الكتاب: الينابيع الفقهية
المؤلف: علي أصغر مرواريد
الجزء: ١١
الوفاة: معاصر
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٠ - ١٩٩٠ م
المطبعة:
الناشر: دار التراث - بيروت - لبنان / الدار الإسلامية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل الزمني وعلى تحقيقها وإخراجها وعمل قواميسها علي أصغر مرواريد

الينابيع الفقهية
القضاء والشهادات
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1410 ه‍. 1990 م
دار التراث = الدار الاسلامية
بيروت.
سلسلة الينابيع الفقهية
القضا والشهادات
أشرف على جمع أصولها الخطية وترتيبها حسب التسلسل
الزمنى وعلى تحقيقها واخراجها وعمل قواميسها
على أصغر مرواريد
1

القضاء والشهادات
فقه الرضا
المنسوب
للإمام علي بن موسى الرضا ع
153 - 202 ه‍ ق
2

باب القضاء والأحكام واعلم أن القضاة أربعة: قاض يقضي بالباطل وهو يعلم أنه باطل فهو في النار،
وقاض يقضي بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل فهو في النار، وقاض قضى بالحق وهو لا
يعلم أنه حق فهو في النار، وقاض قضى بالحق وهو يعلم أنه حق فهو في الجنة، فاجتنب
القضاء فإنك لا تقيم به.
واعلم أنه يجب عليك أن تساوى بين الخصمين حتى النظر إليهما حتى لا يكون
نظرك إلى أحدهما أكثر من نظرك إلى الثاني، فإذا تحاكمت إلى حاكم فانظر أن تكون
على يمين خصمك، وإذا تحاكم خصمان فادعى كل واحد منهما على صاحبه دعوى
فالذي يدعي بالدعوى أحق من صاحبه أن يسمع منه، فإذا ادعيا جميعا فالدعوى للذي
على يمين خصمه.
واعلم أن الحكم في الدعاوي كلها أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه،
فإن نكل عن اليمين لزمه الحكم، فإن رد المدعى عليه اليمين على المدعي إذا لم يكن
للمدعي شاهدان فلم يحلف فلا حق له إلا في الحدود فلا يمين فيها وفي الدم فلأن البينة على المدعي
عليه واليمين على المدعي لئلا يبطل دم امرئ مسلم.
واعلم أنه لا يجوز شهادة شارب الخمر ولا اللاعب بالشطرنج والنرد ولا مقامر ولا
متهم ولا تابع لمتبوع ولا أجير لصاحبه ولا امرأة لزوجها ولا المشهور بالفسق والفجور ولا
المرابي.
3

ويجوز شهادة الرجل لامرأته وشهادة الولد لوالده ويجوز شهادة الوالد على ولده ويجوز
شهادة الأعمى إذا أثبت، وشهادة العبد لغير صاحبه، ولا يجوز شهادة المفتري حتى
يتوب من الفرية وتوبته أن يوقف في الموضع الذي قال فيه ما قال يكذب نفسه.
ولا يجوز شهادة على شهادة في الحدود ولا يجوز شهادة الرجل لشريكه إلا فيما لا
يعود نفعه عليه، فإذا شهد رجل على شهادة رجل فإن شهادته تقبل وهي نصف شهادة،
وإذا شهد رجلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد، فإن كان الذي يشهد
عليه معه في مصره ولو أنهما حضرا فشهد أحدهما على شهادة الآخر وأنكر صاحبه أن
يكون أشهده على شهادته فإنه يقبل قول أعدلهما.
وإذا دعي رجل ليشهد على رجل فليس له أن يمتنع من الشهادة عليه من قوله: ولا
يأب الشهداء إذا ما دعوا، فإذا أراد صاحبه أن يشهد له بما أشهد فلا يمتنع لقوله:
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
وإذا أتى الرجل بكتاب فيه خطه وعلامته ولم يذكر الشهادة فلا يشهد لأن الخط
يتشابه إلا أن يكون صاحبه ثقة ومعه شاهد آخر ثقة فيشهد له حينئذ.
وإذا ادعى رجل على رجل عقارا أو حيوانا أو غيره وأقام بذلك بينة وأقام الذي في
يده شاهدين فإن الحكم فيه أن يخرج الشئ من يد مالكه إلى المدعي لأن البينة عليه،
فإن لم يكن الملك في يد واحد وادعى فيه الخصمان جميعا فكل من أقام عليه شاهدين
فهو أحق به، فإن أقام كل واحد منهما شاهدين فإن أحق المدعيين من عدل شاهداه،
فإن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهودا يحلف بالله ويدفع إليه الشئ.
وكل ما لا يتهيأ فيه الإشهاد عليه فإن الحق فيه أن يستعمل فيه القرعة، وقد روي
عن أبي عبد الله ع أنه قال: فأي قضية أعدل من القرعة؟ إذا فوض الأمر إلى
الله لقوله تعالى: فساهم فكان من المدحضين.
ولو أن رجلين اشتريا الجارية وواقعاها جميعا فاتت بولد لكان الحكم فيه أن يقرع
بينهما، فمن أصابته القرعة ألحق به الولد ويغرم نصف قيمة الجارية لصاحبه وعلى كل
واحد منهما نصف الحد.
4

وإن كانوا ثلاثة نفر وواقعوا جارية على الانفراد بعد أن اشتراها الأول وواقعها، ثم
اشتراها الثاني وواقعها، واشتراها الثالث وواقعها، كل ذلك في طهر واحد فاتت بولد
لكان الحق أن يلحق الولد بالذي عنده الجارية لقول رسول الله
ص: الولد للفراش وللعاهر الحجر، هذا فيما لا يخرج في النظر وليس فيه إلا التسليم.
وتقبل شهادة النساء في النكاح والدين وفي كل ما يتهيأ للرجال أن ينظروا إليه ولا
يقبل في الطلاق ولا في رؤية الهلال ويقبل في الحدود.
وإذا شهد امرأتان وثلاثة رجال فلا تقبل شهادتهن إذا كن أربع نسوة ورجلين، و
لا تقبل شهادة الشهود في الزنى إلا شهادة العدول، فإن شهد أربعة بالزنى ولم يعدلوا
ضربوا بالسوط حد المفتري، إن شهد ثلاثة عدول وقالوا: الآن يأتيكم الرابع، كان
عليهم حد المفتري إلا أن يشهد أربعة عدول في موقف واحد.
فإن شهد أربعة عدول على رجل بالزنى أو شهد رجلان على رجل بقتل رجل أو سرقة
فرجم الذي شهدوا عليه بالزنى وقتل الذي شهدوا عليه بالقتل وقطع الذي شهدوا عليه
بالسرقة، ثم رجعا عن شهادتهما وقالا: غلطنا في هذا الذي شهدنا عليه، وأتيا برجل
وقالا: هذا الذي قتل وهذا الذي سرق وهذا الذي زنى، قال: يجب عليهما دية المقتول
الذي قتل ودية يد الذي قطع بشهادتهما ولم تقبل شهادتهما على الثاني الذي شهدوا
عليه، فإن قالوا: تعمدنا، قطعا في السرقة، وكل من شهد شهادة الزور في مال أو قتل
لزمه دية المقتول ورد المال بشهادتهما ولم تقبل شهادتهما بعد ذلك وعقوبتهما في الآخرة
النار استحقاها من قبل أن تزول أقدامهما.
باب الشهادات:
ونروي: أنه من ولد على الفطرة ولم يعرف منه جرم فهو عدل وشهادته جائزة.
فأروي عن العالم ع أنه قال: من كتم شهادته أو شهد إثما ليهدر دم
رجل مسلم أو ليتوي ماله أتى يوم القيامة ولوجهه ظلمة مد البصر وفي وجهه كدوح يعرفه
الخلائق باسمه ونسبه ومن شهد شهادة حق ليخرج بها حقا لامرئ مسلم أو ليحقن بها
5

دمه أتى يوم القيامة ولوجهه نور مد البصر يعرفه الخلائق باسمه ونسبه.
وأروي عن العالم ع أنه قال: من شهد على مؤمن بما يثلمه أو يثلم ماله أو
مروءته سماه الله كاذبا وإن كان صادقا، وإن شهد له بما يحيي ماله أو يعينه به على
عدوه أو يحقن دمه سماه الله صادقا وإن كان كاذبا، ومعنى ذلك أن يشهد له ويشهد
عليه فيما بينه وبين مخالف فأما بينه وبين موافق فليشهد له وعليه بالحق.
وأروي عن العالم ع أنه قال: لا يجوز شهادة ظنين وحاسد ولا باع ولا
متهم ولا خصم ولا متهتك ولا مشهور.
وبلغني عن العالم ع أنه قال: إذا كان لأخيك المؤمن على رجل حق
فدفعه عنه ولم يكن له من البينة إلا واحدة وكان الشاهد ثقة فسألته عن شهادته فإذا
أقامها عندك شهدت معه عند الحاكم على مثال ما شهد لئلا يتوى حق امرئ مسلم.
ولا يجوز شهادة النساء في طلاق ولا رؤية هلال ولا حدود ويجوز في الديون وما لا
يستطيع الرجل أن ينظر إليه، أروي عن العالم ع: أنه يجوز في الدم والقسامة
والتدبير.
وروي: أنه يجوز شهادة امرأتين في استهلال الصبي.
ونروي: أنه يجوز شهادة القابلة وحدها.
ونروي: أنه لا يجوز شهادة عراف ولا كاهن ويجوز شهادة المسلمين في جميع أهل
الملل ولا يجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين.
6

المقنع
في الفقه
للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي
الملقب بالصدوق المتوفى 381 ه‍ ق
7

باب القضايا والأحكام
إياك والقضاء فاجتنبه فإن القضاء أشد المنازل من الدين ولا يفي به إلا نبي أو
وصي نبي، وقال أمير المؤمنين ع لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا ما جلسه
إلا نبي أو وصي نبي أو شقي.
واعلم أن القضاة أربعة: قاض قضى بالباطل وهو يعلم أنه باطل فهو في النار،
وقاض قضى بالباطل وهو لا يعلم أنه باطل فهو في النار، وقاض قضى بالحق وهو لا يعلم
أنه حق فهو في النار، وقاض قضى بالحق وهو يعلم أنه حق فهو في الجنة.
واعلم أن من جلس للقضاء فإن أصاب الحق في الحكم فبالحري أن يسلم، وإن
أخطأ أخطأ طريق الجنة.
واعلم أن الحكم في الدعاوي كلها أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه،
فإن نكل عن اليمين لزمه الحق، فإن رد المدعى عليه اليمين على المدعي إذا لم يكن
للمدعي شاهدان فلم يحلف فلا حق له إلا في الحدود فلا يمين فيها، وفي الدم فإن البينة على المدعي
عليه واليمين على المدعي، لئلا يبطل دم امرئ مسلم.
واعلم أن أيما رجل كان بينه وبين امرئ مسلم أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل
من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله
عز وجل: أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به. فإن ابتليت
9

بالقضاء فسو بين الناس بالإشارة والنظر في المجلس.
واعلم أنه لا يجوز شهادة الولد على الوالد، ويجوز شهادة الوالد لولده وعلى ولده،
وتجوز شهادة الأعمى إذا أثبت، وشهادة العبد إذا كان عدلا لا بأس بها لغير سيده، ولا
يجوز شهادة المفتري حتى يتوب من فريته وتوبته أن يقف في الموضع الذي قال فيه ما قال
فيكذب نفسه، ولا تجوز شهادة شارب الخمر ولا مقامر ولا من يلعب بالشطرنج والنرد
ولا أجير لصاحبه ولا تابع لمتبوع، ولا تجوز شهادة على شهادة في الحدود، ولا تجوز شهادة
الرجل لشريكه إلا فيما لا يعود نفعه عليه.
وقضى أمير المؤمنين ع في رجل استودع رجلا دينارين واستودعه آخر دينارا
فضاع دينار منها: أن لصاحب الدينارين دينارا ويقتسمان في الدينار الباقي فيجعل
بينهما نصفين.
وإذا كان بين رجلين درهمان فيقول أحدهما: الدرهمان لي، ويقول الآخر: بيني
وبينك، فإن الذي يقول: بيني وبينك، قد أقر أن أحد الدرهمين ليس له وأنه لصاحبه،
وأما الآخر فبينهما نصفان.
وإذا شهد رجل على شهادة رجل فإن شهادته تقبل وهو نصف شهادة، فإن شهد
رجلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد وإن كان الذي شهد عليه معه في
مصره، وإذا حضرا فشهد أحدهما على شهادة الآخر وأنكر صاحبه أن يكون أشهده على
شهادته فإنه يقبل قول أعدلهما.
وإذا ادعى رجل على رجل عقارا أو حيوانا أو غيره وأقام شاهدين وأقام الذي في يده
شاهدين واستوى الشهود في العدالة فالحكم فيه أن يخرج الشئ من يدي مالكه إلى
المدعي لأن البينة عليه، وإن لم يكن الشئ في يدي أحد وادعى فيه الخصمان جميعا
فكل من أقام البينة فهو أحق به، فإن أقام كل واحد منهما البينة فإن أحق المدعيين من
عدل شاهداه، وإن استوى الشهود في العدالة فأكثرهم شهودا يحلف بالله ويدفع إليه
الشئ كذلك ذكره والدي رحمه الله في رسالته إلى.
وإذا وجد كيس بين جماعة فقالوا كلهم: ليس هو لنا، وقال واحد منهم: هو لي،
10

فهو له.
وإذا كان لرجلين مملوكان مفوض إليهما يشتريان بأموالهم وكان بينهما كلام،
فجاء هذا إلى مولى هذا وهذا إلى مولى هذا فاشترى كل واحد منهما الآخر فأخذ هذا
بتلابيب هذا وهذا بتلابيب هذا، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنت عبدي قد
اشتريتك، فإنه يحكم بينهما من حيث افترقا فتذرع الطريق فأيهما كان أقرب فهو الذي
سبق الذي هو أبعد، وإن كانا سواء فهما رد على مواليهما لأنهما جاءا سواء وافترقا سواء
إلا أن يكون أحدهما سبق الآخر فالسابق هو له إن شاء باع وإن شاء أمسك وليس له أن
يضر به.
وإذا اشترى رجلان جارية فواقعاها جميعا فاتت بولد فإنه يقرع بينهما فمن أصابته
القرعة ألحق به الولد ويغرم نصف قيمة الجارية لصاحبه وعلى كل واحد منهما نصف
الحد، وإن كانوا ثلاثة نفر فواقعوا جارية على الانفراد بعد أن اشتراها الأول وواقعها
والثاني اشتراها وواقعها والثالث اشتراها وواقعها كل ذلك في ظهر واحد فاتت بولد
فإن الحق أن يلحق الولد بالرجل الذي عند الجارية ليصير إلى قول رسول الله
ص: الولد للفراش وللعاهر الحجر، قال والدي رحمه الله في رسالته إلى: هذا ما لا
يخرج في النظر وليس فيه إلا التسليم.
وسئل أبو عبد الله ع عن رجل قبل رجلا حفر بئر عشر قامات بعشرة
دراهم، فحفر قامة ثم عجز، فقال له: من خمسة وخمسين جزءا جزء من عشرة دراهم.
وإذا اشترى رجل جارية فجاء رجل فاستحقها وقد ولدت من المشتري ردت الجارية
وكان له ولدها بقيمته، ولا بأس بشهادة النساء في النكاح والدين وفي كل ما لا يتهيأ
للرجال أن ينظروا إليه، ولا بأس بشهادة النساء في الحدود إذا شهد امرأتان وثلاثة
رجال، ولا تقبل شهادتهن إذا كن أربع نسوة ورجلان " رجلين " ولا تجوز شهادتهن في
رؤية الهلال ولا في الطلاق، وإذا شهد أربعة شهود على رجل بالزنى ولم يعدلوا ضربوا
حد المفتري، وإذا شهد ثلاثة عدول وقالوا: الآن يأتي الرابع، ضربوا حد المفتري
وقال والدي رحمه الله في رسالته إلى: إذا شهد أربعة شهود عدول على رجل بالزنى
11

فرجم، أو شهد رجلان على رجل بقتل رجل أو بسرقة رجل فرجم الذي شهدوا عليه بالزنى
وقطع الذي شهدوا عليه بالسرقة ثم رجعا عن شهادتهما ثم قالا: غلطنا في هذا الذي
شهدنا عليه، فأتيا برجل آخر فقالا: هذا الذي قتل أو هذا الذي سرق، ألزما دية المقتول
الذي قتل ودية اليد التي قطعت بشهادتهما ولم تقبل شهادتهما بعد ذلك ورد بما ألزم من
شهدا عليه، وعقوبتهما في الآخرة النار استحقاها من قبل أن تزول أقدامهما.
12

الهداية بالخير
للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي
الملقب بالصدوق المتوفى 381 ه‍ ق
13

باب القضاء والأحكام
الحكم في الدعاوي كلها أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، فإن رد
المدعى عليه اليمين على المدعي إذا لم يكن للمدعي شاهدان فلم يحلف فلا حق له إلا في
الحدود فإنه لا يمين فيها، وفي الدم فإن البينة على المدعي عليه واليمين على المدعي لئلا
يبطل دم امرئ مسلم.
والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا، والمسلمون كلهم
عدول تقبل شهادتهم إلا مجلودا في حد أو معروفا بشهادة الزور أو حاسدا أو باغيا أو
متهما أو تابعا لمتبوع أو أجيرا لصاحبه أو شارب الخمر أو مقامرا أو خصيما، ولا تقبل
شهادة الشريك لشريكه فيما يعود نفعه عليه، ويقبل شهادة الأخ لأخيه وعليه، وتقبل
شهادة الولد لوالده ولا تقبل عليه. وحكم رسول الله ص بشهادة شاهد ويمين المدعي. ويجوز شهادة
المسلمين على جميع أهل الملل ولا يجوز شهادة أهل الملل على المسلمين، والعلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوما.
15

المقنعة
في الأصول والفروع
للشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن النعمان الحارثي
البغدادي المعروف بابن المعلم
336 - 413 ه‍ ق
17

أبواب القضايا والأحكام
قال الله عز وجل: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس
بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم
عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب، فحذر نبيه من الهوى لئلا يضل به عن سبيل الله
فيستحق بذلك شديد العذاب.
وقال الله تعالى لنبيه ع: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين
يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
عما جاءك من الحق.
وقال تعالى أمر الحكام المسلمين: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها
وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان
سميعا بصيرا.
وقال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وفي موضع
آخر: فأولئك هم الكافرون، وفي موضع آخر: فأولئك هم الظالمون.
والقضاء بين الناس درجة عالية وشروط صعبة شديدة ولا ينبغي لأحد أن يتعرض له
حتى يثق من نفسه بالقيام، وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتى يكون عاقلا كاملا
عالما بالكتاب، وناسخة ومنسوخة، وعامه وخاصه، وندبه وإيجابه، ومحكمه ومتشابهه،
عارفا بالسنة وناسخها ومنسوخها، عالما باللغة، مطلعا بمعاني كلام العرب، بصيرا
19

بوجوه الإعراب، ورعا عن محارم الله عز وجل، زاهدا في الدنيا، متوفرا على الأعمال
الصالحات، مجتنبا للذنوب والسيئات، شديد الحذر من الهوى، حريصا على التقوى.
فقد روي أنه نودي لقمان الحكيم حين هدأت العيون: أ لا نجعلك يا لقمان خليفة
في الأرض تحكم بين الناس بالحق؟ فقال لقمان: يا رب إن أمرتني أفعل وإن خيرتني
اخترت العافية، قال: فنودي يا لقمان وما عليك أن نجعلك خليفة في الأرض تحكم بين
الناس بالحق؟ فقال لقمان: يا رب وليت فعدلت فبالحري أن أنجو، وإن أخطأت
طريق الحق تعرضت لسخطك، ومن ذا يا رب يتعرض لسخطك؟ قال: فبعث الله تعالى
إليه ملكا فغطه في الحكمة غطا.
وروي عن النبي ص أنه قال: من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين.
وروي عن أمير المؤمنين ع أنه قال: القضاة أربعة ثلاثة منهم في النار
وواحد في الجنة، فسئل ع عن صفاتهم لتقع المعرفة بهم والتمييز بينهم فقال:
قاض قضى بالباطل وهو يعلم أنه باطل فهو في النار، وقاض قضى بالباطل وهو لا يعلم
أنه باطل فهو أيضا في النار، وقاض قضى بالحق وهو لا يعلم أنه حق فهو في النار،
وقاض قضى بالحق وهو يعلم أنه حق فهو في الجنة.
باب آداب القاضي وما يجب أن يكون عليه من الأحوال عند القضاء:
ويجب على القاضي إذا كان من الصفات بما تقدم شرحه وأراد أن يجلس للقضاء أن
ينجز حوائجه التي تتعلق نفسه بها ليفرغ للحكم، ولا يشغل قلبه بغيره، ثم يتوضأ وضوء
الصلاة، ويلبس من ثيابه ما يتمكن من الجمال به وحسن الهيئة بلبسه ويخرج إلى
المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه فيصلي فيه ركعتين عند دخوله، ويجلس مستدبر
القبلة لتكون وجوه الخصوم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة، ولا يجلس وهو غضبان ولا
جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في شئ من
الأشياء، وليجلس وعليه هدي بسكينة ووقار.
فإذا جلس تقدم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم أن يكتب اسمه واسم أبيه وما
20

يعرف به من الصفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة، فإذا فعلوا ذلك وكتبوا
أسماءهم وأسماء خصومهم في الرقاع قبض ذلك كله إليه وخلط الرقاع وجعلها تحت
شئ يسترها به عن بصره، ثم يأخذ منها رقعة فينظر فيها ويدعو باسم صاحبها وخصمه
فينظر بينهما.
وإذا جلس للنظر ودخل الخصمان عليه فلا يبدأ أحدهما بكلام، فإن سلما أو سلم
أحدهما رد السلام دون ما سواه، وليكن نظره إليهما واحدا، ومجلسهما بين يديه على
السواء، فإذا جلسا لم يسألهما ولا أحدهما عن شئ إلا أن يصمتا فلا يتكلما فيقول لهما
حينئذ: إن كنتما حضرتما لشئ فاذكراه، فإن ابتدأ أحدهما بالدعوى على صاحبه
سمعها، ثم أقبل على الآخر فسأله عما عنده فيما ادعاه خصمه، فإن أقربه ولم يرتب
بعقله واختياره ألزمه الخروج إليه منه، فإن خرج وإلا أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه،
فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقربه حبسه له، فإن ظهر بعد حبسه
إياه أنه معدم فقير لا يرجع إلى شئ ولا يستطيع الخروج مما أقربه خلي سبيله وأمره أن
يتمحل حق خصمه ويسعى في الخروج مما عليه.
وإن ارتاب القاضي بكلام المقر وشك في صحة عقله واختياره للإقرار توقف عن
الحكم عليه حتى يستبرئ حاله، وإن أنكر المدعى عليه ما ادعاه المدعي سأله أ لك بينة
على دعواك؟ فإن قال: نعم هي حاضرة، نظر في بينته، وإن قال: نعم وليست حاضرة،
قال له: أحضرها: فإن قال: نعم، أخره عن المجلس ونظر بين غيره وبين خصمه إلى أن
يحضر الأول ببينة.
فإن قال المدعي: لست أتمكن من إحضارها، أو قال: لا بينة لي عليه الآن، قال
له: فما تريد؟ فإن قال: لا أدري، أعرض عنه، وإن قال: تأخذ لي بحقي من
خصمي، قال للمنكر: أ تحلف له؟ فإن قال: نعم، أقبل على صاحب الدعوى فقال له:
قد سمعت أ فتريد يمينه؟ فإن قال: لا، أقامهما ونظر في الحكم مع غيرهما، وإن قال:
نعم أريد يمينه، رجع إليه فوعظه وخوفه بالله.
فإن أقر الخصم بدعواه ألزمه الخروج إليه من الحق، وإن حلف فرق بينهما، وإن
21

نكل عن اليمين ألزمه الخروج إلى خصمه مما ادعاه عليه، وإن قال المنكر عند توجه
اليمين عليه: يحلف هذا المدعي على صحة دعواه وأنا أدفع إليه ما ادعاه، قال الحاكم
للمدعي: أ تحلف على صحة دعواك؟ فإن حلف ألزم خصمه الخروج إليه مما حلف
عليه، وإن أبي اليمين بطلت دعواه، فإن أقر المدعى عليه بما ادعاه خصمه وقال: أريد
أن تنظرني حتى أتمحله، قال الحاكم لخصمه: أ تسمع ما يقول خصمك؟ فإن قال: نعم،
قال له: فما عندك فيه؟ فإن سكت ولم يجب بشئ توقف عليه القاضي هنيئة ثم قال
له: فما عندك فيه؟ فإن لم يقل شيئا أقامه ونظر في أمر غيره، وإن قال: أنظره، فذاك
له، وإن أبي لم يكن للحاكم أن يشفع إليه فيه ولا يشير عليه بإنظاره ولا غيره، ولكن
يبت الحكم فيما بينهما بما ذكرناه.
وإن ظهر للحاكم أن المقر عبد أو محجور عليه لسفه أبطل إقراره، وإن كان ظهور
ذلك بعد دفعه ما أقر به ألزم الآخذ له رده وتقدم بحفظه على المحجور عليه ويرد ذلك على
مولى المقر.
وإذا أقر الانسان لإنسان مالا عند حاكم فسأل المقر له الحاكم أن يثبت إقراره عنده
لم يجز له ذلك إلا أن يكون عارفا بالمقر بعينه واسمه ونسبه، أو يأتي المقر له بينة عادلة
على أن الذي أقر هو فلان بن فلان بعينه واسمه ونسبه، وذلك أن الحيلة تتم فيما هذا
سبيله فيحضر نفسان قد تواطئا على انتحال اسم انسان غائب واسم أبيه، والانتساب إلى
آبائه ليقر أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل، فإذا أثبت الحاكم ذلك على غير بصيرة
كان مخطئا مغررا جاهلا.
وإذا ادعى الخصمان جميعا في وقت واحد فعلى الحاكم أن يسمع من الذي سبق
بالدعوى صاحبه، فإن ادعيا معا فليسمع أولا من الذي هو عن يمين صاحبه، ثم ليسمع
من الآخر.
وإذا ادعى الخصم على خصمه شيئا وهو ساكت فسأله القاضي عما ادعاه الخصم
عليه فلم يجب عن ذلك بشئ استبرأ حاله، فإن كان أصم أو أخرس عذره في السكوت،
وتوصل إلى إفهامه الدعوى ومعرفة ما عنده فيها من إقرار أو إنكار، فإن أقر بالإشارة أو
22

أنكر حكم عليه بذلك، وإن كان صحيحا - وإنما يتجاهل ويعاند بالسكوت - أمر
بحبسه حتى يقر أو ينكر إلا أن يعفو الخصم عن حقه عليه.
وكذلك إن أقر بشئ ولم يبينه كأن يقول له على شئ ولا يذكر ما هو، فيلزمه
الحاكم بيان ما أقر به، فإن لم يفعل حبسه حتى يبين.
باب البينات:
والبينة تقوم بالشهود إذا كانوا عدولا، والعدل من كان معروفا بالدين والورع عن
محارم الله عز وجل، ولا تقبل شهادة الفاسق ولا ذي الضغن والحسد والعدو في الدنيا
والخصم فيها، ولا تقبل شهادة المتهم ولا الظنين، وتقبل شهادة أهل الحق على أهل
البدع، ولا تقبل شهادة بدعي على محق، وإقرار العقلاء على أنفسهم بما يوجب حكما في
الشريعة عليهم مقبول وإن كانوا على ظاهر كفر أو إسلام وهدى أو ضلال وطاعة أو
عصيان، ولا تقبل شهادتهم على غيرهم وإن كانوا من الاعتقاد على مثل ما هم عليه، أو
على خلاف ذلك إلا أن يكونوا على ظاهر الإيمان والعدالة حسب ما ذكرناه.
وليس حكم الإقرار على النفس حكم الشهادة لها ولغيرها وعليها فيما يقتضيه دين
الاسلام، وتقبل شهادة الوالد لولده وعليه، وتقبل شهادة الولد لوالده ولا تقبل شهادته
عليه، وتقبل شهادة الرجل لامرأته إذا كان عدلا وشهد معه آخر من العدول، أو حلفت
المرأة مع الشهادة لها في الديون والأموال، وتقبل شهادة العبيد لساداتهم إذا كانوا
عدولا، وتقبل على غيرهم ولهم ولا تقبل على ساداتهم وإن كانوا عدولا، ولا تقبل
شهادة شراب الخمور ولا شئ من الأشربة المسكرة سواء شربوها على الاستحلال
بالتأويل أو التحريم، ولا تقبل شهادة مقامر ولا لاعب نرد وشطرنج وغيره من أنواع
القمار، وتقبل شهادة الأعمى إذا أثبت ولم يرتب بما شهد به.
وإذا شهد الكافر على شئ في حال كفره ثم أسلم وتورع قبلت شهادته التي شهدها
في الكفر، وكذلك الفاسق إذا شهد على شئ وهو فاسق ثم تاب وأصلح وعرفت منه
العفة قبلت شهادته بعد توبته فيما شهده في حال فسقه.
23

ولا تقبل في الزنى واللواط والسحق شهادة أقل من أربعة رجال مسلمين عدول،
ويقبل في القتل والسرق وغيرهما مما يوجب القصاص والحدود بشهادة رجلين عدلين من
المسلمين، وتقبل شهادة امرأتين مسلمتين مستورتين فيما لا يراه الرجال كالعذرة وعيوب
النساء والنفاس والحيض والولادة والاستهلال والرضاع، وإذا لم يوجد على ذلك إلا
شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه، وتقبل شهادة رجل وامرأتين في الديون
والأموال خاصة، ولا تقبل شهادة النساء في النكاح والطلاق والحدود، ولا تقبل
شهادتهن في رؤية الهلال.
ويجب الحكم بشهادة الواحد مع يمين المدعي في الأموال، بذلك قضى رسول الله
ص. وتقبل شهادة رجلين من أهل الذمة عن الوصية خاصة إذا لم يكن
حضر الميت أحد من المسلمين وكان الذميان من عدول قومهما، ولا تقبل شهادتهما مع
وجود المسلمين، وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية ولا تقبل في جميعها، وتقبل
شهادة الصبيان في الشجاج والجراح إذا كانوا يعقلون ما يشهدون به ويعرفونه ويؤخذ بأول
كلامهم ولا يؤخذ بآخره.
وإذا لم يوجد في الدم رجلان عدلان يشهدان بالقتل وأحضر ولي المقتول خمسين
رجلا من قومه يقسمون بالله تعالى على قاتل صاحبهم قضي بالدية عليه، فإن حضر دون
الخمسين حلف ولي الدم بالله من الأيمان ما يتم بها الخمسين يمينا وكان له الدية، فإن
لم تكن له قسامة حلف هو خمسين يمينا ووجبت له الدية، ولا تكون له القسامة إلا مع
التهمة للمطالب بالدم والشبهة في ذلك، والقسامة فيما دون النفس بحساب ذلك
وسأبين القول في معناه عند ذكر أحكام الديات والقصاص إن شاء الله.
وليس يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل، ولا يجوز له كتمان الشهادة إذا سئل إلا
أن تكون شهادته تبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله عز وجل، أو تجني جناية لا
يستحقها المشهود عليه، وليس لأحد أن يدعي إلى شئ ليشهد به أو عليه فيمتنع من
الإجابة إلى ذلك إلا أن يكون حضوره يضر بالدين أو بأحد من المسلمين ضررا لا
يستحقه في الحكم فله الامتناع من الحضور.
24

وإذا نسي الشاهد الشهادة أو شك فيها لم يجز له إقامتها، وإن أحضر كتاب فيه
خط يعتقد أنه خطه ولم يذكر الشهادة لم يشهد بذلك إلا أن يكون معه رجل عدل يقيم
الشهادة فلا بأس أن يشهد معه.
وإذا شهد نفسان على شهادة رجل عدل ثقة كانت شهادتهما جميعا بشهادة رجل
واحد، ولا يجوز لأحد أن يشهد على شهادة غيره إلا أن يكون عدلا عنده مرضيا.
وإذا شهد فليذكر شهادته على شهادة غيره ولا يقول: أشهد على فلان بكذا، من غير
أن يبين كيف شهد وعلى أي وجه كانت شهادته؟ وليستظهر الشاهد فيما يشهد به
ويعلم أنه مسؤول عنه، وليتق الله في الشهادة بما يضر بأهل الإيمان ضررا لا يستحقونه، أو
يقيم شهادة عند الظالمين والقضاة الفجرة الفاسقين.
باب كيفية سماع القضاة البينات:
وينبغي للحاكم أن يفرق بين الشهود عن شهادتهم فيسمع قول كل واحد منهم على
انفراده، ويأمر من يكتبها بحضرته وهو ينظر في كتابه لئلا يغلط فيها، ثم يقيم الشاهد
الأول ويحضر الثاني فيسمع شهادته ويكتبها كما فعل في الشهادة الأولى، ثم يقابل
دعوى المدعي وشهادة الشهود بعد أن يكون قد كتب الدعوى، فإن اتفقت الشهادة
والدعوى أنفذ الحكم، وإن اختلفت أبطل الشهادة.
وإذا تتعتع الشاهد أو تلعثم في الشهادة لم يلقنه الحاكم شيئا ولم يسدد كلامه،
فإن استقامت شهادته بعد ذلك وإلا أبطلها وكذلك يصنع في الشهادة على الزنى واللواط
والسرق والقذف وجميع ما يوجب الحدود يفرق بين الشهود فيه ويكتب شهادة كل
امرئ منهم على حياله بغير محضر من صاحبه، ويكون الكاتب لذلك جالسا بين يديه
وهو ينظر فيما يكتب، فإذا كتب الشهادات قابل بعضها ببعض، فإن اختلفت في المعنى
أبطلها، وإن اتفقت أمضاها.
وإذا شهد عند الحاكم من لا يخبر حاله ولم تتقدم معرفته به، وكان الشاهد على
ظاهر العدالة كتب شهادته ثم ختم عليها ولم ينفذ الحكم بها حتى يستثبت أمره،
25

ويتعرف أحواله من جيرانه ومعامليه، ولا يؤخر ذلك، فإن عرف له ما يوجب جرحه أو
التوقف في شهادته لم يمض الحكم بها، وإن لم يعرف شيئا ينافي عدالته وإيجاب الحكم
بها أنفذ الحكم ولم يتوقف، ويفرق أيضا بين الصبيان في الشهادة فإن اتفقت شهادتهم
وجب بها القصاص فيما دون النفس، ويؤخذ بقولهم الأول ولا يؤخذ بقول رجعوا إليه
عنه.
والقسامة خمسون رجلا على ما قدمناه في النفس وفي دونها بحساب ذلك في
الديات، ولا يعتبر في القسامة ما يعتبر في الشهود من العدالة والأمانة، وإذا لم يوجد
خمسون رجلا في الدم وغيره من الجراح ووجد دون عددهم كررت عليهم الأيمان حتى
تبلغ العدد، ويقسم مدعي الدم إذا لم يكن معه غيره خمسين يمينا بالله عز وجل على ما
ذكرناه.
وإذا تنازع نفسان في شئ وأقام كل واحد منهما بينة على دعواه بشاهدين عدلين لا
ترجيح لبعضهم على بعض بالعدالة حكم لكل واحد من النفسين بنصف الشئ، وكان
بينهما جميعا نصفين، وإن رجح بعضهم على بعض في العدالة حكم لأعدلهما شهودا،
وإن كان الشئ في يد أحدهما واستوى شهودهما في العدالة حكم للخارج اليد منه
ونزعت يد المتشبث به منه. وإن كان لأحدهما شهودا أكثر عددا من شهود صاحبه مع
تساويهم في العدالة حكم لأكثرهما شهودا مع يمينه بالله عز وجل على دعواه.
باب الأيمان وكيف يستحلف بها الحكام:
وينبغي للحاكم أن يخوف الخصم عند استحلافه بالله تعالى ويذكره عقاب اليمين
الكاذبة والوعيد عليها من الله تعالى، فإن أقام على الانكار واليمين استحلفه بالله فقال
له: قل والله العظيم الطالب الغالب الضار النافع المهلك المدرك الذي يعلم من السر ما
يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي على ما ادعاه، وما له قبلي حق بدعواه. وإن اقتصر على
استحلافه بالله عز وجل ولم يؤكدها بشئ مما ذكرناه من أسماء الله تعالى جاز، وذلك
على حسب الحالف وما يراه الحاكم في التغليظ والتشديد عليه والتسهيل إن شاء الله.
26

ولا يستحلف أحد بالطلاق ولا بالعتاق ولا بالبراءة من الله ورسوله والأئمة
ع، ولا يستحلف بغير أسماء الله عز وجل، ويستحلف أهل الكتاب بما يرون في
دينهم الاستحلاف به من أسماء الله تعالى ويغلظ عليهم ذلك، ويدبر أمرهم في الأيمان
بحسب أحوالهم في الخوف من اليمين والجرأة عليها إن شاء الله.
ويستحب للحاكم أن يستحلف في المواضع المعظمة كالقبلة وعند المنبر و يرهب من
الجرأة على اليمين بالله تعالى ما استطاع. واستحلاف الأخرس بالإشارة والإيماء إلى
أسماء الله عز وجل، وتوضع يده على اسم الله في المصحف، وتعرف يمينه على الانكار
كما يعرف إقراره بما يقر به وإنكاره إياه، فإن لم يكن في الوقت مصحف موجود كتب
له في شئ أسماء الله تعالى، ووضعت يده في الاستحلاف عليها، ويحضر يمينه من
يعرف عادته في فهم ما يفهم من الأشياء ليؤكد عليه اليمين بالإشارة التي قد اعتاد بها
فهم المراد.
وإذا توجه على النساء يمين استحلفهن الحاكم في مجلس القضاء وعظم عليهن
الأيمان، فإن كانت المرأة ممن لم تجر لها عادة بالخروج عن منزلها إلى مجمع الرجال أو
كانت مريضة أو بها زمانة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء أنفذ الحاكم إليها من
ينظر بينها وبين خصمها من ثقات عدوله، فإن توجه عليها يمين استحلفها في منزلها ولم
يكلفها الخروج منه إلى ما سواه.
ولا يرخص لأحد في التخلف عن مجلس الحكم إذا كان له خصم يلتمس ذلك إلا
أن يكون عاجزا عن الخروج بمرض لا يستطيع معه الحركة وللحاكم أن ينفذ إليه من ينظر
بينه وبين خصمه في مكان ذاك.
باب قيام البينة على الحالف بعد اليمين أو إقراره بما أنكره بعدها:
إذا التمس المدعي يمين المنكر فحلف له وافترقا وجاء بعد ذلك ببينة تشهد له بحقه
الذي حلف له عليه خصمه ألزمه الحاكم الخروج منه إليه اللهم إلا أن يكون المدعي قد
اشترط على المدعى عليه أن يمحو عنه كتابه عليه أو يرضى بيمينه في اسقاط دعواه، فإن
27

اشترط له ذلك لم تسمع بينته من بعد، وإن لم يشترط له ذلك سمعت على ما ذكرناه.
وإن اعترف المنكر بعد يمينه بالدعوى عليه وندم على إنكاره لزمه الحق والخروج منه
إلى خصمه، فإن لم يخرج إليه منه كان له حبسه عليه، فإن ذكر إعسارا وضرورة وإنه
حلف خوفا من الحبس ثم خاف الله عز وجل من بعد كشف الحاكم عنه فإن كان على
ما ادعاه لم يحبسه وأنظره، وإن لم يعلم صحة دعواه في الإعسار كان له حبسه حتى
يرضى خصمه، ولو ابتدأ المنكر باليمين قبل استحلاف الحاكم له كان متكلفا ولم يبرئه
ذلك من الدعوى.
وإذا بعدت بينة المدعي كان له تكفيل المدعى عليه إلى أن يحضر بينته ولم يكن له
حبسه ولا ملازمته، وليس له تكفيل المدعى عليه ما لم يجعل لحضور بينته أجلا معلوما،
ولا تكون الكفالة إلا بأجل معلوم.
28

الانتصار
للسيد الشريف المرتضى علم الهدي أبي القاسم
علي بن الحسين الموسوي
355 - 436 ه‍ ق
29

مسائل القضاء والشهادات وما يتصل بذلك
مسألة:
ومما ظن انفراد الإمامية به وأهل الظاهر يوافقونها فيه القول: بأن للإمام والحكام
من قبله أن يحكموا بعلمهم في جميع الحقوق والحدود من غير استثناء، وسواء علم الحاكم
ما علمه وهو حاكم أو علمه قبل ذلك، وقد حكى أنه مذهب لأبي ثور.
وخالف باقي الفقهاء في ذلك، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى: أن لمشاهدة الحاكم
من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء وبعده فإنه لا يحكم فيها بعلمه إلا من القذف
خاصة وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيها بعلمه فإن علمه بعد القضاء
حكم.
وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم فيما علمه قبل القضاء من ذلك بعلمه، وهو قول
سوار، وقال الحسن بن حي: يقضي بعلمه قبل القضاء بعد أن يستحلفه في حقوق الناس
وفي الحدود لا يقضي بعد القضاء إذا علمه حتى يشهد معه في الزنى ثلاثة وفي غيره برجل
آخر.
وقال الأوزاعي في الإمام يشهد هو ورجل آخر على قذف رجل آخر: إنه يحده هو،
وقال شريح: ارتفعوا إلى إمام فوقي وأنا أشهد لك به، وقال مالك: لا يقضي بعلمه في
سائر الحقوق حتى يكون شاهدان سواه وفي الزنى أربعة غيره، وقال الليث: لا يحكم في
31

حقوق الناس بعلمه حتى يكون شاهدا آخر فيقضي بشهادته وشهادة الشاهد معه، وقال
الشافعي: يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي الحدود قولان لأنه يقبل رجوع المقر، وقال
ابن أبي ليلى في من أقر عند القاضي في مجلس الحكم بدين: فإن القاضي لا ينفذ ذلك
حتى يشهد معه آخر والقاضي شاهد، ثم قال بعد ذلك: إذا ثبت قوله في الأصول عنده
أنفذ عليه القضاء.
فإن قيل: كيف تستجيزون ادعاء الاجماع من الإمامية في هذه المسألة وأبو علي بن
الجنيد يصرح بالخلاف فيها ويذهب إلى أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في شئ من
الحقوق ولا الحدود؟
قلنا: لا خلاف بين الإمامية في هذه المسألة وقد تقدم إجماعهم ابن الجنيد وتأخر
عنه، وإنما عول ابن الجنيد فيها على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر، وكيف
يخفى إطباق الإمامية على وجوب الحكم بالعلم وهم ينكرون توقف أبي بكر عن الحكم
لفاطمة ع بنت رسول الله ص بفدك لما ادعت أنه نحلها أبوها
ويقولون: إذا كان عالما بعصمتها وطهارتها وأنها لا تدعي إلا حقا فلا وجه لمطالبتها
بإقامة البينة لأن البينة لا وجه لها مع القطع بالصدق؟ وكيف خفي على ابن الجنيد
هذا الذي لا يخفى على أحد؟ أو ليس قد روت الشيعة الإمامية كلها ما هو موجود في
كتبها ومشهور في رواياتها:
أن النبي ص ادعى عليه أعرابي سبعين درهما عن ناقة باعها منه،
فقال ص: قد أوفيتك، فقال الأعرابي: اجعل بيني وبينك رجلا حكما
يحكم بيننا، فأقبل رجل من قريش فقال له النبي ص: احكم بيننا،
فقال للأعرابي: ما تدعي على رسول الله؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة بعتها منه،
فقال: ما تقول يا رسول الله؟ قال: قد أوفيته، فقال للأعرابي: ما تقول؟ فقال: لم
يوفني فقال لرسول الله: أ لك بينة على أنك قد أوفيته؟ فقال ص: لا،
فقال للأعرابي: أ تحلف أنك لم تستوف حقك وتأخذه؟ فقال: نعم، فقال رسول الله
ص: لأحاكمن هذا الرجل إلى رجل يحكم فينا بحكم الله عز وجل، فأتى
32

رسول الله ص إلى علي بن أبي طالب ومعه الأعرابي، فقال علي
ع: ما لك يا رسول الله؟ فقال: يا أبا الحسن احكم بيني وبين هذا الأعرابي، فقال
ع: ما تدعي على رسول الله ص؟ قال: سبعين درهما ثمن ناقة
بعتها منه، فقال ع: يا رسول الله ما تقول؟ فقال ص: قد أوفيته
ثمنها، فقال ع للأعرابي: أ صدق رسول الله ص فيما قال؟
قال: لا ما أوفاني، فأخرج علي ع سيفه فضرب عنقه، فقال رسول الله
ص: لم فعلت ذلك يا علي؟ فقال: يا رسول الله نحن نصدقك على أمر
الله ونهيه وأمر الجنة والنار والثواب والعقاب ووحي الله عز وجل فلا نصدقك في ثمن ناقة
هذا الأعرابي وإني قتلته لأنه كذبك لما قلت له: أ صدق رسول الله فيما قال؟ فقال: لا
ما أوفاني شيئا، فقال رسول الله: أصبت يا علي فلا تعد إلى مثلها، ثم التفت إلى
القرشي وكان قد تبعه فقال: هذا حكم الله لا ما حكمت به.
وروت الشيعة أيضا عن ابن جريح عن الضحاك عن ابن عباس قال: خرج رسول
الله ص من منزل عائشة فاستقبله أعرابي ومعه ناقة فقال: يا محمد اشتر
مني هذه الناقة، فقال النبي ص: نعم بكم تبيعها يا أعرابي؟ قال: بمائة
درهم، فقال النبي ص: ناقتك خير من هذا، قال: فما زال النبي
ص يزيد حتى اشترى الناقة بأربعمائة درهم، فقال: فلما دفع النبي
ص إلى الأعرابي الدراهم ضرب الأعرابي يده إلى زمام الناقة، فقال: الناقة ناقتي
والدراهم دراهمي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، قال: فأقبل رجل فقال النبي
ص: أ ترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟ قال: نعم يا محمد، فلما دنا قال النبي
ص: اقض في ما بيني وبين هذا الأعرابي، قال: تكلم يا رسول الله،
فقال النبي ص: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال
الأعرابي: بل الدراهم دراهمي والناقة ناقتي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال
الرجل: القضية فيها واضحة يا رسول الله وذلك أن الأعرابي طلب البينة، فقال له النبي
ص: اجلس، فجلس ثم أقبل رجل آخر فقال النبي ص:
33

أ ترضى يا أعرابي بالشيخ المقبل؟ قال: نعم، فلما دنا قال له النبي ص:
اقض فيما بيني وبين الأعرابي، قال: نعم تكلم يا رسول الله
صلى الله عليك، قال النبي ص: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال الأعرابي: لا بل
الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال الرجل: القضية
فيها واضحة يا رسول الله لأن الأعرابي طلب البينة، فقال النبي ص:
اجلس حتى يأتي الله بمن يقضي بيني وبين الأعرابي بالحق، قال: فأقبل علي
ع، فقال النبي ص: أ ترضى بالشاب المقبل؟ قال: نعم، فلما دنا
قال: يا أبا الحسن اقض بيني وبين الأعرابي، فقال ع: تكلم يا رسول الله،
فقال النبي ص: الناقة ناقتي والدراهم دراهم الأعرابي، فقال
الأعرابي: لا بل الناقة ناقتي والدراهم دراهمي فإن كان لمحمد شئ فليقم البينة، فقال
علي: خل بين الناقة وبين رسول الله ص، فقال الأعرابي: ما كنت
بالذي أفعل أو يقيم البينة، فدخل علي ع منزله، فاشتمل على قائم سيفه ثم
أتى وقال: خل بين الناقة وبين رسول الله ص، قال: ما كنت بالذي
أفعل أو يقيم البينة، قال: فضربه ع ضربة فاجمع أهل الحجاز على أنه رمى
برأسه، وقال بعض أهل العراق: بل قطع منه عضوا، فقال النبي ص: ما
حملك على هذا يا علي؟ فقال: يا رسول الله نصدقك على الوحي من السماء ولا نصدقك
على أربعمائة درهم.
وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي وقد روى هذين
الخبرين في كتابه المعروف بمن لا يحضره الفقيه: هذان الخبران غير مختلفين لأنهما في
قضيتين فكانت هذه القضية قبل القضية التي ذكرناها قبلها.
وقد روت الشيعة أيضا في كتبها خبر علي ع مع شريح القاضي في درع
طلحة بن عبيد الله لما قال ع: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة،
ومطالبة شريح بالبينة على ذلك وإحضاره ع ابنه ع وقنبرا غلامه،
وقوله ع لشريح: أخطأت، ثلاث مرات. ورووا أيضا حديث خزيمة بن ثابت
34

