقشة بأنه لا شبهة في ظهور الرواية في
صحة بيع الفضولي بالإجازة المتأخرة وقد عرفته قريبا، غاية الأمر أنها
اشتملت على حكم آخر لا نعرف سره ولا ربط له بجهة الاستدلال، ومن
الظاهر أن اشتمالها على جهة مجهولة لا يسقطها عن الحجية من سائر
الجهات غير المجهولة.
3 - إنه قد حكم الإمام (عليه السلام) للمشتري بأخذ ابن السيد، مع أن ذلك
لا يجوز، لأن غاية الأمر كونه غاصبا والغاصب ليس حكمه ذلك.
وأجيب عنه بأنه يمكن أن يكون ذلك لمطالبة المشتري الثمن الذي
دفعه إليه، ومن الظاهر أنه لا بأس بحبس المديون لاستحصال الدين.
ويتوجه عليه: أن هذا الحكم وإن كان صحيحا في نفسه، لأن الغرامة
المتوجهة على المشتري متوجهة على البايع، لأنه الذي غر المشتري
وتسبب لخسرانه، وقد دلت النصوص والفتاوي على أن المغرور يرجع
إلى الغار، ولكن هذا الوجه لا يناسب ذيل الرواية، أعني به قول
المشتري للسيد الأول: لا والله لا أرسل إليك ابنك حتى ترسل ابني،
فلما رأى ذلك أجاز البيع، فإن الظاهر من هذه القطعة من الرواية هو أن
حبس المشتري ابن السيد الأول لم يكن لأجل استحصال الثمن بل لأجل
فكاك ولده.
والتحقيق أن يجاب عن هذه المناقشة أيضا بمثل ما أجبنا به عن
سابقتها، من أن هذا حكم آخر لا نعرف ربطه بجهة الاستدلال من الرواية
على ما نحن فيه.
660

ويؤيد ما ذكرناه أن القضايا التي صدرت من أمير المؤمنين (عليه السلام)
لم تصل إلينا بجميع خصوصياتها الخارجية الواقعة بين المترافعين،
وكذلك هذه القضية التي بين أيدينا، فإن غرض الإمام أبي جعفر (عليه السلام) من
نقلها ليس إلا بيان أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد حكم بأن البيع على مال الغير
قابل للإجازة، وليس غرضه بيان خصوصيات القضية بأجمعها.
ثم إنا لو تنزلنا عما ذكرناه من كون الصحيحة ظاهرة في صحة بيع
الفضولي بالإجازة المتأخرة، وقلنا بظهورها في صحته بالإجازة
المسبوقة بالرد الذي هو مخالف للاجماع، فهل يستفاد منها تأثير إجازة
المالك في العقد الواقع على ملكه فضولا أم لا.
ذكر المصنف (رحمه الله): أن الانصاف أن ظهور الرواية في أن الإجازة
مجدية في الفضولي مع قطع النظر عن الإجازة الشخصية في مورد الرواية
غير قابل للانكار، فلا بد من تأويل ذلك الظاهر لقيام القرينة وهي
الاجماع على اشتراط الإجازة بعدم سبق الرد.
وملخص كلامه أن الصحيحة وإن وردت في قضية شخصية التي
لا يمكن التعدي منها إلى مثلها اجماعا، ولكن يمكن أن يستنبط منها
تأثير إجازة المالك في العقد الواقع على ملكه فضولا في غير مورد
الاجماع.
ويتوجه عليه: أن هذا إنما يتم فيما إذا كان للرواية عموم أو اطلاق،
فإن في مثل ذلك ترفع اليد عن خصوصية المورد ويؤخذ بالعموم أو
الاطلاق.
وذلك لأن عدم انطباق الكبرى المستفاد من رواية على موردها
لا يوجب رفع اليد عن تلك الكبرى بالكلية، ونظير ذلك كثير في
661

الروايات (1).
وأما إذا لم يكن للرواية اطلاق أو عموم كما في المقام، حيث إن
الصحيحة تحكي قضية شخصية في مورد خاص لا نعرف كيفية وقوعها
من جميع الجهات، فلا يمكن التعدي من موردها إلى غيره.
الوجه الرابع
إنه قد دلت النصوص المعتبرة (1) والاجماعات المحكية على صحة الزواج

1 - عن أبي نصر البزنطي وصفوان عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل يستكره على اليمين
فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وضع
عن أمتي ما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا (المحاسن: 339، عنه الوسائل 23: 226)،
صحيحة.
فإن هذه الصحيحة وأن تنطبق على موردها، إذ لا يلزم الحلف بالأمور المذكورة في الرواية
في غير حال الاكراه أيضا عند الإمامية، ولكن هذا لا يمتنع عن التمسك باطلاق حديث الرفع
في غير مورد الرواية، وهذا ظاهر.
عن ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبد الله (عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب
وغيره من الوبر، فأخرج كتابا زعم أنه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الصلاة في وبر كل شئ حرام
أكله فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكل شئ منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة
حتى يصلي في غيره مما أحل الله أكله - الحديث (الكافي 3: 397، التهذيب 2: 209، عنهما
الوسائل 4: 345)، موثقة.
إلى غير ذلك من الروايات.
2 - عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن مملوكة بين رجلين
زوجها أحدهما والآخر غائب هل يجوز النكاح؟ قال: إذا كره الغائب لم يجز النكاح (التهذيب
8: 200، قرب الإسناد: 109، مسائل علي بن جعفر (عليهما السلام): 124، عنهم الوسائل 21: 190)،
ضعيفة بمحمد بن أحمد العلوي.
عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في عبد بين رجلين زوجه أحدهما والآخر لا يعلم
ثم إنه علم بعد ذلك أله أن يفرق بينهما؟ قال: للذي لم يعلم ولم يأذن أن يفرق بينهما وإن شاء
تركه على نكاحه (التهذيب 8: 207، الفقيه 3: 289، عنهما الوسائل 21: 116)، ضعيفة
بعبد العزيز العبدي.
عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: سأله رجل عن رجل مات وترك أخوين وابنة والبنت
صغيرة، فعمد أحد الأخوين الوصي فزوج الابنة من ابنه ثم مات أبو الابن المزوج، فلما أن مات
قال الآخر: أخي لم يزوج ابنه، فزوج الجارية من ابنه، فقيل للجارية: أي الزوجين أحب إليك
الأول أو الآخر؟ قالت: الآخر، ثم إن الأخ الثاني مات وللأخ الأول ابن أكبر من الابن المزوج،
فقال للجارية: اختاري أيهما أحب إليك الزوج الأول أو الزوج الآخر؟ فقال: الرواية فيها أنها
للزوج الأخير، وذلك أنها قد كانت أدركت حين زوجها، وليس لها أن تنقض ما عقدته بعد
ادراكها (التهذيب 7: 387، الكافي 5: 397، عنهما الوسائل 20: 282)، صحيحة.
عن الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: إذا زوج الرجل ابنه فذاك إلى
ابنه، وإذا زوج الابنة جاز (الكافي 5: 400، عنه الوسائل 20: 277)، موثقة.
عن محمد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض بني عمي إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام): ما
تقول في صبية زوجها عمها فلما كبرت أبت التزويج، فكتب بخطه (عليه السلام): لا تكره على ذلك
والأمر أمرها (الكافي 5: 394، التهذيب 7: 386، الإستبصار 3: 239، عنهم الوسائل 20: 276)،
ضعيفة بمحمد بن الحسن الأشعري.
عن الكاهلي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سأله رجل زوجته أمه وهو غائب؟
قال: النكاح جائز، إن شاء المتزوج قبل وإن شاء ترك، فإن ترك المتزوج تزويجه فالمهر لازم
لأمه (الكافي 5: 401، عنه الوسائل 20: 280، 21: 305)، ضعيفة بإسماعيل بن سهل.
662

الزواج الفضولي، وإذا صح الزواج الفضولي صح سائر العقود الفضولية
بالأولوية.
وذلك لأن الماليات يتسامح فيها بما لا يتسامح به في الفروج، ضرورة
أن النكاح مبني على الاحتياط، وفي غير واحد من الروايات ما يدل على
شدة الاهتمام بأمر النكاح والاحتياط فيه، وعلل ذلك في بعضها بأنه
يكون منه الولد (1).

1 - عن شعيب الحداد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): رجل من مواليك يقرؤك السلام وقد
أراد أن يتزوج امرأة وقد وافقته وأعجبه بعض شأنها وقد كان لها زوج فطلقها على غير السنة و
قد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو
الفرج وأمر الفرج شديد، ومنه يكون الولد، ونجن نحتاط فلا يتزوجها (التهذيب 7: 470،
الكافي 5: 423، عنهما الوسائل 20: 258)، صحيحة.
663

ومن الظاهر أنه إذا جاز العقد الفضولي فيما كان الاحتياط فيه أشد جاز
فيما كان الاحتياط فيه أضعف بطريق أولى، وقد تمسك بهذا الوجه
جماعة من الفقهاء.
بل قال في الرياض: ولعمري إنها من أقوى الأدلة ولولاها لأشكل
المصير إلى هذا القول لحكاية الاجماعين الآتيين (1).
ويتوجه على هذا الوجه أن اهتمام الشارع بأمر النكاح وشدة احتياطه
فيه لا يقتضي الاهتمام بسببه والاحتياط فيه، بل يقتضي ذلك أن يكون
سببه أسهل لئلا يقع الناس في الزنا بسبب التكليف والضيق.
مثلا إذا اعتبرت العربية في مادة الصيغة وهيئتها ولهجتها كان ذلك
سببا لعدم تمكن أكثر الناس من سبب النكاح ويقعون في الحرام كثيرا،
فالاهتمام بأمر النكاح يقتضي عدم الاحتياط في سببه دون الاحتياط فيه،
لكن يعتبر فيه ما لا يعتبر في سائر العقود من الخصوصيات، بل ربما يعتبر
في سائر العقود ما لا يعتبر في عقد النكاح، كالتقابض في المجلس، فإنه
معتبر في الصرف والسلم ولكنه غير معتبر في عقد النكاح، وكثيرا ترى
التوسعة في أسباب النكاح، من تشريع المتعة وملك اليمين والتحليل،
وجواز الاقتصار في مقام الإذن بالسكوت وغير ذلك.
وإذن فعدم احتياط الشارع في النكاح بالتوسعة في أسبابه لا يدل
بالفحوى على التوسعة في أسباب سائر العقود.
وعليه فلا دلالة في الروايات الواردة في صحة عقد النكاح الفضولي

1 - رياض العلماء 1: 512.
664

مع ضميمة ما دل على شدة الاحتياط في النكاح على صحة سائر العقود
الفضولية، لا بالأولوية ولا بغيرها، وإذن فلا يمكن التعدي من موارد
تلك الأخبار إلى غيرها، على أن الأولوية ظنية والظن لا يغني من الحق
شيئا.
ثم إنه ناقش المصنف في الاستدلال بالفحوى على صحة البيع
الفضولي، وحاصل مناقشته:
أن الأولوية المزبورة وإن كانت ثابتة في بادئ النظر ولكنها مردودة
بالنص (1) الوارد في الرد على العامة في فرقهم بين تزويج الوكيل المعزول
مع جهله بالعزل وبين بيعه، حيث حكموا بالبطلان في الأول لأن البضع
ليس له عوض، وبالصحة في الثاني لأن المال له عوض، وقد وبخهم
الإمام (عليه السلام) وقبحهم برمي رأيهم السقيم وزعمهم الواهي إلى الجور
والفساد واستذموا واستلاموا على حكمهم هذا، حيث قال الإمام (عليه السلام):

1 - عن العلاء بن سيابة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة وكلت
رجلا بأن يزوجها من
رجل فقبل الوكالة فأشهدت له بذلك، فذهب الوكيل فزوجها ثم إنها أنكرت ذلك الوكيل وزعمت أنها
عزلته عن الوكالة، فأقامت شاهدين أنها عزلته، فقال: ما يقول من قبلكم في ذلك؟
قال: قلت: يقولون: ينظر في ذلك فإن كانت عزلته قبل أن يزوج فالوكالة باطلة والتزويج باطل،
وإن عزلته وقد زوجها فالتزويج ثابت على ما زوج الوكيل، وعلى ما اتفق معها من الوكالة إذا
لم يتعد شيئا مما أمرت به واشترطت عليه في الوكالة.
قال: ثم قال: يعزلون الوكيل عن وكالتها ولم تعلمه بالعزل؟ قلت: نعم يزعمون أنها لو وكلت
رجلا وأشهدت في الملأ وقالت في الملأ: اشهدوا أني قد عزلته أبطلت وكالته بلا أن يعلم بالعزل
وينقضون جميع ما فعل الوكيل في النكاح خاصة وفي غيره لا يبطلون الوكالة إلا أن يعلم
الوكيل بالعزل ويقولون: المال منه عوض لصاحبه والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد.
فقال (عليه السلام): سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده إن النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط
فيه وهو فرج ومنه يكون الولد - الحديث (الفقيه 3: 48، التهذيب 6: 214، عنهما الوسائل
19: 163)، صحيحة.
665

ما أجور هذا الحكم وأفسد، فإن النكاح أولى وأجدر أن يحتاج فيه، لأنه
الفرج ومنه يكون الولد.
وعليه فمقتضى الاحتياط أن الحكم بصحة النكاح الواقع أولى من
الحكم بصحة البيع الواقع، وإذن فتدل الرواية على كبري كلية، وهي أن
الحكم بصحة المعاملة المالية الواقعة في كل مقام يستلزم الحكم بصحة
النكاح بالأولوية دون العكس كما زعمه أهل السنة والجماعة، وحينئذ
فلا يجوز التعدي من صحة النكاح في مسألة الفضولي إلى صحة البيع،
لأن الحكم في الفرع لا يستلزم الحكم في الأصل في باب الأولوية وإلا
لم تتحقق الأولوية.
وإذن فالاستدلال بصحة النكاح على صحة البيع مطابق لحكم العامة،
من كون النكاح أولى بالبطلان من جهة أن البضع غير قابل للتدارك
بالعوض.
ثم إنه ما هو الوجه في أن الإمام (عليه السلام) قد جعل الاحتياط في ابقاء
النكاح لا في ابطاله، مستدلا بأنه يكون منه الولد، مع أن الأمر في
الأعراض كالأموال دائر بين المحذورين، ضرورة أن ابقاء النكاح الذي
أوقعه الوكيل قبل وصول عزله إليه أحد المحذورين وابطاله هو
المحذور الآخر، وعليه فلا يكون احتياط في البين.
ولعل الوجه عن ذلك هو أن المراد من الاحتياط ليس هو معناه
المصطلح، أي درك الواقع على كل حال، بل المراد منه هنا إنما هو
الأخذ بالجانب الأهم.
وبيان ذلك أن الحكم بابطال النكاح في موارد الاشتباه التي منها مورد
الرواية، أعني به مسألة عزل الوكيل مع عدم بلوغ الخبر إليه يستلزم
التفريق بين الزوجين على تقدير صحة النكاح واقعا فتتزوج المرأة بزوج
666

آخر، وحينئذ فتتحقق الزنا بذات البعل، وهذا بخلاف ما لو حكم بصحة
النكاح وابقائه فإنه حينئذ لو كان باطلا في الواقع فلا يلزم منه إلا الزنا بغير
ذات البعل، ومن الظاهر أن هذا أهون من الزنا بذات البعل، فالإمام (عليه السلام)
قد جعل الأخذ بأخف المحذورين احتياطا في الموارد المشتبهة من
الأعراض - انتهى ملخص كلامه.
والتحقيق أن الرواية أجنبية عما أفاده المصنف، وأن كلام القوم غير
مبني على الاحتياط، لا في البيع ولا في النكاح، لا من حيث الفتوى
ولا من حيث العمل، بل الرواية ناظرة إلى جهة أخرى غير ما يرومه
المصنف، وبيان ذلك:
إن حكم هؤلاء بصحة البيع مع الجهل بعزل الوكيل وإن كان موافقا
للواقع ولكنه حرام، لأنهم لم يستندوا فيه إلى الاحتياط لكي يجيب عنه
الإمام (عليه السلام) بأن النكاح أولى وأجدر بالاحتياط فيكون أولى بالصحة، بل
استندوا في ذلك إلى الاستحسان الذي يقتضي الصحة في البيع والبطلان
في النكاح.
ولا ريب أن الاستناد إلى الاستحسان في مقام الفتوى حرام، لأنه
فتوى بلا علم ولا هدى من الله ولا كتاب منير، ومن الواضح أن الفتوى
بلا علم حرام بالأدلة الأربعة، هذا من حيث الفتوى، أما من حيث العمل
فلا شبهة في أن حكمهم بصحة البيع لا يوافق الواقع دائما حتى موافقا
للاحتياط، بل البيع مردد بين وقوعه وعدم وقوعه، وحينئذ فأمره دائر
بين المحذورين فلا احتياط في البين، وهكذا الحال في النكاح أيضا طابق
النعل بالنعل، ضرورة أن حكمهم ببطلانه غير مبني على الاحتياط، بل
إنما هو مبني على الاستحسان.
وعليه فحكمهم ببطلانه حرام لكونه فتوى بلا علم، وأنه في نفسه إما
667

واقع أو غير واقع فيكون في مقام العمل من صغريات دوران الأمر بين
المحذورين لا من موارد الاحتياط.
نعم يمكن الاحتياط في النكاح بأنحاء شتى:
ألف - طلاق المرأة، لأنها لو كانت مزوجة في الواقع لبانت عن زوجها
وإلا أصبح الطلاق لغوا.
ب - اجراء العقد عليها ثانيا.
ج - الإجازة مع عدم رد المرأة العقد الذي أوقعه الوكيل مع الجهل
بالعزل.
وأما معنى الخبر، فغرض الإمام (عليه السلام) منه - والله العالم - إنما هو
الرد على هؤلاء القوم الذين أفتوا بصحة البيع وبطلان النكاح الفضوليين
مستندين في ذلك إلى الاستحسان.
وبيان ذلك أن هؤلاء قد وضعوا أمر الدين أصولا وفروعا في غير محله
ولم يرجعوه إلى أهله، ولم يستندوا فيه إلى آية صريحة ولا سنة معتبرة
ولا عقل سليم، بل استبدوا بآرائهم الواهية وعقولهم الناقصة، وانقطعوا
بذلك عن العترة الطاهرة، واستظهروا بالمعصية على الطاعة، وبالفرقة
على الاجتماع، وبالشتات على الألفة، وبالباطل على الحق، واستبدوا
العمي من الرشد، والذل من العز، حتى تمزق الاجتماع وتفرق
المسلمون، مثل أيادي سبأ، وطلعت الشمس من غير محلها، فضلوا
وأضلوا فذلك هو الخسران المبين، مع أن النزول على حكم الأدلة
والبراهين والتعبد بسنة سيد المرسلين قد أخذ الأعناق إلى الأخذ
بمذهب الأئمة الطاهرين والانقطاع إليهم في فروع الدين وعقائده،
وأصول الفقه وقواعده، ومعارف السنة والكتاب وعلوم الأخلاق
والسلوك والآداب.
668

فالإمام (عليه السلام) قد رد على هؤلاء حيث لم يحتاطوا في الماليات وأفتوا
بصحة البيع الفضولي، واستندوا في رأيهم هذا إلى الاستحسان،
ولم يرجعوا فيه إلى أهله، ولم يمتنعوا عن الحكم فيه، وإن كان رأيهم
موافقا للواقع، ولم يحتاطوا في الأعراض أيضا، حيث أفتوا ببطلان
النكاح الفضولي، مع أن النكاح من مهمات ما يتوقف عليه نظام الدين
والدنيا.
وكان الاحتياط فيه أجدر وأحرى، لأن تركه ربما يوجب التفريق بين
الزوجين والزنا بذات البعل، ويكون ذلك وسيلة إلى تولد الفراعنة
والجبارة، فيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وقد أشار الإمام
(عليه السلام) إلى خطائهم وبطلان استحسانهم بقوله (عليه السلام): ما أجور هذا الحكم
وأفسد فإن النكاح أولى وأجدر أن يحتاط فيه.
وعلى الجملة أن الإمام (عليه السلام) وبخهم ووجه الازلاء عليهم من جهة
اقدامهم على الفتوى بلا دليل شرعي وعدم سكوتهم فيما لا بد من
التوقف فيه، مع أن الاحتياط كان مقتضيا للسكوت، فقد اتضح لك مما
بيناه أن الرواية بعيدة عن المعنى الذي ذكره المصنف.
ثم إنه قد يقرر تقريب الفحوى بوجه آخر - كما في المقابيس (1) وغيره (2)
- و حاصله: أنه إذا صح تمليك البضع بالإجازة (3) مع أنه لا عوض له صح

1 - مقابيس الأنوار: 121.
2 - جواهر الكلام 22: 276، المناهل: 287.
3 - عن الكاهلي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سأله رجل زوجته أمه وهو
غائب؟ قال: النكاح جائز، إن شاء المتزوج قبل وإن شاء ترك، فإن ترك المتزوج تزويجه
فالمهر لازم لأمه (الكافي 5: 401، عنه الوسائل 20: 280، 21: 305)، ضعيفة بإسماعيل بن
سهل.
عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل تزوج عبده بغير إذنه فدخل بها ثم اطلع
على ذلك مولاه؟ قال: ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما، فإن فرق بينهما
فللمرأة ما أصدقها إلا أن يكون اعتدي فأصدقها صداقا كثيرا وإن أجاز نكاحه فهما على
نكاحهما الأول (الكافي 5: 478، التهذيب 7: 351، الفقيه 3: 283، عنهم الوسائل 21: 115)،
صحيحة.
669

التمليك المال المتضمن للعوض بالأولوية.
ويرد عليه أن عدم مقابلته بالمال لا يدل على الأولوية المزبورة، إذ من
المحتمل أن يكون ذلك لأهمية البضع.
ويضاف إلى ذلك أن البضع أيضا له عوض، غاية الأمر أنه لا يلزم ذكره
في العقد، بل في الجواهر: أنه لا خلاف في أن ذكر المهر ليس شرطا في
صحة العقد بل الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى ظاهر آية لا جناح (1)
والنصوص المستفيضة أو المتواترة (2).
على أن هذه الأولوية ظنية لأن مصالح الأحكام خفية، ومن الظاهر أن
الأدلة الظنية لا تصلح لاثبات الأحكام الشرعية.
الوجه الخامس
الروايات الدالة على صحة نكاح العقد الواقع بدون إذن مولاه (3)، وقد

1 - النساء: 24.
2 - جواهر الكلام 22: 276.
3 - عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام) أنه أتاه
رجل بعبده فقال: إن عبدي تزوج بغير إذني، فقال علي (عليه السلام) لسيده: فرق بينهما، فقال السيد
لعبده: يا عدو الله طلق، فقال له (عليه السلام): كيف قلت له؟ قال: قلت له: طلق، فقال علي (عليه السلام)
للعبد: أما الآن فإن شئت فطلق وإن شئت فأمسك، فقال السيد: يا أمير المؤمنين أمر كان بيدي
فجعلته بيد غيري، قال: ذلك لأنك حين قلت له: طلق، أقررت له بالنكاح (التهذيب 7: 352،
عنه الوسائل 21: 118)، ضعيفة ببنان بن محمد.
عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث المكاتب قال: لا يصلح له أن يحدث
في ماله إلا الأكلة من الطعام ونكاحه فاسد مردود، قيل: فإن علم سيده بنكاحه ولم يقل شيئا،
فقال: إذا صمت حين يعلم ذلك فقد أقر، قيل: فإن المكاتب عتق، أفتري يجدد نكاحه أم
يمضي على النكاح الأول؟ قال: يمضي على نكاحه (الكافي 5: 478، الفقيه 3: 76، التهذيب
8: 269، عنهم الوسائل 21: 117)، صحيحة.
670

علل هذا الحكم في بعضها بأنه لم يعص الله وإنما عصى سيده (1)، فقد
استدل بها على صحة بيع الفضولي وتقريب ذلك بوجهين:
1 - من ناحية الفحوى والأولوية المستفاد من مجموع تلك الأخبار،
وبيان ذلك أنه إذا صح نكاح العبد الواقع بدون إذن سيده بالإجازة
اللاحقة مع كونه فضوليا لتصرفه في مملوك مولاه، وكونه محجورا عليه
إذ لا سلطان له في مقابل سلطنة مولاه، صح العقد المتمرض في الفضولية
بالأولوية، وفيه ما عرفته آنفا، من أن الأولوية ليست بقطعية لكي يمكن

1 - عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن رجل تزوج عبده بغير إذنه فدخل بها ثم
اطلع على ذلك مولاه؟ قال: ذاك لمولاه إن شاء فرق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما، فإن فرق
بينهما فللمرأة ما أصدقها إلا أن يكون اعتدي فأصدقها صداقا كثيرا وإن أجاز نكاحه فهما على
نكاحهما الأول، فقلت لأبي جعفر (عليه السلام): فإنه في أصل النكاح كان عاصيا، فقال أبو جعفر (عليه السلام):
إنما أتي شيئا حلالا وليس بعاص لله، إنما عصي سيده ولم يعص الله، إن ذلك ليس كاتيان ما
حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه (الكافي 5: 478، التهذيب 7: 351، الفقيه 3: 283،
عنهم الوسائل 21: 115)، صحيحة.
عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذاك إلى
سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك الله، إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم
النخعي وأصحابهما يقولون: إن أصل النكاح فاسد ولا تحل إجازة السيد له، فقال أبو جعفر
(عليه السلام): إنه لم يعص الله وإنما عصى سيده، فإذا أجازه فهو له جائز (الكافي 5: 478، التهذيب
7: 351، الفقيه 3: 350، عنهم الوسائل 21: 114)، صحيحة.
671

الأخذ بها في الأحكام الشرعية، بل هي ظنية فلا يجوز الاستناد إليها،
لأن مصالح الأحكام غير معلومة لنا.
2 - من ناحية عموم التعليل المذكور في الخبرين، فقد استدل بذلك
شيخنا الأستاذ، وإليك لفظ مقرر بحثه: إن ظاهر قوله (عليه السلام): أنه لم يعص
الله وإنما عصى سيده، إن المناط في البطلان هو عدم تشريع الله سبحانه
المنشأ بالعقد، وأما إذا كان مشروعا من قبله سبحانه ولكنه في عقده
تصرف في سلطان الغير فهو منوط بإجازته فإذا أجاز جاز، فقوله (عليه السلام):
فإذا أجاز جاز، بمنزلة كبري كلية، وخصوصية كون العاقد عبدا وكون
ذي حق سيدا ملغا قطعا، لأنه (عليه السلام) في مقام بيان أن كل من تصرف في
متعلق حق الغير فأمر هذا التصرف راجع إلى ذي الحق إن شاء أبطله وإن
شاء أجازه، وعلى هذا فلو فرض أن نكاح العبد من قبيل بيع الراهن لا من
قبيل بيع مال الغير فلا يضر بالاستدلال، لأن المناط في صحة الفضولي
توقف العقد على إجازة الغير، سواء كان جهة الوقوف كون المال مال
الغير أم كونه متعلقا لحق الغير، كتعلق حق الرهانة أو حق الغرماء
والديان أو حق السادات والفقراء ونحو ذلك (1).
وملخص كلامه: أن الاستدلال بتلك الروايات على صحة بيع
الفضولي لا يتوقف إلى اثبات الأولوية لكي يناقش فيها بما عرفته قريبا،
بل يمكن الاستدلال على ذلك بعموم العلة المنصوصة في الخبرين
المستفادة من مقابلة عصيان الله بعصيان السيد، بدعوى أن العبد لم يعص
الله في نكاحه لكي يكون قابلا للزوال بالإجازة اللاحقة، كالعقد في العدة
وأشباهه كما في أحد الخبرين، لأن حرام الله حرام إلى يوم القيامة،
وإنما عصى سيده الذي يزول عصيانه بتبديل كراهته برضائه.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 21.
672

فيستفاد من ذلك أن النكاح المزبور مشروع في نفسه، وإنما المانع عن
نفوذه هو كراهة السيد، فإذا رضي به صح، وعليه فيصح كل عقد مشروع
في نفسه بالإجازة اللاحقة، إذ لا خصوصية لنكاح العبد لنفسه.
وإذن فالإمام (عليه السلام) في مقام بيان الضابطة الكلية، وهي أن كل عقد كان
فيه عصيان لله تعالى فهو فاسد، كالعقد في العدة والعقد على المحارم
وبيع الخمر والخنزير، وكل عقد لم يكن فيه عصيان لله تعالى فهو
صحيح، غاية الأمر أنه محتاج إلى إجازة سيده.
وقال المصنف ما هذا لفظه: وربما يؤيد المطلب بالأخبار الدالة على
عدم فساد نكاح العبد بدون إذن مولاه، معللا بأنه لم يعص الله وإنما
عصى سيده، إن المانع من صحة العقد إذا كان لا يرجى زواله فهو
الموجب لوقوع العقد باطلا وهو عصيان الله تعالى، وأما المانع الذي
يرجى زواله كعصيان السيد فبزواله يصح العقد، ورضا المالك من هذا
القبيل، فإنه لا يرض أولا ويرضى ثانيا، بخلاف سخط الله عز وجل
بفعل فإنه يستحيل رضاه.
ويرد عليه أنه لا يمكن الاستدلال بهذه الروايات بوجه على صحة بيع
الفضولي بالإجازة اللاحقة، للفرق الواضح بين مفادها وبين البيع
الفضولي، ضرورة أن العقد في موردها مستند إلى من له العقد، كما عرفته
سابقا، إذ المفروض أن العبد قد تزوج لنفسه إلا أنه فاقد لما هو معتبر في
صحته، وهو رضا السيد، وإذن فلا اشعار فيها بصحة البيع الفضولي
فضلا عن الدلالة عليها.
نعم يمكن التعدي منها إلى ما يماثل موردها، كعقد بنت الأخ فإن
صحته متوقفة على رضا العمة، وكعقد بنت الأخت فإن صحتها متوقفة
673

على رضا الخالة، على ما في بعض الروايات (1).
وعليه فإذا تزوج الرجل ببنت الأخ بدون رضا العمة أو ببنت الأخت
بدون رضا الخالة حكم بصحة ذلك بالرضا المتأخر منهما من جهة تلك
الروايات، لأنه لم يعص الله حتى لا يزول عصيانه بل عصى المخلوق
فيزول بالرضا.
وعليه فتدل الرواية على كبري كلية، وهي أن كل عقد صدر من أهله
ووقع في محله ولكن يتوقف نفوذه على إجازة الغير فهو نافذ بالإجازة
بمقتضى التعليل المذكور في تلك الأخيار، فلا دلالة فيها على صحة ما
يتوقف أصل انعقاده على إجازة الغير.
نعم لو كان التعليل بأن كان كل عقد كان فيه عصيان المخلوق دون
الخالق فهو محكوم بالصحة برضا الغير لكان شاملا للبيع الفضولي أيضا،
ولكن الواقع في الرواية ليس كذلك.
وقد اتضح لك مما ذكرناه أنه لا يصح الاستدلال على صحة بيع
الفضولي بالاجماع على نفوذ بيع المفلس مع إجازة الغرماء، وعلى نفوذ
بيع الراهن مع إجازة المرتهن، لأن شيئا من ذلك لا يرتبط بما نحن فيه.
ثم إذا سلمنا دلالة الأخبار المذكورة على صحة عقد الفضولي

1 - عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن امرأة تزوج على
عمتها وخالتها، قال: لا بأس، وقال: تزوج العمة والخالة على ابنة الأخ وابنة الأخت
ولا تزوج بنت الأخ والأخت على العمة والخالة إلا برضى منهما، فمن فعل فنكاحه باطل
(التهذيب 7: 333، الإستبصار 3: 177، قرب الإسناد: 108، عنهم الوسائل 20: 487)، ضعيفة
ببنان بن محمد.
عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا تزوج ابنة الأخ ولا ابنة الأخت على العمة
ولا على الخالة إلا بإذنهما، وتزوج العمة والخالة على ابنة الأخ وابنة الأخت بغير إذنهما
(الكافي 5: 424، الفقيه 3: 260، العلل: 499، عنهم الوسائل 20: 487)، موثقة.
674

لم يصح ما نسب إلى ابن حمزة (رحمه الله) (1) من أن نكاح العبد وكذا نكاح الحر
لغيره فضولا كنكاح الولي الشرعي والعرفي أنما يصح بالإجازة
لخصوصية خاصة في كل مورد، فلا يمكن التعدي من هذه الموارد إلى
مطلق نكاح الفضولي فضلا عن سائر العقود الفضولية، وذلك لعدم الفارق
بينها وبين سائر العقود الفضولية لوحدة المناط في الجميع، ولكن قد
عرفت عدم دلالتها على ذلك.
الوجه السادس
الروايات الواردة في إباحة المناكح والمساكن والمتاجر للشيعة، و
إن كان ذلك بأجمعه للإمام (عليه السلام) (2)، فإنها تدل على أن الأئمة (عليهم السلام) قد

1 - الوسيلة: 249.
2 - عن الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لرسول
الله (صلى الله عليه وآله): قد علمت يا رسول الله أنه سيكون بعدك ملك عضوض وجبر فيستولي على خمسي
من السبي والغنائم ويبيعونه، فلا يحل لمشتريه لأن نصيبي فيه، فقد وهبت نصيبي منه لكل من
ملك شيئا من ذلك من شيعتي، لتحل لهم منافعهم من مأكل ومشرب، ولتطيب مواليدهم ولا
يكون أولادهم أولاد حرام (تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): 86، عنه الوسائل 9: 552)، مجهول.
عن سالم بن مكرم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رجل وأنا حاضر: حلل لي الفروج،
ففزع أبو عبد الله (عليه السلام)، فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق إنما يسألك خادما
يشتريها، أو امرأة يتزوجها، أو ميراثا يصيبه، أو تجارة، أو شيئا أعطيه، فقال: هذا لشيعتنا
حلال، الشاهد منهم والغائب، والميت منهم والحي، وما يولد منهم إلى يوم القيامة فهو لهم
حلال، أما والله لا يحل إلا لمن أحللنا له، ولا والله ما أعطينا أحدا ذمة وما عندنا لأحد عهد
ولا لأحد عندنا ميثاق (التهذيب 4: 137، الإستبصار 2: 58، المقنعة: 45، عنهم الوسائل
9: 544)، صحيحة.
عن الحكم بن علباء الأسدي - في حديث - قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له: إني
وليت البحرين فأصبت بها مالا كثيرا، واشتريت متاعا واشتريت رقيقا، واشتريت أمهات أولاد
وولد لي وأنفقت، وهذا خمس ذلك المال، وهؤلاء أمهات أولادي ونسائي وقد أتيتك به،
فقال: أما أنه كله لنا وقد قبلت ما جئت به، وقد حللتك من أمهات أولادك ونسائك وما أنفقت،
وضمنت لك علي وعلى أبي الجنة (التهذيب 4: 137، الإستبصار 2: 58، المقنعة: 45، عنهم
الوسائل 9: 528)، ضعيفة لحكم بن علباء.
عن علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها
سلام عليكم طبتم، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن فلانا وفلانا غصبونا حقنا واشتروا به الإماء و
تزوجوا به النساء، ألا وأنا قد جعلنا شيعتنا من ذلك في حل لتطيب مواليدهم (تفسير القمي
2: 254، عنه المستدرك 7: 303)، ضعيفة.
في عوالي اللئالي: سئل الصادق (عليه السلام) فقيل له: يا بن رسول الله ما حال شيعتكم فيما
خصكم الله به إذا غاب غائبكم واستتر قائمكم، فقال (عليه السلام): ما أنصفناكم إن واخذناكم
ولا أحببناكم إن عاقبناكم، بل نبيح لهم المساكن لتصح عبادتهم، ونبيح لهم المناكح لتطيب
ولادتهم، ونبيح لهم المتاجر ليزكوا أموالهم (عوالي اللئالي 2: 246، عنه المستدرك 7: 303)،
ضعيفة.
675

أجازوا معاملات شيعتهم على أموالهم، فتدل على تأثير الإجازة
اللاحقة.
أقول: لا يخفى عليك أن هذه الروايات يمكن الاستدلال بها على
صحة البيع الفضولي على تقدير ولا يمكن ذلك على تقدير آخر، وبيانه:
أنك قد عرفت في طليعة البحث عن العقد الفضولي أن اقتران رضا
المالك بالعقد الصادر من الأجنبي لا يخرجه عن عنوان الفضولي إلا إذا
أظهره بمظهر خارجي، وهذا لا شبهة فيه، وإنما البحث في أن الإذن
الغير الواصل هل يخرج العقد عن الفضولية أم لا، كما إذا أذن المالك في
بيع شئ من ماله فباعه المأذون قبل وصول الإذن إليه.
فإن قلنا بتأثير الإذن الغير الواصل في خروج العقد عن الفضولية
فالإجازة المزبورة أجنبية عن بحث الفضولي بالكلية، ضرورة أن الأئمة
676

(عليهم السلام) قد أذنوا لشيعتهم في المعاملة على ما فيه حق الإمام (عليه السلام)، غاية
الأمر أن المشتري لم يطلع على ذلك الإذن، وعليه فتكون تلك المعاملة
مستندة إلى الأئمة (عليهم السلام) لأجل ذلك الإذن الموجود حين العقد.
وإن قلنا بأن مجرد صدور الإذن من المالك لا يخرج المعاملة الصادرة
من الأجنبي عن عنوان الفضولي ما لم يصل إليه بل الإذن المزبور إنما يؤثر
في خروجها عن الفضولية حين وصوله إلى العاقد، إن قلنا بذلك
فالروايات المذكورة تدل على صحة العقود الفضولية.
وهذا هو الحق، لأن الأئمة (عليهم السلام) وأن أذنوا في المعاملة على أموالهم
ولكنه لم يصل إلى المشتري، ومن الظاهر أن العقد إنما يخرج عن
الفضولية باستناده إلى المالك ولا يستند العقد إليه بمجرد صدور الإذن
منه وإن لم يصل إلى العاقد، بل إنما يستند إليه ذلك بالإذن الواصل،
ويكون عندئذ مشمولا للعمومات والمطلقات الدالة على صحة العقود
ونفوذها، وإذن فتدل تلك الروايات أيضا على صحة العقود الفضولية
بالإجازة اللاحقة.
ودعوى أن ما اشتملت عليه تلك الروايات حكم شرعي لا يجب
تطبيقه على القواعد ولا يمكن التعدي من موردها إلى مورد آخر، دعوى
فاسدة، لأن الظاهر منها هو أن الإمام (عليه السلام) إنما يمضي معاملات شيعتهم
الواقعة على أمواله بعنوان أنه مالك كسائر الملاك، فينتج من ذلك قاعدة
كلية وهي أن كل مالك يجوز له امضاء المعاملة الفضولية الواقعة على
ماله.
وعلى هذا فإذا اشترى أحد شيئا ثم علم أن البايع لم يؤد خمسه كان
البيع بالنسبة إلى مقدار الخمس فضوليا ويحكم بصحته من ناحية إجازة
الإمام (عليه السلام) فلا يحتاج إلى إجازة الحاكم، وعليه فيتعلق الخمس بالثمن
ولو كان ذلك جارية، بل يصح النقل بلا عوض أيضا، وحينئذ فيتعلق
677

الخمس بذمة الناقل، وكل ذلك لأجل تلك الروايات.
وقد ذكرنا في كتاب الخمس (1) أن أخبار التحليل كلها، مطلقها
ومقيدها، محمولة على هذه الجهة، وأن التحليل إنما هو للمنقول إليه
فقط لا للناقل، بل ذمته مشغولة بحق الإمام (عليه السلام)، وإنما التزمنا بذلك
جمعا بين الأخبار الدالة على طيب المناكح والمساكن والمتاجر للشيعة
وبين ما دل على وجوب ايصال حق الإمام (عليه السلام) إليه (2).
ولو أغمضنا عما ذكرناه لما جاز شراء ما فيه حق الإمام (عليه السلام)، ولما
جاز التصرف، ولما جاز وطئ الأمة التي هي للإمام (عليه السلام)، مع أنها
جائزة، وأيضا يلزم أن يكون المتولد من تلك الجارية ولد زنا مع أنه ليس
كذلك، وجميع ذلك ليس إلا من أن الإمام (عليه السلام) قد أمضى هذه
المعاملات تفضلا منه على شيعتهم.