ذي الشهادتين لما شهد للنبي على الأعرابي فقال النبي: كيف شهدت بذلك وعلمته؟
قال: من حيث علمنا أنك رسول الله.
فمن يروي هذه الأخبار مستحسنا لها ومعولا عليها كيف يجوز أن يشك في أنه كان
يذهب إلى أن الحاكم يحكم بعلمه لولا قلة تأمل ابن الجنيد؟
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه زائدا على الاجماع المتردد قوله تعالى: الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، وقوله تعالى: والسارق والسارقة
فاقطعوا أيديهما، فمن علمه الإمام سارقا أو زانيا قبل القضاء أو بعده فواجب عليه أن
يقضي فيه بما أوجبته الآية من إقامة الحدود، وإذا ثبت ذلك في الحدود فهو ثابت في
الأموال لأن من أجاز ذلك في الحدود أجازه في الأموال، ولم يجزه أحد من الأمة في
الحدود دون الأموال.
فإن قيل: فلم زعمتم أنه أراد بقوله: الزانية والزاني والسارق والسارقة من علمتموه
كذلك دون أن يكون أراد من أقر عندكم بسرقة أو زنى أو شهد عليه الشهود؟
قلنا: من أقر بزنى أو شهد عليه الشهود لا يجوز أن يطلق عليه القول بأنه زان وكذلك
السارق وإنما حكمنا فيهما بالأحكام المخصوصة اتباعا للشرع وإن جوزنا أن يكون ما
فعلا شيئا من ذلك، والزاني في الحقيقة من فعل الزنى وعلم ذلك منه وكذلك السارق
فحمل الآيتين على العلم أولى من حملهما على الشهادة والإقرار.
فإن احتجوا بما يروى عن النبي ص أنه قال: لو أعطي الناس
بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر،
وأخبر ع أن المدعي لا يعطي بغير بينة.
فالجواب: أولا أن هذا خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا، ثم إذا سلمناه قلنا:
علم الحاكم أقوى البينات، وإذا جعلنا البينة الإقرار والإشهاد من حيث أبانت عن الأمر
وكشفت فأقوى منها العلم اليقين، فأما من فرق بين ما علمه القاضي وهو حاكم وبين ما
علمه وهو على خلاف ذلك، وقوله: إن الذي علمه وهو غير حاكم لا اعتداد به، لأن
القاضي علمه في حال لا ينفذ حكمه فيها باطل لأن العدل إذا شهد أمضى الحاكم
35

شهادته وإن جوز أن يكون قد تحملها في حال فسقه، وبذلك تقبل شهادة العدل البالغ
وإن جوز أن يكون قد تحملها في حال طفوليته.
فإن قيل: لو جاز للحاكم أن يحكم بعلمه لكان في ذلك تزكية لنفسه.
قلنا: التزكية حاصلة للحاكم بتولية الحكم له وليس ذلك بمناف لإمضاء الحكم
فيما علمه ثم هذا لازم في إجازتهم حكم الحاكم بعلمه في غير الحدود لأنه تزكية لنفسه
ولا يختلفون أيضا في أنه يقبل منه جرحه لشهادته وإسقاط شهادته ولا يكون ذلك تزكية
لنفسه.
فإن قالوا: إذا حكم بعلمه فقد عرض نفسه للتهمة وسوء الظن به.
قلنا: وكذلك إذا حكم بالبينة والإقرار فهو معرض نفسه للتهمة فلا يلتفت إلى ذلك
لوقوع التهمة في غير موضعها لأن قبول الشهادة والسكون إلى عدالة الشاهد مما يجوز أن
يقع في مثله التهمة أيضا.
ووجدت لابن الجنيد كلاما في هذه المسألة غير محصل لأنه لم يكن في هذا دلالة ولا
إليه دراية يفرق بين علم النبي ص بالشئ وبين علم خلفائه وحكامه،
وهذا غلط منه لأن علم العالمين بالمعلومات لا يختلف فعلم كل عالم بمعلوم بعينه كعلم
كل عالم به، وكما أن النبي ص أو الإمام ع إذا شاهدا رجلا
يزني أو يسرق فهما عالمان بذلك علما صحيحا وكذلك من علم مثل ما علماه من
خلفائهما والتساوي في ذلك موجود، ووجدته يستدل على بطلان الحكم بالعلم بأن
يقول: وجدت الله تعالى قد أوجب للمؤمنين فيما بينهم حقوقا أبطلها فيما بينهم وبين
الكفار والمرتدين كالمواريث والمناكحة وأكل الذبائح، ووجدنا الله تعالى قد أطلع رسوله
ص على من كان يبطن الكفر ويظهر الاسلام وكان يعلمه ولم يبين
ص أحوالهم لجميع المؤمنين فيمتنعون من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وهذا غير
معتمد لأنا أولا لا نسلم له أن الله تعالى قد أطلع النبي ص على معايب
المنافقين وكل من كان يظهر الإيمان ويبطن الكفر من أمته، فإن استدل على ذلك بقوله
تعالى: ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول، فهذا لا
36

يدل على وقوع التعريف وإنما يدل على القدرة عليه.
ومعنى قوله تعالى: ولتعرفنهم في لحن القول، أي يستقرظنك أو وهمك من غير ظن
ولا يقين، ثم لو سلمنا على غاية مقترحة أنه ص قد اطلع على البواطن لم
يلزم ما ذكره لأنه غير ممتنع أن يكون تحريم المناكحة والموارثة وأكل الذبائح إنما يختص
بمن أظهر كفره وردته دون من أبطنها، وأن تكون المصلحة التي يتعلق بها التحريم
والتحليل اقتضت ما ذكرناه ولا يجب على النبي ص أن يبين أحوال من
أبطن الردة والكفر لأجل هذه الأحكام التي ذكرناها لأنها لا تتعلق بالمبطن وإنما تتعلق
بالمظهر وليس كذلك الزنى وشرب الخمر والسرقة ولأن الحد في هذه الأمور يتعلق بالمبطن
والمظهر على سواء، وإنما يستحق بالفعلية التي يشترك فيها المعلن والمستر.
مسألة:
ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الخصمين إذا ابتدءا في الدعوى بين يدي
الحاكم وتشاحنا في الابتداء بها وجب على الحاكم أن يسمع من الذي على يمين خصمه،
ثم ينظر في دعوى الآخر، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يذهبوا إلى مثل ما حكيناه.
دليلنا على صحة ذلك إطباق الطائفة عليه ولأن من خالف ما ذكرناه اعتمد على
الرأي والاجتهاد دون النص والتوقيف ومثل ذلك الرجوع فيه إلى التوقيف أولى وأحرى.
ووجدت ابن الجنيد لما روي عن ابن محبوب عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر
ع أن رسول الله ص قضى أن يتقدم صاحب اليمين في المجلس
بالكلام، قال ابن الجنيد: يحتمل أن يكون أراد بذلك المدعي لأن اليمين المردودة عليه،
قال ابن الجنيد: إلا أن ابن محبوب فسر ذلك في حديث رواه عن عبد الله بن سنان عن
أبي عبد الله ع أنه قال: إذا تقدمت مع خصم إلى وال أو قاض فكن عن يمينه،
يعني يمين الخصم وهذا تخليط من ابن الجنيد لأن التأويلات إنما تدخل بحيث تشكل
الأمور ولا خلاف بين القوم أنه إنما أراد يمين الخصم دون اليمين التي هي القسم، وإذا
فرضنا المسألة في تفسير تبادر الكلام بين يدي القاضي وتناهياه وأراد كل واحد منهما أن
37

يدعي على صاحبه فهما جميعا مدعيان كما أنهما جميعا مدعى عليهما فبطلت المزية
والتفرقة التي توهمها ابن الجنيد.
مسألة:
ومما انفردت به الإمامية في هذه الأعصار وإن روي لها وفاق قديم القول: بجواز
شهادات ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا من غير استثناء لأحد،
إلا ما يذهب إليه بعض أصحابنا معتمدا على خبر يرويه من: أنه لا يجوز شهادة
الولد على الوالد وإن جازت شهادته له ويجوز شهادة الوالد لولده وعليه.
وقد رويت موافقة الإمامية في ذلك عن عمر بن الخطاب وشريح والزهري وعمر بن
عبد العزيز والحسن البصري والشعبي وأبي ثور، وروى الساجي: أن أياس بن معاوية
أجاز شهادة رجل لابنه وأخذ يمين الطالب وكل من أجاز شهادة الأب للابن والابن
للأب أجاز شهادة الأخ لأخيه، وكل ذي قرابة لقرابته.
وقد روي جواز شهادة الأخ لأخيه، عن شريح وابن سيرين والنخعي والشعبي وعطاء
وقتادة وعبد الله بن الحسن وعثمان بن البستي وعمر بن عبد العزيز والثوري ومالك
والشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء على ذلك، وإنما خالف فيه الأوزاعي فذهب إلى:
أن شهادة الأخ لأخيه لا تقبل وإن كان عدلا.
وحكى عن مالك أنه قال: إن شهد له في غير النسب قبلت، وإن شهد له في النسب
فإن كانا أخوين من أم فادعى أحدهما أخا من أب وشهد له أخوه لم تقبل، وإذا جاز
شهادة الأقارب في النسب بعضهم لبعض فالأولى جواز ذلك في الرضاع لأن كل من
ذهب إلى أحد الأمرين ذهب إلى الآخر ولم يفرق أحد بين المسألتين.
دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه الاجماع المتردد، وأيضا قوله: وأشهدوا ذوي عدل
منكم، فشرط تعالى العدالة ولم يشرط سواها ويدخل في عموم هذا القول ذو القرابات
كلهم، وقوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتان، يدل أيضا على هذه المسألة، فأما اعتماد المخالفين على الأخبار التي يروونها
38

في هذا الباب كخبر يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي
ص أنه قال: لا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده، فمما لا يصح الاعتماد عليه
لأن كل هذه الأخبار إذا سلمت من القدح كانت أخبار آحاد لا توجب إلا الظن ولا
تنتهي إلى علم، ولا يجوز أن يرجع بما يوجب الظن عن ظواهر الكتاب الموجبة للعلم على
أن الساجي قد قال في هذا الخبر: إن هذه رواية غير ثابتة عند أهل النقل، وراوي هذا
الخبر عن الزهري يزيد بن أبي زياد.
وحكى الساجي أن شعبة قال: إن يزيد كان رفاعا، أي يرفع إلى النبي
ص ما لا أصل له، وضعف هذا الحديث من وجوه معروفة وقدح في رواته.
وأما الاعتماد في المنع من شهادة الأقارب على التهمة التي تلحق لأجل النسب فغير
صحيح لأنه يلزم على ذلك أن لا تقبل شهادة الصديق لصديقه ولا الجار لجاره لأن التهمة
متطرقة، وأيضا فإن العدالة مانعة من التهمة حاجزة.
وحكى عن الشافعي في المنع من شهادة الوالد لولده والولد لوالده أنه قال: الولد جزء
من أبيه فكأنه شهد لنفسه إذا شهد لما هو بعضه، وهذا غير محصل لأن الولد وإن كان
مخلوقا من نطفة أبيه فليس ببعض له على الحقيقة بل لكل واحد منهما حكم يخالف
حكم صاحبه، وكذلك استرقوا الولد برقية أمه وإن كان الأب حرا وحرروه بحرية الأم
وإن كان الأب عبدا، ولم يسر حكم كل واحد منهما إلى صاحبه.
مسألة:
ومما انفردت به الإمامية إلا من شذ من جملتهم وسنتكلم عليه القول: بشهادة العبيد
لساداتهم إذا كان العبيد عدولا مقبولة وتقبل أيضا على غيرهم ولهم ولا تقبل على
ساداتهم وإن كانوا عدولا. وقد روي عن أنس موافقة الإمامية في قبول شهادة العبيد
العدول وهو قول الليث وأحمد بن حنبل وداود وأبي ثور، وروي عن الشعبي أنه قال:
يقبل فيما قل من الحقوق ولا يقبل فيما كثر.
دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة ولا اعتبار بمن شذ أخيرا عنهم، وظواهر
39

آيات الشهود في الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم، وهو عام في
العبيد إذا كانوا عدولا وغيرهم ولا يلتفت إلى ما يروى مما يخالف هذه الظواهر من طرق
الشيعة ولا طرق العامة وإن كثرت لأنها تقتضي الظن ولا تنتهي إلى العلم، وهذه الظواهر
التي ذكرناها توجب العلم ولا يرجع عنها لما يقتضي الظن، وهذه الطريقة هي التي
يجب الرجوع إليها والتعويل عليها وهي مزيلة لكل شبه في هذه المسألة، ولو كنا ممن
يثبت الأحكام بالاستدلالات لكان لنا أن نقول: إذا كان العبد العدل بلا خلاف تقبل
شهادته على رسول الله ص في روايته عنه فلأن تقبل في شهادته على
غيره أولى.
وكان أبو علي بن الجنيد من جملة أصحابنا يمنع من شهادة العبد وإن كان عدلا،
ولما تكلم على ظواهر الآيات في الكتاب التي تعم العبد والحر ادعى تخصيص الآيات
بغير دليل وزعم أن العبد من حيث لم يكن كفؤا للحر في دمه وكان ناقصا عنه في
أحكامه لم يدخل تحت الظواهر، وقال أيضا: إن النساء قد يكن أقوى عدالة من الرجال
ولم تكن شهادتهن مقبولة في كل ما يقبل فيه شهادة الرجال، وهذا منه غلط فاحش لأنه
إذا ادعى أن الظواهر إذا اختصت بمن تتساوى أحكامه في الأحرار كان عليه الدليل لأنه
ادعى ما يخالف الظواهر ولا يجوز رجوعه في ذلك إلى أخبار الآحاد التي يروونها لأنا قد
بينا ما في ذلك.
فأما النساء فغير داخلات في الظواهر التي ذكرناها مثل قوله تعالى: ذوي عدل
منكم، ومثل قوله تعالى: شهيدين من رجالكم، فإنما أخرجنا النساء من هذه الظواهر
لأنهن ما دخلن فيها والعبيد العدول داخلون فيها بلا خلاف ويحتاج في إخراجهم إلى
دليل.
مسألة:
ومما انفردت به الإمامية القول: بأن شهادة ولد الزنى لا تقبل وإن كان على ظاهر
العدالة. وقد روي موافقة الإمامية في الأقوال القديمة، فروى الساجي عن عمر بن
40

عبد العزيز أنه قال: لا تقبل شهادة ولد الزنى، وروى الطبري والساجي عن عبد الله بن
عمر مثل ذلك، وحكى الطبري عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والليث بن سعد:
أن شهادته في الزنى لا تجوز، وقال مالك: ولا في ما أشبه من الحدود.
دليلنا على ذلك إجماع الطائفة عليه.
فإن قيل: أ ليس ظواهر الآيات التي احتججتهم بها تقتضي قبول شهادة ولد الزنى
إذا كان عدلا فكيف امتنعتم من قبول شهادته مع العدالة وهو داخل في ظواهر الآيات؟
قلنا: هذا موضع لطيف لا بد من تحقيقه، وقد حققناه في مسألة أمليناها قديما في
الخبر الذي يروى: بأن ولد الزنى لا يدخل الجنة، وبسطنا القول فيها لأن ولد الزنى لا
يتعدى إليه ذنب من خلق من نطفته وله حكم نفسه فما المانع من أن يكون عدلا
مرضيا؟ والذي نقوله: إن طائفتنا مجمعة على أن ولد الزنى لا يكون نجيبا ولا مرضيا
عند الله تعالى ومعنى أن يكون الله تعالى قد علم في من خلق من نطفة زنى لا يختار هذا
الخير والصلاح، وإذا علمنا بدليل قاطع عدم نجابة ولد الزنى وعدالته وإن شهد وهو مظهر
للعدالة مع غيره لم يلتفت إلى ظاهرة المقتضي لظن العدالة به، ونحن قاطعون على خبث
باطنه وقبح سريرته فلا تقبل شهادته لأنه عندنا غير عدل ولا مرضي فعلى هذا الوجه يجب
أن يقع الاعتماد دون ما تعلق به أبو علي بن الجنيد لأنه قال: إذا كنا لا نقبل شهادة
الزاني والزانية كان ردنا لشهادة من هو شر منهما أولى.
وروي عن النبي ص أنه قال في ولد الزنى: إنه شر الثلاثة، وهذا
غير معتمد لأن الخبر الذي رواه خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا ولا يرجع بمثله عن
ظواهر الكتاب الموجبة للعلم، وإذا كان معنى قوله ص: إنه شر الثلاثة،
من حيث لم تقبل شهادته أبدا وقبلت شهادة الزانيين إذا تابا فقد كان يجب على ابن
الجنيد أن يبين من أي وجه لم تقبل شهادته على التأبيد وكيف كان أسوأ حالا في هذا
الحكم من الكافر الذي تقبل شهادته بعد التوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان، ويبين
كيف لم تقبل شهادته مع إظهار العدالة والصلاح والنسك والعبادة وأنه بذلك داخل في
ظواهر آيات قبول الشهادة وما شرع في ذلك ولا اهتدى له، والوجه هو ما نبهنا عليه
41

الموافق للقول بالعمل بالعدل.
مسألة:
ومما يظن انفراد الإمامية به ولها فيه موافق القول: بأن شهادة الأعمى إذا كان
عدلا مقبولة على كل حال، ولا فرق بين أن يكون ما علمه وشهد به كان قبل العمى أو
بعده. ووافق الإمامية في ذلك مالك والليث بن سعد وقالا: تجوز شهادة الأعمى على ما
علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوهما، وإن شهد على زنى
حد للقذف ولم تقبل شهادته. ووافق الإمامية في قبول شهادة الأعمى أيضا داود بن
علي، وقال أبو حنيفة ومحمد: لا تقبل شهادة الأعمى بحال، وهو قياس قول ابن شبرمة.
وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى والشافعي: ما علمه قبل العمى جاز شهادته وما علمه في
حال العمى لم يجز أن يشهد به.
دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه زائدا على إجماع الطائفة ظواهر الكتاب التي تلوناها
واستدللنا بها على جواز شهادة العبيد وغيرهم لأن الأعمى داخل في هذه الظواهر ولا يمنع
عماه من كونه متناولة له، ومعول من خالفنا في هذه المسألة على أن الأعمى تشتبه عليه
الأصوات فلا يحصل له العلم اليقين ولأنهم يظنون أن الإدراك بالسمع لا يحصل عنده مع
العلم الضروري ما يحصل عند الإدراك بالبصر، وهذا غلط فاحش لأن اشتباه الأصوات
كاشتباه الصور والأشخاص، فلو منع التشابه في الأصوات من العلم الضروري لمنع
التشابه في الصور منه أيضا لأنهما طريقان إلى العلم الضروري للعاقل مع زوال اللبس،
وقد يتعذر زوال اللبس بالسمع كما يتعذر ذلك بالإدراك بالبصر، ألا ترى أن الضرير
يعرف زوجته ووالديه وأولاده ضرورة وإن كان طريق معرفته إدراك السمع دون البصر،
ولا يدخل عليه شك في ذلك كله، ولو كان لا سبيل له إلى ذلك لم يحل له وطء امرأته
لتجويزه أن تكون غير من عقد عليها.
وقد استدل على ما ذكرنا أيضا بأن أزواج النبي ص كن
يحدثن ويخاطبن من وراء حجاب مع فقد مشاهدتهن، وقد كانت الصحابة تروي عنهن
42

الأخبار وتسند إليهن ما يروونه عن النبي ص، واعتذار من يخالفنا
في هذا الموضع بأن باب الخبر أوسع من باب الشهادة لا يغني شيئا لأنه لا يحل لأحد أن
يخبر عن غيره إلا على سبيل اليقين لا سيما في رواية عن النبي ص
ويعول في ذلك على الظن دون اليقين، وإذا كان الصحابة تروي عن الأزواج بأعيانهن
ما سمعوه منهن بالسماع من الأخبار فذلك يدل على أنهم علموهن وميزوهن بالسمع
فاستدل المخالف بقوله: وما يستوي الأعمى والبصير.
فالجواب عنه: أن الآية مجملة لم تتضمن ذكر ما لا يستوون فيه، وادعاء العموم فيما
لم يذكر غير صحيح، وظواهر آيات الشهادة تتناول الأعمى كتناولها للبصير إذا كان
عدلا لأن قوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم واستشهدوا شهيدين من رجالكم
يدخل فيه الأعمى كدخول البصير.
مسألة:
ومما يظن انفراد الإمامية به ولها فيه موافق القول: بقبول شهادة الصبيان في الشجاج
والجراح إذا كانوا يعقلون ما يشهدون به ويؤخذ بأول كلامهم ولا يؤخذ بآخره.
وقد وافق الإمامية في ذلك عبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز
وابن أبي ليلى والزهري ومالك وأبو الزناد، وخالف باقي الفقهاء في ذلك ولم يجيزوا
شهادة الصبيان في شئ، والمعتمد في هذه المسألة على إطباق الطائفة وهو مشهور من
مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع وقد روي ذلك عنه الخاص والعام
والشيعي وغير الشيعي وهو موجود في كتب مخالفينا، ورووا كلهم: أن أمير المؤمنين
ع قضى في ستة غلمان وقعوا في الماء فغرق أحدهم وشهد ثلاثة غلمان على غلامين
أنهما غرقا الغلام وشهد الغلامان على الثلاثة أنهم غرقوه فقضى ع بدية الغلام
أخماسا: على الغلامين ثلاثة أخماس الدية لشهادة الثلاثة عليهما وعلى الثلاثة بخمسي
الدية لشهادة الغلامين عليهم.
وليس لأحد أن يقول: لو قبلت شهادة الصبيان في بعض الأمور لقبلت في جميعها
43

كسائر العدول، قلنا: غير ممتنع أن توجب المصلحة قبول شهادة الصبيان في
موضع دون موضع كما أنها أوجبت قبول شهادة النساء في بعض المواضع دون بعض، ولم يلزم أن
تكون النساء في كل المواضع مقبولات الشهادة من حيث شهادتهن في بعضها.
44

المسائل الناصريات
للسيد الشريف المرتضى علم الهدي أبي القاسم
علي بن الحسين الموسوي
355 - 436 ه‍ ق
45

كتاب القضاء
المسألة الثامنة والتسعون والمائة:
يقضى بشاهد ويمين المدعي إذا كان المدعي عدلا وإلا لم يقض.
هذا صحيح وإليه ذهب أصحابنا، وقال الشافعي: يقضى بالشاهد واليمين في
الأموال، وقال أبو حنيفة: لا يقضى به على كل حال.
دليلنا بعد الاجماع المتردد ما رواه عمرو بن دينار عن ابن عباس: أن النبي
ع قضى باليمين مع الشاهد، قال عمرو: كان ذلك في الحقوق، وروى هذا الخبر أبو
هريرة وجابر وغيرهما.
فإن قيل: المراد بالخبر أنه قضى بيمين المدعى عليه وشاهد المدعي.
قلنا: هذا تعسف شديد من التأويل، وظاهر الخبر يقتضي أن القضاء كل مجموع
الشاهد واليمين وتأثير كل واحد منهما وعلى تأويلكم هذا القضاء إنما يكون باليمين
والشاهد لا تأثير له، على أنه قد روي في بعض الأخبار: أنه ع قضى بيمين
وشاهد، وهذا يسقط تأويلهم.
فإن قيل: تأويل الخبر أن رجلا باع عبدا وادعى المبتاع أن به أثر عيب فوجب الرد
وذلك لا يثبت بمجرد قوله بل يحتاج أن يشهد أهل الخبرة بذلك، ثم إن البائع ادعى أنه
باع بشرط البراءة من العيب وأنكر المشتري ذلك فالقول قول المشتري مع يمينه، فإن
حلف حكم له الحاكم بالرد، وهذا الحكم إنما كان بالشاهد واليمين.
47

قلنا: العيب لا يثبت بشاهد واحد وإنما يثبت بشاهدين، وبعد فإن الخبر يقتضي أنه
حكم بشاهد ويمين في قصة واحدة وحكم واحد، وتأويلهم هذا يقتضي أنه حكم بالشاهد
في شئ وباليمين في آخر فبطل بذلك، ويدل على ما ذهبنا إليه ما رواه جعفر بن محمد
عن أبيه عن أمير المؤمنين ع قال: كان النبي ص يقضي بشهادة
الشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق، وقضى بها علي ع بالعراق وبالإسناد
المقدم أن النبي ص وأبا بكر وعمر وعثمان قضوا بالشاهد الواحد مع يمين المدعي.
فإن قالوا: في الخبر الأول يحتمل أن يكون الشاهد خزيمة بن ثابت الذي جعل النبي
ع شهادته بمنزلة شهادة اثنين.
قلنا: لو كان كذلك لما استحلفه معه.
فإن تعلقوا بقوله تعالى: واستشهدوا... الآية، وأن هذا يمنع من الشاهد مع
اليمين، وربما قالوا: إثبات الشاهد واليمين زيادة في النص والزيادة في النص نسخ.
فالجواب عن ذلك: أن الآية إنما أوجبت ضم الشاهد الثاني إلى الأول وإقامة
المرأتين مقام أحد الشاهدين، وليس في الآية نفي العمل بالشاهد واليمين لأن ضم
الشاهد الثاني إلى الأول أو جعل المرأتين بدلا من أحدهما أكثر مما يقتضيه أن تكون
شرطا في الشهادة، وتعلق الحكم بشرط لا يدل على أن ما عداه بخلافه لأن الشروط قد
تخالف بعضها بعضا وتقوم بعضها مقام بعض، أ لا ترى أن القائل إذا قال: إذا زنى
الزاني فأقم عليه الحد، فقد اشترط في إقامة الحد الزنى ولا يمتنع أن يجب عليه الحد
بسبب آخر من قذف أو غيره، فتناوب الشرط في الأحكام معروف لا يدفعه محصل.
وأما قولهم: إن ذلك نسخ، فليس كل زيادة في النص نسخا وإنما يكون نسخا إذا
غيرت حال المزيد عليه وأخرجه من كل أحكامه الشرعية، وقد علمنا أن إقامة الشاهد
واليمين مقام الشاهدين لم يغير شيئا من أحكام قبول الشاهدين بل ذلك على ما كان
عليه بأن أضيف إليه مرتبة أخرى على أنه لو كان الأمر على ما ذهب إليه أصحاب أبي
حنيفة في أن الزيادة في النص نسخ على كل حال من غير اعتبار بما ذكرناه لما جاز أن
48

يحكم في الزيادة أنها نسخ إلا إذا تأخرت عن دليل الحكم المزيد عليه، فأما إذا صاحبته
أو تقدمت عليه لم يكن نسخا لأن اعتبار تأخر الدليل في الناسخ واجب عند كل
محصل، فمن أين لهم أن دليل العمل باليمين والشاهد من السنة كان متأخرا عن نزول
الآية وما تنكرون أن يكون ذلك مصاحبا أو متقدما؟
فإن تعلقوا بما روي من: أن رجلا حضرميا ادعى على كندي فقال له النبي: أ لك
بينة؟ فقال: لا، فقال: تريد يمينه؟ فقال: لا، فقال: ليس لك إلا شاهدان أو يمينه.
فالجواب: أن النبي لم يقصد إلى ذكر جميع الحجج وشرحها أ لا تراه أنه لم يذكر
الشاهد والمرأتين، وإن كان ذلك حجة فيما تداعيا فيه بلا خلاف وإنما ذكر الحجة
المعتادة وهي الشاهدان، على أنا نحمل الخبر على أن المراد به ليس لك إلا شاهدان أو
يمينه أو شاهد ويمينك بدليل ما ذكرناه.
فإن تعلقوا بما روي عنه ع من قوله: البينة على المدعي واليمين على من
أنكر، فأثبت اليمين في جنبة المنكر فمن أثبتها في جنبة المدعي فقد خالف الظاهر.
فالجواب: أن اليمين الذي أثبتها النبي في جنبة المنكر هي يمين على النفي وتلك
اليمين لا تثبت في جنبة المدعي وإنما تثبت في جنبة المدعي يمين الإثبات وهذه اليمين
غير تلك ولأنه أيضا أثبت في جنبة المدعى عليه يمينا عليه وهذه اليمين لا تكون قط في
جنبة المدعي وإنما تكون في جنبة المدعي وإنما تكون في جنبه يمين له.
49

الكافي
في الفقه
لأبي الصلاح تقي الدين ابن نجم الدين عبد الله الحلبي
347 - 447 ه‍ ق
51

فصل في تنفيذ الأحكام
المقصود في الأحكام المتعبد بها تنفيذها، وصحة التنفيذ يفتقر إلى:
معرفة من يصح حكمه ويمضى تنفيذه ممن لا يصح ذلك منه.
الثاني: بيان ما يصح الحكم به وترتبه.
الثالث: كيفية إيقاعه.
الفصل الأول من التنفيذ:
تنفيذ الأحكام الشرعية والحكم بمقتضى التعبد فيها من فروض الأئمة ع
المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوه لذلك، فإن تعذر تنفيذها بهم ع
وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب لم يجز لغير شيعتهم تولى ذلك ولا التحاكم إليه
ولا التوصل بحكمه إلى الحق ولا تقليده الحكم مع الاختيار، ولا لمن لم يتكامل له
شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته وهي:
العلم بالحق في الحكم المردود إليه، والتمكن من إمضائه على وجهه، واجتماع
العقل والرأي، وسعة الحلم، والبصيرة بالوضع، وظهور العدالة، والورع، والتدين
بالحكم، والقوة على القيام به ووضعه مواضعه.
ومنعنا من صحة الحكم لغير أهل الحق لضلالهم عنه، وتعذر العلم عليهم بشئ منه
لأجله وتدينهم بالباطل وتنفيذه، وفقد الإذن من ولي الحكم بالحق فيما يحكمون به منه،
53

وذلك مقتض لاختلال معظم الشروط فيهم، ولبعض ذلك حرم على من لم يتكامل
شروط الحكم فيه من أوليائهم النيابة في تنفيذ الأحكام وتقليده ذلك والتحاكم إليه.
واعتبرنا العلم بالحكم لما بيناه من وقوف صحة الحكم على العلم لكون الحاكم مخبرا
بالحكم عن الله سبحانه وتعالى ونائبا في إلزامه عن رسول الله ص، وقبح
الأمرين من دون العلم، واعتبرنا التمكن من إمضائه على وجهه من حيث كان تقلد
الحكم بين الناس مع تعذر تنفيذ الحق يقتضي الحكم بالجور وفيه مع كونه كذلك ما في
الحكم بغير علم، واعتبرنا اجتماع العقل والرأي لشديد حاجة الحكم إليهما وتعذره
صحيحا من دونهما، واعتبرنا سعة الحلم لتعرضه بالحكم بين الناس للبلوى بسفهائهم
فيسعهم بحلمه، واعتبرنا البصيرة بالوضع من حيث كان الجهل بلغة المتحاكمين إليه
يسد طريق العلم بالحكم عنه ويمنع من وضعه موضعه، واعتبرنا الورع من حيث كان
انتفاؤه لا يؤمن معه الحيف في الحكم لعاجل رجاء أو خوف من غيره سبحانه، واعتبرنا
الزهد لأن لا تطمح نفسه إلى ما لم يؤته سبحانه فيبعثه ذلك إلى تناول أموال الناس
لقدرته عليها وانبساط يده بالحكم فيها، واعتبرنا التدين من حيث كان تقلد الحكم
رئاسة دنيوية أو للاستعلاء على النظراء أو للمعيشة لا يؤمن معه جوره ولا ينفي ضرره،
واعتبرنا القوة وصدق العزيمة في تنفيذ الأحكام من حيث كان الضعف مانعا من تنفيذ
الحكم على موجبه ومقصرا بصاحبه عن القيام بالحق لصعوبته وعظم المشقة في تحمله.
فمتى تكاملت هذه الشروط فقد أذن له في تقلد الحكم وإن كان مقلده ظالما
متغلبا، وعليه متى عرض لذلك أن يتولاه لكون هذه الولاية أمرا بمعروف ونهيا عن
منكر تعين فرضها بالتعريض للولاية عليه وإن كان في الظاهر من قبل المتغلب، فهو
نائب عن ولي الأمر ع في الحكم ومأهول له لثبوت الإذن منه وآبائه
ع لمن كان بصفته في ذلك، ولا يحل له القعود عنه.
وإن لم يقلد من هذه حاله النظر بين الناس فهو في الحقيقة مأهول لذلك بإذن ولاة
الأمر، وإخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم وحمل حقوق الأموال إليه والتمكين من
أنفسهم لحد أو تأديب تعين عليهم لا يحل لهم الرغبة عنه ولا الخروج عن حكمه، وأهل
54

الباطل محجوجون بوجود من هذه صفته مكلفون الرجوع إليه وإن جهلوا حقه لتمكنهم من
العلم لكون ذلك حكم الله سبحانه وتعالى الذي تعبد بقوله وحظر خلافه.
ولا يحل له مع الاختيار وحصول الأمن من مضرة أهل الباطل الامتناع من ذلك،
فمن رغب عنه ولم يقبل حكمه من الفريقين فعن دين الله رغب ولحكمه سبحانه رد
ولرسول الله ص خالف ولحكم الجاهلية ابتغى وإلى الطاغوت تحاكم.
وقد تناصرت الروايات عن الصادقين ع ما ذكرناه:
فروي عن أبي عبد الله ع أنه قال: أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة
في حق فدعاه إلى رجل من إخوانه ليحكم بينه وبينه فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان
بمنزلة الذين قال الله عز وجل:
أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن
يضلهم ضلالا بعيدا.
وعنه ص أنه قال: إياكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى أهل الجور
ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته
قاضيا فتحاكموا إليه.
وروي عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله ع عن رجلين من
أصحابنا تكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القاضي أ يحل
ذلك؟ قال: من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا
لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر الله عز وجل أن يكفر بها، قلت: كيف يصنعان؟
قال: انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا فليرتضوا به
حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما بحكم الله
استخف وعلينا رد والراد علينا الراد على الله وهو على حد الشرك بالله.
واعلم أن فرض هذا التحاكم مشترط بوجود عارف من أهل الحق وكون المتنازعين
من أهله، فأما إن فقد العارف وكان الخصم الدافع للحق جاز التوصل بحكم المنصوب
55

من قبل الظالم إلى المستحق ولا يحل ذلك بين أهل الحق، فإن فقد العارف بالحق من
إخوانهما في مصرهما فليرحلا إليه أو يصطلحا.
وروي عن أمير المؤمنين ع لشريح: قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو
وصي نبي أو شقي، يعني بالشقي من جلس بغير إذن من الله ورسوله وولي الأمر لأن
المأذون له في الحكم بحكم الله يحكم فيجلس في الحكم مجلسهما.
وروي عن أبي جعفر ع أنه قال: الحكم حكمان: حكم الله وحكم
الجاهلية، وقد قال الله تعالى: ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون. وأشهد على
زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية.
وروي عن أبي عبد الله أنه قال: الحكم حكمان حكم الله وحكم الجاهلية فمن
أخطأ حكم الله فقد حكم بحكم الجاهلية.
وروي عن أبي جعفر ع أنه قال: من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرضا و
ملائكة العذاب فيلحقه وزره ووزر من يعمل بفتياه.
وروي عن أبي عبد الله ع أنه قال: من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله
فهو كافر بالله العظيم وقد قال الله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون، والظالمون، والفاسقون.
وروي عنه ع أنه قال: إذا كان الحاكم يقول لمن عن يمينه وعن يساره ما
ترى؟ ما تقول؟ فعلى ذلك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أ لا يقوم من مجلسه
ويجلسهما مكانه. مقتضى هذا الحديث ظاهر لأن الحاكم إذا كان مفتقرا إلى مسألة غيره
كان جاهلا بالحكم، وقد بينا قبح الحكم بغير علم، وجواب من يسأله لا يقتضي حصول
العلم له بالحكم بغير شبهة فلهذا حقت عليه اللعنة ولأنه عند مخالفينا إن كان من أهل
الاجتهاد فهو مستغن عن غيره ولا يحل له تقليده، وإن كان عاميا لم يحل له تقليد
الحكم بين الناس فقد حقت لعنته بإجماع.
وروي عن أبي عبد الله ع أنه قال: القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في
الجنة، رجل قضى بجور وهو لا يعلم أنه جور فهو في النار، ورجل قضى بالحق وهو لا
56

يعلم أنه حق فهو من أهل النار، ورجل قضى بالجور وهو يعلم أنه جور فهو في النار،
ورجل قضى بالحق وهو يعلم أنه حق فهو في الجنة. وهذا صريح بوقوف الحكم على العلم
ووجوبه واستحقاق الحاكم به الثواب، وفساده من دونه واستحقاق الحاكم من دونه
النار.
وقد تجاوز التحريم الحكم بالجور والتحاكم إلى حكامه إلى تحريم مجالسة أهله.
فروي عن محمد بن مسلم الثقفي أنه قال: مر بي أبو جعفر ع أو أبو عبد
الله ع وأنا جالس عند قاضي المدينة، فدخلت عليه من الغد فقال لي: ما مجلس
رأيتك فيه أمس؟ فقلت: جعلت فداك إن هذا القاضي لي مكرم فربما جلست إليه،
فقال ع لي: وما يؤمنك أن تنزل اللعنة فتعم من في المجلس.
لفظ الحديث ومعناه مطابق لما تقرر الشرع به من وجوب إنكار المنكر وقبح الرضا
به، والحكم بالجور من أعظم المنكرات، فمجالس الحكام به لغير الانكار والتقية راض
بما يجب إنكاره من الجور واستحقاق اللعنة معا، وإذا كانت هذه حال الجليس فحال
الحاكم بالجور ومقلده النظر والتحاكم إليه والأخذ بحكمه أغلظ لارتفاع الريب في رضا
هؤلاء بالقبيح.
الفصل الثاني من تنفيذ الأحكام:
لا يصح الحكم إيجابا ولا حظرا ولا تمليكا ولا منعا ولا إلزاما ولا اسقاطا ولا
إمضاءا ولا فسخا إلا عن علم بما يقتضي ذلك أو إقرار المدعى عليه أو ثبوت البينة
بالدعوى أو يمين المدعى عليه أو المدعي دون ما عدا ذلك، ولكل حكم.
فصل في العلم بما يقتضي الحكم:
علم الحاكم بما يقتضي تنفيذ الحكم كاف في صحته ومغن عن إقرار وبينة ويمين
سواء علم ذلك في حال تقلد الحكم أو قبلها، لسكون نفس الحاكم العالم إلى ما علمه في
حال حكمه بمقتضاه سواء كان علمه حادثا في حال أو باقيا إليها أو متولدا عن أمثاله
57

الماضية أو حادثا حالا بعد حال في كيفية تعلقه بالمعلوم على حد واحد وانتفاء الشبهة
عنه في صحته، وعدم السكون لصحة الدعوى مع الإقرار أو البينة أو اليمين وانتفاء الثقة
بشئ من ذلك، وإنما يعلم الحاكم مع الإقرار أو الشهادة أو اليمين صحة التنفيذ متى
علم التعبد دون صدق المدعي مع ذلك أو المدعى عليه مع يمينه، وهو مع ذلك العلم عالم
بالأمرين صدق المدعي في الدعوى وصحة الحكم بها، ولا شبهة على متأمل في أن الظن
لا حكم له مع إمكان العلم فكيف بثبوته.
وكيف يتوهم عاقل صحة الحكم مع صحة الظن وفساده مع العلم به وهو يفرق بين
حالتي العالم والظان.
وأيضا فصحة الحكم بالإقرار أو البينة أو اليمين فرع للعلم بالإقرار وقيام البينة
وحصول اليمين وثبوت التعبد، فلو كان العلم بصحة الدعوى أو الانكار غير متعبد به لم
يصح حكم بإقرار ولا بينة ولا يمين لوقوف صحته على العلم الذي لا يعتد بمثله لأن العلم
بالشئ إن اعتد به في موضع فهذا حكمه في كل موضع وفي هذا خروج عن الحق جملة إذ
لا برهان عليه له يميز من الباطل غير العلم.
وأيضا فلو لم يلزم الحاكم الحكم بما علمه من غير توقف على إقرار أو بينة أو يمين
لاقتضى ذلك الحكم بما يعلم خلافه إذا حصل به إقرار أو بينة أو يمين، من تسليم ما يجب
المنع منه، والمنع مما يجب تسليمه، وقتل وقطع من علم عدم استحقاقه لهما، وإلحاق
نسب من يعلم براءته منه إلى غير ذلك مما لا شبهة في فساده.
وأيضا فلو لم يكن الحكم بالعلم معتبرا لم يصح للحاكم تنفيذ ما تقدم الإقرار به أو
الشهادة لزمان التنفيذ لأنه إن حكم في هذه الحال فإنما يحكم لعلمه بماضي الإقرار أو
البينة، فإذا كان الحكم بالعلم لا يصح هاهنا والمعلوم خلاف ذلك إذ لا فرق بين أن
يحكم للعلم بالإقرار والبينة وبين العلم بصحة الدعوى أو الانكار، بل الثاني أظهر.
وأيضا فلو كان يعتبر في الحكم بالإقرار والبينة واليمين دون العلم لم يجز إبطال
ذلك متى علم الحاكم كذب المقر أو الشهود أو الحالف، والإجماع بخلاف ذلك، فثبت
كون العلم أصلا في الأحكام، وسقط قول من منع من تنفيذها له.
58

وليس لأحد أن يمنع من الحكم بالعلم للنهي عنه أو فقد تعبد بمقتضاه من حيث كان
ما قدمناه من الأدلة على صحة الحكم به وكونه غير مستند إلى علم أصلا فيها وتعذر
الحكم فيها من دونه مسقطا لهاتين الدعويين، وكيف يشتبه فسادهما على عارف
بالتكليف الموقوف صحته في الأصول والفروع على العلم وحصول اليقين بفساد الظن
فيهما مع إمكان العلم وبالظن مع تعذر العلم والمظنون غير مستند إلى علم.
وكيف يجتمع له اعتقاد ذلك مع علمه بصحة الحكم مع ظن صدق المدعي أو المنكر
ونفي الحكم مع العلم بصدق أحدهما لولا جهل الذاهب إلى ذلك بمقتضى التكليف
وطريق صحة العمل فيه وتعويله على استحسان فاسد ورأي قائل.
وليس العلم حاصلا لكل سامع للإخبار بإمضاء رسول الله ص
الحكم لخزيمة بن ثابت وسماه لذلك ذا الشهادتين، وإمضاء ما حكم به أمير المؤمنين
ع في قصة الأعرابي والناقة لعلمهما بصدقه ص، مع ما ينضاف إلى
ذلك من مشهور إنكار أمير المؤمنين على شريح لما طالبه بالبينة على ما ادعاه في درع
طلحة: ويلك خالفت السنة بمطالبة إمام المسلمين بينة وهو مؤتمن على أكثر من ذلك،
فأضاف الحكم بالعلم إلى السنة على رؤوس الجميع من الصحابة والتابعين فلم ينكر عليه
منكر، وهذا مع ما تقدم من رسول الله ص برهان واضح على جهل طالب
البينة مع العلم وكونه مقدما عليها.
وليس للمخالف فيما نصرناه أن يمنع منه لظنه أن الحكم بالعلم يقتضي تهمة
الحاكم به لأن ذلك رجوع عن مقتضى الأدلة استحسانا ولا شبهة في فساده، على أن
ذلك لو منع من الحكم بالعلم لمنع من الحكم بالشهادة والإقرار الماضيين، إذا كان
الحكم في المجلس الثاني بالإقرار الحاصل في المجلس الأول أو البينة مستندا إلى العلم
وإذا لم تمنع التهمة هاهنا من الحكم بالعلم فكذلك هناك.
وبعد فحسن الظن بالحاكم المتقابل الشروط يقتضي الرجوع إلى حكمه بالعلم ويمنع
من تهمته بالإقرار أو البينة، لولا ذلك لم يستقر له حكم ولم يسمع قوله: أقر عندي
بكذا أو قامت البينة بكذا أو ثبت عندي كذا أو صح عندي، إلا أن يكون حصول
59

الإقرار والبينة بمحضر من لا يجوز الكذب عليه وهذا يقتضي نقص نظام الأحكام بغير
إشكال.
وإذا كان علمه بالمدعى عليه مقرا أو مشهودا عليه أو له أو حالفا أو محلوفا له موجبا
عليه الحكم وإن لم يعلم ذلك أحد سواه ولا يحل له الامتناع لخوف التهمة، فكذلك يجب
أن يحكم متى علم صدق المدعي أو المنكر بأحد أسباب العلم من مشاهدة أو تواتر أو نص
صادق أو ثبوت عصمة إلى غير ذلك من طرق العلم لعدم الفرق، بل ما توزعنا فيه أولى.
إن قيل: فلو شاهد الإمام أو الحاكم رجلا يزني أو يلوط أو سمعه يقذف غيره أو
يطلق زوجته أو يظاهر منها أو يعتق غلامه أو يبيع غيره شيئا أ كان يحكم بعلمه أو يبطل
ذلك؟
قيل: إن كان ما علمه الإمام عقدا أو إيقاعا شرعيا حكم بعلمه، وإن كان
بخلاف ذلك لاختلال بعض الشروط كعلمه بغيره ناطقا بكنايات الطلاق أو صريحه في
الحيض أو بغير شهادة أو ظهار بغير لفظه أو بغير إشهاد أو قصد أو بيع من غير افتراق إلى
غير ذلك لم يحكم لفقد ما معه يصح الحكم من صحة العقد أو الإيقاع، فأما ما يوجب
الحد فإن كان العالم بما يوجب الإمام فعليه الحكم بعلمه لكونه معصوما مأمونا، فإن
كان غيره من الحكام الذين يجوز عليهم الكذب لم يجز له الحكم بمقتضاه لأن إقامة الحد
أولا ليست من فرضه ولأنه بذلك شاهد على غيره بالزنى واللواط وغيرهما وهو واحد،
وشهادة الواحد بذلك قذف يوجب الحد وإن كان عالما، يوضح ذلك أنه إذا علم ثلاثة
نفر غيرهم زانيا لم يجز لهم الشهادة عليه، فالواحد أحرى أن لا يشهد عليه، وليست هذه
حال الإمام المعصوم ولا تنفيذ الأحكام بالعلم على من أمل ذلك.
فصل في الإقرار:
الإقرار مقتض لسقوط حق المقر فيما أقر به لغيره إذا كان من حر كامل العقل سليم
الرأي مريضا كان أو صحيحا.
فإن كان مبتدئا مما وصفنا حاله كقوله: هذه الدار لفلان أو هذا الثوب أو المال
60

لفلان أو لفلان على كذا، وكان غير مأمون لم يمض إقراره، وإن كان مأمونا مضى
إقراره واستحق المقر له تسليم ما أقر به ما لم يمنع مانع من يد أو بينة أو وثيقة أو رهن أو
دين فيبطل الإقرار، فإن تسلم المقر له ما حصل الإقرار به واستحق بعض وجوه
الاستحقاق نزع من يده ورد إلى مستحقه ولا درك له على المقر لاختصاص فائدة الإقرار
بإسقاط حق المقر حسب، فإن اقترن إقراره بضمان الدرك فمنع المانع من التسليم أو
استحق بعده فعليه دركه من حيث كان ضمان المقر للدرك دلالة للحكم على أن الإقرار
حصل عن استحقاق يقتضي ضمان الدرك.
وإن كان الإقرار بعد تقدم دعوى بقائم العين كالدار أو الفرس أو بمعين في الذمة
كالدين وثمن المبيع والأجر والأرش وأمثال ذلك فعلى الحاكم إلزامه بالخروج إلى المقر
له مما تعلق بذمته وتسليم ما في يده من الأعيان القائمة، فإن قامت بينة بعد التسليم
باستحقاق عين المقر به بالضمان أو تكون من حقوق الذمم كالديون وغيرها فيضمن على
كل حال.
ولا يعتد بإقرار الصبي ولا المؤوف العقل والسفيه ولا العبد ولا الأمة فيما يتعدى
ضرره إلى المالك كالمال والجراح والقتل ولا بما يعلم كذب المقر فيه، وإذا اشتبه الأمر على
الحاكم في صفة المقر فقبل إقراره ثم انكشف له كونه ممن لا يعتد بإقراره لأجل ما ذكرنا
لسقط حكمه ورجع بما حكم به على المحكوم له به، وإذا أقر بعض الورثة بوارث لزمه في
حق إرثه، وإن كانا اثنين وكانا عدلين قبلت شهادتهما وثبتت نسبته إلى الموروث، وإن
لم يكونا كذلك فهما مقران يلزمهما حكم نسبه في حقهما دون سائر الورثة، وإذا رجع
المقر بحق غيره عليه لم يؤثر رجوعه عنه في صحة الحكم به، وقد سلف بيان حكم الإقرار
بما يوجب القصاص أو الحد أو التأديب بصفة المقر وأين يعتد بإقراره ويعتد برجوعه عنه
وأين لا يعتد بذلك بما أغنى عن تكراره هاهنا.
فصل في الشهادات:
تنفيذ الأحكام بالشهادة يتعلق بتكاليف خمسة: أولها العلم بما معه تقبل، وثانيهما
61

ما يلزم متحملها ومؤديها، وثالثها معرفة كمية أعيانها، ورابعها الحكم بها إذا تعارضت،
وخامسها معرفة ما يبطلها.
التكليف الأول من الشهادات:
العدالة شرط في صحة الشهادة على المسلم، ويثبت حكمها بالبلوغ وكمال العقل
والإيمان واجتناب القبائح أجمع وانتفاء الظنة بالعداوة أو الحسد أو المناقشة أو المملكة أو
الشركة، والعلم بتكامل هذه الشروط للشاهد من فروض المشهود عنده في حال إقامتها
دون تحملها، فإذا تكاملت ثبتت العدالة ولزم القبول حرا كان الشاهد أو عبدا قريبا أو
أجنبيا رجلا أم امرأة بحيث يصح شهادتهما، وإن اختل شرط لم تقبل الشهادة.
ولا تقبل شهادة العبد على سيده ولا الولد على والده فيما ينكرانه وتقبل شهادتهما
عليهما بعد الوفاة، ولا تقبل شهادة العبد لسيده على كل حال، ولا تقبل شهادة الشريك
فيما هو شريك فيه ولا الأجير لمستأجره ولا ذمي على مسلم ولا مبطل على محق وتقبل
شهادة بعضهم على بعض ولأهل الحق عليهم، ولا تقبل شهادة النساء فيما يوجب الحد
إلا شهادة امرأتين مع ثلاثة رجال في الزنى خاصة ولا الطلاق ولا رؤية الهلال، ويقبل
فيما عدا ذلك امرأتان برجل، ولا يقتص بشهادتهن ويؤخذ بها الدية، ولا تقبل شهادة
أحد من أهل الضلال على مسلم إلا عدول الذمة في الوصية في السفر خاصة بشرط عدم
أهل الإيمان.
وتقبل شهادة الصبيان فيما يجري بينهم بعض على بعض فيما دون القتل ويؤخذ
بأول كلامهم قبل أن يتفرقوا دون ما عدا ذلك، وتقبل شهادة ذوي الأرحام بعض
لبعض وعليهم والأجانب، والزوج لزوجته وعليها، والزوجة له وعليه، وتقبل شهادة
الأعمى والخصي والخنثى إذا تكاملت شروط العدالة فيهم.
التكليف الثاني من الشهادات:
يلزم من دعي من أهل الشهادة أو تحملها أو إقامة ما تحمله منها الإجابة إلى ذلك إذا
62

كان تحمله عن إشهاد، ولا يجوز له أن يشهد إلا أن يستشهد، وهو مخير فيما يسمعه
ويشاهده بين تحمله وإقامته وتركهما، ولا يحل له أن يتحمل ولا يقيم شهادة لا يعلم
مقتضاها من أحد طرق العلم وإن رأى خطه.
فإن كانت شهادة بما يوجب حدا أو تعزيرا لم يحل له أن يشهد بما لا يعلمه مشاهدة
على الوجه الذي قررته الشريعة وسلف بيانه وعلى إقرار الفاعل أو المفعول به، وإن كانت
بإقرار بحق أو وصية أو هبة أو صدقة أو غير ذلك فبعد العلم بعين المقر والموصي والمتصدق
والواهب واسمه ونسبه وتميزه من غيره وصحة رأيه وولايته وإيثاره للإقرار.
وإن كانت بملك فبعد العلم بسببه من بيع أو ميراث وغيرهما من أسباب التمليك أو
ظاهر تصرف لا مانع منه وعين المستحق، وإن كان بعقد أو إيقاع أو اسقاط أو فسخ إلى
غير ذلك فبعد العلم بنفس العقد أو الإيقاع أو الإسقاط أو الفسخ وما يناسب ذلك
وموافقته للمشروع فيه ومعرفة المتعاقدين والموقع والمسقط والفاسخ ومن يتعلق به ذلك، ولا
يجزئه في ذلك شهادة المشهود له أو عليه ولا تخليته ولا وجود خطه ولما يعلم ما تضمنه،
ولا شهادة من لا يوجب خبره العلم من العدد وإن كانوا عدولا لأنه مخبر بما يشهد به ولا
يجوز الإخبار بما لا يعلمه المخبر.
وإذا أشهد على تمليك ما يصح تمليكه وما لا يصح وعلى ما يسوع في الشريعة وما لا
يسوع فليشهد بما يصح تمليكه وما يسوع في الشريعة دون ما لا يصح ويسوع، ولا يجوز لأحد
أن يقيم شهادة تبطل حقا أو تقتضي باطلا أو تعديا على من لا يستحق أو ضررا في
الدين أو عند حاكم جور يعلم أو يظن أنه لا يقبلها وإن كان عالما بمقتضاها، ولا
يجوز الشهادة على شهادة من ليس بعدل في الحقيقة، ولا حكم لشهادة الواحد على شهادة
الواحد، ويحكم بشهادة الاثنين على شهادة الواحد ويقوم شهادتهما مقام شهادته، ولا
يجوز لمن شهد على شهادة غيره أن يشهد بنفس ما شهد به الأول لكن يقول: أشهد أن
فلانا أشهدني أنه يشهد بكذا.
وإذا كان الشاهد عالما بتملك غيره دارا أو أرضا أو غير ذلك ثم رأى غيره متصرفا
فيها من غير منازعة من الأول ولا علم بإذن وما يقتضي إباحة التصرف من إجارة أو غير
63

ذلك لم يجز له أن يشهد بملكها لواحد منهما حتى يعلم ما يقتضي ذلك في المستقبل، وإذا
غاب العبد أو الأمة عن مالكه لم يجز له أن يشهد بما كان يعلمه من تملكه لهما إلا أن
يعلم غيبته لإباق أو إذن المالك، وإذا لم يعلم الشاهد في حال إقامة الشهادة كون
المشهود له مالكا للشئ لم يجز له أن يشهد بالملك وإن كان عالما بسببه الماضي.
التكليف الثالث من الشهادات:
بينة الزنى واللواط والسحق أربعة رجال عدول بمعاينة الفرج في الفرج بلفظ واحد في
وقت واحد، أو ثلاثة رجال وامرأتان في الزنى خاصة، وبينة ما عدا ذلك مما يوجب حدا
أو تعزيرا أو قصاصا بقتل أو جراح وغير ذلك من جميع الحقوق بشاهدي عدل بلفظ
واحد، وليس من شرط صحتها الوقت، ويقوم شهادة الواحد ويمين المدعي في الديون
خاصة مقام الشهادة الكاملة، وتقوم شهادة امرأتين بحيث تصح شهادة النساء مناب
الرجل الواحد، ويحكم بشهادتهما منفردتين فيما لا يعاينه الرجل من أحوالهن، وتقبل
شهادة القابلة المأمونة في الولادة والاستهلال، ويحكم بربع الدية أو الميراث.
والقسامة في القتل خمسون رجلا يقسمون مع ولي الدم خمسين يمينا، فإن نقصوا عن
ذلك كررت عليهم الأيمان حتى تكمل خمسون يمينا، ولا يحل له ولا لغيره ممن يتقسم
معه على قتل صاحبهم أن يقسموا على قاتل معين بالشبهة حتى يعلموا ذلك من حاله
مشاهدة أو بما يقوم مقامها من طرق العلم.
والقسامة فيما يوجب الدية من الأعضاء ستة نفر وفيما دون ذلك بحساب الستة
وأدناه يمين واحدة، فإن لم يقسم أولياء الدم أقسم المتهم بالقتل وأولياؤه خمسين يمينا
أنهم لم يقتلوا أو برئوا، وكذلك القول في الجراح فإن لم يكن للمتهم أولياء أقسم هو
خمسين يمينا، وتقبل شهادة امرأتين في نصف دية النفس أو العضو أو الجرح، أو المرأة
الواحدة في الربع، ويجوز شهادتهن في النكاح مع الرجال، ولا يجوز في الطلاق على حال.
64

التكليف الرابع من الشهادات:
البينة تبطل حكم اليد ويقتضي تسليم ما قامت به، فإن كان للمدعي بينة وللمدعى
عليه بينة ولا يد لأحدهما حكم لأعدلهما شهودا، فإن تساووا في العدالة حكم لأكثرهما
شهودا مع يمينه، فإن تساووا في العدد والعدالة أقرع بينهما وأحلف من خرج سهمه
وحكم له بالملك، وإن كان لأحدهما يد وبينة تشهد باليد وللآخر بينة تشهد بالملك حكم
للخارج اليد بالملك، وإن كانت البينتان تشهدان بالملك حكم به لذي اليد، فإن كانا
جميعا متصرفين فيه ولا بينة لأحدهما قسم بينهما، وإن كان لأحدهما بينة نزعت يد
الآخر وسلم إلى ذي البينة.
التكليف الخامس من الشهادات:
إذا انكشف أن الشاهد شهد بالزور بإقراره أو بينة أو علم عزر وأشهر في المصر، فإن
كان الحاكم حكم بها أبطل حكمه ورجع على المحكوم له بما أخذه، فإن لم يقدر على
ذلك رجع به على الشاهد بالزور، فإن كان قتلا أو جراحا أو حدا قيد بالقتل واقتص منه
بالجراح والحد.
وإن رجع عن الشهادة لشبهة دخلت عليه فعليه الدية في القتل والجراح و إرضاء
المحدود ومثل المستهلك بشهادته، وإن كانوا جميع الشهود شهدوا زورا أو راجعين عن
شهادتهم بالشبهة فالقصاص أو الدية أو المثل لازم لجميعهم كلزومه لكل جماعة اشتركت
في جناية عمدا أو خطأ، وإذا انكشف أن الشهود أو بعضهم فساق أبطل الحكم.
وإذا قامت البينة بطلاق وتزوجت المرأة ورجع الشاهدان أو أحدهما أغرما أو أحدهما
المهر للزوج الثاني إن كان دخل بها وردت إلى الأول، ولا يقربها حتى تعتد من
الثاني، وإن لم يقربها فرق بينهما ولا شئ لها وهي زوجة الأول ولا عدة عليها،
وكذلك الحكم في من شهد بوفاة زوج تزوجت امرأته.
وإذا قامت البينة على امرأة بالزنى فادعت أنها بكر فوجدت كذلك درئ عنها الحد،
وإذا قامت البينة بما يعلم الحاكم كذب الشهود فيه أو كون الأمر بخلافها أبطلهما لعلمه
65

وعزر الشهود لتعمد الكذب، مثال الأول أن تقوم بينة بما يوجب قودا أو قصاصا أو حدا
على شخص معين في وقت معين يعلم الحاكم براءته منه في ذلك الوقت بكونه جليسا له
فيه، ومثال الثاني أن تقوم بينة بحق معين من جهة معينة يعلم الحاكم خروج المدعى
عليه مما قامت به، ولا تأديب على الشهود هاهنا لجواز كونهم عالمين بأصل الاستحقاق
دون الخروج منه إلا أن يقولوا: تعمدنا كذبا، فيؤدبوا.
فصل في الأيمان:
الأيمان واجبة في حق كل دعوى عدا ما يوجب القصاص على المنكر، وتأثيرها
اسقاط الدعوى في الحال وما يليها، فإن حلف برئ من حق الدعوى وإن نكل عنها
لزمه مقتضاها، وله ردها على المدعي ومتى يفعل يجب عليه، فإن نكل عنها سقط حق
دعواه وإن حلف ثبت حقه.
وأما دعوى القتل والجروح مع الانكار وفقد البينة فموجبة لليمين على المدعي حسب
ما بيناه من القسامة فمتى يفعل يجب له الحكم بصحة الدعوى، وله أن يطالب المدعى
عليه بها قسامة فمتى يفعل تبرأ ذمته من تهمة الدعوى، وإن تنكل يلزم الحكم بمقتضاها.
ولا يمين إلا بعد دعوى ولا يحل دعوى ولا يمين عليها إلا عن يقين بصحة استحقاق ما
تعلقت به، ويكفي فيها اسم الله الأعظم كقوله: والله، متجردا عن الصفات، والتأكيد
بتكريرها " الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب المدرك المهلك الضار النافع عالم الغيب
والشهادة الرحمن الرحيم " أبلغ في الزجر، ويجوز الاستحلاف بكل مكان وفي المسجد
الجامع تجاه القبلة أولى.
ولا يحل لمن علم غريمه معسرا أن يحبسه مقرا ولا يستحلفه منكرا، ويكره له
استحلافه مع الانكار واليسار تعظيما لاسمه سبحانه وجزما في بقاء الاستحقاق وصحة
الدعوى به، فإن أحلفه أخل بالفضل وفرط بالجزم ولم تحل له مطالبته فيما بعد ولا إقامة
بينة عليه وإن أقامها لم تقبل، فإن ظفر له بمال لم يحل له أخذه غيلة، وإن جاءه بحقه
بعد اليمين له نادما من عصيانه حل له أخذه والعفو عنه أفضل، وإن احتسبه عند الله
66

تعالى قبل اليمين أو بعدها لم يجز له أخذه بحال.
والأولى بذي الدين والفضل إذا بلى بدعوى باطلة أن يخرج منها ولا يحلف إن
كانت لا تؤثر في حاله، وإن رد غريمه اليمين عليه فيما يعلم صحته أن لا يحلف تنزها
عن الحلف وتعظيما لأسماء الله تعالى، ومحرم ذلك على المدعى عليه، ويكره له أن يرد
اليمين على ذي الدعوى الباطلة ليسلمها إليه بل يمينه هاهنا أولى. وأولى من الجميع ما
قدمناه من الخروج عن موجبها ولا يحلف ولا يستحلف وإن كان لو حلف صادقا أو
استحلف من يعلمه كاذبا لم يأثم وإنما يخل بفضل ويرغب عن نفل.
ولا يجوز الاستحلاف عند قبر رسول الله ص على ما لا يوجب مثله
القطع.
الفصل الثالث من تنفيذ الأحكام:
يلزم المؤهل لتنفيذ الأحكام أن يفرد لنظره بين الناس وقتا لا يثبتونه بشئ من
الأغراض الدينية ولا الدنيوية سواه وينظر في ما عداه من الأوقات فيما يؤثره منهما، ولا
يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مهموم ولا ذا داع إلى بعض المشتهيات،
وأولى المجالس به مسجد الجامع أو مسجد المحلة ولا حرج في الجلوس عليه في منزله.
فإذا عزم على ذلك فليتطهر ويلبس أجمل زيه ويمس طيبا ويصلى ركعتين يعقبهما
بالتسبيح والرغبة إلى الله تعالى في توفيقه وتسديده ومعونته على ما يبتلى به، ثم ليجلس
مستدبر القبلة ليكون وجوه الخصوم إليها، وعليه السكينة والوقار، وليتق في مجلسه المجون
والدعابة بنفسه ولينزهه عنهما من غيره، وليجلس شهوده ناحية عنه، وليوطن نفسه على
القوة في أمر الله تعالى وصحة العزيمة في تنفيذ حكمه.
ثم ليأمر أمينا أن يكتب أسماء كل خصمين في رقعة ويرفع الرقاع إليه فيخلطها، ثم
يخرج منها رقعة فيقدم النظر بين من تضمنت ذكره من المتحاكمين إليه، ثم كذلك ثانية
وثالثة حتى يأتي على جميعها، وإن لم يحضر إلا خصمان أحضرهما بغير رقعة.
فإذا انتهى الخصمان إليه فليسو بينهما في المجلس واللحظ والإشارة، فإن سلما أو
67

أحدهما فليرد عليهما، ولا يبدأهما بخطاب إلا أن يصمتا فيقول: إن كنتما حضرتما لشئ
فاذكراه، فإن أمسكا أقامهما ونظر في حكومة غيرهما.
وإن ادعى أحدهما شيئا مجهولا قال له: حقق دعواك، فإن فعل وإلا أقامهما. وإن
كان متميزا أقبل الحاكم على خصمه وقال له: ما تقول في دعواه؟ فإن أقر بها اعتبر حاله
فإن كان حرا عاقلا مختارا للإقرار ألزمه الخروج إلى خصمه مما أقر به، فإن امتنع أمره
بملازمته، وإن سام حبسه حبسه وإن سام إثبات اسمه في ديوان حكمه لم يجز له ذلك إلا
أن يكون عارفا بالمقر بعينه واسمه ونسبه أو يشهد بذلك عنده شاهدا عدل، وإن كان
المقر عبدا أو أمة أو مؤوف العقل أو صغيرا أو سفيها أو مكرها على الإقرار لم يعتد
بإقراره.
وإن أنكر فكان عالما بصدق المدعي أو المدعى عليه على كل حال وفي تلك القضية
حكم بعلمه ولم يحتج إلى بينة ولا يمين إلى صحة دعوى ولا إنكار إلا أن تقوم بينة تمنع من
استمرار العلم فيحكم بمقتضاها كعلمه بأن زيدا باع دارا من عمرو فالحكم بالعلم يقتضي
تسليم الدار إلى عمرو، فإن قامت بينة عادلة بأن زيدا ابتاع تلك الدار بعينها من عمرو
بعد تاريخ علمه فالواجب أن يحكم في ذلك بالبينة لأن العلم بالابتياع الأول لم يسلم
استمراره ونظائر ذلك من المعلومات، ولا يتوقع قيام بينة تكذب من علمنا صدقه بالبرهان
في دعوى أو إنكار لعصمته أو لغير ذلك، وإن حصلت حكم ببطلانها.
وإن لم يعلم صدق أحدهما قال للمدعي: قد أنكر دعواك فما تريد؟ فإن قال: لي
بينة، قال: أحضرها، فإن حضرت بينة قد تقدم للحاكم العلم بتكامل شروطها حكم
بمقتضاها كإقرار، وإن كان عالما باختلال الشروط فيها ردها، وإن كانت مجهولة أوقف
الحكم حتى يكشف عن حالها، فإن وضح له تكامل الشروط المعتبرة في قبول الشهادة
حكم بها، وإن ظهر له خلاف ذلك أو التبس الحال فيها ألغاها.
وإن ادعى بينة غائبة ضرب له أجلا لإحضارها وفرق بينه وبين خصمه، فإن سام
تضمين إحضاره متى حضرت البينة ألزم خصمه بذلك، فإن قضت المدة ولما يحضر بينة
سقط تضمين خصمه، فإن لم يكن له إلا شاهد واحد وامرأتان قال له: أ تحلف مع
68

بينتك على دعواك؟ فإن حلف ألزم خصمه بالخروج إليه من الدعوى وإن امتنع أقامهما.
وليفرق بين الشهود في حال إقامة الشهادة فيسمع ما يشهد به كل واحد منهم منفردا
ويكتبه، فإن اتفق معنى الشهادتين والدعوى حكم بها، وإن اختلفت أبطلها وإن تعتع
الشاهد أو تشكك لم يسدده، فإن تسدد وحقق الشهادة أثبتها وإلا أبطلها، وكذلك
يجب أن يصنع في الشهادات الموجبة للحدود والقصاص.
ولا يحتاج مع البينة إلى يمين إلا فيما يثبت بها على ميت أو غائب.
وإن لم تكن له بينة قال له: ما تريد؟ فإن أمسك أقامهما، وإن قال: يمينه، أقبل
على خصمه فقال له: أ تحلف؟ فإن قال: نعم، خوفه الله تعالى وبالغ في تخويفه، فإن أقر
بالدعوى ألزمه الخروج إليه منها، وإن أقام على الانكار عرض عليهما الصلح، فإن أجابا
إليه رفعهما إلى من يتوسط بينهما ولا يتولى ذلك بنفسه لأن الحاكم نصب للقطع بالحكم
وبت الحق والوسيط شافع ويجوز له في الاصطلاح ما يحرم على الحاكم، فإن أبيا الصلح
أعلم المدعي أن استحلاف خصمك يسقط حق دعواك ويمنع من سماع بينة إن كانت
لك، فإن رغب عن الاستحلاف أقامهما، وإن رضي استحلفه فإذا حلف برئ من حق
دعواه وتأثير بينة إن قامت له.
وإن نكل عن اليمين ألزمه الخروج إليه من حق دعواه، وإن قال: يحلف ويأخذ ما
ادعاه، أقبل الحاكم على المدعي فقال له: أ تحلف على دعواك؟ فإن قال: لا، أقامهما
وإن قال: نعم، خوفه الله تعالى، فإن رجع عن اليمين أقامهما وإن حلف ألزم خصمه
الخروج إليه مما حلف عليه، وإن قال: لا أحلف حتى يحضر حقي، ألزم الحاكم
خصمه بذلك.
فإن عاد بعد رد اليمين على المدعي فقال: أنا أحلف، لم يلتفت الحاكم إلى قوله إلا
أن يختار خصمه، وإن امتنع المردود عليه اليمين منها سقط حق دعواه في المجلس، فإن
أقام بينة فيما بعد بصحة دعواه حكم بها، وإن ادعى المقر أو المشهود عليه إعسارا يعلمه
الحاكم أو تقوم به بينة في الحال لم يحبسه ولكن يقرر عليه ما يفضل من مكسبه عن قوته
وعياله لغريمه، وإن لم يعلم ذلك من حاله ولا قامت به البينة حبسه وكشف عن أمره،
69

فإن وضح له إعساره أخرجه من الحبس وصنع فيما عليه من الحق ما تقدم.
فإن تجلد الغريم على الحبس وأصر على الامتناع من الخروج إلى خصمه من الحق وله
ذمة ضيق عليه وإن أصر أخذ من ماله باليد وفي غريمه وإن لم يكن له مال باع عليه
العقار والرقيق والأنعام والدواب وغير ذلك حتى يستوفي غريمه ما ثبت له في الحكم،
وكذلك يصنع الحاكم في أموال المحجور عليهم وما يثبت عليهم من الحقوق، ويلزم
الحاكم اخراج المحبسين في الحقوق إلى الجمعة والعيدين فإذا قضيت الصلاة ردهم
الحبس.
فإن ورد عليه ما لا يعلم وجه الحق فيه أوقفه إلى أن يصح له ذلك، فإن حكم بما
يظنه حقا أثم، فإن انكشف له أنه حق فهو ماض، وإن انكشف خطأه فيه عن
الصواب أبطل ما حكم به، فإن لم يتمكن في استدراكه فهو ضامن لما أخذ بحكمه من
مال ومطالب بما نفذ بقضائه من قتل أو جراح أو حد أو تأديب.
وإن انكشف أن المقر كان عبدا أو أمة أو مؤوف العقل أو مكرها رجع في القضية
ورد ما أخذ بحكمه من المحكوم له إن تمكن منه وإلا من ماله على سيد العبد أو الأمة
وولي المحجور عليه والمكره.
وإذا انكشف له كذب الشهود أو فسقهم أو شهادتهم بما لا يعلمون أو رجوعهم عن
الشهادة أبطل الحكم ورجع بما أخذ بشهادتهم حسب ما تقدم بيانه، وإذا تقابلت عنده
البينات حكم بما سلف ذكره.
فإذا تساوت الأيدي في التصرف وفقدت البينات حكم بالشركة أرضا كانت أم
دارا أم سقفا أم حائطا لا عقد فيه إلى أحد المتصرفين ولا تصرف خاص، فإن كان عقد
الحائط إلى أحدهما أو التصرف مختص به كالخشب وشبهه حكم له به دون الآخر.
ولا يجوز له أن يحكم بقول غيره من الحكام: ثبت عندي حق فلان على فلان بعلم أو
إقرار أو بينة، ولا بكتابة منفردا من بينة تشهد بضمنه لذوي الدعوى أو إقرار، لخروج
ذلك عن موجبات الحكم من العلم والإقرار والبينة واليمين.
فإن شهد عنده بإقرار الخصم عنده بدعوى أو يمين وكان عدلا حكم بشهادته ويمين
70

المدعي، وإن شهد عنده بقيام البينة عليه مع إنكاره لم يحكم إلا أن يشهد عنده شاهد
آخر بصفة الشهادة فيحكم بشهادتهما من غير يمين لقيام شهادة الاثنين مقامهما، فإن
شهد عنده اثنان على شهادة واحد حكم بها مع يمين المدعي كشهادة الواحد المنفرد على
ما سلف بيانه، ولا مزية للحاكم العدل هاهنا " على " غيره.
وإذا علم عقدا أو إيقاعا أو تملكا مخالفا للمشروع فيه أو قامت بذلك بينة أو حصل
به إقرار حكم بفساد مقتضاه، وإذا ثبت عنده ردة بعض الناس حكم بها وإن شهد عنده
ألف بالبراءة منها، وإذا ثبت عنده التسبب لم يسمع بينة ولا إقرارا بنفيه، ولا يحل
لأحد أن يدعي على غيره ما لا يعلم استحقاقه وإن كانت هناك شبهة ظاهرة وظن قوي.
وإذا قال المدعي في مجلس الحكم: ادعى عليه أو اتهمه، أو حدث ما يقتضي استناد
دعواه إلى التهمة دون العلم أسقط دعواه. ولا يقبل من الدعاوي إلا قوله: " أستحق "
وما أفاد معنى ذلك. وليتق الله هذا المدعي من دعوى الكذب والمطالبة بالباطل، وليتق
الله هذا المنكر من الكذب ودفع الحق.
وإذا تحاكم إليه بعض كفار الأصل كاليهود والنصارى أو كفار الملة كالمجبرة
والمشبهة والوعيدية فليحكم بينهم بما يقتضيه المشروع دون ما يرونه أولئك في دينهم
وهؤلاء في مذهبهم.
وليعلم أن الحكم بين الناس رتبة عظيمة ومنزلة جليلة ورئاسة نبوية وخلافة إمامية
لم يبق في أعصارنا هذه وما قبلها بأعصار من رئاسات الدين غيرها، فبحسب قوة
المأهول لها في الدين وصحة عزيمته في تنفيذ الأحكام وصادق نيته في القيام بما جعل إليه
واضطلاعه به وبصيرته فيه تعلو كلمة الاسلام ويعز الدين، وبحسب ضعفه عن ذلك أو
جهله به يضمحل الحق وتندرس أعلامه.
فليتق الله من عرض لذلك فلا يتقلده إلا بعد الثقة من نفسه بالقيام بما جعل إليه،
وإذا علم من نفسه تكامل الشروط فعرض للحكم وجب عليه تكلفه لكونه أمرا بمعروف
ونهيا عن منكر، فإذا تقلده فليصمد للنظر في مصالح المسلمين وما عاد بنظام الملة وقوى
الحق وليجتهد في إحياء السنن وإماتة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبطال
71

ما يمكن منه من أحكام الجور وإنفاذ ما استطاعه من الحق.
وليتخير الحكام النائبين عنه في البلاد ولا يقلد الحكم من لا يتكامل له شروطه،
فإن لم يجد فليجعل وسائط يمنعهم عن إنفاذ حكم من غير رأيه، فليجتهد في تخيره
المأهولين في الوساطة بين الناس، ولا يعدل شاهدا لم يتكامل شروط العدالة فيه، ولا
يجعل أمينا على أموال الناس إلا بعد سبر حاله والاجتهاد في تخيره، فإن انكشف له أن
من قلده الحكم أو جعل إليه الصلح أو أهله للشهادة أو تحمل الأمانة غير متكامل الشروط
فليعزل الحاكم وليستبدل بالوسيط والأمين ويسقط عدالة الشاهد، فإن وقع من بعضهم
ما يتعدى ضرره إلى غيره في الأنفس أو الأموال بغير حق فليرجع عليه بدركه حسب ما
تقدم ذكره، وليجعل لدرس العلم وإدامة الفكر فيه وقتا خاليا له وللمذاكرة به
والمناظرة وقتا ليكون ذلك عونا على ما يلي به من الحكم بين الناس، وما لعله يحدث مما
لم يتقدم له علمه.
فصل: في الصلح:
الصلح حكم جائز لا خيار لأحد الخصمين بعد مضيه سواء كان المصلح عالما بما
يقع عليه أو جاهلا، ولا يحل لأحد الخصمين أن يأخذ بالصلح ما لا يستحقه ولا يمنع له
ما يستحق عليه كما لا يحل ببينة ولا يمين.
فإن اقترن بالصلح تحليل في الحقيقة لم يصح الرجوع بشئ منه على حال وإن كان
لضرورة دعت إلى حفظ بعض الحق بالصلح فلذي الحق الباقي بعد مضيه أن يتوصل بغير
الحكم إلى أخذه وإن لم يأذن له غريمة ولا حق له بعده في الحكم.
ويلزم من أخذ بالصلح ما لا يستحقه أو أسقط به ما يستحق عليه أن يخرج منه إلى
مستحقه أو يستحله، ولغريمه أخذه والعفو عنه.
ويجوز لمن اضطره غريمة إلى ما لا يقدر عليه من جملة الحق أن يصالح على بعضه بشرط
العزم على أداء ما يسقط بالصلح حين التمكن منه أو العفو عنه.
ومن كان عليه حق لغيره فمات قبل الخروج إليه منه لم يجز للغريم مصالحة الورثة
72

على بعضه إلا بعد علمهم بمبلغه وإن كان لو صالحهم من دون ذلك لمضى الصلح في
الظاهر وبقيت تبعته عند الله عز وجل إلا أن تحلله الورثة.
ومن كان عليه دين إلى أجل فقال له صاحبه: عجل لي البعض وأترك لك الباقي،
ففعل مضى إسقاطه وحل للغريم ما أسقط ولم يصح رجوعه بشئ منه.
وإذا تنازع اثنان شيئين في أيديهما أو لا يد لأحدهما فيهما فقال الواحد منهما: هما
لي، وقال الآخر: هما شركة بيننا، فأحد الشيئين لمن قال: هما لي، ويقسم الآخر بينهما
صلحا، وإن قال كل واحد منهما: هما لي، قسما بينهما.
ومن كان عليه سلف في ثوب عشرون درهما وفي ثوب ثلاثون درهما فعملهما
وأنفذهما إلى المسلمين فلم يتميزا فالحكم أن يباعا ويكون لصاحب الثلاثين ثلاثة أخماس
الثمن وللآخر خمسان.
ومن كانت عنده وديعة ديناران لمودع ولآخر دينار فهلك من حرزه دينار لم يتميز
فالحكم لصاحب الدينارين دينار خاص ويقسم الآخر بينهما.
73

النهاية
في مجرد الفقه والفتاوى
للشيخ الأجل أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي
المشتهر بشيخ الطائفة والشيخ الطوسي
385 - 460 ه‍ ق
75

كتاب القضايا والأحكام
باب آداب القضاء وما يجب أن يكون القاضي عليه من الأحوال:
قد بينا في كتاب الجهاد من له تولى القضاء والأحكام بين الناس ومن ليس له
ذلك، وينبغي أن لا يتعرض للقضاء أحد حتى يثق من نفسه بالقيام به وليس يثق أحد
بذلك من نفسه حتى يكون عاقلا كاملا عالما بالكتاب وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه
وندبه وإيجابه ومحكمه ومتشابهه عارفا بالسنة وناسخها ومنسوخها عالما باللغة مضطلعا
بمعاني كلام العرب بصيرا بوجوه الإعراب ورعا عن محارم الله تعالى زاهدا في الدنيا
متوفرا على الأعمال الصالحات مجتنبا للكبائر والسيئات شديد الحذر من الهوى حريصا
على التقوى. فإذا كان بالصفات التي ذكرناها جاز له أن يتولى القضاء والفصل بين
الناس، وإذا أراد أن يجلس للقضاء ينبغي أن ينجز حوائجه التي تتعلق نفسه بها ليفرغ
للحكم ولا يشتغل قلبه بغيره، ثم يتوضأ وضوء الصلاة ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها
ويخرج إلى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه، فإذا دخله صلى ركعتين ويجلس
مستدبر القبلة لتكون وجوه الخصوم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة، ولا يجلس وهو
غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في
شئ من الأشياء وليجلس وعليه هدي وسكينة ووقار.
فإذا جلس تقدم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم إليه أن يكتب اسمه واسم أبيه
وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة، فإذا فعلوا ذلك وكتبوا
77

أسماءهم وأسماء خصومهم في الرقاع قبض ذلك كله وخلط الرقاع وجعلها تحت شئ
يسترها به عن بصره ثم يأخذ منها رقعة فينظر فيها ويدعو باسم صاحبها وخصمه فينظر
بينهما.
وإذا دخل الخصمان عليه وجلسا وأراد كل واحد منهما الكلام ينبغي له أن يأذن
للذي سبق بالدعوى فإن ادعيا جميعا في وقت واحد أمر من هو على يمين صاحبه أن
يتكلم ويأمر الآخر بالسكوت إلى أن يفرع من دعواه، وإذا دخل عليه الخصمان فلا يبدأ
أحدهما بالكلام فإن سلما أو سلم أحدهما رد السلام دون ما سواه، وليكن نظره إليهما
واحدا ومجلسهما بين يديه على السواء.
ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين بل يتركهما حتى يبدءاه بالكلام فإن صمتا
ولم يتكلما قال حينئذ لهما: إن كنتما حضرتما لشئ فاذكراه. فإن ابتدأ أحدهما
بالدعوى على صاحبه سمعها ثم أقبل على صاحبه فسأله عما عنده فيما ادعاه خصمه،
فإن أقر به ولم يرتب بعقله واختياره ألزمه الخروج إليه منه، فإن خرج وإلا أمر
خصمه بملازمته حتى يرضيه، فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقر به
حبسه له، فإن ظهر له بعد أن حبسه أنه معدم فقير لا يرجع إلى شئ ولا يستطيع الخروج
مما أقر به خلي سبيله وأمره أن يتمحل حق خصمه ويسعى في الخروج مما عليه.
وإن ارتاب الحاكم بكلام المقر وشك في صحة عقله أو اختياره للإقرار توقف عن
الحكم عليه حتى يستبرئ حاله.
وإن أنكر المدعى عليه ما ادعاه المدعي سأله: أ لك بينة على ذلك؟ فإن قال: نعم
هي حاضرة، نظر في بينته. وإن قال: نعم غير أنها ليست حاضرة، قال له: أحضرها.
فإن قال: نعم، أقامه ونظر في حكم غيره إلى أن يحضر الأول ببينته. وإن قال المدعي:
لست أتمكن من إحضارها، جعل معه مدة من الزمان ليحضر فيه بينته ويكفل بخصمه.
فإن أحضرها نظر فيها وإن لم يحضرها عند انقضاء الأجل خرج خصمه عن حد
الكفالة.
وإن قال: لا بينة لي، قال له: فما تريد؟ فإن قال: تأخذ لي بحقي من خصمي،
78

قال للمنكر: أ تحلف له؟ فإن قال: نعم، أقبل على صاحب الدعوى فقال له: قد
سمعت أ فتريد يمينه؟ فإن قال: لا، أقامهما ونظر في حكم غيرهما. وإن قال: نعم أريد
يمينه، رجع إليه فوعظه وخوفه بالله. فإن أقر الخصم بدعواه ألزمه الخروج إليه من الحق
وإن حلف فرق بينهما، وإن نكل عن اليمين ألزمه الخروج إلى خصمه مما ادعاه عليه،
فإن قال المنكر عند توجه اليمين عليه: يحلف هذا المدعي على صحة دعواه وأنا أدفع إليه
ما ادعاه، قال الحاكم للمدعي: أ تحلف على صحة دعواك؟ فإن حلف ألزم خصمه
الخروج إليه مما حلف عليه وإن أبي اليمين بطلت دعواه.
وإن أقام المدعي البينة فذكر المدعى عليه أنه قد خرج إليه من حقه كان عليه البينة
بأنه قد وفاه الحق، فإن لم تكن له بينة وطالب صاحب البينة بأن يحلف بأنه ما استوفى
ذلك الحق منه كان له ذلك، فإن امتنع من ذلك خصمه وأبي أن يحلف أنه لم يأخذ
حقه بطل حقه.
وإن قال المدعي: ليس معي بينة، وطلب من خصمه اليمين الحاكم ثم أقام
بعد ذلك البينة على صحة ما كان يدعيه لم يلتفت إلى بينته وأبطلت.
وإن اعترف المنكر بعد يمينه بالله بدعوى خصمه عليه وندم على إنكاره ألزمه الحق
والخروج منه إلى خصمه، فإن لم يخرج إليه منه كان له حبسه، فإن ذكر إعسارا كشف
عن حاله، فإن كان على ما قال أنظر ولم يحبس، وإن لم يكن كذلك ألزم الخروج إلى
خصمه من حقه.
ومتى بدأ الخصم باليمين من غير أن يحلفه الحاكم لم يبرئه ذلك من الدعوى وكان
متكلفا.
وإن أقر المدعى عليه بما ادعاه خصمه وقال: أريد أن ينظرني حتى أتمحله، قال
الحاكم لخصمه، ما عندك فيما يقول؟ فإن سكت ولم يجب بشئ توقف عليه القاضي
هنيهة ثم قال له: قل ما عندك، فإن لم يقل شيئا أقامه ونظر في أمر غيره. وإن قال:
أنظره، فذاك له. وإن أبي لم يكن للحاكم أن يشفع إليه فيه ولا يشير عليه بالإنظار ولا
غيره ولكن يبت الحكم فيما بينهما بما ذكرناه.
79

وإن ظهر للحاكم أن المقر عبد أو محجور عليه لسفه أبطل إقراره، وإن كان تبينه
لذلك بعد دفعه ما أقر به إلى خصمه ألزم الآخذ له رده وتقدم بحفظه على المحجور عليه
ويرد ذلك على مولى المقر.
وإذا أقر انسان لغيره بمال عند الحاكم فسأل المقر له الحاكم أن يثبت إقراره عنده لم
يجز له ذلك إلا أن يكون عارفا بالمقر بعينه واسمه ونسبه أو يأتي المقر له بينة عادلة على
أن الذي أقر هو فلان بن فلان بعينه واسمه ونسبه لأنه لا يأمن أن يكون نفسان قد تواطئا
على انتحال اسم انسان غائب واسم أبيه والانتساب إلى آبائه ليقر أحدهما لصاحبه بما
ليس له أصل، فإذا أثبت الحاكم على ذلك على غير بصيرة كان مخطئا مغررا.
وإذا ادعى انسان على أخرس شيئا توصل الحاكم إلى إفهامه الدعوى ومعرفة ما
عنده فيها من إقرار أو إنكار، فإن أقر بالإشارة أو أنكر حكم عليه بذلك، وإن كان
يتساكت عن خصمه وهو صحيح قادر على الكلام وإنما يعاند بالسكوت أمر بحبسه
حتى يقر أو ينكر إلا أن يعفو الخصم عن حقه عليه، وكذلك إن أقر بشئ ولم يبينه كأنه
يقول: له على شئ، ولا يذكر ما هو ألزمه الحاكم بيان ما أقر به، فإن لم يفعل حبسه
حتى يبين.
باب سماع البينات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة:
إذا شهد عند الحاكم شاهدان وكانا عدلين وشهدا في مكان واحد على وجه واحد
ووافق شهادتهما لدعوى المدعي وجب على الحاكم الحكم بشهادتهما.
وإذا شهد عنده من لا يعرفهما بعدالة ولا جرح سمع شهادتهما وأثبتها عنده ثم
استكشف أحوالهما وأثبتها، فإن وجدهما مرضيين جائزي الشهادة حكم بشهادتهما،
وإن وجدهما على غير ذلك طرح شهادتهما. وإذا شهد عنده من يتتعتع في شهادته أو
يتلعثم فلا يسدده ولا يشرك أحدا يلقنه بل يتمهل حتى يفرع من شهادته، فإذا فرع فإن
كانت شهادته موافقة للدعوى قبلها وإلا طرحها.
ومتى أراد الاحتياط والأخذ بالحزم في قبول الشهادة ينبغي له أن يفرق بين الشهود
80

ويستدعي واحدا واحدا ويسمع شهادته ويثبتها عنده ويقيمه ويحضر الآخر فيسمع
شهادته ويثبتها، ثم يقابل بين الشهادات فإن اتفقت قابلها مع دعوى المدعي فإن
وافقتها حكم بها، وإن اختلفت طرحها ولم يلتفت إليها وكذلك إن اتفقت غير أنها لم
توافق الدعوى طرحها أيضا ولم يعمل بها، وهذا حكم سائر في جميع الأحكام والحقوق
من الديون والأملاك والعقود والدماء والفروج والقصاص والشجاج فإن الأحوط فيها
أجمع أن يفرق بين الشهود، وإن جمع بينهم وسمع شهادتهم لم يكن ذلك مما يوجب رد
شهادتهم ولا موجبا للحكم بخلافها غير أن الأحوط ما قدمناه.
ومن شهد عنده شاهدان عدلان على أن حقا ما لزيد وجاء آخران فشهدا أن ذلك
الحق لعمرو، فإن كانت أيديهما خارجتين منه فينبغي للحاكم أن يحكم لأعدلهما
شهودا، فإن تساويا في العدالة كان الحكم لأكثرهما شهودا مع يمينه بالله تعالى أن الحق
له، فإن تساويا في العدد أقرع بينهم فمن خرج عليه حلف وكان الحكم له، فإن امتنع
من خرج اسمه في القرعة من اليمين حلف الآخر وكان الحكم له، فإن امتنعا جميعا من
اليمين كان الحق بينهما نصفين.
ومتى كان مع واحد منهما يد متصرفة، فإن كانت البينة تشهد بأن الحق ملك له
فقط وتشهد للآخر بالملك أيضا انتزع الحق من اليد المتصرفة وأعطي اليد الخارجة، وإن
شهدت البينة لليد المتصرفة بسبب الملك من بيع أو هبة أو معاوضة كانت أولى من اليد
الخارجة.
ومتى شهد نفسان على امرأة أنها زوجة لزيد وجاء آخران فشهدا أنها زوجة عمرو
حكم لأعدلهما شهودا، فإن تساويا في العدالة أقرع بينهما فمن خرج اسمه كانت
زوجته وكان أحق بها.
ومتى كانت جارية مع رجل وامرأة فادعى الرجل أنها مملوكته وادعت المرأة أنها
بنتها وهي حرة وأنكرت الجارية الدعويين جميعا كان على الرجل البينة بأن هذه الجارية
مملوكته ولم يعتقها، فإن أقام بينة بذلك سلمت إليه، وكذلك إن أقرت الجارية بأنها
مملوكته وكانت بالغة سلمت إليه، وإن لم يقم بينة ولا تكون هي بالغة أو تكون بالغة غير
81

أنها لا تقر انتزعت من يده، فإن أقامت المرأة البينة أنها ابنتها سلمت إليها وإن لم تكن
لها بينة تركت الجارية تمضى حيث شاءت.
ومتى كانت جارية بين شركاء فوطئوها كلهم في طهر واحد وحملت وولدت فادعى
كل واحد منهم أن الولد له أقرع بينهم فمن خرج اسمه ألحق الولد به وغرم للباقين قيمة
الولد على قدر ما لهم من الجارية ورد مع ذلك أيضا ثمن الجارية على قدر حصصهم.
ومتى سقط بيت على قوم فماتوا وبقي منهم صبيان أحدهما مملوك والآخر حر
والمملوك عبد لذلك الحر ولن يتميز أحدهما من الآخر أقرع بينهما فمن خرج اسمه فهو
الحر وكان الآخر مملوكا له.
وإذا قال الرجل: أول مملوك أملكه فهو حر، وجعل ذلك نذرا ثم ملك جماعة في وقت
واحد أقرع بينهم فمن خرج اسمه أعتق.
وإذا أوصى انسان بعتق ثلث عبيده ولم يعينهم أقرع بينهم وأعتق من خرج اسمه،
وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء أقرع عليه فإن خرج سهم الرجال ألحق
بهم وورث ميراثهم وإن خرج سهم النساء ألحق بهن وورث ميراثهن، وكل أمر
مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن تستعمل فيه القرعة لما روي عن أبي الحسن
موسى ع وعن غيره من آبائه وأبنائه من قولهم: كل مجهول ففيه القرعة، قلت
له: إن القرعة تخطئ وتصيب، فقال: كل ما حكم الله به فليس بمخطئ.
وقد بينا في كتاب الشهادات ما تقبل شهادة الصبيان فيه وما يجب فيه القصاص
فيما دون النفس، وينبغي أن يفرق بينهم في الشهادة ويؤخذ بأول قولهم ولا يؤخذ
بثانيه، ومتى اختلفوا لم يلتفت إلى شئ من أقوالهم ولا يعتد أيضا بشئ من أقوالهم
التي يرجعون إليها من الأقوال الأولة.
باب كيفية الاستحلاف:
قد بينا في كتاب الأيمان والنذور ما يجوز أن يحلف الانسان به وما لا يجوز وما إذا
حلف به كان حالفا وما لا يكون كذلك، وينبغي للحاكم إذا أراد أن يحلف الخصم أن
82

يخوفه بالله تعالى ويذكره العقاب الذي يستحقه على اليمين الكاذبة والوعيد عليها، فإن
أنجع ذلك وراجع الحق حكم بما يقتضيه الحال مما يوجبه الشرع، وإن أقام على الانكار
واليمين استحلفه بالله تعالى لا غير أو بشئ من أسمائه.
ولا يجوز أن يحلف بغير أسماء الله تعالى بشئ من جميع الموجودات لا بالكتب المنزلة
ولا المواضع المشرفة ولا الرسل المعظمة ولا الأئمة المنتجبة فإن اليمين بجميع ذلك بدعة
في شريعة الاسلام، ولا يحلف بالبراءة من الله تعالى ولا من رسله ولا من الأئمة ولا من
الكتب ولا بالكفر ولا بالعتق ولا بالطلاق فإن ذلك كله غير جائز.
وإن اقتصر على أن يقول له: قل: والله ما له قبلي حق، كان كافيا. فإن أراد
الزيادة في الردع والإرهاب قال له: قل: والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب
الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا
المدعي على ما ادعاه ولا له قبلي حق بدعواه، فإذا حلف فقد برئت ذمته.
واستحلاف أهل الكتاب يكون أيضا بالله أو بشئ من أسمائه ويجوز أيضا أن
يحلفوا بما يرون هم الاستحلاف به ويكون الأمر في ذلك إلى الحاكم وما يراه أنه أردع لهم
وأعظم عليهم، ويستحب أن يكون الاستحلاف في المواضع المعظمة كالقبلة أو عند المنبر
والمواضع التي ترهب من الجرأة على الله تعالى.
وإذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس حلفه بالإشارة وبالإيماء إلى أسماء الله وتوضع
يده على اسم الله في المصحف وتعرف يمينه على الانكار كما يعرف إقراره، وإن لم يحضر
المصحف وكتب اسم الله تعالى ووضعت يده عليه أيضا جاز، وينبغي أن يحضر يمينه من
له عادة بفهم أغراضه وإيمائه وإشاراته وقد روي: أنه يكتب نسخة اليمين في لوح ثم
يغسل ذلك اللوح ويجمع ذلك الماء ويؤمر بشربه، فإن شرب كان حالفا، وإن امتنع من
شربه ألزم الحق.
وينبغي للحاكم أن لا يحلف أحدا إلا في مجلس الحكم، فإن كان هناك من
توجهت عليه اليمين ومنعه من حضور المجلس مانع من مرض أو عجز أو غير ذلك جاز
للحاكم أن يستحلف من ينوب عنه في المضي إليه واستحلافه على ما تقتضيه شريعة
83