1 - كتاب الخمس: 345.
2 - عن علي بن إبراهيم عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني (عليه السلام) إذ دخل عليه صالح
ابن محمد بن سهل وكان يتولي له الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني من عشرة آلاف في حل
فإني قد أنفقتها، فقال له: أنت في حل، فلما خرج صالح قال أبو جعفر (عليه السلام): أحدهم يثب على
أموال آل محمد وأيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم فيأخذه ثم يجئ فيقول: اجعلني في حل،
أتراه ظن أني أقول: لا أفعل، والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا (الكافي
1: 460، التهذيب 4: 140، الإستبصار 2: 60، عنهم الوسائل 9: 537)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
عن أبي على ابن أبي الحسين الأسدي عن أبيه قال: ورد على توقيع من محمد بن عثمان
العمري ابتداء لم يتقدم سؤال: بسم الله الرحمن الرحيم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
على من استحل من مالنا درهما - إلى أن قال: - فقلت في نفسي: إن ذلك في كل من استحل
محرما، فأي فضيلة في ذلك للحجة، فوالله لقد نظرت بعد ذلك في التوقيع فوجدته قد انقلب
إلى ما وقع في نفسي: بسم الله الرحمن الرحيم، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من
أكل من مالنا درهما حراما (اكمال الدين: 552، الإحتجاج: 480، عنهما الوسائل 9: 541)،
ضعيفة.
678

وقد اتضح لك مما ذكرناه فساد ما يقال، من أن مقتضى ما دل على
طيب المناكح هو إباحة وطي الجارية التي جعلت ثمنا لما فيه الخمس،
مع أن مقتضى انتقال الخمس إلى الثمن هو عدم الجواز، ووجه الفساد هو
ما ذكرناه، من مقتضى الجمع بين الأخبار هو اختصاص التحليل بالمنقول
إليه فقط فلا يعم الناقل، وتفصيل الكلام في محله.
الوجه السابع
الروايات الواردة في عامل مال المضاربة لو خالف ما شرط عليه من
تعيين سلعة مخصوصة فاشترى غيرها، أو المنع عن السفر إلى أرض
معلومة فسافر إليها (1)، فإنها تدل على أنه يضمن مال المضاربة مع التلف

1 - عن جميل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل دفع إلى رجل مالا يشتري به ضربا من
المتاع مضاربة، فذهب فاشترى به غير الذي أمره، قال: هو ضامن، والربح بينهما على ما شرط
(التهذيب 7: 193، عنه الوسائل 19: 18)، صحيحة.
عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في الرجل يعطي الرجل المال فيقول له: ائت
أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها، قال: فإن جاوزها وهلك المال فهو ضامن، وإن
اشترى متاعا فوضع فيه فهو عليه وإن ربح فهو بينهما (الكافي 5: 240، التهذيب 7: 189، عنهما
الوسائل 19: 15)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يعطي المال مضاربة وينهي
أن يخرج به فخرج، قال: يضمن المال والربح بينهما (الكافي 5: 240، التهذيب 7: 189، عنهما
الوسائل 19: 15)، صحيحة.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يعطي الرجل مالا مضاربة وينهاه أن يخرج
به إلى أرض أخرى فعصاه، فقال: هو له ضامن والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه (
التهذيب 7: 187، عنه الوسائل 19: 18)، موثقة بوهيب وابن سماعة.
عن الكناني قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المضاربة يعطي الرجل المال يخرج به إلى
الأرض وينهي أن يخرج به إلى أرض غيرها، فعصي فخرج به إلى أرض أخرى فعطب المال،
فقال: هو ضامن، فإن سلم فربح فالربح بينهما (التهذيب 7: 189، الفقيه 3: 143، عنهما الوسائل
19: 17)، ضعيفة بمحمد بن الفضيل.
عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) في المضاربة إذا أعطى الرجل المال ونهي أن يخرج
بالمال إلى أرض أخرى فعصاه فخرج به، فقال: هو ضامن والربح بينهما (التهذيب 7: 187، عنه
الوسائل 19: 18)، ضعيفة بأبي جميلة.
679

ولكن الربح مشترك بينهما على الشرط.
وهذا لا يتم إلا على القول بصحة المعاملات الفضولية وتأثير الإجازة
اللاحقة فيها، فإنه على هذا تكون المعاملة الصادرة من العامل فضولية
وتصح بالإجازة اللاحقة وإلا فمقتضى القاعدة أن يكون مجموع الربح
للمالك.
قال المصنف وهذا نصه: فإنها إن أبقيت على ظاهرها من عدم توقف
ملك الربح على الإجازة كما نسب إلى ظاهر الأصحاب، وعد هذا خارجا
عن بيع الفضولي بالنص كما في المسالك وغيره كان فيها استيناس لحكم
المسألة، من حيث عدم اعتبار إذن المالك سابقا في نقل المالك إلى غيره
وإن حملناها على صورة رضا المالك بالمعاملة بعد ظهور الربح كما هو
الغالب.
وبمقتضى الجمع بين هذه الأخبار وبين ما دل على اعتبار رضا المالك
في نقل ماله والنهي عن أكل المال بالباطل (1) اندرجت المعاملة في

1 - عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي، عن أبي جعفر محمد بن عثمان العمري (رحمه الله)،
عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه، قال: فلا يحل لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير
إذنه (الإحتجاج: 479، اكمال الدين: 520، عنهما الوسائل 9: 540، 25: 386).
عن سماعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من كانت عنده أمانة
فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، فإنه لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفس منه (الكافي
7: 273، الفقيه 4: 66، عنهما الوسائل 5: 120)، موثقة بزرعة وسماعة الواقفين.
وعن تحف العقول، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال في خطبة حجة الوداع: أيها الناس إنما
المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه (تحف العقول: 34)، مرسلة.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: المسلم أخو المسلم، لا يحل ماله إلا عن طيب نفسه (عوالي
اللئالي 3: 473، عنه المستدرك 3: 331)، مرسلة.
وعنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه إلا بإذنه (عوالي اللئالي 1: 146، عنه
المستدرك 3: 331)، مرسلة.
عن محمد بن زيد الطبري قال: كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن
الرضا (عليه السلام) يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم... لا يحل مال إلا
من وجه أحله الله (الكافي 1: 460، المقنعة: 46، التهذيب 4: 140، الإستبصار 2: 60، عنهم
الوسائل 9: 539)، مرسلة.
680

الفضولي وصحتها في خصوص المورد، وإن احتمل كونها للنص
الخاص إلا أنها لا تخلو عن تأييد للمطلب.
وملخص كلامه أن الروايات الدالة على صحة المعاملة الصادرة من
عامل القراض تدور على احتمالين: أحدهما: عدم لزوم الإجازة في
المعاملة المزبورة، والثاني: دلالتها على صحة تلك المعاملة مع الإجازة
الحقة، ضرورة أن المالك وإن لم يكن راضيا بها قبل ظهور الربح ولكنه
رضي بها.
وعلى الأول فيستأنس بها لصحة بيع الفضولي لاشتراكه مع مورد
الروايات في عدم لزوم الإذن السابق في نقل المال، وعلى الثاني فتدل
على صحة بيع الفضولي.
أقول: أما الاحتمال الأول فيرد عليه أن مجرد الاستيناس لا يدل على
صحة بيع الفضولي، فإنه لا يفيد إلا الظن فهو لا يغني من الحق شيئا،
681

بل لا استيناس هنا أيضا، بديهة أن الحكم بصحة عقد الفضولي
بلا احتياجه إلى الإجازة اللاحقة في مورد خاص للنص غير مربوط
بصحة المعاملة الفضولي مع الإجازة.
وذلك لأن النص قد دل عدم اعتبار إذن المالك في الأول بخلاف
الثاني فإنه تعتبر في صحته إجازة المالك، كما هو المفروض، واشتراك
مورد النصوص مع سائر العقود الفضولية في عدم اقتران العقد بإذن
المالك لا يقتضي الاتحاد من جميع الجهات، على أنه لو صح التمسك
بها في المقام للزم الحكم بصحة بيع الفضولي بلا احتياج إلى رضا المالك
لا سابقا ولا لاحقا، إذ لم يفرض في مورد الروايات احتياج معاملة
العامل إلى إجازة المالك بل إنما حكم الإمام (عليه السلام) بصحتها على وجه
الاطلاق.
فتحصل أن هذه الروايات أجنبية عن بيع الفضولية بالكلية في مورد،
فلا استيناس بها لصحة بيع الفضولي بوجه.
وأما الاحتمال الثاني، فيتوجه عليه أنا لو فرضنا لحوق الإجازة من
المالك بالمعاملة التي أوقعها العامل، ولكنها لا يتفق ومورد الروايات،
بداهة أن المذكور فيها إنما هو اشتراك الربح بين المالك والعامل،
ومقتضى لحوق الإجازة بها هو كون الربح بأجمعه للمالك وأن العامل
لا يستحق منه شيئا.
ودعوى أن المالك إنما أجاز البيع بعنوان أنه من مصاديق المضاربة،
ومن الظاهر أن متقضي عقد المضاربة هو اشتراك الربح بينهما، دعوى
فاسدة، لأنها تكلف في تكلف على أن ذلك يقتضي كون التلف على
المالك لا على العامل مع أنه مخالف لصريح تلك الروايات، على أن
حملها على صورة لحوق الإجازة من المالك دعوى فاسدة إذ لا شاهد
682

عليه في شئ من تلك الأخبار ولا في غيرها، فيكون الحمل تبرعيا
محضا.
وعلى الجملة أن الروايات المذكورة وإن كانت تنطبق على البيع
الفضولي، بناء على ما ذكره المصنف من الاحتمال الثاني، ولكن لازم
ذلك هو عدم كون الربح مشتركا بين العامل والمالك، ضرورة أن ما وقع
عليه عقد المضاربة لم يوجده العامل وما أوجده العامل غير مربوط
بالمضاربة بل إنما هو عقد آخر فضولي، فإن إجازة المالك اختص به
لا أنه يكون من مصاديق المضاربة ومشتركا بينه وبين العامل وإن لم يجزه
بطل من أصله، والعجب من المصنف فإنه كيف حمل تلك الروايات على
الفضولي بمقتضى الجمع بينها وبين ما دل على اعتبار الرضا في نقل
الأموال.
فتحصل أن الحكم بصحة بيع الفضولي مع لحوق الإجازة بها من ناحية
تلك الأخبار يعد من الغرائب وأنها بعيدة عن كلا الاحتمالين الذين
ذكرهما المصنف.
ثم إنه هل يمكن تطبيق تلك الروايات على القاعدة أو أنها محمولة
على التعبد المحض.
فربما يقال بالأول، بدعوى أن غرض الإمام (عليه السلام) من تلك الروايات
إنما هو التنبيه على ما تقتضيه القاعدة، وبيان ذلك:
أن غرض المالك من ايقاع عقد المضاربة ليس إلا الاسترباح وتحصيل
المنفعة بأي وجه اتفق، إلا أنه نهي عن اشتراء سلعة خاصة أو عن
المسافرة إلى محل معين لأجل تخيله عدم حصول الربح من ذلك أو تلف
المال عندئذ، فيكون نهيه عن المعاملة الخاصة أو عن المسافرة إلى مكان
مخصوص من طرق تحصيل المنفعة أيضا، وإلا فليس له غرض خاص
683

من المنع المزبور ولا هناك مصلحة خفية لا يعلمها العامل، ولا أنه
مستند إلى العناد واللجاج.
وإذن فالممنوع عنه ليس بخارج عن حدود المضاربة، غاية الأمر أن
المالك قد اشترط على العامل شرطا خارجا عما يقتضيه عقد المضاربة
لأجل ذلك الخيال، وحينئذ فلو رأى العامل ربحا في البيع الذي نهي عنه
المالك وأقدم عليه لكان ذلك من مصاديق عقد المضاربة وإن لم يلتفت
إليه المالك بل منع عنه صريحا، ضرورة أن منعه عن ذلك ليس إلا من
قبيل الخطأ في التطبيق وتخيله عدم وجود النفع في المنهي عنه مع
وجوده فيه واقعا.
وعلى هذا فاشتراكهما في الربح من جهة عقد المضاربة لا للإجازة
اللاحقة لكي يستدل بذلك على صحة العقود الفضولية، كما أن كون
الخسران على العامل من جهة الاشتراط فإنه يؤثر في كون الوضيعة عليه،
وبه تخرج المعاملة عن المضاربة في صورة الخسران.
وتدل على ذلك قصة عباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) (1)، حيث إنه كان يقارض
عماله ويشترط عليهم أن لا ينزلوا بطون الوادي وإلا فالضرر عليهم،
فيعلم من هذه القضية أنه لا بأس باشتراط كون الوضيعة على عامل
المضاربة في فرض المخالفة.

1 - عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في المال الذي يعمل به مضاربة: له من الربح
وليس عليه من الوضيعة شئ، إلا أن يخالف أمر صاحب المال، فإن العباس كان كثير المال،
وكان يعطي الرجال يعملون به مضاربة، ويشترط عليهم أن ينزلوا بطن واد ولا يشتروا ذا كبد
رطبة، فإن خالفت شيئا مما أمرتك به فأنت ضامن للمال (التهذيب 7: 191، عنه الوسائل
19: 17)، صحيحة.
قوله: ذا كبد، كناية عن الحيوان، وإنما منع عنه لكونه في معرض الآفات.
684

ويرد عليه أولا: أنه لا يمكن الالتزام بالخطأ في التطبيق في جميع
الموارد بل إنما يمكن الالتزام به فيما علم أنه ليس غرض المالك من ايقاع
عقد المضاربة إلا الاسترباح بأي وجه اتفق، فإنه عندئذ يمكن القول
بصحة المضاربة في صورة المخالفة عند ظهور الربح فيهما، وأما إذا
لم يعلم غرضه من ذلك فلا يمكن الالتزام بالخطأ في التطبيق في صورة
المخالفة، مثلا إذا اشترط المالك على العامل في عقد المضاربة أن يبيع
إلا الأكفان، فإن في مثل ذلك لا يمكن القول بأن غرض المالك من
المضاربة ليس إلا تحصيل الربح.
وثانيا: أنه لا دليل على اتباع غرض المالك في العقود والايقاعات ما
لم يبرز بمظهر خارجي وإلا يصح ذلك في جميع الموارد فيلزم منه
تأسيس فقه جديد، مثلا إذا وكل أحد غيره في بيع داره لم يجز للوكيل
أن يبيع دابة الموكل أيضا بتخيل أن غرض الموكل من التوكيل في بيع داره
ليس إلا الاتجار بماله بأي وجه اتفق، فذكر الدار إنما هو لأجل تخيله أن
غير الدار لا تباع بالقيمة المناسبة.
وكذلك إذا وكلت المرأة أحدا في تزويجها بالعالم الفلاني لم يجز
للوكيل أن يزوجها بعالم آخر أفضل منه بتخيل أن غرض المرأة إنما
التزويج بالعالم وأن تعيين شخص خاص من جهة عدم التفاتها إلى من هو
أفضل منه، وإلى غير ذلك من الأمثلة.
وثالثا: أن تطبيق تلك الروايات على القاعدة على الوجه المذكور
لا يتم في جميع الموارد لكون ذلك أخص من المدعي، لأنه ربما تكون
المعاملة مربحة في صورة المخالفة كما هو مورد الأخبار، ولكنها
لا تكون موافقة لغرض المالك، كما إذا نهي عن المعاملة مربحة كان
ربحها في كل عشرة اثنان ورخص في المعاملة مربحة كان ربحها في كل
عشرة ثمانية، فإنه عندئذ كيف يمكن الالتزام بصحة المعاملة الأدنى
685

بقانون أن غرض المالك من المضاربة هو الاسترباح وأن النهي عن معاملة
خاصة لأجل الخطأ في التطبيق، وإذن فلا يمكن تطبيق الروايات على
القواعد.
وأما كون الخسران على العامل في مورد الروايات فليس ذلك من
ناحية الاشتراط وإلا لكان تخلفه موجبا للخيار لا كون الوضيعة على
العامل، بل هو من قبيل اشتراط كون الوضيعة على العامل في صورة
المخالفة، وهذا المعنى وإن كان يتفق أحيانا كما اتفق في معاملات
عباس عم النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن لا كلية له قطعا، ومن الظاهر أن الأمور
الاتفاقية لا تكون ضابطة كلية لكي تؤخذ بها في جميع الموارد، وهذا
ظاهر لا شك فيه.
فتحصل من جميع ما ذكرناه أنه لا يمكن حمل النصوص المذكورة
على الفضولي مع تقييدها بالإجازة اللاحقة، ولا حملها على القواعد، بل
هي محمولة على التعبد المحض الذي يخالف القواعد.
وحينئذ فلا يجوز التعدي عن موردها بل يجب الاقتصار عليه، مع أن
ورودها على طبق القاعدة يقتضي ذكر ذلك في غير باب المضاربة أيضا،
لأن الحركة على طبق غرض المالك لا يختص بباب المضاربة بل تجري
في الوكالة وغيرها أيضا، مع أنه لم يتفوه به أحد، بل يقتضي ذلك
الاختلاف في مضمونها مع أن الفقهاء قد أفتوا على طبقها بلا خلاف في
ذلك من أحد.
قال العلامة في القواعد: ولو أمره بالسفر إلى جهة فسافر إلى
غيرها بابتياع شئ معين فابتاع غيره ضمن، ولو ربح حينئذ فالربح على
شرط (1).

1 - القواعد 1: 124.
686

وحكي التصريح بذلك كله عن النهاية والشرايع والنافع والتذكرة
والتحرير وجامع المقاصد والمسالك والكفاية والمفاتيح (1)، وقضية
اطلاق جمع آخر.
بل حكي الاجماع عن الغنية والسرائر على أنه يضمن فيما إذا خالف
في السفر وابتياع المعين (2)، وعن جامع المقاصد أنه لا بحث فيه بل نسبه
إلى الأصحاب (3).
بل في الرياض أنه لا خلاف فيه (4)، وعن ظاهر جامع المقاصد
وموضعين من المسالك أن الربح على الشروط فيما إذا خالف في هذين
الأمرين (5)، وعن ايضاح النافع أن عليه الفتوى (6)، وعن موضع من مجمع
البرهان كأنه لا خلاف فيه، وفي آخر أن الخلاف فيه غير معلوم (7).
وعلى الجملة أنه لا شبهة ولا خلاف في حمل الروايات المتقدمة
على التعبد المحض، وتفصيل الكلام في محله.
ثم إن شيخنا الأستاذ بعد ما حكم بصحة المعاملة التي فيها ربح
ودخولها تحت المضاربة وخروجها عنها في صورة الخسران قال: ثم إن كون الوضيعة عليه مع أن في صورة البطلان لا وضيعة، محمول على
ما إذا لم يمكن استرداد المبيع فيتحقق الخسران (8).

1 - النهاية: 385، الشرايع 2: 14، التذكرة 1: 462.
2 - الغنية: 207، السرائر 2: 415.
3 - جامع المقاصد 3: 5.
4 - الرياض 1: 512.
5 - المسالك 1: 356.
6 - إيضاح الفوائد 1: 417.
7 - مجمع البرهان 8: 158.
8 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 30.
687

ويرد عليه أن كون الوضيعة على العامل من جهة بطلان العقد وعدم
امكان استرداد المبيع وإن كان ممكنا في الجملة إلا أن هذا لا يجري في
جميع الروايات، لأنه حكم الإمام (عليه السلام) في بعضها بكون الخسران على
العامل بعد فرض صحة المعاملة فيه، كما يظهر ذلك لمن يلاحظها.
الوجه الثامن
الأخبار الواردة في الاتجار بمال اليتيم.
قال المصنف وهذا نصه: ومن هذا القبيل - أي من قبيل أخبار
المضاربة - الأخبار الواردة في اتجار غير الولي في مال اليتيم وأن الربح
لليتيم، فإنها إن حملت على صورة إجازة الولي كما هو صريح جماعة (1)
تبعا للشهيد (2) كان من أفراد المسألة، وإن عمل باطلاقها كما عن جماعة
ممن تقدمهم خرجت عن مسألة الفضولي لكن يستأنس لها بالتقريب
المتقدم، وربما احتمل دخولها في المسألة من حيث إن الحكم بالمضي
إجازة إلهية لاحقة للمعاملة، فتأمل.
وقال في البلغة: منها ما ورد مستفيضا وفيه الصحيح والمعتبر فيمن
اتجر بمال الطفل لنفسه بغير إذن وليه أنه يضمن المال والربح للطفل
اليتيم، والتقريب فيه ما تقدم حرفا بحرف.
ويرد عليه أولا: جميع ما وجهناه على الوجه السابق طابق النعل
بالنعل فلا استيناس بشئ منها لصحة بيع الفضولي مع لحوق الإجازة
فضلا عن الدلالة عليها.

1 - كالشهيد الثاني في المسالك 1: 357، والمحقق الثاني في جامع المقاصد 3: 5، والسيد
العاملي في المدارك 5: 20، والبحراني في الحدائق 12: 26.
2 - الدروس 1: 229.
688

وثانيا: أنا لم نعثر على خبر يكون نصا أو ظاهرا في كون المتجر بمال
اليتيم هو غير الولي، بل الروايات الواردة في الاتجار بماله كلها على
طائفتين: الطائفة الأولى صريحة في تجارة نفس الولي بذلك (1)، والثانية
مطلقة وغير مقيدة بالولي ولا بغيره (2)، ومن الظاهر أنه لا دلالة في كلتا
الطائفتين على ما نحن فيه ولا استيناس بهما لذلك.
أما الطائفة الأولى، فلأن اتجار الولي بمال اليتيم تارة يكون لنفسه، بأن
يستقرض من اليتيم ويتجر به لنفسه، بل صرح الإمام (عليه السلام) بذلك في

1 - عن أسباط بن سالم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كان لي أخ هلك فأوصي إلى أخ أكبر
مني وأدخلني معه في الوصية، وترك ابنا له صغيرا وله مال، أفيضرب به أخي؟ فما كان من
فضل سلمه لليتيم وضمن له ماله؟ فقال: إن كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم إن تلف فلا بأس
به، وإن لم يكن له مال فلا يعرض لمال اليتيم (الكافي 5: 131، التهذيب 6: 342، عنهما
الوسائل 17: 257)، مجهولة بأسباط بن سالم.
عن أبي الربيع قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الرجل يكون في يديه مال لأخ له يتيم وهو
وصيه أيصلح له أن يعمل به؟ قال: نعم يعمل به كما يعمل بمال غيره والربح بينهما، قال: قلت:
فهل عليه ضمان؟ قال: لا، إذا كان ناظرا له (التهذيب 4: 28، الإستبصار 2: 30، عنهما الوسائل
9: 89)، مجهولة بأبي الربيع الشامي.
2 - عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في مال اليتيم، قال: العامل به ضامن و
لليتيم الربح إذا لم يكن للعامل مال، وقال: إن عطب أداه (الكافي 5: 131، التهذيب 6: 342،
عنهما الوسائل 17: 257)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
عن ربعي بن عبد الله عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال في رجل عنده مال اليتيم، فقال: إن كان
محتاجا وليس له مال فلا يمس ماله، وإن اتجر به فالربح لليتيم وهو ضامن (الكافي 5: 131،
التهذيب 6: 341، عنهما الوسائل 17: 257)، صحيحة.
وغيرها من الروايات المذكورة في كتاب الزكاة من الوسائل الباب 2 من أبواب من تجب
عليه الزكاة ومن لا تجب عليه.
689

رواية الصيقل (1) بأنه إن كان عندك مال وضمنته فلك الربح وأنت ضامن
للمال، فإن المراد من الضمان فيها هو ضمان القرض، فمعنى ضمنته أي
أخذته قرضا، ولكن الرواية ضعيفة، وأخرى لليتيم.
وعلى الأول فالمعاملة مختصة بالولي فلا حظ فيها لليتيم بوجه،
وعليه فيكون ربح التجارة له وخسارتها عليه، وإذن فلا ربط لها
بالمعاملة الفضولية بل شأنها شأن سائر تجاراته بمال نفسه، وهذا واضح
لا شبهة فيه.
وعلى هذا تحمل الروايات الدالة على جواز أخذ مال اليتيم مع
الضمان (2)، والشاهد على هذا الحمل هو أن غير الولي ولو كان مليا
لا يجوز له الاقتراض من مال اليتيم بدون إذن وليه، مع أن المذكور في
هذه الروايات هو الاقتراض بدون إذنه، على أن بعضها مقيد بخصوص
الولي كما يظهر ذلك لمن يلاحظها.

1 - عن منصور الصيقل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن مال اليتيم يعمل به؟ قال: فقال:
إذا كان عندك مال وضمنته فلك الربح وأنت ضامن للمال، وإن كان لا مال لك وعملت به
فالربح للغلام وأنت ضامن للمال (التهذيب 4: 29، الإستبصار 2: 30، عنهما الوسائل 9: 89)،
موثقة.
2 - عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل ولى مال يتيم أيستقرض منه؟
فقال: إن علي بن الحسين (عليهما السلام) قد كان يستقرض من مال أيتام كانوا في حجره، فلا بأس بذلك
(الكافي 5: 131، التهذيب 6: 341، عنهما الوسائل 17: 259)، صحيحة.
عن أحمد بن محمد بن نصر قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الرجل يكون في يده مال
لأيتام فيحتاج إليه، فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده، فقال: لا ينبغي له أن يأكل إلا القصد
ولا يسرف، وإن كان من نيته أن لا يرده عليهم فهو بالمنزل الذي قال الله عزو جل: إن الذين
يأكلون أموال اليتامى ظلما (الكافي 5: 128، التهذيب 6: 339، عنهما الوسائل 17: 259)،
ضعيفة بسهل بن زياد، والآية في النساء: 10.
690

وعلى الثاني فلا ربط للمعاملة الفضولي أيضا، إذ لو كانت فضولية
لاحتاجت إلى إذن الولي فتخرج بذلك عن الفضولية، وأما إذا كان
المتصدي لها هو شخص الولي فلا تحتاج صحتها إلى إذن أحد، ضرورة
أن صحة تصرفات غير الولي متوقفة على إذن الولي، فلو كانت صحة
تصرفات الولي أيضا متوقفة على إذن غيره فإما يدور أو يتسلسل،
وكلاهما باطل.
نعم يعتبر في اتجار الولي بمال اليتيم أن يكون مليا، أي ذا مال، فإنه
حينئذ يكون الربح لليتيم والخسران أيضا عليه.
أقول: لا دليل على كون الخسران على الطفل بعد ضعف الطائفة
الأولى.
وأما الطائفة الثانية فهي ظاهرة في كون الربح لليتيم والوضيعة على
التاجر مع عدم الفرق فيها بين الولي وغيره لمكان الاطلاق، إلا أن يقال إن
هذه الطائفة المطلقة مقيدة بالطائفة الأولى، ولكنها ضعيفة السند كما
ذكرناه في الحاشية، وأما إذا كان فقير فيكون الربح عندئذ لليتيم
والخسران على الولي المتجر به، كما في رواية الصيقل وغيرها.
وهذا أيضا غير مربوط بالفضولي لما عرفته قريبا من أن مقتضى صحة
المعاملة بالإجازة هو كون النفع لليتيم والوضيعة عليه ومقتضى عدم
امضائها هو بطلانها من أصلها، ولكن الشارع حكم بكون الربح لليتيم
تعبدا.
ولعل الحكمة فيه هو مراعاة حال اليتيم كما سيأتي قريبا الإشارة إليه
على ما في الرواية، كما أن الأمر كذلك في اتجار غير الولي بمال اليتيم،
وسيأتي قريبا، على أن هذه الطائفة من الروايات ضعيفة السند.
وأما الطائفة الثانية التي تدل على جواز الاتجار بمال اليتيم مطلقا،
691

فهي ناظرة إلى رعاية حال اليتيم وواردة في مقام التوسعة له والامتنان
عليه، لأنه تعالى قد رخص في الاتجار بماله لأي أحد مع كون ربح
التجارة له ووضيعتها على التاجر، ولعل النكتة في ذلك هو أن لا يقرب
أحد مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
ولا شبهة في أن هذا حكم تعبدي محض وغير مربوط بالفضولي
أصلا، ولا تنطبق عليه القواعد، ولا أن صحة المعاملة المزبورة متوقفة
على إجازة الولي لو كان التاجر غيره حتى يتوهم أنها كيف تكون
صحيحة مع عدم لحوق الإجازة بها، إذ لو كانت هي فضولية وموقوفة
على إجازة الولي لاختصت باليتيم في صورة الإجازة وكانت الوضيعة
عليه والربح له وكانت باطلة من أصلها في صورة الرد.
وعلى كل حال فلم يكن وجه لكون الربح لليتيم والوضيعة على
التاجر، فيعلم من ذلك كله أن الروايات محمولة على التعبد الصرف.
وقد يقال إن كون الاتجار بمال اليتيم فضوليا لا يستلزم التوقف على
إجازة الولي، بل يمكن أن يكون ذلك فضوليا ومجازا من قبل الله تعالى
وقد وصلت إلينا هذه الإجازة بواسطة سفرائه الكرام، وعليه فتحمل
الروايات المتقدمة على هذه الناحية.
ويرد عليه أن ادخال التجارة بمال اليتيم في الفضولية بالإجازة الإلهية
يوجب خروجها عن ذلك جزما، ضرورة أن تلك الإجازة موجودة حال
العقد لا أنها تلحق به لكي توجب اندراج مورد الروايات في عقد
الفضولي، ولعله لأجل هذا أمر المصنف بالتأمل، وهذا المطلب ظاهرا
ينافي لما تقدم من أن الإذن غير الواصل لا يخرج العقد عن الفضولية وإن
كان الإذن موجودا حال العقد.
فتحصل من جميع ما ذكرناه أن الروايات الواردة في الاتجار بمال
اليتيم أجنبية عما نحن فيه بالكلية.
692

الوجه التاسع
رواية موسى بن أشيم (1)، حيث إن الإمام (عليه السلام) قد اكتفى في الحكم
بتملك العبد بثبوت وقوع الشراء بمال المدعي، ومن الظاهر أن إجازة
المالك لو لم تكن كافية في صحة الفضولي لما اكتفى الإمام بذلك، لأن
تحقق العام لا يستلزم تحقق الخاص أيضا.
ولا يخفى عليك أن صريح الرواية هو أن المدعي لملكية الأب ثلاث
طوائف:
ألف - موالي الأب المعتق، فإنهم يدعون اشتراءه بمالهم.
ب - موالي العبد المأذون، فإنهم يدعون اشتراءه بمالهم.
ج - ورثة الميت، فإنهم يدعون اشتراءه بمالهم.
وعلى الأول فالمعاملة باطلة من أصلها، لأنا ذكرنا في محله أن البيع
عبارة عن اعتبار التبديل بين المالين في جهة الإضافة، ولا شبهة في أن
هذا المعنى لا يتحقق إلا بدخول العوض في ملك من خرج المعوض عن
ملكه، بأن يفك البايع إضافته القائمة بالمتاع ويجعلها قائمة بالثمن،

1 - عن ابن أشيم عن أبي جعفر (عليه السلام) عن عبد لقوم مأذون له في التجارة دفع إليه رجل ألف
درهم فقال: اشتر بها نسمة وأعتقها عني وحج عني بالباقي، ثم مات صاحب الألف فانطلق
العبد فاشترى أباه فأعتقه عن الميت ودفع إليه الباقي يحج عن الميت فحج عنه، وبلغ ذلك
موالي أبيه ومواليه وورثة الميت جميعا فاختصموا جميعا في الألف، فقال موالي العبد المعتق
إنما اشتريت أباك بمالنا، وقال الورثة: إنما اشتريت أباك بمالنا، وقال موالي العبد: إنما اشتريت
أباك بمالنا، فقال أبو جعفر (عليه السلام): أما الحجة فقد مضت بما فيها لا ترد، وأما المعتق فهو رد في
الرق لموالي أبيه، وأن الفريقين بعد أقاموا البينة على أنه اشترى أباه من أموالهم كان له رقا
(التهذيب 7: 234، الكافي 7: 62، عنهما الوسائل 18: 280، (ضعيفة بابن أشيم).
693

ويفك المشتري إضافته القائمة بالمثمن ويجعلها قائمة بالمتاع، لأن
كلا من المتعاملين يبدل ماله عند المبايعة بمال شخص آخر في جهة
الإضافة.
وعليه فإذا باع أحد متاعه من غيره صار الدينار ملكا للبايع ولو صار
ملكا لشخص آخر لما صدق عليه مفهوم البيع، لأن الثمن لم يدخل في
ملك من خرج المثمن عن ملكه، كما أنه لو باع متاعه من نفسه لما صدق
عليه عنوان البيع أيضا لعدم تحقق التبديل في جهة الإضافة، مثلا إذا
ملك أحد ماله لنفسه بإزاء ماله الآخر أو ملكه لزيد بإزاء تمليك زيد ماله
لشخص آخر لم يصدق عليه عنوان البيع، وإذن فلا ربط للرواية على هذا
الوجه بالبيع الفضولي بوجه، بل نسبته إليها كوضع الحجر في جنب
الانسان.
وعلى الثاني فالمعاملة وإن كانت صحيحة ولكنها بعيدة عن بيع
الفضولي، إذ المفروض أن العبد مأذون في التجارة من قبل مواليه فيكون
مأذونا في شراء أبيه، وعليه فالرواية أيضا أجنبية عن عقد الفضولي، إلا أن يقال إن موالي المأذون وإن أذنوا له في التجارة، ولكن الظاهر أن
المراد منها هو التجارة التي فيها ربح وشراء العبد أباه ليس منها فيكون
فضوليا، فلا تكون الرواية أجنبية عنه، فتأمل.
وعلى الثالث فقد يقال بدخول المعاملة في العقد الفضولي، لأن
الظاهر من الرواية أن الشراء إنما هو بعد موت المورث وانتقال المال إلى
الورثة، وحينئذ فتكون المعاملة فضولية لعدم كون العبد مأذونا في ذلك
من قبلهم فتكون مطالبة المبيع إجازة، وإذن فتدل الرواية على صحة بيع
الفضولي، ضرورة أنه لو لم تكن الإجازة المتأخرة كافية في صحته لم يكن
مجرد دعوى الشراء بالمال وإقامة البينة عليه كافية في تملك المبيع.
694

ولكن كون البيع فضوليا في هذه الصورة متوقف على انكار الورثة
وصية مورثهم بما فعله العبد المأذون ودعواهم وكالته في ذلك من
المورث، فإنه عندئذ تبطل الوكالة بموت الموكل وتصح المعاملة
فضولية، لما عرفته من أن الظاهر من الرواية هو كون الشراء بعد موت
المورث.
وهذا المعنى وإن كان متينا في نفسه ولكن يحتمل أن يستند شراء
العبد إلى إذن الورثة، إذ المفروض هو كون المشتري مأذونا في التجارة
ولو كانت لغير مولاه كما هو مقتضى الاطلاق، وعلى هذا فلا تكون
المعاملة فضولية حتى مع انكار الوصية.
ودعوى أن هذا مخالف لظاهر الرواية واطلاقها، لأن الظاهر كون
العبد مأذونا في التجارة لمولاه فقط وإلا لوقع التعرض له في الرواية،
دعوى فاسدة، لما ذكرناه من أن مقتضى الاطلاق هو كون العبد مأذونا في
مطلق التجارة، ويضاف إلى ذلك أن الرواية مسوقة لبيان حكم
المخاصمة بين المدعين وليس فيها تعرض لهذه الناحية، كما لا تعرض
فيها لشرائط التجارة.
ولا يخفى عليك أنه بناء على نقل المصنف فالرواية ظاهرة في كون
الشراء قبل موت الدافع، وعليه فلا تكون المعاملة فضولية لأنه عندئذ
الرواية ظاهرة بل صريحة في كون المشتري مأذونا من قبل مولاه ومولى
أبيه ومن قبل أب الورثة، وإذن فتبعد الرواية عن عقد الفضولي، ولكن
المصنف لم ينقل الرواية بعينها وإلا فلا شبهة في ظهورها في كون الشراء
بعد موت المورث.
ثم إن شيخنا الأستاذ قد استظهر من الرواية ثبوت الوصية بما فعله
العبد المأذون، وإليك لفظ مقرر بحثه:
695

إن الظاهر من الرواية أن الدافع دفع الألف بعنوان الوصية، فورثته
يدعون الشراء بالألف ليكون ولاء العتق لهم، ويؤيد ذلك قوله (عليه السلام): أما
الحجة فقد مضت بما فيها لا ترد، فالورثة لا ينكرون الوصية حتى يكون
شراء العبد المأذون أباه فضوليا، ولا ينافي ذلك قوله (عليه السلام): أي الفريقين
بعد أقاموا البينة على أنه اشترى أباه من أموالهم كان لهم رقا، لامكان
حمله على لحاظ حال الانقضاء لا التلبس، وكيف كان فظهور الرواية في
مسألة الفضولي ممنوع فضلا عن الصراحة، نعم قابل للحمل عليها،
فتدبر (1).
ويرد عليه:
أولا: إنه ليس في الرواية ما يدل على صدور الوصية من صاحب المال
بل الشراء كان بمال الورثة، لأن المأذون كان وكيلا من الدافع وتبطل
وكالته بموت موكله كما عرفته قريبا.
نعم ربما يتوهم أن حكم الإمام (عليه السلام) بمضي الحج يدل على أن الميت
قد أوصى به لأنه لا يصح الحج عن الغير إلا بعد الموت، ولكنه توهم
فاسد، لأنه تصح النيابة عن الحي في الحج المستحب كما يظهر ذلك من
الروايات العديدة (2)، بل في الحج الواجب أيضا إذا لم يقدر عليه المنوب

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 31.
2 - عن إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته
وعمرته أو بعض طوافه لبعض أهله وهو عنه غائب ببلد آخر، قال: فقلت: فينقص ذلك من
أجره؟ قال: لا، هي له ولصاحبه وله أجر سوى ذلك بما وصل، قلت: وهو ميت هل يدخل
ذلك عليه؟ قال: نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له، أو يكون مضيقا عليه فيوسع عليه،
فقلت: فيعلم هو في مكانه أن عمل ذلك لحقه؟ قال: نعم، قلت: وإن كان ناصبيا ينفعه ذلك؟
قال: نعم يخفف عنه (الكافي 4: 315، عنه الوسائل 11: 197)، صحيحة.
696

عنه (1)، وتدل عليه الأخبار الكثيرة، ويضاف إلى ذلك أن الإمام (عليه السلام)
حكم بسماع دعوى الورثة بعد إقامة البينة، ومن الظاهر أنه لو كانت هناك
وصية لم يحكم به الإمام (عليه السلام).
وثانيا: إن ورثة صاحب المال يدعون أن المأذون قد اشترى أباه
بمالهم، ومن البين الذي لا ريب فيه أن مقتضى هذه الدعوى هو أن يكون
أباه رقا لا حرا، وعليه فلا يكون الغرض من دعواهم هو ثبوت ولاء العتق
لهم.
وثالثا: إن الحكم بمضي الحج في الرواية لا يتفق مع القواعد،
وسيأتي قريبا.
ثم إنه نوقش في الرواية بأمور فعمدتها أمران:
1 - الحكم بعود العبد الذي اشتراه المأذون رقا لمولاه ومطالبة البينة
من الفريقين الآخرين مع الأول يدعي فساد البيع كما عرفته قريبا،
والآخر أن يدعيان صحة البيع، وقد ثبت في محله أن مدعي الصحة في
باب المعاملات مقدم على مدعي الفساد.
وقد يتوهم أن تقديم قول مولى الأب على غيره ليس من قبيل تقديم
مدعي الفساد على مدعي الصحة لكي يناقش فيه بما ذكر، بل إنما هو من
جهة الاستصحاب، لأن الأصل بقاء الأب في ملك مولاه، ولكنه توهم

1 - عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن عليا (عليه السلام) رأى شيخا لم يحج قط
ولم يطق الحج من كبره، فأمره أن يجهز رجلا فيحج عنه (التهذيب 5: 14، عنه الوسائل
11: 63)، صحيحة.
عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: وإن كان موسرا وحال بينه وبين الحج
مرض أو حصر أو أمر يعذره الله فيه، فإن عليه أن يحج عنه من ماله صرورة لا مال له (التهذيب
5: 403، الفقيه 2: 260، عنهما الوسائل 11: 63)، صحيحة.
697

فاسد، إذ لا يجري الاستصحاب في المقام، لأن الظاهر من الرواية هو أن
العبد المأذون في التجارة كان عنده المال من جميع الفرق والخصماء
وكان مأذونا في التجارة لمولاه ومولى أبيه، وكان وكيلا أيضا من قبل
صاحب المال في شراء عبد وعتقه وتجهيزه للحج حتى يحج عن
الميت، وعليه فينفذ اقرار العبد على جميع الفرق، لأن من ملك الشئ
ملك الاقرار به.
ومن الواضح أن الظاهر من عمله الخارجي هو اعترافه باشتراء أبيه
بمال الدافع، فيكون عندئذ اعترافه أو عمله الخارجي حجة على مولى
الأب، وإذن فمقتضى القاعدة هو كون العبد ملكا لصاحب الدراهم
فعوده رقا لمولاه من جهة الاستصحاب مخالف للقاعدة فلا يجري
الاستصحاب هنا.
وبعبارة أخرى أن مدعي الصحة وإن كان يقدم على مدعي الفساد في
باب المعاملات، إلا أن ذلك لا يجري فيما نحن فيه، لأنا ذكرنا في محله
أن السيرة قائمة على صحة العمل فيما إذا أحرز أصل وجوده الجامع بين
الصحيح والفساد وشك في صحته وفساده من النواحي الأخر، وأما إذا
شك في أصل وجود العمل لم تجر أصالة الصحة لكون الشك حينئذ في
تحقق العمل في الخارج لا في صحته وفساده بعد احراز وجوده، بل
ذكرنا هناك أنها لا تجري مع عدم احراز قصد العنوان حتى فيما لم يكن
العنوان من العناوين القصدية كالطهارة الخبثية، مثلا إذا شاهدنا أحدا
يصب الماء على ثوب تنجس ولكنها لم نحرز أنه قصد تطهيره أم لا،
لم تجر فيه أصالة الصحة.
وهكذا الكلام في قاعدة الفراغ فإنها لا تجري مع الشك في أصل
وجود العمل أو في قصد عنوانه بل إنما تجري مع الشك في صحته
698

وفساده من ناحية الشرائط أو الموانع بعد احراز أصل وجوده.
ولا شبهة في أن هذه الكبرى لا تنطبق على ما نحن فيه، لأنه بناء على
دعوى مولى الأب لم يتحقق في الخارج معاملة حقيقية أصلا، بل إنما
تحققت معاملة صورية، وعليه فيكون شأنها شأن سائر المعاملات
الصورية كبيع الهازل والساهي والغالط والنائم وأشباهها، وإذن فعود
العبد المبتاع رقا لمولاه لا يكون مخالفا لأصالة الصحة لكي يلزم منه
تقديم مدعي الصحة على مدعي الفساد.
أما المنع عن جريان الاستصحاب بقاعدة من ملك شيئا ملك الاقرار به
فلا يرجع إلى معنى محصل، لأن القاعدة المذكورة لم ترد في آية ولا في
الرواية، ولا انعقد عليها اجماع تعبدي لكي يؤخذ بها في جميع
الموارد، بل هي قاعدة خاصة فقهية مختصة بما إذا كان المالك باقيا على
حالة الاقرار بالشئ لولا الاقرار به، مثلا إذا أقر زيد بكون ما في يده من
المال لبكر فهو باق على مالكيته للمقر به لولا الاقرار، ولا شبهة أن ما نحن
فيه ليس كذلك بداهة أن العبد المأذون في التجارة ليس مالكا وقت
الاقرار بشراء أبيه بمال الورثة، لأنهم لم يأذنوا في ذلك، وعليه فلا اعتبار
باقراره رأسا.
2 - إن العبد الذي اشتراء المأذون وأعتقه وجهزه الحج عن المنوب
عنه إما ملك لمواليه أو لمولى المأذون أو لصاحب المال، ولا شبهة في أنه لا يصح حجه عن الغير على جميع التقادير، أما على الأولين فظاهر
لأنه عبد فلا يصح حجه عن الميت بدون إذن مولاه، وعلى الثالث فالبيع
فضولي، ومن الظاهر أن العاقد فضولا لا يجوز له التصرف في الثمن
ولا في المثمن بالقبض والاقباض.
وعليه فكيف يمكن الحكم بصحة المأذون شراء الأب وعتقه عن
699

الميت وارساله إلى الحج ليحج عن ذلك الميت، ولا ريب في أن هذا كله
مخالف للقواعد الفقهية المسلمة.
والظاهر أنه لا جواب عن هذه المناقشة، ولكن الذي يهون الخطب أن
الرواية ضعيفة السند وغير منجبرة بعمل الأصحاب، لا صغري لعدم
فتوى الأصحاب على طبقها، ولا كبري لأنا ذكرنا في علم الأصول أن
عمل المشهور برواية ضعيفة غير جابر لضعف سنده، كما أن اعراضهم
عن العمل برواية صحيحة لا يوجب وهنها، بل لا بد وأن تلاحظ الرواية
في نفسها، فإن كانت صحيحة أخذ بها وإلا فلا، لأن ضم غير الحجة إلى
مثلها لا يوجب الحجية.
الوجه العاشر
حسنة الحلبي (1) الواردة في رجل اشترى ثوبا بلا شرط فكرهه وأقاله
البائع بوضيعة جهلا بحرمته ثم باعه بأزيد من ثمنه، فإنه يجب عليه أن
يرد الزايد إلى المشتري الأول.
فإن الحكم برد الزيادة عليه الظاهر في الاستحقاق مبني على صحة بيع
الفضولي لنفسه مع الإجازة اللاحقة وإلا فلا شئ للمشتري من الزيادة
لبطلان البيع، إذ لم يكن البايع مأذونا في بيع الثوب لكي يصح بدون
الإجازة.
وعلى هذا فالرواية منزلة على الغالب من لحوق الإجازة للبيع الواقع

1 - عن الحلبي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على
صاحبه شيئا فكرهه ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة، قال: لا يصلح له أن يأخذه
بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الأول ما زاد (التهذيب 7: 56،
الكافي 5: 195، الفقيه 3: 137، عنهم الوسائل 18: 71)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
700

بالزيادة على الثمن المطلوب له برد الثوب ليستحق تلك الزيادة، فلا بأس
بدلالتها على ما نحن فيه.
ويرد عليه أن الرواية غريبة عن بيع الفضولي، إذ البيع الواقع بالزيادة
ليس بفضولي، لأنه لو كان فضوليا لكان فضوليا من أصله من غير فرق بين
وقوعه على ما يساوي الثمن المطلوب له برده وبين الزائد عليه، لأن
معنى الإقالة إنما هو انفساخ العقد من أصله ورجوع كل من العوضين إلى
صاحبه الأول.
وعليه فإن تحققت الإقالة في مورد الرواية انفسخ العقد بالمرة ويرجع
كل من العوضين إلى صاحبه وإلا فلا، وحيث إن المفروض في مورد
الرواية هو بقاء الثوب على ملك المشتري لبطلان الإقالة بالوضيعة الزيادة
فلا وجه حينئذ لكون الناقص ملكا للبايع في فرض الوضيعة وكون الزائد
ملكا للمشتري في فرض الزيادة.
وعلى هذا الضوء لو أخذ البايع المتاع بوضيعة وباعه من شخص آخر
كان البيع فضوليا من أصله لا بالنسبة إلى الزائد على الثمن المطلوب
للمشتري، وعليه فإن أجازه المشتري حكم بصحته وإلا فيحكم
بفساده.
ويضاف إلى ذلك أنه يمكن أن يكون للمشتري غرض خاص من
الاستقالة فإذا لم يقبلها البايع حين الاستقالة فاته ذلك الغرض، وإذن
فلا تؤثر إقالته بعد مدة طويلة خصوصا مع ترق القيمة السوقية.
هذا كله ما يرجع إلى الاستدلال بالرواية على صحة بيع الفضولي، وأما
معناها فهو أن المشتري قد اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا
فكرهه ثم رد على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة، فحكم الإمام (عليه السلام)
بعدم جواز الإقالة بالوضيعة، وأما إذا كان المتبايعان جاهلين بذلك فأقالا
701

بالوضيعة فالاقالة وإن كانت فاسدة واقعا ولكن يستكشف منها أن
المشتري قد أذن للبايع في بيع الثوب، سواء أكان أقل من الثمن الأول كان
مساويا له أم زائدا عليه، غاية الأمر أن اعطائه للبايع بعنوان الإقالة مع
الجهل ببطلانها مع الوضيعة فباعه البايع لنفسه متخيلا أنه ملكه، فتكون
ذلك من قبيل الخطأ في التطبيق.
ودعوى أن البايع لم يقصد كون البيع للمشتري فيبطل من هذه الناحية
دعوى فاسدة، لما ذكرناه في الجزء الثالث أن حقيقة البيع إنما هي اعتبار
تبديل شئ بشئ في جهة الإضافة واظهاره بمظهر خارجي من اللفظ
وغيره، ولا شبهة في تحقق هذا المعنى بدخول العوض في ملك من
خرج المعوض عن ملكه وبالعكس بلا احتياج إلى تعيين مالك الثمن
تعيين مالك المثمن، إذ لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي، وعليه فتعيين
العوض والقصد إليه يغني عن تعيين المالك والقصد إليه، ولا يفرق في
ذلك بين صدور العقد من نفس المالك أو من غيره.
وبتعبير آخر أن اقتران العقد بالرضا وإن لم يخرج العقد عن الفضولية
كما عرفت آنفا، ولكن وجود الإذن السابق على العقد يخرجه عن
الفضولية، ولا شبهة في وجوده في مورد الرواية للقرينة عليها منها،
وهي أن الرواية قد دلت مطابقة على أن المشتري قد أذن لشخص البايع
في أخذ الثوب بالوضيعة، ودلت بالدلالة الالتزامية على جواز الأخذ
لغير البايع أيضا إذ لا فارق بينهما في ذلك جزما بل قد يكون بيعه من غير
البايع أولى وأرضى، لأن المشتري لما رضي رده على البائع بوضيعة
رضي بيعه من غيره بأكثر من ثمنه الأول بالأولوية القطعية، والمفروض
في مورد الرواية أن البايع قد باع الثوب بأكثر من ثمنه فيكون هذا البيع
مرضيا للمشتري قطعا.
702

فتحصل أن الرواية غير مربوطة بالبيع الفضولي بوجه.
ثم احتمل شيخنا الأستاذ ثانيا بأنه: يحتمل أن يكون البايع قد اشتراه
من المشتري ثانيا فيكون رد الزائد استحبابيا، ويشهد لهذا قوله (عليه السلام):
صاحبه الأول، فإن التعبير بصاحبه الأول لا يناسب مع كون الثوب ملكا
للمشتري فعلا (1).
والظاهر أن منشأ هذا الاحتمال إنما هو ارجاع الضمير في كلمة:
صاحبه إلى لفظ الثوب، فيكون معنى الرواية حينئذ أن البايع يرد
الزائد إلى صاحب الثوب، وعليه فتدل الرواية على أن من اشترى شيئا
بثمن ثم باعه بأزيد منه فيستحب له أن يرد الزائد على المالك الأول.
ولكن يتوجه عليه:
أولا: إن الظاهر من سياق الرواية هو رجوع الضمير إلى لفظ صاحبه
الذي ذكر في السؤال مرتين وأريد منه البايع، والمراد من لفظ صاحبه
الذي في الجواب هو المشتري، وعليه فمعنى الرواية هو أن البايع يرد
الزائد على رفيقه وقرينه الذي هو المشتري.
وثانيا: إن الثوب لو كان للبايع من ناحية البيع الثاني لم يبق مجال لقوله
(عليه السلام): لا يصلح له أن يأخذ بوضيعة فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه
يرد على صاحبه الأول ما زاد، إذ المفروض أن الثوب ملك للبايع وقد
اشتراه من المشتري الأول ثانيا بأقل من الثمن الذي باعه منه أولا،
ولا شبهة في صحة هذه المعاملة لأنها ليست بإقالة لكي لا تجوز
بالوضيعة مع العلم ويرد الزائد لو أخذه جهلا وباعه بأزيد من الثمن
الأول.
وثالثا: إن ارجاع الضمير إلى الثوب لا يرفع اللغوية بل يستلزمها، إذ

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 32.
703

بناء على هذا الاحتمال فالثوب له مالكان: أحدهما المشتري الأول،
وثانيهما البايع، وحيث إنه لا معنى لرد البايع ماله على نفسه، فيكون
ذلك قرينة على أن المراد من قوله (عليه السلام): ويرد على صاحبه، هو
المشتري.
وحينئذ فلا يبقي مجال لتوصيف ذلك بلفظ الأول وإلا فيكون لغوا،
وأما إذا أرجعنا الضمير إلى لفظ صاحبه المذكور في السؤال وأريد منه
البايع فإنه حينئذ لا تلزم اللغوية، لأن الثوب له صاحبان: الصاحب الأول
وهو الذي اشترى الثوب من البايع أولا، والصاحب الثاني وهو الذي
اشترى الثوب منه ثانيا، فإذا قيد لفظ صاحبه بكلمة الأول أريد منه
المشتري الأول، وعليه فتكون هذه الجملة قرينة على ما ذكرناه، لا على
ما ذكره شيخنا الأستاذ.
الوجه الحادي عشر
رواية عبد الرحمان بن أبي عبد الله قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
السمسار أيشتري بالأجر فيدفع إليه الورق ويشترط عليه أنك أن تأتي
بما نشتري، فما شئت أخذته وما شئت تركته، فيذهب فيشتري ثم يأتي
بالمتاع فيقول: خذ ما رضيت ودع ما كرهت، قال: لا بأس (1).
وقد جعلها المصنف مؤيدة لصحة بيع الفضولي، وحاصل كلامه أن
في الرواية احتمالات شتى:
1 - أن يراد من الشراء شراء السمسار لنفسه، فيكون أخذ الورق من
صاحبه حينئذ بعنوان القرض لكي يبيع منه من الأمتعة ما يرضي به
ويوفيه دينه.