الاسلام.
والمرأة إذا وجبت عليها اليمين استحلفها الحاكم في مجلس الحكم وعظم عليها
الأيمان، فإن كانت المرأة لم تجر لها عادة بالخروج عن منزلها إلى مجمع الرجال أو كانت
مريضة أو بها علة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء أنفذ الحاكم إليها من ينظر بينها
وبين خصمها من ثقاته وعدوله، فإن توجه عليها اليمين استحلفها في منزلها ولم يكلفها
الخروج إلى مجمع الرجال، وإن توجه عليها الحق ألزمها الخروج منه على ما يقتضيه شرع
الاسلام، فإن امتنعت من ذلك كان له حبسها كما أن له حبس الرجال.
باب جامع في القضاء والأحكام:
روى أبو شعيب المحاملي عن الرفاعي قال: سألت أبا عبد الله ع عن
رجل يحفر له بئرا عشر قامات بعشر دراهم فحفر له قامة ثم عجز، قال: تقسم عشرة على
خمسة وخمسين جزءا فما أصاب واحدا فهو للقامة الأولى والاثنين للاثنين والثلاثة
للثلاثة وعلى هذا الحساب إلى عشرة.
وروى حماد بن عيسى عن أبي عبد الله ع: أن أمير المؤمنين ع
أتى بعبد لذمي قد أسلم، فقال: اذهبوا فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ولا
تقروه عنده.
وروى حريز عن أبي عبيدة قال: قلت لأبي جعفر محمد وأبي عبد الله عليهما
السلام: رجل دفع إلى رجل ألف درهم فخلطها بماله ويتجر بها فلما طلبها منه قال:
ذهب المال، وكان لغيره معه مثلها ومال كثير لغير واحد، فقال: كيف صنع أولئك؟
قال: أخذوا أموالهم، فقال أبو جعفر وأبو عبد الله ع جميعا: يرجع عليه بماله
ويرجع هو على أولئك بما أخذوا.
وروى محمد بن إسماعيل عن جعفر بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن
ع: جعلت فداك المرأة تموت فيدعي أبوها أنه أعارها بعض ما كان عندها من متاع
وخدم، أ يقبل دعواه بلا بينة أم لا يقبل دعواه إلا ببينة؟ فكتب إليه: يجوز بلا بينة، قال
84

وكتبت إليه: إن ادعى زوج المرأة الميتة وأبو زوجها أو أم زوجها من متاعها أو خدمها
مثل الذي ادعاه أبوها من عارية بعض المتاع أو الخدم أ يكونون بمنزلة الأب في الدعوى؟
فكتب: لا.
وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن يزيد بن إسحاق عن هارون بن حمزة
قال: سألت أبا عبد الله ع عن رجل استأجر أجيرا فلم يأمن أحدهما صاحبه
فوضع الأجير على يد رجل فهلك ذلك الرجل ولم يدع وفاء واستهلك الأجر، فقال:
المستأجر ضامن لأجرة الأجير حتى يقضى إلا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك فرضي
بالرجل فإن فعل فحقه حيث وضعه ورضي به.
وروى محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر ع يقول: قضى أمير المؤمنين
ع برد الحبيس وإنفاذ المواريث.
وروى يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله ع قال:
قلت عشرة كانوا جلوسا ووسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا: أ لكم
هذا الكيس؟ فقالوا كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي، فلمن هو؟ قال: للذي
ادعاه.
وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن الحسن بن مسكين عن رفاعة النخاس
عن أبي عبد الله ع قال: إذا طلق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون
للنساء وما يكون للرجال وللنساء قسم بينهما، وإذا طلق الرجل المرأة فادعت أن المتاع
لها وادعى أن المتاع له كان له ما للرجال ولها ما للنساء.
وروى علي بن محمد القاساني عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن
عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: سألت أبا عبد الله ع عمن أخذ أرضا
بغير حقها وبنى فيها، قال: يرفع بناؤه ويسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق.
وروى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عن أبيه عن علي ع: أنه
قضى في رجلين اختصما في خص، فقال: إن الخص للذي إليه القمط. وقالوا: القمط
هو الذي إليه شد الحبل والخص الظن الذي يكون في السواد بين الدور فكان من إليه
85

الحبل هو أولى من صاحبه.
وروى الحسن بن علي بن يقطين عن أمية بن عمرو عن الشعيري قال: سئل أبو عبد
الله عن سفينة انكسرت في البحر فأخرج بعضها بالغوص وأخرج البحر بعض ما غرق
فيها، فقال: أما ما أخرجه البحر فهو لأهله الله أخرجه وأما ما أخرج بالغوص فهو لهم
وهم أحق به.
وروى ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن جماعة من أصحابنا عنهما
ع: قال: الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو
غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم، قال: ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا
بكفلاء.
وروى محمد بن يحيى الخزاز عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه: أن عليا
ع كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمر به فيقسم ماله بينهم
بالحصص فإن أبي باعه فقسمه بينهم، يعني ماله.
وعنه عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه: أن عليا ع كان يحبس في
الدين فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلي سبيله حتى يستفيد مالا.
وروى السكوني عن أبي عبد الله ع عن أبيه عن علي ع: أن
امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا فأبى أن يحبسه، وقال:
إن مع العسر يسرا.
وعنه عن جعفر عن أبيه: أن عليا ع كان يحبس في الدين ثم ينظر فإن
كان له مال أعطى الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما
شئتم إن شئتم فأجروه وإن شئتم استعملوه، وذكر الحديث.
وروى ابن أذينة عن زرارة عن أبي جعفر ع قال: كان على ع
لا يحبس في السجن إلا ثلاثة: الغاصب ومن أكل مال اليتيم ومن ائتمن على أمانة
فذهب بها، وإن وجد له شيئا باعه غائبا كان أو شاهدا.
قال الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن المصنف رضي الله عنه: هذا الخبر محمول على
86

أنه ع ما كان يحبس أحدا على جهة العقوبة لهم إلا الثلاثة المذكورين أو ما
كان يحبس الحبس المخصوص إلا المذكورين، فأما غير هؤلاء من الغرماء وغيرهم فإنه
كان يحبسهم على غير ذلك الوجه.
وروى أبو بصير عن أبي جعفر ع قال: إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة
وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم وإن شاء تركهم.
وروى طلحة بن زيد والسكوني جميعا عن جعفر عن أبيه عن علي ع: أنه
كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حد ولا غيره حتى وليت بنو أمية فأجازوا
بالبينات.
وروى هارون بن حمزة عن أبي عبد الله ع قال: قلت رجلان من أهل
الكتاب نصرانيان أو يهوديان كان بينها خصومة فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجور
فأبى الذي قضى عليه أن يقبل وسأل أن يرده إلى حكم المسلمين، قال: يرد إلى حكم
المسلمين.
وروى حريز عن محمد بن مسلم وزرارة عنهما جميعا قالا: لا يحلف أحد عند قبر
النبي ع على أقل مما يجب فيه القطع.
وروى عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر ع قال: قلت
له: جعلت فداك في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: في ثلاث عشرة سنة أو
أربع عشرة سنة، قلت: فإنه لم يحتلم فيها، قال: وإن لم يحتلم فإن الأحكام تجري عليه.
وروى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله ع عن رجل دبر غلامه وعليه دين
فرارا من الدين، قال: لا تدبير له وإن كان دبره في صحة منه وسلامة فلا سبيل للديان
عليه.
وروى غياث بن كلوب عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: أن عليا
ع كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب لأنه إنما أخذ
الجعل على الحمام ولم يأخذ على الثياب.
وروى عبد الرحمن بن سيابة عن أبي عبد الله ع أنه قال: على الإمام أن
87

يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد فيرسل معهم، فإذا
قضوا الصلاة والعيد ردهم إلى السجن.
وروى ابن أبي عمير عن حماد عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله
ع عن الأخرس كيف يحلف إذا ادعي عليه دين ولم يكن للمدعي بينة؟ فقال:
إن أمير المؤمنين ع أتى بأخرس وادعي عليه دين فأنكر ولم يكن للمدعي بينة،
فقال أمير المؤمنين ع: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة
جميع ما تحتاج إليه، ثم قال: ائتوني بمصحف، فأتي به فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع
رأسه إلى السماء وأشار به أنه كتاب الله، ثم قال: ائتوني بوليه، فأتي بأخ له فأقعده إلى
جنبه ثم قال: يا قنبر على بدواة وكتف، فأتاه بهما ثم قال لأخ الأخرس: قل لأخيك
هذا بينك وبينه: إنه على، فتقدم إليه بذلك ثم كتب أمير المؤمنين: والله الذي لا إله إلا
هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك
الذي يعلم السر والعلانية أن فلان بن فلان المدعي ليس له قبل فلان بن فلان أعني
الأخرس حق ولا طلبة بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب، ثم غسله وأمر الأخرس
أن يشربه فامتنع فألزمه الدين.
88

كتاب الشهادات
باب تعديل الشهود ومن تقبل شهادته ومن لا تقبل:
العدل الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم هو أن يكون ظاهره ظاهر الإيمان،
ثم يعرف بالستر والصلاح والعفاف والكف عن البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف
باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر والزنى والربا واللواط
وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك الساتر لجميع عيوبه، ويكون متعاهدا
للصلوات الخمس مواظبا عليهن حافظا لمواقيتهن متوفرا على حضور جماعة المسلمين غير
متخلف عنهم إلا لمرض أو علة أو عذر. ويعتبر في شهادة النساء الإيمان والستر
والعفاف وطاعة الأزواج وترك البذاء والتبرج إلى أندية الرجال.
ولا يجوز قبول شهادة الظنين والمتهم والخصم والخائن والأجير، ولا تقبل شهادة
الفساق إلا على أنفسهم، ولا تقبل شهادة ماجن ولا فحاش، وترد شهادة اللاعب بالنرد
والشطرنج وغيرهما من أنواع القمار والأربعة عشر والشاهين، ولا بأس بشهادة أرباب
الصنائع أي صنعة كانت إذا جمعوا الشرائط التي ذكرناها، ولا يجوز شهادة من يبتغي
على الأذان الأجر ولا من يرتشي في الأحكام، ولا يجوز شهادة السائلين على أبواب الدور
وفي الأسواق.
ويجوز شهادة ذوي الفقر والمسكنة المتجملين الساترين لأحوالهم إذا حصل فيهم
شرائط العدالة، ولا يجوز شهادة ولد الزنى فإن عرفت منه عدالة قبلت شهادته في الشئ
89

الدون، ولا بأس بشهادة القاذف إذا تاب وعرفت توبته وحد توبته من القذف أن
يكذب نفسه فيما كان قذف به فإذا فعل ذلك جاز قبول شهادته بعد ذلك.
ولا يجوز شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه ولا بأس بشهادته له فيما ليس
بشريك فيه، ومن قطع به الطريق فأخذوا اللصوص فشهد بعضهم لبعض عليهم لم تقبل
شهادتهم وإنما تقبل شهادة غيرهم أو يحكم بإقرار اللصوص، ولا بأس بشهادة الوصي
على من هو وصى له وله غير أن ما يشهد به عليه يحتاج أن يكون معه غيره من أهل العدالة
ثم يحلف الخصم على ما يدعيه، وما يشهد به للورثة مع غيره من أهل العدالة لم يجب
مع ذلك يمين.
ولا بأس بشهادة ذوي الآفات والعاهات في الخلق إذا كانوا من أهل العدالة، ولا
بأس بشهادة الأعمى إذا أثبت ولم تكن شهادته فيما يحتاج فيه إلى الرؤية وإن كانت
شهادته في حال صحته ثم عمي جاز قبول شهادته فيما يعتبر الرؤية فيه، ولا بأس
بشهادة الأصم غير أنه يؤخذ بأول قوله ولا يؤخذ بثانيه، ومن أشهد أجيرا له على شهادة
ثم فارقه جازت شهادته له وتجوز شهادته عليه وإن لم يفارقه، ولا بأس بشهادة الضيف
إذا كان من أهلها.
ولا يجوز شهادة من خالف الحق من أهل البدع والاعتقادات الباطلة وإن كانوا على
ظاهر الاسلام والستر والعفاف، وإقرار العقلاء جائز على نفوسهم فيما يوجب حكما في
شريعة الاسلام سواء كان مليا أو كافرا أو مطيعا كان أو عاصيا وعلى كل حال إلا أن
يكون عبدا فإنه لا يقبل إقراره على نفسه لأن إقراره على نفسه إقرار على الغير لأنه لا يملك
من نفسه شيئا.
والفاسق إذا شهد على غيره في حال فسقه ثم أقام الشهادة وهو عدل قبلت شهادته،
وتقبل شهادة من يلعب بالحمام إذا لم يعرف منه فسق، ولا بأس بشهادة المراهن في
الخف والحافر والريش وما عدا ذلك فهو قمار.
90

باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها:
لا يجوز أن يمتنع الانسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد إذا كان من أهلها إلا أن
يكون حضوره مضرا بشئ من أمر الدين أو بأحد من المسلمين، وإذا حضر فلا يجوز له أن
يشهد إلا على من يعرفه فإن أشهد على من لا يعرفه فليشهد بتعريف من يثق إليه من
رجلين مسلمين وإذا أقام الشهادة أقامها كذلك.
وإذا أشهد على امرأة وكان يعرفها بعينها جاز له أن يشهد عليها وإن لم ير وجهها،
فإن شك في حالها لم يجز له أن يشهد إلا بعد أن تسفر عن وجهها ويتبينها بصفتها، فإن
عرفها من يثق به جاز له أن يشهد وإن لم تسفر أيضا عن وجهها غير أن الأحوط ما
قدمناه.
ويجوز أن يشهد الانسان على الأخرس إذا عرف من إشارته الإقرار ويقيم شهادته
كذلك ولا يقيمها بمجرد الإقرار لأن ذلك كذب، ويجوز أن يشهد على شهادة رجل آخر
غير أنه ينبغي أن يشهد رجلان على شهادة رجل واحد ليقوما مقامه فأما واحد فلا يقوم
مقام واحد وذلك لا يكون أيضا إلا في الديون والأملاك والعقود، فأما الحدود فلا يجوز
أن يقبل فيها شهادة على شهادة، ولا يجوز شهادة على شهادة على شهادة في شئ من
الأشياء، ومن شهد على شهادة آخر وأنكر ذلك الشاهد الأول قبلت شهادة أعدلهما فإن
كانت عدالتهما سواء طرحت شهادة الشاهد الثاني، ولا بأس بالشهادة على شهادة وإن
كان الشاهد الأول حاضرا غير غائب إذا منعه من إقامة الشهادة مانع من مرض وغيره.
ومن رأى في يد غيره شيئا ورآه يتصرف فيه تصرف الملاك جاز له أن يشهد بأنه
ملكه كما أنه يجوز أن يشتريه على أنه ملكه، ولا بأس أن يشهد الانسان على مبيع وإن
لم يعرفه ولا عرف حدوده ولا موضعه إذا عرف البائع والمشتري ذلك، ويكره للمؤمن أن
يشهد لمخالف له في الاعتقاد لئلا يلزمه إقامتها فربما ردت شهادته فيكون قد أذل نفسه.
ومتى دعي الانسان لإقامة شهادة لم يجز له الامتناع منها على حال إلا أن يعلم أنه
إن أقامها أضر ذلك بمؤمن ضررا غير مستحق بأن يكون ذلك عليه دين وهو معسر ويعلم
إن شهد عليه حبسه الحاكم فاستضر به هو وعياله لم يجز له إقامتها، وإذا أراد إقامة
91

شهادة لم يجز له أن يقيم إلا على ما يعلم ولا يعول على ما يجد خطه به مكتوبا، فإن وجد
خطه مكتوبا ولم يذكر الشهادة لم يجز له إقامتها، فإن لم يذكر وشهد معه آخر ثقة جاز
له حينئذ إقامة الشهادة.
ومن علم شيئا من الأشياء ولم يكن قد أشهد عليه ثم دعي إلى أن يشهد كان
بالخيار في إقامتها وفي الامتناع منها اللهم إلا أن يعلم أنه إن لم يقمها بطل حق مؤمن
فحينئذ يجب عليه إقامة الشهادة.
ولا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة كما لا يجوز له كتمانها وقد
دعي إلى إقامتها إلا أن تكون شهادته تبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى أو
يؤدى إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقه فإنه لا يجوز له حينئذ إقامة الشهادة وإن دعي
إليها.
باب شهادة الولد لوالده وعليه، والوالد لولده وعليه، والمرأة لزوجها وعليه والزوج
لزوجته وعليها:
لا بأس بشهادة الوالد لولده وعليه مع غيره من أهل الشهادة، ولا بأس بشهادة الولد
لوالده ولا يجوز شهادته عليه، ولا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه إذا كان معه غيره من
أهل الشهادات، ولا بأس بشهادة الرجل لامرأته وعليها إذا كان معه غيره من أهل
العدالة، ولا بأس بشهادتهما له وعليه فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه إذا كان معها
غيرها من أهل الشهادة.
باب شهادة العبيد والإماء والمكاتبين والصبيان:
لا بأس بشهادة العبيد إذا كانوا عدولا وعلى ظاهر الإيمان لساداتهم وعلى غير
ساداتهم ولهم ولا يجوز قبول شهادتهم على ساداتهم، وإذا شهد العبد على سيده بعد أن
يعتق قبلت شهادته عليه، وإذا أشهد رجل عبدين له على نفسه بالإقرار بوارث فردت
شهادتهما وحاز الميراث غير المقر له فأعتقهما بعد ذلك ثم شهدا للمقر له قبلت شهادتهما
92

له ورجع بالميراث على من كان أخذه ورجعا عبدين، فإن ذكرا أن مولاهما كان أعتقهما
في حال ما أشهدهما لم يجز للمقر له أن يردهما في الرق وتقبل شهادتهما في ذلك لأنهما
أحييا حقه.
ولا بأس بشهادة المكاتبين والمدبرين وتقبل شهادة المكاتبين بمقدار ما عتقوا على
ساداتهم، وكل من ذكرنا من العبيد والمكاتبين والمدبرين تقبل شهادتهم على أهل
الاسلام إلا من استثنيناه من سادتهم ولأهل الاسلام ولمن خالف الاسلام من الأحرار
والعبيد في سائر الحقوق والحدود وغير ذلك مما يراعى فيه الشهادة.
ويجوز شهادة الصبيان إذا بلغوا عشر سنين فصاعدا إلى أن يبلغوا في الشجاج
والقصاص ويؤخذ بأول كلامهم ولا يؤخذ بآخره، ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من
الديون والحقوق والحدود، وإذا أشهد الصبي على حق ثم بلغ وذكر ذلك جاز له أن يشهد
بذلك وقبلت شهادته إذا كان من أهلها.
باب شهادة النساء:
شهادة النساء على ثلاثة أضرب: فضرب منها لا يجوز قبولها على وجه، وضرب يجوز
قبولها إذا كان معهن الرجال، وضرب يجوز قبولها وإن لم يكن معهن رجال.
فأما ما لا يجوز قبول شهادة النساء فيه على وجه كان معهن رجال أو لم يكن فرؤية
الهلال والطلاق فإنه لا يجوز قبول شهادة النساء في ذلك وإن كثرت.
وأما ما يراعى فيه مع شهادة النساء شهادة الرجال فكالرجم فإنه إذا شهد ثلاثة
رجال وامرأتان على رجل بالزنى قبلت شهادتهم ووجب على الرجل الرجم إن كان
محصنا، وإن شهد رجلان وأربع نسوة بذلك قبلت أيضا شهادتهن ولا يرجم المشهود عليه
بل يحد حد الزاني، فإن شهد رجل وست نساء أو أكثر من ذلك لم يجز قبول شهادتهم
وجلدوا كلهم حد الفرية، وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزنى فادعت أنها بكر أمر
النساء بأن ينظرن إليها فإن كانت كما قالت درئ عنها الرجم والحد وجلد الأربعة
حد الفرية وإن لم تكن كذلك رجمت أو حدت.
93

ويجوز شهادة النساء في القتل والقصاص إذا كان معهن رجال أو رجل بأن يشهد رجل وامرأتان على
رجل بالقتل أو الجراح فأما شهادتهن على الانفراد فإنها لا تقبل على
حال، وتقبل شهادتهن في الديون مع الرجال وعلى الانفراد، فإن شهد رجل وامرأتان
بدين قبلت شهادتهم، فإن شهد امرأتان قبلت شهادتهما ووجب على الذي تشهدان له
اليمين كما يجب عليه اليمين إذا شهد له رجل واحد.
وأما ما تقبل فيه شهادة النساء على الانفراد فكل ما لا يستطيع الرجال النظر إليه
مثل العذرة والأمور الباطنة بالنساء، وتقبل شهادة القابلة وحدها في استهلال الصبي في
ربع ميراثه، وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية وشهادة امرأتين في نصف ميراث
المستهل ونصف الوصية ثم على هذا الحساب وذلك لا يجوز إلا عند عدم الرجال، ولا
يجوز شهادة النساء في شئ من الحدود سوى ما قدمناه من الرجم وحد الزنى والدم خاصة
لئلا يبطل دم امرئ مسلم غير أنه لا يثبت بشهادتهن القود وتجب بها الدية على الكمال.
باب شهادة من خالف الاسلام:
لا يجوز قبول شهادة من خالف الاسلام على المسلمين في حال الاختيار ويجوز قبول
شهادتهم في حال الضرورة في الوصية خاصة ولا يجوز في غيرها من الأحكام، ويجوز
شهادة المسلمين عليهم ولهم ويجوز شهادة بعضهم على بعض ولهم كل أهل ملة على أهل
ملته خاصة ولهم، ولا تقبل شهادة أهل ملة منهم لغير أهل ملتهم ولا عليهم إلا المسلمين
خاصة حسب ما قدمناه فإنه تقبل شهادتهم لهم وعلى غيرهم من أصناف الكفار وتقبل
لهم في أحكام المسلمين في الوصية خاصة حسب ما قدمناه، والذمي إذا أشهد ثم أسلم
جاز قبول شهادته على المسلمين.
باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة:
إذا شهد لصاحب الدين شاهد واحد قبلت شهادته وحلف مع ذلك وقضي له به
وذلك في الدين خاصة، ولا يجوز قبول شهادة واحد والحكم بها في الهلال والطلاق
94

والحدود والقصاص وغير ذلك من الأحكام، والقسامة لا تقبل إلا في الدماء خاصة.
وصفة القسامة أنه إذا لم يوجد في الدم رجلان عدلان يشهدان بالقتل فأحضر ولي
المقتول خمسين رجلا من قومه يقسمون بالله تعالى على أنه قتل صاحبهم، فإذا حلفوا قضي
لهم بالدية فإن حضر دون الخمسين حلف ولي الدم بالله من الأيمان ما يتم بها الخمسين
وكان له الدية، فإن لم يكن له أحد يشهد له حلف هو خمسين يمينا ووجبت له الدية،
ولا تكون القسامة إلا مع التهمة للمطالب بالدم والشبهة في ذلك والقسامة فيما دون
النفس يكون بحساب ذلك وسنبين ذلك في كتاب الديات إن شاء الله.
باب شهادات الزور:
لا يجوز لأحد أن يشهد بالزور وبما لا يعلم في أي شئ كان قليلا أو كثيرا وعلى من
كان موافقا كان أو مخالفا فمتى شهد بذلك أثم وكان ضامنا، فإن شهد أربعة رجال
على رجل بالزنى وكان محصنا فرجم ثم رجع أحدهم فقال: تعمدت ذلك، قتل وأدى إلى
ورثته الثلاثة الباقون ثلاثة أرباع الدية. وإن قال: أوهمت، ألزم ربع الدية. وإن رجع
اثنان وقالا: أوهمنا، ألزما نصف الدية. وإن قالا: تعمدنا، وأراد أولياء المقتول بالرجم
قتلهما قتلوهما وأدوا إلى ورثتهما دية كاملة يتقاسمان بينهما على السوية ويؤدى
الشاهدان الآخران على ورثتهما أيضا نصف الدية يتقاسمان بينهما بالسوية. وإن اختار
أولياء المقتول قتل واحد منهما قتله وأدى الآخر مع الباقين من الشهود على ورثة المقتول
الثاني ثلاثة أرباع ديته، وإن رجع الكل عن شهادتهم كان حكمهم حكم الاثنين
سواء.
وإن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدت وتزوجت ودخل بها ثم رجعا
وجب عليهما الحد وضمنا المهر للزوج الثاني وترجع المرأة إلى الأول بعد الاستبراء بعدة
من الثاني.
فإن شهدا بسرقة فقطع المشهود عليه ثم رجعا ألزما دية يد المقطوع، فإن رجع أحدهما
ألزم نصف دية يده هذا إذا قالا: وهمنا في الشهادة. فإن قالا: تعمدنا، قطع يد واحد
95

منهما بيد المقطوع وأدى الآخر نصف ديته على المقطوع الثاني. وإن أراد المقطوع الأول
قطعهما قطعهما وأدى إليهما دية يد واحدة يتقاسمان بينهما على السواء، وكذلك
إن شهدا على رجل بدين ثم رجعا ألزما مقدار ما شهدا به، فإن رجع أحدهما ألزم بمقدار ما
يصيبه من الشهادة وهو النصف.
ومتى شهدا على رجل بدين ثم رجعا قبل أن يحكم الحاكم طرحت شهادتهما ولم
يلزما شيئا بل يتوقف الحاكم عن إنفاذ الحكم، وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم
غرما ما شهدا به إذا لم يكن الشئ قائما بعينه فإن كان الشئ قائما بعينه رد على
صاحبه ولم يلزما شيئا.
وإذا شهدا على رجل بسرقة فقطع ثم جاءا بآخر وقالا: هذا الذي سرق وإنما وهمنا
على ذلك، غرما دية اليد ولم تقبل شهادتهما على الآخر.
وينبغي للإمام أن يعزر شهود الزور ويشهرهم في أهل محلتهم لكي يرتدع غيرهم عن
مثله في مستقبل الأوقات.
96

المراسم العلوية
لأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي
الملقب بسلار
المتوفى: 463 ه‍ ق
97

ذكر أحكام القضاء
وهو على ضربين: واجب وندب. فالواجب: أن يكون الحاكم عالما بالحكم في كل
ما أسند إليه وأن يسوي بين الخصوم ولا يميل.
وما عدا ذلك ندب.
ومن الندب أدب القضاء وهو: أن ينجز حوائجه كلها التي تتعلق نفسه بها قبل
الجلوس ويلبس ما يتجمل به ويتوضأ ويخرج إلى المسجد الأعظم في بلده فيصلي ركعتين
ويجلس مستدبر القبلة ليكون وجهه إلى الخصوم وليكن عليه سكينة ووقار، ثم يتقدم إلى
كل من حضر للتحاكم أن يكتب اسمه واسم أبيه وما يعرف به من غير الألقاب
المكروهة، ثم يأخذها ويخلطها ويجعلها تحت شئ ويأخذ واحدة فمن خرج اسمه
استدعاه. ولا يبدأ أحد الخصمين بالكلام إلا رد السلام، وليكن نظره إليهما متساويا
ومجلسهما كذلك، فإن صمتا فلم يتكلما قال لهما: إن كنتما حضرتما لشئ فاذكراه.
فهذا كله ندب.
ومن الواجب سماع الدعوى وسؤال المدعى عليه عما عنده فيها فإن أقر ولم يرتب
بعقله واختياره ألزمه الخروج مما أقر به، فإن لم يخرج أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه،
فإن التمس الخصم حبسه على ذلك حبسه، فإن ظهر أنه معدم خلي سبيله وأمره أن
يتحمل ذلك، فإن ارتاب بعقله لم يثبت الحكم حتى يظهر له أمره. فإن أنكر المدعى
عليه سأله: أ لك بينة؟ فإن قال: نعم هي حاضرة، نظر في بينته، وإن قال: نعم وليست
بحاضرة، قال: أحضرها. فإن قال: نعم، أخره ونظر بين غيره وبين خصمه. وإن لم
99

يتمكن من إحضار البينة أو لم تكن له بينة قال له: فما تريد؟ فإن قال: لا أدري،
أعرض عنه، وإن قال: تأخذ لي بحقي، قال للمنكر: أ تحلف؟ فإن قال: نعم، قال
للمدعي: قد سمعت أ تريد يمينه؟ فإن قال: لا، أقامهما، وإن قال: نعم، وعظ المنكر.
فإن أقام على الانكار حلفه، وإن نكل عن اليمين ألزمه المدعى عليه. وإن رد اليمين على
خصمه قال الحاكم للمدعي: أ تحلف على صحة دعواك؟ فإن حلف ألزمه خصمه المال
وإن نكل بطلت دعواه.
وإن أقر بالدعوى وسأل الإنظار فإن أنظره خصمه وإلا لم يكن للقاضي إلزامه ذلك
ولا سؤاله فيه، ولا يثبت إقرار عبد ولا محجور عليه، وإذا أقر بمال فقال خصمه للحاكم:
أثبت إقراره، لم يثبته إلا إذا كان عارفا بالمقر بعينه واسمه ونسبه أو يأتي خصمه ببينة
عادلة على أن المقر هو فلان بن فلان. ثم لا يخلو الخصمان أن يدعي أحدهما قبل صاحبه
أو معه، فإن كان قبله فقد بينا ما فيه، وإن كان معه سمع من الذي هو عن يمين
صاحبه.
والمدعى عليه على ثلاثة أضرب: صحيح اللسان أو من به آفة أو من يظهر ذلك
وليس عليه. فالصحيح قد بينا حكمه. وأما المؤوف فيؤول إلى فهمه ومعرفة ما عنده.
ولثالث يأمر بحبسه حتى يقر أو ينكر أو يعفو خصمه عنه.
ذكر: أحكام البينات:
وهي أربعة أضرب: صفاتها في ما ذا تقبل أو لا تقبل، وأعداد الشهود في الأحكام،
وكيفية إيقاع الشهادة، وكيفية سماعها.
ولا بد في البينة من العدالة، وأن لا يكون حاسدا ولا عدوا ولا متهما ولا ظنينا.
والثاني: لا تقبل شهادة مدع، وإن شهد والد على ولده وله قبل، والولد تقبل شهادته
لوالده ولا تقبل عليه، وتقبل شهادة العبيد لساداتهم وغير ساداتهم، فأما على ساداتهم
فلا تقبل. وتقبل شهادة الأعمى إذا أثبت. وإذا تحمل كافر أو فاسق شهادة في حال
كفره ثم أسلم أو تاب وتورع وأقامها قبلت.
100

والأعداد على ضربين: أعداد القسامة وأعداد غير القسامة. فأما أعداد القسامة على
ضربين: قسامة قتل النفس وماله حكم النفس من الجنايات وهو غاية الأعداد في
البينات وهم خمسون رجلا يحضرهم أولياء المقتول إذا لم تكن لهم بينة رجلان عدلان
يشهدان بقتله فيكونون من قومه يقسمون بالله تعالى أن هذا قتل صاحبهم. ولا قسامة إلا
مع التهمة للمطالب. وثاني القسامة ما دون ذلك وهو بحسابه.
فأما أعداد غير القسامة فعلى ضربين: عدد هو أربعة لا يجوزها ولا يقصر عنها وهو
شهادة الزنى واللواط والسحق، والثاني بأقل من أربعة وهو على ضربين: شهادة لا بد فيها
من اثنين وشهادة بواحد، فما باثنين الشهادة على القتل وكل جناية والديون والحقوق
والأهلة في غير أول شهر رمضان وشهادة واحدة وهي في رؤية شهر رمضان وفي الديون
مع يمين المدعي.
واعلم أن الأحكام تنقسم: ففيها ما لا يقبل فيه إلا شهادة الرجال، وفيها ما لا
تقبل فيه شهادة النساء إلا إذا انضممن إلى الرجال، وفيها ما تقبل فيه شهادة الصبيان،
وفيها ما تقبل فيه شهادة النساء إذا انفردن.
فأما ما لا تقبل فيه إلا شهادة الرجال فهو: النكاح والطلاق والحدود ورؤية الأهلة.
وما تقبل فيه شهادة النساء إذا انضممن إلى الرجال: الديون والأموال تقبل فيها
شهادة رجل وامرأتين.
وما تقبل فيه شهادة الصبيان: فالشجاج والجراح إذا ميزوا ما شهدوا به، ويؤخذ
بأول كلامهم.
وأما ما يؤخذ فيه شهادة النساء: فكل ما لا يراه الرجال كالعذرة وعيوب النساء
والنفاس والحيض والولادة والاستهلال والرضاع، وتقبل فيه شهادة امرأة واحدة إذا
كانت مأمونة.
وقد مضى أن شهادة أهل الذمة لا تجوز مع وجود المسلمين، وأنها مع عدمهم تجوز في
الوصية للمسلمين لا عليهم.
فأما كيفية إيقاع الشهادة: فلا يشهد إلا إذا سئل أو لا يجوز له أن يكتم إذا سئل إلا
101

أن تكون شهادته تبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يجوز له أن يمتنع من
تحمل الشهادة إلا أن يضر بالدين أو بأحد من المؤمنين، وإن نسي الشهادة أو شك فيها
فلا يقيمها، وإذا حضروه كتابا فيه خطه فلا يشهد إلا مع الذكر له اللهم إلا أن يقيم
معه عدل آخر الشهادة فيجوز له حينئذ أن يشهد معه. والشهادة على شهادة العدول
تحسب شهادتان بواحدة، وليعين أنه شهد على شهادة غيره.
فأما كيفية سماع البينات: يفرق الحاكم بين الشهود ويسمع قول كل واحد منهم
على انفراده ويأمره بكتبه، وينظر في كتبه كي لا يغلط. ثم يقيم الشاهد الأول، ويحضر
الثاني فيفعل معه مثل الأول ويكتب الدعوى، ثم يقابل بين الدعوى وشهادة الشهود
فإن اتفقت الدعوى والشهادة أنفذ الحكم، وإن اختلفا أبطل الشهادة. ومتى تلعثم
الشاهد أو تتعتع فلا يسددنه الحاكم ولا يلقننه، فإن استقامت شهادته وإلا أبطلها.
وليسأل عمن شهد عنده - وهو لا يخبر أمره - جيرانه ومعامليه فإن زكوه أمضي
شهادته وإلا أبطلها، ولا يحكمن بها إلا بعد التعريف فيه. وإذا تعارضت البينات فإن
كانت أحدهما أرجح حكم بها وإلا قسم الشئ بين من قامت لهما البينات، فإن كان
المدعي في يد المدعيين مع تعارض البينة حكم لمن يده خارجة منها دون المتشبث. وأي
بينة قامت على انسان بعد اليمين فهي على ضربين:
أحدهما: أن يكون شرط الحالف أن يمحو عنه المدعي كل دعوى فأذعن بذلك فلا
حكم لهذه البينة.
والأخرى: تقوم على ما حلف من غير شرط فيلزمه الحاكم ما قامت به البينة.
102

جواهر الفقه
للقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي
400 - 481 ه‍ ق
103

باب مسائل يتعلق بالشهادات والدعاوي والبينات
مسألة: إذا تحمل الشاهد للشهادة هل يكون الأداء لما تحمله من ذلك فرضا أم لا؟
الجواب: أداء الشهادة فرض لقول الله تبارك وتعالى: ولا تكتموا الشهادة ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه، وقوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا.
مسألة: إذا كان أداء الشهادة فرضا فهل هو من فروض الأعيان أو فروض
الكفايات؟
الجواب: قد يكون متعينا وقد يكون من فروض الكفايات.
أما المتعين فمثل أن يشهد بالشهادة اثنان فقط فيما لا يثبت إلا بشاهدين أو واحد
منهما فيما يصح ثبوته بشاهد ويمين أو يتحمل الشهادة جمع كثير ويشهد بها خلق كثير ولا
يبقى منهم إلى وقت الأداء إلا مثل الاثنين أو الواحد على الوجه الذي قدمناه فإنه يتعين
الفرض على الاثنين أو الواحد.
وأما أنه قد يكون من فروض الكفايات فمثل أن يعرف بحق جمع كثير وخلق كثير
ويصيروا شاهدين به، فإذا أقام بأداء ذلك من يثبت بشهادته منهم ذلك سقط الفرض
عن الباقين كالصلاة على الميت وغيره من فروض الكفايات التي إن أقام بها البعض
سقط عمن بقي.
مسألة: إذا كان في يد انسان مملوك فادعى آخر أنه له وشهد له شاهد بأنه غصبه
وشهد آخر أنه أقر له بالغصب هل يحكم بهذه الشهادة أم لا وكيف الحكم في ذلك؟
105

الجواب: هذه الشهادة لا يحكم بمجردها لأنه لم يتفق على فعل واحد لأن الشهادة
بالإقرار مخالفة للشهادة بالغصب، فأما وجه الحكم بها فهو أن المدعي أن يحلف مع أي
الشاهدين أراد فإذا حلف مع ذلك الشاهد حكم له به.
مسألة: إذا شهد الشاهدان على زيد بأنه سرق حمارا فقال أحدهما: سرقه بكرة، وقال
الآخر: سرقه عشية ذلك اليوم، هل يجب القطع بذلك وكيف الحكم إن لم يلزم القطع؟
الجواب: أما القطع فلا يجب لأن الشهادة لم تكمل على سرقة واحدة، وأما الحكم
بعد ذلك فإن لمدعي الحمار أن يحلف مع أي الشاهدين أراد ويستحقه.
مسألة: إذا شهد شاهدان بأن إنسانا سرق الحمار غدوة وشهد آخر بأنه سرقه عشية
ذلك اليوم ما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا شهد بذلك على ما وصف في هذه المسألة كان الحكم بالقرعة.
مسألة: إذا شهد شاهدان على انسان بأنه سرق حمارا وأطلقا الشهادة ولم يعينا زمانا
ولا يوما وشهد آخران بأن ذلك الانسان بعينه سرق حمارا وكانت شهادتهما مطلقة مثل
شهادة الأولين ما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا شهد هؤلاء الشهود بما ذكر وجب القطع لأن الشهادتين لم تتعارضا بل
استعمالهما يمكن لأن ظاهر الإطلاق يقتضي أنهما سرقتان.
مسألة: إذا شهد شاهدان بأن زيدا باع عمروا مملوكا وقت زوال الشمس من يوم
بعينه بمائة دينار وشهد آخران بأنه باعه ذلك المملوك في ذلك الوقت بمائة دينار ما الحكم
في ذلك؟
الجواب: الحكم في ذلك بالقرعة لأنه لا يصح ثبوت عقدين في عين واحد في زمان
واحد.
مسألة: إذا شهد شاهد بأنه باع المملوك بمائة وشهد آخر بأنه باعه بمائتين في وقت
واحد ما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا كان كذلك لم يثبت العقد بمائتين في العقد الواحد وكان للبائع أن
يحلف مع أي الشاهدين أراد ويستحق المملوك.
106

مسألة: إذا شهد شاهدان عدلان عند الحاكم بشئ من الحقوق ثم نسفا قبل الحكم
بما شهدا به هل يحكم بتلك الشهادة أم لا؟
الجواب: يحكم بتلك الشهادة ولا يمنع من الحكم بها نسفهما بعد ذلك وقبل حكم
الحاكم بها لأن المرعى في العدالة أو الفسق وقت الأداء لا وقت الحكم.
مسألة: إذا شهد شاهدان على انسان بأنه أعتق عبده زيدا في مرضه وهو الثلث من
ماله وشهد آخران بأنه أعتق عمرا في مرضه وهو الثلث من ماله كيف الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا شهد المذكوران بذلك أعتق السابق وبقي الآخر مملوكا، وهذا قول من
يقول من أصحابنا: بأنه إذا فعل ذلك حال المرض كان من الثلث، وعلى قول من يقول:
بأن ذلك من أصل المال يقول يعتقان جميعا.
مسألة: إذا ادعى انسان دارا وبقي في يد غيره فقال الذي هي في يده: ليس لك
خصومتي لأنها ملك لزيد، فقال زيد: ليست لي، ما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا كان لمدعي هذه الدار بينة سلمت إليه وإن لم يكن له بينة احتاط عليها
الحاكم لصاحبها فإذا حضر وأثبت البينة بأنها له سلمها إليه ولا يجوز أن تترك في يد
الذي أقر بها لزيد لأنه لا يدعيها لنفسه، ولا تترك أيضا في يد المقر له بها لأنه أنكرها
ولم يقبلها وردها، ولا يجوز أن تترك في يد الذي ادعاها بمجرد دعواه لأنه لا بينة له بها
ولأنه لو سلمت إليه بغير بينة لكان تسليما للحق إلى من ادعى من غير بينة، هذا باطل
بغير شبهة.
مسألة: المسألة بعينها وأقره أن الدار لمن لا يعرف ما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا أقر بها لمن لا يعرف لم يلتفت إلى إقرار بذلك وقيل له: إن أقررت بها
المعروف كانت الخصومة معه فيها دونك، فإن لم يفعل حلف المدعي لها مع بينة بها
واستحقها، فإن عاد وأقر بها لنفسه لم يلتفت إلى هذا الإقرار لأنه قد تقدم منه نفيها عن
نفسه بإقراره بها لغيره.
مسألة: إذا كان في يد انسان دار فادعاها اثنان زيد وعمرو فقال زيد لمن هي في
يده: هذه الدار التي في يدك لي وملكي أودعتكها، وقال عمرو لمن هو في يده: هذه الدار
107

التي في يدك ملكي أجرتكها، وأثبت كل واحد من زيد وعمرو بينة بما ادعاه ما الجواب
في ذلك؟
الجواب: إذا ثبت كل واحد من زيد وعمرو بينة بما ادعاه من ذلك أقرع بينهما فمن
ظهرت القرعة له سلمت إليه الدار.
مسألة: إذا كان في يد انسان دار فقال له آخر: هذه الدار لي غصبتني عليها، فقال:
هذه الدار لي أقررت لي بها، وأثبت كل واحد منهما بينة بما ادعاه ما الحكم في ذلك؟
الجواب: هذه الدار يحكم بها للمغصوب عنه لأن البينة شهدت له بالملك وأنها في يد
من هي في يده غصب والبينة شهدت بالإقرار شهدت بإقراره بما قد ثبت أنه غصب فكان
إقراره بما هذه صفته باطلا.
مسألة: إذا كان في يد انسان دار فادعاها آخر وأنكر الذي هي في يده ذلك وأثبت
المدعي بينة بأنها كانت في يده منذ شهر أو منذ خمسة أيام أو من يوم ما الحكم في ذلك؟
الجواب: لا يحكم بهذه البينة لأنها محتملة ويكون القول قول المدعى عليه في ذلك مع
يمينه هذا إذا لم تشهد البينة بسبب يد المدعى عليه، فإن شهدت بذلك مثل أن قالت:
إنها كانت في يده وأنه غصبه إياها أو حال بينه وبينهما، وجب أن يحكم بالدار للذي
ادعاها لأن البينة شهدت بالملك وسبب يد المدعى عليه فوجب الحكم بما ذكرناه.
مسألة: ثلاثة رجال كفار اثنان منهم ابنان للثالث أسلم أحد الابنين في مستهل
المحرم وأسلم أخوه في مستهل صفر وأسلم أبويهما ومات ولم يختلفا في وقت إسلامهما
بل اختلفا في أبيهما، فقال الذي أسلم في المحرم لأخيه: مات أبونا في المحرم قبل
إسلامك يا أخي والميراث كله لي، وقال الآخر: بل مات أبونا في صفر والميراث بيننا، ما
الجواب عن ذلك والحكم فيه؟
الجواب: إذا اختلف الاثنان على ما ذكر في هذه المسألة ولم يكن لأحدهما بينة بما
ادعاه كان القول قول من ادعى موت الأب في صفر ويكون الميراث بينهما نصفين
لأن الأصل الحياة فلا يرجع عن ذلك إلا بأن يعلم ارتفاعها.
مسألة: رجل مات وهو مسلم وخلف ابنين وتركة فقال أحدهما لأخيه: كنت أنا في
108

الوقت الذي مات أبي فيه مسلما، فقال له أخوه: صدقت وأنا كنت أيضا في ذلك
الوقت مسلما، فقال له الآخر: بل كان إسلامك بعد موته فالميراث كله لي دونك، فقال
الآخر: بل مات أبي وأنا مسلم فالميراث بيننا، ما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا اختلف الاثنان على ما ذكر كان القول قول المتفق على إسلامه لأن
الأصل ههنا الكفر حتى يعلم زواله فإذا ثبت زواله في موت الأب عن هذا الابن كان
الميراث بينه وبين أخيه نصفين، وإن لم يثبت له ذلك كان القول قول المتفق على إسلامه
كما ذكرناه.
مسألة: رجل حر مات وخلف ابنين فقال أحدهما لأخيه: كنت أنا حرا حين مات
أبي فالميراث لي دونك، وقال الآخر: صدقت وأنا أعتقت قبل موت أبينا فالميراث بيننا،
ما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا اختلف الابنان على الوجه المذكور كان القول قول المتفق على حريته
لأن الأصل ههنا في الآخر الرق حتى يثبت زواله، فإن ثبت شارك أخاه في الميراث وإن
لم يثبت كان له الأمر على ما قدمناه.
109

المهذب
للقاضي عبد العزيز بن البراج الطرابلسي
400 - 481 ه‍ ق
111

كتاب الدعوى والبينات
يجب على المدعى البينة في الأموال ويجب على المنكر اليمين، فإن أراد الحاكم
الاحتياط في قبول الشهادة كان له تفريق الشهود واستدعاؤهم واحدا بعد واحد ويسمع
شهادته ويثبتها ثم يقيمها ويحضر آخر ويفعل به مثل ما فعل أولا ويقابل بين الشهادات،
فإن وجدها متفقة كان عليه الحكم بها وإن وجدها مختلفة أبطلها ولم يحكم بشئ منها.
والحكم بتفريق الشهود على الوجه الذي ذكرناه جائز في جميع الأحكام والديون
والعقود والأملاك والدماء والفروج والقصاص والشجاج وسائر الحقوق، فإن لم يفرق
الحاكم الشهود وشهدوا مجتمعين في مقام واحد جاز سماع شهاداتهم وإن كان تفريقهم
أقوى في الاحتياط لسماع شهاداتهم.
فإن شهد عند الحاكم شاهدان عدلان في مقام واحد على وجه واحد ووافقت
شهادتهما الدعوى كان عليه الحكم بشهادتهما، فإن شهد عنده اثنان لا يعرفهما بعدالة
ولا جرح سمع شهادتهما وأثبتهما عنده ثم كشف عن أحوالهما فإن وجدهما ممن يرضى
قوله ويجوز شهادته حكم بشهادتهما وإن وجدهما بخلاف ذلك طرح شهادتهما ولم
يلتفت إليهما.
وإذا شهد عنده من يتعتع في شهادته لم يجز له أن يسدده ولا يمكن أحدا من تلقينه بل
يتمهل عليه حتى يفرع ثم ينظر في شهادته، فإن كانت توافق الدعوى سمعها وقبلها وإن
كانت لا توافقها طرحها ولم يلتفت إليها.
وإذا شهد عنده شاهدان على أن الحق لزيد وشهد شاهدان غيرهما على أن الحق لغير
113

المشهود له أولا فإن كان أيديهما خارجتين من ذلك الشئ كان على الحاكم أن يحكم
لأعدلهما شهودا فإن تساووا في العدالة حكم لأكثرهما في العدد مع يمينه بالله تعالى بأن
الحق له، فإن تساووا في العدد أقرع بينهما فمن خرج اسمه استحلف وكان الحكم له،
فإن امتنع من خرج اسمه في القرعة من اليمين استحلف الآخر فإن حلف كان الحكم
له، فإن امتنعا من اليمين قسم الحق بينهما نصفين، فإن كان مع أحدهما يد متصرفة نظر
في ذلك، فإن كانت البينة تشهد بأن الحق ملك له فقط وتشهد بالملك الآخر أيضا أخذ
الحق من اليد المتصرفة وسلم إلى الذي يده خارجة عنه، فإن شهدت البينة لليد المتصرفة
بسبب الملك من معاوضة أو بيع أو هبة أو ما جرى مجرى ذلك كانت الأولى من اليد
الخارجة.
وإذا شهد شاهدان على امرأة بأنها زوجة لزيد وشهد شاهدان غيرهما بأنها زوجة
عمرو حكم لأعدلهما شهودا، فإن تساووا في العدالة أقرع بينهما فمن خرج اسمه حكم
بأن المرأة زوجته دون الآخر.
وإذا هلك انسان وترك أولادا وحضر انسان وادعى عليه بأنه ابتاع منه موضعا معينا
وحضر آخر وادعى عليه أنه ابتاع منه ذلك الموضع بعينه وأظهر كل واحد منهما كتابا
بذلك وتساوت بينة الكتابين في العدالة والعدد أقرع بينهما، فمن خرج اسمه استحلف
مع ذلك وكان الحكم له.
وإذا كان رجل وامرأة مجتمعين ومعهما جارية فادعى الرجل أنها مملوكته وادعت
المرأة أنها بنتها وأنها حرة وأنكرت الجارية الدعويين جميعا كان على الرجل البينة بأنها
مملوكة لم يبعها ولم يعتقها، وإذا أثبت بينة بذلك سلمت إليه، وإن لم يثبت ذلك ولا
تكون هي بالغة أو تكون بالغة إلا أنها لا تقر أخذت من يده، فإن أقامت المرأة البينة
بأنها بنتها دفعت إليها، فإن لم تكن لها بينة أطلقت الجارية لتمضي حيث شاءت ولم
يكن لواحد منهما عليها سبيل.
وإذا كان في موضع جماعة من الناس جلوسا وفي وسطهم كيس فيه مال فادعاه واحد
منهم وسئل الباقون عنه فقالوا: ليس هو لنا، كان الكيس للذي ادعاه.
114

وإذا طلق رجل زوجته وفي بيتها ما للرجال وما للنساء ولم يكن لأحدهما بينة على
شئ منه كان بينهما نصفين، فإن طلقها وادعى أن متاع البيت له وادعت المرأة أنه لها
دونه حكم للرجل بما للرجال وللمرأة بما للنساء.
وإذا دخل انسان الحمام وادعى أن ثيابه ضاعت في الحمام لم يلزم الحمامي شئ
وإن ذكر المدعي أن الحمامي أخذ الجعل لأنه إنما يأخذ ذلك على الحمام لا على ضمان
الثياب، وقد استوفينا ما يتعلق بالتالف في الحمام فيما تقدم.
وإذا كان قوم مشتركين في جارية فوطئها جميعهم في طهر واحد وحملت وولدت
وادعى كل واحد منهم أن الولد له أقرع بينهم فمن خرج اسمه كان الولد لاحقا به دون
غيره، وغرم لمن يبقى قيمة الولد بحسب ما لهم من الجارية وكان عليه أن يرد مع ذلك
أيضا ثمن الجارية يكون بينهم على قدر حصصهم.
وإذا نذر انسان أن أول مملوك يملكه فهو حر وملك اثنين أو أكثر منهما في وقت واحد
أقرع بينهما فمن خرج اسمه كان حرا، وإذا سقط موضع على جماعة فماتوا وبقي منهم
صبيان أحدهما حر والآخر مملوك وهذا المملوك عبد لهذا الحر ولم يتميز أحدهما من الآخر
أقرع بينهما، فمن خرج اسمه كان حرا وكان الآخر مملوكا له.
وإذا أوصى بعتق ثلث عبيده ولم يعينهم ولا ميزهم بذكر ولا صفة أقرع بينهم فمن
خرج اسمه أعتق، وإذا ولد مولود له ما للرجال وما للنساء أقرع بينهم، فإن خرج سهم
رجل ألحق بالرجال وإن خرج سهم امرأة ورث بحسب ذلك.
وكل أمر مشكل فاستعمال القرعة فيه هو الواجب.
باب فيما على الحاكم في الخصوم والشهود:
إذا حضر عند الحاكم خصمان كان عليه أن يسوي بينهما في الدخول عليه والجلوس
بين يديه والنظر إليهما والاستماع لما يذكرانه والإنصات إلى ذلك والعدل بينهما حتى في
لحظه وإشارته ومقعده، ولا يرفع صوته على أحدهما كما لا يرفع على الآخر، ويساوي
بينهما في الأفعال الظاهرة ولا يميل بقلبه إلى أحدهما دون الآخر هذا كله إذا كانا
115

متساويين في الدين مسلمين كانا أو كافرين، فإن كان أحدهما مسلما والآخر كافرا فلا
ينبغي أن يساوى بينهما في المجلس.
وإذا جلس الخصمان بين يديه لم يجز له تلقين واحد منهما بما فيه ضرر على الآخر،
ولا يهديه إليه مثل أن يقصد إلى الإقرار فيلقنه الانكار أو يقصد اليمين ولا يجعل أحدهما
أقرب إليه في الجلوس من الآخر، وهكذا في الشهادة إن أحس من الشاهد التوقف فيها
لم يكن له أن يشير عليه بالإقدام عليها وإن أحس منه الإقدام عليها لم يلقنه التوقف
عنها، فإذا لقن واحدا منهما فقد ظلم الآخر وأفضي إلى إيقاف حقه هذا فيما يتعلق
بحقوق الآدميين، فأما ما يتعلق بحقوق الله تعالى فإنه يجوز التلقين فيها والتنبيه على ما
يسقطها.
وإذا جلسا بين يديه جاز أن يقول: تكلما، يريد بذلك يتكلم المدعي منكما أو
يصرح بهذا، يقول: يتكلم المدعي منكما، أو يسكت الحاكم ليقول القائم على رأسه لهما
ذلك لأنهما قد نهيا عن الابتداء بالكلام حتى يأذن لهما وإن سكت ولم يقل لهما شيئا
إلى أن يبتدئ بالكلام كان جائزا.
ولا يقول لواحد منهما: تكلم، لأنه إذا أفرده بالخطاب كسر قلب الآخر. وإذا ابتدأ
أحدهما بالكلام وجعل يدعي على خصمه منع الأخير من مداخلته لأنه يفسد عليه نظام
الدعوى.
وأقل ما على الحاكم أن يمنع كل واحد من أن ينال من عرض صاحبه لأنه جلس
للفصل والانفصال بين الناس، وأقل ما عليه أن لا يمكن أحدهما من ظلم الآخر ولا من
الحيف عليه، ولا يجوز له أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه إما أن يضيفهما معا أو
يتركهما معا.
ولا يجوز له أن يرتشي في الأحكام لأن الراشي والمرتشي ملعونان وذلك حرام على
المرتشي على كل حال ووجه، فإن كان الراشي قد رشاه على تغيير حكم أو إيقافه فهو
حرام على ما قدمناه وإن كان لإجرائه على رسم له أو واجبه لم يحرم عليه ذلك.
وأما الهدية فإن من لم يكن له بمهاداته عادة حرم عليه قبولها، فإن كان من جرت له
116

بمهاداته عادة كالصديق والملاطف والقريب فأهدى إليه هدية تتعلق بحكومة بينه وبين
غيره أو أحس بأنه قدمها بالحكومة بين يديه حرم ذلك عليه كالرشوة، وإن لم يكن شئ
من ذلك جاز قبولها والأفضل له أن ينزه عن أخذها.
وإذا حضر مسافرون ومقيمون وكان الذي سبق هم المسافرون قدمهم لأنه ينبغي أن
يقدم السابق فالسابق من أهل البلد وكذلك المسافر بل هو أولى، وإن وافدا معا أو تأخر
المسافرون فإن كان بهم قلة من حيث لا يضر تقدمهم بأهل البلد كان مخيرا بين تقديمهم
وبين أن يفرد يوما يفرع فيه من حكوماتهم لأن المسافر على شرف السفر والرجل يكثر
شغله ويزدحم حوائجه فلهذا قدم، وإن كانوا مثل المقيمين أو أكثر كأيام الموسم في مكة
والمدينة كانوا هم والمقيمون سواء لأن في تقديمهم إضرارا بأهل البلد وفي تأخيرهم إضرارا
بهم فكانوا سواء.
وينبغي للحاكم أن يجلس في مكان بارز للناس مثل الصحراء أو رحبة أو مكان
واسع إلا من ضرورة من مطر أو غيره فيجلس في بيته أو في المسجد ويتقدم إلى ثقة ليحفظ
من جاء أولا ويضبط: قد جاء فلان أولا ثم فلان ثم فلان، على هذا أبدا.
فإذا حكم الحاكم قدم الأول فالأول، فإن كان عددهم قليلا يمكن الإقراع بينهم
أقرع بينهم فمن خرج قرعته قدمه، وإن كثرت وتعذرت القرعة كتب الحاكم أسماءهم
في رقاع وجعلها بين يديه ومد يده وأخذ رقعة بعد رقعة أخرى كما سبق.
فإذا قدم إنسانا بالسبق أو بالقرعة أو بالرقعة فحكم بينه وبين خصمه وفرع منهما
أمرهما بالقيام وقدم غيرهما، فإن قال الأول: لي حكومة أخرى، لم يلتفت إليه وقال له:
قد حكمت بينك وبين خصمك بحكمك فإما أن تنصرف أو تصبر حتى أفرع من الناس،
فإنه لو قضى بينه وبين من يخاصمه أدى ذلك إلى أن يستغرق المجلس لنفسه فلذلك لا
يزاد على واحدة.
فإذا تقدم غيره فادعى فإن شاء ادعى على المدعى عليه أولا وإن شاء ادعى على
المدعي الأول وإن شاء ادعى المدعى عليه أولا على المدعي الأول فإنه يحكم بينهما لأنا
إنما نعتبر الأول فالأول في المدعي وأما في المدعى عليه فلا، فإذا فرع وبقي واحد حكم
117

عليه وبين خصمه، فإن كان له من الحكومات أكثر من الواحد حكم في جميعها لأنه لا
مزاحم له فيها اللهم إلا أن يكون الأول قد جلس حتى يفرع الناس، فإذا حكم بين
الأخير وخصمه حكومة قدم الأول لأنه لهذا جلس.
وإذا حضر اثنان فادعى أحدهما على الآخر فقال المدعى عليه: أنا المدعي وهذا
المدعى عليه، لم يلتفت الحاكم إلى ذلك وقال له: أجب عن دعواه فإذا فرع من
حكومتك وكان لك كلام أو دعوى فاذكره، فإن حضرا وادعيا جميعا كل واحد منهما
على الآخر في حال واحد لم يسبق أحدهما صاحبه قدم الذي يكون على يمين صاحبه.
وإذا كان لجماعة حقوق على واحد من جنس واحد أو أجناس مختلفة ووكلوا من
ينوب عنهم في الخصومة فادعى الوكيل الحقوق فإن اعترف ألزم ذلك وإن أنكر وكان
هناك بينة حكم بها عليه وإن لم يكن بينة كان القول قوله مع يمينه، وإذا أراد كل واحد
من هذه الجماعة أن يستحلفه على الانفراد كان ذلك له لأن اليمين حق له فكان له أن
ينفرد بها، فإن رضيت الجماعة منه بيمين عن الكل كان ذلك جائزا لأن اليمين حق لهم
فإذا رضوا بيمين واحدة صح ذلك واكتفى بها عن جميعهم.
وإذا حضر عند الحاكم انسان واستعدى على انسان وكان المستعدى عليه حاضرا
أعدى عليه وأحضره وليس في ذلك ابتذال لأهل الصيانات إن كان المستعدى عليه من
أهلها ومن أهل المروءات لأن أمير المؤمنين ع حضر عند شريح مع يهودي وحضر
عمر مع أبي بن زيد عند ابن ثابت ليحكم بينهما وحضر أبو الدوانيق - في حجة - مع
جمالين مجلس الحكم بخلاف جرى بينهما.
فإذا كان إحضار من ذكرناه صحيحا جائزا فينبغي أن يكون عند الحاكم في ديوان
حكمه ختوم من طين مطبوخة بخاتمه ينفذ منها شيئا مع الخصم إليه، فإن حضر وإلا بعث
بعض أعوانه إليه، فإن حضر وإلا أنفذ شاهدين يشهدان على امتناعه، فإن حضر وإلا
استعان بصاحب الحرب وهو صاحب الشرطة.
فإن كان المستعدى عليه غائبا في ولاية هذا الحاكم مثل أن يكون غائبا إلى موضع
والموضع موضع نظر هذا الحاكم وولايته وكان في موضع غيبته خليفة له كتب إليه رقعة
118

وأنفذ بخصمه إليه ليحكم بينهما، وإن لم يكن هناك خليفة وكان فيه من يصلح أن
يحكم بينهما كتب إليه رقعة وجعل النظر بينهما إليه، فإن لم يكن له ذلك في الموضع و
لا وال فيه قال لخصمه: حرر دعواك عليه، فإذا حررها أعدى عليه. وإن كان غائبا في غير
ولايته مثل أن يكون الحاكم ببغداد فغاب إلى بصرة والبصرة في غير ولايته فإنه يقضى على
غائب.
وإن كانت امرأة وكانت بارزة فهي كالرجل، فإن كانت مخدرة بعث إليها من
يقضى بينها وبين خصمها في منزلها، والبارزة هي التي تبرز لقضاء حوائجها بنفسها
والمخدرة هي التي لا تخرج لذلك.
فإذا حضر قيل له: ادع الآن، فإن ادعى لم يسمع الدعوى إلا محررة. فأما إن قال:
لي عنده فرش أو ثوب أو حق، لم يسمع دعواه لأن الدعوى لها جواب فربما كان
ب‍ " نعم " وليس على الحاكم أن يقضي به عليه لأنه مجهول، فإذا كان كذلك فلا بد من
تجديد الدعوى، كانت من الأثمان أو من جنس غيرها صحت مع تحريره لها أن يذكر
الجنس والمقدار أو النوع أو ما أشبه ذلك مما يخرجها عن أن تكون مجهولة، فإذا كان
كذلك لم يكن للحاكم المطالبة بالجواب من غير مسألة المدعي لأن الجواب حق للمدعي
فليس للحاكم مطالبته به من غير مسألة كنفس الحق، فإذا طالبه بالجواب بالمسألة كان
ذلك بأن يقول له: ما تقول فيما يدعيه؟
فإن أقر عند ذلك بالحق ألزمه القيام لخصمه به لأنه لو قامت عليه بينة بذلك ألزمه،
فبأن يلزمه باعترافه أولى وإلزامه القيام به يكون بأن يقول: ألزمتك ذلك أو قضيت به
عليك أو أخرج له منه، فإذا قال ذلك له كان حكما بالحق. فإن سأله المدعي أن يكتب
له محضرا حجة له في يده بحقه فعل ذلك.
وإن لم يقر بالحق وأنكرها فقال: لا حق لك قبلي، كان هذا موضع البينة، فإن
كان المدعي لا يعرف له موضع البينة كان للحاكم أن يقول له: أ لك بينة؟ فإن كان
عارفا بأنه وقت البينة فالحاكم مخير بين أن يسكت أو يقول له: أ لك بينة؟ فإذا قال:
أ لك بينة؟ فإن لم يكن له بينة عرفه الحاكم بأن لك يمينه، فإذا عرف ذلك لم يكن
119

للحاكم أن يستحلفه بغير مسألة المدعي لأن اليمين حق له فليس له أن يستوفيه إلى
مطالبته مثل نفس الحق، فإن لم يسأله واستحلفه من غير مسألة لم يعتد بهذه اليمين لأنه
أتى بها في غير وقتها، فإن لم يعتد بها أعادها عليه بمسألة المدعي.
فإذا عرض عليه اليمين فإن أجاب إليها وحلف أسقط الدعوى ولم يكن لخصمه أن
يستحلفه مرة أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره، فإن سأله الحالف أن يكتب له بما
جرى محضرا لئلا يدعيه مرة أخرى فعليه أن يكتب له ذلك يكون حجة في يده.
فإن لم يحلف قال له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا ورددت اليمين على
خصمك فيحلف فيستحق عليك، يقول هذا ثلاثا، فإن سأل الحاكم أن يكتب له محضرا
بما جرى فعل ذلك هذا إذا لم يكن بينة.
فإن كانت بينة فكانت حاضرة لم يقل الحاكم: أحضرها، لأنه حق له فله أن يفعل
ما يرى، فإذا حضرا لم يسأل الحاكم عما عندهما حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له
فلا يتصرف فيه بغير أمره، فإذا كان لا بد من سؤال المدعي للاستماع منهما لم يقل
الحاكم لهما: اشهدا، لأنه أمر والحاكم لا يأمرهما إلا أنه يقول: تكلما إن شئتما من
كان عنده كلام فليذكره إن شاء، فإذا قالا ما عندهما فإما أن يكون ما أقاماه من
الشهادة فاسدا أو صحيحا، فإن كان فاسدا مثل إن قالا: بلغنا أن له عليه ألفا، أو
قالا: سمعنا بذلك، قال له الحاكم: زدني في شهودك، فيرد شهادتهما بذلك.
فإن شهدا عنده بالحق شهادة صحيحة لم يحكم له الحاكم حتى يسأل الحاكم بها،
فإذا سأله بحث عن حال الشهود، فإن كانوا فساقا وقف الأمر حتى يأتي بالبينة، وإن
كانوا عدولا قال الحاكم للمدعى عليه: قد عدلا عندي هل لك جرح؟ فإن قال: نعم،
أنظره - حتى يجرح الشهود - ثلاثا، فإن لم يأت بجرح أو قال: لا جرح عندي، لم
يحكم حتى يسأل المدعي أن يحكم له بذلك.
فإن سأله فيستحب للحاكم أن يقول للمدعى عليه: قد ادعى كذا عليك وشهد
عليك بكذا وأنظرتك جرح الشهود فلم تفعل وهو إذا أحكم عليك، ليبين له أنه حكم
بحق، فإذا قال هذا حكم عليه بالبينة ولم يستحلف المدعي مع بينته.
120

هذا إذا كانت البينة حاضرة، فإن كانت غائبة قال الحاكم له: ليس لك ملازمته
ولا مطالبته بكفيل ولك يمينه أو تتركه حتى تحضر البينة، وذكر: أن له ملازمته ومطالبته
بكفيل حتى تحضر البينة، وما ذكرناه أولا هو الأظهر والأصح والثاني أحوط لصاحب
الحق ولا بأس به.
فإن سكت أو قال: لا أقر ولا أنكر، قال الحاكم له: إن أجبت عن الدعوى وإلا
جعلتك ناكلا ورددت اليمين على خصمك، وذكر: أنه يحبسه حتى يجيب إما بإقرار أو
بإنكار ولا يجعله ناكلا، وما ذكرناه أولا هو الظاهر من مذهبنا ولا بأس بالعمل بالثاني.
ولا ينبغي له أن يأخذ الرزق على القضاء، وقد ذكر جواز ذلك وأخذه من بيت المال.
وإذا ترافع خصمان إلى الحاكم فادعى أحدهما على الآخر حقا فأنكر وعلم الحاكم
صدق المدعي فيما طالبه مثل أن يكون ما عليه يعلمه الحاكم أو قصاص وما أشبه ذلك
كان له أن يحكم بعلمه.
فأما مخالفونا فلا خلاف بينهم في أنه يحكم في الجرح بعلمه، ويقولون: لو علم الجرح
وشهدوا عنده بالتعديل ترك الشهادة وعمل بعلمه ولأنه لو لم يقض بعلمه أفضي إلى
إيقاف الحكم أو فسق الحكام، لأنه إذا طلق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ثم جحد
الطلاق كان القول قوله مع يمينه، فإن حكم بغير علمه - وهو استحلاف الزوج -
وتسليمها إليه فسق وإن لم يحكم له وقف الحاكم، وهكذا إذا أعتق الرجل عبده
بحضرته ثم جحد، وإذا غصب من رجل ماله ثم جحد يفضى إلى ما قلناه، فهذا قولهم ثم
يعيبوننا إذا قلنا بمثله.
باب كتاب قاض إلى قاض:
لا يجوز عندنا العمل على كتاب قاض إلى قاض في الأحكام ولا قبوله في ذلك،
ومخالفونا مجيزون ذلك فيعملون عليه في الأحكام، وكذلك يقولون في كتابه إلى الأمير
وكتاب الأمير إلى القاضي أو الأمير على ما تضمنته الآية من قصة سليمان ع
وبلقيس من قوله تعالى:
121

يا أيها الملأ إني ألقي إلى كتاب كريم إنه من سليمن وإنه بسم الله
الرحمن الرحيم، فكتب إليها سليمان فدعاها إلى الاسلام والإيمان.
وما رواه عبد الله بن حكيم قال: أتانا كتاب رسول الله ص قبل
وفاته بشهر: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب.
وما روي عن ضحاك بن سفيان من أنه قال: أمرني رسول الله ص
على قوم من العرب وكتب معي كتابا وأمرني فيه أن أورث امرأة اسم الضابي من دية
زوجها فعمل به عمر وكان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى روى الضحاك له ذلك
فعمل به.
وما روي من أنه ص جهز جيشا وأمر عليهم عبد الله بن رواحة
وأعطاه كتابا مختوما وقال: لا تفضه حتى تبلغ موضع كذا وكذا فإذا بلغت ففضه
واعمل بما فيه، قال: ففضضته وعملت بما فيه.
وما كتب به ع إلى الأكاسرة والقياصرة:
فكتب إلى قيصر ملك الروم: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى عظيم
الروم: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم... الآية، فلما وصل
الكتاب إليه قام قائما ووضعه على رأسه واستدعى مسكا فوضعه فيه فبلغ ذلك رسول
الله ص فقال: ثبت ملكه.
وما كتب به إلى ملك الفرس فإنه كتب إلى كسرى بن هرمزان: بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى كسرى بن هرمزان أسلموا تسلموا والسلام، فلما وصل
الكتاب إليه أخذه ومزقه فبلغ ذلك النبي ص فقال: تمزق ملكه.
وما يدعونه من الاجماع على ذلك في جميع الأعصار، قالوا: لأن الصحابة لم تزل
كذلك والتابعون من بعدهم فكتب بعضهم إلى بعض ولأن للناس إليه حاجة.
وجميع ما ذكروه لا حجة لهم فيه أما ما ذكروه من كتب النبي ص
فإنه عمل عليها لأنها كانت معلومة وهي حجة لأن قوله ع حجة وليس
الخلاف في ذلك، وإنما الخلاف في من ليس بمعصوم وهل هو كتابه أم لا؟
122

وأما ما كتبه إلى كسرى وقيصر فإنه دعاهم فيها إلى الله تعالى والإقرار بنبوته وذلك
عليه دليل غير الكتاب، ولا خلاف في أنه لا يقبل فيه كتاب قاض إلى قاض.
وأما الاجماع فنحن نخالفهم فيه أشد الخلاف، وليس هذا الكتاب موضوعا للحجاج
فنستقصي الكلام عليهم فيه وهو مستوفى في كتب أصحابنا الموضوعة في ذلك فمن أراد
الوقوف عليه نظره من هناك.
باب الاستحلاف:
إذا توجهت اليمين على أحد الخصمين وأراد الحاكم استحلاف من توجهت عليه
فينبغي أن يخوفه بالله تعالى ويذكره العقاب الذي يستحق على اليمين الكاذبة والوعيد
عليها، فإن راجع الحق حكم عليه بما يقتضي الحال حسب ما توجبه الشريعة وإن لم
يراجع ذلك واستمر على الانكار استحلفه بالله الذي لا إله إلا هو أو بشئ من أسمائه.
ولا يجوز استحلافه بغير ذلك من الكتب المنزلة والأمكنة الشريفة، ولا بالأنبياء ولا
بالرسل، ولا بالبراءة من الله تعالى، ولا من رسله ولا من أحد من الأئمة، ولا بطلاق ولا
بعتق ولا بكفر.
فإذا استحلف الحاكم الخصم فينبغي أن يقول له:
قل: والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك
المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي على ما ادعاه ولا له قبلي
حق بدعواه، فإذا حلف بذلك برئت ذمته مما ادعى خصمه عليه به.
وإن قال له: قل والله ما له قبلي حق، كان مجزئا إلا أن الأول أقوى في الترتيب
والردع على من تقدم باليمين.
وأما استحلاف أهل الكتاب فينبغي أن يكون أيضا بالله تعالى أو بشئ من
أسمائه، ويجوز أن يستحلفوا بما يذهبون هم إلى الاستحلاف به وذلك إلى الحاكم فإنه
يستحلف بما يراه أردع لهم وأعظم عليهم وقد ذكرنا فيما سلف طرفا من كيفية
استحلافهم، فإن استحلفهم كذلك كان جائزا.
123

فإن كان الذي توجهت عليه اليمين أخرس فإنه يستحلفه بالإشارة والإيماء إلى
أسماء الله تعالى، ويوضع يده على اسم الله تعالى في المصحف ويعرف يمينه على الانكار
كما يعرف إقراره وأنظره، فإن لم يحضر مصحفا كتب اسم الله ووضع يده عليه، وينبغي
أن يحضر استحلافه من كان معتادا لفهم أغراضه وإشاراته وإيمائه.
وإن كتب نسخة اليمين في لوح ثم غسل اللوح وجمع الماء وأمر بشربه كان جائزا
وكان حالفا إذا شربه، وإن امتنع عن شربه ألزم القيام بالحق.
وإذا أراد الحاكم استحلاف الخصم فينبغي أن لا يستحلفه إلا في مجلس الحكم، فإن
أراد استحلاف من توجهت اليمين عليه ومنعه من حضور مجلسه مانع من عجز أو مرض أو
ما جرى مجرى ذلك أنفذ الحاكم إليه من ينوب عنه في استحلافه.
فإذا وجبت اليمين على امرأة فينبغي أن يستحلفها أيضا في مجلس الحكم ويعظم
الأيمان عليها وقد ذكرنا فيما سلف حكمها في البروز أو غيره فلا وجه لإعادته فإن
امتنعت بعد اليمين من الخروج من الحق كان له حبسها كما له حبس الرجل وقد تقدم
أيضا في ذلك ما لا طائل في إعادته.
فأما مواضع الاستحلاف فقد قدمنا ذكرها فمن أراد الوقوف عليه نظر في موضعه إن
شاء الله تعالى.
باب آداب القضاء:
قال الله تعالى لرسوله ص: فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم.
وقال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.
وقال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
وقال تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون.
وقال تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل.
124

وقال النبي ص: من حكم في قيمة عشرة دراهم فأخطأ حكم الله
جاء يوم القيامة مغلولة يديه، ومن أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض.
وقال علي ع: كل حاكم حكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت وقرأ:
يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن
يضلهم ضلالا بعيدا.
ثم قال: والله لقد فعلوا تحاكموا إلى الطاغوت وأضلهم الشيطان ضلالا بعيدا فلم
ينج من هذه الأمة إلا نحن وشيعتنا وقد هلك غيرهم فمن لم يعرفهم فعليه لعنة الله.
وقال الصادق ع: الحكم حكمان: حكم الله عز وجل وحكم الجاهلية
فمن أخطأ حكم الله فحكم الجاهلية.
وروي أن القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنة، فأما الثلاثة التي في
النار: فقاض قضى بالباطل وهو يعلم أنه الباطل، وقاض قضى بالباطل وهو يظن أنه
حق، وقاض قضى بشئ وهو لا يعلم أنه حق أو باطل، وأما الذي في الجنة فقاض قضى
بالحق وهو يعلم أنه حق.
وقال النبي ص: إذا جلس القاضي للحكم بعث الله إليه ملكين
يسددانه فإن عدل أقاما وإن جار عرجا وتركاه.
وقال: من طلب حقا حتى يناله فإن غلب عدله جوره فله الجنة وإن غلب جوره
عدله فله النار، وروي عنه أنه ص قال: الله تعالى مع الحاكم ما لم يجر
فإذا جار برئ منه ولزمه الشيطان.
فجواز القضاء معلوم من دين الاسلام على وجه لا يعترضه شك وهو من فروض
الكفاءات وإذا قام به قوم سقط عن الباقين، فإن أطبق أهل بلد على تركه وامتنعوا منه
خرجوا وجاز للإمام ع قتالهم عليه لما روي عن رسول الله ص
أنه قال: إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه ولأنه من الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذا أراد الحاكم أن يحكم بين الناس فيستحب له أن يجلس لذلك في موضع بارز
125

للناس مثل فضاء واسع أو رحبة أو ما أشبه ذلك ليصل من كانت له حاجة من غير مزاحمة
فيكون في ذلك رفق بهم، ويستحب أيضا أن يكون هذا الموضع في وسط البلد لأنه أقرب
ما يكون إلى المساواة بين الناس، فإن جلس في طرف البلد أو حكم في بيته أو في موضع
ضيق كان جائزا.
ويستحب أن يصل إليه في مجلس حكمه كل أحد، ولا يتخذ صاحبا يحجب الناس
عن الوصول إليه، ويجوز أن يتخذ الحاجب لغير ذلك لما روي عنه ص أنه
قال: من ولى شيئا من أمور الناس فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون
حاجته وفاقته وفقره. فأما جلوسه للحكومة في المساجد فجائز وقد روي: أن أمير المؤمنين
ع كان يقضي في مسجد الكوفة، ودكة القضاء فيه معروفة إلى هذا الوقت لا
يختلف أحد فيها وأما إقامة الحدود فمكروهة فيها بغير خلاف.
ولا ينبغي للحاكم أن يحكم وهو غضبان، ويستحب له إذا غضب ترك الحكم إلى أن
يزول عنه الغضب ثم يقضي بين الناس بعد ذلك لما روي عنه ص أنه
قال: لا يقضي القاضي ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان، وكل أمر يكون معه في
معنى الغضبان فحكمه حكم الغضبان في تركه الحكم حتى يزول عنه ذلك مثل الجوع
الشديد والعطش الشديد والغم الشديد والفرح الشديد والوجع الشديد ومدافعة الأخبثين
والنعاس الغامر للقلب كل ذلك سواء فيما ذكرناه لما روي عنه ص أنه
قال: لا يقضي القاضي وهو غضبان مهموم ولا مصاب محزون ولا يقضي وهو جائع، فإن
خالف وقضى بين الناس وهو على الصفة التي ذكرناها فوافق الحق نفذ حكمه ولا ينقض
حكمه.
ويكره تولى البيع والشراء بنفسه لما روي عنه ص أنه قال: ما عدل
وال اتجر في رعيته أبدا.
ولا ينظر في ضيعته ونفقة عياله بل يوكل من ينوب عنه في ذلك لأن جميع ذلك ما
يشغله من القضاء، ويستحب أن يكون وكيله مجهولا لأنه إذا عرف خون لأجل الحكم
وكان وكيله جار مجراه، فإن [خالف في هذا فباع] واشترى بنفسه كان التصرف
126

صحيحا نافذا لأنه [ليس بمحرم وانما] هو مكروه لاجل الحكم.
ويستحب للحاكم إذا ادعى إلى وليمة [أن يحضرها لما] روى عنه صلى الله عليه
وآله من قوله: لو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلى ذراع لقبلت، فإن كثرت
الولائم تخلف عن الأكل لأن [قبول] ذلك مستحب والقضاء مقدم عليها، ويعود المرضى
ويشهد الجنائز ويأتي مقام الغائب لأنها قربة وطاعة، فإن كثر ذلك فازدحم عليه حضر
الكل لأنه حق يسهل قضاؤه بحضور لحظة.
ويتصرف إذا حضر بلد ولايته، فأول ما يبتدئ به أن ينفذ إلى الحاكم المعزول
فيأخذ ديوان الحكم إليه، وهو ما عنده وثائق الناس وحججهم المحاضر والسجلات لأن
من عادة القضاة إذا حكموا بشئ أن يكون ذلك في سجل على نسختين نسخة في يد
المحكوم له ونسخة في ديوان الحكم احتياطا، فمتى ضاعت حجة رجع إلى ما في ديوان
الحكم، ويكون فيه كتب الوقف فإن العادة جارية عند القضاة بتجديدهم كتب الوقف
كلما أخلقت ومات شهودها، ويكون فيه ودائع الناس أيضا فإن من الناس من يودع
كتبه ووثائقه في ديوان لأنه أحفظ لها وأحوط عليها.
فإذا حصل الديوان عنده خرج إلى المجلس الذي يجلس فيه للحكم بين الناس
راكبا إن كان له مركبا أو ماشيا إن لم يكن له ذلك، فإذا مر بقوم سلم عليهم عن يمينه
وشماله لما روي عنه ص: يسلم الراكب على الماشي والقائم على القاعد
والقليل على الكثير، فإذا وصل إلى مجلسه سلم على من سبق إليه من الوكلاء والخصوم.
فإن كان مجلسه في المسجد صلى حين يدخله ركعتين تحية المسجد لما روي من قوله
ص: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلى ركعتين، وإن لم
يكن [المان مسجدا كان بالخيار بين أن يصلى ركعتين] ان كان وقتا تجوز النافلة فيه
و [بين أن يترك ويفرش له ما يجلس عليه وحده من حصير أو بساط] أو غير ذلك ولا
يجلس على التراب ولا على بارية المسجد لأنه أهيب له] عند الخصوم [وأنفذ لامره،
ويجلس عليه وحده ليتميز من غيره عند تقدم الخصم] إليه، ويكون متوجها إلى القبلة لما
روي عنه ص من قوله: خير المجالس ما استقبل به القبلة، وقد ذكر:
127

أنه يكون ظهره إليها، ليكون وجوه الخصوم في الاستحلاف إليها، فالأول أظهر.
فإذا جلس وقف على رأسه ثقة ترتب الناس فتقدم السابق فالسابق والأول فالأول،
ولا يقدم من تأخر، ولا يؤخر من تقدم لأن السابق أحق من غيره، ثم ينظر في ذلك فإن
كان يكتب لنفسه كتب ما يحتاج إليه، فإن لم يكتب لنفسه اتخذ كاتبا ثقة حافظا
ويجلس بين يديه قريبا منه بحيث يشاهد ما يكتبه.
وينبغي أن يكون في مجلسه أهل العلم من أهل الحق ليكون متى حدثت حادثة تحتاج
فيها إلى سؤالهم عنها ليذكر الجواب فيها والدليل عليها، فإن كانوا بالقرب منه ذاكرهم
وإن كانوا بعيدين عنه استدعاهم لذلك، فإذا حكم بحكم وكان موافقا للحق لم يكن
لأحد معارضته فيه وإن أخطأ وجب عليهم أن ينهوه، وليس عندنا في الشرع قياس ولا
اجتهاد، ولا كل مجتهد عندنا مصيب فيوجب عليهم تنبيهه من هذه الوجوه.
وينبغي أن يحضر عنده شهود البلد يستوفي بهم الحقوق ويثبت لهم الحجج والسجلات
والمحاضر، وأما مكان جلوسهم فإن كان الحاكم من يحكم بعلمه فإن [شاء استدناهم
وإن]
أراد باعدهم عنه لأنه إن كان يقضى بعلمه [فمتى أقر عنده مقر بحق ثم رجع] عنه لأنه إن كان يقضى بعلمه [فمتى أقر عنده مقر بحق ثم رجع] عنه
حكم عليه بعلمه، ولا يحتاج إلى [الشهادة على إقراره، وإن كان ممن لا يقضى] الحكم
بعلمه عليه بعلمه، ولا يحتاج إلى [الشهادة على إقراره، وإن كان ممن لا يقضى] الحكم
بعلمه استدعاهم اليه بحيث يسمعون [كلام الخصمين كيلا يقر منهم مقر] ثم يرجع عنه
وإذا رجع عنه شهد به عنده شاهدان وحكم عليه بالبينة لا بعلمه.
فإذا جلس للحكم كان أول ما ينظر فيه حال المحبسين لأن الحبس عذاب
فيخلصهم منه ولأنه قد يكون فيهم من تم عليه الحبس بغير حق ثم ينظر بعد الفراع منهم
في حال الأوصياء والأمناء واللقطة والضوال وما ينفق بعد ذلك الحكم فيه، هذا الذي
ينبغي أن يبتدئ بالنظر فيه إذا جلس للقضاء في ابتداء ولايته.
إذا حضر عند الحاكم خصمان أن يكون أحدهما أكبر من الآخر وقد تعلم اللدد وهي
الالتواء والعنت من وجوه، منها أن يقدم الانسان خصمه إلى الحاكم فيتحاكمه فتوجه
اليمين [فإذا بدأ باليمين قطعها] عليه وقال: لي عليه بينة، فإذا فعل ذلك أول مرة نهاه
عن ذلك ومنعه منه وأعلمه أن ذلك لا يحل إن لم يكن لك بينة، فإن عاد إلى ذلك زبره
128

ونهاه وأغلظ له في النهي وصاح عليه ولا يعجل عليه بالتعزير لئلا يكون جاهلا بذلك،
فإن عاد ثالثا فقد فعل ما يستحق به التأديب والتعزير، فإن كان قويا لا يكفه [إلا]
التعزير عزره، وإن كان ضعيفا لا يحتمل الضرب حبسه وأدبه بالحبس دون الضرب،
وإن رأى أن المصلحة في ترك ذلك كله فعل.
وإذا أغلظ للحاكم في القول فقال [حكمت على بغير حق نهاه] فإن عاد وقد
استحق [التعزير - ظ] على ما يراه [الحاكم].
وينبغي للحاكم أن لا يكون ضعيفا مهينا لأنه لا يهاب فربما جرت بالمشاتمة،
وينبغي أن يكون فيه شدة من غير عنف ولين من غير ضعف فهو أولى وأحق بالمقصود.
فإن حدثت حادثة وأراد الحكم فيها فإن كان عليها دليل من نص كتاب أو سنة أو
إجماع عمل في الحكم فيها عليه، وإن لم يكن عليها دليل على جملة أو تفصيل ولا غير ذلك
من الحجج وكانت مبقاة على الأصل رجع في ذلك إليه.
ولا يجوز أن يقلد غيره في حكم [و] لا يشاور فيه ولا يستفتي غيره ثم يحكم بتلك
الفتيا لأن الحاكم ينبغي أن يكون عالما بما وليه فإن اشتبه عليه بعض الأحكام ذاكر
أهل العلم لتفقهه في ذلك على الدليل.
والقضاء لا ينعقد للقاضي إلا بأن يكون من أهل العلم والعدالة والكمال، وكونه
عالما بأن يكون عارفا بالكتاب والسنة والإجماع والاختلاف ولسان العرب، وأما
القياس فلسنا نعتبره لأن استعماله في الشريعة عندنا باطل.
فأما الكتاب فيفتقر في تعرفه إلى المعرفة بأشياء وهي: العام والخاص والمحكم
والمتشابه والمفسر والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ، فأما العموم والخصوص لئلا يتعلق
بعموم قد دخله الخصوص مثل قوله سبحانه: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، هذا
عام في كل مشركة حرة كانت أو أمة وقوله تعالى: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب
من قبلكم، خاص في الحرائر فلو تمسك بالعموم غلط وكذلك قوله: فاقتلوا المشركين،
عام وقوله: من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية، خاص في أهل الكتاب.
وأما المحكم والمتشابه ليقضي بالحكم وبالمفسر كقوله: أقيموا الصلاة، وهذا غير
129

مفسر وقوله: وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون وحين تمسون -
يعني المغرب والعشاء الآخرة - وحين تصبحون.
وأما المطلق والمقيد ليبنى المطلق على المقيد مثل قوله سبحانه: واستشهدوا شهيدين
من رجالكم، فهذا مطلق في العدل والفاسق وقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم، مقيدا
بالعدالة فيبنى المطلق عليه.
وأما الناسخ والمنسوخ يقضي بالناسخ دون المنسوخ كآية العدة بالحول والآية التي
تضمنت العدة بالأشهر.
وأما السنة فيحتاج أن يعرف منها شيئا: المتواتر والآحاد - ليعمل بالمتواتر دون
الآحاد - والخاص والعام والناسخ والمنسوخ لما تقدم في نص القرآن، ولما كان في السنة
مجمل ومفسر ومطلق ومقيد - كما في الكتاب - احتاج إلى أن يعرف جميع ذلك لما تقدم
ذكره.
ويعرف الاجماع والاختلاف لأن الاجماع حجة لئلا يقضي بخلافه.
ويعرف الاختلاف ليعلم هل هو موافق لبعض الفقهاء أم لا؟ وهذا عندنا يضعف
إدخاله في هذا الموضع، والمعول على ما تقدم.
وأما لسان العرب فيحتاج إلى معرفته لأن صاحب الشرع عليه وآله السلام خاطبنا
به.
وقد ذكر أنه لا يلزمه أن يكون عارفا بجميع الكتاب بل يكفي في ذلك معرفته
بالآيات المحكمة وذكر: أن جميع ذلك خمس مائة آية وذلك يمكن معرفته.
والسنة تكفي أن يتعلق بالأحكام من سننه دون آثاره وأخباره فإن جميع ذلك لا
يحيط به أحد علما، وما قبلها مدون في الكتب في أحاديث مخصوصة.
وأما الخلاف فهو متداول بين الفقهاء يعرفه أصاغرهم.
وأما لغة العرب فيكفي أن يعرف شيئا ذكرناه دون أن يكون عارفا بجميع اللغات،
وهذه الجمل الأخيرة غير بعيدة من الصواب بل الظاهر أن القاضي إذا كان علمها كانت
كافية له فيما هو عليه.
130

وليس يجب عليه إذا ولى القضاء أن يتبع حكم من كان قبله، ولو تبعه لكان جائزا
لكن ليس عليه ذلك لكن عليه أن ينقض ما يتفق ظهوره له فإن الحكم فيه وقع بخلاف
الحق، وإذا حضر مجلس حكمه خصمان لا يعرف لسانهما أو شهد عنده شاهد بشئ لا
يعرف لم يكن بد من مترجم يترجم عنه ليعرف الحاكم ما يقوله، والأظهر أن الترجمة
شهادة ويفتقر إلى العدد والعدالة والحرية ولفظ الشهادة وقد ذكر خلاف ذلك، وما
ذكرناه هو الأحوط والأظهر من حيث أنه مجمع على العمل به.
وقد تقدم في باب الشهادات من يجوز قبول شهادته ومن لا يجوز فلا حاجة إلى أن
نذكر تصفحه بحال من يحضر مجلسه في شهادة، وهل هو عدل فيحكم بشهادته أو غير
عدل فيردها اللهم إلا أن يكون لم يتقدم له المعرفة بمن يحضر ليشهد فإنه لا بد أن يكشف
عن حاله فيحكم بشهادة من يثبت عنده عدالته ويطرح شهادة من لا يكون كذلك، وقد
تقدم أيضا طرف من كيفية السماع لشهادتهم وتعريفهم في ذلك وغيره ما يغني معرفته
هناك من إعادته هاهنا.
ولا يجوز للحاكم أن يرتب له شهودا يسمع شهاداتهم دون غيرهم من سائر الناس
وأما كونه عدلا ثقة فلا بد منه لأنه إن كان فاسقا لم ينعقد له القضاء بالإجماع إلا
خلاف الأصم لأنه أجاز أن يكون فاسقا وخلافه غير مؤثر في الاجماع.
وأما كونه كاملا والمراد به كامل الخلقة والأحكام.
أما كامل الخلقة أن يكون بصيرا لأنه إن كان أعمى لا ينعقد له القضاء لأنه يحتاج
إلى معرفة المقر من المنكر والمدعي من المدعى عليه وما يكتبه كاتبه بين يديه، وإن كان
ضريرا لم يعرف ذلك، وإذا لم يعرفه لم ينعقد القضاء له كما ذكرناه.
وأما كمال الأحكام بأن يكون بالغا حرا ذكرا لأن المرأة لا تنعقد لها القضاء على
حال، ولا يجوز له الحكم بالاستحسان ولا بالقياس.
وإذا حكم بشئ ثم بان له أنه خطأ أو بان له أن الحاكم قبله حكم بشئ وأخطأ
فيه كان عليه نقض ما أخطأ هو فيه وكذلك ما أخطأ فيه غيره من الحكام المتقدمين عليه
وحكم بما يعلمه من الحق.
131

[بل يدع الناس] وكل من شهد عنده وعرفه وإلا سأل عنه لأنه إذا رتب قوما فإنما يفعل
ذلك بمن هو عدل عنده وغير من رتبه لذلك وقد يكون مثله أو أعدل منه، فإذا كان الكل
سواء لم يجز أن يختص بعضهم بالقبول دون بعض ولأن فيه مشقة على الناس لشدة
حاجتهم إلى الشهادة بالحقوق في كل وقت من نكاح وغصب ومعاملة وقتل وغير ذلك،
وإذا لم يقبل إلا قوما دون قوم شق ذلك على الناس، ولأن فيه ضررا عليهم فإن الشاهد
إذا علم أنه لا يقبل قول غيره ربما تقاعد حتى يأخذ الرشوة عليها ولأن فيه إبطال الحقوق
فإن كل من له حق لا يقدر على إقامة البينة به من كان مقبول الشهادة راتبا لها دون
غيره، فإذا كان كذلك لم يجز له ترتيبهم، فإن رتب قوما قد عرف عدالتهم وسكن إليهم
في استماع أقوالهم وتقبل شهاداتهم فإذا شهد عنده بالحق غيرهم بحث عن أحوالهم، فإذا
زكوا حكم أن شهادتهم لم يكن بذلك بأس.
وينبغي أن يكون له كاتب يكتب بين يديه، يكتب عنده الإقرار والإنكار وغير ذلك،
وصفة ذلك الكاتب أن يكون عدلا فقيها عاقلا نزها عن الطمع، وإنما اعتبرت العدالة
لأنها موضع أمانة، واعتبر العقل لئلا يخدع، وكونه فقيها ليعرف الألفاظ التي تتعلق
الأحكام بها - ولا بغيرها - لأن غير الفقيه لا يفرق بين واجب وجائز وليكون أخف
على القاضي لأنه يفوض إليه ذلك ولا يحتاج إلى مراعاته فيما يكتبه، ويكون نزها بريئا
من الطمع لئلا يرتشي فيغير، ويجوز أن يتخذ لذلك عبدا لأنه قد يجوز أن يكون عدلا، ولا
يتخذ كافرا بغير خلاف.
132

كتاب الشهادة
قال الله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتان ممن ترضون من الشهداء. وقال تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم... الآية.
وتوعد على كتمانها، فقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، فلو
لم تكن حجة لما توعد على كتمانها.
وقال: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم... الآية.
وقال تعالى: وإذا طلقتم النساء - إلى قوله - وأشهدوا ذوي عدل منكم.
وعن النبي ص أنه قال: من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله
يوم القيامة بلجام من النار.
وروي عن علي ع عن النبي ص أنه قال: إن ملك الموت
إذا نزل بقبض روح الفاجر نزل معه بسفود من نار، فقلت: يا رسول الله فهل يصيب
ذلك أحدا من أمتك؟ قال: نعم حاكما جائرا وآكل مال اليتيم وشاهد الزور.
وعن علي ع أن رسول الله ص قال: يبعث شاهد الزور يوم
القيامة يولغ لسانه في النار كما يولغ الكلب لسانه في الإناء.
وقال ص: يقوم القيامة على قوم يشهدون من غير أن يستشهدوا.
فالعدالة معتبرة في صحة الشهادة على المسلم، وتثبت في الانسان بشروط وهي:
البلوغ وكمال العقل والحصول على ظاهر الإيمان والستر والعفاف واجتناب القبائح ونفي
133