1 - الكافي 5: 196، الفقيه 3: 137، التهذيب 7: 56، عنهم الوسائل 18: 74)، موثقة.
704

ولا ينافيه قول السائل: ويشترط عليه أن تأت بما تشتري فما شئت
أخذته وما شئت تركته، لأن ذلك لا يزيد على الوعد، فلا دلالة فيه على
كون البيع لصاحب الورق، كما أنه لا ينافيه توصيف لفظ السمسار بلفظ
بالأجر، وفرضه في الرواية ممن يشتري به فإن التوصيف المزبور إنما هو
بلحاظ أصل حرفته وصناعته لا بملاحظة هذه القضية الشخصية،
وحينئذ فيكون القيد توضيحيا لا احترازيا.
2 - أن يكون الشراء لصاحب الورق بأن يكون الدلال وكيلا عنه في
ذلك الشراء، ولكنه يجعل لنفسه الخيار على بايع الأمتعة بتوسط
السمسار، بأن يلتزم بالبيع فيما يرضي به ويفسخه فيما يكرهه.
3 - أن يكون الشراء أيضا لصاحب الورق ولكن لا يكون السمسار
مأذونا من قبله في ذلك بل يكون البيع فضوليا، ولا ينافيه دفع الورق إلى
الدلال لأن دفعه إليه لا يعد إذنا في الشراء ولا توكيلا فيه، إذ يمكن أن
يكون ذلك لمجرد تمكين الدلال من الشراء أو يكون ذلك بعنوان الأمانة
أو حصول الاطمينان للدلال بوصول ثمن ما يشتريه منه إليه، وأما فائدة
الشرط عليه من أخذ ما يريده وترك ما يكرهه عدم مطالبة الأجر منه على
عمله أو حذرا من إبائه وامتناعه عن ذلك.
وعلى هذا فيكون صاحب الورق مخيرا بين الرد والامضاء، فإذا
احتمل مورد السؤال لهذه الوجوه كلها، فترك الاستفصال مع الاجمال في
السؤال يقتضي بعموم الحكم لجميع المحتملات التي منها احتمال كون
الشراء فضوليا.
ويرد عليه أن ترك الاستفصال إنما يفيد العموم إذا كان مورد السؤال
ذا شقوق شتى، فأجاب عنها الإمام (عليه السلام) بجواب واحد بلا استفصال
بينها، فذلك يكشف عن اتحاد جميع تلك الشقوق في الحكم وإلا فيلزم
705

منه الاغراء بالجهل، وأما إذا لم يكن السؤال ذا شقوق شتى بل كان
الجواب محتملا لها فلا وجه لكشف العموم عن ترك الاستفصال، وهذا
ظاهر لا خفاء فيه.
ويضاف إلى ذلك أن الرواية ظاهرة في الاحتمال الثاني، وأن الشراء
إنما هو بإذن صاحب الورق، غاية الأمر أنه جعل لنفسه الخيار على
صاحب المتاع وقد عرفته آنفا، وإذن فلا اشعار في الرواية بصحة بيع
الفضولي فضلا عن دلالتها عليها أو تأييدها لها.
وهنا احتمال آخر ذكره المحقق صاحب البلغة وجعله أظهر
الاحتمالات، وهو وقوع الاشتراء بالمساومة واطلاقه عليه اطلاق شائع،
أو مجاز بالمشارفة ويكون دفع الورق لطمأنينة السمسار وهو كثير
الوقوع سيما مع الدلال والسمسار - انتهى.
وهذا الاحتمال أيضا لا بأس به، على أن الرواية غير نقية السند.
الوجه الثاني عشر
ما ورد في استرباح الودعي الجاحد للوديعة من ردها بربحها إلى
المالك المودع، فعن مسمع أبي سيار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني
كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه وحلف لي عليه، ثم جاء بعد ذلك
بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه، فقال: هذا مالك فخذه، وهذه
أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك واجعلني في حل،
فأخذت المال منه وأبيت أن آخذ الربح وأوقفت المال الذي كنت
استودعته وأتيت حتى استطلع رأيك فما تري، قال: فقال: خذ الربح
وأعطه النصف وأحله، إن هذا رجل تائب والله يحب التوابين (1)،

1 - التهذيب 7: 180، الفقيه 3: 194، عنهما الوسائل 19: 89، ضعيفة بالحسن بن عمارة.
706

والرواية ضعيفة بالحسن بن عمارة.
ووجه الاستدلال هو أن أخذ الربح الظاهر في الاستحقاق لا يصح إلا
على صحة بيع الفضولي مع الإجازة اللاحقة وإلا فلا شئ للمالك من
الربح، فكأن الرواية منزلة على الغالب من لحوق الإجازة من المالك عن
ظهور الربح ليستحق الربح.
وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند كما مر فلا يمكن الاستناد إليها في
الحكم الشرعي.
وثانيا: أن الاستدلال بها على ما نحن فيه يتوقف على وقوع المعاملة
على عين الوديعة إما بنحو المعاطاة أو بالعقد اللفظي، ولكن لا قرينة في
الرواية على ذلك.
الوجه الثالث عشر
ما ورد من التصدق بمجهول المالك واللقطة، من أنه إذ أرضى المالك
بعد ظهوره كان له وإلا ضمنه المتصدق (1).
وفيه أنه لا شبهة في صحة التصدق هناك للإذن الشرعي وإن لم يرض
به المالك، وإنما الرضاء يؤثر في عدم الضمان تعبدا، كما أن عدمه يؤثر
في عدمه كذلك، وأما ما ورد من نفوذ الوصية بما زاد عن الثلث من نفوذها
بإجازة الورثة فأيضا غير مربوط بالبيع الفضولي وإنما الإجازة هناك شرط

1 - عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه السلام) قال: وسألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرفها سنة
ثم يتصدق بها، فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدق بها ولمن الأجر، هل عليه أن يرد على
صاحبها أو قيمتها؟ قال: هو ضامن لها والأجر له، إلا أن يرضي صاحبها فيدعها والأجر له
(قرب الإسناد: 115، مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 165، عنهما الوسائل 25: 445)، صحيحة
لصحة طريق الشيخ إلى كتابه.
707

في نفوذ تصرف الميت لنفسه فهذا ظاهر.
هذه هي الوجوه التي استدل بها على صحة بيع الفضولي، وقد اتضح
لك مما تلوناه عليك أنه لا يتم شئ منها، وإنما العمدة هي العمومات
والمطلقات وسيتضح لك قريبا بطلان ما استدل به على فساد بيع
الفضولي وأنه لا يصلح لتخصيص العمومات وتقييد المطلقات، وإذن
فالحكم بصحة بيع الفضولي إنما هو من ناحية العمومات والمطلقات
الدالة على صحة العقود ولزومها على النحو الذي عرفته سابقا.
ما يستدل به على بطلان بيع الفضولي
وقد استدل على بطلان بيع الفضولي وعدم صحته بالإجازة اللاحقة
بوجوه عديدة من الأدلة الأربعة:
الوجه الأول: الكتاب
أما الكتاب، فقوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض (1)، ووجه الاستدلال بها على المقصود بوجهين:
1 - أنها قد دلت على انحصار أكل مال الناس بالتجارة عن تراض،
فالمعنى أنه لا يتصرف بعضكم في أموال بعضكم الآخر بوجه من
الوجوه، فإنه باطل إلا بوجه التجارة عن تراض فإنه جائز، ولا شبهة في أنه لو لم يقصد هذا المعنى لزم الاجمال، وقلة الارتباط بين المستثنى
والمستثنى منه.
ومن الظاهر أن بيع الفضولي ليس تجارة عن تراض فيكون أكل المال به
أكلا له بالباطل، ودعوى أن لحوق الإجازة به يدرجه في التجارة عن

1 - النساء: 29.
708

تراض دعوى فاسدة، لأنه لم يكن حين العقد مصداقا لها فالتحاق الإجازة
بها لا يجعله مصداقا لها.
2 - سياق التحديد، فإن كل وصف ورد في مقام التحديد يدل على
اختصاص الحكم بمورد الوصف وإن لم نقل بمفهوم الوصف، فإن
البحث عن ذلك أنما هو في ورود الوصف في غير مورد التحديد وإلا
فلا شبهة في ثبوت مفهومه، ومن الظاهر أن قيد التراضي وصف ورد في
مورد التحديد فيدل على انحصار جواز الأكل بمورد القيد فقط.
أما الوجه الأول فقد ناقش فيه المصنف، بأن دلالة الآية على الحصر
متوقفة على كون الاستثناء متصلا مع أنه منقطع، إذ لا يصح استثناء
التجارة الصحيحة من التجارة الفاسدة، فلا يستفاد حصر أكل المال
بالتجارة عن تراض لكي يستفاد منه بطلان بيع الفضولي.
وفيه أولا: أن الاستثناء المنقطع من أوضح الأغلاط، إذ لا يصح أن
يقال: ما رأيت عالما إلا الجاهل وما اتجرت تجارة فاسدة إلا تجارة
صحيحة، فإنهما وأشباههما من الأغلاط الواضحة التي لا تصدر من
الاخسائين في الفصاحة والمدربين في البلاغة.
بل هي لا تصدر ممن دونهم ولا توجد في كلماتهم، فضلا عن
صدورها من الله العظيم ووجوده في كتابه الكريم الذي نزل بعنوان
الاعجاز والتحدي، حيث طلب النبي (صلى الله عليه وآله) من جميع البشر والأمم أن
يأتوا بمثله فعجزوا عن ذلك (1)، ثم تنزل عن هذه الدعوى وتحداهم إلى
الاتيان بعشر سور مثله مفتريات (2)، فلم يتمكنوا منه أيضا، ثم تنزل عن

1 - قوله تعالى: قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، الاسراء: 88.
2 - قوله عز وجل: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من
استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين، هود: 13.
709

ذلك وطالبهم أن يأتوا بسورة واحدة مثله (1)، وأمرهم أن يدعوا
شهداءهم ويصرخوا ليستنصروا منهم ويستعينوا بهم، ولكن لم تنفعهم
صارختهم واستغاثتهم واستعانتهم، ثم عجزهم بقوله عز من قائل: و
لئن اجتمعت الجن والإنس - الآية (2)، فما كانوا مقرنين.
ومع ذلك كله كيف يرض المنصف بوجود الغلط في مثل هذا الكتاب
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، تعالى كلامه عزو جل عن ذلك علوا
كبيرا.
وإذن فليس الاستثناء إلا قسما واحدا، وهو الاستثناء المتصل،
وعليه فالاستثناء في الآية الشريفة استثناء متصل، ولو كان ذلك بالعناية.
وثانيا: لو سلمنا كون الاستثناء على قسمين ولكن الموجود في آية:،
تجارة عن تراض (3) استثناء متصل، وذلك لأن الألفاظ المذكورة ليست
إلا الأكل والأموال والباطل والتجارة والتراض، أما اللفظ الآخر فهو
المستثنى، وأما البواقي فلا يصلح شئ منها لأن يكون مستثني منه،
وهذا ظاهر.
وإذن فلا مناص إلا عن تقدير في الكلام، وقد ذكرنا غير مرة أن دخول
الباء السببية على كلمة الباطل ومقابلتها في الآية مع التجارة عن تراض
قرينتان على كون الآية ناظرة إلى فصل الأسباب الصحيحة للمعاملة عن
الأسباب الباطلة، كما أن المراد من الأكل ليس معناه الحقيقي أعني به

1 - قوله عز من قائل: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، البقرة: 23.
2 - الاسراء: 88.
3 - النساء: 29.
710

الازدراد، بل هو كناية عن تملك مال الناس من غير استحقاق، وإذن
فيكون المستثني منه محذوفا في الآية المباركة، وهو أسباب التجارة
وقد حذف وأقيم لفظ: بالباطل (1) مقامه.
ونظير ذلك كثير في القرآن وغيره، ومن ذلك قوله تعالى: وإن
تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغنى حميد (2)، حيث حذف
الجزاء وأقيمت العلة مقامه.
وحينئذ فمفاد الآية المباركة أنه لا تتملكوا أموالكم بينكم بشئ من
الأسباب إلا أن يكون ذلك السبب تجارة عن تراض، فإن التملك بغير هذا
السبب باطل، وعليه فتدل الآية على حصر الأسباب الصحيحة
للمعاملات بالتجارة عن تراض فيكون الاستثناء فيها متصلا.
ومن هنا ظهر ما في كلام المحقق الإيرواني (3)، من أن الاستثناء منقطع
حتى مع قطع النظر عن قيد بالباطل، لأن المراد من: لا تأكلوا لا تأكلوا
أموال الغير، وبعد التجارة عن تراض ليس الأكل أكلا لمال الغير.
وثالثا: لو سلمنا كون الاستثناء في الآية منقطعا وسوق الآية بحسب
ظهورها البدوي إلى بيان القاعدة الكلية لكل واحد من أكل المال بالباطل
والتجارة عن تراض.
وتظهر ثمرة ذلك فيما لا يعد في نظر العرف من التجارة عن تراض
ولا من الأسباب الباطلة فيكون مجملا، ولكنه تعالى حيث كان بصدد
بيان الأسباب المشروعة للمعاملات وتمييز صحيحها عن فاسدها وكان
الاهمال مخلا بالمقصود، فلا محالة يستفاد الحصر من القرينة المقامية.

1 - البقرة: 188.
2 - إبراهيم: 8.
3 - حاشية المحقق الإيرواني (رحمه الله) على المكاسب: 120.
711

وتحصل أن الآية المباركة مسوقة لبيان حصر الأسباب الصحيحة
بالتجارة عن تراض، سواء أكان الاستثناء متصلا أم كان منقطعا، فدلالة
الآية على مفهوم الحصر مما لا ريب فيه، وهو بطلان التجارة عن غير
تراض ومنها البيع الفضولي.
أما الوجه الثاني، فقد ناقش فيه المصنف بأن سياق التحديد الموجب
لثبوت مفهوم القيد مع تسليمه إنما يثبت فيما إذا لم يرد الوصف مورد
الغالب وإلا فلا مفهوم له، ومن الواضح أن الوصف في الآية الشريفة قد
ورد مورد الغالب، كما في قوله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم (1)،
لا للاحتراز لكي يكون له مفهوم.
ويضاف إلى ذلك احتمال أن يكون عن تراض خبرا ثانيا لتكون بناء
على نصب تجارة، كما هو المنقول عن قراءة الكوفيين لا قيدا للتجارة،
وحينئذ فيلزم وقوع الأكل والتصرف بعد التراضي، سواء تقدم على
التجارة أم تأخر عنها، إذ المعنى حينئذ إلا أن يكون سبب الأكل تجارة
ويكون عن تراض - انتهى ملخص كلامه.
ويتوجه على الوجه الأول أنه لا شبهة في ثبوت مفهوم الوصف وإلا لكان القيد لغوا، ولكن فائدة القيد ليست انتفاء الحكم عند انتفائه بل
فائدته إنما هي الدلالة على عدم ثبوت الحكم للطبيعة السارية، مثلا إذا
قال المولي لعبده: أكرم العالم، ليس معناه اثبات وجوب الاكرام للعالم
ونفيه عن غيره، بل معناه إنما هو ثبوت وجوب الاكرام للانسان العالم
لا لطبيعة الانسان.
وأضف إلى ذلك أنا لو سلمنا عدم دلالة الوصف على المفهوم ولكن
ذلك فيما لا قرينة على انتفاء الحكم عند انتفاء القيد، وإلا فلا شبهة في

1 - النساء: 23.
712

ثبوته، كما إذا ذكر الوصف في مقام التحديد، لأن وقوعه في مقام
التحديد قرينة مقامية على اختصاص الحكم بمورد الوصف، ولو قلنا
بعدم ثبوت المفهوم له.
والوجه في ذلك هو أن الحد لا بد وأن يكون جامعا للأفراد ومانعا عن
الأغيار، ومن الظاهر أنه لو لم يكن مفهوم للوصف لما كان كذلك، ومن
هذا القبيل قوله (عليه السلام): كر من الماء (1)، في جواب السائل عن الماء الذي
لا ينجسه شئ، فإن الإمام (عليه السلام) ذكره في مقام تحديد الماء الذي
لا ينفعل، فيدل على انتفاء الحكم عند انتفاء القيد، وذكر التراض في
الآية الكريمة من القبيل المذكور، لما عرفته آنفا من أنها متوجه إلى فصل
الأسباب الصحيحة للمعاملة عن الأسباب الباطلة لها وحصر أسبابها
الصحيحة بالتجارة عن تراض.
وإذن فلا شبهة في قيام القرينة على كون قيد التراض مسوقا إلى
تحديد الأسباب الصحيحة للتجارة وحصرها بالتجارة عن تراض.
ويتوجه على الوجه الثاني أنه لا يفرق في دلالة الآية على اعتبار
التراضي في التجارة وتقييدها به بين كون لفظ عن تراض قيدا للتجارة
وبين كونه خبر ثانيا لتكون، فإنه على كل تقدير تدل الآية الشريفة على
بطلان التجارة غير الناشئة من الرضا وطيب النفس.
نعم إذا كان لفظ عن تراض خبرا بعد خبر لتكون خرج ذلك عن دائرة
مفهوم الوصف، إذ المفروض أن التجارة حينئذ لم تتصف بالتراضي،
ولكن ذلك لا يمنع عن دلالة الآية على اعتبار الرضاء في أسباب النقل

1 - عن إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجسه شئ،
فقال: كر، قلت: وما الكر؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار (الكافي 3: 3، التهذيب 1: 41،
عنهما الوسائل 1: 159)، ضعيفة.
713

والانتقال على النحو الذي ذكرناه، على أن احتمال كون عن تراض خبرا
ثانيا لتكون بعيد في نفسه ومخالف لظاهر الآية.
ومن هنا ظهر الجواب عما ذكره المحقق صاحب المقابيس (1)، من أنه
يمكن أن يكون التقدير على كلتا القراءتين: إلا أن تكون تجارة كاملة عن
تراض أو ممضاة عن تراض، فيندرج عقد الفضولي في الآية، لأن كماله
وامضاءه بالإجازة، وهذا نظير ما حكي في المجمع عن مذهب الإمامية
والشافعية وعن غيرهم، من أن معنى التراضي بالتجارة امضاء البيع
بالتفرق أو التخائر بعد العقد، فإن هذا أيضا بعيد عن ظاهر الآية، والتزام
بالتقدير بلا ملزم.
والتحقيق في الجواب عن الاستدلال بالآية على بطلان بيع الفضولي ما
أشار إليه المحقق صاحب المقابيس وتبعه المصنف، من أن الخطاب في
الآية الشريفة لملاك الأموال فيشترط وقوعها أي التجارة برضاهم، ومن
البين الذي لا ريب فيه أن التجارة الصادرة من الفضولي لا يطلق عليها أنه
تجارة المالك إلا بعد إجازته فإذا أجازها صارت تجارة عن تراض.
وبتعبير آخر أنا ذكرنا مرارا أن حقيقة البيع والتجارة ليست انشاء
خالصا وإلا لصدق مفهوم البيع على بيع الهازل والساهي وأشباههما،
ولا أنها عبارة عن الاعتبار النفساني المحض وإلا لصدق مفهوم البيع على
الاعتبار النفساني الصرف من دون إظهاره بمظهر خارجي، بل حقيقة البيع
والتجارة هي الاعتبار النفساني المظهر بمظهر خارجي، وعليه فلو اعتبر
أحد في أفق نفسه تبديل ماله بمال غيره وأظهره بمظهر خارجي صدق
عليه مفهوم البيع والتجارة.
ومن البديهي أن هذا المعنى لا يصدر إلا من المالك أو ممن هو بمنزلته

1 - مقابيس الأنوار: 128.
714

كالوكيل ونحوه، وأما بيع الفضولي قبل إجازة المالك فهو ليس ببيع
حقيقة بل صورة بيع الفضولي، فلم يصدر منه إلا الانشاء والصيغة، ولا
شبهة في أنه لا يطلق البيع والتجارة على الانشاء المحض كما عرفته، ولا
يقال إن الفضولي قد اتجر بالمال الفلاني وباعه بمجرد اجراء الصيغة إلا
بالعناية والمجاز فإذا أجازه المالك كان بيعا وتجارة حقيقة للمالك
لا للفضولي.
فالبيع الفضولي بما أنه بيع فضولي خارج عن الآية وعن سائر
العمومات والمطلقات الدالة على صحة العقود ولزومها خروجا
تخصصيا، فلا دلالة في الآية لا على صحته ولا على فساده، وبما أنه
مجاز للمالك فتشمله الآية وبقية العمومات، ولا تنافي بين خروج بيع
الفضولي عنها قبل الإجازة وبين اتصافه بالصحة التأهلية.
ويمكن الجواب عن ذلك بأن الآية قد دلت على كون المدار على وقوع
التجارة عن رضاء المتعاقدين فتشمل جميع أقسامها، وخرج من ذلك
المتعاقدان اللذان لم يأذن لهما المالك ولا أجاز عقدهما وبقي الباقي.
وكيف كان فلا دلالة في الآية على بطلان بيع الفضولي.
الوجه الثاني: السنة
وأما السنة فهي أخبار كثيرة:
1 - النبوي المروي مستفيضا من الخاصة والعامة، وهو قوله (صلى الله عليه وآله):
لا تبع ما ليس عندك (1).

1 - عن سليمان بن صالح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع ما ليس
عندك (التهذيب 7: 230، عنه الوسائل 18: 37)، ضعيف بسليمان بن صالح.
عن الحسين بن زيد عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه في مناهي النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ونهي عن بيع ما
ليس عندك (الفقيه 4: 4، عنه الوسائل 17: 357)، ضعيف بشعيب بن واقد وغيره.
عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله يأتيني رجل يسألني البيع ليس عندي ما أبيعه
ثم أبيعه من السوق، فقال: لا تبع ما ليس عندك.
وعنه في رواية أخرى قال: قلت: يا رسول الله الرجل يسألني البيع وليس عندي أفأبيعه؟
قال: لا تبع ما ليس عندك.
وعنه في رواية أخرى قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما
يحرم على؟ قال: فإذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه.
وعنه أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تبع طعاما حتى تشتريه وتستوفيه (سنن أحمد
3: 402).
عن منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا عتق قبل
ملك (الكافي 5: 443، عنه الوسائل 20: 384)، صحيحة.
عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) أنه كان يقول: لا طلاق لمن
لا ينكح، ولا عتاق لمن لا يملك (قرب الإسناد: 50، عنه الوسائل 22: 33).
عن الصفار أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) في رجل له قطاع
أرضين، فيحضره الخروج إلى مكة والقرية بمراحل من منزله - إلى أن قال: - فوقع (عليه السلام):
لا يجوز بيع ما ليس بملك وقد وجب الشراء من البايع على ما يملك (التهذيب 7: 150، الفقيه
3: 153، عنه الوسائل 17: 339)، صحيحة.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا طلاق إلا فيما تملكه،
ولا بيع إلا فيما تملكه (عوالي اللئالي 3: 205، عنه المستدرك 13: 230)، ضعيفة.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان الذين من قبلنا يقولون: لا عتاق ولا طلاق إلا
بعد ما يملك الرجل (الكافي 6: 63، عنه الوسائل 22: 33)، صحيحة.
عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: لا يطلق إلا ما يملك، ولا يعتق إلا
ما يملك، ولا يتصدق إلا بما يملك (الكافي 6: 63، عنه الوسائل 22: 32)، حسنة بإبراهيم بن
هاشم.
715

ووجه الاستدلال به على فساد بيع الفضولي هو، أن النهي فيه ارشاد
إلى عدم نفوذ البيع، لأنا ذكرنا مرارا أن النهي عن معاملة ارشاد إلى
بطلانها، والمراد من عدم حضور المبيع عند البايع هو عدم تسلطه على
تسليمه لعدم كونه مملوكا له، فيكون ذلك من قبيل ذكر الملزوم وإرادة
اللازم، وعليه فيدل النبوي المزبور على بطلان بيع مال الغير، سواء باعه
البايع لنفسه أم باعه لمالكه.
وعليه فشأن النبوي شأن قوله (عليه السلام): لا طلاق إلا فيما يملك،
ولا عتق إلا فيما يملك، ولا بيع إلا فيما يملك (1)، بناء على قراءة لفظ:
يملك بصيغة الفاعل، كما هو الظاهر من السياق، حيث إن الطلاق قبل
النكاح بنفسه غير معقول، لأنه إزالة علقة الزوجية فقبل تحققها لا يتوجه
القصد إلى إزالتها، وكذلك العتق.
وعليه فالمراد من الرواية هو طلاق زوجة الغير وعتق مملوكه وبيع
ماله فضولا، فالمعنى أنه لا بيع إلا فيما يملكه البائع قبل العقد، وهذا
موافق للأخبار المستفيضة الدالة على عدم وقوع الطلاق والعتاق إلا بعد
الملك، وقد ذكرناها في الحاشية.
وأما بناء على قراءته بصيغة المفعول - كما توهم - فالرواية خارجة عن
المقام، بل هي ناظرة إلى المنع عن بيع ما ليس يملك، كبيع السمك في
الماء والطير في الهواء، وكبيع الخمر والخنزير وكلب الهراش وطلاق
الأجنبية وعتاق الحر.
ويتوجه عليه أولا: أن النبوي المزبور غير نقي السند ولا أنه منجبر
بشئ، فلا يمكن الاستدلال به في المقام.
وثانيا: أن المراد من الموصول من قوله (صلى الله عليه وآله): لا تبع ما ليس عندك،
إنما هو بيع العين الشخصية عن نفسه ثم يشتريها البايع من مالكها

1 - كنز العمال 9: 641، الرقم: 27779.
717

ويسلمها إلى المشتري، وذلك لقيام الاجماع والضرورة على بيع الكلي
في الذمة عن نفسه سلفا أو حالا، والشاهد على ذلك من الرواية ما ذكره
في التذكرة (1) من أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر هذا الكلام جوابا لحكيم بن حزام
حين سأله عن أن يبيع الشئ ثم يمضي ويشتريه ويسلمه.
وعليه فيختص النبوي بالبيع الشخصي، ولكن قد أخطأ العامة في
تطبيقه على بيع الكلي في الذمة حالا.
وثالثا: إنا لو سلمنا الجمود في ظاهر الموصول وإرادة المنع عن بيع ما
لم يكن في يد البايع، سواء أكان مملوكا له أم لا، وسواء أكان كليا في
الذمة أم كان جزئيا خارجيا، وسواء أكان مقدور التسليم أم لا، ولكن
لا بد من تخصيصه بالنصوص (2) الظاهرة في جواز بيع الكلي الذي ليس

1 - التذكرة 1: 463.
2 - عن إسحاق بن عمار وعبد الرحمان بن الحجاج قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن
الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده فيشتري منه حالا، قال: ليس به بأس، قلت: إنهم
يفسدونه عندنا، قال: وأي شئ يقولون في السلم؟ قلت: لا يرون به بأسا، يقولون: هذا إلى
أجل فإذا كان إلى غير أجل وليس عند صاحبه فلا يصلح، فقال: فإذا لم يكن إلى أجل كان
أجود، ثم قال: لا بأس بأن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه حالا وإلى أجل، فقال:
لا يسمي له أجلا، إلا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه، فلا ينبغي
شراء ذلك حالا (التهذيب 7: 49، الفقيه 3: 179، عنهما الوسائل 18: 46)، صحيحة.
عنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجيئني يطلب المتاع فأقاله على الربح، ثم
اشتريه فأبيعه منه، فقال: أليس إن شاء أخذ وإن شاء ترك؟ قلت: بلي، قال: فلا بأس، قلت:
فإن من عندنا يفسده، قال: ولم؟ قلت: قد باع ما ليس عنده، قال: فما يقول في السلم قد باع
صاحبه ما ليس عنده، قلت: بلي، قال: فإنما صلح من أجل أنهم يسمونه سلما، إن أبي كان يقول:
لا بأس ببيع كل متاع كنت تجده في الوقت الذي بعته فيه (الكافي 5: 200، عنه الوسائل
18: 48)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
عن أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام) في رجل اشترى من رجل مائة من صفرا بكذا
وكذا وليس عنده ما اشترى منه، قال: لا بأس به إذا وفاه الذي اشترط عليه (الفقيه 4: 4، عنه
الوسائل 18: 48)، صحيحة.
عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن رجل باع بيعا ليس عنده إلى أجل
وضمن البيع، قال: لا بأس به (الكافي 5: 200، التهذيب 7: 27، عنهما الوسائل 18: 292)،
صحيحة.
718

عنده المعبرة عن كون المنع عنه مذهب العامة (1)، حيث ناقضهم الإمام
(عليه السلام) ببيع السلف وأن صاحبه باع ما ليس عنده، وعليه فيكون المراد من
النبوي بعد تقييده ما هو المراد من الروايات المانعة عن بيع العين
الشخصية قبل تملكها (2).

1 - قال في شرح الهداية: إن السلم عقد مشروع بالكتاب وبالسنة، وهو ما روي أنه عليه
السلام نهي عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم، والقياس وإن كان يأباه ولكنا
تركناه بما رويناه، ووجه القياس أنه بيع المعدوم إذ المبيع هو المسلم فيه - انتهى (شرح الهداية
5: 324).
وفي شرح فتح القدير: منع عن بيع السمك قبل أن يصطاد، لأنه باع ما لا يملكه، ومنع عن
بيع الطير في الهواء لأنه غير مملوك قبل الأخذ (شرح فتح القدير 5: 191 - 192).
وفي الفقه على المذاهب الأربعة: وحكم السلم الجواز فهو رخصة مستثناة من بيع ما ليس
عند بائعه، ودليل جوازه الكتاب والسنة والاجماع (الفقه على المذاهب الأربعة 2: 34).
وفيه عن الحنفية: ومن البيع الباطل بيع ما سيملكه قبل ملكه، لأنه إنما يبيع شيئا معدوما
لا يقدر على تسليمه وهو باطل (الفقه على المذاهب الأربعة 2: 240).
2 - عن خالد بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل يجئ فيقول: اشتر هذا
الثوب أربحك كذا وكذا، قال: أليس إن شاء ترك وإن شاء أخذ؟ قلت: بلي، قال: لا بأس به إنما
يحلل الكلام ويحرم الكلام (التهذيب 7: 50، الكافي 5: 201، عنهما الوسائل 18: 50)، مجهولة
بخالد بن الحجاج.
عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يجيئني الرجل يطلب مني بيع الحرير
وليس عندي منه شئ فيقاولني عليه وأقاوله في الربح والأجل حتى نجتمع على شئ، ثم
أذهب فأشتري له الحرير فأدعوه إليه، فقال: أرأيت إن وجد بيعا هو أحب إليه مما عندك
أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك، أو وجدت أنت ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه؟ قلت:
نعم، قال: فلا بأس (التهذيب 7: 50، الكافي 5: 200، الفقيه 3: 179، عنهم الوسائل 18: 50)،
صحيحة.
عن منصور بن حازم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل طلب عن رجل ثوبا بعينة، قال:
ليس عندي هذه دراهم فخذها فاشتر بها، فآخذها فأشتري بها ثوبا كما يريد، ثم جاء به،
أيشتريه منه؟ فقال: أليس إن ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ قلت: بلي، قال: إن
شاء اشترى وإن شاء لم يشتر؟ قلت: نعم، قال: لا بأس به (التهذيب 7: 52، الكافي 5: 203،
عنهما الوسائل 18: 52)، صحيحة.
719

ومن هنا اتضح لك أن المنع عن بيع ما ليس عند البايع مطلقا، سواء
أكان المبيع كليا أم كان شخصيا، إنما هو مذهب العامة، وإذن فلا وجه
لما ذكره شيخنا الأستاذ من أن بيع الكلي سلفا أو حالا جائز باتفاق
الفريقين، فإن هذا الكلام إما سهو من لسان شيخنا الأستاذ أو من قلم مقرر
بحثه، وإنما العصمة لأهلها.
ورابعا: إن نهي المخاطب عن بيع ما ليس عنده دليل على عدم وقوع
مؤثرا في حقه، فلا يدل على إلغائه بالنسبة إلى المالك وبقائه على أهليته
لتعقب الإجازة منه، وبعبارة أخرى أن مفاد النبوي هو عدم الصحة
الفعلية المقتضية للقبض والاقباض لا عدم الصحة التأهلية الاقتضائية
التي هي مورد البحث في بيع الفضولي.
ثم إن بيع العين الشخصية على قسمين: الأول: أن يكون المبيع شيئا
معينا ومالا مشخصا عند شخص معلوم فباعه البايع لنفسه ثم يمضي
ليشتريه منه ويسلمه إلى المشتري، الثاني: أن يكون المبيع مشخصا
عند شخص معلوم كالقسم الأول ولكن باعه البايع لمالكه فضولا.
720

والظاهر أن مورد النبوي المانع عن بيع ما ليس عند البايع إنما هو
القسم الأول، لأن إرادة القسم الثاني مبني على أن يكون المراد من البيع
المنهي عنه في النبوي هو الانشاء الساذج مع أنه مخالف لظاهره،
فيحتاج إرادته إلى العناية والمجاز، بل الظاهر من النبوي هو النهي عن
ايجاد حقيقة البيع التي يتوقف حصولها على النقل والانتقال في الخارج،
وأما مجرد الانشاء الصادر من الأجنبي فلا يكون بيعا إلا بالإجازة
اللاحقة.
وبتعبير آخر أن النبوي ظاهر في اشتراط الملك والسلطنة لمن له البيع
لا للعاقد عنه فلا يكون شاملا للفضولي المتوقف على إجازة المالك.
ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم ظهوره في القسم الأول ولكن لا ظهور
له في القسم الثاني أيضا، فيرجع فيه إلى العمومات الدالة على صحة
العقود، وأما القسم الأول فيرجع فيه إلى الروايات الدالة على المنع عن
بيع الشخصي الذي هو غير موجود عند البايع.
ومع الاغماض عن ذلك فلا دلالة في النبوي على بطلان بيع الفضولي،
وذلك لأن الظاهر من منع البايع عن بيع ما ليس عنده إنما هو استناد البيع
إليه وكونه له كما عرفته آنفا، ومن البين أن هذا لا ينافي صحة بيع
الفضولي صحة تأهلية بحيث يستند إليه بالإجازة اللاحقة.
ولو أغمضنا عن ذلك أيضا ولكن النبوي ليس نصا في بطلان بيع
721

الفضولي، بل دلالته عليه إنما هو بالاطلاق فنقيده بالأدلة الخاصة الدالة
على صحة بيع الفضولي، وعمدتها صحيحة محمد بن قيس المتقدمة،
وإذن فيختص النبوي بالقسم الأول فقط.
ولو تنزلنا عن ذلك أيضا وقلنا بكون النبوي نصا في فساد بيع الفضولي
وقعت المعارضة بينه وبين ما دل على صحة بيع الفضولي، فيؤخذ بالثاني
لكونه موافقا للكتاب، ومع عدم المرجح في البين فيتساقطان ويرجع إلى
العمومات، وقد عرفت في أول المسألة أن بيع الفضولي مشمول لها،
فيحكم بصحته من هذه الناحية.
وقد ظهر مما ذكرناه الجواب عن الاستدلال على بطلان بيع الفضولي
بالروايات الدالة على المنع عن بيع ما لا يملك، بناء على قراءة يملك
بصيغة الفاعل لا المفعول، فيراد من قوله (عليه السلام) في صحيحة الصفار
المتقدمة قريبا: لا يجوز بيع ما ليس تملك (1)، عدم استناد البيع إلى
العاقد غير المالك، وهذا لا ينافي استناده إلى المالك بالإجازة اللاحقة.
فلا وجه لما ذكره في الحدائق عند التعرض لصحيحة الصفار من: أن
الأصحاب قد أفتوا في هذه المسألة التي هي مضمون هذه الرواية بلزوم
البيع فيما يملك ووقوفه فيما لا يملك على الإجازة من المالك، بمعنى
أنه صحيح لكونه فضوليا موقوفا في لزومه على إجازة المالك، والرواية
كما تري تنادي بأنه لا يجوز الدال على التحريم، وليس ثمة مانع موجب
للتحريم سوى عدم صلاحية المبيع للنقل بدون إذن مالكه (2).
إذ يمكن أن يراد من الجواز المنفي عدم النفوذ الوضعي كما فهمه
الأصحاب، فإن إرادة النفوذ من الجواز شايع، وإذا احتمل هذا المعنى
فلا يبقي في الصحيحة ظهور فيما ذكره صاحب الحدائق فضلا عن أن
ينادي لفظ لا يجوز بأعلى صوته من المكان المرتفع بالتحريم التكليفي.

عن الصفار أنه كتب إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام) في رجل له قطاع
أرضين، فيحضره الخروج إلى مكة والقرية بمراحل من منزله - إلى أن قال: - فوقع (عليه السلام):
لا يجوز بيع ما ليس بملك وقد وجب الشراء من البايع على ما يملك (التهذيب 7: 150، الفقيه
3: 153، عنه الوسائل 17: 339)، صحيحة.
2 - الحدائق 22: 26.
722

وقال شيخنا الأستاذ:
ثم لا يخفى أنه لو سلم دلالتها فلا يمكن تخصيصها بالأدلة الدالة على
صحة الفضولي، لأن تعارضهما ليس بالعموم والخصوص المطلق،
بتقريب أن مفاد الأدلة المانعة هو أن بيع مال الغير لا يجوز، سواء قصد
لنفسه أم للمالك، وسواء أجاز أم لم يجز، ومفاد الأدلة المجوزة صحة
البيع للمالك إذا أجاز لأنه لم يكن البيع لنفسه أو للمالك بلا أجازه محلا
لتوهم الصحة حتى يرد المنع بنحو العموم، بل التعارض بينهما بالتبائن
فإنه لو سلم اطلاق هذه الروايات وشمولها لما إذا قصد الفضولي البيع
للمالك أو لنفسه مع المنع وعدمه، فلا اشكال في شمول الروايات الدالة
على الصحة لجميع الأقسام (1).
ولكن يتوجه عليه أن تخصيص الأدلة المجوزة بصورة كون البيع
لمالك مع لحوق الإجازة، إن التخصيص لأجل ما ذكر إنما يصح فيما إذا
لم يتعارف في الخارج بين الانسان مال غيره عن نفسه، مع أنه كان متعارفا
في زمان الجاهلية بل في جميع الأزمنة، وقد جرت عليه سيرة الجهال
والفساق وغير المبالين في أمر الدين، حيث إنهم يرون الأسباب غير
المشروعة مملكة، كالغرر والقمار والغصب والسرقة والخيانة
وأشباهها، بل ربما يستملكون أموال الناس بلا مملك شرعي ولا عرفي،
ويعاملون معها معاملة أموالهم.
وقد يقال: إن النسبة بين ما دل على صحة بيع الفضولي وبين ما دل
على فساده هي العموم من وجه - كما في حاشية المحقق الإيرواني -
وإليك نصه: إن المنفي في هذه الأخبار لو كان هو البيع لنفسه كانت هذه

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 37.
723

الأخبار أخص من هذه الجهة وإن كانت أعم من حيث إجازة المالك،
فتكون النسبة عموما من وجه، وتقديم تلك على هذه ليس أولى من
العكس بتقديم هذه، والحكم ببطلان البيع لنفسه وإن أجاز المالك كما
قالوه في بيع الغاصب (1).
وفيه أن الاستدلال بالأخبار المانعة على بطلان بيع الفضولي إنما هو
مبني على كون مفادها أعم من البيع لنفسه والبيع للمالك، لأنها لو كانت
مختصة بالبيع للمالك لكانت خارجة عما نحن فيه بالكلية، ولم يبق
مجال للتمسك بها على ذلك.
وقد عرفت قبل الشروع بذكر أدلة القولين أن هنا ثلاث مسائل: الأولى
أن يبيع للمالك، الثانية: أن يبيع له مع سبق المنع عنه، الثالثة: أن يبيع
لنفسه كبيع الغاصب، وكلامنا فعلا في حول المسألة الأولى، وأما البيع
لنفسه الذي هو المسألة الثالثة فسيأتي البحث عنه قريبا.
وكيف كان فلا وجه لتخصيص الأدلة المانعة بصورة البيع لنفسه.
ويضاف إلى ذلك أنه لم يذكر في الأخبار المانعة ولا في الأخبار
المجوزة كون البيع للمالك مع لحوق الإجازة أو كونه للبايع ولم يصرح
فيهما بشئ من ذلك، وإذن فلا وجه لتخصيص كل من الطائفتين بناحية
خاصة بل الظاهر منهما هو كون الطائفة المجوزة أخص من الطائفة
المانعة، لأن الأولى مختصة بصورة لحوق الإجازة من المالك والثانية
أعم من ذلك.
على أن التعارض بالعموم من وجه يقتضي التساقط والرجوع إلى
العمومات لا تقديم أحد المتعارضين على الآخر.

1 - حاشية المحقق الإيرواني (رحمه الله) على المكاسب 122.
724

2 - صحيحة محمد بن القاسم بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن الأول
(عليه السلام) عن رجل اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم، وكتب عليها
كتابا بأنها قد قبضت المال ولم تقبضه فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال:
فليقل له ليمنعها أشد المنع فإنها باعت ما لم تملكه (1)، حيث إنها تدل
على المنع عن بيع الانسان ما لا تملكه فتشمل الفضولي أيضا.
وفيه أن الصحيحة تدل على أنه لا يجوز لبايع الفضولي أن يقبض
الثمن، لا على بطلان بيعه، بل يمكن أن يقال إنها مشعرة بصحة بيع
الفضولي حيث إن الإمام (عليه السلام) قد علل المنع عن تسليم المال بأنه باع ما
لم تملكه، ومن الظاهر أنه لو كان البيع فاسدا لعلله بذلك، لأن التعليل
بالأمر الذاتي أولى من التعليل بالأمر العرضي.
3 - رواية الإحتجاج، فإنه قد ذكر فيها: الضيعة لا يجوز ابتياعها إلا من
مالكها أو بأمره أو رضي منه (2)، فإنها تدل بمفهوم الحصر على بطلان
البيع الفضولي، لأنه لم يصدر من المالك ولا بأمره ولا برضاء منه.

1 - التهذيب 6: 339، 351، 7: 181، الكافي 5: 133، عنهم الوسائل 17: 333، صحيحة.
2 - عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري أنه كتب إلى صاحب الزمان (عليه السلام) أن بعض
أصحابنا له ضيعة جديدة بجنب ضيعة خراب للسلطان فيها حصة، وأكرته ربما زرعوا وتنازعوا
في حدودها وتؤذيهم عمال السلطان وتتعرض في الكل من غلات ضيعته، وليس لها قيمة
لخرابها، وإنما هي بائرة منذ عشرين سنة، وهو يتحرج من شرائها لأنه يقال: إن هذه الحصة
من هذه الضيعة كانت قبضت من الوقف قديما للسلطان، فإن جاز شراؤها من السلطان كان ذلك
صونا وصلاحا له وعمارة لضيعته، وأنه يزرع هذه الحصة من القرية البائرة بفضل ماء ضيعته
العامرة، ويتحسم عن طمع أولياء السلطان، وإن لم يجز ذلك عمل بما تأمره إن شاء الله،
فأجابه (عليه السلام): الضيعة لا يجوز ابتياعها إلا من مالكها أو بأمره أو رضاء منه (الإحتجاج: 487،
عنه الوسائل 17: 337)، ضعيفة لارسالها.
الأكرة: الفلاحون، الواحد أكار.
725

وفيه أولا: أن الرواية ضعيفة السند من جهة الارسال.
وثانيا: أنه يحتمل أن يراد من عدم الجواز عدم النفوذ، كما فهمه
الأصحاب فيمن باع ما يملك وما لا يملك صفقة واحدة، حيث بنوا على
النفوذ في الأول وتوقفه على إجازة المالك في الثاني، ولا ريب أن
اطلاق الجواز وعدمه على النفوذ وعدمه شايع بين الفقهاء (رحمهم الله)، ومن
ذلك قولهم: اقرار العقلاء على أنفسهم جائز أو نافذ (1).
وإذن فالرواية تدل على عدم استناد البيع إلى العاقد غير المالك
وعدم نفوذه منه، وهذا لا ينافي استناده إلى المالك بالإجازة اللاحقة،
بل قد عرفت آنفا أن البيع والشراء لا يطلقان على الانشاء الساذج، وعليه
فالمراد من قوله (عليه السلام): لا يجوز ابتياعها - الخ هو النهي عن ابتياع مال
الغير حقيقة لا مجرد اجراء العقد عليه لفظا، فلا دلالة فيها على فساد بيع
الفضولي من أصله.
بل ربما يقال بدلالتها على صحته، وذلك لأن الإمام (عليه السلام) قد تفضل
بأن ابتياع الأرض لا يصح إلا بمباشرة المالك أو بوكالة منه أو برضائه به
على سبيل مانعة الخلو، ومن المعلوم أن المراد من الرضاء ليس هو
الرضاء السابق على العقد، لكناية قوله (عليه السلام): وبأمر منه، في ذلك،
ولا أن المراد منه هو الرضاء المقارن لعدم اعتباره في صحة البيع، وقد
عرفته فيما سبق، فيكون المراد منه الرضاء المتأخر.
وإن أبيت عن ظهور الرواية في ذلك فلا أقل من الاحتمال، فتكون
الرواية مجملة، وكيف كان فلا ظهور لها في فساد بيع الفضولي.

1 - في الوسائل: روى جماعة من علمائنا في كتب الاستدلال عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
اقرار العقلاء على أنفسهم جائز (الوسائل 23: 184، كما في عوالي اللئالي 1: 223، 2: 257،
3: 442، الجواهر 35: 3، تنقيح الرائع 3: 485).
726

4 - صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال:
سأله رجل من أهل النيل (1) عن أرض اشتراها بفم النيل وأهل الأرض
يقولون هي أرضهم وأهل الأستان يقولون هي من أرضنا، فقال: لا تشترها
إلا برضاء أهلها، حيث إن الإمام (عليه السلام) منع عن شراء الأرض إلا برضاء
أهلها فيكون الشراء من الفضولي فاسدا.
وقد ظهر جوابه مما تقدم، فإن المنع عن الشراء من غير المالك
لا ينافي استناد البيع إلى المالك بإجازته، إذ لا دلالة في هذه الرواية على
اعتبار الرضاء المقارن في صحة العقد وكون الإجازة اللاحقة لاغية،
فلا وجه لما ذكره في الحدائق من صراحة الرواية في تحريم الشراء قبل
تقدم الرضاء، ثم قال: ودعوى قيام الإجازة المتأخرة مقام الرضا السابق
مع كونه لا دليل عليه مردود بما ينادي به الخبر من المنع والتحريم إلا مع
تقدم الرضاء (2).
5 - الروايات الدالة على عدم جواز شراء السرقة والخيانة (3)، وقد

1 - النيل: نهر يخرج من الفرات الكبير فيمر بالحلة وعلى هذا النهر بلدة صغيرة قرب
الحلة (معجم البلدان 5: 334).
2 - الحدائق 21: 207.
3 - في حديث المناهي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: من اشترى خيانة وهو يعلم فهو كالذي
خانها (الفقيه 4: 9، عنه الوسائل 17: 333)، ضعيفة.
عن سماعة قال: سألته عن شراء الخيانة والسرقة، فقال: إذا عرفت أنه كذلك فلا، إلا أن
يكون شيئا اشتريته من العامل (التهذيب 6: 337، 7: 132، الفقيه 3: 143، عنهم الوسائل
17: 336)، موثقة.
عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لا يصلح شراء السرقة والخيانة إذا عرفت
(التهذيب 6: 374، الكافي 5: 228، عنهما الوسائل 17: 336)، ضعيفة.
عن ابن أبي نجران عن بعض الأصحاب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من اشترى سرقة وهو
يعلم فقد شرك في عارها وإثمها الكافي 5: 229، التهذيب 6: 374، عنهما الوسائل 17: 337)،
ضعيفة.
عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن رجل سرق جارية ثم
باعها يحل فرجها لمن اشتراها؟ قال: إذا أنبأهم أنها سرقة فلا يحل، وإن لم يعلم فلا بأس (
قرب الإسناد: 114، مسائل علي بن جعفر (عليه السلام): 132، عنهما الوسائل 17: 338)، صحيحة
لصحة طريق الشيخ إلى كتاب علي بن جعفر (عليه السلام).
727

استدل بها وبغيرها في الحدائق على بطلان بيع الفضولي، وقال في
جملة ما ساقه من الكلام وإليك لفظ بعضه: وهذه جملة من الأخبار
الواضحة الظهور كالنور على الطور في عدم جواز بيع الفضولي وعدم
صحته، ولو كان ما يدعونه من صحة بيع الفضولي وتصرفه بالدفع
والقبض صحيحا وإنما يتوقف على الإجازة لصرح به بعض هذه الأخبار
أو أشير إليه ولأجابوا بالصحة، وإن كان اللزوم موقوفا على الإجازة في
بعض هذه الأخبار إن لم يكن في كلها مع أنه لا أثر فيها لذلك ولو بالإشارة
فضلا عن صريح العبارة (1).
وقال في موضع آخر بعد نقل خبر سماعة وهذا نصه: وقد نهي عن
الشراء والنهي دليل التحريم، وليس ذلك إلا من حيث إن المبيع غير
صالح للنقل لكون التصرف فيه غصبا محضا والتصرف في المغصوب
قبيح عقلا ونقلا، والأصحاب في مثل هذا يحكمون بالصحة والوقوف
على الإجازة، وهل هو إلا رد لهذا الخبر ونحوه، ولكنهم معذورون من
حيث عدم اطلاعهم على هذه الأخبار، إلا أنه يشكل هذا الاعتذار بالمنع
من الفتوى إلا بعد تتبع الأدلة من مظانها والأخبار المذكورة في كتب
الأخبار المتداولة في أيديهم مسطورة، وإلى غير ذلك من الكلمات غير

1 - الحدائق 21: 208.
728

الخالية عن التعريض وإساءة الأدب مع الأصحاب.
ثم قال في آخر كلامه: وبالجملة فالقول بما عليه الشيخ وأتباعه من
البطلان هو المختار كما دلت عليه صحاح الأخبار، على أنا لا نحتاج في
الابطال إلى دليل بل المدعي للصحة عليه الدليل، كما هو القاعدة
المعلومة بين العلماء جيل بعد جيل، وقد عرفت أن أدلتهم لا تسمن
ولا تغني من جوع كما لا يخفى.
ويتوجه على الاستدلال بها على ما نحن فيه أنها ظاهرة في إرادة
التملك من الابتياع المذكور بحيث تترتب عليه الآثار نحو ترتبها على
الابتياع من المالك، فلا اشعار في شئ منها ببطلان بيع الفضولي فضلا
عن الدلالة عليه، ومن نظر إليها بعين الانصاف وجانب طريق الاعتساف
يري صدق ما ذكرناه.
والعجب من صاحب الحدائق مع تبحره في الأخبار وغوره فيها قد
خفي عليه ما ذكرناه، مع أنه من الوضوح بمكان بل هو كالنار على المنار،
وأعجب من ذلك أنه مع عدم فهمه محل النزاع كما يظهر من كلامه
المتقدم حيث جعل بيع الفضولي تصرفا في المغصوب ابتهج على ما
يرومه، كأنه عثر على ما لم يعثر عليه غيره، بل لم يكتف على ذلك حتى
حمل على الأصحاب ورماهم إلى عدم العثور على تلك الأخبار،
وكونهم غير معذورين في ذلك لوجود كتب الأخبار بين أيديهم ولنصب
عيونهم، ولكنه غفل عن أنهم سمعوها ووعوها، إلا أنهم اطلعوا على ما
هو المقصود منها ولم يقعوا على ما وقع عليه صاحب الحدائق من
الاشتباه.
ومن هنا قال في الجواهر، وهذه عبارته: بل أطنب فيه المحدث
البحراني إلا أنه لم يأت بشئ بل مقتضى جملة من كلماته التي أساء
729

الأدب فيها مع مشايخه أنه لم يفهم محل النزاع، وتخيل أن القائل
بالصحة يريد حصول أثرها من المالك والتمليك وجواز التصرف وغير
ذلك عدا اللزوم، فأبرق وارعد ثم ترنم وغرد، وساق جملة من
النصوص الدالة على خلاف ذلك محتجا بالعثور عليها والاهتداء إلى
الاستدلال بها.
فتحصل أنه لا دلالة في شئ من تلك الأخبار على بطلان بيع الفضولي،
ولو سلمنا دلالتها على عدم جواز بيع مال الغير فنخصصها بما دل على
صحة بيع الفضولي، وعلى تقدير التعارض والتساقط يرجع إلى
العمومات والمطلقات الدالة على صحة العقود، وقد عرفت ذلك كله
فيما تقدم.
قوله (رحمه الله): أما الروايتان.
أقول: المراد بهما روايتا خالد ويحيى الآتيتان في بيع الفضولي لنفسه
لا التوقيعان المتقدمان، أي توقيع الصفار وتوقيع الحميري.
6 - ما رواه الشيخ في المجالس بإسناده عن زريق قال: كنت عند
الصادق (عليه السلام) إذ دخل عليه رجلان - إلى أن قال: - فقال أحدهما: إنه كان
على مال لرجل من بني عمار وله بذلك ذكر حق وشهود، فأخذ المال
ولم استرجع منه الذكر بالحق ولا كتبت عليه كتابا... ووراثه حاكموني...
فباع على قاضي الكوفة معيشة لي وقبض القوم المال...، فقال:
المشتري كيف أصنع؟ فقال (عليه السلام): تصنع أن ترجع بمالك على الورثة
وترد المعيشة إلى صاحبها - الحديث (1).

1 - عن زريق قال: كنت عند الصادق (عليه السلام) إذ دخل عليه رجلان - إلى أن قال: - فقال
أحدهما: إنه كان علي مال لرجل من بني عمار وله بذلك ذكر حق وشهود، فأخذ المال
ولم استرجع منه الذكر بالحق ولا كتبت عليه كتابا، ولا أخذت منه براءة، وذلك لأني وثقت به
وقلت له: مزق الذكر بالحق الذي عندك، فمات وتهاون بذلك ولم يمزقها، وعقب هذا أن
طالبني بالمال وراثه وحاكموني وأخرجوا بذلك الذكر بالحق، وأقاموا العدول فشهدوا عند
الحاكم فأخذت بالمال، وكان المال كثيرا فتواريت من الحاكم، فباع على قاضي الكوفة معيشة
لي وقبض القوم المال، وهذا رجل من إخواننا ابتلي بشراء معيشتي من القاضي، ثم إن ورثة
الميت أقروا أن المال كان أبوهم قد قبضه وقد سألوه أن يرد على معيشتي ويعطونه في أنجم
معلومة، فقال: إني أحب أن تسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذا، فقال الرجل - يعني المشتري -
جعلني الله فداك كيف أصنع؟ فقال (عليه السلام): تصنع أن ترجع بمالك على الورثة وترد المعيشة إلى
صاحبها وتخرج يدك عنها - الحديث (أمالي الطوسي 2: 309، عنه الوسائل 17: 340)، ضعيفة.
730

قال في الحدائق بعد نقل الحديث: إن هذا الخبر وأن تضمن أن البايع
هو الحاكم وهو صحيح بحسب الظاهر، بناء على ما ورد عنهم (عليهم السلام) من
الأخذ بأحكامهم في زمان الهدنة والتقية، إلا أنه بعد ظهور الكاشف عن
بطلانه واعتراف الورثة بقبض الدين يكون من باب بيع الفضولي، وهو كما
سيأتي على قسمين: أحدهما ما يكون المشتري عالما بالغصب وأنه
ليس ملكا للبايع، وثانيهما أن يكون جاهلا وادعى البايع الإذن من
المالك، وما اشتمل عليه الخبر من القسم الثاني.
ولكن يتوجه عليه أن الرواية أجنبية عن بطلان بيع الفضولي، فإنها
ليست مسوقة لبيان بطلان البيع حتى مع الإجازة اللاحقة، بل هي ناظرة
إلى بيان حكم الواقعة وأنه بعد كشف الخلاف فلا بد وأن يكون يرجع
المال المأخوذ بلا حق إلى صاحبه.
الوجه الثالث: الاجماع
قوله (رحمه الله): الثالث: الاجماع على البطلان.
731

أقول: قد ادعاه الشيخ في الخلاف (1) كما عرفت في أول المسألة، ومع
ذلك قد اعترف بأن الصحة مذهب جماعة من أصحابنا، ولكنه اعتذر عن
ذلك بعدم الاعتناء بخلافهم، وهو محكي عن ابن زهرة أيضا في الغنية (2)،
وعن الحلي في مضاربة السرائر (3) عدم الخلاف في بطلان شراء الغاصب
إذا اشترى بعين المغصوب.
ويرد عليه: أن دعوى الاجماع على البطلان في هذه المسألة موهونة
جدا، لعدم وجود القائل به غير مدعي الاجماع وجمع قليل من
المتأخرين، خصوصا مع مخالفة الشيخ في النهاية (4) التي قيل إنها آخر
كتبه، ومن هذه الفتوى يمكن استكشاف ما ادعاه من الاجماع منقولا
لا محصلا، وإذن فلا نظن وجود الاجماع في المقام بل نطمئن بعدمه.
ويضاف إلى ذلك أنه ليس هنا اجماع تعبدي إذ من المحتمل القريب
أن المجمعين قد استندوا في ذلك إلى بعض الوجوه المتقدمة أو
جميعها، على أن الاجماع لا يكافؤ ما تقدم من أدلة الصحة.
الوجه الرابع: العقل
قوله (رحمه الله): الرابع: ما دل من العقل والنقل على عدم جواز التصرف في مال
الغير إلا بإذنه.
أقول: قد استدل على بطلان بيع الفضولي بالدليل العقلي، وبيانه
يحتاج إلى مقدمات:

1 - الخلاف 3: 168، المسألة: 275.
2 - الغنية: 207.
3 - السرائر 2: 415.
4 - النهاية: 385.
732

الأولى - والظاهر أنه لا احتياج إلى هذه المقدمة -: إن التصرف في مال
الغير قبيح عقلا ونقلا، وهذا ظاهر لا شبهة فيه.
الثانية: إن الفضولي متصرف في مال الغير بالعقد عليه بدون إذنه، لأنه
لم يقصد بعقده الهزل والهذيان وإلا كان انشاؤه لغوا محضا وساقطا عن
درجة الاعتبار، وإنما قصد النقل والانتقال حقيقة، ولا ريب في كون
ذلك تصرفا.
الثالثة: إن التصرف في مال الغير حرام، للروايات الدالة على حرمة
التصرف فيها بدون إذن مالكها، فنتيجة هذه المقدمات هي بطلان عقد
الفضولي، لأن النهي يقتضي الفساد كما حقق في محله.
وفيه:
أولا: إن مجرد انشاء البيع لا يعد تصرفا في المبيع عند العرف،
لا تصرفا خارجيا ولا تصرفا اعتباريا، سواء أكان ذلك بإذن المالك
كالوكيل في اجراء الصيغة أم كان بدون إذنه كالفضولي، وذلك لأن
التصرف في المال عبارة عن ايجاد ما هو من شؤون المالك، سواء أكان
ذلك تصرفا خارجيا كالأكل والشرب والاستظلال تحت الخيمة أم كان
تصرفا اعتباريا كالبيع والإجارة ونحوهما.
وهذا بخلاف الفضولي فإنه وإن لم يكن هازلا في انشائه، ولا غالطا
ولا ساهيا ولا لاغيا ولا لاهيا ولا مستهزئا ولا سكرانا، بل إنما هو قصد
البيع إلا أنه يري نفسه نائبا عن المالك وباع ماله فضولا متوقعا لإجازته،
بحيث لا يصدق عنوان البيع على انشائه صدقا حقيقيا إلا بعد الإجازة التي
بها يتحقق التصرف الاعتباري في المبيع ويستند البيع إلى المالك
المجيز لا بالانشاء الساذج الفضولي.
وثانيا: إنا لو سلمنا كون الانشاء الخالص تصرفا في المبيع ولكنه
733

لا دليل على حرمة التصرف في مال الغير على وجه الاطلاق، بقيام
السيرة العقلائية على جواز الاستظلال بحائط الغير والاستضاء بضيائه
والاصطلاء بناره ودق باب داره لاستعلام حاله وأشباهها، ولم يردع
الشارع المقدس عنها جزما، وأما أدلة حرمة التصرف في أموال الناس
فهي منصرفة عنها قطعا.
وثالثا: إنا لو سلمنا كون الانشاء تصرفا في المبيع وسلمنا حرمته
أيضا، ولكن ذلك فيما لم يستكشف جوازه من القرائن الحالية أو المقالية
وإلا فلا شبهة في جوازه، بناء على أن مثل هذا الإذن لا يخرج العقد عن
الفضولية كما هو كذلك، لأن الإذن قد تعلق بالانشاء لا بالمنشأ، والذي
يخرج العقد عن الفضولية إنما هو الثاني دون الأول، وعليه فيكون الدليل
أخص من المدعي، إلا أن يلتزم بصحة بيع الفضولي في هذا المورد لعدم
كونه مشمولا للدليل العقلي وببطلانه في سائر الموارد، ولكن الظاهر أن
القائلين بالفساد إنما يريدون السلب الكلي، وحينئذ فيكفي في نقضه
الايجاب الجزئي.
ورابعا: إنا لو سلمنا جميع ما ذكروا لكن إنما يحرم الانشاء من
الأجنبي مع العلم والعمد، وأما مع الجهل بذلك أو مع الغفلة عنه فلا
وجه لحرمته، ومن الظاهر أن مورد بحثنا أعم من ذلك، وإذن فيكون
الدليل أيضا أخص من المدعي.
وخامسا: إنا لو سلمنا ذلك أيضا ولكن النهي عن المعاملات
لا يوجب الفساد، وإن أصر عليه شيخنا الأستاذ (1)، وتفصيل ذلك في
محله (2)، نعم لو كان النهي ارشادا إلى فساد المعاملة، سواء أكان تحريميا

1 - فوائد الأصول 2: 458.
2 - المحاضرات 5: 31.
734

أم كان تنزيهيا فلا شبهة في دلالته على فسادها، وقد تقدم ما يمس
بالمقام.
وسادسا: إن الفساد من قبل الفضولي وعدم استناد البيع إليه لا يستلزم
الفاسد من قبل المالك، ولا ينافي الصحة التأهلية وجواز استناده إلى
المالك بالإجازة اللاحقة.
وجوه أخر
وقد يستدل على بطلان بيع الفضولي بأنه إنما حكم ببطلان البيع الآبق
من ناحية تعذر التسليم الذي هو شرط في صحة البيع، ومن الواضح أن
بيع مال الغير أولى بعدم الجواز لفقد السبب والشرط معا.
وفيه: أنا نعتبر الملك والقدرة على التسليم بالنسبة إلى المالك المجيز
لا العاقد، وإلا لم يصح عقد الوكيل في اجراء الصيغة فقط، لأنه ليس
بمالك ولا قادر على التسليم، ولا فارق بينه وبين الفضولي من هذه
الناحية.
وقد يستدل على بطلانه بأن عقد الفضولي مشتمل على الغرر للجهل
بحصول أثره، وقد نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر (1).
وفيه أولا: أنه إنما يلزم ذلك إذا حكمنا بلزومه ولكنه ليس يلازم،
وعليه فيرتفع الغرر بجواز الفسخ.
وثانيا: أن عمدة الدليل على بطلان بيع الغرري إنما هو الاجماع، لأن
النبوي ضعيف السند وغير منجبر بشئ، والمتيقن منه غير ما نحن فيه.

1 - عن الرضا عن آبائه عن علي (عليهم السلام): نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر (عيون
الأخبار 2: 45، عنه الوسائل 17: 448)، ضعيفة.
735

ثم إنه ذكر السيد في حاشيته عند قول المصنف: والجواب أن العقد:
لا يخفى أن الفضولي إنما يقصد النقل والانتقال جدا مطلقا لا هزلا
ولا معلقا على الإجازة، وإلا لم يكن صحيحا مع الإجازة أيضا، وحينئذ
فلا يبعد صدقه عليه عرفا كما يصدق على بيع الغاصب - الخ (1).
ويرد عليه أولا: ما ذكرناه سابقا من عدم كون ذلك تصرفا، ولا يقاس
ذلك ببيع الغاصب الذي يرى المال لنفسه ويبيع لنفسه لكن يستند البيع
إليه، وأين هذا من الفضولي.
وثانيا: إن قوله: ولا معلقا عليه، سهو من القلم، لما عرفته في مبحث
التعليق أن التعليق على ما هو دخيل في صحة العقد لا يوجب بطلانه، لأن
صحة العقد متوقفة واقعا على ذلك.
ثم إنه ذكر هنا أمور لبطلان بيع الفضولي، ولكن قد أغمضنا عنها إذ
لا يهمنا التعرض لها.
المسألة (2)
بيع الفضولي مع سبق منع من المالك
قوله (رحمه الله): المسألة الثانية: أن يسبقه منع المالك.
أقول: المعروف والمشهور بين الفقهاء (رحمهم الله) هو صحة بيع الفضولي
مطلقا، وحكي عن بعض التفصيل في ذلك بين سبق المنع وعدمه،
ويشير إليه ما عن المحقق الثاني (2) في بيع الغاصب حيث احتمل الفساد
نظرا إلى القرينة الدالة على عدم الرضا وهي الغصب.

1 - حاشية العلامة الطباطبائي (رحمه الله) على المكاسب: 140.
2 - جامع المقاصد 4: 69.
736

ويشير إليه أيضا ما حكي عن فخر الاسلام من أنه زاد بعضهم - أي
بعض القائلين بصحة الفضولي - عدم مسبوقية الصيغة بنهي المالك (1).
ويظهر هذا فيما حكي عن العلامة في نكاح التذكرة (2) من حمل
النبوي: أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر، بعد ما رماه إلى
ضعف السند، على أنه نكح بعد منع مولاه وكراهته له فإنه يقع باطلا،
وهذه العبارة وإن سردها في النكاح إلا أنه لم يفرق بين النكاح وغيره،
فيلزم أن يقول بمثله في البيع أيضا.
ويتوجه عليه أولا: أن الظاهر من النبوي هو المنع عن مطلق الزواج
الفضولي لا عن الفضولي المسبوق بالمنع فقط، وعليه فلا بد من
تخصيصه على تقدير صحته بما دل على صحة عقد الفضولي.
وثانيا: إنا لو سلمنا تكافؤهما ولكن لا بد من تقديم أدلة الصحة لضعف
النبوي سندا، ومع صحة سنده فيتساقطان فيرجع إلى العمومات.
وثالثا: إن الظاهر من النبوي إنما هو المنع عن تزويجه وترتيبه آثار
الزوجية بلا استيذان ولا استجازة من مولاه، ولا شبهة في كونه زانيا،
وهذا لا ربط له بالفضولي المسبوق بالمنع.
ثم إنه يقع البحث هنا في جهتين:
الأولى: في أنه هل هنا دليل يقتضي صحة عقد الفضولي مع سبق
المنع عنه من المالك.
الثاني: في أنه هل هنا ما يدل على بطلان العقد، بحيث يكون مانعا عن
تأثير ما يقتضي الصحة.

1 - إيضاح الفوائد 1: 417.
2 - التذكرة 2: 588.
737

الجهة الأولى: في وجود المقتضي
فإن كان الدليل على صحة بيع الفضولي هو العمومات، فلا يفرق في
ذلك بينما يكون مسبوقا بمنع المالك وعدمه، فإنه مع لحوق الإجازة
يكون مشمولا للعمومات في كلتا الصورتين وإلا فلا.
وإن كان الدليل على صحته هو خبر البارقي المتقدم فلا شبهة في
اختصاصه بصورة عدم المنع عن البيع، إذ المفروض فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قد أمره باشتراء الشاة من دون نهي عن بيعها، ولذا دعاه بالخير والبركة
وقال: بارك الله في صفقة يمينك.
وإن كان الدليل على صحته صحيحة محمد بن قيس فالظاهر من قول
أبي البايع: إن وليدتي باعها ابني بغير إذني، هو عدم سبق المنع عن
البيع وإلا لكان الاحتجاج بذلك على مقصده أولى وأقرب من الاحتجاج
عليه بعدم الإذن في البيع، وعلى هذا فلا يبقي مجال لاستفادة العموم من
الصحيحة من ناحية ترك الاستفصال، ودعوى أن قوله: باعها بغير إذني
أعم من المنع وعدم الإذن دعوى فاسدة، للفرق الواضح بين أن يقول
الانسان لأحد: ما أذنت لك في الفعل الفلاني، وبين أن يقول له: نهيتك
عن ذلك، ولا ريب في أن الثاني أقوى للاحتجاج في مقام المخالفة.
وإن كان الدليل على صحة بيعه الروايات الواردة في الزواج العبد بغير
إذن سيده معللا بأنه لم يعص الله وإنما عصى سيده فإذا أجازه فهو
جائز، فدلالته على صحة بيع الفضولي هنا بوجهين:
1 - من ناحية الفحوى، وبيان ذلك أن السيد وإن لم يكن راضيا بزواج
العبد بل كان يكرهه كراهة شديدة، ولكن حيث لم يكن الزواج معصية لله
بل كان عصيانا للسيد فقط لم يخرج بذلك عن الصحة التأهلية لرجاء زوال
738

العصيان بالإجازة المتأخرة، وإذا صح الزواج بالإجازة اللاحقة مع كونه
مسبوقا بكراهة السيد صح مع كونه مسبوقا بالمنع أيضا، لأن ما هو مناط
العصيان أعني به مبغوضية الزواج موجود فيهما بلا فرق بين إظهارها
بمظهر خارجي وعدمه، وإذا صح الزواج صح غيره بالأولوية القطعية.
ويتوجه عليه أن الروايات المزبورة خالية عن كون الزواج مسبوقا
بالنهي، إذ لم يذكر فيها إلا كون الزواج عصيانا للسيد لا كونه منهيا عنه،
والمراد بالعصيان ليس هو مخالفة نهي المولي لكي يستفاد المنع الصريح
من ذلك، بل المراد به إنما هو عدم الاستيذان منه في النكاح بمقتضى
قانون العبودية على ما هو صريح الرواية.
وإذن فلا دلالة في تلك الروايات على نفوذ بيع الفضولي المتعقب
بالإجازة مع المنع السابق.
ودعوى استفادة المنع منها ولو بشاهد الحال بين الموالي والعبيد
دعوى فاسدة، لأن حالهما تشهد على عدم رضا المولي بفعل عبده إلا
بالاستجازة والاستيذان، وإلا فيكون خارجا عن زي الرقية والعبودية،
وهذا غير كونه ممنوعا عن الاستقلال في الفعل بمنع صريح.
ويضاف إلى ذلك ما ذكره المحقق الإيرواني من أنه: مع وجود شهادة
الحال على المنع خرج عن محل البحث، إذ شهادة الحال بوجودها
الاستمراري إلى ما بعد العقد تكون ردا فلا تجدي بعده الإجازة (1).
على أنا لو سلمنا دلالة الروايات المزبورة على صحة زواج العبد مع
المنع السابق ولكنها بعيدة عن الفضولي المصطلح، لما ذكرناه سابقا من
أن عقد النكاح في مورد الروايات مستند إلى العبد وأنه بنفسه طرف

1 - حاشية المحقق الإيرواني (رحمه الله) على المكاسب: 125.
739

للمعاقدة والمعاهدة، غاية الأمر أن نفوذه متوقف على إجازة السيد،
ولا شبهة في أن هذا غير ما هو مورد البحث في مبحث الفضولي، وإذن
فلا وجه لدعوى الفحوى المتقدمة.
2 - من ناحية عموم التعليل المذكور في تلك الأخبار، حيث إن الإمام
(عليه السلام) قد علل فيها صحة نكاحه بإجازة المولي، بأن نكاحه مشروع بذاته
وأنه ليس معصية لله تعالى، ومن الظاهر أنه لا يفرق في مشروعية نكاح
العبد وعدم كونه معصية لله ونفوذه بإجازة المولي بين كونه مسبوقا
بالنهي وعدمه، فإذا صح النكاح صح كل معاملة مشروعة بذاته، فإن كونه
معصية للسيد مما يرجي زواله، وهذا بخلاف ما إذ كان ذلك معصية لله
فإنها غير قابلة للزوال.
ولكن ظهر جوابه مما تقدم، من أن الزواج الصادر من العبد مستند إليه
وعقد له وإن كان نفوذه مشروطا برضا المولي، فلا ربط له بالفضولي
المصطلح، فيكون ذلك نظير بيع الراهن العين المرهونة بدون إذن
المرتهن، وتزويج بنت الأخ وبنت الأخت بدون إذن العمة والخالة، و
إذن فلا يمكن التمسك بعموم التعليل المذكور في تلك الروايات إلا فيما
يسانخ مورد التعليل.
وأما بقية الوجوه فقد عرفت أنها لم تدل على صحة بيع الفضولي مع
عدم سبق المنع فكيف إذا كان مسبوقا به، وكذلك المؤيدات المتقدمة،
فلا وجه لإطالة البحث عن ذلك.
الجهة الثانية: في عدم المانع
ذكر المصنف: أن العقد إذا وقع منهيا عنه فالمنع الموجود بعد العقد
ولو آنا ما كاف في الرد فلا ينفع الإجازة اللاحقة، بناء على أنه لا يعتبر
740

في الرد سوى عدم الرضا الباطني بالعقد، على ما يقتضيه حكم بعضهم
بأنه إذا حلف الموكل على نفي الإذن في اشتراء الوكيل انفسخ العقد لأن
الحلف عليه أمارة عدم الرضا.
وفيه أولا: إن الباقي بعد العقد ليس إلا الكراهة المستمرة من زمان
المنع إلى بعد العقد، ولكن ذلك أجنبي عن الرد، بديهة أن معنى الرد إنما
هو حل العقد وابطال ما حصل به من الربط، ولا شبهة في أن هذا لا
يتحقق إلا بالانشاء الذي هو مفقود في المقام على الفرض، كما أن الفسخ
لا يوجد إلا بالانشاء، لأن الكراهة الباطنية كالرضا الباطني لا يؤثران في
الرد والإجازة ولا في الفسخ والامضاء.
وثانيا: إن الرد لم يثبت بدليل لفظي لكي يتمسك باطلاقه ويحكم
بتحققه بالكراهة الباطنية الباقية إلى بعد العقد، بل إنما ثبت ذلك
بالاجماع، ومن الواضح أنه دليل لبي فلا يؤخذ به إلا بالمقدار المتيقن
وهو انشاء الكراهة وعدم الرضا بمظهر خارجي من اللفظ وغيره.
ومن هنا التزم الفقيه الطباطبائي بجواز تأثير الإجازة بعد الرد، وهذا
نصه:
الحق أن الرد من المالك غير مانع من الإجازة بعد ذلك ولا يوجب
الفسخ... أما ظهور الاجماع فمضافا إلى المنع منه لا دليل على حجيته ما
لم يصل حد القطع، بل أقول: لا يصح دعوى الاجماع القطعي على
بطلان العقد إذا تخلل الرد من القابل بين الايجاب والقبول، نعم لا يبعد
دعواه على بطلانه إذا رد الموجب ايجابه قبل قبول القابل (1).

1 - حاشية المحقق الطباطبائي (رحمه الله) على المكاسب: 141.
741

حلف الموكل على نفي الإذن
أما الفرع الذي حكاه المصنف عن بعض، من أنه إذا حلف الموكل
على نفي الإذن - الخ، فتارة نفرضه في غير زمان الخيار وأخرى في زمانه،
كما فرضه كذلك شيخنا الأستاذ، وإليك لفظ مقرر بحثه: وفسخ عقد
الوكيل لو كان خياريا بحلف الموكل على نفي الإذن في اشتراء الوكيل لو
سلم إنما هو لأمارية الحلف على الفسخ لا لمجرد كراهة الموكل باطنا،
بل لا يبعد أن يكون نفس انكار الوكالة فسخا كما أن انكار الطلاق
رجوع (1).
وإن كان في زمان الخيار فينفسخ العقد بإنكار الوكالة بلا احتياج إلى
الحلف على نفي الإذن في اشتراء الوكيل، وذلك لأن الموكل إذا أنكر
وكالة المشتري فقد أقر بكون المبتاع للغير، ولا شبهة أن هذا اقرار على
نفسه فيكون نافذا، وهذا نظير انكار الطلاق في العدة الرجعية، فإنه يكفي
في الرجوع إلى المطلقة بلا احتياج إلى الحلف على عدم وقوع الطلاق،
ضرورة أن انكار الطلاق اقرار على الزوجية ولوازمها من الانفاق وغيره
فيكون اقرارا على نفسه فينفذ، على أن الحلف لا يكشف إلا عن الكراهة
الباطنية وعدم الرضا، ومن الظاهر أن مجرد عدم الرضا لا يكفي في الرد
بل لا بد فيه من الانشاء، وقد عرفته آنفا.
ومن هنا ظهر أنه لا يتم ما ذكره المصنف (رحمه الله)، وهذا لفظه: وما ذكره
في حلف الموكل غير مسلم، ولو سلم فمن جهة الاقدام على الحلف
على ما أنكره في رد البيع وعدم تسليمه له.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 39.
742

وإن كان ذلك في غير العقد الخياري فهو بحسب طبعه على نحوين:
لأنه تارة ينكر التزامه بالعقد وينكر الوكالة أيضا ويحلف على ما أنكره،
وأخرى ينكر الوكالة فقط ويحلف على ما أنكره من دون أن ينكر التزامه
بالعقد، وعلى الأول فيحكم ببطلان المعاملة، إذ المفروض أنه ليس هنا
التزام عقدي أصلا، ومن هنا ظهر أن الصحيح هو ما ذكرناه من التعبير
بالبطلان دون الانفساخ، إذ لم يتحقق هنا عقد لكي يحكم بانفساخه،
وعلى الثاني فيحكم ببطلان الوكالة فقط دون العقد، إذ لا تحتاج صحته
إلى صحة الوكالة.
وقد ظهر لك مما ذكرناه أن مجرد انكار الوكالة لا يكفي في بطلان ما
أنشأه الوكيل من العقد بل لا بد في الحكم ببطلانه من وجود القرينة
الخارجية على إرادة الصورة الأولى، وأن المنكر إنما ينكر الوكالة
والتزامه بالعقد الصادر من الوكيل كليهما، وإلا فيحكم بصحة العقد
وبطلان الوكالة فقط.
المسألة (3)
بيع الفضولي لنفسه
قوله (رحمه الله): المسألة الثالثة: أن يبيع الفضولي لنفسه، وهذا غالبا يكون في بيع
الغاصب وقد يتفق من غيره بزعم ملكية المبيع، كما في مورد صحيحة الحلبي
المتقدمة في الإقالة بوضيعة، والأقوى فيه الصحة أيضا وفاقا للمشهور.
أقول: المعروف والمشهور بين الأصحاب هو صحة بيع الفضولي
لنفسه، وهذا هو الغالب في بيع الغاصب، وقد حكي عن كثير من
الأصحاب أنه يقف على الإجازة كسائر البيوع الفضولية، ومنهم العلامة
في بيع المختلف وغصب التحرير وبيع التذكرة والقواعد وغصبهما،
743

والشهيد والسيوري والصيمري و الكركي، وحكي عن فخر الاسلام أنه
اختاره بناء على صحة الفضولي (1).
وهذا مقتضى اطلاق الباقين، بل هو لازم فتوى الأصحاب في ترتب
العقود على أحد العوضين، حيث حكموا بأن للمالك أن يجيز منها ما
شاء، ومن الظاهر أنه لا تتم هذه الفتوى باطلاقه إلا على القول بصحة بيع
الفضولي لنفسه.
وعن فخر المحققين أنه على القول ببطلان بيع الفضولي فبيع الغاصب
أولى بالبطلان وعلى القول بوقوف بيع الفضولي على الإجازة فالأكثر على
أنه كذلك في الغاصب مع جهل المشتري - الخ.
ثم إنه يقع الكلام هنا أيضا في جهتين، حذو المسألة السابقة: الأولى:
في وجود المقتضي لصحة البيع وعدمه، والثانية في وجود المانع عن
ذلك وعدمه.
الجهة الأولى: في وجود المقتضي
أما الجهة الأولى، فلا شبهة في أن بيع الفضولي لنفسه مع لحوق
الإجازة من المالك مشمول للعمومات والمطلقات الدالة على صحة
العقود ولزومها، وهذا ظاهر.
ويضاف إلى ذلك صحيحة محمد بن قيس المتقدمة في المسألة
الأولى، حيث عرفت دلالتها على صحة بيع الفضولي للمالك مع عدم
كونه مسبوقا بالمنع وبضميمة ترك الاستفصال، ضرورة أنه لو كان هناك

1 - المبسوط 2: 386، شرايع الاسلام 2: 205، جامع المقاصد 8: 251، القواعد 2: 247،
إيضاح الفوائد 2: 367، المسالك 5: 300، مقابس الأنوار: 137، الجواهر 26: 384.
744

فرق بين المسألتين لفصل بينهما الإمام (عليه السلام) مع أنه لم يفصل بينهما،
وترك الاستفصال أمارة العموم.
وإذن فتدل الصحيحة على صحة بيع الفضولي في كلتا المسألتين،
وإن ناقشنا في دلالتها على صحته في المسألة الثانية لأجل خصوصية
فيها.
وأما الأخبار الواردة في صحة نكاح العبد لنفسه بلا إذن سيده، فقد
عرفت عدم دلالتها على صحة بيع الفضولي في المسألة الأولى، وكذلك
في المسألة الثانية، فعدم دلالتها على صحته هنا أولى، إذ المفروض أن
البيع في المسألتين المتقدمتين للمالك بخلافه هنا فإنه للبايع، لأنه باع مال
غيره لنفسه، فالتمسك بها هنا أردأ من التمسك بها هناك.
وأما بقية الوجوه التي استدل بها على صحة بيع الفضولي، فقد عرفت
عدم دلالتها على صحة بيع الفضولي في المسألتين المتقدمتين فضلا عن
دلالتها عليها في هذه المسألة.
الجهة الثانية: في عدم المانع
أما الجهة الثانية، فقد ذكروا وجوها لبطلان بيع الفضولي لنفسه، ولكن
عمدتها وجهان:
1 - إنه مع علم البايع بكون المبيع لغيره لا يتمكن من قصد البيع لنفسه،
لأنها لا تتحقق إلا بدخول أحد العوضين في ملك من خرج المعوض عن
ملكه، وحينئذ فالصادر من الفضول ليس بيعا حقيقيا بل إنما هو صورة
بيع نظير بيع الهازل والغالط والساهي.
وعلى الجملة أن حقيقة المعاوضة التي هي عبارة عن دخول أحد
العوضين في ملك مالك الآخر غير مقصودة للعاقد وما هو مقصود له من
745

وقوع البيع لنفسه ليس بمعاوضة بين المالين وإنما هو معاوضة صورية،
وإذن فلا سبيل لنا إلى تصحيح بيع الفضولي لنفسه.
ويتوجه عليه أولا: إن الدليل المذكور أخص من المدعي لأنه مختص
بالغاصب العامل بغصبية المبيع فلا يجري في الجاهل بغصبيته ولا في
الغافل عن ذلك.
وثانيا: إن العلم بالغصبية إنما يمنع عن قصد التبديل بين المالين في
نظر الشارع دائما وفي نظر العرف أحيانا، كبيع السرقة والخيانة على
رؤوس الأشهاد وبمرأى من الناس ومسمع منهم، لا في نظر المتبائعين،
لأنا ذكرنا مرارا أن حقيقة البيع عبارة عن الاعتبار النفساني المظهر بمبرز
خارجي.
ومن الظاهر أنه يمكن تحقق هذا المعنى بمحض وجود المتبائعين وإن لم يكن في العالم شئ من الشرع وأهل العرف، وأما كونه ممضى
للعقلاء والشرع فهو أمر خارج عن حقيقة البيع وإنما هو من الأحكام
اللاحقة له.
وعلى هذا فالبايع الغاصب مثلا وإن قصد دخول الثمن في ملكه مع أن
المبيع قد خرج عن ملك غيره ولكن الاخلال بذلك لا يوجب الاخلال
بحقيقة البيع، لأن قصد حقيقته لما كان مستلزما لقصد دخول أحد
العوضين في ملك من خرج الآخر عن ملكه تحققت المعاوضة حقيقة،
وإن انضم إلى ذلك قصد وقوعه لنفسه باعتبار تنزيل نفسه منزلة المالك،
لأن تعيين المالك الواقعي غير معتبر في مفهوم تحقق حقيقة البيع بل
القصد إلى العوض وتعيينه يغني عن القصد إلى المالك وتعيينه.
نعم يعتبر في مفهوم البيع قصد المتبائعين دخول العوض في ملك من
خرج المعوض عن ملكه وبالعكس وإلا فلا يصدق عليه البيع، وعليه
746

فلو اشترط على البايع دخول الثمن في ملك الأجنبي أو اشترط على
المشتري دخول المبيع في ملك غيره كان ذلك سببا لبطلان البيع جزما،
ضرورة أن الاشتراط المزبور على خلاف مقتضى العقد، وقد تقدم
تفصيل ذلك في الجزء الثالث.
والذي يكشف عن صحة ما ذكرناه أنه لو باع أحد متاعا بتخيل أنه
سرقة أو خيانة فبان أنه مال نفسه حكم بصحة البيع، وكذلك إذا باع
شخص مالا باعتقاد أنه لأبيه فبان أنه لنفسه صح البيع بلا خلاف في ذلك،
وأوضح من الكل أنه لو تزوج شخص امرأة بتخيل أنها خامسة أو ذات
بعل أو أخت زوجته فبانت أنها ليست بأخت زوجته ولا أنها ذات بعل
ولا أنها خامسة بل هي امرأة خلية يجوز تزويجها حكم بصحة الزواج
اتفاقا مع أن العاقد لم يقصد هناك إلا الزواج الفاسد.
فتحصل من جميع ما ذكرناه أن قصد البايع الغاصب كون البيع لنفسه
لا يؤثر في فساده وهذا ظاهر، وقد أشار المصنف إلى ما ذكرناه بقوله:
إن قصد المعاوضة الحقيقية مبني على جعل الغاصب نفسه مالكا حقيقيا
وإن كان هذا الجعل لا حقيقة له لكن المعاوضة المبنية على هذا الأمر
الغير الحقيقي حقيقية، نظير المجاز الادعائي في الأصول، نعم لو باع
لنفسه من دون بناء على ملكية المثمن ولا اعتقاد له كانت المعاملة باطلة
غير واقعة له ولا للمالك لعدم تحقق معنى المعاوضة.
وإذن فلا يتوجه عليه ما ذكره المحقق الإيرواني، وهذا عبارته:
كيف تكون المعاوضة المبنية على أمر غير حقيقي حقيقية وهل يزيد
الفرع على أصله، ولعمري إن هذه الدعوى من المصنف (رحمه الله) في غير
محلها (1).