الظنة والحسد والتهمة والعداوة. ولا فرق في صحة من كان على هذه الشرائط ووجوب
قبولها بين أن يكون الشاهد لها رجلا أو امرأة، قريبا أو أجنبيا، حرا أو عبدا.
وهي على ثلاثة أضرب: شهادة الرجال وشهادة النساء وشهادة الصبيان.
فأما شهادة الرجال فضربان: صحيحة وغير صحيحة،
فالصحيحة هي شهادة من جمع الشروط التي ذكرناها، وشهادة القاذف بعد توبته
والمعرفة بذلك منه، وشهادة الشريك لشريكه فيما ليس هو شريكا فيه، وشهادة الأجير
على مستأجرة سواء كان مقيما معه أو كان قد فارقه وشهادته له بعد مفارقته، وشهادة
الوصي لمن هو وصى له وشهادته عليه إذا كان معه غيره من أهل العدالة واستحلف
المشهود له، وشهادة الأعمى إذا كان يثبت الشهادة وكانت مما لا تفتقر فيه إلى الرؤية
أو كان شهد بذلك قبل العمى، وشهادة الأصم ويؤخذ بأول قوله ولا يؤخذ بثانيه،
وشهادة ذوي العاهات والآفات، والشهادة التي يؤديها في حال عدالته من كان قد شهد
بها وهو في حال فسقه، وشهادة لاعب الحمام، وشهادة المراهن في الخف والحافر
والريش، وشهادة الوالد لولده وشهادته عليه مع غيره من أهل العدالة، وشهادة الولد
لوالده، و شهادة الأخ لأخيه وعليه مع غيره من أهل العدالة، وشهادة الزوج لزوجته
وعليها مع غيره من أهل العدالة، وشهادة العبيد لساداتهم لا عليهم ولغير ساداتهم
وعليهم، وشهادة المكاتبين والمدبرين على غير ساداتهم ولهم وشهادتهم لساداتهم بمقدار ما
عتق منهم،
ومن كان له عبدان وأشهدهما على نفسه بالإقرار بوارث وردت شهادتهما لأجل
الميراث وجازه غير المقر له وأعتقهما وشهدا للمقر له كان شهادتهما مقبولة ويرجع
الميراث إلى من شهدا له بالإقرار ويعودان رقا له، فإن شهدا بأن مولاهما كان أعتقهما في
الحال التي كان أشهدهما على نفسه بالإقرار قبلت هذه الشهادة أيضا ولم يسترقهما
الذي شهدا له لأنهما قد أحييا حقه بشهادتهما له.
وأما الشهادة التي هي غير صحيحة فشهادة من خالف الاسلام من الكفار - على
اختلافهم - على أحد من المسلمين في حال الاختيار، فإن كانت حال ضرورة قبلت
134

شهادتهم في الوصية دون غيرها على ما قدمناه.
ولا يجوز شهادة أهل الملل المختلفة بعضها على بعض بل يقبل شهادة أهل الملة
الواحدة بعضهم على بعض إلا المسلمون فإن شهادتهم مقبولة على الجميع، وقد ذكر: أن
شهادة الكافر على مثله وعلى غيره غير مقبولة، وهو الأقوى لأن العدالة معتبرة في الشهادة
والكافر غير عدل. ولا يجوز قبول شهادة مبطل على محق وإن كان على ظاهر الاسلام
وكذلك شهادة ولد الزنى، ولا يجوز شهادة الفساق ومرتكبي القبائح من شرب الخمر
والزنى واللواط واللعب بالشطرنج أو النرد أو ما يجري مجرى ذلك من آلات القمار
والارتشاء في الأحكام وغير ذلك من جميع القبائح وضروب الفسق على اختلافه إلا على
أنفسهم دون غيرهم، ولا يجوز قبول شهادة الظنين والمتهم والخصم والأجير لمستأجره مع
مقامه معه في الاستئجار، ولا شهادة المجان، ولا شهادة من أخذ الأجر على الأذان ولا
شهادة من أخذه على الصلاة، ولا شهادة السائلين في الأسواق ولا على أبواب الدور، ولا
شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه، ولا شهادة اللصوص إلا أن يقروا على
أنفسهم بشئ، ولا يقبل شهادة من يشهد بها قبل أن يسأل عنها، ولا شهادة الولد على
الوالد ولا العبد على سيده إلا أن يكون ذلك بعد عتقه.
فإذا شهد شهود على انسان بأنه قال: اشهدوا علي بأن ملكي أو داري أو ما جرى
مجرى ذلك لفلان، ولم يذكر صدقة ولا هبة ولا غيرها كانت هذه الشهادة باطلة وقوله
غير صحيح لأنه يتناقض من حيث أن ملكه لا يكون ملكا لغيره وينبغي أن يستفسر عن
ذلك، فإن كان ملكي كان إقرارا وإن ذكر هبة اعتبرت شرطها. ولا يجوز شهادة واحد
في الهلال ولا الطلاق ولا الحدود وما أشبه ذلك.
وأما شهادة النساء فعلى ثلاثة أضرب: أولها: لا يجوز قبولها على حال، وثانيها: يجوز
ذلك فيها إذا كان معهن غيرهن من الرجال، وثالثها: يجوز ذلك أيضا فيها ولا يجوز أن
يكون معهن أحد من الرجال.
فأما الأول فرؤية الهلال والطلاق والحدود إلا الزنى وقد تقدم ذكره.
وأما الثاني فرجم المحصن بأن يشهد ثلاثة رجال وامرأتان فتقبل شهادتهم ويرجم
135

المشهود عليه بذلك، وإن شهد رجلان وأربع نسوة أو رجل وست نساء بالزنى لم يقبل
شهادتهم وحدوا حد الفرية، ويقبل شهادتهن في القتل والقصاص ولا يقاد بها ولا
يقتص وإنما يجب الدية وحدها بأن شهد رجل وامرأتان على انسان بالقتل أو الجراح،
وتقبل شهادتهن في الديون مع الرجال وعلى الانفراد بأن يشهد رجل وامرأتان على انسان
بدين لرجل فتقبل شهادتهم وإن شهدت امرأتان قبلت شهادتهما وكانت كشهادة رجل
واحد يجب معها اليمين على المشهود له.
وأما الثالث فهو الذي يجوز قبول شهادتهن فيه ولا يجوز أن يكون معهن أحد من
الرجال فهو جميع ما لا يجوز للرجال النظر إليه مثل العذرة والأمور الباطنة في النساء،
وشهادة القابلة وحدها في استهلال الصبي في ربع ميراثه، وشهادة امرأة واحدة في ربع
الوصية، وشهادة امرأتين في نصف ميراث المستهل ونصف الوصية وعلى هذا الحساب
وذلك لا يجوز التعويل عليه والحكم به إلا مع عدم الرجال، وشهادة الزوجة على زوجها
فيما يجوز قبول شهادتها فيه إذا كان معها غيرها من أهل العدالة.
فأما شهادة الصبيان فهي ضربان: جائز وغير جائز. فالجائز شهادة كل صبي - بلغ
عشر سنين إلى أن يبلغ - في الشجاج والقصاص ويؤخذ بأول كلامهم في ذلك ولا يؤخذ
بآخره ويفرق بينهم في الشهادة، فإن اختلفوا لم يحكم بشئ من أقوالهم، ومن شهد
منهم في حال الصبا وبلغ ثم أدى شهادته تلك بعد البلوغ وكان على ظاهر العدالة قبلت
شهادته. وأما التي ليست بجائزة فهي شهادتهم في كل ما عدا ما ذكرناه فإنه لا يجوز
قبولها في شئ منه على حال.
باب كيفية الشهادة وإقامتها:
قال الله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا.
وعن الصادق ع في قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذ ما دعوا، قال: حين
يدعوا قبل الكتاب لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة أن يقول: لا أشهد لكم.
لا يجوز لأحد الامتناع من الشهادة إذا دعي إليها إذا كان من أهل الشهادة والعدالة
136

إلا أن يكون في حضوره لذلك وشهادته ضرر لشئ يتعلق بالدين أو فيه مضرة لأحد
المؤمنين.
ومن حضر الشهادة على انسان فليس يجوز أن يشهد إلا على من هو عارف به ويجوز
أن يشهد على من لا يعرفه بتعريف رجلين من المسلمين الثقات، وإذا أقام هذا هذه
الشهادة فلا يقيمها إلا كما شهد بها.
وإذا شهد على امرأة وهو عارف بعينها جاز له الشهادة عليها، فإن لم ير وجهها فإن
شك فيها لم يجز أن يشهد عليها حتى تسفر عن وجهها ويعرفها بعينها.
وإذا أراد أن يشهد على أخرس لم يجز له ذلك إلا بعد أن يعرف من إشارته الإقرار بما
يريد الإشهاد به، وإذا أراد الشهادة عليه لم يقمها إلا بأنه عرف من إشارته الإقرار بما
شهد عليه به، ولا يجوز أن يقيمها بمجرد الإقرار لأنه إن فعل ذلك كان كاذبا.
الشهادة على الشهادة:
وإذا أراد الشهادة على شهادة فينبغي أن يشهد رجلين على رجل واحد لأن الرجلين
في الشهادة على الشهادة يقومان مقام شاهد واحد، فإن شهد واحد لم يقم مقام الواحد
الذي يريد الشهادة على شهادته ولا يكون لذلك تأثير.
ولا يجوز الشهادة على شهادة إلا في العقود والديون والأملاك فأما الحدود فلا يجوز
ذلك فيها، ولا يجوز شهادة على شهادة على شهادة في شئ من الأشياء على حال.
وإذا شهد انسان على شهادة آخر وأنكر الشهادة الشاهد الأول قبلت شهادة
أعدلهما، فإن تساووا في العدالة طرحت شهادة الثاني، ويجوز الشهادة على شهادة وإن
كان الشاهد الأول حاضرا غير غائب إذا منعه مانع من إقامته الشهادة من مرض أو
غيره.
ويجوز شهادة الانسان على مبيع لم يعرفه ولا يعرف حدوده ولا مكانه إذا عرف بائعه
ومشتريه، وإذا رأى انسان في يد غيره شيئا وهو متصرف فيه تصرف الملاك جاز أن
يشهد بأنه ملكه كما يجوز أن يشتريه على أنه ملكه.
137

وروي: أنه يكره للمؤمن أن يشهد لمخالف له في الاعتقاد لئلا يلزمه إقامتها وربما
ردت شهادته فيكون ممن قد أذل نفسه فمن عمل بذلك كان جائزا.
وإذا أراد إقامة شهادة لم يجز له إقامتها إلا على ما يعلم ولا يعتمد على خطه إن لم
يكن ذاكرا للشهادة، فإن لم يذكرها وشهد معه آخر جاز أن يقيمها، والأحوط الأول.
وإذا علم شيئا ولم يكن قد أشهد عليه ثم دعي إلى الشهادة بذلك كان مخيرا بين أن
يقيمها وبين أن لا يقيمها، فإن علم أنه متى لم يقمها بطل حق مؤمن وجب عليه
إقامتها.
ولا يجوز لإنسان أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة كما لا يجوز له كتمانها وقد
دعي إلى إقامتها إلا أن يكون في شهادته إبطال حق قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى أو
تكون مؤدية إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقه فإنه لا يجوز له أن يقيم الشهادة التي
دعي إلى إقامتها.
والشهادة من فروض الكفايات إذا كان هناك خلق قد عرفوا الحق وصاروا به
شاهدين، فإذا قام به اثنان سقط الفرض عن الباقين، وقد يتعين الفرض فيه وهو إذا لم
يتحمل الشهادة إلا اثنان أو يتحملها خلق ولم يبق منهم غير اثنين.
باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين:
الحكم بالشاهد الواحد مع يمين المدعي صحيح والترتيب في ذلك مراعى بأن يشهد
للمدعي شاهده ثم يحلف فليس يصح أن يحلف ثم يشهد له شاهده بعد ذلك، فإذا كان
ذلك صحيحا فالشاهد واليمين إنما يحكم بهما فيما يكون مالا أو ما يكون المقصود به
المال، فأما المال فالقرض والغصب والدين وقضاء الدين وأداء مال الكتابة، وأما
المقصود منه المال فعقود المعاوضات أجمع كالبيع والسلم والصرف والإجارة والصلح
والقراض والمساقاة والهبة والوصية والجناية الموجبة للمال كالخطأ وعمد الخطأ وعمد
يوجب المال كما لو قتل ولده أو عبد غيره.
وأما الوقف فيصح فيه ذلك بشاهد ويمين لأنه عندنا ينتقل إلى الموقوف عليه، وأما
138

اليمين التي هي القسامة فليست تثبت إلا في الدماء خاصة، وقد بينا ما يتعلق بها في
باب الديات فيما سلف.
باب شهادة الزور:
قال الله تعالى: واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به. فقرن الله تعالى
شهادة الزور بالشرك.
وروي عن رسول الله ص أنه قال: يبعث شاهد الزور يوم القيامة يولغ لسانه في النار كما
يولغ الكلب لسانه في الإناء، وقد تقدم هذا ونحوه.
وعن الصادق ع قال: شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يجب له النار.
فليس يجوز لأحد أن يشهد بشهادة زور على أحد من سائر الناس موافقا كان أو
مخالفا فلا يشهد بما لا يعلمه ولا ينكر بما يعلمه مما استشهد فيه، فإن علم شيئا ولم
يستشهد فيه كان مخيرا بين إقامة شهادته وبين أن لا يقيمها إلا أن يكون في تركه لذلك
تضيع حق لبعض المؤمنين أو خوف على أحد منهم فإنه لا يجوز له التوقف عن إقامة
الشهادة وقد تقدم ذكر طرف من ذلك.
فإن شهد أربعة رجال على رجل بالزنى وكان محصنا فرجم ورجع واحد منهم بعد
رجمه عما كان شهد به فإما أن يقول: تعمدت، أو يقول: غلطت أو توهمت، قال في
رجوعه عن ذلك: تعمدت، كان عليه القتل ويؤدى إلى ورثته ثلاثة أرباع الدية، وإن
قال: غلطت أو توهمت، كان عليه ربع الدية. وإن رجع بعد رجمه منهم اثنان فإما أن
يقولا: بالعمد أو بالغلط والتوهم، فإن قالا: بالعمد، وأراد أولياء المقتول بالرجم
قتلهما قتلوهما وأدوا إلى ورثتهما دية كاملة يتقاسمونها بالسوية ويؤدى الشاهدان الآخران إلى
ورثتهما أيضا نصف الدية يتقاسمونها بالسوية وإن اختار أولياء المقتول قتل واحد منهما
أدى الآخر مع الباقي من الشهود إلى ورثة المقتول الثاني ثلاثة أرباع ديته، فإن قالا:
بالغلط والتوهم، كان عليهما نصف الدية. وإن رجع الجميع عن شهادتهم كان
حكمهم حكم الاثنين سواء.
139

وإذا شهد اثنان على انسان بطلاق زوجته ثم اعتدت وتزوجت ودخل الزوج بها ثم
رجعا عن شهادتهما بذلك وجب الحد عليهما، وضمان المهر للزوج الثاني وتعاد المرأة إلى
زوجها الأول بعد الاستبراء من الثاني.
وإذا شهد رجلان على رجل بسرقة فقطع المشهود عليه ثم رجعا عن الشهادة فإما أن
يكونا قالا: تعمدنا أو غلطنا أو توهمنا، فإن قالا: تعمدنا قطعت يد واحد منهما وأدى
الآخر نصف دية اليد وإن أراد المقطوع الأول قطعهما كان له ذلك ويؤدى إليهما دية
واحدة يتقاسمانها بينهما بالسوية، وإن قالا: غلطنا أو وهمنا، وجب عليهما دية يد
المقطوع الأول. فإن رجع الواحد منهما كان عليه نصف دية اليد.
وإن شهد رجلان على رجل بدين ثم رجعا كان عليهما مقدار ما شهدا به. فإن رجح
أحدهما دون الآخر كان عليه ما يصيبه وهو النصف.
وإذا شهد اثنان على رجل ثم رجعا عن ذلك قبل أن يحكم الحاكم فيما شهدا به
طرحت شهادتهما ولم يلتفت إليها ولا يجب عليهما في ذلك شئ، فإن رجعا عن ذلك
بعد أن حكم الحاكم بشهادتهما وكان ما شهدا به قائم العين وجب رده على صاحبه ولم
يكن عليهما شئ وإن لم يكن قائم العين كان عليهما غرم ذلك.
فإن شهد اثنان على انسان بسرقة فقطع ثم أحضرا بعد ذلك رجلا غيره وقالا: هذا هو
السارق وإنما غلطنا وتوهمنا، كان عليهما دية اليد ولم تقبل شهادتهما على الرجل
الذي أحضراه.
وعلى الإمام تعزير الشهود بالزور ويشهرهم في محالهم ليرتدع غيرهم بذلك.
باب التغليظ في اليمين:
التغليظ في اليمين يكون: بالمكان الذي يستحلف فيه وكذلك الزمان والعدد
واللفظ.
فإذا كان كذلك فإنها تغلظ في كل بلد في أشرف موضع فيه، فإن كان بمكة فبين
الركن والمقام، فإن كان عليه يمين ثان لا يحلف إلا بين ذلك أو في الحجر، فإن كان
140

عليه يمين في أن لا يحلف فيه حلف بالقرب من البيت في غير الحجر، فإن كان بمدينة
النبي ص فعلى منبره وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة، وإن كان
بغير هذه المواضع من البلاد ففي أشرف بقعة فيه وأشرف بقاع البلاد: الجوامع والمشاهد.
وأما التغليظ بالزمان فبعد صلاة الظهر وقبل صلاة العصر، فإذا صح تغليظها بالمكان
والزمان وكان الحق مالا أو ما يقصد به المال لم يغلظ إلا بالقدر الذي يجب الزكاة فيه،
فإن كان الحق غير مال ولا ما يقصد به المال فإنها تغلظ فيه قليلا أو كثيرا.
وأما التغليظ بالعدد ففي القسامة يحلف خمسين يمينا، ويغلظ بالعدد في اللعان.
فأما اللفظ فيغلظ بأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن
الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، أو ما جرى مجرى ذلك.
فإن كان الحالف رجلا مسلما كانت اليمين في ما ذكرناه. وإن كانت امرأة وهي
مخدرة استخلف الحاكم من يحكم بينها وبين خصمها في بيتها فإذا توجهت اليمين عليها
حلفها كالبارزة في التغليظ بالمكان إن كانت طاهرا استحلفها فيه وإن كانت حائضا
في باب المسجد، وإن لم تكن مخدرة - وهي التي تبرز في حوائجها - فإن كانت طاهرا
استحلفها في المكان الشريف كالرجل وإن كانت حائضا فعلى باب المسجد فإنه لا يجوز
للحائض دخول المسجد.
وإذا ادعى المملوك على سيده العتق كان القول قول سيده مع يمينه، فإن كانت قيمة
العبد القدر الذي تغلظ بالمكان غلظ به وإن كانت أقل لم تغلظ لأنه استحلاف على
مال لأنه يحلف على استيفاء ملكه بالرق وذلك مال بغير إشكال، فإن حلف السيد
سقطت دعوى المملوك وإن نكل عن اليمين ردت على العبد فيغلظ عليه في المكان قلت
قيمته أو كثرت لأنه حلف على العتق والحرية وتلك يمين على غير مال ولا المقصود به
المال.
وإذا توجهت اليمين على كافر وكان يهوديا غلظ باللفظ فيقول: والله الذي أنزل
التوراة على موسى بن عمران، ويغلظ عليه بالمكان فيستحلف في المكان الشريف عنده
وهو الكنيسة لأنه يعظمها كما يعظم المسلم المسجد. وإن كان نصرانيا حلف وقال:
141

والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، فإذا قال: الذي أنزل الإنجيل على عيسى، لم
يمكنه من الاعتقاد ما ذكرناه، وأما المكان فالبيعة لأنه يعظمها. وإن كان مجوسيا حلف
فقال: والذي خلقني ورزقني، لئلا يشارك الله وحده " النور " فإنه يعتقد النور إلها،
فإذا قال: خلقني ورزقني، ارتفع الاحتمال والإبهام فيما ذكرناه، فأما المكان فإن
المجوس تعظم النار، فإن كانوا يعظمون بيتها حلف فيه. فإن كان الحالف وثنيا
معطلا أو ملحدا لا يقر بالتوحيد لم يغلظ عليه باللفظ ويقتصر معه على قول " والله " لأنه
وإن لم يكن معتقدا فإنه يزداد إثما ويستحق العقوبة إن كذب في ذلك.
142

فقه القرآن
لسعيد بن عبد الله بن الحسين بن هبة الله بن الحسن الراوندي
المتوفى 573 ه‍ ق
143

كتاب القضايا
قال الله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق.
أخبر الله بأنه نادى داود أن افصل بين المختلفين من الناس والمتنازعين بالحق
بوضع الأشياء مواضعها على ما أمرك الله به. والخليفة هو المدبر للأمور من قبل غيره بدلا
من تدبيره، وقيل: معناه جعلناك خليفة لمن كان قبلك من رسلنا، ثم أمره. فالآية تدل
على أن القضاء جائز بين المسلمين وربما كان واجبا، فإن لم يكن واجبا ربما كان
مستحبا وتدل عليه آيات كثيرة.
باب الحث على الحكم بالعدل والمدح عليه وذكر عقوبة من يكون بخلافه:
قال الله سبحانه: وأن أحكم بينهم بما أنزل الله. وقال تعالى: فإن جاؤوك
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وقال تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث.
وقال تعالى: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم.
وقد ذم الله من دعي إلى الحكم فأعرض عنه، وقال تعالى: وإذا دعوا إلى الله
ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون.
ومدح قوما دعوا إليه فأجابوا فقال: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله
ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وقال تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. وقال تعالى: ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون. وفي موضع آخر: ومن لم يحكم بما
145

أنزل الله فأولئك هم الظالمون. وفي موضع آخر: ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون.
قال الحسن: هي عامة في بني إسرائيل وغيرهم من المسلمين، وروى البراء بن
عازب عن النبي ع: أن هذه الآيات الثلاث في الكفار خاصة. وقال الشعبي:
قول " الكافرون " في هذه الأمة و " الظالمون " في اليهود و " الفاسقون " في النصارى.
والأولى أن يقال: هي عامة في من حكم بغير ما أنزل الله، فإن كان مستحلا لذلك
معتقدا أنه هو الحق فإنه يكون كافرا بلا خلاف، فأما من لم يكن كذلك وهو يحكم بغير
ما أنزل الله فإنه يدخل تحت الآيتين الأخريين.
فصل:
وقال أبو جعفر ع: الحكم حكم الله وحكم الجاهلية، وقال الله عز وجل:
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون، وأشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في
الفرائض بحكم الجاهلية، ثم قال: قال النبي ع: من حكم في الدرهمين
بحكم جور ثم أجبر عليه كان من أهل هذه الآية: ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون، قيل: كيف يجبر عليه؟ قال: يكون له سوط وسجن فيحكم
عليه، فإن رضي بحكومته وإلا ضربه بسوطه وحبسه في سجنه.
وقال أبو عبد الله ع: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ولكن
انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم فإني جعلته قاضيا
فتحاكموا إليه.
فصل:
وعن أبي بصير قلت لأبي عبد الله ع: قول الله في كتابه: ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام، قال: يا أبا بصير إن الله عز وجل قد
علم أن في هذه الأمة حكاما يجورون أما أنه لم يعن حكام العدل ولكنه عني حكام
146

الجور يا أبا محمد: إنه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حاكم أهل العدل فأبى عليك
إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له كان ممن حاكم إلى الطاغوت وهو قول
الله عز وجل: أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به... الآية.
وقال: إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور... الخبر، وقال: لما ولى
أمير المؤمنين ع شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه
عليه، وقال له: قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي، ثم قال: إن
عليا ع اشتكى عينه فعاده رسول الله ع فإذا على يصيح، فقال له
النبي: أ جزعا أم وجعا يا علي؟ فقال: يا رسول الله ما وجعت وجعا أشد منه، قال
يا علي إن ملك الموت إذا نزل ليقبض روح الفاجر أنزل معه سفودا من نار فينزع روحه به
فتضج جهنم، فاستوى على جالسا فقال: يا رسول الله أعد على حديثك فقد أنساني
وجعي ما قلت فهل يصيب ذلك أحدا من أمتك؟ قال: نعم حكام جائرون وآكل مال
اليتيم وشاهد الزور.
باب ما يجب أن يكون القاضي عليه:
قال الله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين
الناس أن تحكموا بالعدل.
أمر تعالى الحكام بين الناس أن يحكموا بالعدل لا بالجور ونعم الشئ شيئا يعظكم
الله به من أداء الأمانة.
وروي عن المعلى بن خنيس قال: سألت أبا عبد الله ع عن هذه الآية،
فقال: على الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده وأمرت الأئمة بالعدل وأمر
الناس أن يتبعوهم.
وقال تعالى: واذكر عبدنا داود إلى قوله تعالى: وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب،
أي أعطيناه إصابة الحكم بالحق، وفصل الخطاب هو قوله: البينة على المدعي واليمين على
147

المدعى عليه.
ثم قال: وهل أتاك نبؤ الخصم، هذا خطاب من الله لنبيه ع، وصورته
صورة الاستفهام ومعناه الإخبار بما كان من قصة داود من الحكومة بين الخصمين
وتنبيهه على موضع تركه بعض ما يستحب له أن يفعله.
والنبأ الخبر بما يعظم حاله، والخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق المتنازع له
فيه ويعبر به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد لأن أصله المصدر ولذلك قال: إذ
تسوروا المحراب، لأنه أراد المدعي والمدعى عليه ومن معهما فلا يمكن أن يتعلق به في
أن أقل الجمع اثنان لما قال: خصمان بغى بعضنا على بعض، لأنه أراد بذلك الفريقين،
أي نحن فريقان خصمان، أي يقول: ما يقول خصمان، لأنهما كانا ملكين ولم يكونا
خصمين ولا بغى أحدهما على الآخر وإنما هو على المثال.
" فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط " معناه ولا تجاوز الحق ولا تجر ولا تسرف في
حكمك بالميل مع أحدنا على صاحبه وأرشدنا إلى قصد الطريق الذي هو طريق الحق
ووسطه.
فصل:
ثم حكى سبحانه ما قال أحد الخصمين لصاحبه، فقال: إن هذا أخي له تسع
وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها، قال وهب: يعني أخي في ديني،
وقال المفسرون: إنه كنى بالنعاج عن تسع وتسعين امرأة كانت له وأن الآخر له امرأة
واحدة، وقال الحسن: لم يكن له تسع وتسعون نعجة وإنما هو على وجه المثل، وقال أبو
مسلم: أراد النعاج بأعيانها، وهو الظاهر غير أنه خلاف أقوال المفسرين، وقال: هما
خصمان من ولد آدم ولم يكونا ملكين وإنما فزع منهما لأنهما دخلا عليه في غير الوقت
المعتاد، وهو الظاهر.
وقال آخرون: أي اجعلني كفيلا بها، أي ضامنا لأمرها، ومنه قوله: وكفلها زكريا.
ومعنى " أكفلنيها " قال ابن عباس: أنزل لي عنها، وقال أبو عبيدة: ضمها إلى،
148

ثم قال: وعزني في الخطاب، أي غلبني في المخاطبة وقهرني، وقال أبو عبيدة:
صار أعز مني.
فقال له داود: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء
ليبغي بعضهم على بعض. ومعناه إن كان الأمر على ما تدعيه لقد ظلمك بسؤال نعجتك
إلى نعاجه فأضاف السؤال إلى المفعول به.
وقال أصحابنا: موضع الخطيئة أنه قال للخصم: لقد ظلمك، من غير أن يسأل
خصمه عن دعواه، وفي أدب القضاء أن لا يحكم بشئ ولا يقول حتى يسأل خصمه من
دعوى خصمه فما أجاب به حكم بذلك وهذا ترك الندب.
والشرط الذي ذكرناه لا بد منه لأنه لا يجوز أن يخبر النبي ع أن الخصم
ظلم صاحبه قبل العلم بذلك على وجه القطع وإنما يجوز مع تقدير وبالشرط الذي
ذكرناه، فروي: أن الملكين غابا من بين يديه، فظن داود أن الله تعالى اختبره بهذه
الحكومة، ومعنى الظن هنا العلم كأنه قال: وعلم داود، وقيل: إنما ظن ظنا قويا،
وهو الظاهر.
و " فتناه " أي بحق أضافه الله إلى نفسه، أي اختبرناه، وقرئ: فتناه، بالتخفيف،
أي الملكين فتناه بهما. وقيل: إنه كان خطب امرأة كان أوريا بن حنان خطبها ولم
يعلم ذلك وكان دخل في سومه فاختاروه عليه فعاتبه الله على ذلك، وأولى الوجوه أنه ترك
الندب فيما يتعلق بأدب القضاء.
وقرأ ابن مسعود: ولي نعجة أنثى واحدة، ووصفها بأنثى إشعارا بأنها ضعيفة
مهينة.
يسأل، فيقال في قوله: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، كيف يكون السائل
ظالما؟
الجواب: إنه لم يسأله سؤال خضوع إنما غالبه، فمعنى السؤال ههنا حمل على سؤال
مطالبة ولو سأله التفضل ما عازه عليها، وقد بينا أن الحكمة في قوله: وآتيناه الحكمة،
اسم تقع على العلم والعقل وصواب الرأي وصحة العزم والحزم.
149

و " فصل الخطاب " قطع الأمور بين المتخاصمين، والخطاب نزاع في الخطوب فهو
يفصل ذلك لحكمته، وقيل: إنما كان كناية عن قول: البينة على المدعي واليمين على
من أنكر، لأن بذلك يقع الفصل بين الخصوم.
فصل:
وقوله تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا
لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمن، فقد قال الجبائي: إن الله أوحى إلى سليمان بما
نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ذلك ولم يكن ذلك عن اجتهاد، وهذا هو
الصحيح عندنا ويقوى ذلك قوله: ففهمناها سليمن، يعني علمنا الحكومة في ذلك
- التي هي مصلحة الوقت - سليمان.
وقوله تعالى: إذ يحكمان، أي طلبا الحكم في ذلك ولم يبتدئا بعد، وقصته أن زرعا
أو كرما وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم لأن الشرع
كان ورد بذلك إليه من قبل ولم يثبت الحكم، فقال سليمان لأبيه: إن الله أوحى إلى
الآن بغير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه
حتى يعود كما كان ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم
كما كان دفع كل واحد إلى صاحبه حقه، ذكره ابن مسعود وهو المروي عنهما
ع، فعلى هذا ينبغي أن يكون الحاكم حكيما عالما بالناسخ والمنسوخ عارفا
بالكتاب والسنة عاقلا بصيرا بوجوه الإعراب يثق من نفسه يتولى القضاء والفصل بين
الناس.
باب كيفية الحكم بين أهل الكتاب:
قد ذكرنا من قبل كثيرا مما يتعلق بهذا الباب، وههنا نذكر ما يكون تفصيلا لتلك
الجملة أو جملة لذلك التفصيل:
اعلم أن الله خاطب نبيه ع فقال: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا
150

لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله، التقدير وأنزلنا
إليك يا محمد أن احكم بينهم وإنما كرر الأمر بالحكم بينهم لأمرين:
أحدهما: أنهما حكمان أمر بهما جميعا لأن اليهود احتكموا إليه في زنى المحصن ثم
احتكموا إليه في قتيل كان منهم، ذكره أبو علي وهو المروي عن أبي جعفر ع.
الثاني: أن الأمر الأول مطلق والثاني دل على أنه منزل.
قال ابن عباس والحسن: تدل الآية على أن أهل الكتاب إذا ترافعوا إلى الحكام
المسلمين يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن وشريعة الاسلام لأنه أمر من الله بالحكم
بينهم والأمر يقتضي الإيجاب.
وقال أبو علي: نسخ ذلك التخيير بالحكم بين أهل الكتاب أو الإعراض عنهم
والترك، قال الله تعالى: فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم.
والكتاب في قوله: أنزلنا إليك الكتاب، المراد به القرآن، " مصدقا " نصب على
الحال، مصدق ما بين يديه من الكتاب يعني التوراة والإنجيل وما فيهما من التوحيد لله
وعدله والدلالة على نبوتك والحكم بالرجم والقود وغيرهما، وفيه دلالة على أن ما حكى
الله أنه كتبه عليهم في التوراة حكم يلزمنا العمل به لأنه جعل القرآن مصدقا لذلك
وشاهدا.
وقال مجاهد: " ومهيمنا " صفة للنبي ع، والأول أقوى لأجل حرف
العطف ولو قال بلا واو لجاز.
و " لا تتبع أهواءهم " عادلا عما جاءك من الحق، ولا يدل ذلك على أنه
ع اتبع أهواءهم لأنه مثل قوله تعالى: لئن أشركت ليحبطن عملك، ولا يدل ذلك
على أن الشرك كان وقع منه.
" لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال مجاهد: شريعة القرآن لجميع الناس لو
آمنوا به، وقال آخرون: إنه شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن. والمعنى بقوله
" منكم " أمة نبينا وأمم الأنبياء قبله على تغليب المخاطب على الغائب، فبين تعالى أن
لكل أمة شريعة غير شريعة الآخرين لأنها تابعة للمصالح، فلا يمكن حمل الناس على
151

شريعة واحدة مع اختلاف المصالح، قال تعالى: ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة.
فصل:
ثم قال تعالى: أ فحكم الجاهلية يبغون قال مجاهد: إنها كناية عن اليهود لأنهم
كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم
به.
" ومن أحسن من الله حكما " أي فصلا بين الحق والباطل من غير محاباة لأنه لا
يجوز للحاكم أن يحابي في الحكم بأن يعمل على ما يهواه بدلا مما يوجبه العدل، وقد
يكون حكم أحسن من حكم بأن يكون أولى منه وأفضل وكذا لو حكم بحق يوافق هواه
كان ما يخالف هواه أحسن مما يوافقه.
وقال تعالى في وصف اليهود: سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاؤوك
فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، أي هؤلاء يقبلون الكذب ويكثر أكلهم السحت وهو
الحرام، فخير الله نبيه ع في الحكم بين اليهود في زنى المحصن وفي قتيل قتل من
اليهود.
وفي اختيار الحكام والأئمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا إليهم قولان: أحدهما
أنه حكم ثابت والتخيير حاصل، ذهب إليه جماعة وهو المروي عنهم عن علي ع
والظاهر في رواياتنا، وقال الحسن: إنه منسوخ بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل
الله، فنسخ الاختيار وأوجب الحكم بينهم بالقسط.
" وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " أي الحكم بالرجم والقود.
ثم قال تعالى: إنما أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله
ولا تكن للخائنين خصيما، نهى الله نبيه ع أن يكون خصيما لمن خان
مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله أي لا تخاصم عنه، والخطاب وإن توجه إلى النبي
فالمراد بها أمته.
152

باب نوادر من الأحكام:
قال محمد بن حكيم: سألت أبا الحسن ع عن شئ، فقال: كل مجهول
ففيه القرعة، قلت له: إن القرعة تخطئ وتصيب، فقال: كل ما حكم الله تعالى به فليس
بمخطئ، قال تعالى: فساهم فكان من المدحضين.
وعن عبد الله بن الحجاج قال: دخل الحكم بن عيينة وسلمة بن كهيل على أبي
جعفر ع فسألاه عن شاهد ويمين، قال: قضى به رسول الله ص
وقضى به أمير المؤمنين ع عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، قال:
وأين وجدتموه خلاف القرآن؟ فقالا: إن الله يقول: وأشهدوا ذوي عدل منكم، فقال
أبو جعفر ع: فقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم، هو أن لا تقبلوا شهادة واحد
ويمينا، قالا: لا.
وقال الرضا ع: إن أبا حنيفة قال لجعفر بن محمد ع: كيف
تقضون باليمين مع الشاهد الواحد - وهو يضحك؟ فقال جعفر: أنتم تقضون بشهادة
واحد شهادة مائة، قال: لا نفعل؟ قال: بلى يشهد مائة لا تعرف فترسلون واحدا يسأل
عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله، ثم قال أبو حنيفة: القتل أشد من الزنى فكيف يجوز في
القتل شاهدان والزنى لا يجوز فيه إلا أربعة شهود؟ فقال الصادق ع: لأن
القتل فعل واحد والزنى فعلان، فمن ثم لا نجوز إلا أربعة شهود على الرجل شاهدان
وعلى المرأة شاهدان.
وسئل ع عن البينة إذا أقيمت على الحق أ يحل للقاضي أن يقضي بقول
البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ بها بظاهر
الحكم: الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات، فإذا كان ظاهره ظاهرا
مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه، فقد اختصم رجلان إلى داود ع
في بقرة فجاء هذا ببينة على أنها له وجاء هذا على أنها له ببينة، قال: فدخل داود
المحراب فقال: يا رب إنه قد أعياني أن أحكم بين هذين فكن أنت الذي تحكم،
فأوحى الله إليه: أخرج فخذ البقرة من الذي في يده وادفعها إلى الآخر واضرب عنقه،
153

قال: فضجت بنو إسرائيل وقال داود: يا رب إن بني إسرائيل ضجوا مما حكمت،
فأوحى الله إليه: إن الذي كانت البقرة في يده لقي أبا الآخر فقتله وأخذ البقرة منه، فإذا
جاءك مثل هذا فاحكم بينهم بما ترى ولا تسألني أن أحكم حتى يوم الحساب.
فصل:
وعن داود بن الحصين قال لي أبو عبد الله ع: ما يقول في النكاح
فقهاؤكم؟ قلت: يقولون لا يجوز إلا بشهادة رجلين عدلين، فقال: كذبوا لعنهم الله هونوا
واستخفوا بعزائم الله وفرائضه وشددوا وعظموا ما هون الله، إن الله أمر في الطلاق بشهادة
رجلين عدلين فأجازوا الطلاق بلا شاهد، والشهادة في النكاح لم يجئ عن الله في
عزيمة، فقد ثبت عقدة النكاح ويستحل الفرج وإن لم يشهد، وإنما سن رسول الله
ع في ذلك الشاهدين تأديبا ونظرا لئلا ينكر الولد والميراث. " ولا يأب الشهداء "
قبل الشهادة " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " بعد الشهادة.
باب الزيادات:
ذكر ابن عباس أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله ع فيما اختلفوا
بينهم من دين إبراهيم فكل فرقة زعمت أنهم أولى بدينه، فقال ع: كلا
الفريقين برئ من دين إبراهيم، فغضبوا وقالوا: ما نرضى بقضائك، فأنزل الله " أ فغير
دين الله يبغون " أي أ فبعد هذه الآيات والحجج تطلبون دينا غير دين الله " وله أسلم من
في السماوات والأرض " فمنهم من أسلم طوعا ومنهم من استسلم كرها، أي فرقا
من السيف.
مسألة:
وقال ابن عباس: إن الله خير نبيه ع بقوله تعالى: فإن جاؤوك فاحكم
بينهم أو أعرض عنهم، وهذا التخيير ثابت في الشرع للأئمة والحكام، وقول من قال:
154

إنه منسوخ بقوله تعالى: وأن احكم بينهم، لا يصح لأن المعنى " وإن تعرض " عن
الحكم بينهم " فلن يضروك شيئا " فدع النظر بينهم إن شئت. " وإن حكمت " أي وإن
اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بينهم " بالقسط " بما في القرآن وشريعة الاسلام.
ثم قرع اليهود بقوله: وكيف يحكمونك، ويرضونك حكما وهم تركوا الحكم
بالتوراة جرأة على الله، وإنما طلبوا بذلك الرخصة، وما هم بمؤمنين بحكمك إنه من عند
الله.
مسألة:
وقوله تعالى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون، لا يدل على أن
نبينا ع كان متعبدا بشرع موسى ع لأن الله هو الذي أوجب ذلك
بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة فصار ذلك شرعا له وإن وافق ما في التوراة، ونبه
بذلك اليهود على صحة نبوته من حيث أخبر ع عما في التوراة من غوامض
العلم ما التبس على كثير منهم وقد عرفوا أنه لم يقرأ كتابهم.
وقوله تعالى: للذين هادوا، من الكفر وقيل: لليهود، واللام فيه يتعلق بيحكم، أي
يقضي بإقامة التوراة النبيون الذين كانوا من وقت موسى إلى وقت عيسى لهم وفيما
بينهم.
155

كتاب الشهادات
لا يجوز للشاهد أن يشهد حتى يكون عالما بما يشهد به حين التحمل وحين الأداء
لقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، وقال: إلا من شهد بالحق.
وقال ابن عباس: سئل النبي ع عن الشهادة فقال: هل ترى الشمس؟
فقال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع.
وما يصير به عالما من وجوه ثلاثة: سماعا أو مشاهدة أو بهما،
أما ما يقع له به مشاهدة فالأفعال كالغصب والسرقة والقتل والقطع والرضاع
والولادة واللواط والزنى وشرب الخمر، فله أن يشهد إذا علمه بالمشاهدة ولا يصير به عالما
بغير مشاهدة. وأما ما يقع به العلم سماعا فثلاثة أشياء: النسب والموت والملك المطلق.
وأما ما يحتاج إلى سماع وإلى مشاهدة فهو كالشهادة على العقود كالبيع والسلم
والصلح والإجارات والنكاح ونحو ذلك، لا بد فيها من مشاهدة المتعاقدين وسماع كلام
العقد منهما لأنه لا يمكن تحمل الشهادة قطعا إلا كذلك. وليس عندنا عقد من العقود
من شرطه الشهادة أصلا وعند الفقهاء كذلك إلا البيع والنكاح وحدهما، وأما الطلاق
فمن شرطه إشهاد رجلين عدلين في مجلس واحد.
وقال داود: الشهادة واجبة على البيع لقوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم، ولقوله
ع: ثلاثة لا يستجاب لهم دعوة: من باع ولم يشهد ورجل دفع ماله إلى سفيه
ورجل له امرأة يقول: اللهم خلصني منها، ولا يطلقها. وعندنا الآية والخبر يحملان على
157

الاستحباب.
باب تعديل الشهود ومن تقبل شهادته:
قال الله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، أي اطلبوا أن يشهد لكم
شهيدان من رجالكم من رجال المؤمنين، والمعنى بالغوا في طلب من يعلم بتعاملكم وهو
شهيدان أي رجلان من أهل الفضل والعدل لكي إن اختلفتم بينا الحق من الباطل بما
عرفاه من قبل.
والشهادة العلم، والسين للطلب والسؤال. وقال " شهيدين " ولم يقل رجلين
ليستغني عن ذكر عدلين، لأنه تعالى قال: وأشهدوا ذوي عدل منكم، و " الشهيد "
اسم للرجل العدل وهو أبلغ من " شاهد ". و " العدل " هو من ظاهره ظاهر الإيمان
ويعرف باجتناب الكبائر ويعرف بالصلاح والعفاف حافظا على الصلوات. وقال
مجاهد: في قوله تعالى " من رجالكم " أي من رجالكم الأحرار المسلمين دون الكفار
والعبيد. وقال شريح والبتي وأبو ثور: الحرية ليست شرطا في قبول الشهادة، و عندنا هذا
هو الصحيح، وإنما الاسلام شرط مع العدالة. ولم يقل: واستشهدوا شهيدين من رجالكم
في ذلك، إشعارا بأن الإشهاد كما يعتبر في الدين والسلم يراعى في أشياء كثيرة.
فصل:
ثم قال تعالى: فإن لم يكونا رجلين، أي فإن لم يكن الشهيدان رجلين، يعني
إن لم يحضر من يستأهل أن يكون شهيدا من جملة الرجال رجلين " فرجل وامرأتان "
أي فليشهد رجل وامرأتان. والحكم بالشاهد والمرأتين يختص بما يكون مالا أو المقصود به
المال، فأما الحدود التي هي حق الله وحقوق الآدميين وما يوجب القصاص فلا يحكم
فيها بشهادة رجل وامرأتين إلا في الرجم وحد الزنى والدم خاصة لئلا يبطل دم امرئ
مسلم، فإنه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان على رجل بالزنى وجب عليه الرجم إن كان
محصنا، وإن شهد بذلك رجلان وأربع نسوة لا يرجم المشهود عليه بل يحد حد الزاني،
158

وإن شهد رجل وست نسوة بذلك جلدوا كلهم حد القذف.
ويجوز شهادة رجل وامرأتين على رجل بالجراح أو القتل غير أنه لا يثبت بشهادتهن
القود ويجب بها الدية على الكمال، فأما شهادتهن في ذلك على الانفراد فإنها لا تقبل على
حال. وتقبل شهادتهن في الديون ونحوها على ما ذكرناه مع الرجال وعلى الانفراد،
وكذلك عندنا في الشاهد واليمين حكم الشاهد والمرأتين سواء وهذا في الدين ونحوه مما
القصد به المال خاصة.
ومن شجون الحديث ما روي أن أبا حنيفة سأل جعفر بن محمد ع عن
شاهد واحد واليمين، فقال: تقبل شهادة واحد ويحلف مع ذلك صاحب الدين ويقضى
له به، فقال أبو حنيفة: كلام الله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، و: رجل
وامرأتان، فقال ع: وهل فيه أنه لا يجوز اليمين مع شاهد واحد؟ فانقطع،
ثم قال ع: وأنت تجيز الحكم فيما هو أعظم منه برجل واحد فقط إذا عرف من
يشهد شهودا على نفسه وهم لا يعرفونه، فلم يحر جوابا.
ولا يجوز أن يشهد الانسان إلا على من يعرفه، فإن أشهد على من لا يعرفه فليشهد
بتعريف من يثق إليه من رجلين مسلمين، وإذا أقام الشهادة أقامها كذلك، وفحوى الآية
تدل على ذلك.
وقوله: فإن لم يكونا رجلين، التقدير فإن لم يكن رجلين لكنه ثني لما تقدم ذكر
الشهيدين ولو قال: فإن لم يكونا، لكفى من ذكر الرجلين لكنه أعاد ذكر الرجلين
توكيدا وتبيينا، وفي الضمير الذي في " كانا " فائدة وهو أن يكون كناية عن شهيدين،
ولو قال: فإن لم يكن، لجوز السامع ألا تكون العدالة معتبرة ههنا. ونحوه قوله: فإن
كانتا اثنتين، ثم قال: فرجل وامرأتان، أي فليكن رجلا وامرأتين، ولا بد من
تقدير حذف المضاف أي فليحدث شهادة رجل وامرأتين أو فليكن - قاله أبو علي.
فصل:
وقوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء، أي ممن تعرفون عدالتهم " أن تضل
159

إحديهما " أي أن لا تهتدي إحديهما للشهادة بأن تنساها، من ضل الطريق إذا لم يهتد
له، وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل.
فإن قيل: كيف يكون ضلالها مرادا لله؟
قيل: لما كان الضلال سببا للإذكار والإذكار مسببا عنه وهم ينزلون كل واحد
من السبب والمسبب بمنزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما كانت إرادة الضلال المسبب عنه
الإذكار إرادة للإذكار فكأنه قيل إرادة أن تذكر إحديهما الأخرى إن ضلت، ونظيره
قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يجئ عدو فادفعه.
وقوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء، فيه ذكر يعود إلى الموصوفين اللذين هما
" فرجل وامرأتان "، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المقدم ذكرهما لاختلاف إعراب
الموصوفين أ لا ترى أن " شهيدين " منصوبان و " رجل وامرأتان " إعرابهما الرفع، وإذا
كان كذلك علمت أن الوصف الذي هو ظرف إنما هو وصف لقوله " فرجل وامرأتان "
دون من تقدم ذكرهما من الشهيدين.
وقوله تعالى: " أن تضل " لا يتعلق بقوله " واستشهدوا " لكن يتعلق أن بفعل مضمر
يدل هو عليه، أي واستشهدوا رجلا وامرأتين أن تضل إحديهما فتذكر إحديهما الأخرى.
وقيل: تقديره فرجل وامرأتان يشهدون ويكون يشهدون خبر المبتدأ، والمفعول الثاني من
ذكر محذوف، تقديره فتذكر إحديهما الأخرى شهادتهما.
وقراءة حمزة على الشرط إن تضل إحديهما فتذكر بالرفع والتشديد كقوله تعالى: ومن
عاد فينتقم الله منه، والشرط والجزاء وصف المرأتين لأن الشرط والجزاء جملة يوصف
بها كما يوصف بها في قوله تعالى: الذين إن مكناهم في الأرض... الآية.
وقال أبو عبيدة معنى " أن تضل " أن تنسي ونظيره: فعلتها إذا وأنا من
الضالين، أي نسيت وجه الأمر.
فصل:
ومن بدع التفسير " فتذكر " أي فتجعل إحديهما الأخرى ذكرا، يعني أنهما إذا
160

اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر، والمعنى إن لم يحضر رجلان من الشهداء الذين خبرت
أحوالهم، فحمدت أفعالهم بالكف عن البطن والفرج واليد واللسان واجتناب شرب
الخمر والزنى والربا وعقوق الوالدين وغير ذلك، يسترون عيوبهم ويتعاهدون الصلوات
الخمس ويتوفرون على حضور جماعة المسلمين غير متخلفين عنهم إلا لمرض أو علة أو عذر.
يستشهد رجل وامرأتان من الشهداء الذين وصفناهم لكي إن نسيت إحدى المرأتين
ذكرتها الأخرى ولم يوجب هذا الحكم في الرجال لأنهم من النسيان أبعد وإلى التحفظ
والتيقظ أقرب.
ويمكن أن يقال في " أن تضل إحديهما ": أن المراد أن تنسي إحدى البينتين
تذكرها شهادة الأخرى فيكون الكلام عاما في الرجال والنساء، وهذا صحيح لأنه لا
يجوز أن يقيم الانسان شهادة إلا على ما يعلم ولا يعول على ما يجد به خطه، فإن وجد
خطه مكتوبا ولم يذكر الشهادة لم يجز له إقامتها، فإن لم يذكر هو ويشهد معه آخر ثقة
جاز له حينئذ إقامة الشهادة. ويعتبر في شهادة النساء الإيمان والستر والعفاف وطاعة
الأزواج وترك البذاء والتبرج إلى أندية الرجال.
باب ذكر ما يلزم الشهود:
ولما ذكر الله تعالى ما يلزم المستشهد من الواجبات والمندوبات ذكر بعده ما يلزم
الشهداء فقال: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ليقيموا الشهادة فعلى هذا يكون إشارة
إلى أنه متى دعي الانسان لإقامة شهادة لم يجز له الامتناع منها على حال إلا إذا علم أن
من عليه الدين معسر فإن شهد عليه حبسه الحاكم فاستضر هو به وعياله. وقيل: لا يأب
الشهداء إذا ما دعوا ليستشهدوا. وإنما قال لهم شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يشارف
منزلة الكائن، وقد أشار سبحانه بهذا إلى أنه لا يجوز أن يمتنع الانسان من الشهادة إذا
دعي إليها ليشهد بها إذا كان من أهلها إلا أن يكون حضوره مضرا بشئ من أمر الدين أو بأحد من المسلمين.
وعن قتادة: كان الرجل يطوف بين خلق كثير فلا يكتب له أحد، فنزل: ولا
161

تساموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله، كنى بالسام عن الكسل لأن الكسل
صفة المنافق ومنه الحديث: لا يقول المؤمن كسلت. ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته
فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتابا فربما قل كثرة الكتب، والضمير في
" تكتبوه " للدين أو للحق " صغيرا أو كبيرا " على أي حال كان الحق من صغير أو كبير،
ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وأن يكتبوه مختصرا أو مشبعا.
ولا تخلو بكتابته " إلى أجله " أي إلى وقته الذي اتفق الفريقان على تسميته، قال
الزجاج: هذا يؤكد أن الشهادة ابتداءا واجبة، والمعنى لا تساموا أن تكتبوا ما شهدتم
عليه، ولا حاجة إلى ما يؤكد به وجوب إقامة الشهادة.
وقال ابن جريج عذرا للوجه الأول: " لا تساموا " خطاب للمتداينين يقول اكتبوا
ما تتعاملون عليه بدين صغيرا كان الحق أو كبيرا " ذلكم " إشارة إلى أن تكتبوه لأنه في
معنى المصدر أي ذلكم الكتب " أقسط " أي أعدل من القسط " وأقوم للشهادة " وأعون
على إقامة الشهادة " وأدنى ألا ترتابوا " أي أقرب من انتفاء الريب، وإنما قال إنه أصوب
للشهادة لأن الشهادة حينئذ أقرب إلى أن تأتوا بألفاظ المستدين وأن لا يقع عليهم غلط
النسيان، وأنتم مع هذا أقرب إلى أن لا تشكوا فيما يشهد به الشهود عليكم من الحق
والأجل إذا كانا مكتوبين.
فصل:
وقد ذكر الله سبحانه في أول هذه الآية قبل الأمر بالاستشهاد النهي عن الامتناع من
الكتابة، قال: ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله، والنهي يقتضي تحريم
الامتناع. وقال عامر الشعبي: هو فرض على الكفاية كالجهاد. وجوز الجبائي أن يأخذ
الكاتب والشاهد الأجرة على ذلك، وعندنا لا يجوز ذلك للشاهد. والورق الذي يكتب
فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين ويكون الكتاب في يده لأنه له. وقال
السدي: ذلك واجب على الكاتب في حال فراغه. وقال مجاهد: هو واجب. وقال
الضحاك: نسخها قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد.
162

وقوله تعالى: أن يكتب كما علمه الله فليكتب، يعني الكاتب. وليملل الذي
عليه الحق، أمر لمن عليه الحق بالإملاء. وليتق الله ربه، معناه لا يملل إلا الذي
عليه الحق. والمراد بالأمر الذي عليه الدين بالإملاء الندب دون الإيجاب لأنه لو أملى
غيره وأشهد هو كان جائزا بلا خلاف ولا ينقص منه شيئا، والبخس النقص ظلما ومنه
قوله تعالى: ولا تبخسوا الناس أشياءهم، أي لا تنقصوهم ظالمين لهم. والبخس فوق
الغبن، وفي هذا إيجاز وحذف لأن المدين المملي إن أراد أن يحط في إملائه من المال شيئا
فإن الدائن يمنعه ذلك، وإن تمكن من النقصان بوجه من الوجوه - إما بحيلة يحتالها وإما
لغباوة تكون في صاحب الدين -
فلا يفعلن ذلك خشية من عقاب الله.
ولا يأب كاتب، ذكر بتنكير كاتب أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب مثل ما
علمه الله كتابهم، وقيل: هو كقوله: وأحسن كما أحسن الله إليك، أي ينفع الناس
بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.
و: كما علمه الله، يجوز أن يتعلق ب‍ " أن يكتب " وبقوله " فليكتب ". فإن قيل:
أي فرق بين الوجهين؟ قلنا: إن علقته ب‍ " أن يكتب "، فقد نهى عن الامتناع من
الكتابة المقيدة، ثم قيل له: فليكتب، تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد، وإن علقته
بقوله: فليكتب، فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ثم أمر بها
مقيدة.
وليملل الذي عليه، ولا يكن المملي إلا من وجب عليه الحق لأنه هو المشهود على
ثباته في ذمته وإقراره به. والإملال والإملاء لغتان قد نطق بهما القرآن.
فصل:
ثم قال تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها، قال مجاهد: السفيه الجاهل لأنه
خفيف العقل بنقصه، وأصل السفه الخفة. وقوله تعالى: أو ضعيفا، هو الأحمق - عن
مجاهد والشعبي.
وقوله تعالى: أو لا يستطيع أن يمل هو، قال ابن عباس: هو العيي العاجز عن
163

الإملاء بالعي أو الخرس.
وقيل: المراد بالسفيه: القوي على الإملاء إلا أنه جاهل لا يعرف موضع صواب ما
يمكنه من خطابه، والضعيف: العاجز عن الإملاء وإن كان سديدا رشيدا إما بعي لسانه
أو خرس. والذي لا يستطيع أن يمل الممنوع منه إما لحبس أو لغيبة لا يقدر على حضور
الكاتب الشاهد فحينئذ يمل عنه وليه.
وقيل: الأولى أن يكون المراد بالسفيه: البذئ اللسان الخفيف في نفسه فلا يوثق
بإملائه ولا يؤتمن عليه. والضعيف: الجاهل الذي لا يحسن أن يملي. والذي لا يستطيعه:
من به لكنة أو خرس أو آفة تمنعه من الإملاء، وهذا أقرب.
وقال أكثر المفسرين: سفيها: محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف، أو ضعيفا:
صبيا أو شيخا مخبلا، أو لا يستطيع أن يمل هو: أي غير مستطيع للإملاء بنفسه لعي أو
خرس، فليملل وليه الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيها أو وكيل إن كان غير
مستطيع أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه.
والهاء في قوله " وليه " عائدة إلى السفيه في قول الضحاك وابن زيد الذي يقوم مقامه
بأمره، لأن الله أمر أن لا يؤتى السفهاء أموالهم، وأمر أن يقام لهم بها. وقال الربيع:
يرجع إلى ولي الحق، والأول أقوى.
وإذا أشهد الولي على نفسه فلا يلزمه المال في ذمته بل يلزم ذلك في مال المولى عليه.
فصل:
ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر ما في قوله تعالى: ذلكم أقسط عند الله.
اعلم أن أكثر ما يبني " أفعل " من الثلاثي، وههنا بنى من أفعل لأنه من " أقسط "
بمعنى عدل وأزال الجور، لا من " قسط " أي جار، وكذلك في قوله: أقوم للشهادة، لأنه
أفعل من أقامه إلى سواه، وقام الشئ استوى.
وقال الجبائي: لا تجب الكتابة والإشهاد، فإن لم يكن الثمن حاضرا وتسلم
المشتري المبيع وأنسأ الثمن كان الكتاب فرضا، وكذا الإشهاد لقوله تعالى: وأشهدوا
164

إذا تبايعتم، وهذا أمر على الوجوب، قال: ولا دليل لمن جعله ندبا وهذا الأمر فيما
يتتابع عليه نقدا كالرباع والحيوان. وقيل من ههنا ذهب بعض الفقهاء إلى: أن الإشهاد
في البياعات واجب. وليس كما قدر لأنه من باب الاحتياط.
فإن قيل: فما معنى " تجارة حاضرة " وسواء كانت المبايعة بدين أو بعين والتجارة
حاضرة وما معنى إدارتها بينهم؟
قلنا: أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الإبدال، ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا
بيد، والمعنى إلا أن يتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا يكتبوا لأنه لا يتوهم فيه ما
يتوهم في التداين.
وأما قوله: وأشهدوا إذا تبايعتم، فهو أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا ناجزا وكالئا
لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف، ويجوز أن يراد وأشهدوا إذا تبايعتم هذا
التبايع، يعني التجارة الحاضرة على أن الإشهاد كان فيه دون الكتابة.
فصل:
وقوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد.
" يضار " يحتمل البناء للفاعل والمفعول والدليل عليه قراءة أبي عمرو " ولا مضاررة "
بالإظهار والكسر، وقراءة ابن عباس " ولا يضارر " بالإظهار والفتح. والمعنى إذا كان
على يفاعل نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف
والزيادة والنقصان أي لا يكتب الكاتب إلا الحق ولا يشهد الشاهد إلا بالحق، وإذا
كان على يفاعل فمعناه النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أو يلزا أو تحمل
الشهيد مؤنة مجيئه من بلد، أي لا يدعى إلحاحا ولا يؤذي إذا كان في شغل.
وقال أبو محمد جعفر بن مبشر: جميع ما في هذه الآية كله على التخيير إلا حرفين وهما
" لا يضار كاتب ولا شهيد " لقوله: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، والثاني " ولا
تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ".
ومعنى " وإن تفعلوا " وأن تضاروا فإنه: أي فإن الضرار فسوق بكم، وقيل: وإن
165

تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه.
باب في تحمل الشهادة وأدائها:
أما التحمل فإنه فرض في الجملة، فمن دعي إلى تحمله على بيع أو نكاح أو غيرهما
من عقد أو دين لزمه التحمل، لقوله: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، ولم يفرق ولقوله:
ولا يضار كاتب ولا شهيد، فإن أهل التفسير تأولوا هذا الكلام ثلاث تأويلات:
قال ابن عباس: معناه لا يضار الشاهد والكاتب بمن يدعوه إلى تحملها، ولا يحتج
عليه بأن لي شغلا أو خاطب غيري فيها.
ومنهم من قال: لا يضر الشاهد بمن يشهد له فيؤدي غير ما تحمل، ولا يضر الكاتب
بمن يكتب له فيكتب غير ما قيل له.
ومنهم من قال: لا يضار بالشاهد والكاتب من يستدعيه فيقول له: دع أشغالك
واشتغل لحاجتي.
فإذا ثبت أن التحمل فرض على الجملة فإنه من فروض الكفايات إذا قام بها بعض
سقط عن الباقين كالجهاد والصلاة على الموتى ورد السلام، وقد يتعين التحمل، وهو إذا
دعي لتحملها على عقد النكاح أو على دين أو غيره وليس هناك غيره فحينئذ يتعين عليه
التحمل كما يتعين في الصلاة على الجنائز والدفن ورد السلام.
فصل:
وأما الأداء فإنه في الجملة أيضا من الفرائض لقوله تعالى: ولا تكتموا الشهادة
ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، وقال: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا. ويمكن أن
يستدل بها على وجوب التحمل وعلى وجوب الأداء كما قدمناه وهي بوجوب الأداء أشبه
فإنه تعالى سماهم شهداء ونهاهم عن الآباء إذا دعوا إليها وإنما يسمى شاهدا بعد تحملها
حقيقة.
وهو من فروض الكفايات إذا كان هناك خلق قد عرفوا الحق وصاروا به شاهدين،
166

فإذا قام به اثنان سقط الفرض عن الباقين كالصلاة على الجنائز، وقد يتعين الفرض فيه
وهو إذا لم يتحمل الشهادة إلا اثنان أو تحملها خلق ولم يبق منهم إلا اثنان تعين عليهما
الأداء كما لو لم يبق من قرابة الميت إلا من يطيق الدفن فإنه يتعين الفرض عليهم.
فإذا ثبت هذا فالكلام في بيان فرائض الأعيان والكفايات، وجملته أنه لا فرق ولا
فصل بين فرائض الأعيان والكفايات ابتداءا وأن الفرض يتوجه على الكل في الابتداء
لأنه إذا زالت الشمس توجهت صلاة الظهر على الكل وإذا مات في البلد ميت توجه
فرض القيام به على الكل، وإنما يفترقان في الثاني وهو إنما كان من فرائض الأعيان لا
يتعين، وفروض الكفاية إذا قام بها قوم سقط الفرض عن الباقين لأن المقصود دفن الميت
وإذا دفن لم يبق وجوب دفنه - بعد أن دفن - على أحد.
فصل:
وكل عقد يقع من دون الإشهاد وإن كان فعلى سبيل الاحتياط إلا الطلاق فإنه لا
يقع إلا بالإشهاد على ما نذكره في بابه مع أنه ليس بعقد. قال الله تعالى: وأشهدوا ذوي
عدل منكم وأقيموا الشهادة لله، فعند أصحابنا أن الإشهاد شرط في وقوع الطلاق لأن
ظاهر الأمر يقتضيه والأمر على الإيجاب، وقال قوم: إن ذلك راجع إلى الرجعة وتقديره:
وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتم ذوي عدل منكم، وهو الرجعة في قول ابن عباس،
وقال الشافعي: الإشهاد على الرجعة أولى، ويجوز عند أكثرهم بغير الإشهاد وإنما ذكر
الله الإشهاد كما ذكر في قوله: وأشهدوا إذا تبايعتم، وهو على الندب وأما في الطلاق
فهو محمول على الوجوب.
ثم قال: وأقيموا الشهادة لله، إذا طولبتم بإقامتها ذلكم معاشر المكلفين يوعظ به
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنما أضاف الوعظ إلى من يؤمن بالله واليوم الآخر
دون غيره لأنه الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد كذلك.
167

باب شهادة كل ذي قرابة لمن يقرب منه وعليه وذكر من تقبل شهادته منهم:
كل من كان عدلا فشهادته جائزة إلا ما نستثنيه، وكذلك إقرار العاقل على نفسه
فيما يوجب حكما في الشرع سواء كان مسلما أو كافرا مطيعا أو عاصيا أو فاسقا
وعلى كل حال إلا أن يكون عبدا، ويمكن أن يستدل عليه من الآيات المتقدمة فليتأملها.
فأما شهادة ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض فجائزة إذا كانوا عدولا من غير
استثناء أحد لأنه تعالى شرط العدالة في قوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم، ولم يشترط
سواها، ويدخل في عموم هذا القول ذوو القرابات كلهم، وكذلك قوله: واستشهدوا
شهيدين من رجالكم، يدل أيضا عليه.
والذي يدل على جواز شهادة الانسان على أقربائه خاصة قوله تعالى: يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين، فإن الله تعالى لما حكى عن الذين سعوا إلى رسوله ع في أمر بنى
أبيرق وقيامهم بالعذر وذبهم عنهم من حيث كانوا أهل فقر وفاقة أمر بعده المؤمنين بهذه
الآية أن يلزموا العدل وأن يكونوا قوامين بالقسط، أي العدل " شهداء لله ولو على
أنفسكم " يعني ولو كانت شهادتكم على أنفسكم أو على آبائكم أو أمهاتكم أو على
أقرب الناس إليكم، وقوموا فيها بالعدل وأقيموا على صحتها وقولوا فيها بالحق ولا تميلوا
فيها لغنى غنى ولا فقر فقير فتجوروا فإن الله سوى بين الغني والفقير فيما ألزمكم من
إقامة الشهادة لكل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم " فلا تتبعوا
الهوى " في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغني أو فقير إلى أحدهما " فتعدلوا عن
الحق " أي تجوروا عنه وتضلوا ولكن قوموا بالقسط وأدوا الشهادة على ما أمركم الله
بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.
ونصب " شهداء " على الحال من الضمير في قوله " قوامين "، وهو ضمير " الذين آمنوا "
ويجوز أن يكون خبرا ثانيا " كونوا " كقولهم: هذا حلو حامض. ويجوز أن يكون صفة
للقوامين والمعنى كونوا قوامين بصفة من يصلح أن يكون شهيدا على سائر عباده.
168

فصل:
فإن قيل: كيف تكون شهادة الانسان على نفسه حتى يأمر الله تعالى بذلك؟
قلنا: بأن يكون عليه حق لغيره فيقر له به ولا يجحده، فأدب الله المؤمنين أن لا يفعلوا
ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا أو خيانتهم ما خانوا وإضافتهم ذلك
إلى غيرهم فهذا الذي اختاره الطبري ونذكر في باب القضايا.
وقال السدي: إنما نزلت وقد اختصم رجلان إلى عند رسول الله ع غنى
وفقير فكان ع مع الفقير لظنه أن الفقير لا يظلم الغني فأبى سبحانه إلا القيام
بالقسط في أمر الغني والفقير فقال تعالى: إن يكن
غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما.
وهذا الوجه فيه بعد لأن النبي لا يجوز في الحكم ولا يميل إلى أحد الخصمين سواء كان
غنيا أو فقيرا لأن ذلك ينافي عصمته.
فعلى هذا لا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه، وشهادة الوالد لولده وعليه، وشهادة
الرجل لزوجته وعليها، وكذا لا بأس بشهادتها له وعليه فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه
إذا كان مع كل واحد منهم غيره من أهل الشهادة.
ولا تقبل شهادة واحد منهم لصاحبه مع يمينه كما جاز مع الأجنبي، فأما شهادة
الولد لوالده وعليه فالمرتضى يجيزها أيضا على كل حال إذا كان معه غيره من أهل
الشهادات فظاهر الآية معه. وإن كانت شهادة الانسان على نفسه مجازا لأنها إقرار على
نفسه وشهادته على أقربائه والوالدين حقيقة فإن الكلمة الواحدة تذكر ويراد بها الحقيقة
والمجاز معا إذ لا مانع، وجمهور فقهائنا أيضا على ذلك لعموم الآيتين اللتين قدمناهما إلا
شهادة الولد على والده فإنهم لا يجيزونها لخبر يروونه.
وعذرهم في تأويل هذه الآية ما روي عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى أمر
المؤمنين بهذه الآية أن يقولوا الحق على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يميلون إلى غنى لغناه
ولا إلى فقير لفقره، قالوا: وهذا أولى لأنه أليق بالظاهر على كل وجه من غير عدول عنه
وهو أمر بقبول الحق وفعله وملازمة العدل والأمر به.
169

فصل:
ومما يؤكد القول الأول ما روي عن الحسن أنه قال: يعني بالآية الشهادة خاصة،
وقوله تعالى: ولو على أنفسكم، أي ولو كانت شهادتكم تضر في الحال أنفسكم في
الحال والمئال لأن " على " يقتضي ذلك. ومعنى: كونوا شهداء لله، أي لتكن شهادتكم
لأجل رضاء الله ولما أمر الله به وهو القسط.
وقال ابن شهاب: كان سلف المؤمنين على جواز شهادة كل ذي قرابة لمن تقرب منه
وعليه حتى دخل الناس فيما بعدهم وظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم
فتركت شهادة من يتهم إذا كان من أقربائهم، والاعتماد في المنع من شهادة الأقارب
على التهمة التي تلحق لأجل النسب غير صحيح لأنه يلزم على ذلك أن لا تقبل شهادة
الصديق لصديقه ولا الجار لجاره لأن التهمة متطرقة، على أن العدالة مانعة من التهمة
وحاجزة عنها.
وما روي عن النبي ع من أنه: لا يجوز قبول شهادة المتهم والخصم والخائن
والأجير له ما لم يفارقه ولا شهادة من خالف من أهل البدع وإن كان على ظاهر الستر
والعفاف، فليس ذلك مستخرجا من اجتهاد أو عفاف وإنما هو أيضا نص إلهي.
ويمكن أن يستدل من الآيات المتقدمة على ذلك، وقال تعالى: وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم، فبين ع كما علمه الله تعالى.
فصل:
أما شهادات القرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا فقد ذكرنا أن دليلها قوله
تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم، فشرط - كما ترى - العدالة وأن يكون من جملة
المؤمنين بقوله " منكم " لا أن يكون عدلا عند نحلته وأهل ملته ولم يشرط سواها ويدخل
في عموم هذا ذوو القرابات كلهم. وقوله تعالى: واستشهدوا شهيدين، يدل أيضا على
هذه المسألة.
وما يقول المخالف: الولد جزء من أبيه فكأنه شهد لنفسه إذا شهد لما هو بعضه، فهذا
170

غير محصل لأن الولد - وإن كان مخلوقا من نطفة أبيه - ليس ببعض له على الحقيقة بل
لكل واحد منهما حكم يخالف حكم صاحبه. وكذلك يسترق الولد برق أمه وإن كان
الأب حرا على بعض الوجوه، ويحرر بحرية الأم وإن كان الأب عبدا كذلك، ولم يسر
حكم كل واحد منهما إلى صاحبه هنا، وكذلك تقبل شهادة العبيد لساداتهم إذا كان
العبيد عدولا [وتقبل أيضا على غيرهم ولهم، ولا تقبل على ساداتهم وإن كان العبيد
عدولا] ودليلنا عليه إجماع الفرقة، ويمكن أن يستدل من القرآن على ذلك أيضا. ولو كنا
ممن يثبت الأحكام بالأقيسة لكان لنا أن نقول: إذا كان العبد العدل بلا خلاف تقبل
شهادته على رسوله وعلى آله - في روايته عنه وعنهم - فلأن تقبل شهادته على غيره أولى.
على أن العبيد العدول داخلون في عموم الآية ويحتاج في إخراجهم منها إلى دليل.
ولا يعترض على هذا بالنساء لأنهن غير داخلات في الظواهر التي ذكرناها، مثل قوله
تعالى: ذوي عدل منكم، وقوله تعالى: شهيدين من رجالكم، فأخرجن النساء من
هذه الظواهر لأنهن ما دخلن فيها.
وكذلك شهادة الأعمى مقبولة إذا كان عدلا لأن الأعمى داخل في ظواهر الآيات
ولا يمنع عماه من كونها متناولة له، ومعول من خالفنا في هذه المسألة على أن الأعمى
تشتبه عليه الأصوات، وهذا غلط فاحش لأن الضرير يعرف زوجته ووالديه وأولاده
ضرورة ولا يدخل عليه شك في ذلك كله، ولو كان لا سبيل له إلى ذلك لم يحل له وطء
امرأته لتجويزه أن تكون غير من عقد عليها. فإن استدل المخالف بقوله: وما يستوي
الأعمى والبصير، فالجواب عنه: أن الآية مجملة لم يتضمن ذكر ما يستوون فيه، وادعاء
العموم فيما لم يذكر غير صحيح، وظواهر آيات الشهادة تتناول الأعمى كتناولها البصير
إذا كان عدلا لأن قوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم، و: استشهدوا شهيدين من
رجالكم، يدخل فيه الأعمى كدخول البصير، فإن كان الذي يشهد عليه يحتاج فيه إلى
الرؤية حتى تصح الشهادة فيه فلا تقبل حينئذ شهادة الأعمى فيه. فإن كان في وقت
إشهاد الأعمى كان صحيحا ثم عمي فإن شهادته مقبولة في ذلك أيضا.
171

فصل:
وقد مست الحاجة ههنا وفي مواضع كثيرة من كتابنا هذا إلى أن نفرق بين العموم
والمجمل لتتمشى تلك الاستدلالات التي أوردناها:
اعلم أن الفرق بين العموم والمجمل: هو أن كل لفظ فعل لأجل ما أريد به فهو
عموم، وكل لفظ فعل لأجل ما أريد به وما لم يرد فهو المجمل.
مثال الأول: قوله تعالى: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، فلو خلينا وتلك
الآية لقتلنا اليهودي والنصراني مثل الوثني وكل من تناوله هذا الاسم وكنا فاعلين
بموجب اللفظ وهو العموم.
وأما مثال الثاني: فهو قوله تعالى: أقيموا الصلاة، فلو فعلنا كل صلاة لكنا فاعلين
ما لم يرد منا، وكذلك قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة، فإنه لا يجب أن يؤخذ كل
صدقة بل صدقة مخصوصة.
وعن داود بن الحصين قال: سمعت أبا عبد الله ع يقول: أقيموا الشهادة
على الوالد والولد ولا تقيموها على الأخ في الدين للصبر، قلت: وما الصبر؟ قال: إذا
تعدى فيه صاحب الحق الذي يدعيه قبله خلاف ما أمر الله به ورسوله. ومثال ذلك:
أن يكون لأحد على آخر دين وهو معسر وقد أمر الله بإنظاره حتى ييسر قال تعالى: فنظرة
إلى ميسرة، ويسألك أن تقيم الشهادة له وأنت تعرفه بالعسر فلا يحل لك أن تقيم
الشهادة في حال العسر، وقال: لا تشهد بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك.
وكلام الشيخ أبي جعفر الطوسي رضي الله عنه: أن شهادة الولد لوالده جائزة ولا
تجوز عليه، فدليله الحديث النبوي الذي رواه المعصومون من أهل بيته فهو بيان لما أجمله
الله في كتابه ويخصص به كثير من عموم القرآن.
وأما الآية التي يرى أنها دالة على خلاف هذا وهي قوله تعالى: يا أيها الذين
آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين، فهي وقوله
تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم
شنئان قوم على ألا تعدلوا، فالخطاب للولاة أي كونوا قوامين لأجل طاعة الله بالعدل
172

والحكم في حال كونكم شهداء أي وسائط بين الخالق والخلق أو بين النبي وأمته كما
قال: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، فالقائم بتنفيذ
أحكام الله بين خلقه إذا أوفى بما عليه من حقه فهو شهيد لله على من وليه والرسول شهيد
عليه بما نقله إليه.
والباء في قوله " بالقسط " متعلقة ب‍ " قوامين " أي كونوا قوامين بالقسط شهداء
بالعدل لله، يعني دوموا على فعل العدل والحق وليكن ذلك منكم لله لا لأمر آخر.
وقال أبو مسلم: يجوز أن تكون الشهادة ههنا بمعنى الحضور فيكونوا مأمورين بإقامة
الحق والعدل ويحضروا المواضع التي يحضرونها لذلك لا يدعونه في وقت ولا حال، أي
شاهدوا من شاهدتم بالحق دون غيره ولا تزولوا عنه أبدا.
وفي تغاير ترتيب الآيتين مع الاتفاق في الألفاظ خبيئة لطيفة فليتأملها يقف عليه إن
شاء الله تعالى.
باب شهادة من خالف الاسلام:
ولما بين الله تعالى في آي كثيرة أنه لا يجوز قبول شهادة من خالف الاسلام على
المسلمين في حال الاختيار أجاز تعالى قبول شهادتهم في حال الضرورة في الوصية
خاصة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت
حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم... الآية فاللذان منكم
مسلمان واللذان من غيركم ذميان من أهل الكتاب.
وقد قرئ " شهادة بينكم " أي ليقم شهادة بينكم اثنان، كما أن من رفع فنون أو
لم ينون فهو على نحو من هذا، أي مقيم شهادة بينكم أو شهادة بينكم " اثنان ذوا
عدل منكم " أي ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا.
وقرئ " ولا يكتم شهادة الله " الله على الوجهين: فالقصر بالجر حذف منه حرف
القسم، وبالمد عوض منه همزة الاستفهام، كأنه قال: أ تقسم بالله إنا إذا لمن الظالمين.
وفي مجئ القسم وحرف الاستفهام قبله تهيب.
173

وذكر أبو جعفر ع: أن سبب نزول هذه الآية ما قال أسامة بن زيد عن أبيه
قال: كان تميم الدارمي وأخوه عدي نصرانيين وكان متجرهما إلى مكة فلما هاجر رسول
الله ص إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة وهو
يريد الشام تاجرا فخرج هو وتميم الدارمي وأخوه عدي حتى إذا كانوا ببعض الطريق
مرض ابن أبي مارية فكتب وصية بيده بحيث لا يدري بها أحد ودسها في متاعه ودفع
المال إليهما وأوصى إليهما وقال: أبلغا هذا أهلي، فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما
أعجبهما منه ثم رجعا بباقي المال إلى الورثة فلما فتش القوم المال نظروا إلى الوصية
وفقدوا بعض ما كان فيها ولم يجدوا المال تاما فكلموا تميما وصاحبه فقالا: لا علم لنا
به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي ع فنزلت هذه الآية.
ومثله ذكر الواقدي.
وقيل في معنى الشهادة ههنا ثلاثة أقوال:
أحدها: الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام مصدر شهد يشهد إذا أظهر ما
عنده من العلم بالشئ المتنازع فيه لإبانة حق عند حاكم أو غيره.
الثاني: شهادة الحضور لوصيين.
الثالث: شهادة إيمان بالله إذا ارتاب الورثة بالوصيين، من قول القائل: أشهد بالله
إني لمن الصادقين، والأول أقوى وأليق بالقصة.
وفي كيفية الشهادة قولان:
أحدهما: أن يقول صحيحا كان أو مريضا: إذا حضرني الموت فافعلوا كذا وكذا،
ذكره الزجاج.
الثاني: إذا حضر أسباب الموت من المرض.
فصل:
وقوله تعالى: شهادة بينكم، قيل في رفعه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون بالابتداء، وتقديره شهادة بينكم شهادة اثنين، ويرتفع اثنان بأنه
174

خبر الابتداء ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال أبو علي الفارسي:
واتسع في " بين " وأضيف إليه المصدر، وذلك يدل على قول من يقول: إن الظرف الذي
يستعمل اسما يجوز أن يستعمل اسما في غير الشعر كما قال: لقد تقطع بينكم،
في من رفع.
الثاني: على تقدير محذوف، وهو عليكم شهادة بينكم، أو مما فرض عليكم شهادة
بينكم، ويرتفع اثنان بالمصدر ارتفاع الفاعل بفعله، وتقديره أن يشهد اثنان.
الثالث: أن يكون الخبر إذا حضر، فعلى هذا لا يجوز أن يرتفع اثنان بالمصدر لأنه
خارج عن الصلة بكونه بعد الخبر لكن على تقدير ليشهد اثنان، ولا يجوز أن يتعلق " إذا
حضر " بالوصية لأمرين: أحدهما أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف لأنه لو عمل
فيما قبله ألزم أن يقدر وقوعه في موضعه، فإذا قدر ذلك لزم تقديم المضاف إليه على
المضاف، ومن ثم لم يجز: القتال زيد حين يأتي. والآخر أن الوصية مصدر لا يتعلق به
ما تقدم عليه.
وقوله تعالى: إذا حضر أحدكم الموت، يعني قرب أحدكم الموت، كما قال:
حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن، وقال: حتى إذا جاء أحدكم
الموت توفته رسلنا، وقال: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون، وكل
ذلك يريد المقاربة ولولا ذلك لما أسند إليه القول بعد الموت.
فصل:
وأما قوله: حين الوصية، فلا يجوز أن يحمل على الشهادة لأنها إذا عملت في ظرف
من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه ويمكن حمله على ثلاثة أشياء: أحدها أن يعلقه
ب‍ " الموت " كأنه قال: والموت في ذلك الحين بمعنى قرب منه، الثاني على " حضر " أي
إذا حضر في هذا الحين، الثالث أن يحمله على البدل من " إذا " لأن ذلك الزمان في
المعنى هو ذلك الزمان فيبدله منه فيكون بدل الشئ من الشئ إذا كان إياه.
وقوله تعالى: اثنان ذوا عدل منكم، خبر المبتدأ الذي هو شهادة وتقديره شهادة
175

بينكم شهادة اثنين على ما قدمناه لأن الشهادة لا تكون إلا من اثنين على الغالب. وقوله
" منكم " صفة لقوله " اثنان " كما أن " ذوي عدل " صفة لهما وفي الظرف ضمير، وفي
معنى " منكم " قولان: أحدهما ما قال ابن عباس أي من المسلمين، وهو قول الباقر
والصادق ع. الثاني قال عكرمة: إنها من حي الموصي، والأول أظهر
وأصح وهو اختيار الرماني لأنه لا حذف فيه.
وقوله تعالى: أو آخران من غيركم، تقديره أو شهادة آخرين من غيركم،
وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. و " من غيركم " صفة للآخرين أي آخران
كائنان من غيركم. وقيل في معنى غيركم قولان أيضا: أحدهما قال ابن عباس
وجماعة: إنهما من غير أهل ملتكم، وهو قولهما ع. الثاني قال الحسن: أي
من غير عشيرتكم، لأن عشيرة الموصي أعلم بأحواله من غيرهم، وهو اختيار الزجاج قال:
لأنه لا يجوز قبول شهادة الكافرين مع كفرهم وفسقهم وكذبهم على الله. ومعنى " أو "
للتفصيل لا للتخيير لأن المعنى وآخران من غيركم إن لم تجدوا منكم، وهو قول أبي
جعفر وأبي عبد الله ع وجماعة. وقال قوم: هو بمعنى التخيير في من ائتمنه
الموصي من مؤمن أو كافر.
وقوله تعالى: إن أنتم ضربتم، بمعنى إن أنتم سافرتم، كما قال: وإذا ضربتم في
الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة.
فصل:
وقوله تعالى: فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما، " فيه " محذوف وتقديره وقد
أسندتم الوصية إليهما فارتاب الورثة بهما. وقوله " تحبسونهما " خطاب للورثة، والهاء في
" به " تعود إلى القسم بالله.
والصلاة المذكورة في هذه الآية قيل فيها ثلاث أقوال: أحدها أنها صلاة العصر،
وهو قول أبي جعفر الباقر ع. الثاني قال الحسن: هي الظهر أو العصر، وكل
هذا لتعظيم حرمة وقت الصلاة على غيره من الأوقات، وقيل: لكثرة اجتماع الناس
176

كان بعد صلاة العصر. الثالث قال ابن عباس: صلاة أصل دينهما، يعني في الذميين
لأنهم لا يعظمون أوقات صلاتنا.
وقوله تعالى: فيقسمان بالله، " الفاء " دخلت لعطف جملة على جملة " إن ارتبتم "
في قول الآخرين اللذين ليس من أهل ملتكم أو من غير قبيلة الميت فغلب في ظنكم
خيانتهم. ولا خلاف أن الشاهد لا يلزمه اليمين إلا أن يكونا شاهدين على وصية مسندة
إليهما فيلزمهما اليمين لأنهما مدعيان.
وقوله تعالى: لا نشتري به ثمنا، " لا نشتري " جواب ما يقتضيه قوله " فيقسمان "
لأن أقسم ونحوه يتلقى بما يتلقى به الإيمان.
ومعنى " لا نشتري به ثمنا " لا نشتري بتحريف شهادتنا ثمنا، فحذف المضاف
وذكر الشهادة لأن الشهادة قول، كما قال: وإذا حضر القسمة أولوا القربى، ثم
قال: فارزقوهم منه، وإنما يرزق من التركة، وتقديره لا نشتري به ثمنا لا نشتري به
ذا ثمن، أ لا ترى أن الثمن لا يشترى وإنما الذي يشترى المبيع دون ثمنه، وكذلك
قوله: اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، أي ذا ثمن، والمعنى أنهم آثروا الشئ القليل
وانقاد له من ابتاع، وليس المعنى هنا على الانقياد وإنما هو على التمسك به والإيثار له
على الحق.
وقوله تعالى: ولو كان ذا قربى، تقديره ولو كان المشهود له ذا قربى، وخص ذو
القربى بالذكر لميل الناس إلى قراباتهم ومن يناسبوه.
وقوله تعالى: ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الإثمين، وإنما أضاف الشهادة
إلى الله في قوله " شهادة الله " لأمره بها وبإقامتها والنهي عن كتمانها في قوله تعالى: ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه، وقوله تعالى: وأقيموا الشهادة لله.
فصل:
وقوله تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران، قد ذكرنا سبب نزول
هذه الآية، روي أنها لما نزلت أمر رسول الله ع أن يستحلفوهما بأن يقولا:
177

والله ما قبضنا له غير هذا ولا كتمناه، ثم ظهر على إناء من فضة منقوش مذهب معهما،
فقالوا: هذا من متاعه، فقالا: اشتريناه منه. فارتفعوا إلى رسول الله ع فنزل
قوله تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين
استحق، فأمر رسول الله ع رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما
وغيبا، فحلف عبد الله بن عمرو المطلب بن أبي وداعة فاستحقا، ثم إن تميما أسلم
وبايع رسول الله ع فكان يقول: صدق رسول الله وبلغ رسول الله أنا أخذت
الإناء.
ومعنى " عثر " ظهر عليه، تقول: عثرت على خيانته، و: أعثرت غيري على
خيانته، أي أطلعته ومنه قوله تعالى: وكذلك أعثرنا عليهم، وأصله الوقوع بالشئ.
وقوله: على أنهما، يعني أن الوصيين المذكورين أولا في قوله " اثنان " في قول ابن
جبير، وقال ابن عباس: على الشاهدين استحقا إثما، بمعنى خانا وظهر وعلم منهما
ذلك. فآخران يقومان مقامهما، يعني من الورثة في قول ابن جبير. من الذين
استحق عليهم الأوليان، وقيل: في قوله تعالى " الأوليان " ثلاثة أقوال: أحدهما
الأوليان بالميت عن ابن جبير، الثاني قال ابن عباس: الأوليان بالشهادة وهي شهادة
الإيمان، الثالث قال الزجاج: الأوليان أن يحلفا من غيرهما وهما النصرانيان. ويقال:
هو الأولى بفلان، ثم حذف بفلان فيقال: هو الأولى وهذان الأوليان، كما يقال: هو
الأكبر - بمعنى الكبير - وهذان الأكبران.
فصل:
وقوله تعالى " الأوليان " قيل: في رفعه ثلاثة أقوال:
أحدها: بأنه اسم ما لم يسم فاعله، المعنى استحق عليهم إثم الأولين، أي استحق
منهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
الثاني: بأنه بدل من الضمير في " يقومان " على معنى فليقم الأوليان من الذين
استحق عليهم الوصية، وهو اختيار الزجاج.
178

الثالث: بدل من قوله " آخران ".
وزعم الكوفيون إنه لا يجوز إبداله من آخرين لتأخر العطف في قوله تعالى
" فيقسمان " لأنه يصير بمنزلة " مررت برجل قام زيد وقعد "، وقال الرماني: يجوز على
العطف بالفاء جملة على جملة، وقال الفارسي: يجوز أن يكون رفعا بالابتداء وقد أخر،
وتقديره فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله أو من أهل دينه يقومان مقام الخائنين
اللذين من عثر عليهما، كقولك: تميمي أنا، ويجوز أن يكون خبرا لابتداء محذوف
وتقديره آخران يقومان مقامهما هما الأوليان. واختار الأخفش أن يكون " الأوليان "
صفة لقوله " فآخران "، لأنه لما وصف اختص، فوصف لأجل الاختصاص ما يوصف
به المعارف.
فأما الجمع فعلى اتباع اللذين وموضعه الجر وتقديره: من الأولين الذين استحق
عليهم الإيصاء والإثم. وإنما قيل لهم: الأولين، من حيث كانوا الأولين في الذكر،
أ لا ترى أنه قد تقدم " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم "، وكذلك " اثنان ذوا
عدل منكم " ذكرا في اللفظ قبل قوله " أو آخران من غيركم "، وحجتهم في ذلك أن
قالوا: أ رأيت إن كان الأوليان صغيرين أراد بهما إذا كانا صغيرين لم يقوما مقام
الكبيرين في الشهادة ولم يكونا لصغرهما أولى بالميت وإن كانا لو كانا كبيرين كانا أولى
به.
وإنما قال " استحقا إثما " لأن آخذه يأخذه آثم، فسمي إثما كما يسمى ما
يؤخذ منك مظلمة. قال سيبويه: المظلمة اسم ما يؤخذ منك، فكذلك يسمى هذا المأخوذ
باسم المصدر.
فصل:
وقيل في معناه استحقا عذاب إثم، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه،
كقوله تعالى " إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك " أي بعقاب إثمي وعقاب إثمك.
وقيل في معنى " عليهم " ثلاثة أقوال:
179

أحدها: أن يكون على بمعنى من، كأنه قال: من الذين استحق منهم الإثم، كما
قال تعالى: إذا اكتالوا على الناس يستوفون، ومعناه من الناس.
الثاني: أن يكون المعنى كما تقول: استحق على زيد مال بالشهادة، أي لزمه
ووجب عليه الخروج منه لأن الشاهدين كما عثر على خيانتهما استحق عليهما ما ولياه
من أمر الشهادة والقيام بها ووجب عليهما الخروج منهما وترك الولاية لها فصار
اخراجهما منه مستحقا عليهما كما يستحق على المحكوم عليه الخروج مما وجب عليه.
الثالث: أن يكون " على " بمنزلة " في " كأنه استحق فيهم وقام " على " مقام في،
والمعنى: من الذين استحق عليهم بشهادة الآخرين اللذين هما من غيرنا.
فإن قيل: هل يجوز أن يسند استحق فيه إلى الأوليان؟
قلنا: لا يجوز ذلك لأن المستحق إنما تكون الوصية أو شيئا منها، ولا يجوز أن
يستحق الأوليان وهما الأوليان بالميت، فالأوليان بالميت لا يجوز أن يستحقا فيسند
استحق إليهما.
وقوله تعالى: فيقسمان بالله، أي يحلفان بالله. وقوله تعالى: لشهادتنا أحق من
شهادتهما، جواب القسم التي في قوله تعالى: فيقسمان بالله، وما اعتدينا فيما قلنا
أن شهادتنا أحق من شهادتهما، إنا إن اعتدينا لمن الظالمين لنفوسنا. وهذه أصعب آية
إعرابا.
فإن قيل: كيف يجوز أن يقف أولياء الميت على كذب الشاهدين أو خيانتهما حتى
يحل أن يحلفا.
قيل: يجوز ذلك لوجوه: أحدها أن يسمعوا إقرارهما بالخيانة من حيث لا يعلمان، أو
يشهد عندهم شهود عدول بأنهم سمعوهما يقرءان بأنهما كذبا أو خانا أو تقوم البينة
عندهما على أنه أوصى بغير ذلك، أو أن هذين لم يحضرا الوصية وإنما تخرصا وبغير ذلك
من الأسباب.
180

فصل:
قال تعالى: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، معناه ذلك الإحلاف
والأقسام أو ذلك الحكم أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها - أي حقها وصدقها -
لأن اليمين تردع عن أمور كثيرة لا يرتدع عنها مع عدم اليمين.
واختلفوا في أن اليمين هل تجب على كل شاهدين أم لا؟ فقال ابن عباس: إنما
هي على الكفر خاصة، وهو الصحيح. وقال غيره: هي على كل شاهدين وصيين إذا
ارتبت بهما.
واختلفوا في نسخ حكم الآيتين المتقدمتين مع هذه على قولين: فقال ابن عباس: هي
منسوخة الحكم، وقال الحسن: غير منسوخة، وهو الذي يقتضيه مذهبنا وأخبارنا. وقال
البلخي: أكثر أهل العلم على أنه غير منسوخ لأنه لم ينسخ من سورة المائدة شئ لأنها
آخر ما نزلت.
ووجه قول من قال " هي منسوخة ": أن اليمين لا تجب اليوم على الشاهدين
بالحقوق وإنما كان قبل الأمر بإشهاد العدول في قوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل
منكم، فنسخت بذلك هذه الآية، ودلت على أن شهادة الذمي لا تقبل على الذمي إذا
ارتفعا إلى حكام المسلمين لأن الذمي ليس بعدل ولا ممن يرضى من الشهداء.
ومن ذهب إلى: أنها غير منسوخة، جعلها بمعنى شهادة الأيمان على الوصيين، فإذا
ظهر على خيانة منهما مما وجد في أيديهما صارا مدعيين وصار الورثة في معنى المنكرين
فوجبت عليهما اليمين من حيث صارا مدعيين.
وقوله تعالى: أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم، يعني أهل الذمة يخافون
أن ترد أيمان على أولياء الميت فيحلفوا على خيانتهم فيفتضحوا ويغرموا وينكشف للناس
بذلك بطلان شهادتهم ويسترد منهم ما أخذوه بغير حق حينئذ أدوا الشهادة على وجهها
وتحرزوا من الكذب.
وقرئ " استحق " بفتح التاء والحاء وبضم التاء وكسر الحاء، وقرئ " الأولين "
بتشديد الواو وكسر اللام وفتح النون على الجمع وبسكون الواو وفتح اللام وكسر النون
181

على التثنية.
باب الزيادات:
ذكر الله الشهادة في القرآن في ثلاثة مواضع:
منها: قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين
فرجل وامرأتان، ثم أمر بالإشهاد على التبايع وقال: وأشهدوا إذا تبايعتم، ثم
توعد على كتمانها فقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، فلو لا
أنها واجبة ما توعد على كتمانها.
الثاني: قال: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، إلى
قوله: فإن الله غفور رحيم، فأمر بجلد القاذف ثم رفع عنه الجلد بتحقيق قذفه بالشهادة
في ذلك، ثم قال: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، دل أن غير الفاسق مقبول الشهادة
ثم قال: وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا، يعني تقبل شهادتهم.
الثالث: قال تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء، إلى قوله تعالى: وأشهدوا
ذوي عدل منكم.
ومعنى قوله: فإذا بلغن أجلهن، يعني قاربن البلوغ، لأنه لا رجعة بعد بلوع الأجل.
وجملته أن الحقوق ضربان: حق الله، وحق الآدمي.
فأما حق الآدمي فإنه ينقسم في باب الشهادة ثلاثة أقسام: أحدها: لا تثبت إلا
بشاهدين ذكرين كالقصاص، والثاني: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد
ويمين وهو كل ما كان مالا أو المقصود منه المال، والثالث: ما يثبت بشاهدين وشاهد
وامرأتين أو أربعة نسوة وهو الولادة والاستهلال والعيوب تحت الثياب.
وأما حقوق الله فجميعها لا مدخل للنساء ولا للشاهد مع اليمين فيها، وهي ثلاثة
أضرب: ما لا يثبت إلا بأربعة وهو الزنى واللواط إذا كانا بالأحياء، فإن كانا بالأموات
فيكفي في ذلك شاهدان، وإتيان البهائم. والثاني: ما لا يثبت إلا بشاهدين وهو السرقة
وحد الخمر. والثالث: ما اختلف فيه وهو الإقرار بالزنى، قال قوم: لا يثبت إلا بأربعة
182