1 - حاشية المحقق الإيرواني (رحمه الله) على المكاسب: 128.
747

لأن غرض المصنف من قوله: لكن المعاوضة المبنية على هذا الأمر
الغير الحقيقي حقيقية، إنما حقيقة المعاوضة مقصودة للبايع بتبع الأمر
الادعائي، وفي الحقيقة أن المقصود إنما هو الأمر الواقعي.
2 - إن الفضولي لم يقصد إلا البيع لنفسه، وعليه فإن تعلقت إجازة
المالك بما قصده الفضولي كان ذلك منافيا لصحة العقد، لأن معناها هو
صيرورة الثمن لمالك المثمن بإجازته وأن تعلقت بغير ما قصده الفضولي
كانت عقدا مستأنفا لا امضاء لنقل الفضولي، فيكون النقل من المنشئ
غير مجاز والمجاز غير منشأ.
وبعبارة أخرى أن ما قصده الفضولي من المبيع لنفسه ليس قابلا
للإجازة، لما عرفته من أن دخول العوض في ملك من خرج المعوض عن
ملكه مأخوذ في مفهوم البيع، وما هو قابل للإجازة لم ينشأه الفضولي،
وإذن فالمجاز غير واقع والواقع غير مجاز.
وقد ظهر جوابه مما ذكرناه في الجواب عن الاشكال الأول، من أن
حقيقة البيع عبارة عن اعتبار تبديل مال بمال في جهة الإضافة واظهاره
بمظهر خارجي، سواء علم به المالك أم لا، وسواء أقصده العاقد أم لا،
فإن كل ذلك خارج عن حقيقة البيع، ومن الظاهر أن الفضولي قد قصد هذا
المعنى غاية الأمر أنه قصد كونه لنفسه من جهة الخطأ في التطبيق، وذلك
لأنه إنما قصد المعاوضة بين ملكي المالكين مع اعتقاده أو بنائه على أنه
مالك فيلغي هذا البناء ويحكم بصحة العقد بالإجازة اللاحقة.
وإذن فلا يتوجه ما قيل من أن المنشأ غير مجاز والمجاز غير منشأ بل
المنشأ هو المجاز، لأن الإجازة قد تعلقت بالتبديل بين ملكي المالكين،
إذ المنشئ لم ينشأ إلا أصل التبديل الذي ينشأه نفس المالك وقصد
كونه لنفسه لا يضر بذلك.
748

وهذا نظير أن يوجه البايع خطابه إلى غير المشتري اشتباها ويقول:
بعتك هذا المتاع، ويقول المشتري: قبلت هكذا، فإنه لا شبهة في صحة
البيع حينئذ، ضرورة أن اقتران الايجاب بكاف الخطاب إنما هو من ناحية
الخطأ في التطبيق فلا يضر بصحة البيع.
ومن الموضحات لما ذكرناه هو أنه إذا أعطى أحد دينارا لشخص
ووكله في شراء متاع واشتبه الوكيل فقصد الاشتراء لنفسه ثم التفت
بذلك فإنه لا شبهة في كون البيع للموكل.
وأوضح من ذلك أنه لو ابتاع زيد متاعا من عمرو لموكله فتخيل عمرو
أنه اشتراه لنفسه فوجه الانشاء إليه وقال: بعتك هذا المتاع، وقبله زيد ثم
انكشف أنه قد اشتراه لموكله، فإن ما قصده البايع من كون الاشتراء لعمرو
لا يضر بحقيقة البيع.
وعلى الجملة أن المقصود للبايع في مرحلة الانشاء أمران: أحدهما
حقيقة البيع المبرزة بمبرز خارجي، وثانيهما إضافته إلى نفسه، وهذه
الإضافة إن طابقت الواقع فهو وإلا كانت لاغية.
جريان البحث من ناحية المشتري
ثم لا يخفى عليك أن ما ذكرناه جار في ناحية المشتري أيضا حذو
النعل بالنعل، فإنه إذا قبل الايجاب وأضافه إلى نفسه فقال مثلا قبلت،
فإن كان هذه الإضافة مطابقة للواقع فهو وإلا كانت فاسدة، ولكن فسادها
لا يضر بصحة البيع بل يقع الشراء لمالك الثمن، وقد حكم المصنف
بصحة الشراء حينئذ بوجه آخر، وهذه عبارته:
إن نسبة الملك إلى الفضولي العاقد لنفسه في قوله: تملكت منك، أو
قول غيره له: ملكتك، ليس من حيث هو بل من حيث جعل نفسه مالكا
749

للثمن اعتقادا أو عدوانا، ولذا لو عقد لنفسه من دون البناء على مالكيته
للثمن التزمنا بلغويته، ضرورة عدم تحقق مفهوم المبادلة، فإذا قال
الفضولي الغاصب المشتري لنفسه: تملكت منك كذا بكذا، فالمنسوب
إليه التملك إنما هو المتكلم لا من حيث هو بل من حيث عد نفسه مالكا
اعتقادا أو عدوانا، وحيث إن الثابت للشئ من حيثية تقييدية ثابت لنفس
تلك الحيثية فالمسند إليه التملك حقيقة هو المالك للثمن - الخ.
ويتوجه عليه أن الثابت للشئ من حيثية تقييدية وإن كان ثابتا لنفس
تلك الحيثية ولكن لا على وجه الاطلاق بل لخصوص الحصة الحاصلة
من تلك الحيثية في ضمن ذلك الشئ، سواء كانت هذه الحصة حقيقية
كما إذا كان المتبايعان مالكين حقيقة أم كانت ادعائية كما فيما نحن فيه،
وعليه فإجازة المعاملة الخاصة لا تقتضي إلا وقوع المعاملة لمن أنشأت
له المعاملة لا لغيره، لأن وقوعها لغيره يستلزم تعدد الانشاء وهو منفي،
هذا ما ذكرناه في وجه الصحة.
وقد أجاب عنه المحقق القمي على ما حكي عنه في بعض أجوبة
مسائله: بأن الإجازة في هذه الصورة مصححة للبيع لا بمعنى لحوق
الإجازة لنفس العقد كما في الفضولي المعهود بل بمعنى تبديل رضى
الغاصب وبيعه لنفسه برضاء المالك ووقوع البيع عنه - الخ، وعليه
فيكون ذلك عقدا جديدا كما هو أحد الأقوال في الإجازة (1).
وفيه أنه قد يراد بذلك ما حكي عن كاشف الرموز (2)، من أن الإجازة من
مالك المبيع بيع مستقل بغير لفظ البيع وهو قائم مقام ايجاب البايع،
وينضم إليه القبول المتقدم من المشتري، وحينئذ فيلغو الايجاب

1 - جامع الشتات 2: 319، غنائم الأيام: 554.
2 - كشف الرموز 1: 445.
750

الصادر من الفضولي فيكون ذلك من موارد تقدم القبول على الايجاب
المتأخر.
ويرد عليه أنا لو سلمنا جواز تقدم القبول على الايجاب، وسلمنا
أيضا جواز الفصل الطويل بين الايجاب والقبول وأغمضنا عن مخالفة
هذا الاحتمال لصريح كلام المحقق المزبور، أنه لا يمكن أن تكون
الإجازة اللاحقة ايجابا متأخرا للقبول المتقدم، لأن القبول المزبور إنما
هو قبول لما أنشأه الفضولي والإجازة المتأخرة على تقدير كونها ايجابا
لا يمكن أن يكون ايجابا لذلك القبول لعدم المطابقة بينهما، بل لا بد وأن
يكون له قبول آخر، وقد ذكرنا في الجزء الثاني أن اعتبار التطابق بين
الايجاب والقبول من ناحية البايع والمشتري من الأمور الواضحة (1)،
وإذن فلا يمكن أن تجعل الإجازة اللاحقة مع القبول المتقدم عقدا
مستأنفا ومعاملة جديدة.
وقد يراد من كلامه أن للإجازة جهتان: جهة ايجاب وجهة قبول،
فالمالك المجيز من جهة الايجاب غير أصيل ومن جهة القبول إما وكيل
المشتري أو وليه.
ويرد عليه أنه لا دليل على كون المجيز وكيلا للمشتري ولا وليا له،
أضف إلى ذلك أن الإجازة اللاحقة ليست إلا رضا بالعقد السابق،
فلا وجه لجعلها ذي جهتين جهة ايجاب وجهة قبول، وهذا ظاهر.
وما حكاه المصنف عن الشيخ الكبير في شرحه على القواعد (2)، من أنه
ربما يلتزم صحة أن يكون الإجازة لعقد الفضولي موجبة لصيرورة
العوض ملكا للفضولي.

1 - مصباح الفقاهة 2: 340.
2 - شرح القواعد: 60.
751

ثم قال: وتبعه غير واحد من أجلاء تلامذته (1)، وذكر بعضهم في ذلك
وجهين:
الأول: إن قضية بيع مال الغير عن نفسه والشراء بمال الغير لنفسه جعل
ذلك المال له ضمنا، حتى أنه على فرض صحة ذلك البيع والشراء تملكه
قبل انتقاله إلى غيره ليكون انتقاله إليه عن ملكه، وذلك لاستحالة دخول
أحد العوضين في ملك غير مالك الآخر، نظير ما إذا قال: أعتق عبدك
عني، أو قال: بع مالي عنك، أو: اشتر لك بمالي كذا، فهو تمليك ضمني
حاصل ببيعه أو الشراء.
ونقول في المقام أيضا إذا أجاز المالك صح البيع والشراء، وصحته
يتضمن انتقال إليه حين البيع أو الشراء، فكما أن الإجازة المذكورة
تصحح البيع أو الشراء كذلك يقضي بحصول الانتقال الذي يتضمن البيع
الصحيح، فتلك الإجازة اللاحقة قائمة مقام الإذن السابق قاضية بتمليكه
المبيع ليقع البيع في ملكه، ولا مانع منه.
الثاني: إنه لا دليل على اشتراط كون أحد العوضين ملكا للعاقد في انتقال بدله
إليه، بل يكفي أن يكون مأذونا في بيعه لنفسه أو الشراء به،
فلو قال: بع هذا لنفسك أو اشتر لك بهذا، ملك الثمن في الصورة الأولى
بانتقال المبيع عن مالكه إلى المشتري، وكذا ملك المثمن في الصورة
الثانية، ويتفرع عليه أنه لو اتفق بعد ذلك فسخ المعاوضة رجع الملك إلى
مالكه دون العاقد.

1 - منهم المحقق التستري في مقابيس الأنوار: 133.
752

فروع
الفرع (1) عدم الفرق بين كون المال عينا أو في الذمة
قوله (رحمه الله): الأول: إنه لا فرق على القول بصحة بيع الفضولي بين كون مال الغير
عينا أو في الذمة.
أقول: إن البايع تارة يبيع مال شخصه في ذمة الغير كالدين فهو خارج
عن الفضولي، فإنه نظير بيع عين ماله الشخصي، وأخرى يبيع مال غيره
في ذمة نفسه، فالظاهر خروجه أيضا عن الفضولي فإنه لا ميز لمال الغير
في ذمة نفسه، وثالثة يبيع ما في ذمة شخص لآخر أو يشتري كذلك،
فهذا لا شبهة في كونه فضوليا.
ويتصور ذلك في كل من البيع والشراء على ثلاثة أنحاء:
1 - أن يصرح البايع أو المشتري (1) الفضوليين بالذمة، بأن يقول: بعتك
كرا من الطعام مثلا في ذمة عمرو، أو اشتريته بخمسة دراهم في ذمة بكر.
2 - أن يكون كلامه ظاهرا في كون المبيع أو الثمن في ذمة الغير، كأن
يصنف البيع إليه، فإن ظاهر الإضافة كونه للغير، وحينئذ فيكون الثمن أو
المثمن أيضا في ذمته، لما مر مرارا أنه لا يعقل دخول العوض في ملك
من لم يخرج العوض الآخر عن ملكه.
3 - أن لا يكون كلامه صريحا ولا ظاهرا في كون البيع للغير بل إنما
يقصده للغير، وعلى هذا فلو أضاف الكلي إلى ذمة الغير أو قصد هذا

1 - تذكرة: إنه قد وقع في بعض الموارد فيما إذا تكون الإجازة باطلة وغير مفيدة أن العقد
يبطل، وهذا مسامحة، بل المراد بطلان الإجازة، وإلا فلو انضم إليه إجازة أخرى نحكم بصحة
العقد، فإن الرد لا يخرج العقد عن قابلية انضمام الإجازة إليه فكيف ببطلان الإجازة، وإن شئت
فقل إن عقد الغير لا يترتب عليه الأثر لعدم تحقق الإجازة فيه - منه (رحمه الله).
753

المعنى ثم أضاف البيع إلى نفسه ولم يظهر ما قصده بمبرز في الخارج، أو
قصد هذا المعنى وأضاف البيع إلى الغير ولكن أضاف الكلي إلى ذمته يقع
التنافي بينهما ظاهرا.
مثلا لو قال: اشتريت هذا لفلان بدرهم في ذمتي، أو اشتريت هذا
لنفسي بدرهم في ذمة فلان، يقع التنافي، كما أنه لو قصد الشراء لفلان
وأضاف إلى ذمة نفسه أو قصد الشراء لنفسه وأضاف إلى ذمة غيره يقع
التنافي بينهما ظاهرا.
وهنا مسألتان:
الأولى: في وقوع البيع للعاقد مطلقا على تقدير رد الغير وعدم وقوعه
له مطلقا، أو يفصل بين الشراء للغير بمال نفسه فيقال بالبطلان وبين
الشراء لنفسه بمال الغير فيقال بالصحة.
الثانية: في صحة تلك المعاملة مطلقا وعدم صحتها كذلك، أو يفصل
كما تقدم.
المسألة الأولى
الظاهر من صدر عبارة العلامة (1) أنه لو اشترى بما في ذمة الغير وأطلق
اللفظ يقف على إجازته وإذا رد يقع للمباشر، بل نسب ذلك إلى
العلماء (2)، ولكن الظاهر من ذيل كلامه أن الاشتراء إنما هو بما في ذمة
نفسه للغير، حيث علل صحة الشراء بقوله: لأنه تصرف في ذمته لا في
مال الغير.
وبالجملة يظهر منه التفصيل بين المثالين، وإن كان ظاهر الصدر من

1 - القواعد 1: 247.
2 - كما في الشرايع 2: 142، الرياض 1: 607، جواهر الكلام 26: 384.
754

كلامه ينافي ظاهر ذيله، ثم نسب ذلك إلى أبي حنيفة حتى في الأعيان
الشخصية (1).
والتزم شيخنا الأستاذ (2) أيضا بذلك وكونه واقعا للعاقد مطلقا، ولكن
حكم العلامة الأنصاري (رحمه الله) بالبطلان، وهو الحق وإن لم نساعد بذيله.
والوجه في بطلانه واقعا على تقدير الرد وعدم وقوعه للعاقد، أنه قد
عرفت فيما تقدم أن مفهوم البيع وحقيقته متقوم بالمبادلة بين المالين
بحيث يدخل كل من العوضين مكان العوض الآخر، سواء علم المالك أو
لم يعلم، فإن معرفته غير دخيلة في حقيقة البيع وصحته، هذا في بيع
الأعيان الشخصية.
وأما في بيع الكلي أو شرائه فحيث إن الكلي بما هو كلي ليس فيه شائبة
المالية من جهة وإنما يكون متصفا بالمالية إذا أضيف إلى ذمة معينة لأن
الذمة الغير المعينة أيضا كلي، فإضافة الكلي إلى كلي آخر لا يوجب
التعين والتشخص.
إذن فكون الكلي ثمنا أو مثمنا متقوم بإضافة إلى شخص معين لا من
جهة لزوم تعيين المالك، بل لكون تعيينه مقدمة لاتصاف الكلي بالمالية
حتى يكون قابلا للمعاوضة عليه، لأن العوضين في البيع بمنزلة الزوجين
في النكاح في لزوم التعيين.
وعلى هذا فلو قصد الفضولي كون المعاملة لغيره وإن لم يظهر
فلا يعقل كونها لنفسه، وإن كان ظاهره كذلك، فإن تحقق المعاملة
وظهورها في صفحة الوجود كان معلقا على إضافة الكلي إلى ذمة الغير،
ومع عدم وقوعها للغير لأجل رده وعدم امضائه ذلك كيف يعقل وقوعها

1 - المغني لابن قدامة 4: 227.
2 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 45.
755

عن العاقد، وإلا فيلزم كون ما يكون مقوما للبيع والشراء غير مقوم لهما،
فهل هذا إلا التناقض الواضح.
وبعبارة أخرى اتصاف الكلي بالمالية وكونها طرفا للمبادلة إنما هو
بالإضافة إلى الذمة ولو في عالم القصد، فإذا أزاله صاحب الذمة عن ذمته
فتنعزل عن المالية، فهذه الإزالة لا يعقل أن يوجب اتصاف الكلي أيضا
بمالية أخرى ليكون قابلا للمعاوضة عليه، لأن إزالة إضافة عن ذمة ليس
إضافة أخرى لذمة شخص آخر، فإذن كيف يمكن القول بأنه إذا رد الغير
الذي كانت المعاملة له تقع ذلك للعاقد، فهل كان رده سببا لإضافة الكلي
إلى العاقد، أو اتصف الكلي بالمالية بغير إضافة، فكلاهما غيره معقول.
ومن هنا انقدح ما في كلام العلامة الأنصاري، حيث أفاد في وجه
البطلان بما حاصله:
إن المال في باب الفضولي مردد بين مالكه الأصلي ومن وقع له العقد،
فلا معنى لخروجه عن ملك مالكه وتردده بين أن يدخل في ملك
الفضولي أو ملك من وقع له العقد، ووجه انحلال أنه بعد انحصار البيع أو
الشراء بمن وقع له العقد فلا معنى لتردد المال بينه وبين الفضولي، بل هو
دائر بين أن يبقي في ملك مالكه الأصلي وأن يدخل في ملك من له العقد
على تقدير إجازته العقد، هذا كله في مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات، فظاهر الكلام كون العقد للمباشر إلا أن يثبت
ببينة ونحوها كونه للغير.
ثم إن شيخنا الأستاذ (1) قد تصدي إلى تصحيح العقد في كلا المثالين،
أي سواء كان الشراء للغير بمال نفسه أو العكس، وحاصل كلامه أنه: إذا
اشترى مالا لنفسه بمال الغير أو اشترى مالا للغير بمال نفسه فإن أجاز

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 46.
756

الغير فيكون له وإلا فيكون للمباشر، وحمل على ذلك كلام العلامة
وفسره بصورة الشراء في ذمة نفسه لغيره، على خلاف ما فسرناه سابقا،
وإن كان يساعده ذيل كلامه.
والوجه في ذلك أن الفضولي إذا اشترى مالا للغير بمال نفسه في الذمة
فقد أنشأ بيعين: الأول اشتراءه لنفسه من الغير، والثاني بيعه لمن له العقد
بلا مرابحة ووضيعة كما هو كذلك في بيع التولية، فيكون ذلك من
مصاديقه، فكون البيع للفضولي ليس خارجا عن القاعدة مع رد من له
العقد، فإن رده يوجب انحلال البيع الثاني دون الأول.
وعلى ما ذكره شيخنا الأستاذ لا يرد اشكال المصنف أيضا، فإنه على
تقدير صحته إنما هو فيما يكون هنا بيع واحد دائرا بين كونه للفضولي
أو من له العقد، وأما بناء على ما ذكره الأستاذ فهنا بيعان: أحدهما
للمباشر والثاني لمن له العقد، فبطلان الثاني للرد لا يوجب بطلان الأول،
ولكنه ليس بتمام لأنه:
أولا: لا يتم في البيع، فإن بيع التولية مختص بالشراء من الغير
فلا يجري في البيع.
وثانيا: أنه على هذا يكون الإجازة اللاحقة قبولا للإيجاب الذي تحقق
في ضمن الشراء من الغير، فمع الغض عن اخلال الفصل البعيد بين
الايجاب والقبول وعن الاشكالات الأخر أن هذا مع الإجازة يكون عقدا
مركبا من الايجاب والقبول الحاصلين من الأصيلين، فلا يكونان مربوطين
بالعقد الفضولي الذي هو محط كلامنا، مع أنه ليس الأمر كذلك لأنه لو
مات الفضولي ثم أجاز المالك بيعه أو شرائه فلا شبهة في صحته، وأما
لو مات الموجب قبل تحقق القبول فيكون باطلا بلا شبهة.
فيعلم من ذلك أنه ليس هنا عقدان وبيعان بل عقد واحد، على أنه
757

خلاف الظاهر من كلام الفضولي، وأوضح من ذلك في البطلان البيع للغير
فإنه لا يجري فيه ما ذكره الأستاذ من ارجاعه إلى بيعين وعقدين كما
ذكرنا، وبالجملة ما ذكره شيخنا الأستاذ لا يمكن المساعدة عليه بوجه،
ولا ينطبق على بيع الفضولي وعلى خلاف الظاهر بمكان.
وأما تصحيح ذلك بالالتزام بالنيابة فأيضا لا وجه له، لأنه على تقدير
الالتزام بذلك فليس معناها الالتزام بالضمان عن الغير، بحيث على تقدير
رد الغير يكون الضمان عليه طولا، فإنه دعوى بلا دليل، بل معناها جعل
نفسه نازلا منزلة الغير في ايجاب العقد، فكأنه شخص تنزيلي للغير،
وحينئذ فيكون العقد مع الرد فاسدا من أصله لكونه راجعا إليه، فلا يكون
واقعا عن العاقد النائب كما هو الظاهر، فإن النائب ليس له موضوعية بل
هو قنطرة إلى المنوب عنه، فالمناط في الصحة والبطلان امضاؤه ورده.
المسألة الثانية
أعني صحة المعاملة فيما جمع بين المتنافيين إما لفظا أو قصدا بأن
يقصد الغير وأضاف إلى نفسه.
فحكم شيخنا الأستاذ (1) بكونه للعاقد أيضا، وقد أفاد في وجه ذلك
وجوها:
1 - إن الأمور البنائية والأغراض المنوية لا أثر لها ما لم تنشأ بما هو آلة
لانشائها من الفعل أو القول.
2 - إن الالتزامات العقدية يملكها كل من المتعاقدين على الآخر، إلا أن يجعل ملك كلا الالتزامين لواحد منهما، إما بجعلهما كما في غير
النكاح أو بالجعل الشرعي، فحينئذ يثبت له الخيار.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 47.
758

3 - عدم اعتبار تعيين المالك في البيع وأنه ليس دخيلا في حقيقة
البيع، فينتج من تلك الأمور أن العقد مع رد من له العقد يقع للعاقد فيكون
هو ملزما بذلك ومالكا على التزام الآخر، كما أن الآخر يملك التزامه.
ثم قال: وأما وقوعها له لو أجاز أو أقر بالوكالة فلأن العقد وإن لم يؤثر
في صرف الالتزامات إلى الغير إلا أنه لا ينفك عن أثره التكويني، فيجعل
المعاملة كالمادة الهيولانية القابلة لصرفها إلى الغير بإجازته أو اقراره،
فيكون القصد كجعل التولية للغير ويكون الإجازة أو الاقرار بمنزلة قبول
التولية، فالقول بأن المعاملة تقع لنفس المباشر واقعا إذا رد من قصد له
منطبق على القواعد، وقياسها على ما إذا أسندها إلى الغير لفظا مع
الفارق.
وفيه، أما ما أفاده في وجه كونه للغير نظير أن يجعل للغير تولية في
العقد، فقد ظهر جوابه فيما تقدم، وأما ما أفاده في وقوعه للغير من
المقدمات، ففيه أما عدم لزوم تعيين المالك فإنما هو في الأعيان
الشخصية، وأما في بيع الكلي فعدم تعيينه مستلزم لانعدام المالية التي
بها قوام مفهوم البيع من حيث المبادلة.
وأما المقدمة الثانية: إن ملك كل من المتعاقدين التزام الآخر وإن كان
في محله إلا أنه فيما يكون العقد واقعا لهما، وأما فيما يكون الشخص
خارجا عن حدود العقد كيف يمكن ملك كل منهما التزام الآخر فالعاقد
الفضولي نسبته إلى العقد ليس إلا كنسبة الأجانب إليه، فلا وجه لملكه
بالتزام الآخر.
وبعبارة أخرى إن كان المقصود من ذلك عدم كون العقد خياريا فهو
متين، وإن كان المقصود كون العاقد مالكا لالتزام الآخر، سواء كان أصيلا
أو فضوليا فهو غير مسلم.
759

وأما المقدمة الثالثة، إن القصد بلا إظهاره بمظهر وإن كان ليس له أثر
إلا أنه فيما يكون الاظهار والابراز من المقومات، بحيث لا يتحقق العنوان
الذي يترتب على الأثر إلا بالاظهار، كعنوان البيع والهبة والصلح
والإجازة وغيرها من العناوين العقودية والايقاعية، وأما فيما لا يكون
إظهاره دخيلا في التأثير فاظهاره وعدمه سيان، فذكر العوضين كذكر
المالكين ليس من مقومات العقد.
ومن هنا لو كان جميع ذلك من الخارج معلوما واكتفي العاقد بمجرد
بعت واشتريت لكان كافيا، على أنه قد أظهر ذلك بقوله: اشتريت هذا
بخمسة دراهم في ذمة فلان.
وبالجملة لم يتحصل لنا شئ مما أفاده، بل لا بد في صورة الجمع بين
المتنافيين من الحكم بالالغاء وقيد كونه للغير والحكم بكونه للعاقد لأنه
من قبيل الخطأ والاشتباه، نظير شراء مال الغير لنفسه بثمن هو مال
شخص آخر بتخيل أنه ماله أو بتخيل رضايته بذلك، كما إذا وعد
شخص على آخر عشرة أمنان من الحنطة وتخيل الموعود له ملكيته
بمجرد ذلك فباعه من شخص، فإن في أمثال ذلك يقع البيع للعاقد،
فافهم.
الفرع (2) جريان الفضولي في المعاطاة
وقد عرفت أن بيع الفضولي حسب دلالة الأدلة عليه لا اشكال فيه،
وإنما الكلام في أنه هل يجري في المعاطاة مطلقا أو لا يجري فيها
مطلقا، أو فرق بين القول بالإباحة فلا يجري والقول بالملك فيجري، أو
فرق بين كون الفضولي على خلاف القاعدة فلا يجري مطلقا وبين كونه
على وفقها فيجري مطلقا وجوه.
760

الوجه الأول
قوله (رحمه الله): الثاني: الظاهر أنه لا فرق فيما ذكرنا من أقسام بيع الفضولي بين
البيع العقدي والمعاطاتي.
أقول: ذكر العلامة الأنصاري (رحمه الله) أنه على القول بصحة البيع الفضولي
لا يفرق فيه بين البيع اللفظي والبيع المعاطاتي لاطلاق الأدلة وعمومها،
وعن بعضهم اختصاصه بالبيع اللفظي بدعوى أن الاقباض الذي يحصل
به التمليك محرم لكونه تصرفا في مال الغير بدون إذنه فلا يترتب عليه
أثر.
وفيه أولا: إن الاقباض والتصرف يمكن أن يكون مباحا، كما إذا
اشتبه المقبض وتخيل أن المال لنفسه وأقبضه للمشتري بالبيع
المعاطاتي، فإن هذا التصرف ليس بمحرم، وهكذا في جميع موارد
السهو والنسيان، فالجامع بين الجميع هو الخطأ، والوجه في ذلك أنه قد
حققنا في محله أن التكاليف الالتزامية ترتفع في موارد الخطأ حتى في
الواقع ونفس الأمر بمقتضى أدلة الرفع، وإذن عدم رضاية المالك
بالتصرف لا يدل على حرمة الاقباض.
وثانيا: يمكن أن يكون المالك أيضا راضيا بالتصرف كما إذا أذن
للفضولي قبل البيع أن يتصرف في ماله ويقبضه لشخص خاص أو يعطي
الفضولي مال المالك لوكيله أو وليه أو من يقوم مقامه بعنوان البيع فإن
اقباض شئ من ذلك ليس بمحرم، وإنما يقصد الفضولي في ضمن ذلك
الاعطاء المباح البيع المعاطاتي، وهكذا الأمر لو أعطى أحد وكلائه ماله
لوكيله الآخر بعنوان البيع من غير أن يكونا وكيلين في البيع والشراء.
وثالثا: يمكن أن يكون المالك أيضا راضيا بالبيع ولكن لم يظهر
761

رضايته بمظهر، إذن فلا يكون البيع إلا واقعا برضاية المالك، وقد تقدم
أن الرضا المقارن لا يخرج العقد الفضولي عن الفضولية ما لم يظهره
المالك في الظاهر بمظهر قولي أو فعلي.
ورابعا: على تقدير كون الاقباض والاعطاء تصرفا في مال الغير
وحراما ولكنه حرام تكليفي يعاقب المتصرف فيه لأجله، فلا يدل ذلك
على الحرمة الوضعية الذي هو محط كلامنا.
وخامسا: على تقدير التسليم أن الحرمة التكليفية تدل على الفساد
فلا نسلم أيضا بطلان ذلك العقد، لما مر أن فساد العقد من الفضولي
وعدم انتسابه إليه بحيث يكون العقد عقده لا يستلزم فساده عن المالك
وعمن له العقد بل ينتسب إلى المالك إذا أجازه.
وبالجملة أن هذا الاشكال لوهنه لا يصلح لمنع جريان الفضولي في
المعاطاة.
الوجه الثاني
قوله (رحمه الله): وربما يستدل على ذلك (1).
أقول: الوجه الثاني الذي استدل به على عدم جريان الفضولية في
المعاطاة أن المعاطاة منوطة بالتراضي وقصد الإباحة أو التمليك وهما
من وظائف المالك وشئونه، ولا يتصور صدورهما من غيره، ولذا ذكر
الشهيد الثاني (2) أن المكره والفضولي قاصدان اللفظ دون المعنى وأن قصد
المدلول لا يتحقق من غير المالك.

1 - استدل على ذلك المحقق التستري في المقابيس: 138.
2 - المسالك 3: 156.
762

وفيه أن هذا الاشكال لو تم إنما يعم جميع أقسام الفضولي
ولا يختص بالمعاطاة، وبعبارة أخرى أنه اشكال لأصل الفضولي.
أما الحل إن الرضاية من المالك تحصل بإجازته المتأخرة فلا يكون
البيع خاليا عن التراضي، وهكذا قصد التمليك والإباحة.
وبعبارة أخرى أن الفضولي ليس له إلا ايجاد المعاملة وانشائها وبقية
الجهات التي لا بد من صدورها ممن نسب العقد إليه إنما تصدر من
المالك فلا ربط لها بالفضولي، وأما كلام الشهيد فقد عرفت فيما تقدم
عدم صحته وتماميته.
الوجه الثالث
قوله (رحمة الله): إلا أن يقال إن مقتضى الدليل.
أقول: الوجه الثالث إن العقد الفضولي إنما ثبت جوازه على خلاف
القاعدة فيختص بالعقد القولي.
وقد أجاب عنه المصنف بأنه طبق القواعد للعمومات الدالة على
صحته.
وهذا الجواب منه وإن كان متينا إلا أن ظاهرا أنه لو لم يكن الفضولي
على طبق القواعد لما كان جاريا في المعاطاة، ولكن الأمر ليس كذلك بل
مع هذا يجري في العقد الفعلي كجريانه في العقد القولي، بمقتضى
اطلاق صحيحة محمد بن قيس وقضية عروة البارقي وغير ذلك، بناء
على تماميتها فإنها غير مختصة بالعقد القولي بل اطلاقها محكم بالنسبة
إلى المعاطاة أيضا.
763

الوجه الرابع
الوجه الرابع ما ذكره شيخنا الأستاذ (1) واختاره، وحاصله:
أن فعل الفضولي ليس قابلا للإيجاب في باب المعاطاة، سواء قلنا
بإفادتها الإباحة أو بإفادتها الملك الجائز أو اللازم، أما على القول بكونها
مفيدة للإباحة فمن جهة أن مجرد قصد إباحة التصرف بالاعطاء وإن كان
بلا مؤونة للفضولي إلا أن الإباحة التي تكون مؤثرة في باب المعاطاة هي
الإباحة الحاصلة من تسليط غيره فيكون تسليط غيره لغوا محضا، وأما
إجازة المالك فهو وإن كان تفيد الإباحة إلا أنه بنفسها تكون مؤثرة في
الإباحة من غير ربط بفعل الفضولي، وأما بناء على الملك فلأن الفعل
الواقع من الفضولي لا يتصرف إلا بعنوان الاعطاء والتبديل، وأما إفادة
الملكية التي عبارة عن تبديل طرفي الإضافة فلا بل هي متوقفة أما على
ايجاد المادة بالهيئة وأما على فعل المالك فحينئذ يكون ذلك مصداقا
للبيع.
وفيه أن انحصار إفادة الملكية في البيع إما بايجاد المادة أو بفعل
المكلف وإن كان له وجه على المذاهب المعروفة في الانشاء، ولو كان
مع ذلك قابلا للمناقشة، إلا أنه لا وجه له بناء على ما ذكرناه من أن الانشاء
ليس إلا اعتبار النفساني واظهاره بمبرز في الخارج، لأن الفضولي أيضا
يعتبر ذلك المعنى لمكان كونه سهل المؤونة وخفيف الاعتبار ويبرزه
في الخارج بمبرز، سواء كان ذلك المبرز فعلا أو قولا، فإنه على كل حال
يكون مصداقا للبيع، وقد تقدم ذلك منه في المعاطاة مع جوابه.
نعم بناء على إفادتها الإباحة يتوجه الاشكال من جهة أن إفادة

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 51.
764

المعاملات المقصود بها المالك للإباحة على خلاف القاعدة، ومن هنا
ذكر الشيخ الكبير مبعدات عديدة على القول بالإباحة، وإن أجاب عنها
الشيخ الأنصاري بأنها ليست بمبعدات إذا اقتضاه الجمع بين الأدلة، وقد
عرفت ذلك مفصلا، وإذن فلا بد من الاقتصار على صورة تعاطي المالكين
في المعاطاة، على أنه لا يعقل حصول الإباحة قبل الإجازة بفعل
الفضوليين.
التحقيق في المقام
والذي ينبغي أن يقال: إن الكشف الحقيقي وإن كان يمكن جريانه في
المعاطاة الفضولية بناء على إفادته الإباحة لامكان الالتزام بالإباحة قبل
الإجازة وكون الإجازة كاشفة عنها إلا أن الكشف الحقيقي في الفضولي
مع امكانه في مقام الثبوت لا دليل عليه في مقام الاثبات ويكون الأمر
دائرا بين النقل والكشف الحكمي.
أما الثاني فهو مستحيل لأن التصرف في مال الغير قبل الإجازة بعقد
فضولي حرام فإنه لا يجوز التصرف في مال الغير إلا بإذنه وبعد الإجازة
تحصل الإباحة من حينها، ولا يمكن الحكم بإباحة التصرفات التي قبل
الإجازة بالإباحة الحكمية فإن الشئ لا ينقلب عما هو عليه وعن وقوعه،
فالتصرف الذي كان محرما لا يعقل أن يحكم عليه بالإباحة، وهذا واضح
جدا.
وأما على النقل فجريان الفضولي في المعاطاة بناء على إفادتها
الإباحة أيضا بمكان من الامكان، فإن حصول الإباحة بعد الإجازة لا نرى
فيه محظورا أصلا، وإذن يتوقف حصول الملكية على التصرفات
المتوقفة على الملك فتحصل بها الملكية آنا ما قبل التصرف.
765

هذا كله فيما إذا قصدت الملكية وحصلت الإباحة الشرعية بحكم
الشارع كما تقدم تفصيل ذلك في باب المعاطاة، وأما لو قصد الفضوليان
الإباحة من الأول فلا شبهة في عدم جريان ذلك في المعاطاة فإنه لا معنى
لحصول الإباحة قبل الإجازة لتكون الإجازة كاشفة عنها بل هي تحصل
بنفس الإجازة، ولا يعقل أن ما وقع قبل الإجازة من التصرفات المحرمة
أن تكون مباحة بالإجازة كما تقدم.
766

الكلام في الإجازة وما يتعلق بها
حكم الإجازة
قوله (رحمه الله): أما الكلام في الإجازة.
أقول: أساس القول بالكشف في العقد الفضولي هو فرض الإجازة
المتأخرة متصلة بالعقد والغاء الفصل الواقع بين العقد والإجازة، كما أن
أساس القول بالنقل هو فرض العقد متصلا بالإجازة بقاء وإن حصل
بينهما الفصل حدوثا فكأنه وقع في زمان الإجازة.
إذا عرفت ذلك فالمشهور بين الفقهاء (رحمهم الله) أن الإجازة كاشفة عن تمامية
السبب، وهو العقد وإنما الكلام في طريق الكشف الحقيقي وكيفيته،
وهو على أنحاء:
الوجه الأول من طرق الكشف الحقيقي
أن يقال بالكشف الحقيقي، بمعنى أن الملكية إنما حصلت حين العقد
وآثر العقد فيها، من دون أن يكون تأثير العقد مراعي إلى زمان الإجازة.
وهذا يتصور على وجوه:
1 - أن يقال: إن المؤثر التام في المعاملة الفضولية ليس إلا العقد، كما
هو مقتضى قوله تعالى: أوفوا بالعقود (1)، وإنما الإجازة معرفة لكون ذلك
العقد تمام التأثير وكاشفة عنه، من غير أن تكون لها مدخلية في حصول
مقتضى العقد من الملكية والزوجية ونحوهما، وإلا يلزم أن لا يكون

1 - المائدة: 1.
767

الوفاء بالعقد خاصة بل به مع شئ آخر.
وهذا الوجه هو الذي أشار إليه المحقق والشهيد الثانيان (1) - على ما
حكي المصنف (رحمه الله) في المتن - وهذا المعنى بحسب مقام الثبوت
والامكان وإن كان متصورا وممكنا، لامكان تأثير العقد من جميع
الجهات في مقتضاه من غير توقف على شئ، ولو كان ذلك الشئ رضا
المالك، كبيع مال المحتكر في المخمصة، فإنه أيضا لا يكون راضيا مع
أنه صحيح، إلا أنه لا دليل عليه بحسب مقام الاثبات، كيف وقد اعتبر
الشارع المقدس دخالة الرضا في تأثير العقد، وسمي ذلك بالتجارة عن
تراض، ومن الواضح جدا أن العقد الفضولي قبل الامضاء والإجازة ليس
معاملة وتجارة عن تراض.
وبالجملة مضافا إلى عدم الدليل في مقام الاثبات بصحة مثل هذا
العقد فالدليل على عدم صحته موجود وهو آية التجارة، وبيع مال
المحتكر وإن كان صحيحا من دون رضاه وطيب نفسه ولكنه لدليل
خاص، ووجوب الوفاء بالعقد إنما فيما يكون صادرا عمن له العقد أو
بإذنه وإلا يلزم الوفاء بكل ما يكون في صورة العقد.
2 - وهو مقابل القول الأول، وهو أن تكون الإجازة من جملة شرائط
العقد كالايجاب والقبول، بحيث يكون مؤثرا في حصول مقتضاه، وهذا
المعنى، أي تأثير الأمر المتأخر في الأمر المتقدم، يتصور على نحوين،
فإن ما يكون دخيلا في الأمر المتقدم وشرطا في تحققه تارة يكون من
أجزائه وأخرى من شرائطه.
أما الأول، فكالمركبات الاعتبارية كالصلاة مثلا، بأن يكون الجزء
المتأخر دخيلا في صحة الجزء المتقدم، بحيث إن المتقدم تحقق

1 - جامع المقاصد 4: 74، الروضة البهية 3: 229، عنهما السيد المجاهد في المناهل: 290.
768

صحيحا وتام العيار، وكان المؤثر في ذلك هو الجزء المتأخر، مع أنه
لم يتحقق، فإن كل جزء من الأجزاء اللاحقة في الصلاة دخيلة في
صحتها.
وأما الثاني فككون الأمر المتأخر من شرائط الأمر المتقدم لا من أجزائه
ومقوماته، وهذا كدخالة أغسال المستحاضة في صحة صومها، فإن
صحة صوم الجزء المتقدم من طلوع الفجر مشروط بغسلها بعد الفجر،
بناء على كونه بعد الفجر - كما هو الحق - وصحة الصوم قبل الظهر
مشروط بغسلها بعد الظهر، وصحة صوم اليوم مشروط بغسلها بعد
المغرب عند بعض وإن كان نادرا بخلاف الأولين، فإن في جميع ذلك قد
أثر الأمر المتأخر في صحة المشروط المتقدم.
إلا أن الكشف بهذا المعنى غير معقول في كلا القسمين، فإنه كيف
يعقل تحقق المشروط على ما هو عليه من دون تطرق نقص عليه مع عدم
تحقق شرطه إلا بعد مدة، وليس هذا إلا التناقض الواضح، فإن معنى
تحقق المشروط على ما هو عليه من التمامية والصحة عدم دخالة شئ
فيه من الأمور المتقدمة والمتأخرة، ومعنى دخالته عدم تمامية
المشروط وتحققه على وجهه بتمامه وكماله، وهل هذا إلا التناقض
الواضح.
ومن هنا قال بعض الأكابر: إن الالتزام بدخالة الأمر المتأخر في الأمر
المتقدم ليس إلا الالتزام بعدم استحالة التناقض في الشرعيات، وأما
الأمثلة المذكورة فشئ منها لا يكون دليلا على صحة ما توهم، وسيأتي
الوجه في صحتها وعدم ارتباطها لهذا الوجه.
3 - أن يكون المؤثر في الأمر المتقدم هو وصف التعقب من غير أن
يكون المشروط متقدما والشرط متأخرا ويكون الأمر المتأخر كاشفا عن
769

تحقق الأمر المتقدم صحيحا وتماما، ولا يكون له تأثير في الأمر
المتقدم بل يكون معرفا محضا، نظير الأمثلة المتقدمة من الصلاة وأغسال
المستحاضة في صحة الصوم، فإن الدخيل في صحة الصلاة وصف
تعقب كل جزء السابق بالجزء اللاحق وفي صحة الصوم تعقب كل جزء
متقدم من اليوم غسل المستحاضة، ويكون ما نحن فيه أيضا كذلك،
فتكون تعقب العقد بالإجازة دخيلا في صحة العقد.
وهذا المعنى وإن كان له وجه وجيه في دخالة الأجزاء اللاحقة في
الأجزاء السابقة في الصلاة، كما حقق ذلك في محله، ولكنه لا دليل على
جريانه في المقام، فإنه لا دليل على دخالة الرضا المتأخر في صحة العقد
المتقدم بعنوان التعقب، فإن مقتضى عدم جواز التصرف في مال الغير ما
لم يكن مقرونا برضا المالك محكم، فالعقد الواقع فضولا ليس مقرونا
بالرضا حين وقوعه، فلا يمكن القول بحصول الملكية قبل الامضاء
والإجازة وإلا لجاز التصرف فيه، وإذن فيكون ذلك تصرفا في مال الغير
بدون الرضا فيكون حراما.
على أن مقتضى قوله تعالى: إلا أن تكون تجارة عن تراض (1)، عدم
حصول الملكية والتجارة إلا بالتراضي والرضا، فلا شبهة أن العقد
الفضولي حين وقوعه وتحققه ليس واقعا عن تراض ورضاية حتى
يحصل الملكية بذلك.
وبالجملة أن هذه الوجوه بين ما تكون مستحيلة ثبوتا واثباتا، وبين ما
يكون ممكنا ثبوتا وغير محقق اثباتا.
4 - ثم إن هنا وجها رابعا نقله شيخنا الأستاذ عن المحقق الرشتي من:
أن الإجازة كاشفة عن الرضا التقديري، بمعنى أنها تكشف عن رضا

1 - النساء: 29.
770

المالك إن التفت إلى العقد والرضا المعتبر في العقد هو الأعم من الحقيقي
الفعلي والتقديري (1).
وفيه أن هذا من عجائب الكلام، فإنه مضافا إلى ما تقدم من أن الرضا
المقارن للعقد لا يكون مخرجا للعقد الفضولي عن الفضولية فكيف
بالرضا التقديري.
ومن هنا قلنا إنه لو التفت الفضولي برضاية المالك على البيع أو الشراء
فلا يكون ذلك موجبا لعدم كون العقد فضوليا، فإنه ربما لا يكون المالك
راضيا بالعقد حين تحققه بل لو كان ملتفتا إليه لكان قاهرا على الفضولي
لكونه ذا مفسدة عنده في ذلك الوقت بخلافه حين الإجازة، فيكون العقد
عنده ذا مصلحة فيرضى به، إذن فكيف يمكن أن تكون الإجازة كاشفة عن
الرضا التقديري، على أنه لا دليل على كون الإجازة كاشفة عن الرضا
التقديري بوجه، بل هو تخيل محض ورجم بالغيب كما هو واضح على
المتأمل.
فتحصل أن الكشف الحقيقي بحيث يكون الملكية مثلا موجودة قبل
الإجازة وتكون الإجازة مؤثرة فيه، إما بنحو الشرطية أو بنحو التعقب أو
لا تكون مؤثرة فيها بل معرفة محضة لا وجه له بوجه.
الوجه الثاني من طرق الكشف الحقيقي
هو أيضا ما أشار إليه المحقق والشهيد الثانيان - على ما حكي عنهما -
من أن الإجازة متعلقة بالعقل فهو رضي بمضمونه وليس إلا نقل العوضين
من حينه.
ومحصل ذلك أن الرضا من الأوصاف التعلقية والصفات النفسانية

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 75.
771

ذات الإضافة، ولها تحقق وتكون في صقع النفس، ولها بحسب نفسها
في ذلك العالم ماهية ووجود وتوجد بخالقية النفس، ومع ذلك لا بد
وأن تضاف إلى شئ ويتعلق به حتى يكون ذلك الشئ متعلقة نظير
العلم ونحوه من سائر الصفات النفسية ذات إضافة وإلا فيلزم تحققها
بدون متعلقها وهو خلف ومناقضة.
إذن فأصل الملكية التي متعلق الرضا قد تحققت ووجدت بواسطة
العقد والرضا إنما تعلق حين الإجازة والامضاء من المالك بتلك الملكية
الموجودة في زمان العقد وإلا فيلزم أن لا يكون للإجازة والرضا متعلق،
مع أنا فرضنا كونه من الأوصاف التعلقية.
وقد أورد عليه العلامة الأنصاري وتبعه جملة من الأعلام ومنهم
شيخنا الأستاذ (1) بوجهين:
1 - إن المنشأ عبارة عن مضمون العقد من الملكية في باب البيع
والزوجية في باب النكاح وهكذا، وهو غير مقيد بزمان لتكون الملكية
الحاصلة بالعقد مقيدة بزمان العقد وحاصلة من حينه، بل مضمونه عبارة
عن طبيعي النقل فبالإجازة تقع الملكية في زمان النقل، نعم حيث إن
المنشأ والانشاء من الأمور الزمانية فيكون التقيد بذلك بالعرض والقهر،
وما نحن فيه ليس كالايجاب في العقود فإنه ليس إلا ايجاب أصل الايجاد
دون الايجاد المقيد بزمانه وإلا يلزم حصول الملكية مثلا قبل القبول مع
أنه باطل لعدم كونه من الايقاعات بل هي كسائر مضامين العقد تحصل
بعد القبول، وهذا يكشف عن عدم تقيد مضمون العقد بزمان الايجاب،
وبالجملة أن مضمون العقد ليس مقيدا بزمان وإنما الزمان ظرف له لكون
ذلك المضمون من الزمانيات فيكون الملكية بعد الإجازة.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 77.
772

وفيه أنه لو كان الانشاء بمعنى ايجاد المعنى باللفظ لكان لذلك
الاشكال وجه، بدعوى أن المنشئ إنما ينشئ مضمون العقد ويوجده
على نحو اللا بشرطية من غير تقيده بقيد من الزمان وغيره، وأما بناء على
ما حققناه واخترناه في معنى الانشاء من أنه عبارة عن الاعتبار النفسانية
واظهاره بمبرز من المبرزات فعليا أو قوليا.
فلا وجه لذلك الاشكال بوجه، وذلك لما حققناه في الأصول من أن
الاهمال في الواقعيات من المستحيلات الأولية وأن الأمور الواقعية
لا يعقل أن تكون عارية عن الاطلاق أو التقييد، بل لا بد أما وأن تكون في
موطنها إما مطلقا أو مقيدة، فالذي يوجد أمرا ويعلم بما يوجد لا يعقل
أن لا يعلم بكونه مطلقا أو مقيدا.
إذن فالمعتبر لمضمون العقد في عالم نفسه إما أن يعتبره مطلقة وغير
مقيدة بقيد وشرط أو مقيدة بهما، فحيث لم يكن مقيدا فقهرا يكون مطلقا
من غير أن يكون مقيدا بحصوله بعد الإجازة بل من حين العقد، فبالعقد
تحصل الملكية المطلقة الدائمية كما هو واضح، فتكون الإجازة متعلقة
بتلك الملكية المستمرة، فيكون اعتبار الملكية من الأول.
وأما النقض بالقبول فهو باطل من أصله وغير مربوط بالمقام، فإن
مضمون العقد ما لم يتحقق القبول لا يحصل بالانشاء والايجاب المحض
وإنما هو بالقبول وإلا فلا يتحقق عنوان العقد الذي قوامه بالايجاب
والقبول.
ومن هنا قلنا إن الايجاب إنما يتحقق على تقدير القبول والتعليق مما
لا بد منه وإن لم يصرح به، وقلنا في أحكام الصيغة إن مثل هذا التعليق
لا يضر بصحة العقد لكونه راجعا إلى ما يتوقف صحة العقد عليه، وهذا
بخلاف ما نحن فيه، فإن العقد قد تم بالايجاب والقبول الفضوليين وإنما
773

يتوقف نفوذه ومضيه على إجازة المالك، فلا يقاس ذلك بالايجاب
المحض.
والذي يوضح ذلك أنه لو آجر الفضولي دار أحد للغير إلى سنة
فإجازة المالك بعد شهرين فلا شبهة في صحة ذلك مع أن متعلق الإجارة
مقيد، وهكذا العقد المنقطع، فيعلم من ذلك أن المنشأ في العقد
الفضولي ليس مهملا، فيكون المقام على عكس باب الوصية، فإنه
تحصل الملكية بعد الموت مع أن الانشاء متقدم عليه، فلو كان المنشأ
مطلقا لكان لازمه الالتزام بحصولها قبل الموت، وعلى هذا فلا محذور
في المقام للالتزام بحصول الملكية قبل الإجازة، فإن باب الوصية مع ما
نحن فيه من هذه الجهة مشتركة.
2 - إنه سلمنا كون مضمون العقد هو النقل من حينه ولكن لا بمعنى أن
وقوعه في الحين جزء لمدلوله حتى يقال ليس معنى بعت أوجدت البيع
في الحال، بل بمعنى أن وقوع الانشاء في الحال يقتضي تحقق منشأه
حالا وتحقق مضمون العقد بالفعل.
ولكنه مع ذلك لا يقتضي تحقق السبب التام حال العقد وحصول
مضمونه حينه، وذلك لأنه لم يدل دليل على امضاء الشارع العقد على
هذا الوجه بحيث تكون الملكية حاصلة قبل الإجازة، لأن وجوب الوفاء
بالعقد تكليف متوجه إلى العاقدين كوجوب الوفاء بالعهد والنذر، ومن
المعلوم أن المالك لا يصير عاقد أو بمنزلته إلا بعد الإجازة، فلا يجب
الوفاء إلا بعدها، ومن المعلوم أن الملك الشرعي يتبع الحكم الشرعي،
فما دام لا يجب الوفاء فلا ملك، كما أنه ما لم يتحقق القبول لا يتحقق
مضمون العقد بالايجاب المجرد.
وبعبارة أخرى لو سلمنا حصول الملكية من زمان العقد وتحقق النقل
774

به إلا أن الملكية الشرعية لا تحصل إلا بالإجازة فيكون النقل المالكي
الشرعي من زمان الإجازة، إذن فلا معنى للكشف لحصول الملكية بتمام
المعنى من حين الإجازة.
وفيه أن الإجازة تكشف عن تحقق الاعتبار حين العقد وأن الشارع
يمضي بالإجازة أيضا من الأول، كما هو مقتضي الاطلاقات والعمومات
من: أوفوا بالعقود (1)، وأحل الله البيع (2) وغيرهما من غير أن يكون
بعنوان الكشف الحقيقي أو الحكمي، فإن النقل إنما حصل بالعقد مطلقا
كما عرفت في الجواب الأول لا مهملا كما قد يكون حاصلا مقيدا أيضا
كما في الإجازة والنكاح المنقطع، وليس ذلك كشفا حقيقيا كما تقدم،
فإنه لا يعقل تحقق النقل قبل تحقق سببه ولا كشفا حكميا كما التزم به
المصنف من الحكم بحصول النقل حكما وتنزيلا، فإنه وإن كان
صحيحا إلا أنه فيما لم يكن طريق صحيح للحكم بحصول الملكية
والنقل الصحيح قبل الإجازة، غاية الأمر يكون حصولها بالإجازة، وأما
مع وجوده كما سنذكره فلا ملزم للأخذ بما ذهب إليه المصنف.
بحث في الأمور الاعتبارية
وتوضيح ذلك أنه ذكرنا في الأصول أن الأمور الاعتبارية لا وعاء لها إلا
ظرف اعتبارها، سواء كان المعتبر من الأمور الخارجية أو لم يكن كذلك،
مثلا لو اعتبر أحد ملكية داره لشخص فيكون وجوده في عالم الاعتبار
فقط، وهكذا لو اعتبر زيدا موجودا فيكون ذلك موجودا في عالم الاعتبار
وقائما به، ولو كان ذلك المعتبر من الأمور الخارجية فإن الوجود

1 - المائدة: 1.
2 - البقرة: 275.
775

الاعتباري سنخ وجود غير مربوط بالوجودات الخارجية، لأن الموجود
الخارجي ليس واردا بعالم الاعتبار، فإن الوجود الذهني غير الوجود
الخارجي كما حقق في محله.
وبالجملة فوعاء الوجودات الاعتبارية ليس إلا عالم الاعتبار، فتوجد
بمجرد الاعتبار لكونها خفيف المؤونة من غير احتياج إلى مبادئ
الوجود الخارجية، إذا عرفت ذلك فنقول:
إن الاعتبار تارة يتعلق بالأمر الحالي، فيعتبر المعتبر ملكية داره مثلا
لشخص في الحال الحاضر، كما إذا باع داره من زيد بالفعل من غير ترقب
وتأخر، لأن الاعتبار والمعتبر كلاهما فعلي، وأخرى يتعلق بأمر
استقبالي كاعتبار الملكية لشخص بعد مدة، كما في باب الوصية حيث
يعتبر الموصي ملكية الموصى به للموصي له بعد موته ووفاته، فالاعتبار
حالي والمعتبر استقبالي، وثالثة يتعلق بالأمر الماضي، بأن يعتبر ملكية
ماله لزيد من الأمس، فلو لم تكن الارتكازات العرفية على خلافه لحكمنا
بجواز ذلك البيع أيضا وكان المال ملك المشتري من الأمس، فإنه ليس
في ذلك محذور عقلي أو شرعي بوجه.
فإذا جاز تعلق الاعتبار بكل من الأمور الثلاثة: الحالية والاستقبالية
والماضية، فلا محذور للالتزام بتعلق اعتبار الملكية في باب الفضولي
بأمر متقدم، فيكون الإجازة اعتبارا للملكية من زمان العقد التي قد اعتبرها
الفضوليان.
فهذا من حيث الإجازة من قبل تعلق الاعتبار بالأمر المتقدم، ومن جهة
تحقق العقد من الفضوليين، فأصل اعتبار الملكية فعلي ولكن المعتبر
تحقق بعد الإجازة، ولا يضر التعليق على صحته.
وبعبارة أخرى فحيث جاز تعلق الاعتبار بأمر متقدم في عالم الاعتبار
كبيع الدار من أمس مثلا، فجاز اعتبار الملكية لأحد قبل سنين، ولكن
776

حيث قام الارتكاز على خلافه في البيع والشراء فلا نقول بذلك فيهما،
وأما في الإجازة فلا محذور فيه بوجه، وفي باب الفضولي حصل
الاعتبار من البايع والمشتري وتحقق البيع بالحمل الشايع في الخارج،
ولكن كان نفوذه متوقفا على إجازة المالك، فالمبيع أو الثمن ملك
لمالكهما وبالإجازة كشفنا حصول الملكية لكل من البايع والمشتري من
حين الاعتبار والعقد بحيث كان كل منهما مالكا لصاحبهما إلى هذا
الزمان.
وفي هذا الزمان صار ملكا للآخر بالإجازة من أول الأمر حقيقة، فإن
بالإجازة انضم العقد السابق الذي توجد بالفضوليين بالمالك، فصار البيع
بيعه والشراء شراؤه، إذن فيشمل على ذلك البيع العمومات الدالة على
صحة البيع من: أوفوا بالعقود (1)، و: أحل الله البيع (2)، وتجارة عن
تراض (3).
وبالجملة بعد القول بتحقق الاعتبار قبل الإجازة فمقتضى العمومات
نحكم بالصحة وكونه بيعا صحيحا للمالك لانضمامه إليه بالإجازة، لا أن
الإجازة كشف عن أن الملكية كانت حاصلة من الأول، بل الإجازة أوجبت
حصول الملكية فعلا، إذن فيترتب عليه آثار الملكية من الأول.
وعلى هذا فلا تكون مضطرا للميل إلى ما ذهب إليه المصنف من
الالتزام بالكشف الحكمي، حيث إنه فيما لم يكن لنا طريق على طبق ما
تقتضيه القواعد، وليس هذا مثل الواجب التعليقي، فإن في الواجب
التعليقي انشاء الوجوب فعلي والواجب متأخر بخلافه هنا، فإن

1 - المائدة: 1.
2 - البقرة: 275.
3 - النساء: 29.
777

الموجود في المقام ليس إلا الاعتبار وأما الملكية فتحصل بعد الإجازة
فيكون نظير التعليق، غاية الأمر أنه باطل في العقود لا من جهة الإجازة.
وقد أشكل على ذلك شيخنا الأستاذ (1) بأنه لا يعقل توجه الحكمين
المتضادين إلى متعلق واحد وإن كان زمان الحكم متعددا، فإنه لا يعقل
أن يكون المال الواحد في زمان واحد ملكا لشخصين وإن كان زمان
الحكم بملكية أحدهما مغائر لزمان الحكم بملكية الآخر، وليس ذلك
إلا مناقضة واضحة، وقد ذكر ذلك أيضا في الخروج عن الأرض
المغصوبة من أنه لا يعقل الحكم بوجوب الخروج مع كونه حراما قبل
الدخول لكونه متناقضة ولو كان زمان الحكم متعددا، نعم يجري ذلك
في حق غير العالم بالغيب ممن يجري في حقه البداء، وأما في حقه
تعالى فلا يعقل ذلك بوجه.
وفيه أن هذا متين في الأحكام التكليفية لكونه لغوا محضا دون
الأحكام الوضعية، فإن قوامها باعتبار المعتبر فهو خفيف المؤونة،
فلا مانع من اعتبار ملكية المبيع مثلا لمالكه الأصلي إلى زمان الإجازة،
وباعتبار ملكيته للمشتري من زمان العقد أيضا بالإجازة والرضا، فإنه
أيضا اعتبار الملكية من المالك للبايع أو المشتري، ولا مانع من ذلك
بوجه وإن كان نفس ذلك موضوعا للأحكام التكليفية أيضا فإنه لا بأس به،
وإنما المحذور في نفس الأحكام التكليفية من اللغوية، والمناقضة
لكونها ناشئة عن المصالح والمفاسد في متعلقها على المعروف، أو عن
المصالح في الأغراض، فلا يمكن أن يكون هنا في شئ واحد مصلحة
ومفسدة يستدعيان الحكم المتناقضين أو غرضين كذلك، كما هو واضح
لا يخفى.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 81.
778

بيان آخر في تقسيم الأمورات الوجودية
وبعبارة أخرى أن الأمورات الوجودية على أقسام ثلاثة:
1 - ما يكون من قبيل الجواهر التي لا تحتاج في وجودها إلى موضوع.
2 - ما يكون من قبيل الأعراض التي إذا وجدت تحتاج في ذلك إلى
الموضوع.
فهذين القسمين وجودات تأصلية، فجميع أحكام الوجود التأصلي
وآثارها يترتب عليها فلا يمكن مع تحققها وتأصلها في الخارج طرو
العدم عليها بالاعتبار وإلا يلزم اجتماع النقيضين.
3 - الوجودات الاعتبارية، فقوامها وتحققها في وعائها إنما يكون
بالاعتبار، فلا يترتب عليه شئ من آثار الوجودات الخارجية وكمال
وجودها بالاعتبار، وهكذا عدمها، وكما يمكن فرضها واعتبارها في
وقت خاص على نحو خاص وهكذا يمكن اعتبارها في زمان آخر في
ذلك الوقت الخاص الذي اعتبر فيه على نحو خاص على نحو آخر، من
غير أن يلزم فيه شئ من اجتماع النقيضين أو الضدين.
وهذا بخلاف الوجودات المتأصلة، فإنه بعد تحققها وتكونها في
الخارج على طبق ما عليه ماهيتها وبخواصها لا يمكن الحكم عليها
بالعدم أو باعتبارها على نحو آخر وإلا يلزم اجتماع النقيضين أو الضدين
أو المثلين.
والسر في ذلك أن الأمورات التأصلية لا تختلف بالاعتبار، وهذا
بخلاف الاعتباريات، فإن قوامها وجودا وعدما ليس إلا بالاعتبار، غاية
الأمر أن يكون الاعتبار فيه مصلحة لئلا يلزم اللغوية.
779

تعميم الكلام لهذا البحث
إذا عرفت ذلك فنقول:
إن الملكية ليست من الوجودات المتأصلة جوهرا كان أو عرضا، بل
هي من الأمور الاعتبارية، إذن فيختلف ذلك بالاعتبار فلا يلزم شئ من
المحذورات غير اللغوية إذا لم يكن الاعتبار عن مصلحة.
وعلى هذا ففي باب الفضولي أن الفضوليين إذا عاملا معاملة فاعتبرا
مالكية كل من العوضين الذين لغيرهما لمالكه الآخر وعقدا على ذلك،
فيكون اعتبار ملكيته في العرف والشرع بالفعل مع مالكهما الأصلية،
لعدم كون ذلك العقد حين تحققه برضاية مالك العين مع كونها من شرائط
البيع ليكون تجارة عن تراض، ويكون تأثير ذلك العقد معلقا على إجازة
المالك، ولا يضرها مثل هذا التعليق لعدم شمول الاجماع القائم على
بطلان التعليق في باب العقود على مثل ذلك، فإنه من شرائط صحة العقد،
فإن لم يجز المالك ذلك العقد فيبقي الاعتبار الأول على حاله، فيلغو
العقد الذي أوقعه الفضوليان.
وإن أجاز المالك ذلك فيكون حين الإجازة والامضاء معتبرا لملكية
ماله لشخص آخر من الأول وحين العقد على النحو الذي اعتبره
الفضوليان، بحيث لم يكن ذلك الغير إلى الآن مالكا للعين، بل كانت ملكا
لمالكها، وبالفعل صار ذلك ملكا للمشتري إن كان أصيلا أو من له
الشري إن كان فضوليا مالكا من الأول، فلا مانع في ذلك أن كان فيه
مصلحة، فكانت المصلحة تقتضي إلى الآن صحة اعتبار الملكية للمالك
الأصلي ومن الآن للمشتري مثلا من الأول.
فإن الاعتبار بعد ما كان خفيفة المؤونة ولم يكن لغوا صح تعلقه على
780

متعلق واحد على نحوين متنافين في زمانين، وبعد ذلك الامضاء يتوجه
أدلة صحة البيع من الأول، فإن موضوع تلك الأدلة كانت متحققة إلا من
جهة انتفاء الإجازة وعدم تحققها، وبعد التحقق يتم الموضوع فتكون
أدلة الصحة محكمة.
ومن هنا يندفع ما ذكره شيخنا الأستاذ من عدم امكان اجتماع حكمين
متنافيين في متعلق واحد وا إن كان الزمان متعددا بل المناط في صحة
الاجتماع هو تعدد المتعلق، وذكر ذلك أيضا في الخروج عن الأرض
المغصوبة.
ووجه الاندفاع أنه في باب التكاليف كما ذكر، لكونها ناشئة من
المصالح والمفاسد عن المتعلق أو الغرض بخلافه هنا، فإن قوام
الأحكام الوضعية ليس إلا باعتبار المعتبر فلا محذور في توجه اعتبارين
على متعلق واحد كما لا يخفى، وبهذا تم الكشف الذي نقول به في باب
الفضولي، وهذا المعنى أوضح في باب الإجازة والنكاح المنقطع، فإنه
إذا أجاز المالك أو الزوج ذلك العقد بعد شهر فيكون الإجازة الواقعة
على الدار مثلا سنة أو النكاح إلى سنة صحيحا من الأول، فإنه بناء على
صحة الفضولي لم يستشكل أحد في صحة ذلك مع أنه لم يتحقق هنا
بالإجازة عقد إجارة أو عقد نكاح.
المناقشة في هذا الكلام وجوابها
وربما يشكل على ما ذكرنا بأنه إنما يتم ذلك في القضايا الخارجية،
سواء كانت صادرة من الموالي العرفية أو من المولى الحقيقي، وأما في
القضايا الحقيقية التي على نسقها الأحكام الشرعية فإن جميع
المجعولات الشرعية أو جلها على نحو القضايا الحقيقية فلا يتم هذا
781

البيان، وذلك فإن كلامنا في حصول الملكية واعتبارها ليس إلا في
الملكية الشرعية فإنه هو الذي كان محل النزاع في المقام من أنه حاصلة
أم لا، وإلا فالملكية في اعتبار المتعاقدين الفضوليين قد حصلت قطعا.
وإذن فإن كان المراد من اعتبار الملكية الشرعية اعتباره من حين العقد
فقد حصل من الأول قطعا، وذلك لأنه بعد فرض كون الاعتبارات
الشرعية من قبيل القضايا الحقيقية فهي حاصلة قبل وجود المتعاقدين بل
قبل خلق هذه الأمة أو الخلق، فإن علمه عند الله فلا يتوقف ذلك إلا على
تحقق الموضوع كما في سائر القضايا الحقيقية الشرعية وغيرها.
مثلا وجوب الحج مجعول من الأول لكل من يكون مستطيعا،
فالمكلف إنما يكون موضوعا لذلك الحكم بالاستطاعة لا أنه يجعل
الحكم له بالفعل، وكذلك جعل الحكم بنجاسة البول بالقضية الحقيقية
فإذا وجد البول فيحكم بنجاسته ولا يترتب ذلك الحكم على غيره
كالعرف وإن كان فيه أجزاء البول أيضا، وهكذا في المقام.
فإذا فرضنا كون موضوع الملكية الشرعية هو العقد فقط من أي
شخص تحقق مع رضاية المالك وإن كان ذلك متأخرا فيكون مثل
الواجب المشروط، فتكون الملكية حاصلة حين العقد متوقفا على
الإجازة المتأخرة، وإن كان المراد من حصولها أي الملكية بعد الإجازة،
فإن بالإجازة يتم موضوع الملكية فتكون حاصلة من حين الإجازة دون
قبلها، فعلي الأول يكون كشفا، وعلى الثاني يكون نقلا، فلا واسطة في
البين ليكون وجها آخر.
وفيه أولا: أنه لا دليل لنا لاثبات الملكية الشرعية حتى يشكل بمثل ما
مر، بل ما للشارع هو الحكم على الموضوع الخارج من التقديرية إلى
الفعلية، فعند المعاملة وتحققها في نظر العرف فيحكم الشارع على طبق
782

العرف، ولا شبهة أن العرف يري البيع الفضولي معاملة صحيحة
فبالامضاء والرضا من المجيز المالك يتحقق الملكية من أول الأمر، نعم
في بعض الموارد يحكم الشارع على الملكية وإن لم يفهم العرف ذلك،
كما في باب الإرث، فإن الوارث يرث لما تركه مورثه.
وبالجملة لا حكم للشارع في باب المعاملات تأسيسيا بحيث يعتبر
الملكية عند البيع للبايع أو المشتري كاعتبار المتعاملين ذلك، بل الشارع
إنما يحكم على طبق ما يحكم به العرف والمتعاملان على حسب
اعتبارهم، بحيث يكون ما يرون العرف موجبا للملكية ومحصلا لها
موضوعا لحكمه بالملكية أيضا إلا في مقام التخطئة، كبيع المنابذة
والملامسة والحصاة وبيع الربوي.
فحيث إن العرف لا يرى بأسا في امضاء المجيز واعتباره الملكية من
زمان العقد فيكون الشارع أيضا حاكما على طبق ذلك ويتوجه عموما
صحة البيع واطلاقاته عليه لكونها ناظرة على ما يرونه العرف معاملة،
فلا شبهة في كون بيع الفضولي مع تلك الإجازة معاملة وتجارة عن تراض
عند العرف، وبالجملة لا محذور في ما ذكرنا اثباتا وثبوتا.
وثانيا: سلمنا أن الشارع قد حكم بالملكية وله حكم في ذلك، ولكنه
حكم بمالكية المجيز الثمن إذا كان بايعا والمثمن إذا كان مشتريا من زمان
الإجازة على النحو الذي ذكرنا، فإنه بعد البناء على صحة الفضولي
واثبات عدم تمامية الكشف الحقيقي بغير الذي ذكرنا من المعرضية
المحضة وتأثير الأمر المتأخر في الأمر المتقدم أو عنوان التعقب، إما
لعدم معقوليتها أو لعدم تمامية دليل الاثبات الذي هي نتيجة القول
بالكشف الحكمي.
فلا بد لنا من الالتزام بما ذكرنا، وإلا نلتزم بالكشف الحكمي على ما
783

ذكره المصنف حتى يمكن لنا التفصي عن العجز من توجيه ما ظهوره في
الكشف صونا له من اللغوية، مع أنه أيضا تمام كما سنتعرض له بخلاف
ما ذكر، فإنه تمام ثبوتا والدليل موجود عليه اثباتا.
بل أدلة صحة البيع الفضولي ظاهرة في الكشف، كرواية قيس وغيرها،
ويأتي بيان ذلك في بيان ثمرة القول بالكشف أو النقل في ضمن رد كلام
شيخنا الأستاذ، بناء على تماميتها، خصوصا الروايات الواردة في
التزويج، من أنه إذا مات أحد الزوجين الذي عقد عليهما فضولة، سواء
كانا ذلك الزوجين صغيرين أو كبيرين فمات أحدهما فيستحلف
أحدهما على رضايته بالنكاح لو لم يمت الزوج الآخر ثم يرث (1).
فإن ذلك صريح في صحة النكاح الفضولي على الكشف، غاية الأمر
أنها مطلقة بالنسبة إلى أقسام الكشف، ولكن حيث عرفت أن المعرضية
المحضة وعدم دخالة الإجازة في صحة العقد باطل لصراحة الآية في
اشتراط صحة التجارة بالرضاية من المالك، والالتزام بتأثير الإجازة
المتأخرة في الملكية المتقدمة مستحيل، والالتزام بالتعقب لا وجه له
ولا دليل عليه.
فالكشف الحكمي في نفسه غير معقول، كما سيأتي، فيتعين ما ذكرنا،
فيكون هو المراد من الرواية، مع أن أصالة عدم الإجازة جارية هنا، فأي

1 - عن أبي عبيدة الحذاء قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن غلام وجارية زوجهما وليان لهما
يعني غير الأب وهما غير مدركين؟ فقال: النكاح جائز، وأيهما أدرك كان على الخيار، وإن
ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهرا - إلى أن قال: - فإن كان الرجل الذي قبل الجارية
ورضي بالنكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أترثه؟ قال: نعم، يعزل ميراثها منه حتى تدرك
فتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلا الرضا بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث ونصف المهر
- الحديث (الكافي 5: 401، عنه الوسائل 21: 326)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
784

شئ أوجب الخروج من هذا الأصل فإن لم يكن الكشف تماما لم يكن
للنقل معنى في حال الموت كما هو واضح.
ثم بقي هنا شئ، وهو أنه ربما يقال بظهور هذه الروايات الواردة في
النكاح الفضولي في الكشف الحقيقي، فإنه لو لم يكن كذلك لم يكن معنى
لعزل النصيب من الأول وانتظار الإجازة إلى أن يستحلف، بأنه لو لم يمت
الزوج الآخر أيضا لكان راضيا بالعقد، فعزل النصيب قبل الإجازة ظاهر
في الكشف الحقيقي الذي فرضتم ذلك غير معقول.
وفيه أن عزل النصيب لا يدل على ذلك بل هو للاحتياط في باب
الأموال، فيكون ذلك مانعا عن جريان الأصل كما أشار إليه في المتن، وله
نظير في باب الإرث من غير أن يكون مختصا بهذا المورد، كما إذا مات
أحد وكانت زوجته حاملة فإنه عزل هنا نصيب الذكرين احتياطا في
الأموال مع أنه ليس هذا النصيب مملوكا إلا احتمالا لعدم اليقين بأن
الزوجة تلد ذكرين.
وبالجملة الاحتياط الشديد في باب الأموال لئلا يفوت حق أحد على
غير الوجه الشرعي وأهمية الشارع بذلك أوجب عزل النصيب فيما ذكر،
وهذا لا يوجب اثبات الكشف الحقيقي، فافهم.
والحاصل أنك قد عرفت أن الكشف الحقيقي على أقسامها غير ما
ذكرنا أما مستحيل أو لا دليل على صحته في مقام الاثبات.
الوجه الثالث من طرق الكشف الحقيقي
ثم إن فخر المحققين (1) حكم بالكشف الحقيقي، بدعوى أن العقد حال

1 - إيضاح الفوائد 1: 420.
785

الإجازة معدوم فلو قلنا بالنقل للزم تأثير أمر المعدوم أعني العقد في
الأمر الموجود أعني الملكية، وقد طبق ذلك بالفلسفة، كما هو دأبه في
بعض الفروع الفقهية.
وفيه أولا: أن ما نحن فيه ليس من قبيل العلة والمعلول التأمين بل من
قبيل جزء السبب، فيجوز في ذلك تأثير الأمر المعدوم في الموجود في
التكوينيات، فإن الأسباب والمعدات للشئ توجد تدريجا وتنعدم،
فيترتب عليه المسبب بعد ذلك، كالقتل فإن أسبابه توجد ويترتب عليه
الموت بعده مدة، وهكذا غيره، فإذا كان في التكوينيات كذلك فكيف
لك انكاره في التشريعيات، نعم في العلية والمعلولية التامتين لا يمكن
الانفكاك، كالتحريك بالنسبة إلى تحرك المفتاح، فإن الفصل لا يعقل إلا
بتخلل الفاء في اللفظ فقط.
على أنه يرد عليه النقض بالايجاب والقبول، فإن الايجاب قد يتحقق
وينعدم إلى زمان القبول، وبالوصية فإنها تنعدم عند الموت، مع أنه
لم يستشكل أحد في تأثيرهما في الملكية، بل لازم ذلك انكار شرطية
القبض لصحة بيع الصرف والسلم لانعدام العقد إلى زمان القبض فيلزم
المحذور.
والحل في الكل إن العقد لا ينعدم بل يبقي اعتبار المتعاقدين إلى الأبد
ما لم يطرؤه مزيل، فإنه ليس عبارة عن اللفظ المجرد لينعدم بمجرد
الحدوث بل هو الاعتبار النفساني مع المظهر، فيبقي ذلك عندهما وعند
العرف، وأما الكشف الحكمي الذي ذكره المصنف وقلنا إذا لم يتم ما
ذكرناه من الكشف الحقيقي على النحو الذي سلكناه فلا بد من الالتزام بما
ذكره المصنف من الكشف الحكمي، فمعناه كما في المتن اجراء أحكام
الكشف بقدر الامكان مع عدم تحقق الملك في الواقع إلا بعد الإجازة،
786

بحيث يحكم باثبات آثار الكشف من أول الأمر وحين العقد، ولازم ذلك
اثبات آثار الملكية من حين العقد، وقد نقل المصنف هذا الوجه من
أستاذه شريف العلماء.
أقول: أن تنزيل شئ مقام شئ آخر يكون على أنحاء:
1 - أن ينزل الأمر الواقعي التكويني مقام أمر واقعي تكويني آخر،
كتنزيل الفقاع منزلة الخمر، وتنزيل الطواف منزلة الصلاة ونحوهما -
الخ، فيوجب التنزيل ترتيب آثار الصلاة على الطواف وآثار الخمر على
الفقاع فلا يلزم المحذور، فإنه لا يلزم منه تشريع الحكم.
2 - أن يكون التنزيل في بعض الآثار مع كون المنزل والمنزل عليه
كليهما أمرا تعبديا، كتنزيل من يراد زوجيته في جواز النظر إليها، فإن كل
منهما أمر تعبدي مع كون التنزيل في بعض الآثار.
3 - أن يكون المنزل عليه أمرا تعبديا مع كون التنزيل في جميع الآثار
نظير المقام، حيث إن أصل الملكية بعد إجازة المالك أمر تعبدي فقد
يحكم الشارع باجراء آثار الملكية عليه بعد العقد وكون جميع آثار
الكشف مترتبا عليه فهذا لغو محض، حيث إن الحكم على هذا النحو
والتنزيل كذلك ليس إلا الحكم بالملكية الحقيقية وجعل الملكية
فلا معنى لتسميته باسم التنزيل، وهذا نظير تنزيل إمساك الاعتكاف
منزلة الصوم في جميع الآثار مع عدم تسميته صوما وهكذا، فافهم
وتأمل.
الثمرة بين النقل والكشف
قوله (رحمه الله): بقي الكلام في بيان ثمرة بين الكشف - الخ.
أقول: وقد ذكر المصنف في ضمن أسطر ما لم نفهم معناه ولا ندري
787

ماذا فهمنا منه سابقا، فإنه ذكر أولا - على ما هو ظاهر كلامه - أنه على
القول بالكشف الحقيقي على نحو التعقب، لو علم المشتري بإجازة مالك
المبيع العقد يجوز له التصرف في المبيع لحصول شرطه في الواقع و في
علم الله.
وقد صرح بذلك قبل نصف صحيفة ناقلا في البعض وقال: والتزام
كون الشرط تعقب العقد بالإجازة لا نفس الإجازة فرارا عن لزوم تأخر
الشرط عن المشروط، والتزم بعضهم بجواز التصرف قبل الإجازة لو علم
تحققها فيها بعدا.
وفيه أنه بناء على القول بالكشف الحقيقي لا معنى للفرق بين الالتزام
بالتعقب أو تأثير الإجازة المتأخرة في المتقدم أو العرفية المحضة، فإنه
على جميع التقادير تحصل الملكية من الأول كما هو معنى الكشف
الحقيقي وبعد حصولها فلا وجه لمنع جواز التصرف، بل على القول به
يجوز التصرف مطلقا كما هو واضح لا يخفى.
ثم ذكر: وأما الثمرة بين الكشف الحقيقي والحكمي مع كون نفس
الإجازة شرطا فيظهر في مثل ما إذا وطئ المشتري الجارية قبل إجازة
مالكها فأجاز، فإن الوطئ على الكشف الحقيقي حرام ظاهرا لأصالة
عدم الإجازة وحلال واقعا لكشف الإجازة عن وقوعه في ملكه، ولو
أولدها صارت أم ولد على الكشف الحقيقي والحكمي، لأن مقتضى
جعل العقد الواقع ماضيا ترتب حكم وقوع الوطئ في الملك - انتهى.
وهذا الذي لا ندري ماذا أراد منه المصنف، فإنه مع حكمه على ما هو
ظاهر كلامه بعدم جواز التصرف قبل أسطر على القول بالكشف الحقيقي
إلا في صورة التعقب، فكيف حكم بكون التصرف حلال واقعا، فهل هذا
إلا التناقض، ولعل والله العالم أن هذا من سهو القلم.
788

1 - من حيث جواز التصرف في المبيع إذا علم أن المجيز يجيز العقد
والتحقيق أن يقال: إنه بناء على الكشف الحقيقي على جميع أقسامها
غير ما ذكرنا يجوز التصرف في المبيع والثمن إذا علم أن المجيز يجيز
العقد لتحقق شرطه واقعا، فلا يجري هنا أصالة عدم الإجازة فيحكم
بالجواز ظاهرا وواقعا، ومع توليد الأمة فتكون أم ولد، ومع عدم العلم
بالإجازة فيحرم التصرف في الظاهر ويجوز في الواقع، ويكون حلالا
على تقدير أن يجيز المالك وإلا فيحرم في الظاهر والواقع.
وأما على ما ذكرنا من الكشف الحقيقي فلا يجوز التصرف في الظاهر
والواقع حتى مع العلم بالإجازة، فإن الفرض أن الملكية تحصل بالإجازة
فلا معنى لجواز التصرف قبله في مال الغير بل يكون حراما، ومع وطئ
الأمة فيكون زنا فيحد، ولا تكون الأمة أم ولد، ولو مع تحقق الإجازة،
فإنها لا يوجب انقلاب وأوقع حراما من واقعه، والشئ لا ينقلب عما هو
عليه.
وأما على الكشف الحكمي فأيضا لا يحكم بترتب آثار الملكية إلا بعد
الإجازة، فإن ما وقع من التصرفات قبل الإجازة فإنما هي تصرفات غير
مشروعة، فلا ينقلب عما هو عليه بعد الإجازة حتى بحكم بترتب آثار
الملكية عليه قبل الإجازة أيضا.
والحاصل أن الكلام في بيان ثمرة القول بالكشف أو النقل يقع في
جهات:
الأولى: في بيان الأحكام الخارجية الشرعية المترتبة على تصرفات
المشتري أو الأجنبي قبل الإجازة.
الثانية: في حكم تصرفات المال المجيز في العين التي بيعت فضولة.
789

الثالثة: في تصرفاته في نماء تلك العين.
الرابعة: في تصرفات ما انتقلت العين إليه.
الجهة الأولى: في بيان الأحكام الخارجية الشرعية المترتبة على تصرفات
المشتري
إذا تصرف المشتري أو الأجنبي في تلك العين فهل يترتب أحكام
الملكية على تصرف المشتري وأحكام العقد على تصرف الأجنبي أم لا،
أو يفرق بين الكشف الحقيقي فيحكم بالترتب وبين الكشف الحكمي
فيحكم بعدم الترتب، مثلا إذا اشترى أمة فضولة فاستولدها أو زنى
الأجنبي بها فهل تصير الأمة على الأول أم ولد وزنى الأجنبي زنا بذات
البعل فيترتب على ذلك أحكامهما أم لا.
فأما على النقل فلا شبهة في كون الزنا زنا بذات بعل وعدم كونها أم
ولد بل كان وطئ المشتري أيضا حراما تكليفا، فإن الإجازة الحاصلة
بعد الوطئ الواقع عن حرام لا توجب انقلاب الحكم عن واقعه وجعل ما
وقع حراما حلالا، والشئ لا ينقلب عما هو عليه، والاستيلاد المترتب
على الوطئ الحرام لا يكون موجبا لصيرورة الأمة المستولدة أم ولد،
كما لا شبهة في أنه على الكشف الحقيقي على أنحائه غير ما ذكرنا تكون
الأمة بالاستيلاد عن وطئ المشتري قبل الإجازة أم ولد، وإن كان
الواطي جاهلا بوقوع الإجازة عن المالك المجيز، فإن التصرف إنما وقع
في ملكه، فيكون نظير ما وقع الوطئ على الأمة بزعم أنها أجنبية فبانت
مملوكة، فإنه لو ولدت ولدا بهذا الوطئ فتصير ذات ولد بذلك.
وعلى هذا فيكون وطئ الغير بها زنا بذات بعل فتحرم عليه مؤبدة،
وهكذا الكلام فيما إذا عقد على امرأة فضولة فزني بها أحد قبل الإجازة،
790

فإنه يكون ذلك زنا بذات بعل على القول بالكشف فيترتب عليه أحكامه،
وهذا بخلافه على النقل.
وأما على الكشف الحقيقي بالمعنى الذي ذكرنا، الذي هي نتيجة
الكشف الحكمي، وعلى الكشف الحكمي الذي ذكره المصنف فاختار،
بناء على الكشف الحكمي صيرورة الأمة باستيلاد المشتري قبل الإجازة
أم ولد، لأن مقتضى جعل العقد الواقع ماضيا ترتب حكم وقوع الوطئ
في الملك، ومع ذلك حكم بحرمة الوطئ تكليفا، وعلى هذا فيكون
وطئ الغير لها زنا بذات بعل لا زنا المجرد، فتحرم عليه مؤبدة.
ثم احتمل تحقق الاستيلاد على الحكمي لعدم تحقق حدوث الولد
في الملك، وإن حكم بملكيته للمشتري بعد ذلك، وأنكر ذلك شيخنا
الأستاذ (1) عليه فحكم بتحقق الاستيلاد بذلك.
والذي ينبغي أن يقال: إنه على الكشف الحقيقي بالمعنى الذي نقول
عدم تحقق الاستيلاد بوطئ المشتري قبل الإجازة، كما أن الواطي كان
محرما كما عليه المصنف أيضا، فلا يتحقق بذلك الاستيلاد أيضا وإن زنا
الغير بها زنا بغير ذات بعل.
وتوضيح ذلك أنه وإن كان بحسب الثبوت والواقع ممكنا وليس من
المستحيلات العقلية ولكن لا دليل على تحقق الاستيلاد بوطئ
المشتري أو كون زنا الغير بها زنا بذات بعل في مقام الاثبات، فإن ظاهر
أدلتها أن يكون المرأة حال الوطئ مملوكة للواطي لتصير بذلك أم ولد
وحال الوطي زنا بذات بعل يترتب عليه أحكام الزنا بذات بعل، والأمر
هنا ليس كذلك، بل إنما هي مملوكة للغير حقيقة بالفعل كما هو

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 90.
791

المفروض فيكون الزنا بغير ذات بعل والاستيلاد عن وطئ واقع على
غير مملوكة، وإن كانت تصير مملوكة بعد الإجازة حقيقة من زمان العقد
على ما ذكرنا أو في حكم المملوكة على الكشف الحكمي.
والسر في ذلك أن الاستيلاد لم يحدث في الملك، فإن الوطئ كان
وقوعه وحدوثه في ملك الغير وإن كانت الأمة ملكا للمشتري بقاء،
ولعل هذا مراد المصنف من التعبير بعدم حدوث الولد في الملك، فهل
يتوهم أحد أنه لو زنا رجل بامرأة خلية ثم صارت ذات بعل فيكون ذلك
زنا بذات بعل، أو يكون الولد المتولد منها ولده أو تصير المرأة أم ولد لو
كانت مملوكة فزنا بها أحد ثم اشتراها فلا يختلط الحرام بالحلال، وقد
نزل الإمام (عليه السلام) ذلك بالثمر الذي يبيعه الانسان عن جزم ثم اشترى
الحديقة فإن حكم كل منهما غير مربوط بالآخر كما لا يخفى.
ومقامنا نظير ما ذكرناه في كتاب الصلاة في معنى الزيادة في الفريضة،
وقلنا إن ظاهر الأدلة الدالة على أن الزيادة في الفريضة توجب البطلان هو
أن تكون الزيادة واقعة بعنوان الزيادة حين الاتيان بها ويتصف بذلك
الوصف حين وقوعها وتحققها ويكون ذلك في ذلك الوقت وصفا
عنوانيا زايدا لها لا ما يكون متصفا بذلك الوصف بعد وقوعها، فلا تشمل
عليه أدلة المبطلية.
مثلا إذا أراد المصلي أن يقول إياك، فبدا له وقال: ايا، فسكت، ثم
قال: إياك، فإن ايا وإن وقعت زيادة إلا أنه لم يقع كذلك حين وقوعه بهذا
العنوان، بل بعنوان أنه واجب ثم صار كذلك وهكذا، فإن أدلة الزيادة في
الفريضة منصرفة عن ذلك.
وكذلك فيما نحن فيه، فإن الوطئ الواقع على الأمة قبل الإجازة إنما
هو متصف بكونه على غير ملكه، وإنما صار بعد الإجازة متصفا بكونه
792

في ملكه أو ذات بعل، فأدلة صيرورة الأمة مستفادة بملك المالك أو كون
الزنا بها زني بذات بعل لا تشمل ذلك لظهورها في فعلية الاتصاف و
كونهما كذلك حال الوطئ لا بعده.
الجهة الثانية: في حكم تصرفات المال المجيز في العين التي بيعت فضولة
وأما الجهة الثانية، فهي في حكم تصرفات مالك المجيز في نفس
العين، فلو باع أحد مال غيره فضولة وتصرف فيه المالك قبل الإجازة
والعلم بذلك أو مع العلم فهل يكون تصرفه هذا ردا فعليا أو لم يكن ردا،
أو يفصل بين الكشف الحقيقي فيحكم بعدم نفوذ تصرفاته وبين الكشف
الحكمي فيحكم بنفوذ تصرفاته.
وقد قرب شيخنا الأستاذ (1) نفوذ تصرفات المالك المجيز في العين
مطلقا حتى على الكشف الحقيقي بأقسامه ولو كانت الإجازة بعنوان
المعرضية حتى مع العلم بصدور الإجازة منه، ومع ذلك لا يبقى مجال
لإجازة العقد الفضولي مثلا لو باع العين التي بيعت فضولة أو أعتق العبد
أو غير ذلك من التصرفات أو زوجت الامرأة نفسها للغير أصالة، فإن في
جميع ذلك لا يبقي موضوع للإجازة فإنها إنما ترد على المحل القابل،
وبعد تزويج الزوجة نفسها من الغير أصالة أو نقل المالك العين عن ملكه
لا يبقي مجال لها.
فإن ما هو متعلق الإجازة وموضوعها قد زالت وانعدمت، فإن هذه
الإجازة ليست إلا كإجازة الأجنبي، فهل يتوهم أحد أن إجازة الأجنبي
العقد الفضولي الذي صدر من الغير يكون امضاء من قبل المالك فكذلك

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 92.
793

هنا، فإن المالك بعد نقل العين عن ملكه وإزالة علقة سلطنته صار
كالأجانب فلا تكون إجازته مؤثرة في ذلك.
ولا يقاس ذلك بالفسخ لأنه متعلق بالعقد، وأما الإجازة فهي متعلقة
بالعين فإذا ذهبت ترتفع موضوعها بخلاف الفسخ، ثم نسب ذلك إلى
المصنف - بناء على كون النسخة: لو باع أم الولد، كما اختار كونها كذلك -
وأما بناء على سقوط أم وكون النسخة: لو باع الولد، فلا يمكن نسبة ذلك
إلى الشيخ، فإن بيع الولد لا ينافي مع امضاء عقد الفضولي الواقع على
الأم.
وفيه أن ما أفاده إنما يتم في الزوجة فإنه بعد ما زوجت المرأة نفسها
لغير الذي زوجها الفضولي إياه فلا شبهة في بطلان العقد الأول وكون
العقد الثاني ردا عمليا للعقد الأول.
والسر في ذلك أنه بعد تزويج المرأة نفسها من الزوج الآخر لا يبقى
موضوع لإجازة العقد الأول، ولا يكون هنا مجيز حتى يجيز العقد
الفضولي لانتفاء ركن العقد وقوامه وانعدام ما ينسب إليه العقد وينضم به
بحيث يكون العقد عقده ويكون منسوبا إليه.
وبعبارة أخرى قد حققنا في الأصول في وجه تقدم الأمارات على
الأصول أن موضوع الأصول معلق على عدم وجود الأمارات، فإذا
تحققت الأمارات وصارت منجزة لا يبقي مع ذلك موضوع للأصول،
وهكذا الأمر في كل أمرين يكون الحكم في أحدهما تنجيزيا وفي الآخر
تعليقيا، فإن موضوع التعليقي يرتفع بوجود التنجيزي، وفي المقام
كذلك، فإن موضوع صحة العقد الأول الفضولي معلق على بقاء المجيز
بحيث يكون مع قطع النظر عن الإجازة مالكا للعقد والمعاملة ويقدر على
الإجازة.
794

فإذا ارتفع ذلك الموضوع بوجود المعلق عليه الذي يتوقف على
عدمه صحة العقد الأول فلا يبقي مجال لصحته بالإجازة، فحيث إن
صحة العقد الأول متوقفة على بقاء المجيز على حالته الأولية وكونه
مالكا للإجازة وقد انعدم في المقام فيحكم ببطلان العقد الأول بلا شبهة.
وبعبارة ثالثة: إن العقد الفضولي إنما يحكم بصحته مقتضى
العمومات أو الأدلة الخاصة إذا انتسب ذلك العقد إلى المالك ليحكم
عليه بأنه يجب عليك الوفاء به، وأما إذا انعدم فلا تشمل الاطلاقات
والعمومات ذلك العقد، فإن معنى وجوب الوفاء بالعقد ليس أنه يجب
لكل شخص أن يفي بكل عقد حتى لو باع أحد مال غيره، فيجب عليه أن
يفي بذلك بل هذا ونظائره خطاب لمالك العقد ولمن يكون العقد عقده،
فإذا انتفي المالك فلا يبقي موضوع لوجوب الوفاء بالعقد وغيره من
الأدلة الخاصة أو العامة.
بل هذا الذي ذكرنا هو من جملة المرتكزات الشرعية، حيث إن من
البديهيات في عالم الشريعة أنه لو زوج أحد امرأة فضولة ولم تكن المرأة
عالمة بذلك فتزوج نفسها بزوج آخر وعرض العقد الأول إليه بعد سنين
بحيث صارت كثيرة الأولاد وأجاز العقد الأول، فهل يتوهم أحد أن
جميع هذه الأولاد والاستمتاعات وقعت شبهة، وليس كذلك قطعا،
هذا ما يرجع إلى الزوجية.
وأما في غير الزوجية فلا يتم ما ذكره شيخنا الأستاذ، وذلك لأن
تصرف المالك في المبيع من عتق الأمة أو العبد أو بيعهما للغير أو غير
ذلك من التصرفات لا ينافي العقد الأول ولا يوجب انعدام موضوع ذلك
العقد لبقاء المجيز على قابلية أن يجيز العقد الأول ومالكا لذلك قبل
الإجازة، فإن قوام العقد الفضولي وبقائه لم يكن ببقاء العين وإن كان حين
الحدوث من مقومات العقد.
795

والسر في ذلك أن الإجازة والرد كالامضاء والفسخ في باب الخيارات
يتعلقان بنفس العقد دون العين الخارجية، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ
وجعله وجه الفرق بين الإجازة والفسخ، غاية الأمر أن الفسخ رفع والرد
دفع الإجازة تنجيز والامضاء وعدم الفسخ يثبت، وإلا فجميع ذلك
متعلق بالعقد وهو مركز لجميع ذلك، فيظهر ثمرة ذلك فيما بعد.
وعلى هذا فانتقال العين من ملك المالك المجيز إلى غيره لا يوجب
ارتفاع موضوع الإجازة وانتفاء قابلية المجيز بل هو باق على قابليته
الأولية، إذن فمقتضى الجمع بين جواز تصرفاته ونفوذه في العين وبين
وجوب الوفاء بالعقد بعد الإجازة والامضاء ممن له ذلك هو الحكم
بانتقال المبيع إلى البدل.
وبعبارة أخرى أن ما ذكره الأستاذ يرجع إلى إبداع المانع وأن المانع من
تأثير العقد الفضولي هو عدم تأثير إجازة المالك لسقوطها عن التأثير
بمانعية انتقال العين من المالك إلى غيره.
وهذا بخلاف ما ذكرنا فإنه يرجع إلى منع المقتضي، فإنه لا مقتضى
لحصول الملكية قبل الإجازة حتى يتوهم ذلك النزاع والبحث لانحصار
حصول الملكية على القول بالكشف بالمعاني التي ذكروها، وقد ذكرنا
عدم صحتها لعدم وفاء الأدلة على ذلك وما يكون مقتضيا للصحة أعني
أدلة الصحة منعدم في المقام.
وبعبارة أخرى نحن نقول بصحة الفضولي على طريقة الكشف من باب
عدم العلاج والفرار عن صحة أدلة الفضولي، فحيث إن المتيقن منها
صورة عدم التصرف لا تبقى أدلة صحة الفضولي شاملة للمقام، وهذا
مرادنا من منع المقتضي.
ولكن الظاهر مع ذلك عدم صحة العقد الفضولي بعد تلك التصرفات
796

وإن لم تكن موجبة لانتفاء قابلية المجيز عن مجيزيته، وذلك لأن صحة ما
ذكرنا متوقفة على القول بالكشف الحقيقي على غير ما ذكرنا، وقد قلنا إن
جميعه بين ما يكون مستحيلا وبينما يكون خلاف ظواهر الأدلة، لأن أدلة
صحة العقد الفضولي لا تساعد على كون الملكية مثلا حاصلة من الأول
فتكون الإجازة المتأخرة دخيلة في ذلك بعنوان التعقب أو معرفا صرفا،
فإن أخذ الإجازة والرضا من شرائط صحة العقد ليس إلا ظاهرا في كونه
شرطا مقارنا لحصول التجارة والملكية والزوجية ونحوها كما لا يخفى،
ومع ذلك لا يمكن صرف أدلة صحة الفضولي إلى مثل هذا النحو من
خلاف الظاهر هنا ما وعدناك في بيان طرق الكشف.
وبعبارة أخرى أن أدلة صحة العقد الفضولي وإن قلنا إنها ظاهرة في
الكشف إلا أنها تدل على صحة العقد الذي يكون متعارفا وعلى وفق
مذاق العرف والشرع، والذي يفهم العرف من لسان الأدلة الشرعية هو ما
يكون العقد مقارنا برضا المالك ومثل ذلك العقد يكون مؤثرا في النقل
والملكية والزوجية، وحيث إن العقد الفضولي حين وقوعه عادم لذلك
الشرط فيكون تأثيره مراعي على حصوله فيكون مؤثرا عند الحصول
بحيث يكون شرطا مقارنا وإن كان مؤثرا في الملكية من زمان العقد.
وعلى هذا فيكون ما هو محط البحث ومورد الثمرة بين ما ذكرنا وما
ذكره شيخنا الأستاذ في الكشف الحكمي والكشف الحقيقي بالمعنى
الذي ذكرنا الذي هو نتيجة الكشف الحكمي.
بيان ذلك أنه على الكشف الحقيقي بما ذكرنا والكشف الحكمي
فيكون الامضاء المتأخر موجبا لحصول النقل من حين العقد حقيقة على
ما ذكرنا أو حكما على الكشف الحكمي.
وهذا بحسب القواعد، فإن القاعدة تقتضي بعد تحقق الإجازة
797

وشمول أدلة الصحة عليه لكونه عقد بالحمل الشايع بعد الانتساب إليه
حصول النقل من حين العقد، فإن دليل وجوب الوفاء يدل على وجوب
الوفاء بذلك العقد بعد الإجازة وهو يصير عقدا للمجيز ومنتسبا إليه.
وهذا بخلاف ما تقدم، فإن فيه نحكم بالمقدار المتيقن من جهة أنه
لم يكن لأدلتها اطلاق لتشمل مثل هذه الموارد أيضا ولم يكن المقتضي
تماما، ولكن على ما ذكرنا فالمقتضي تمام لكون ما ذكرنا موافقا للقواعد،
فإن القاعدة تقتضي أن يكون العقد صحيحا بعد الإجازة بمقتضى: أوفوا
بالعقود (1) كما ذكرنا، ويكون منتسبا إلى صاحب العقد بالإجازة كانتسابه
إليه في غير موارد الفضولي بدليل الوفاء، وهذا بخلافه على ما ذكره
شيخنا الأستاذ، فإنه يبطل العقد حينئذ فلا يكون الامضاء مؤثرا في النقل
بوجه كما هو واضح.
الجهة الثالثة: في تصرفاته في نماء تلك العين
الجهة الثالثة في حكم تصرف المالك، سواء كان مالك الثمن أو مالك
المثمن في نماء المبيع، فنقول:
لا اشكال في جواز تصرفه فيه على القول بالنقل وضعا وتكليفا، لأنه
تصرف في ملكه، ولا مانع من تصرف المالك فيه وإنما ينتقل العين عنه
إلى غيره بالإجازة والفرض أنه قبل الإجازة ويكون بيعه لو باعه المالك
من غير وعتقه لو كان النماء عبدا أو أمة نافذا وجائزا فلا يرد عنه بعد
الإجازة أيضا.
وأما على القول بالكشف الحقيقي فربما يقال: أن تصرفه في النماء
ليس إلا تصرفا جائزا، فلازم ذلك كونه في ملكه ولازم كون النماء في

1 - المائدة: 1.
798

الملك كون الأصل في ملكه فيدل تصرفه في النماء بالدلالة الالتزامية
على رد البيع الفضولي فيحكم ببطلانه.
وقد احتمل المصنف ذلك - بناء على كون النسخة: ولو نقل المالك
الولد - على خلاف ما قربه شيخنا الأستاذ (1)، حيث قال: مع احتمال
كون النقل بمنزلة الرد، وأما بناء على كون النسخة: لو نقل المالك أم
الولد، فلا ميل إليه في كلامه.
وفيه أن رد العقد الفضولي كإجازته وإن كان يصح بالفعل والقول
كليهما إلا أن مجرد صدور الفعل لا يدل على الرد ما لم يكن بنفسه انشاء
الرد، فإن تحققه يحتاج إلى الانشاء كما أن تحقق الإجازة يحتاج إلى
الانشاء بحيث يكون الفعل بنفسه مصداقا للرد، وهذا لا يمكن إلا
بالقصد، إذن فيكون الفعل بحسب نفسه أعم من الرد لكون صدوره أعم من
أن يكون بقصد الرد أولا، فالأعم لا يدل على الأخص بوجه الاحتمال أن
يكون من غير قصد أو بقصد عدواني مع علمه بأنه يجيز كتصرف الغاصب
والسارق ونحو ذلك.
وعلى هذا فلا يكون تصرف من أنتقل عنه المال في نمائه قبل الإجازة
ردا فلا بد له من اعطاء بدله على تقدير الاتلاف ومع البقاء وانتقاله إلى
الغير يكون المقام من صغريات تعاقب الأيدي، فله أن يرجع إلى المالك
ويرجع المالك إلى ما انتقل إليه أو إلى ما انتقل إليه ابتداء.
وأما على الكشف الحكمي والكشف الحقيقي بمعنى الذي ذكرنا
الذي في حكم الكشف الحكمي، فلا شبهة في كون تصرف المالك في
نماء العين تصرفا في ملكه، لأن الفرض أنه يحكم بملكية العين كما أنتقل
إليه بعد الإجازة، فيكون النماء أيضا ملكا لما انتقل إليه العين بالتبع وحين

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 96.
799

تصرفه لم تصدر منه الإجازة ليكون التصرف في ملك الغير، وهذا
لا شبهة فيه.
وإنما الكلام في أنه يحكم بعد الإجازة بكون ذلك النماء ملكا لما
انتقل إليه العين بالتبع حتى في صورة كون النماء تالفا، بحيث يحكم
للمالك أن يخرج من عهدته أم لا بل يملك ما انتقل إليه العين ثمنا كان أو
مثمنا بالإجازة مع النماءات الموجودة حال الإجازة متصلة كانت أو
منفصلة.
وقد حكم شيخنا الأستاذ (1) بالثاني، من جهة أن الإجازة إنما توجب
انتقال ما يكون موجودا حال العقد من العين والنماء إلى ما انتقل إليه
العين، وأما إذا كانت العين معدومة فقد تقدم أنه لا مجال للإجازة مع
ذلك، وإن كان النماء معدوما فلا شئ يكون ملكا لما انتقل إليه والتبعية
إنما يتحقق في صورة وجود النماء لا في صورة عدمه.
وبعبارة أخرى أن العين إلى زمان الإجازة ملك لمالكها لجميع
شؤونها، فله أن يتصرف فيها كيف يشاء وفي زمان الإجازة لو انتفت العين
فلا موضوع للإجازة أصلا وإن بقيت العين ونماءاتها فتكون بالإجازة
منتقلة إلى الطرف الآخر لكون النماء تابعا للعين وإن بقيت العين وتلف
النماء وانعدم فتكون العين وحدها منتقلة إلى الغير لعدم وجود النماء
حال انتقال الأصل إلى الغير ليحكم بضمانه، فما يكون مانعا عن تحقق
الملكية بالإجازة في صورة نقل العين فيكون ذلك مانعا عن ثبوت الملكية
بالنماءات أيضا، فلا تؤثر الإجازة في ثبوت الملكية بالنسبة إلى النماءات
المستوفاة.
وفيه أن ضعفه ظاهر، لأن زمان الانتقال وإن كان هو زمان الإجازة

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 98.
800

ولكن تنتقل العين بالإجازة من زمان العقد فيترتب جميع أحكام الملكية
من ذلك الزمان تنزيلا على الكشف الحكمي وتحقيقا على ما ذكرنا من
الكشف الحقيقي.
وإذن فيكون المالك ضامنا بالنماءات لو أتلفها ومع نقلها إلى الغير،
فيكون المقام أيضا من صغريات تعاقب الأيدي كما عرفت في الكشف
الحقيقي، وهذا واضح جدا.
ثم إن شيخنا الأستاذ قرب كون النسخة: ولو نقل المالك أم الولد (1)،
ولكن الظاهر أنها الولد بدون لفظ الأم، لأنه يصرح بعد أسطر في ذيل
الضابط للكشف الحكمي أنه يحكم بملكية المشتري من حين العقد، فإن
ترتب شئ من آثار ملكية المالك قبل إجازته كاتلاف النماء ونقله
ولم يناف الإجازة، جمعا بينه وبين مقتضى الإجازة بالرجوع إلى البدل.
الجهة الرابعة: في تصرفات ما انتقلت العين إليه
الجهة الرابعة في ما يرجع إلى تصرفات ما انتقل إليه المال فضولة.
أما على النقل فلا شبهة في عدم جواز تصرفه قبل الإجازة وضعا
وتكليفا، لكونه تصرفا في مال الغير بدون إذنه فهو حرام عقلا وشرعا،
نعم لو باع ذلك ثم أجاز المالك البيع فيدخل تحت الكبرى الكلية من باع
أشياء ثم ملك، وسيأتي الكلام فيه.
وأما على الكشف الحقيقي على أنحائه الثلاثة، فلا شبهة في جواز
تصرفه فيه تكليفا ونفوذه وضعا لو كانت الإجازة متحققة واقعا، غاية
الأمر مع عدم العلم بتحقق الإجازة يكون متجريا فقط في الظاهر وإلا ففي
الواقع لا يحرم ذلك بوجه وضعا وتكليفا.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 104.
801

وأما على الكشف الحكمي والكشف الحقيقي بما ذكرنا فلا بد من
التفصيل بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي والحكم بحرمة
التصرفات قبل الإجازة واقعا وظاهرا لكونه تصرفا في مال الغير حقيقة
فهو حرام، لأنه لا يجوز التصرف في مال امرء مسلم إلا بطيب نفسه عقلا
وشرعا.
وأما الأحكام الوضعية فهي نافذة بعد الإجازة فإنه بعدها يكشف كونه
واقعا في ملكه، فلو باع قبل الإجازة فيكون صحيحا نافذا ولو أعتقه
فيكون صحيحا إلى غير ذلك من الأحكام الوضعية على طبق القاعدة،
فإنه بعد تحقق الملكية بالإجازة من حين العقد فمقتضى القاعدة ترتب
أحكام الملكية أيضا بأجمعها كما هو من المرتكزات العرفية أيضا غير ما
تقدم من تحقق الاستيلاد وتحقق الزنا بذات البعل.
فإنه تقدم أن الظاهر من دليلهما أن الاستيلاد والزنا بذات البعل إنما
يتحققان من المملوك والزوجة الفعليين دون ما يكون مملوكا أو زوجة
بعد ذلك الوطي.
وبعبارة أخرى أنه يترتب على تصرف ما نقل إليه المال جميع الأحكام
الوضعية امكانا واثباتا غير ما يكون دليله على خلاف ذلك، كما في
تحقق أم الولد والزنا بذات البعل، فإن ترتب الأحكام الوضعية بأجمعها
بحسب القاعدة.
كيف فإنه بعد الحكم بحصول الملكية من حين العقد فيترتب أحكام
الملكية أيضا عليه، وأما عدم ترتب الحكم التكليفي فمن جهة أن الشئ
لا ينقلب عما هو عليه فما كان حراما لا يكون حلالا فالتصرف قبل
الإجازة كانت محرمة فلا ينقلب إلى الحلية.
802

2 - من حيث النماء
قوله (رحمه الله): منها النماء فإنه على الكشف.
أقول: وقد تقدم أن النماء على الكشف الحقيقي لما انتقل إليه العين
لكونه حاصلا في ملكه، وأما على النقل فللمالك لكونه أيضا حاصلا في
ملكه، وتكراره إنما هو توطئة لبيان كلام شهيد الثاني في الروضة حيث
قال: إن النماء على القول بالكشف تابع للعين فنماء الثمن للبايع ونماء
المبيع للمشتري، وأما على النقل فنماء كليهما للمالك المجيز (1).
وقد وجه كلامه بعض محش الروضة حيث قال: يمكن أن يراد من
المجيز المالك كل واحد واحد من مالك الثمن ومالك المثمن، أي نماء
الثمن للمشتري لكونه مالكا له ونماء المثمن للبايع لكونه مالكا له (2)،
ووجهه آخر بتوجيه آخر، بدعوى إرادة جنس المالك فيكون أعم من
مالك الثمن ومالك المثمن، وعلى كلا التوجيهين يرتفع الاضطراب من
كلامه.
ولكن كليهما خلاف الظاهر من كلامه، فإن ظاهر المقابلة كون النماء
على النقل للبايع، فإنه قال: وعلى النقل فيهما للمجيز، فظاهره كون
كلا النمائين لشخص واحد.
ووجه بعض بتوجيه بارد، وهو أن كون نماء العين للمالك فعلي طبق
القاعدة لكونه حاصلا في ملكه، وأما كون الثمن له فلأن المشتري بنفسه
قد أقدم على ذلك وسلط البايع على ماله الذي مالك العين على ماله
فيكون نماؤه أيضا له.

1 - الروضة البهية 3: 229.
2 - وجهه جمال الدين في حاشية الروضة: 358.
803

وفيه أنه قد يكون العقد من طرف المشتري أيضا فضوليا فكيف يصح
الحكم بأنه قد أقدم على تسليط البايع على ماله، وقد يكون غير ملتفت
على كون البايع فضوليا ولو كان المشتري بنفسه مباشرا للعقد، على أن
ما وجه به كلامه ليس بتمام كبرى وصغرى، أما الوجه في بطلان الكبرى
فلأن الاقدام ليس من جملة المملكات ولم يعهد من الشرع المقدس
ذلك المعنى إلا إذا كان بعنوان الهبة فإنها مملكة في الشرع المقدس وإن
كان يجوز الرجوع إليها أيضا.
وكيف كان لا يمكن الالتزام بهذا التوجيه، إذن فلا بد أما من الالتزام
بكونه سهوا من قلمه الشريف لكون العصمة لصاحبها، وأما أن يكون
نظره ما تقدم من التوجيهين الأولين، وإنما كان غرضه من اغلاق العبارة
تجربة الأفهام، والله العالم.
3 - من حيث فسخ الأصيل
قوله (رحمه الله): ومنها أن فسخ الأصيل لانشائه قبل إجازة الآخر.
أقول: إذا كان أحد طرفي العقد فضوليا والآخر أصيلا فهل يجوز أن
يفسخ الأصيل قبل إجازة الآخر مطلقا أو لا يجوز كذلك، أو يفصل بين
القول بالكشف فيحكم بعدم جواز فسخه وبين القول بالنقل فيحكم
بجواز فسخه.
وقد اختار بعضهم جواز فسخ الأصيل العقد قبل إجازة الآخر، وقد
اختار شيخنا الأستاذ (1) عدم جواز فسخه مطلقا حتى على القول بالنقل،
واختار المصنف القول بالتفصيل وحكم بجواز فسخه على القول بالنقل
وبعدمه على القول بالكشف.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 105.
804

الحكم على القول بالنقل
أما على القول بالكشف فسيأتي الكلام فيه، وأما على القول بالنقل
فمن جهة أنه لم يحصل النقل بمجرد العقد وإنما يكون ذلك مؤثرا في
زمان النقل وقبل زمانه، فيكون العقد بالنسبة إلى الأصيل كنسبة الايجاب
إلى الموجب، فيكون فسخه كفسخ الموجب ايجابه، فكما أنه لا محذور
في فسخ الايجاب قبل القبول، وهكذا يجوز فسخ الأصيل العقد قبل
تحقق الإجازة.
وبعبارة أخرى إنما يجب اتمام العقد ولا يجوز حله من جهة: أوفوا
بالعقود (1)، وهو إنما يتوجه بعد الإجازة وقبلها ليس هناك شئ بوجه،
ولا يشمله دليل وجوب الوفاء، فيكون الأصيل مختارا في فسخه
وعدمه.
وأما على القول بعدم الجواز مطلقا، فقد اختار شيخنا الأستاذ عدم
جواز الفسخ كما عرفت، وحاصل كلامه:
إن مقتضى قوله تعالى: أوفوا بالعقود وجوب الوفاء بالعقد الذي
عبارة عن المعاقدة وجوبا تكليفيا، ولا شبهة في تحقق العقد وعدمه
بالنسبة إلى الأصيل، وإنما الموقوف على الإجازة ليس إلا حصول النقل
الحقيقي، وأما نفس العقد والمعاقدة فقد تحقق قطعا.
إذن فلا مانع من شمول أوفوا بالعقود عليه، فيكون ذلك كبيع الصرف
والسلم حيث إن حصول الملكية فيهما متوقف على القبض وقبله
لم تحصل، ومع ذلك لا يجوز لكل من البايع أو المشتري فسخ العقد فإنه
بعد التحقق لا يجوز إلا إذا قام الدليل على جواز الفسخ كالهبة.

1 - المائدة: 1.
805

ولا يقاس المقام بالايجاب المجرد قبل مجئ القبول فإنه لم يتم
المعاقدة بدون القبول حتى يشمله أوفوا بالعقود، وهذا بخلاف المقام
كما عرفت.
وبعبارة أخرى أن دليل الوفاء بالعقد تارة يكون ناظرا إلى اسم
المصدر، أي ما يحصل من العقد، أعني الملكية أو الزوجية أو نحوها،
وأخرى يتوجه إلى المعنى المصدري أعني نفس العقد والمعاقدة،
فعلي الأول فشموله موقوف على حصول النقل، وحيث لم يحصل النقل
قبل الإجازة فلا يشمله دليل الوفاء بالعقد قبل الإجازة، إلا أنه مما
لا يمكن المساعدة عليه، لكونه خلاف الظاهر من أوفوا بالعقود.
وعلى الثاني كما هو الظاهر فيكون دليل الوفاء بالعقد شاملا لهذا العقد
تحققه عند المعاقدة، نعم الملكية موقوفة على الإجازة وذلك غير
مربوط بالمقام، وبالجملة مقتضى دليل الوفاء بالعقد لزوم اتمامه وانهائه
بعد تحقق العقد والمعاقدة، وهذا واضح جدا، فافهم.
وفيه، أما على الكشف فسيأتي الكلام فيه عن قريب، وأما على النقل
فكلامه هذا مبني أولا على كون الأمر بالوفاء على العقد تكليفيا، فإنه
حينئذ يتم ما ذكره شيخنا الأستاذ، ولكنه غير ممكن، إذ كون الأمر
بالوفاء تكليفيا أو حرمة نقضة كذلك يقتضي أن يكون متعلقه أمرا مقدورا
بحيث يكون مختارا في فسخه وامضائه، فإن التكليف لا يتعلق بغير
المقدور، ولا أن المراد من الفسخ لفظ فسخت، ليقال إنه أمر ممكن،
ومعنى كونه مختارا في ذلك ليس إلا كون العقد جائزا، فيكون ذلك
خلف الفرض، مع أن مقتضى كون العقد جائزا وكون الوجوب تكليفيا أنه
ينفسخ بالفسخ، غاية الأمر أنه فعل حراما، مع أنه لا ينفسخ قطعا بل عدمه.
بل الأمر هنا ارشاد إلى الحكم الوضعي، نظير ارشاد النهي في قوله
806

(عليه السلام): نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر (1)، ارشادا إلى الفساد، ومعنى
الوفاء به عبارة عن اتمامه وانهائه، كما يقال: الدرهم الوافي للدرهم
التمام، فيكون معنى الوفاء بالعقد أنه لا ينفسخ هذا العقد بالفسخ، وعلى
هذا لا يتوجه دليل الوفاء بالعقد إلا بعد امكان تحقق الحكم الوضعي
بذلك الدليل، وهو إنما يكون بعد إجازة المالك لأنه المفروض، إذن
فما ذكره العلامة الأنصاري من جواز فسخ الأصيل العقد قبل إجازة
المالك هو الوجيه.
وبعبارة أخرى وجوب الوفاء بالعقد من ناحية الأصيل على القول
بالنقل قبل الإجازة متوقف على أخذ العقد بمعنى المصدري، أي مجرد
المعاقدة، فإذا لم يكن ذلك لما ذكرنا من كونه متوقفا على أخذ الوجوب
تكليفيا وهو غير جائز فلا بد من صرفه إلى الوفاء بالمعنى الاسم
المصدري، وهو لا يحصل إلا بالإجازة، فيكون شمول دليل الوفاء على
ذلك من زمان الإجازة دون العقد.
وأما نقضه بالصرف والسلم، فهو أيضا ليس من المسلمات، بل
وجوب الوفاء بهما أيضا بقوله: أوفوا بالعقود (2)، وبعدها لم يمكن شموله
على العقد إلا بعد حصول الاسم المصدري، فلا يلزم الوفاء به، إذن
يجوز لكل من البايع والمشتري فسخ الصرف والسلم قبل القبض كما هو
واضح.
وبعبارة أخرى أن الأمر بالوفاء ارشاد إلى عدم انفساخ العقد بالفسخ،
وأن الالتزام بذلك باق على حاله ولا يرتفع إلا بالإقالة، ومعنى الوفاء به

1 - عن الرضا عن آبائه عن علي (عليهم السلام): نهي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع الغرر (عيون
الأخبار 2: 45، عنه الوسائل 17: 448)، ضعيفة.
2 - المائدة: 1.
807

انهائه إلى الآخر واتمامه، وحيث إن الالتزام والمعاقدة على أساس
القول بالنقل لم يتم لتوقف حصوله على تحقق التزام المالك فإن متعلقه
إنما هو الملكية وحصول الملكية موقوف على تحقق الالتزامين من
المالكين، فلا يشمل عليه دليل الوفاء بالعقد فيكون نظير الايجاب قبل
تمامية القبول.
نعم في مثل النذر لا بأس من الالتزام بالوجوب التكليفي، لا من جهة
تعدد معنى الوفاء بل لخصوصية المورد، فإن متعلق الوفاء في باب النذر
نفس الالتزام، وهذا بخلافه في باب العقود، فإن متعلقه الملتزم به وهو
لا يحصل إلا بالعقد الذي قوامه بالمعاقدة وارتباط أحد الالتزامين بالآخر
من الالتزام لا بالتزام شخص واحد كما هو واضح، أذن لا غرو من الالتزام
بالوجوب التكليفي في النذر ونحوه وبالوجوب الارشادي في باب
العقود.
وبالجملة أن الوفاء بالعقد منحل إلى الأفراد العديدة حسب تعدد
أفراد العقود، في جميعها معناه اتمام العقد وانهائه، ولكن حيث إن
متعلقه في النذر هو الالتزام بالعمل فليس معناه إلا وجوب اتمامه تكليفا
لا وضعا، ولذلك نقول هنا بالوجوب التكليفي.
وثانيا: على فرض كون الوجوب وجوبا تكليفيا فلا شبهة في أنه إنما
يتم بعد تحقق العقد، وهو على أساس القول بالنقل لا يتم إلا بعد
الإجازة، فموضوع وجوب الوفاء بالعقد إنما يحصل بالإجازة وقبله ليس
عقد ليكون موضوعا للوجوب، وليس ذلك قبل الهبة لتحصل بطرف
واحد، أذن مع فرض القول بأن الوجوب تكليفي فلا يتوجه إلا بعد
الإجازة لتحقق موضوعه في ذلك الوقت.
وبعبارة أخرى مع الغمض عن بطلان أخذ الوجوب ارشاديا
808

والجواب على وفقه أن موضوع الوجوب التكليفي لم يتم بعد، فهل
يتحقق الحكم بدون الموضوع.
فتحصل أنه على القول بالنقل يجوز للأصيل أن يفسخ العقد قبل
الإجازة.
الحكم على القول بالكشف
وأما على القول بالكشف، فهنا جهات للكلام:
1 - في جواز فسخ الأصيل منهما وعدمه، أي تأثيره وعدم تأثير على
الكشف.
والذي ينبغي أن يقال إنه لا يؤثر الفسخ في انحلال العقد، فإن أساس
القول بالكشف هو أن العقد بحسب نفسه تمام السبب والموضوع
لوجوب الوفاء بالعقد، كما عرفت عن الشهيد والمحقق الثانيين، وبعد
تحققه لا معنى لفسخ الأصيل ذلك، فإن أدلة وجوب الوفاء بالعقد وكونه
لازما لا ينفسخ بأجمعها شاملة للمقام، فإن عمدتها على ما تقدم في
المعاطاة قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن
تراض (1).
فلا شبهة أن الفسخ بعد تحقق الالتزام ليس تجارة عن تراض بل يكون
أكل المال بالباطل، وأما مع العلم بعدم الإجازة فأيضا لا يحتاج إلى
الفسخ بتحققه بدونه، فهو أما لا يؤثر وأما لا نحتاج إليه.
وبالجملة على ملاك الكشف من تحقق تمام الموضوع للوفاء بالعقد
لا يؤثر فيه الفسخ بوجه، ويدل عليه أدلة اللزوم.
2 - في أنه على القول بعدم تأثير الفسخ فيه وضعا فهل يجوز للأصيل

1 - النساء: 29.
809

التصرفات في ماله قبل إجازة طرف الآخر أم لا؟
فهذه الجهة فيها جهتان: الأولى في جوازها وعدمها ظاهرا، والثانية
في جوازها وعدمها واقعا.
فقد ادعى العلامة الأنصاري عدم جوازه ظاهرا وواقعا على تقدير
عدم الإجازة بدعوى:
أن المال بواسطة المعاقدة خرجت عن موضوع جواز تصرف المالك
في ملكه، ودخل تحت أدلة حرمة التصرف فيه فلا يجوز له التصرف في
ذلك، فإن كان يجيز الآخر فيكون حراما ظاهرا وواقعا وإلا فيكون حراما
في الظاهر فقط، ولا يجري هنا أصالة عدم الإجازة لأنه إنما يجري في
فرض عدم المنع عن جريانه، والفرض أن دليل وجوب الوفاء قد جري
وأوجب ثبوت العقد وعدم جواز تصرف الأصيل في ماله، ومعه كيف
تجري أصالة عدم الإجازة.
وفيه أن موضوع وجوب الوفاء إنما هو الالتزام بالملكية لا حصول
نفس الملكية، وموضوع عدم جواز التصرف في المال تكليفا نفس
الملكية وما لم تحصل لا تشملها حرمة التصرف في مال الغير، إذن
فلا معنى لقياس عدم جواز فسخ الأصيل العقد بحرمة تصرفه في العين،
فإن موضوع كل منها غير موضوع الآخر.
والعجب منه (رحمه الله) حيث بالغ وحكم بعدم الجواز حتى مع العلم بعدم
إجازة الآخر ورده، بل لا بد وأن يرد العقد ثم يجوز للأصيل التصرف في
ماله، نعم لو تحقق الامضاء فينكشف منه أن التصرف كان حراما في
الواقع.
وهذا من عجائب الكلام، فإنه مع عدم الإجازة فبأي دليل نحكم
بحرمة تصرفه في ماله مع كون الناس مسلطون عليه.
810

وبعبارة أخرى إن قلنا أنه خرج من ملكة فنسأله من سببه، وإن قلنا إنه
لم يخرج ومع ذلك لا يجوز له أن يتصرف فيه، فهذا ليس إلا مناقضة في
مفهوم: الناس مسلطون على أموالهم، فافهم.
وبالجملة أن الثمرة ثمرة صحيحة، فإنه على النقل يجوز للأصيل أن
يتصرف في ماله وعلى القول بالكشف لا يجوز فسخه ويجوز تصرفه
ظاهرا، ثم إن تحققت الإجازة بعد ذلك فيكشف أنه كان حراما واقعا،
وعلى تقدير عدم الإجازة ينكشف أنه لم يكن حراما في الظاهر والواقع
معا، وأما على تقدير العلم بتحقق الإجازة فلا يجوز.
والعجب من المصنف حيث حكم بعدم الجواز حتى في صورة العلم
بعدم الإجازة مع أنه على هذا لم يكن منع منه بوجه لتصرفه في ماله قطعا
وعدم احتمال تصرفه في مال الغير.
والحاصل أن الكلام في جواز تصرف الأصيل في ماله قبل إجازة
الآخر، وقلنا إنه لا شبهة في جوازه مع الجهل بتحقق الإجازة مطلقا حتى
على القول بالكشف الحقيقي ولو بمعنى أخذ الإجازة معرفة لحصول
النقل من زمن العقد.
فإنه مع ذلك أيضا يشك في أنه مما يتم به النقل أو يكون معرفا لذلك
يتحقق أو لا يتحقق، فيتمسك بأصالة عدم تحقق الإجازة فيحكم بجواز
التصرفات مطلقا، فإن مقتضى جريان ذلك الأصل جواز التصرف فيه
تعبدا من دون أن يلزم التصرف في مال الغير، كما أنه في صورة العلم
بعدم الإجازة يجوز التصرف وجدانا للعلم.
وما عن المصنف من منع جواز التصرف حتى في صورة العلم بعدم
الإجازة فعجيب منه، مع أنه ليس هنا مانع بوجه حتى احتمال كونه تصرفا
في مال الغير، فلا ندري ما المانع من كونه - أي الأصيل - مسلطا على ماله،
811

فإن قوله: بعت مع العلم بعدم الإجازة، ليس إلا كاللاغي والساهي.
نعم على الكشف الحقيقي المعروف لو تصرف فيه معتمدا على أصالة
عدم الإجازة أي القطع التعبدي، أو على العلم بعدم الإجازة والقطع
الوجداني فأجاز الطرف الآخر، فيكون تصرف الأصيل في المبيع
فضوليا، فيتوقف على إجازة الطرف الذي كان العقد فضوليا من قبله
فيبطل من قبل الأصيل ولا يكون العقد عقده وإنما يكون راجعا إلى
المجيز فإن شاء أجاز وإن شاء لم يجز.
عدم جواز التمسك في عدم جواز تصرف الأصيل بآية وجوب الوفاء بالعقد
ثم ذكرنا أيضا أنه لا وجه للتمسك في عدم جواز تصرفه أي الأصيل
بآية وجوب الوفاء بالعقد، كما تمسك به شيخنا الأستاذ (1) على تقدير
كونه وجوبا تكليفيا، فإنه يرد عليه:
أولا: إن الأمر بوجوب الوفاء بالعقد ارشاد إلى تمام الالتزام وانهائه،
كما هو معنى الوفاء بالشئ لغة، فليس ذلك وجوبا تكليفيا كما هو
الظاهر.
وثانيا: إن معنى الوفاء بالعقد ليس إلا ترتيب آثار الملكية والزوجية
وغيرهما عليه، وليس معناه مجرد وجوب الالتزام بالعقد وجوبا
تكليفيا، فهو لا يحصل قبل الإجازة، فإن معنى ترتيب الآثار هو حرمة
التصرف في ذلك المال للأصيل، فلا شبهة أن أدلة حرمة التصرف إنما
تعلقت بالملك دون الالتزام بالملكية كما هو واضح.
وثالثا: مع الاغماض عن جميع والالتزام بالحرمة التكليفية فإنما
يجب الوفاء بالعقد بعد تحققه لا قبله.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 102.
812

وبعبارة أخرى أن الأحكام التكليفية إنما تكون فعلية بفعلية
موضوعها، فما لم تصر موضوعها فعلية فلا معنى لفعلية الحكم، إذن
فموضوع وجوب الوفاء إنما هو العقد، ففعلية ذلك الحكم يحتاج إلى
تمامية العقد.
فحيث إن العقد عبارة عن ارتباط التزام بالتزام وانضمامهما معا
والمعاقدة بينهما فهو لم يحصل بعد قبل إجازة المالك حتى على القول
بالكشف بجميع أقسامه، وليس ذلك مثل الهبة يتحقق التمليك بالتزام
طرف واحد، فإن حقيقتها عبارة عن التمليك المجاني وذلك يحصل
بتمليك طرف واحد والتزامه بخلاف البيع، فإن الالتزام بالتمليك فيه
مربوط بالتزام الطرف الآخر بذلك بحيث يرتبط أحد الالتزامين بالالتزام
الآخر وينضم أحدها بالآخر حتى يترتب عليه وجوب الوفاء كما
لا يخفى، فإن الأصيل لا يعلم ظاهرا أن الآخر يجيز أو لا يجيز وإن
حصل عقد واقعا.
إذن فلا معنى لوجوب الوفاء به قبل تحقق الإجازة، بل يجوز التصرف
لكل من البايع والمشتري في بيع الصرف والمشتري في الثمن في بيع
السلم قبل القبض فيهما، فإنه ما لم يحصل القبض لم يحصل الملكية
ووجوب الوفاء بالعقد إنما هو باعتبار الملتزم به أعني الملكية.
نعم في صورة العلم بأن المالك يجيز العقد لا يجوز للأصيل التصرف
في ماله بخروجه عن ملكه على القول بالكشف، ولكن لازم ذلك هو
جواز تصرفه في الثمن مثلا، فإن خروج ماله عن ملكه مع دخول مقابلة في
ملكه متلازمان.
فإن قوام البيع عبارة عن المبادلة بين المالين في طرف الإضافة،
وحقيقة الإضافة ليس إلا خروج أحد العوضين عن ملكه ودخول
813

العوض الآخر مكانه، وكذلك لا يجوز للأصيل مع جواز التصرف في ماله
أن يتصرف في مقابله لعين تلك الملازمة.
وما في المتن من أن العمل بمقتضى العقد كما توجب حرمة تصرف
الأصيل فيما انتقل عنه كذلك توجب جواز تصرفه فيما انتقل إليه،
والوجه في ذلك هو ثبوت الملازمة بينهما وجودا وعدما.
نعم في مثل النذر ونحوه، حيث إن موضوع وجوب الوفاء نفس
الالتزام فيجب الوفاء به لتمام موضوعه بنفس الالتزام بخلاف البيع مثلا،
فإن الوفاء لا بد وأن يكون بالملتزم به، أعني الملكية دون الالتزام.
عدم الفرق في جواز الفسخ بين البيع وسائر العقود
ثم إنه لا يفرق فيما ذكرنا بين أقسام العقود الفضولية نكاحا كان أو
غيره، فإنه في باب النكاح أيضا يجوز للأصيل ترتيب آثار عدم الزوجية
قبل إجازة المرأة التي كان العقد من قبلها فضولية من تزويج أمها أو
أختها، أو تزويج الخامسة لو كانت عنده زوجات ثلاثة غير الزوجة
الفضولية، إلى غير ذلك من آثار عدم الزوجية، معتمدا بأصالة عدم
الإجازة فإنها محكمة ما لم يكن دليل على خلافها.
نعم تقدم أنه لو زوج الصغير فضولة فمات فيعزل نصيب الزوجة فبعد
البلوغ عرض إليها العقد فإن أجاز مع الحلف على عدم طمعها بالمال
فيعطي بها الإرث وإلا فلا، فيعلم من ذلك عدم الاعتناء بأصالة عدم
الإجازة في باب النكاح بالملازمة.
وفيه أن مقتضى جريان أصالة عدم إجازة من كان عقد الزوجية من قبله
فضولية الزوجية هو عدم ترتيب آثار الزوجية قبل الإجازة، فيترتب عليه
عدم التوارث، فإنه مع جريان أصل السببي لا يبقي موضوع للمسبب.
814

وبعبارة أخرى أن قضية الإرث هنا وإن كان راجعا إلى المال وإلى
ورثة الوارث وليس مربوطا بالمعاملة الفضولية، ولكن حيث كان ملزوم
ذلك أعني العقد فضوليا فيجري فيه أصالة عدم الإجازة الذي هو أصل
سببي بالنسبة إلى التوارث وعدمه، فيترتب عليه نفي المسببات من
التوراث وغيره، وبذلك الملازمة فيكون التوارث هنا الذي راجع إلى
المال دون العقد الفضولي مربوطا بالمعاملة الفضولية.
ولكن حيث ورد النص الخاص في عزل نصيب الزوجة هنا،
فبالملازمة القطعية يبقى جريان أصالة عدم الإجازة وترتيب الآثار عليها،
فإن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم إلا أن ورود النص في مورد خاص
مبنيا على الاحتياط في الأموال كما تقدم، لا يوجب التعدي إلى غير
مورده والحكم بعدم جريان أصالة عدم الإجازة في باب النكاح مطلقا
فضلا عن غير باب النكاح كما لا يخفى.
وقلنا سابقا إنه ورد نظير ذلك في المرأة الحبلي حال وفاة زوجها، فإنه
يعزل نصيب ذكرين، مع أن أصالة عدم التولد أو عدم كون الولد أكثر من
واحد، أو عدم كونه ذكورا - بناء على جريان الأصل في الأعدام الأزلية،
كما هو الحق - جارية، فإن المتيقن في الصورة الأخيرة هو كون الأقل
نصيبا للولد الذي لم يولد بعد، فالزيادة التي تخرج على احتمال كونه
ذكرا ينفى بالأصل.
وبالجملة تتحصل أنه يجوز للأصيل أن يتصرف في ماله قبل إجازة
الآخر العقد مطلقا على القول بالكشف لجميع أقسامه، وعلى القول
بالنقل وعلى القول بالكشف الحكمي، فإن أصالة عدم الإجازة محكمة،
وما ذهب إليه المصنف من أصالة عدم الإجازة والتمسك بأوفوا بالعقود
في اثبات لزوم العقد، وتبعه بعض الآخر، وكذلك ما ذهب إليه شيخنا
الأستاذ من الحكم بلزوم العقد من الأصيل لا وجه له.
815

كلام في النذر وصحة التصرف في المنذور
قوله (رحمه الله): كالنذر المعلق على شرط.
أقول: تفصيل الكلام هنا أنه، سواء كان النذر متعلقا بالفعل أو
بالنتيجة، وسواء كان متعلقه أمرا اختياريا أو غير اختياري، تارة يقع
الكلام في الحكم التكليفي وأخرى في الحكم الوضعي.
الكلام في الحكم التكليفي
أما الأول، فتارة يكون متعلق النذر مطلقا من غير أن يعلقه بشئ، بأن
كان قصده حين النذر لتنجز التكليف بالوفاء عليه لأنه على وجه الاطلاق،
كما إذا نذر أن يعطي درهما للفقير مطلقا، وعلى هذا فلا اشكال في عدم
جواز اعدام المنذور.
وأخرى يكون معلقا، وعليه تارة يكون ذلك مثل الواجب المعلق،
بأن يكون النذر فعليا ومتعلقه أمرا استقباليا كما يكون الوجوب فعليا
والواجب استقباليا في الواجب المعلق، وهذا مثل الأول لفعلية
الوجوب.
وأخرى يكون مثل الواجب المشروط، بأن يكون قصد الناذر تحقق
النذر حين تحقق متعلقه، وهو على قسمين: لأنه تارة يعلم الناذر حصول
متعلق نذره فيما بعد، وأخرى لا يعلم.
فعلي الأول أيضا لا يجوز التصرف في المنذور بحيث يوجب اعدامه،
لما حققناه في محله أن تمامية ملاك التكليف في محله والعلم بتنجزه
في ظرفه موجب لحفظ القدرة لاتيانه وحفظ مقدماته وتهيئة وسائل
اتيانه، لو علم أو احتمل عجزه عنها في ظرف الاتيان، ويحرم اعدام
816

المقدمات المفوتة لذلك الملاك ولو في ظرفه، ومن هنا نقول بحفظ الماء
لحفظ نفسه في ظرف عدم التمكن منه في ذلك الظرف أو لحفظه للوضوء
لذلك، بحيث يعلم أنه لو لم يحفظه يموت بعد ساعة عطشا أو لا يجد
الماء للوضوء، وتسمي مثل هذه المقدمات بالمقدمات المفوتة.
وبالجملة وإن كان النذر معلقا مثل الواجب المشروط إلا أن العلم
بانعقاده وحصول متعلقه يوجب حفظ المنذور، لقبح تفويت ملاك
التكليف في نظر العقلاء والشارع ولو كان التكليف استقباليا، كما أن
الأمر كذلك في الواجب المشروط أيضا.
وإن لم يعلم الناذر حصول متعلق نذره، فإن كان من قصده تعلق النذر
بالابقاء كتعلقه بأصله، بحيث يكون هنا نذران بحسب الانحلال،
فلا شبهة أيضا في وجوب حفظ المنذور، كما إذا نذر بصدقة شاة على
تقدير برء مرض ابنه، ومع ذلك تعلق نذره بابقاء ذلك الشاة أيضا،
وإن لم يكن نذره متعلقا على صدقة الشاة مطلقة ولا على صدقتها على نحو
الواجب المعلق ولا على نحو الواجب المشروط بحيث يعلم بحصول
متعلقه، ولا أن يكون متعلقا بابقائه أيضا، فلا يجب الابقاء بل يجوز
اعدام موضوع النذر بحيث لا يبقى موضوعه أصلا فضلا عن أن يجب
الوفاء به بعد تحقق متعلقه.
ثم إنه لا يفرق في جميع ذلك التصور بين أن يتعلق النذر بالفعل أو
بالنتيجة، وسواء كان اختياريا أو كان غير اختياري.
الكلام في الحكم الوضعي
وأما الحكم الوضعي، أعني صحة التصرفات في المنذور، فنقول: أما
فيما يجوز التصرف واعدام موضوع النذر، كما في الصورة الأخيرة،
817

فلا شبهة في صحة التصرف ونفوذه، فلو باع فيحكم بصحته، وأما فيما
يحرم التصرف في المنذور كأكل الشاة المنذورة مثلا فأيضا يصح
التصرف في المنذور وضعا وينفذ ذلك، لأنه لا ملازمة بين حرمة
التصرف تكليفا وبين صحته وضعا.
وما يمكن أن يكون وجها في عدم صحة ذلك أمران:
1 - أنه يشترط في المبيع أن يكون طلقا فلا يصح بيع غير الطلق، وما
تعلق به النذر ليس بطلق لتعلق حق الغير به.
وفيه أنه ممنوع كبرى وصغرى، أما الصغرى فواضح، لأنه لا يكون
المال بمجرد تعلق النذر به مما يتعلق به حق الغير، ومن هنا لو اجتمع
المنذور إليهم وأسقطوا حقوقهم عن ذلك المال فلا يؤثر ذلك في
المنذور شيئا، ولا يصيره عن الحالة الأولية التي لم يتعلق به إلا الحكم
التكليفي، ولا يرتفع به الحكم الشرعي التكليفي، أعني عدم جواز
التصرف فيه، مع أن الحق امتيازه عن الحكم ليس إلا بالاسقاط، كما مر في
أول البيع، وإلا فكل حكم يصح اطلاق الحق عليه، فيعلم من ذلك أنه
لم يتعلق بالمنذور إلا الحكم التكليفي أعني حرمة التصرف فيه، وأما
الحكم الوضعي فلا، فلم يتم الصغرى.
وأما الوجه في منع الكبرى فلأنه لا دليل على اشتراط كون المبيع طلقا
بهذا العنوان، بل هو أمر منتزع من الموارد الخاصة ففي كل مورد لا ينفذ
فيه التصرف فلا يجوز بيعه ولا يصح وفي كل مورد يصح فيحكم بصحة
البيع وإلا فلم يدل دليل خاص يكون المبيع طلقا.
2 - ما اعتمد به شيخنا الأستاذ (1) من أن المنع الشرعي كالمنع العقلي،
فحيث إن التصرف في المنذور محرم شرعا فيكون ممنوعا من التصرف

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 104.
818

فيه كما كان غير مقدور تكوينا، فحيث إن المنذور لا يجوز التصرف فيه
تكليفا فيكون ممنوعا من ذلك وضعا أيضا، وبهذا استند في أن النواهي
تدل على الفساد في المعاملات، وبنى على ذلك دلالة النهي على الفساد
في باب المعاملات.
وفيه إن كان المراد من أن المنع الشرعي كالمنع العقلي المشهور بين
الناس من حيث التكليف فهو مسلم، وإن كان المراد من ذلك من حيث
الوضع فهو أول الكلام، إذ لم يدل دليل على أن ما تعلق به النهي وحكم
بحرمة التصرف فيه فهو مما لا ينفذ التصرف فيه فيحكم ببطلانه كما هو
واضح.
إذن فلا وجه لما زعمه شيخنا الأستاذ، من الحكم بعدم نفوذ التصرف
في المنذور مستندا على هذا الوجه غير الوجيه، فإنه لا ملازمة بين حرمة
التصرف تكليفا وبين حرمته وضعا، وما اعتمد عليه في دلالة النهي على
الفساد في باب المعاملات فبلا وجه.
ثمرات آخر من ثمرات الكشف والنقل
قوله (رحمه الله): ثم إن بعض المتأخرين ذكر ثمرات آخر.
أقول: ذكر الشيخ الكبير (1) ثمرات آخر على القول بالكشف أو النقل،
فنذكرها تبعا لشيخنا الأنصاري:
1 - موت الأصيل قبل الإجازة
إنه لو مات أحد طرفي العقد من البايع أو المشتري، سواء كان العقد
من قبل كليهما فضوليا أو من قبل أحدهما، فنفرض الكلام فيما لو كان

1 - شرح القواعد: 62.
819

فضوليا من جانب واحد فمات الأصيل قبل إجازة الآخر.
فحاصل ما قاله (رحمه الله) إنه لو مات الأصيل قبل الإجازة فيبطل العقد بناء
على النقل، فإنه حين تحقق الملكية غير موجود والفرض أن العقد
لم ينعقد قبل الإجازة فيبطل.
وبعبارة أخرى أن المالك الأصيل حين ما كان موجودا لم ينعقد العقد
الموجب للملكية، وحين انعقاد العقد وتمامية الملكية لم يكن موجودا،
فكيف يحكم بصحة مثل ذلك العقد، وهذا بخلافه على القول بالكشف،
فإنه يحكم بصحته فإن الملكية قد تحققت على الفرض فلم يبق في البين
إلا إجازة المجيز فهي قد حصلت، فيحكم بصحته.
وقد أورد عليه صاحب الجواهر (1) بدعوى ظهور الأدلة في اعتبار
استمرار القابلية إلى حين الإجازة على الكشف مع قطع النظر عن الإجازة،
فيكشف الإجازة عن حدوث الملك من حين العقد مستمرا إلى حين
الإجازة، ومراده أن صحة العقد الفضولي متوقفة على بقاء مالكي العقد
ومن يستند العقد إليه، ويكون العقد عقده باقيا على قابلية ذلك المعنى
وبالموت يخرجان عن ذلك القابلية، ولا يمكن استناد العقد إليه، وهذا
واضح جدا.
وأشكل عليه شيخنا الأنصاري بالنقض والحل:
أما النقض بالعقود المتعددة الواقعة على مال واحد بنحو تعاقب
الأيدي فضولا، حيث إن تلك العقود قد وقعت فضولة وقبل تحقق
الإجازة انتقل الملك إلى الآخر ولم يبق المالك مستمرا على مالكيته
وعلى تلك القابلية الأولية إلى زمان الإجازة، فيكشف من ذلك أن بقاء
المالك على قابلية المالكية إلى زمان الإجازة غير لازمة.

1 - جواهر الكلام 22: 291.
820

وفيه أن هذا عجيب من المصنف، حيث إنه فرق بين ما نحن فيه وبينما
ذكره المصنف نقضا، لأن في فرض تعاقب الأيدي المالكية مستمرة مع
قطع النظر عن الإجازة وإنما الإجازة أوجبت انقطاع مالك الثمن عن الثمن
ومالك المثمن عن المثمن، كما أن الرد يوجب انهدام العقد وبقاء كل
منهما في ملك صاحبه، وهذا بخلاف ما نحن فيه، فإنه مع قطع النظر عن
الإجازة والرد ينقطع الملك بالموت، كما أفاده الأستاذ (1)، إذن فلا ينبغي
لمثل الشيخ أن يورد له بمثل ذلك.
وثانيا بالحل، وحاصله أن بعض الأخبار المتقدمة من أدلة صحة
المعاملة الفضولية ظاهرة في صحتها حتى مع موت أحدهما الأصيل أو
من كان العقد من قبله فضوليا، كالأخبار الدالة على الاتجار بمال اليتيم
وأخبار المضاربة، حيث إنها أعم من أن يكون المالك حيا أو ميتا، مع
جريان العادة بموته في مدة مديدة يتجر العامل بالمال، ولم يستفصل
الإمام (عليه السلام) في ذلك، فيكون اطلاق تلك الأخبار شاهدا على المطلب،
وبعضها صريحة في ذلك، كالرواية (2) التي تضمن أن شخصا أوصى بالعبد
المأذون في التجارة أن يشتري عبدا فيعتقه ويحج عنه ثم ترافع كل من

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 109.
2 - عن ابن أشيم عن أبي جعفر (عليه السلام) عن عبد لقوم مأذون له في التجارة دفع إليه رجل ألف
درهم فقال: اشتر بها نسمة وأعتقها عني وحج عني بالباقي، ثم مات صاحب الألف فانطلق
العبد فاشترى أباه فأعتقه عن الميت ودفع إليه الباقي يحج عن الميت فحج عنه، وبلغ ذلك
موالي أبيه ومواليه وورثة الميت جميعا فاختصموا جميعا في الألف، فقال موالي العبد المعتق
إنما اشتريت أباك بمالنا، وقال الورثة: إنما اشتريت أباك بمالنا، وقال موالي العبد: إنما اشتريت
أباك بمالنا، فقال أبو جعفر (عليه السلام): أما الحجة فقد مضت بما فيها لا ترد، وأما المعتق فهو رد في
الرق لموالي أبيه، وأن الفريقين بعد أقاموا البينة على أنه اشترى أباه من أموالهم كان له رقا
(التهذيب 7: 234، الكافي 7: 62، عنهما الوسائل 18: 280، (ضعيفة بابن أشيم).
821

مولى المأذون والعبد المعتق والورثة في كونه من مالهم، فإنه صريحة
في المطلوب، حيث إن المالك قد مات إلى زمان إجازة مالك العبد
المأذون ذلك العقد، فيكون صريحة في المورد.
وفيه قد تقدم أن شيئا من تلك الأخبار لا تدل على صحة البيع
الفضولي، بل هي خارجة عن المقصد، بل الشيخ أيضا لم يستدل بها على
ذلك وإنما ذكرها تأييدا لمرامه، فلا يمكن الاستناد إليها في هذا المقام
أيضا.
والذي ينبغي أن يقال إنه لو كان النظر إلى الأدلة الخاصة للمعاملة
الفضولية، كرواية عروة البارقي (1) وصحيحة محمد بن قيس (2)، فلا شبهة

1 - عن عروة بن أبي الجعد البارقي قال: عرض للنبي (صلى الله عليه وآله) جلب، فأعطاني دينارا وقال:
أي عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال: فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين
بدينار فجئت أسوقهما، أو قال: أقودهما، فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار، فجئت
بالدينار، فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم، قال: كيف صنعت؟ قال: فحدثته
الحديث، فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين
ألفا قبل أن أصل إلى أهلي، وكان يشتري الجواري ويبيع (مسند أحمد 4: 376، السنن الكبرى
للبيهقي 6: 112، وفي مستدرك الوسائل 13: 245 عن ثاقب المناقب: 40، عوالي اللئالي
3: 205، الرقم: 36)، ضعيفة.
الجلب: ما جلب من خيل وإبل ومتاع إلى الأسواق للبيع.
2 - عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في وليدة باعها
ابن سيدها وأبوه غائب فاستولدها الذي اشتراها، فولدت منه غلاما، ثم جاء سيدها الأول
فخاصم سيدها الآخر فقال: وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال: الحكم أن يأخذ وليدته وابنها،
فناشده الذي اشتراها، فقال له: خذ ابنه الذي باعك الوليدة حتى ينفذ لك البيع، فلما أخذه قال
له أبوه: أرسل ابني، قال: لا والله لا أرسل إليك ابنك حتى ترسل ابني، فلما رأى ذلك سيد
الوليدة أجاز بيع ابنه (الكافي 5: 211، التهذيب 7: 74 و 7: 488، الإستبصار 3: 85، الفقيه
3: 140، عنهم الوسائل 21: 203)، صحيحة.
822

لظهورها في كون المالك المجيز أو الطرف الآخر حيا، فلا أقل من أخذ
المتيقن منها، فإنه ليس لها اطلاق يؤخذ به، فلا يكون الأدلة الخاصة
للفضولية دليلا للمقام.
إذن فالحق مع صاحب الجواهر، فإن مقتضى الاختصار بالقدر المتيقن
منها هو الكفاية منها بحال حياة الطرفين من المالكين الفضوليين أو
أحدهما فضوليا والآخر أصيلا، وإن كان النظر إلى الأدلة العامة أعني
العمومات والاطلاقات الدالة على صحة المعاملة، كقوله تعالى: أوفوا
بالعقود (1)، وأحل الله البيع (2) وغيرهما.
فلا شبهة في صحة المعاملة مع موت الأصيل أو المجيز مطلقا على
القول بالكشف وعلى القول بالنقل، وذلك أما على القول بالكشف
فواضح، لأن العقد قد تم من جميع الجهات إلا من ناحية إجازة من كان
العقد من قبله فضوليا فإذا حصلت الإجازة فلا معنى للحكم بالبطلان
لصحة العقد من جميع الجهات وعدم نقصانه من جهة.
والسر في ذلك أنه قد تقدم مرارا أن قوام المعاملة بالمبادلة بين المالين
ولا خصوصية للمالك بوجه، بحيث يكون هذا الشخص أو ذلك
الشخص، فحيث إن المبادلة والملكية قد حصلت بالعقد فلم يبق في
البين إلا الإجازة من المجيز فبها يتم جميع جهات المعاملة، غاية الأمر أنه
إلى زمان موت الأصيل كان المالك للثمن أو المثمن هو وبعد موته يكون
المالك وارثه ويقومون مقامه لكن فضولة، وتبديل المالك لا يضر بصحة
المعاملة بوجه، وكذلك انقلابه الفضولية لا يضر بالمطلب، ولزوم كون
البايع حال البيع مالكا بالمبيع غير لازم، وإن تقدم الالتزام به من التستري

1 - المائدة: 1.
2 - البقرة: 275.
823

إلا أنه بلا مدرك لامكانه في المالك المتجدد بالإرث ونحوه.
وأما على النقل، فالعقد قد وقع من المتعاقدين ويبقي إلى زمان
الإجازة معلقا في الهواء حتى يجيزه المجيز، فإذا أجاز يستند إليه العقد،
وموت الأصيل أو غيره من أحد طرفي العقد لا يضر بالعقد الواقع، فإن
الشئ لا ينقلب عما هو عليه، إذن فتشمله العمومات والمطلقات.
وبعبارة أخرى أن العقد بعد وقوعه فضولا مستجمعا لشرائط الصحة
غير جهة الإجازة ليستند إلى المجيز وتشمله العمومات، فلا يخرج عن
الجهة التي وقع عليها كما هو بديهي الوضوح، نعم لو كان الميت هو
الأصيل لصار العقد من قبل وراثه أيضا فضوليا، فتتوقف صحته على
إجازتهم أيضا كتوقفها على إجازة المجيز الآخر.
وبالجملة لا نعرف وجها صحيحا لدفع العمومات أو المطلقات عن
شمولها لهذه المعاملة، غاية الأمر أنه على الكشف ينتقل المال بموت
الأصيل إلى الورثة من حين الموت فيكون العقد فضوليا من قبله أيضا،
وعلى القول بالنقل فالعقد يكون مراعي فيكون طرف العقد هو الوارث
فضولة وبإجازته ينتقل المال عنه وينسب العقد إليه، فلا يكون هذه
الثمرة ثمرة البحث، فإنه على القول بالنقل والكشف مقتضى العمومات
والاطلاقات صحة العقد وإن لم تكن الأدلة الخاصة للفضولي جارية هنا
لعدم اطلاقها أو عمومها.
2 - عروض الكفر على أحدهما أو كليهما
الثمرة الثانية أن يعرض الكفر على أحدهما أو كليهما، سواء كان
كلاهما فضوليا أو أحدهما فضوليا والآخر أصيل، حيث ذكر الشيخ
الكبير ظهور الثمرة هنا بين القول بالكشف أو النقل.
824

وتحقيق ذلك، أن الكلام هنا تارة يقع فيما يكون المبيع عينا شخصيا،
وأخرى يكون كليا في الذمة.
فعلي الأول فالكلام فيه بعينه هو الكلام في الفرع الأول، فإنه على
القول بالكشف ينتقل الثمن أو المثمن إلى الوارث بمجرد ارتداد أحدهما
ينتقل العين الشخصية إلى الوارث، فيكون ذلك الوارث طرفا للعقد
فضولة، فيتوقف صحة العقد على إجازته أيضا، وعلى القول بالنقل
فينتقل المال أيضا إلى الوارث مع كون العقد مراعي إلى زمان الإجازة فإن
أجاز يقع وإلا فلا على النحو الذي تقدم.
وعلى الثاني فلا بد وأن يفرض الكلام في كون المبيع مسلما أو
مصحفا، فإنه على فرض كونه غير المسلم والمصحف لا يظهر ثمرة بين
القولين، إذ المرتد الفطري يملك على الأقوى وإن كان ينتقل أمواله
الموجودة بالارتداد إلى الورثة وتبين عنه الزوجة ولا يسقط عنه القتل،
ولكن كل ذلك لا يوجب عدم قابليته للتملك بالنسبة إلى الأموال التي
حصلها بعد الارتداد بالحيازة أو بالكسب بعمله أو بالمعاملة على الذمة
أو ببذل شخص آخر وغير ذلك، فإنه لا دليل لنا يدل على سقوط المرتد
الفطري عن قابلية التملك بالكلية بواسطة ارتداده، وإنما الدليل دل على
ثبوت الأمور المذكورة.
وتوهم أن تملكه غير معقول، فإن أمواله الموجودة تنتقل إلى الورثة،
وبالنسبة إلى الأموال التي تحصل بعد ذلك ينعدم الموضوع بالقتل،
ولكنه فاسد، فإنه نفرض الكلام فيما لم يكن مقتولا إما لفراره عن الحاكم
أو لعدم بسط يد الحاكم عليه أو غير ذلك كما هو واضح.
إذا عرفت ذلك فنقول: إذا كان المبيع في البيع الفضولي مسلما أو
مصحفا ثم ارتد أحدهما أي الأصيل أو الفضولي، فتظهر الثمرة حينئذ
825

بين القول بالكشف وبين القول بالنقل، فإنه على الأول فيحكم بكون
الكافر مالكا لهما، فإن الفرض أن الملكية قد حصلت من زمان العقد فحين
الارتداد كان مالكا لهما، وأما على الثاني فلا، لأنه كان مراعى إلى زمان
الإجازة وبالإجازة كانت الملكية حاصلة، والفرض أن المشتري الأصيل
مثلا ارتد وسقط عن قابلية تملك المسلم أو القرآن فيحكم ببطلان
المعاملة كما هو واضح.
وتوضيح الكلام بعبارة أخرى أن يقال: إنه لا فرق بين موت أحد
المالكين أو كلاهما وبين ارتداده إلا من بعض الجهات، فإن الارتداد
الفطري أيضا موت شرعي، وبيان ذلك أنه لو كان المبيع أو الثمن مالا
شخصيا فكما أنه بموت الأصيل ينتقل إلى الورثة فتكون الورثة طرفا
للمعاملة وهكذا في فرض الارتداد، ولا يفرق في ذلك بين القول
بالكشف أو الرد كما تقدم، غاية الأمر يكون العقد بالنسبة إلى الورثة أيضا
فضولية.
وأما لو كان دينا في الذمة فعلي القول بالكشف فأيضا يحكم بالصحة
بالإجازة ويلزم الورثة باعطاء الثمن أو المثمن، إذ التوريث بعد اخراج
الوصية والديون: من بعد وصية يوصي بها أو دين (1).
وعلى هذا أيضا لا يفرق بين الموت والارتداد الفطري، وأما على
القول بالنقل فلا يمكن الحكم بالصحة أيضا مطلقا، فإن العقد كان مراعى
إلى زمان الإجازة وزمان الإجازة هو زمان النقل والانتقال، والفرض أن
المرتد والميت في ذلك الزمان غير قابلين للتملك للارتداد والموت في
الميت مطلقا وفي المرتد إذا كان المبيع مسلما أو مصحفا، بناء على
شمول نفي السبيل في الآية بتملك الكافر المسلم أو مطلقا إذا قلنا بعدم

1 - النساء: 12.
826

مالكية المرتد وكونه قابلا لذلك، وهنا أيضا لا يفرق بين الموت
والارتداد، فإن عدم قابلية التملك مشترك بينهما.
وأما إذا قلنا بالكشف وكان الثمن العمل، لجواز جعله ثمنا في البيع
كما تقدم، فيظهر الثمرة حينئذ بين المرتد والموت، حيث إنه في صورة
الموت قد حكمنا بانتقال الثمن إلى الورثة في العين الشخصي وبلزوم
أدائهم في الدين، وأما في صورة كونه عملا يبطل العقد في صورة الموت
لعدم امكان دفعه منه إلا على احتمال انتقاله إلى القيمة، وأما هنا
فلا يبطل فإن المرتد غير قابل للتملك لا أنه غير قابل باعطاء ما ملكه
للآخر من العمل مع امكانه كما لا يخفى.
3 - انسلاخ قابلية المنقول بتلف ونحوه
الثمرة الثالثة ما انسلخت قابلية المنقول بتلف ونحوه، كما إذا كان
المبيع خلا ثم صار خمرا، وهذا يتصور على نحوين:
ألف - أن يكون ذلك قبل القبض، بأن باع الفضولي دار زيد فضولة
وقبل اقباضها الدار قد خرجت وانهدمت وخرجت عن استمرار القابلية
للتملك، فيحكم حينئذ ببطلان العقد على القول بالكشف والنقل، فإن
تلف أحد العوضين قبل القبض يوجب بطلان العقد، وهذا معنى أن
التلف قبل القبض من مال مالكه كما سيأتي، أي ينفسخ العقد بذلك لا أن
المالك يجبر بدفع الغرامة كما لا يخفى.
إذن فلا معنى للتكلم في الثمرة، فإنه مع البطلان لا تصل النوبة إلى
ذلك، بل الأمر كذلك حتى على تقدير كون طرفي العقد أصيلين، فإن
البطلان مستند إلى جهة تلف أحد العوضين قبل القبض، والبطلان من
هذه الجهة غير مربوط بجهة أخرى.
827

ب - أن يكون التلف بعد القبض، كما إذا كان المبيع قبل البيع تحت يد
المشتري بالايجار ونحوه وتلف بعد البيع، أو كان أمواله تحت يد
الوكيل في غير جهة البيع فباعها شخص آخر من الوكيل فضولة ثم تلف
المبيع قبل الإجازة، فإنه حينئذ لا شبهة في ظهور الثمرة بين القولين، فإنه
على القول بالكشف يكون التلف من الذي انتقل إليه المال فبالإجازة
يكشف تلفه منه، وأما على القول بالنقل فيحكم بالبطلان، فإنه زمان
العقد لم يحصل النقل على الفرض وفي زمان الإجازة قد انعدم المال
فلا يكون المعدوم قابلا للانتقال إلى المنقول إليه بالإجازة، كما لا يصح
ذلك ابتداء.
ومن هنا ظهر أن ما أشكل به شيخنا الأستاذ (1) وغيره من رد هذه الثمرة
على اطلاقه غير تمام، إذ عرفت الفرق بين كون التلف قبل القبض أو
بعده، ولعل نظر هؤلاء الأعاظم إلى صورة كون التلف قبل القبض ولكنه
غير مختص بالمعاملة الفضولية كما عرفت.
قوله (رحمه الله): أو عروض نجاسة له مع ميعانه.
أقول: نحتمل أن هذا صدر من سهو القلم، فإنه بناء على مانعية
النجاسة وتسرية مانعيتها إلى المتنجس أيضا فهي إنما تمنع عن التمليك
والبيع، ولا يوجب سقوط المتنجس الغير القابل للتطهر كالدهن ونحوه
عن الملكية، فإن كلامنا في سقوط المنقول عن قابلية الملكية عن قابلية
التمليك والبيع، ومن هنا لا يوجب التنجس سقوط المتنجس عن
الملكية ولذا يضمنه المتلف، نعم يقع ذلك لو كان خلا وصار خمرا.
نعم لو كان مراده من ذلك تعميم سقوط القابلية إلى الشروط بالمثال،
بأن كان مراده أنه تارة يكون المنقول عنه أو المنقول إليه ساقطا عن قابلية

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 108.
828

التملك كما تقدم، وأخرى يكون المنقول عنه خارجا عن تلك القابلية
كما إذا تلف أو كان خلا وصار خمرا، وثالثة تسقط عن قابلية استيفاء
المنقول بالشروط، فإنه بناء على مانعية النجاسة عن التمليك والبيع
فيكون المبيع بعروض النجاسة الغير القابلة للتطهر خارجا عن تلك
القابلية، أي قابلية التمليك والتملك بالبيع والشري، وعلى هذا فلا يرد
عليه شئ.
كلام صاحب الجواهر (رحمه الله) في اعتبار بقاء القابلية لكل من المنقول عنه
والمنقول إليه والمنقول، والمناقشة فيه
ثم إن هنا كلاما لصاحب الجواهر (1) كما عرفت، حيث إنه اعتبر بقاء
القابلية لكل من المنقول عنه والمنقول إليه والمنقول، وحكم ببطلان
العقد بخروج واحد منها عن القابلية وبعدم استمرارها إلى زمان الإجازة
لكونها على خلاف مقتضى أدلة صحة الفضولي، فإن المتيقن منها صورة
بقاء قابلية تلك الأمور واستمرارها إلى زمان الإجازة كما هو واضح.
وقد أجبنا عن ذلك بأنه إن كان نظره في أخذ المتيقن إلى الأدلة
الخاصة لصحة الفضولي، فهو كما أفاده، فإنه ليس لها اطلاق يؤخذ به
ويحكم بمقتضاه، وإن كان نظره إلى العمومات والاطلاقات الدالة على
صحة الفضولي فهو ممنوع، إذ لا وجه لمنع تلك الاطلاقات بوجه.
وقد أجاب عنه شيخنا الأنصاري (رحمه الله) بوجوه:
1 - بالنقض بالعقود المتتابعة، وفيه ما تقدم من أن الناقل فيها الإجازة،
وتفصيله في تقرير بحث شيخنا الأستاذ (2).

1 - جواهر الكلام 22: 293.
2 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 109.
829

2 - بالروايات الظاهرة في ذلك، وقد قلنا إن المراد منها روايات
التجارة بمال المضاربة ومال اليتيم (1)، حيث لم يستفصل فيها بين موت
المالك وحياته مع أن العادة جرت بموت المالك في مدة طويلة غاب
عنه العامل.
وفيه أن تلك الروايات وإن كانت ظاهرة في ذلك وظهورها فيما أفاده
مما لا ينكر، إلا أنها لم تتم دلالتها على المقصد، وليس فيها ما يستفاد
منها صحة بيع الفضولي.
3 - أشكل عليه بصراحة بعض الروايات الأخرى في ذلك، وأنه لا فرق
في صحة البيع الفضولي بين موت أحد طرفي المعاملة من المالكين
وعدمه.
وفيه لم نجد في الروايات المتقدمة ما يكون صريحا في ذلك إلا رواية

1 - عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في مال اليتيم، قال: العامل به ضامن
ولليتيم الربح إذا لم يكن للعامل مال، وقال: إن عطب أداه (الكافي 5: 131، التهذيب 6: 342،
عنهما الوسائل 17: 257)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في الرجل يعطي الرجل المال فيقول له: ائت
أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها، قال: فإن جاوزها وهلك المال فهو ضامن، وإن
اشترى متاعا فوضع فيه فهو عليه وإن ربح فهو بينهما (الكافي 5: 240، التهذيب 7: 189، عنهما
الوسائل 19: 15)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يعطي المال مضاربة وينهي
أن يخرج به فخرج، قال: يضمن المال والربح بينهما (الكافي 5: 240، التهذيب 7: 189، عنهما
الوسائل 19: 15)، صحيحة.
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الرجل يعطي الرجل مالا مضاربة وينهاه أن يخرج
به إلى أرض أخرى فعصاه، فقال: هو له ضامن والربح بينهما إذا خالف شرطه وعصاه (
التهذيب 7: 187، عنه الوسائل 19: 18)، موثقة بوهيب وابن سماعة.
830

علي بن أشيم (1) المتضمنة لشراء العبد المأذون في التجارة وعتقه وارساله
الحج مع موت المالك قبل إجازة مالك العبد فعل عبده، إلا أنها غير
مربوط بالمقام، حيث إن المشتري إنما كان هو الوكيل من قبل المالك
ولم يكن فضوليا حتى يكون دليلا على المقام، ومن هنا منعنا دلالتها
على صحة المعاملة الفضولية.
4 - بما يدل على صحة نكاح الصغيرين مع موت الآخر، حيث يرث
الحي من الميت مع الحلف كما تقدم (2)، وحيث إن الزوجين في النكاح
بمنزلة المالين في البيع في الركنية، فإذا صح العقد فيما يكون من أهم
الأمور أعني النكاح، فإنه من الأعراض والفروج وأهميتها عند الشارع
معلوم، فيكون غير الأهم صحيحا بطريق أولى فيكون الاستدلال
بالفحوى.
وفيه على تقدير صحة الاستدلال بها فيما تقدم على صحة المعاملة
الفضولية بالفحوى والأولوية، بدعوى أنه إذا قلنا بصحة الفضولية فيما
فيه وطئ مع كونه من أهم الأمور فيما ليس من الفروج نحكم بالصحة
بالأولوية.
وأغمضنا النظر عما قلناه من منع الاستدلال بذلك، إلا أنه لا يمكن
التمسك بها في المقام، حيث إن الرواية تعرضت في صورة موت أحد

1 - مر ذكرها قبيل هذا، فراجع.
2 - عن أبي عبيدة الحذاء قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن غلام وجارية زوجهما وليان لهما
يعني غير الأب وهما غير مدركين؟ فقال: النكاح جائز، وأيهما أدرك كان على الخيار، وإن
ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهرا - إلى أن قال: - فإن كان الرجل الذي قبل الجارية
ورضي بالنكاح ثم مات قبل أن تدرك الجارية أترثه؟ قال: نعم، يعزل ميراثها منه حتى تدرك
فتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلا الرضا بالتزويج، ثم يدفع إليها الميراث ونصف المهر
- الحديث (الكافي 5: 401، عنه الوسائل 21: 326)، حسنة بإبراهيم بن هاشم.
831

الزوجين بقضية الإرث، وليس فيه وطئ حتى يتوهم صحة غير النكاح
بفحوى ذلك، بل هو أيضا من قبيل الأموال.
إذن فلا يمكن التعدي منها إلى غير موردها بالفحوى كما هو واضح،
بل ليس التعدي إلا قياسا، ونحن لا نقول بذلك، مضافا إلى منع دلالتها
بصحة المعاملة الفضولية في غير مورد النكاح بالفحوى كما تقدم.
5 - إنه قد استدل على عدم اشتراط القابلية في المنقول برواية عروة
البارقي، حيث إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يستفصل بين موت الشاة وبقائها
عند الإجازة بل أجاز البيع بقوله: بارك الله في صفقة يمينك.
وفيه أولا: إن عدم الاستفصال لأجل الاطمينان ببقاء الشاة وعدم
موتها.
وثانيا: وجود الاستصحاب هنا الحاكم على بقاء الشاة، وأما ذبحها
فمع العلم بها لا يضر أيضا، فإن الذبح لا يخرج الشاة عن المالية وعن
استمرار تلك القابلية، غاية الأمر كانت المالية قبل الذبح قائمة بالشاة
وبالذبح كانت قائمة باللحم كما هو واضح، وكلامنا فيما يكون المنقول
خارجا عن تلك القابلية المالية.
تجدد القابلية بعد العقد قبل الإجازة
ثم إنه يقع الكلام في عكس تلك الفروض المتقدمة، بأن كان العاقد أو
العوضين أو المالكين غير قابلين في حال العقد للعاقدية والمالكية
والعوضية، فصار قابلا بعد العقد وقبل الإجازة، وقد حكم الشيخ (رحمه الله)
بالبطلان في جميع الصور مطلقا، ولكن الظاهر أن نفصل في الشروط.
وتوضيح ذلك:
إن الشرط تارة يكون شرطا للعاقد، كما إذا اعتبرنا كونه بالغا وحكمنا
832

ببطلان عقد الصبي، وعممنا قوله (عليه السلام): عمد الصبي خطأ (1)، إلى غير
ذلك أيضا، فيكون عقد الصبي باطلا ولا ينعقد من الأول، فإنه يشترط في
تحققه وصدوره حين الصدور أن يصدر من البالغ، وعلى هذا فلو صدر
العقد من الصبي ثم صار بالغا لا يمكن الحكم بصحة مثل هذا العقد، فإنه
كان حيث صدوره باطلا لفقدانه للشرائط ثم صار واجدا لها، فوجدانها
بعد تحققه باطلا لا يقلب الباطل إلى الصحيح، فإن الشئ لا ينقلب عما
هو عليه.
وأخرى يكون الشرط شرطا لنفس العقد وذاته، كعدم كون العقد
غرريا، حيث إنه شرط لنفس العقد وذاته مشروط بأن لا يكون فيه غرر من
الأول وإلا فيبطل من الأول ولا يتحقق صحيحا، وعلى هذا لو تحقق
العقد حين وقوعه غرريا ثم ارتفع الغرر قبل الإجازة فلا يمكن الحكم
بذلك أيضا بصحة العقد المتحقق حين وقوعه غرريا، لما تقدم من أن
وجدان الشرائط بعد تحققه باطلا للفقدان لا يقلب الباطل إلى الصحة،
والشئ لا ينقلب عما هو عليه، ولا يفرق في ذلك أيضا بين النقل
والكشف.
وثالثة يكون الشرط راجعا إلى المال، وهذا على قسمين: فإنه تارة
يكون انعدامه موجبا لانعدام المالية، وأخرى لا يكون.
أما الأول، كاشتراط عدم كون المبيع خمرا أو اشتراط وجود الثمرة
وبدو صلاحها في بيع الأثمار، فإنه يلزم من انتفائهما انتفاء المالية، مثلا
لو باع خمرا من شخص فضولة وانقلب الخمر إلى الخل بين زماني العقد
والإجازة فانتفاء ذلك الشرط حين العقد يوجب بطلانه على النقل

1 - عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: عمد الصبي وخطأه واحد (التهذيب
10: 233، عنه الوسائل 29: 400)، صحيحة.
833

والكشف، فإن في الزمان الذي وقع عليه العقد لم يكن مالا وقابلا للبيع،
أما لاعتبار المالية وأما للنص، وفي الزمان الذي كان مالا وواجدا لأن يكون مبيعا لم يقع عليه العقد.
وبعبارة أخرى أن العقد وقع عليه في الزمان الذي الغي الشارع ماليته
وقابلية كونه مبيعا، وبطلان العقد عليه حين صدوره بمقتضى: ثمن
الخمر سحت (1)، وما يكون حين صدور البيع ووقوع العقد عليه غير قابل
لذلك بل أوجب بطلان العقد الواقع عليه ثم صار قابلا لذلك لا يوجب
صحة العقد، فإنه حين زمان صدور العقد أوجب بطلانه وفي زمان
لا يوجب بطلان العقد لم يقع عليه عقد.
وهكذا الكلام في بيع الثمرة قبل الظهور والانعقاد، فإنه أيضا لو باعه
أحد من شخص فضولة حين كونه زهرة ثم صار ثمرة لا يكون ذلك البيع
صحيحا، إما لاعتبار المالية أو للنص، فإنه حينما وقع عليه العقد لم يكن
مالا وقابلا لأن يقع عليه العقد بل كان يوجب بطلانه وحين كونه قابلا
وغير موجب لبطلان العقد عليه لم يقع عليه عقد كما هو واضح، وهكذا
الكلام في جميع الموارد التي يكون الشرط من هذا القبيل، ولا يفرق في
ذلك كله بين القول بالنقل والكشف بل الأمر كذلك لو وقع العقد عليه من
الأصيلين والفضولي لا يزيد على الأصيل.
وأما الثاني، فهو ما يرجع الشرط إلى المال مع الحفاظ المالية في
صورتي الفقدان والوجدان، وكون الشرط راجعا إلى جهة الأوصاف
الكمالية دون ما يقوم بها المالية.
وهذا كالمثال المتقدم من المايع المتنجس، فإذا وقع على المايع

1 - عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن
الخمر - الحديث (الكافي 5: 126، التهذيب 6: 368، عنهما الوسائل 17: 93)، موثقة.
834

الطاهر عقد فضولا وبين العقد والإجازة عرضت له النجاسة، فإنه بناء
على مانعية النجاسة عن البيع بمقتضى رواية تحف العقول: أو شئ من
وجوه النجس (1)، أو اشتراط الطهارة في المبيع، لا يكون هذا المايع
الذي وقع عليه العقد واجدا لشرائط البيع، وإذا طهر قبل الإجازة
فالظاهر هو صحته على القول بالنقل، إذ حين وقوع العقد على هذا المال
كان مالا، وغير ذلك المال مما وقع عليه الإجازة.
غاية الأمر كان حين العقد فاقدا للشرط وحين الإجازة واجد له ولكن
المالية مالية وحدانية محفوظة في ذلك المال من البدو إلى زمان الإجازة،
ولم يرده الشارع ولا العرف ما وقع عليه العقد مغايرا لما وقع عليه
الإجازة.
وهذا بخلاف مثل الخمر، فإن ما وقع عليه العقد مغائر لما يرد عليه
الامضاء في نظر الشارع بل في نظر العرف في بعض الموارد، وما وقع
عليه العقد ليس بمال في نظر الشارع، وما يرد عليه الإذن مال في نظره
فكيف يتحدان ويحكم بالصحة.
وهكذا العين الموقوفة لأشخاص خاصة، فإنه لا يجوز بيعها إلا في
الموارد المخصوصة، فإذا باعها شخص فضولة ثم عرض لها ما يجوز
بيعها كالخلف بين أربابها، فإنه لا مانع من الحكم بصحة مثل هذا البيع
لعدم ما يوجب بطلانه، وأن ما وقع عليه العقد غير ما وقع عليه الامضاء،
غاية الأمر كان حين وقوع العقد عليه فاقدا لشرط من شرائط البيع وحين
الامضاء واجد لذلك، وهكذا الكلام في بيع أم الولد ثم مات ولده.
والوجه في صحة العقد في أمثال ذلك، أن العقد قد تحقق واستند إلى
من له العقد بالإجازة، فيشمله دليل صحة البيع عموما واطلاقا.

1 - تحف العقول: 331، عنه البحار 103: 45.
835

لا يقال: إنه حين وقوع العقد على أمثال ذلك كان البيع فاقدا لذلك
الشرط فيكون باطلا، وما يكون موجودا عند الإجازة لا يوجب انقلاب
الفاسد إلى الصحيح، كما تقدم في الشروط الراجعة إلى العاقد ونفس
العقد وما يكون به المالية كما لا يخفى.
فإنه يقال: كلامنا على طريقة النقل ولا يصدق البيع على ذلك العقد إلا
حين الإجازة، فإنه زمان النقل والانتقال، وفي ذلك الوقت فالعقد واجد
لجميع الشرائط، وأوضح من جميع ذلك ما يكون الشرط راجعا إلى
المالكين، كما إذا باع العبد المسلم أو المصحف من الكافر فضولة ثم
أسلم الكافر بل صار بعد ذلك من الزهاد قبل أن يتحقق الإجازة، فإنه
لا وجه حينئذ للحكم ببطلان العقد.
والسر فيه ما كررناه مرارا من أن حقيقة البيع هو التبديل بين المالين
وخصوصية المالك ملغاة في ذلك، بل اللازم وجود طبيعي المالك،
وهو أيضا لا من جهة الموضوعية بل يكون مقدمة للتبديل بين المالين
وقنطرة لذلك، فإن التبديل في جهة الإضافة، أي الإضافة الملكية،
لا يكون إلا في ملك مالك.
بل الأمر كذلك حتى على القول بالكشف، فإنه سيأتي من المصنف أن
معنى الكشف ليس كشف حصول الملكية ونحوها من زمان العقد
بالإجازة المتأخرة، بل معناه هو الكشف عن تحقق النقل قبل زمان
الإجازة ولو كان بعد تحقق العقد.
وعلى ذلك فلا مانع من الالتزام بالصحة في تلك الموارد على القول
بالكشف أيضا، فإن بالإجازة نكشف عن تحقق الملكية في بيع الوقف
والمايع المتنجس وبيع العبد المسلم من الكافر، من زمان تحقق النزاع
بين أرباب الوقف وعروض الطهارة للمايع واسلام المشتري الكافر،
836

فتشمل العمومات والاطلاقات على ذلك، وإن لم تشمل عليها الأدلة
الخاصة لعدم اطلاقها في صورتي تجدد الشروط بعد العقد ووجودها
بعد العقد، وبالجملة لا مانع من التمسك بالعمومات في تلك الموارد.
إذن فحكم المصنف بالفساد مطلقا في صورة تجدد الشرط بعد العقد
وقبل الإجازة بلا وجه، نعم الأدلة الخاصة للفضولي لا تجري في المقام،
فإنه ليس فيها تعرض لصورة تجدد الشروط بعد العقد وقبل الإجازة،
ولا أن في مورد أحد هذه الأدلة ذلك المعنى موجود، إذن فلا اطلاق لها
نتمسك به هذا.
ظهور الثمرة في تعلق الخيارات
قوله (رحمه الله): وربما يقال بظهور الثمرة في تعلق الخيارات.
أقول: إما ظهور الثمرة بين القول بالكشف أو النقل في خيار الحيوان،
فالظاهر أنه لا اشكال فيه، فإنه على القول بالكشف فيكون الخيار
للمشتري من الأول، وعلى النقل من حين الإجازة فإنه يصدق من حين
العقد على الكشف أن المشتري صاحب الحيوان، فيشمله قوله (عليه السلام):
صاحب الحيوان المشتري أو المشتري بالخيار إلى ثلاثة أيام (1).
وأما خيار العيب، فالظاهر أيضا أنه على الكشف يثبت من الأول

1 - عن الحسن بن علي بن فضال قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)
يقول: صاحب الحيوان المشتري بالخيار بثلاثة أيام (التهذيب 7: 67، عنه الوسائل 18: 10)،
موثقة.
عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في الحيوان كله شرط ثلاثة أيام للمشتري، وهو
بالخيار فيها أن شرط أو لم يشترط (التهذيب 7: 24، الفقيه 3: 126، عنهما الوسائل 18: 10)،
صحيحة.
837

وعلى النقل من حين الإجازة، فإن دليل ثبوته سواء كان هو الشرط في
ضمن العقد أو غير ذلك شامل عليه من الأول على الكشف لتمامية
المعاملة على الفرض وإن وقف على الإجازة بخلافه على النقل، فإن
الفرض أنه لم يحصل النقل والانتقال حتى يشترط في ضمنه الخيار
ويكون للمشتري أو للبايع خيار الحيوان، ونتيجة ثبوت الخيار له من
الأول أنه لو فسخ بالخيار لا بالرد يكون النماءات قبل الفسخ له، لأن
الفسخ رفع الأمر الثابت وقطعه بخلاف الرد فإنه دفع ومانع عن تحققه من
الأول.
وأما خيار المجلس، فاحتمل شيخنا الأستاذ (1) عدم ثبوته على النقل
والكشف، ولا نعرف له وجها صحيحا، والذي ينبغي أن يقال إنه إنما
يثبت على النقل والكشف مطلقا.
أما على الكشف فمن حين العقد لصدق البيع على طرفي العقد، سواء
كان كلاهما فضوليا أو أحدهما أصيلا والآخر فضوليا، لفرض تمامية
المعاملة من جميع الجهات إلا من ناحية الرضا، فهو يحصل بعد ذلك
على الفرض، فعدمه عند العقد لا يمنع عن صدق عنوان البيع.
وأما على النقل فمن حين الإجازة، فإن الفضوليين ليسا إلا مجرد
العقد، فلا يصدق عليها البيع ليتوهم ثبوت الخيار لهما، وأما المالكين
فالفرض أن الملكية إنما تحصل لهما بعد الإجازة وقبلها لم يحصل النقل
والانتقال فلا بد وأن يثبت من حين الإجازة، لأن زمانها زمان انتساب
العقد إليهما وصدق البيع عليهما كما هو واضح، فيكون المناط
افتراقهما عن مجلس الإجازة ولو كان بعيدا غايته، فينجزان العقد
بالتلفون مثلا، فإن لفظ المجلس لم يرد في رواية ليؤخذ بمفهومه.

1 - حاشية المحقق النائيني (رحمه الله) على المكاسب 2: 120.
838

ظهور الثمرة في حق الشفعة
وأما حق الشفعة فهو ثابت لأحد الشركين من جهة دفع الضرر، ما إذا
باع أحد حصة أحد الشركين للأجنبي فضولة ثم باع الشريك الآخر
حصته من شخص آخر أصالة.
فعلى القول بالكشف فحيث إن المشتري الأول ملك العين قبل
المشتري الثاني فيثبت حق الشفعة له ويأخذ الحصة الآخر من المشتري
الثاني بالشفعة.
وأما القول بالنقل فحق الشفعة للمشتري الثاني إذ الإجازة بعد البيع
الثاني، والفرض أن زمان تحقق البيع والمعاملة واستنادهما إلى المالك
عند حصول النقل والانتقال هو زمان ثبوت حق الشفعة، فهو مسبوق
بحق الشفعة للمشتري الثاني.
وربما يقال بظهور الثمرة في صورة تعاقب الأيدي، وسيأتي تعرض
المصنف بذلك تفصيلا، ونتعرض به نحن أيضا.
ظهور الثمرة في تعلق النذور والأخماس والزكوات
وأما ظهور الثمرة في تعلق النذور والأخماس والزكوات عليه،
فالظاهر أن يفصل بينها، لأنها إن كانت متعلقة بالملك من حيث هو ملك
مع قطع النظر عن الجهات الخارجية، كالنذر والحلف والخمس ونحو
ذلك، فلا اشكال في ثبوتها من الأول وتعلقها عليه على القول بالكشف
دون النقل، وإن كان مما يتعلق بالملك مع لحاظ جهة أخرى كالزكوات،
حيث إنها تعلقت بالملك مع لحاظ جواز التصرف في المال وإلا
فلا يتعلق عليه.
839

إذن لا تجب الزكاة على القول بالكشف لا على البايع ولا على
المشتري، أما البايع فلأنه قد خرج المال عن ملكه قبل تعلق الزكاة عليه
فما ليس ملكه لا يجب فيه الزكاة، وأما المشتري فلأنه وإن كان المال
ملكا له ولكنه لا يجوز له التصرف قبل الإجازة، وشرط تعلق الزكوات
جواز التصرف في المال، وأما على القول بالنقل يتعلق الزكاة على
المالك ليس إلا، كما هو واضح.
840