كالزنا، وقال آخرون: يثبت بشاهدين كسائر الإقرارات، وهو أقوى.
مسألة:
وقوله تعالى: والذين يرمون المحصنات، معناه الذين يقذفون العفائف بالزنى -
فحذف بالزنى لدلالة الكلام عليه - ولم يقيموا أربعة من الشهود عليه فإنه يجب على
كل واحد منهم ثمانون جلدة إذا كان أجنبيا منها لا زوجا، ثم نهى سبحانه عن قبول
شهادة القاذفين على التأبيد وحكم عليهم بأنهم فساق بقوله تعالى: ولا تقبلوا لهم
شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون، ثم استثني منهم: إلا الذين تابوا من بعد
ذلك. واختلفوا في الاستثناء إلى من يرجع، فقال قوم: هو من الفساق فإذا تاب قبلت
شهادته حد أو لم يحد، وهو قول ابن المسيب.
مسألة:
وسئل أبو عبد الله ع عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته إذا تاب؟
قال: نعم، قيل: وما توبته؟ قال: فيجئ ويكذب نفسه عند الإمام ويقول: قد افتريت
على فلانة، ويتوب مما قال. وقال ابن عمر لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك، فأبى
أبو بكرة أن يكذب نفسه. وبه قال الشافعي، وهو مذهبنا.
وقال الحسن: الاستثناء من الفاسقين دون قوله: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا،
وبه قال أهل العراق، قالوا: فلا يجوز قبول شهادة القاذف أبدا. ولا خلاف في أنه إذا لم
يحد بأن تموت المقذوفة ولم يكن هناك مطالب ثم تاب أنه يجوز قبول شهادته، وهذا
يقتضي الاستثناء من المعنيين على تقدير: وأولئك هم الفاسقون، مع امتناع قبول
شهادتهم إلا التائبين منهم، والحد حق المقذوفة لا يزول بالتوبة.
ثم قال: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا،
وإن نزلت في سبب لم يجب قصرها عليه، وعلى هذا أكثر المحصلين كآية القذف وآية
اللعان وآية الظهار وغيرها.
183

يوم تشهد عليهم ألسنتهم، يجوز أن يكون المعنى أي يشهدون، يعني هؤلاء على
أنفسهم بألسنتهم. وقيل: شهادة الأيدي والأرجل تكون بأن يبينها الله بينة مخصوصة
يمكنها النطق، أو يفعل الله في هذه البنى كلاما يتضمن الشهادة فكأنها هي الناطقة،
أو يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق، وذلك إذا جحدوا معاصيهم.
مسألة:
المفعول الثاني في قوله: فتذكر إحديهما الأخرى، محذوف، وكذا إذا قرئ
بالتخفيف فتذكر بالقراءتين محذوف، والمعنى فتذكر إحديهما الأخرى الشهادة التي
تحملتاها، لأن ذكرت فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا نقلته بالهمز وضعفت العين
منه تعدى إلى مفعول آخر. وما بعد الفاء في قوله " فتذكر " مبتدأ محذوف ولو أظهرته
لكان: فهما تذكر إحديهما الأخرى، فالذكر العائد إلى المبتدأ المحذوف الضمير في قوله
" إحديهما ".
مسألة:
فإن قيل: إن الشهادة إنما وقعت للذكر والحفظ لا للضلال الذي هو النسيان.
فجوابه: أن سيبويه قد قال: أمر بالإشهاد لأن تذكر إحديهما الأخرى وإنما ذكر أن
تضل لأنه سبب الإذكار.
وقوله تعالى " فتذكر " معطوف على الفعل المنصوب ووجه كونه مرفوعا قد ذكرناه.
مسألة:
ولا تكتموا الشهادة، خطاب للشهود ونهى لهم عن كتمان الشهادة إذا دعوا
لإقامتها. " ومن يكتمها " أي من يكتم الشهادة مع علمه بالمشهود به وعدم ارتيابه فيه
وتمكنه من أدائها من غير ضرر بعد ما دعي إلى إقامتها فإنه آثم قلبه. أضاف الإثم إلى
القلب وإن كان الإثم هو الجملة لأن اكتساب الإثم إلى القلب أبلغ في الذم كما أن
184

إضافة الإيمان إلى القلب أبلغ في المدح، قال تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان،
وقال النبي ع: لا ينقضي كلام شاهد مزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوأ
مقعده من النار.
مسألة:
وقوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، أي إن
تظهروا الشهادة أو تكتموها فإن الله يعلم ذلك ويجازيكم به. وقيل: إنها عامة في
الأحكام التي ذكرها الله تعالى من أول البقرة وفيها خمسمائة حكم ونيف - على ما
ذكره علي بن إبراهيم بن هاشم - خوف الله عباده من العمل بخلافها بهذه الآية وبين
أنه لما أمر بتلك الوثائق ويعتد بها إنما هو لأمر يرجع إلى المكلفين لا لأمر يرجع إليه
تعالى، فإن له ما في السماوات وما في الأرض.
ومن قال: إنها منسوخة بقوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإنه لا يصح
لأن تكليف ما ليس في الوسع غير جائز.
185

غنية النزوع
إلى علمي الأصول والفروع
لحمزة بن علي بن زهرة الحسيني الإسحاقي الحلبي
511 - 585 ه‍ ق
187

كتاب القضاء وما يتعلق به
يجب في متولي القضاء أن يكون عالما بالحق في الحكم المردود إليه بدليل إجماع
الطائفة، وأيضا فتولية المرء ما لا يعرفه قبيحة عقلا ولا يجوز فعلها، وأيضا فالحاكم مخير
في الحكم عن الله تعالى ونائب عن رسول الله ص ولا شبهة في قبح ذلك
من دون العلم، وأيضا قوله تعالى: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون.
ومن حكم بالتقليد لم يقطع على الحكم بما أنزل الله، ويحتج على المخالف بما رووه
في خبر تقسيم القضاة، ورجل قضى بين الناس على جهل فهو في النار، ومن قضى بالفتيا
فقد قضى على جهل، ويجب فيه أن يكون عدلا بلا خلاف إلا من الأصم وخلافه غير
معتد به.
وينبغي أن يكون كامل العقل حسن الرأي ذا علم وورع وقوة على القيام بما فوض
الله، ويجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء من الأموال والحدود والقصاص وغير
ذلك وسواء في ذلك ما علمه في حال الولاية وقبلها بدليل إجماع الطائفة، وأيضا قوله
تعالى: وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، وقوله: يا داود إنا جعلناك خليفة في
الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ومن حكم بعلمه فقد حكم بالحق والعدل،
وأيضا قوله تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، وقوله:
السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.
189

ومن علمه الإمام أو الحاكم زانيا أو سارقا وجب عليه امتثال الأمر، وإذا ثبت ذلك
في الحد ثبت في الأموال لأن أحدا لم يفرق بين الأمرين، وأيضا فلو لم يقض الحاكم
بعلمه لأدى إما إلى فسقه من حيث منع الحق الذي يعلمه أو إعطاء ما لم يعلم استحقاقه
وإما إلى إيقاف الحكم، والأول يقتضي فسخ ولايته وإبطال أحكامه مستقبلا، والثاني
ينافي المقصود بها، وأيضا فإنما يحتاج إلى البينة ليغلب في الظن صدق المدعي ولا شبهة
في أن العلم بصدقه آكد من غلبة الظن.
فإذا وجب الحكم مع الظن ذلك فلأن يجب مع العلم به أولى وأحرى، ويدل أيضا
على ما قلناه إمضاء رسول الله ص الحكم له بالناقة على الأعرابي من أمير
المؤمنين ع ومن خزيمة بن ثابت وسماه لذلك ذا الشهادتين من حيث علما
صدقه ص بالمعجز، وقول أمير المؤمنين ع لشريح لما طالبه
بالبينة على ما ادعاه في درع طلحة: ويحك خالفت السنة بمطالبة إمام المسلمين ببينة وهو
مؤتمن على أكثر من هذا، يدل على ما قلناه لأنه أضاف الحكم بالعلم إلى البينة على
رؤوس الأشهاد من الصحابة والتابعين فلم ينكر ذلك أحد منهم.
وليس لأحد أن يمنع من الحكم بالعلم من حيث أن ذلك ربما اقتضى تهمة الحاكم
لأن ذلك استحسان محض فلا يجوز العدول به عما اقتضاه الدليل، ويلزم على ذلك أن لا
يجوز الحكم في المستقبل بالبينة والإقرار المتقدمين من حيث كان مستند هذا الحكم
العلم السابق لهما على أن الشروط المراعاة في الحاكم يقتضي حسن الظن به ويمنع من
تهمته في الحكم بعلمه كما تمنع من ذلك في قوله: أقر عندي بكذا أو قامت البينة بكذا.
وإذا وجب عليه الحكم بما ثبت عنده بإقرار أو بينة وإن لم يحصل ذلك أحد سواه وحرم
عليه الامتناع من الحكم لأجل التهمة وكذلك ما نحن فيه.
ويقضى بشهادة المسلمين بشرط: الحرية والذكورة والبلوع وكمال العقل والعدالة في
جميع الأشياء بلا خلاف، غير أنه لا يقبل في الزنى إلا شهادة أربعة رجال بمعاينة
الفرج في الفرج مع اتحاد اللفظ والوقت، ومتى اختلفوا في الرؤية أو نقص عددهم أو لم يأتوا
بها في وقت واحد حدوا حد الافتراء بلا خلاف أو شهادة ثلاثة رجال وامرأتين وكذا
190

حكم اللواط والسحق بدليل إجماع الطائفة، ويقبل فيما عدا ذلك بشهادة عدلين ويعتبر
في صحتها اتفاق المعنى ومطابقة الدعوى دون الوقت بلا خلاف.
ولا يقبل شهادة النساء فيما يوجب حدا لا على الانفراد من الرجال ولا معهم بلا
خلاف إلا في الزنى عندنا على ما قدمناه، ولا تقبل شهادتهن على حال في الطلاق ولا في
رؤية الهلال بدليل إجماع الطائفة، وتقبل شهادتهن على حال الانفراد من الرجال في
الولادة والاستهلال والعيوب التي لا يطلع عليها الرجال كالرتق والإفضاء بلا خلاف،
وتقبل شهادة القابلة وحدها إذا كانت مأمونة في الولادة والاستهلال ويحكم لأجلها بربع
الدية أو الميراث، وتقبل شهادتهن فيما عدا ما ذكرناه مع الرجال بدليل إجماع الطائفة،
ويقوم كل امرأتين مقام رجل بلا خلاف، ويقضى بشهادة الواحد مع يمين المدعي في
الديون خاصة بدليل إجماع الطائفة، ويحتج على المخالف بما رووه من طرق كثيرة عن
النبي ص من: أنه قضى باليمين مع المشاهد، وعلى المسألة إجماع
الصحابة أيضا.
وتقبل شهادة كل واحد من الولد والوالدين والزوجين للآخر، وتقبل شهادة العبيد
لكل واحد وعليه إلا في موضع نذكره كل ذلك بإجماع الطائفة وظاهر القرآن لأنه على
عمومه إلا ما أخرجه دليل قاطع، ويقبل شهادة الأخ لأخيه بلا خلاف إلا من
الأوزاعي مطلقا ومن مالك في النسب، وتقبل شهادة الصديق لصديقه وإن كان بينهما
ملاطفة ومهاداة بلا خلاف إلا من مالك فإنه قال: لا تقبل إذا كان ذلك بينهما.
وتقبل شهادة الأعمى فيما لا يحتاج فيه إلى مشاهدة، وليس للمخالف أن يقول: إن
الأعمى لا طريق له إلى معرفة المشهود عليه لاشتباه الأصوات، لأن مثل ذلك يلزم في
البصير لاشتباه الأشخاص، وإذا كانت حاسة البصر طريقا إلى العلم مع جواز الاشتباه
فكذلك حاسة السمع، ولا شبهة في أن الأعمى يعرف أبويه وزوجته وولده ضرورة من
جهة إدراك الصوت وقد ثبت أن الصحابة كانت تروي عن أزواج النبي
ص وهن من وراء حجاب على التعيين لهن، وهذا يدل على أن التميز بينهن حصل من
جهة السماع.
191

وتقبل شهادة الصبيان في الشجاج والجراح خاصة إذا كانوا يعقلون ذلك ويؤخذ
بأول أقوالهم ولا يؤخذ بآخرها بدليل إجماع الطائفة، وقد اشتهر عند الناس عن أمير
المؤمنين ع أنه قضى في ستة غلمان دخلوا الماء فغرق أحدهم فشهد ثلاثة منهم
على اثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه: أن على الاثنين ثلاثة
أخماس الدية وعلى الثلاثة الخمسان، وقد ذكرنا هذه في فصل الديات، ولا يمتنع قبول
شهادة الصبيان في بعض الأشياء دون بعض كما نقوله كلنا في شهادة النساء.
وتقبل شهادة القاذف إذا تاب وأصلح عمله ومن شرط التوبة أن يكذب نفسه بدليل
إجماع الطائفة، ولا تقبل شهادة الولد على والده ولا العبد على سيده فيما ينكرانه وتقبل
عليهما بعد الوفاة بإجماع الطائفة ولا تقبل شهادة ولد الزنى بدليل هذا الاجماع، ولا تقبل
شهادة العدو على عدوه ولا الشريك لشريكه فيما هو شريك له ولا الأجير لمستأجره ولا
شهادة ذمي على مسلم إلا في الوصية في السفر خاصة عندنا بشرط عدم أهل الإيمان.
واعلم أنه يحكم بالقسامة إذا لم يكن لأولياء الدم عدلان يشهدان بالقتل وتقوم
مقام شهادتهما في إثباته، والقسامة خمسون رجلا من أولياء المقتول يقسم كل واحد منهم
يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فإن نقصوا عن ذلك كررت عليهم الأيمان حتى
تكمل خمسين يمينا، وإن لم يكن إلا ولي الدم وحده أقسم خمسين يمينا، فإن لم يقسم
أولياء المقتول أقسم خمسون رجلا من أولياء المتهم أنه برئ مما ادعى عليه، فإن لم يكن
له من يقسم حلف هو خمسين يمينا وبرئ.
والقسامة لا تكون إلا مع التهمة بأمارات ظاهرة ويدل على ذلك إجماع الطائفة،
ويحتج على المخالف بما روي من طرقهم من قوله ع: البينة على المدعي واليمين
على من أنكر إلا في القسامة، وقوله للأنصار لما ادعت على اليهود أنهم قتلوا عبد الله
بخيبر: تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم، فقالوا: أمر لم نشاهده كيف
نحلف عليه؟ فقال: يحلف لكم اليهود خمسين يمينا، فقالوا: لا نرضى بأيمان قوم كفار،
فأداه ع من عنده.
القسامة فيما فيه دية كاملة من الأعضاء ستة نفر وفيما نقص من العضو بحسابه
192

وأدنى ذلك رجل واحد في سدس العضو بدليل الاجماع المشار إليه، وروى أصحابنا: أن
القسامة في قتل الخطأ خمسة وعشرون رجلا.
واعلم أن من دعي إلى تحمل الشهادة وهو من أهلها فعليه الإجابة لقوله تعالى: ولا
يأب الشهداء إذا ما دعوا، فإذا تحملها لزمه أداؤها متى طلبت منه لقوله سبحانه: ولا
تكتموا الشهادة، وهو مخير فيما سمع أو شاهد وتحمله وإقامته أو ترك ذلك، ولا يجوز
لأحد أن يتحمل شهادة إلا بعد العلم بما يفتقر فيها إليه، ولا يجزئه مشاهدة المشهود عليه
ولا تحليته ولا تعريف من لا يحصل العلم بخبره، ولا يجوز له أداؤها إلا بعد الذكر لها،
ولا يعول على وجود خطة لقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، ولأن الشاهد مخبر
على جهة القطع بما يشهد به وإخبار المرء على هذا الوجه بما لا يعلمه قبيح.
وتثبت شهادة الأصل بشهادة عدلين وتقوم مقامهما إذا تعذر حضور الأصل بموت أو
مرض أو سفر، ولا يجوز ذلك إلا في الديون والأموال والعقود ولا يجوز في الحدود، ولا
يجوز شهادة على شهادة على شهادة في شئ من الأشياء بدليل إجماع الطائفة، وإذا شهد
اثنان على شهادة واحد ثم شهدا على شهادة آخر تثبت شهادة الأول بلا خلاف وتثبت
أيضا شهادة الثاني عندنا وهو قول الأكثر من المخالفين، والصحيح من قول الشافعي
والأخبار التي وردت بأن شهادة الأصل تثبت بشاهدين يتناول هذا الموضع.
ولا يحكم ببينة المدعي بعد استحلاف المدعى عليه بدليل إجماع الطائفة، ويحتج على
المخالف بما روي من طرقهم من قوله ع: من حلف فليصدق ومن حلف له
فليرض ومن لم يفعل فليس من الله في شئ، وللمدعى عليه رد اليمين على المدعي
بدليل إجماع الطائفة، وأيضا قوله تعالى: أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم، والمراد
وجوب أيمانهم للإجماع على أن اليمين لا ترد بعد حصول يمين أخرى، وهذا يبطل قول من
لم يجز رد اليمين على حال، ونحتج على المخالف بما روي من طرقهم من قوله
ع: المطلوب أولى باليمين من الطالب، لأنه يدل على اشتراكهما في جواز المطالبة
باليمين وأن للمطلوب مزية عليه بالتقديم لأن لفظة " أولى كلفظة أفضل " وهي في اللغة
تفيد تفضيل أحد الشيئين على الآخر فيما اشتركا فيه.
193

ولا يجوز الحكم إلا بما قدمناه من علم الحاكم أو ثبوت البينة على الوجه الذي قرره
الشرع أو إقرار المدعى عليه أو يمينه أو يمين المدعي دون ما سوى ذلك مما لم يرد التعبد
بالعمل به من قياس ورأي واجتهاد أو كتاب حاكم آخر إليه، وإن ثبت بالبينة كتابة أو
قوله مشافهة له: ثبت عندي كذا، بدليل إجماع الطائفة وقوله تعالى: ولا تقف ما ليس
لك به علم، وإذا حكم بما ذكرناه تيقن براءة ذمته مما تعلق بها من الحكم بين
الخصمين وليس كذلك إذا حكم بما خالفه.
وتسمع بينة الخارج وهو المدعي دون بينة الداخل وهو صاحب اليد لقوله
ع: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.
وإن كان مع كل واحد منهما بينة ولا يد لأحدهما حكم لأعدلهما شهودا، فإن
استويا في ذلك حكم لأكثرهما شهودا مع يمينه، فإن استووا أقرع بينهما فمن خرج اسمه
حلف وحكم له. وإن كان لكل واحد منهما يد ولا بينة لأحدهما كان الشئ بينهما
نصفين كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.
وإذا ثبت أن الشاهد شهد بالزور عزر وأشهر وأبطل الحاكم حكمه بها إن كان
حكم ورجع على المحكوم له بما أخذ إن أمكن وإلا على شاهد الزور، وإن كان ما شهد به
قتلا أو جرحا أو حدا اقتص منه، وإذا رجع عن الشهادة بشبهة دخلت عليه لزمه دية
القتل أو الجرح ومثل العين المستهلكة بشهادته أو قيمتها أو برضى المحدود بما يتفقان عليه
بدليل الاجماع المشار إليه.
واعلم أنه ينبغي للحاكم أن يفرد الوقت الذي يجلس فيه للحكم له خاصة ولا يشوبه
بأمر آخر سواه، وأن لا يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بشئ
من الأشياء، ويجلس مستدبر القبلة وعليه السكينة والوقار، وينزه مجلسه عن الدعابة
والمجون، ويوطن نفسه على إقامة الحق والقوة في طاعة الله تعالى، وينبغي له أن يسوي
بين الخصمين في المجلس واللحظ والإشارة ولا يبدأهما بخطاب إلا أن يطيلا الصمت
فحينئذ يقول لهما: إن كنتما حضرتما لأمر فاذكراه، فإن أمسكا أقامهما، وإن ادعى
أحدهما على الآخر لم تسمع دعواه إلا أن تكون مستندة إلى علم مثل أن يقول: أستحق
194

عليه أو ما أفاد هذا المعنى، ولو قال: أدعي عليه كذا أو أتهمه بكذا، لم يصح وأن يكون ما
ادعاه معلوما متميزا بنفسه أو بقيمته، فلو قال: أستحق عليه دارا أو ثوبا، لم يصح للجهالة.
وإذا صحت الدعوى أقبل الحاكم على الخصم وقال: ما تقول فيما ادعاه؟
فإن أقر به وكان ممن يقبل إقراره للحرية والبلوع وكمال العقل والإيثار للإقرار ألزمه
الخروج إلى خصمه منه، فإن أبي أمر بملازمته، فإن آثر صاحب الحق حبسه حبسه، وإن
آثر إثبات اسمه ونسبه في ديوان الحكم أثبته إذا كان عارفا بعين المقر واسمه ونسبه أو ما
قامت عليه البينة العادلة له عنده بذلك.
وإن أنكر ما ادعى عليه فقال للمدعي: قد أنكر دعواك، فإن قال: لي بينة، أمره
بإحضارها، فإن ادعى أنها غائبة ضرب له أجلا لإحضارها وفرق بينه وبين خصمه، وله
أن يطلب كفيلا بإحضاره إذا أحضر بينته يبرأ الكفيل من الضمان إذا انقضت المدة ولم
يحضرها، فإن أحضرها وكانت مرضية حكم بها وإلا ردها.
وإن أحضر شاهدا واحدا أو امرأتين قال له الحاكم: تحلف مع ذلك على دعواك، فإن
حلف ألزم خصمه ما ادعاه وإن أبي أقامهما وإن لم يكن له بينة قال له: ما تريد؟ فإن
أمسك أقامهما، وإن قال: أريد يمينه، قال: أ تحلف؟ فإن قال: نعم، خوفه الله تعالى من
عاقبة اليمين الفاجرة في الدنيا والآخرة، فإن أقر بما ادعاه عليه ألزمه به، وإن أصر على
اليمين عرض عليهما الصلح، فإن أجابا أمر بعض أمنائه أن يتوسط ذلك بينهما ولم يجز
أن يلي هو ذلك بنفسه لأنه منصوب لبت الحكم وإلزام الحق - ويستعمل الوسيط في
إصلاح ما يحرم على الحاكم فعله - وإن لم يجيبا إليه أعلم المدعي أن استحلاف خصمه
يسقط حق دعواه ويمنع من سماع بينة بها عليه، وإن ترك عن استحلافه أقامهما وإن لم
يترك واستحلفه سقط حق دعواه، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين ألزمه الخروج إلى
خصمه مما ادعاه، وإن قال: يحلف ويأخذ ما ادعاه، قال له الحاكم: أ تحلف؟ فإن
قال: لا، أقامهما، وإن قال: نعم، خوفه الله تعالى، فإن رجع عن اليمين أقامهما وإن
حلف استحق ما ادعاه والأكثر من هذا لا خلاف فيه وما فيه منه الخلاف قدمنا الدلالة
عليه فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
195

الوسيلة إلى نيل الفضيلة
لعماد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن حمزة الطوسي
المعروف بابن حمزة
197

كتاب القضايا والأحكام
فصل في بيان صفة القاضي وأدب القضاء:
مباشرة القضاء خمسة أضرب: فرض عين وفرض على الكفاية ومستحب ومكروه
ومحظور. فالأول لواحد وهو ثقة من أهل العلم إذا لم يكن للإمام سواه، والثاني لمن
يضطلع به ويرغبه الإمام فيه ويجد غيره، والثالث لمن لا يكن له كفاية في المعيشة ويكون
من أهله أو يكون له كفاية أو لا يكون مشهورا بالفضل، والرابع لمن لا يكون له كفاية
وقد شهر بالفضل وإن كان أهلا له، والخامس لصنفين: العالم به إذا كان غير ثقة،
والجاهل به إن كان ثقة. ولا ينعقد إلا بثلاثة شروط: العلم والعدالة والكمال.
والعلم يتم بالوقوف على الكتاب والاطلاع على السنة والتوسط في الاختلاف
والوقوف على الاجماع والتنبيه على اللسان.
والعدالة تحصل بأربعة أشياء: الورع والأمانة والوثوق والتقوى.
والكمال يثبت بثلاثة أشياء: بالتمام في الخلقة وفي الحكم والاضطلاع بالأمر
والأخلاق الحميدة، ولا يجوز القيام بذلك من جهة من ليس إليه ذلك إلا مكرها إذا
نوى القيام به من جهة من إليه ذلك وكان أهلا له وحكم بالحق، فإن عرض حكومة
للمؤمنين في حال انقباض يد الإمام فهي إلى فقهاء شيعتهم، فإذا تقلد القضاء من له
ذلك اجتهد في إقامة الحق وعمل بكتاب الله وسنة نبيه ع والإجماع لا غير، فإن
اشتبه عليه توقف حتى يتضح له، فإن حكم بخلاف الحق سهوا أو خطأ ثم بان له رجع
ونقض ما حكم به.
199

فإذا أراد الجلوس للقضاء اختار مجلسا بارزا واسعا ليصل إليه من إليه حاجة،
ووسط البلد أفضل من الطرف، وأمر أن يفرش له فرش يجلس عليه تمييزا له وهيبة،
وتوضأ ولبس أحسن ثيابه وأنظفها، وفرع نفسه للقضاء عن كل ما يشغله أو يلفته عنه
من الغضب والجوع والعطش والخوف والحزن وكل فكر يضر بشئ من ذلك، وبرز على
حسن سمت ووقار، ودخل مجلس حكمه وصلى ركعتين إن كان في المسجد، وسلم على
كل من سبقه إليه، وجلس مستدبر القبلة.
وينبغي أن يختار ثلاثة نفر ثقة يقوم على رأسه لترتيب الخصوم أولا فأولا، وكاتبا
عدلا فقيها عالما عفيفا عن الطمع ويجلسه بين يديه ليكتب ما يحتاج إليه بنظره،
وقساما عارفا ثقة يقسم بين الناس أموالهم، ويحضر الشهود ليستوفى بهم الحقوق ويثبت
بهم الحجج والمحاضر والسجلات، ويحضر العلماء ليشاورهم فيما يحتاج إليه وينبهوه على
وجه الصواب.
ثم يأخذ ديوان الحكم من الحاكم الذي كان قبله وينظر في حال المحبوسين مع
خصومهم فإن حبسوا بحق تركهم وإن حبسوا بباطل رد إلى الحق، وينظر في الحقوق
وحال الشهود الذين حكم بشهادتهم وفي أمر الأوصياء، ويقر الثقات ويقوى الضعيف
ويعزل الفاسق ويرتب أمر الضوال ويتفرع لأمر العامة، فإن ظهر من أحد الخصمين لدد
أو عنت أو سفه نهاه فإن عاد صاح به وأغلظ في النهي فإن عاد تجري المصلحة في
التأديب والعفو.
وهو بالخيار في تتبع حكم الحاكم الأول إلا أن يستعدي المحكوم عليه، وإذا تتبع
وكان قد حكم بالحق أمضاه، وإن حكم بالباطل نفاه، وإن اشتبه عليه لسان المدعي أو
المدعى عليه أو البينة توقف إلى أن يتضح له، فإن شهد له شاهدان لم يخل حالهما من
ثلاثة أوجه: إما عرف حالهما بالعدالة أو الفسق أو اشتبه عليه، فالأولى يحكم له من غير
توقف، والثاني لا يحكم به أصلا والثالث يتوقف حتى يعرف حالهما.
فإن حكم على ظاهر الاسلام ثم بان له فسقهما نقض الحكم، ولم تخل البينة من
وجهين: فإن كان لهما سداد وضبط وحزم وجودة تحصيل لم يحتج إلى التفريق والوعظ
200

والبحث لا بد منه، وإن لم تكن بهذه الصفة فرقها وسأل كل واحد على حدته عن
الكيفية والوقت والمكان وغير ذلك من الوجوه.
فإن اتفقت الشهادات بحث عن العدالة ووعظهم، فإن تبينوا وقد عدلوا حكم،
وإن جرحوا أو رجعوا بالوعظ أو اختلفت الشهادات أسقطها واختار للمسألة رجلين
موسومين بتسع خصال: بالعفة ووفور العقل والأمانة والوثوق والبراءة من الشحناء
والهوى والميل والكيد واللجاج. ووصاهما باكتتام ذلك عن المدعي والمدعى عليه
والشهود، وأقل ما يجزئ في ذلك أن يكتب ذكر المدعي والمدعى عليه والشهود ومقدار
الحق ليسأل صاحب المسألة أهل مسجدها وسوقها وجيران دكانها وبيوتها سرا في
رقعتين ودفع كل واحدة منهما إلى واحد بحيث لا يطلع عليه الآخر.
ولا يقبل التعديل والجروح إلا من اثنين ويعتبر فيه لفظ الشهادة ويقبل التعديل غير
مفسر والجرح لا يقبل إلا مفسرا وليشر إلى الحاكم ولم يخل: إما رجعا معا بالتعديل أو
بالجرح أو رجع أحدهما بالتعديل والآخر بالجروح، فإن رجعا بالتعديل أمضي الحكم،
وإن رجعا بالجرح توقف عنه، وإن اختلفا ضم مع كل واحد رجلا آخر وأمرهم بالسؤال
والبحث، فإن رجعوا بتمام بينة الجرح أو التعديل حكم عليه، فإن رجعوا بتمام البينتين
أخذ بقول بينة الجرح.
ولا يرتب الحاكم شهودا لا يسمع من غيرهم وإن رتبها سمع منها ومن غيرها جاز،
وإذا حضر جماعة دفعة أقرع بينهم فمن خرجت قرعته ابتدأ به في الحكم، وإن علم من
جاء أولا بدأ به، وإن اشتبه كتب أساميهم في رقاع وخلطها وجعلها تحت ما يجلس عليه
وأخرج واحدة فواحدة فمن خرجت قرعته بدأ به.
وإذا حضر للتداعي خصمان لم يخل حالهما من أربعة أوجه: إما عرف المدعي، أو
ادعى كلاهما أنه قد أحضره للدعوى، أو ادعى كل واحد منهما على الآخر دفعة، أو بدأ
أحدهما بالدعوى فادعى الآخر أنه أحضره ليدعي عليه. فالأول يسمع دعواه ويحكم على
مقتضى الشرع بينهما، والثاني إن كان لأحدهما بينة حكم عليها وإن لم يكن أقرع
بينهما، والثالث يسمع ممن يكون على يمين الخصم، والرابع يسمع ممن بدأ بالدعوى
201

إذا لم يكن لأحدهما بينة على ما ادعاه.
ولم يخل المدعى عليه من ثلاثة أوجه: إما يكون أخرس أو سكت عن الجواب تعينا
أو أجاب، فالأول توصل الحاكم إلى إفهامه ومعرفة ما عنده وحكم على ما أشار به من
الإقرار والإنكار، والثاني يحبسه حتى يقر أو ينكر إلا أن يعفو الخصم، والثالث لم يخل
من ثلاثة أوجه: إما أقر بما ادعاه أو بغيره أو أنكر.
فإن أقر بما ادعاه وكان عينا قائمة في يده انتزعها وإن كان حقا في ذمته أمره
بالإيفاء، فإن ادعى الإعسار من غير ذهاب مال قبل منه إلا أن يقيم خصمه بينة على
إيساره وإن ادعى ذهاب ماله لم يقبل منه إلا ببينة من أهل الخبرة الباطنة، فإذا ثبت
إعساره خلي سبيله إن لم يكن ذا حرفة يكتسب بها وأمره بالتمحل وإن كان ذا حرفة
دفعه إليه ليستعمله فما فضل عن قوته وقوت عياله بالمعروف أخذ بحقه.
وإن أقر بغيره ولم يكن مالا لم يقبل منه، وإن كان مالا وكان مبهما ألزم ثباته،
فإن بين وكان موافقا لدعواه فالحكم فيه ما ذكرناه، وإن كان مخالفا له أو أقر مفسرا
مخالفا له من غير جنس ما ادعاه وادعى المدعي أن ذلك أيضا يلزمه ألزم الخروج مما أقر
به والدعوى بحالها، وإن أقر بجنسه بأقل مما ادعى لزمه ما أقر به وحكم الباقي بحاله،
فإن لم يصدقه المدعي فيما أقر به كان دعواه بحالها وألزم الجواب وإن أقر فحكمه ما
ذكرنا.
وإن أنكر قيل للمدعي: أ لك بينة؟ فإن أنعم وكانت حاضرة أقامها، وإن لم تكن
حاضرة قيل له: أحضرها، وأقامهما ونظر في أمر غيرهما، فإذا أحضرها سمع شهادتها،
فإن اتفقت ووافقت دعواه أمضاها، وإن خالفتها أسقطها، وإن ادعى غيبة بينته أخذ
منه كفيل حتى يحضر البينة ما لم تزد المدة على ثلاثة أيام فإن زادت لم يلزمه الكفيل،
فإن أحضرها قبل انقضاء المدة فذاك وإن لم يحضرها برئت ذمة الكفيل.
فإن قال: ليس لي بينة قيل له: فما تريد؟ فإن سكت أقامهما، وإن قال: تأخذ لي
بحقي، قال للمدعى عليه: أ تحلف؟ فإن أنعم قال للمدعي: أ فتريد يمينه؟ فإن قال:
لا، أقامهما، وإن قال: نعم، وعظه وخوفه وعرفه عاقبة اليمين الكاذبة، فإن أقر فذاك،
202

وإن أصر حلفه، فإذا حلف أسقط دعواه وإن رد اليمين كان له ذلك، فإذا حلف ثبت
ما ادعاه، وإن نكل بطل حقه، وإذا حلف المدعى عليه وشرط في اليمين أنه إذا حلف
لم يكن له رجوع عليه بعد ذلك بوجه لزم الشرط وإن لم يشرط وادعى بعد ذلك عليه
وأقام بينة قبل منه ذلك.
وإذا ثبت المال على غير مفسر وطالبه به فتقاعد والتمس صاحب الحق حبسه حبسه
الحاكم حتى يبرأ إليه من حقه، وإذا أقر المدعى عليه بالمال وكان المقر بالغا عاقلا حرا
غير محجور عليه ألزم حكم إقراره وإن كان غير عاقل ولا بالغ لم يسمع إقراره، وإن كان
عبدا وصدقه سيده وكان بحق في النفس اقتص منه إلا أن يفتدي سيده فإن بلغ الفداء
قيمته كان سيده مخيرا بين الفداء وتسليم العبد، وإن كان مالا في الذمة وكان مأذونا
في الاستدانة لزم مولاه وإن كان مأذونا في التجارة وظن المدين كونه مأذونا في الدين
استسعى فيه، وإن لم يكن مأذونا كان في ذمته فإذا عتق طولب به.
وإن كان محجورا عليه كان على ثلاثة أوجه: إما أقر بما يوجب القصاص أو بما يكون
محجورا عليه أو بمال لا يكون محجورا عليه، فالأول يقتص منه والثاني لا يسمع إقراره
والثالث يصح إقراره به.
فإذا ثبت الحق بإقرار من يصح إقراره وطولب المدعي من الحاكم إثبات إقراره، فإن
كان الحاكم عرف المقر بخمسة أشياء: باسمه ونسبه وعينه وصفاته وكمال عقله،
أثبته. وإن لم يعرفه توقف عنه إلى أن يأتي ببينة عادلة، فإن التمس بعد ظهور الحال
محضرا أو سجلا وكان مع المدعي كتاب بحقه وأثبت ما فيه بالبينة أعلم في أول
الكتاب وكتب كل شهادة شهد عندي في مجلس حكمي وقضائي وكتب له محضرا وهو
لثبوت الحق.
وإن ثبت الحق بالبينة من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو شهادة ويمين ذكر ذلك
في المحضر، وإن التمس إنفاذ ما فيه والحكم به فهو سجل.
ولا يجوز للحاكم أن يقبل كتاب حاكم آخر ويحكم به إلا بالبينة، فإن شهدت
البينة على التفصيل حكم به ولم يخل: إما ادعى المدعي على حاضر يعبر عن نفسه أو على
203

غائب أو ميت أو حاضر لا يعبر عن نفسه مثل المولى عليه، فالأول قد ذكرنا حكمه
والثاني يحكم له بشرطين: إقامة بينة عادلة أو شاهد ويمين.
فإذا حلف لم يخل: إما أن يكون المدعي به عينا قائمة أو دينا في ذمته، فالأول
يأخذها الحاكم ويسلمه من المدعي والثاني إن كان المدعى عليه مال من جنس حقه
قضى حقه منه وإن كان من غير جنسه باع عليه وقضى الحق من ثمنه إن التمس صاحبه
إلا أن تكون الدعوى على ميت فإنه يجوز لورثته أن يقضوا الحق من وجه آخر دون ثمن ما
ابتاع عليه، وإن لم يكن له مال أصلا ذهب حقه في الدنيا إلا أن يكتسب الغائب أو
المولى عليه بعد ذلك مالا.
وإن سأل من له الحق على الغائب ولم يكن له بحضرة الحاكم ما بعد ثبوته أن
يكتب له كتابا إلى حاكم آخر ويحكم له به إجابة إليهما والمسافة القريبة والبعيدة في
ذلك سواء، فإذا ثبت عند الحاكم الآخر أحضر المحكوم عليه وعرفه ولم يخل حاله من
ستة أوجه:
إما أقر به أو أنكر أو ادعى قضاه أو ادعى له بينة أو جرحا للشهود أو التمس اليمين
أو ادعى أنه غير المكتوب عليه.
فالأول يلزمه حكم إقراره والثاني يعرفه بالحكم عليه والثالث لا يقبل منه إلا ببينة
والرابع يؤجل ثلاثة أيام فإن أتى بها وإلا ألزم الحق والخامس لا يلزم له لأنه قد حلف
مرة والسادس لم يخل: إما لم يسمه أو سماه، فالأول لا يقبل منه والثاني لم يخل: إما
يوجد من سماه أو لا يوجد أو يكون قد مات.
فإن وجد وكان للمحكوم له بينة بأن الحاضر هو المحكوم عليه لم يسمع من المدعى
عليه التعلل، وإن لم تكن له بينة وأحضره الحاكم عرفه فإن أقر توجه عليه الحق، وإن
أنكر لزم المكتوب له التفرقة بينهما فإن فرق حكم به وإن عجز التمس من الحاكم
الكاتب طلب مزية، فإن بين حكم به وإن لم يبين توقف عنه.
وإن لم يوجد ألزم المحكوم به عليه.
وإن مات أنكر أن تكون المعاملة بينهما والإشكال بحاله وإن لم يمكن تعين الحكم
204

على الحي، فإن التمس من الحاكم الثاني كتابا إلى حاكم آخر كان له نقل الشهادة
دون الحكم والمسافة معتبرة في ذلك قدر ما يجوز فيه قبول شهادة على الشهادة وهو مسيرة
يوم للذهاب والمجئ معا، فإذا قبض الحق من له رد الكتاب إن كان الحق دينا ولم
يلزمه إن كان عينا.
فصل: في بيان سماع البينات وكيفية الحكم بها:
المتحاكمان على ثلاثة أوجه: إما أن يكونا مسلمين أو كافرين أو يكون أحدهما
مسلما والآخر كافرا، فالأول والثاني يلزم التسوية بين الخصمين والثالث يرفع المسلم
عليه.
ولا يجوز للحاكم ثمانية أشياء: أن يصيح بأحدهما في غير موضعه وتلقين أحد
الخصمين ما يضر بالآخر والإشارة على أحدهما بترك ما قصد له من الإقرار أو اليمين أو
غير ذلك إلا فيما يتعلق بحقوق الله تعالى فإنه يجوز له أن ينبهه على ما يسقط الحق وتعتعة
الشاهد بالمداخلة في شهادته وتسديده إذا تتعتع وتمكين أحدهما من الحيف وإفراد أحدهما
وضيافته.
ويلزمه خمسة أشياء: التسوية بينهما في المجلس والنظر والخطاب مع تساويهما في
الدين، وتمكين من تكون له حجة من إيرادها، والتوكيل على من لا يهتدي لإقامة
حجته، وتفريق الشهود إذا لم يكن لها سداد وضبط، والتوقف في الحكم إذا اشتبه عليه
حكم الحادثة أو الشهود.
وإذا جلس الخصمان بين يديه وسكتا قال: ليتكلم المدعي منكما، وإذا فصل بين
خصمين حول عنهما إلى غيرهما، وإذا كان لجماعة دعوى حقوق من جنس واحد على
واحد ووكلوا بأجمعهم وكيلا واحدا وادعى عليه لهم وتوجه اليمين جاز الاقتصار على
واحدة للكل والاستحلاف لكل واحد بواحدة.
ولا يجوز سماع الدعوى غير محررة إلا في الوصية، وإنما تتحرر الدعوى في الدين
بثلاثة أشياء على الحي وبستة أشياء على الميت، فالثلاثة: قدر المال والجنس والنوع،
205

وربما يحتاج إلى وصف رابع إذا اختلف النوع مثل من ادعى مائة درهم فلاني وكان
بين الصحيح والغلة تفاوت ولزمه بيان ذلك، وأما الستة: فالثلاثة التي ذكرنا وبيان
موته وإثبات تركته على التعيين وكونها في يد المدعى عليه.
ويتحرر في العين ببيان الصفات إذا أمكن ضبطها وبالقيمة إذا لم يمكن، وإن كان
عينا تالفة لم يخل من ثلاثة أوجه: إما تكون من ذوات الأمثال أو من ذوات القيمة أو
محلاة بالذهب والفضة، فالأول يتحرر بالوصف والثاني بالقيمة والثالث إن كان
محلاة بهما معا قومهما بأيهما شاء وإن كانت محلاة بأحدهما قومها بغير جنسه.
فإذا تحررت الدعوى والتمس الجواب طالبه به الحاكم فإن سكت حبسه حتى
يجيب، وإذا ثبت الحق لم يحكم به إلا بالتماس صاحبه، والحكم أن يقول: حكمت أو
قضيت عليك بذلك أو اجرح مما ثبت له عليك أو ألزمتك. وإن تمكن وكان موضع يمين
وعرف المدعي كان الحاكم مخيرا بين السكوت وبين أن يقول: أ لك بينة؟ وإن لم
يعرف قال: أ لك بينة؟ وإذا عدل الشهود قال للمدعى عليه أ لك جرح؟ فإن أنعم أمهله
ثلاثة أيام وتكفل به إن التمس خصمه، وإن قال: لا جرح لي عليه لم يحكم عليه إلا
بالتماس من له الحق، وإن جرح البينة قال: زد في الشهود، وهو رد الشهادة، وإن لم
يجرح الشهود والتمس اليمين لم يكن له ذلك.
وإذا غابت بينته غيبة بعيدة أو عجز عنها لم يكن له طلب الكفيل وكان له اليمين
أو التخلية وعرفه الحاكم ذلك، فإن طالب في دين مؤجل لم يحل أجله بكفيل لم يكن
له ذلك أيضا ولا يستحلفه بغير التماس من المدعي، فإن التمس عرض عليه فإن حلف
أسقط دعواه على ما ذكرنا، وإن نكل قال له ثلاثا: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا، فإن
حلف فذاك، وإن رد فقد ذكرنا حكمه وإن أصر رد على خصمه، فإذا حلف ثبت
حقه.
والحقوق ثلاثة: فإن كانت لله لم يحكم بها على الغائب، وإن كانت للناس حكم
على ما ذكرنا، وإن كانت لله تعالى من وجه وللناس من وجه حكم على الغائب بحق
الناس وذلك مثل السرقة ويجوز للحاكم المأمون الحكم بعلمه في حقوق الناس وللإمام
206

في جميع الحقوق.
والحاكم لم يخل: إما يخبر بحكمه أو بإنهائه، فإن أخبر وقال: حكمت لفلان بكذا
أو أقر عندي بكذا أو شهد له شاهدان عندي بكذا فحكمت له به، قبل قوله حال ولايته.
وإن أنهى واليا أو معزولا وقال: حكمت بكذا أو حكم به حاكم، لم يقبل قوله ولم
يكن في حكم شاهد. وإن قال: أقر عندي بكذا، كان شاهدا.
فصل: في بيان أحكام البينات وكيفيتها:
البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
فالبينة على المال أو على ما يكون الغرض منه المال أحد أربعة أشياء: شاهدان وشاهد
ويمين وشاهد وامرأتان وامرأتان ويمين، فإذا أقام شاهدا كان مخيرا بين أن
يقيم آخر أو يقيم امرأتين أو يحلف. فإن تداعى اثنان عينا قائمة لم يخل من أربعة أضرب: إما
كانت في أيديهما معا أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما أو لم يكن في يد أحد.
فالأول أربعة أضرب: إما يكون لكل واحد منهما بينة على سواء أو تخالف إحديهما
الأخرى بوجه أو لا بينة لأحدهما أو تكون لأحدهما بينة، فإن تساوى البينتان كان
المدعي به بينهما نصفين وإن اختلفتا لم يخل من ثلاثة أوجه: إما تكون إحديهما مطلقة
والأخرى مقيدة والحكم للمقيدة أو تكون إحديهما عادلة والأخرى غير عادلة والحكم
للعادلة أو تكون إحديهما أكثر مع التساوي في العدالة والحكم لأكثرهما عددا، وإن لم
تكن لأحدهما بينة وتخالفا كان بينهما نصفين، وإن كانت البينة لأحدهما كان العين
له.
والثاني لم يخل: إما يتكرر ملكها أو لا يتكرر، فإن تكرر ملكها مثل الأواني
المصوغة من الذهب والفضة والنحاس وأشباهها وكان لكل واحد منهما بينة على سواء
فهي لصاحب اليد وإن كانت البينة لأحدهما فهي له وإن لم تكن لواحد منهما بينة لم
يتوجه للمدعي على صاحب اليد غير يمين، وإن كانت العين مما لا يتكرر ملكها لم يخل
من سبعة أوجه: إما يكون لكل واحد منهما بينة مطلقة أو مقيدة بالتأريخ أو تكون
207

إحديهما مطلقة والأخرى مقيدة أو كانتا مقيدتين بالإضافة إلى ابتياع أو هبة أو معاوضة
من واحد أو من شخصين أو تكون البينة لأحدهما أو لا تكون لأحدهما بينة، فالأول
يحكم لليد الخارجة والثاني للتأريخ السابق والثالث للبينة المقيدة والرابع لصاحب اليد
والخامس إن كان الملك وقت الانتقال لمن انتقل منه إلى صاحب اليد حكم له وإن كان
لمن انتقل منه إلى اليد الخارجة كان له والسادس يكون لصاحب البينة والسابع لا يلزم
صاحب اليد غير يمين.
والثالث من القسمة الأولى لم يخل من خمسة أوجه: إما ادعاها صاحب اليد أو لم
يدعها وكان لكل واحد منهما بينة على سواء أو خالفت إحديهما الأخرى أو كان
لأحدهما بينة أو لم تكن لأحدهما بينة.
فإن ادعاها صاحب اليد لم يكن لتداعيهما فائدة إلا بعد إبطال تعلق صاحب اليد،
وإن لم يدعها وكان لكل واحد منهما بينة على سواء تعارضتا، وإن اختلفتا بالتأريخ
كان الحكم للسابق، وإن اختلفتا بالتقييد والإطلاق كان الحكم للمقيدة، وإن اختلفتا
بالانتقال فحكمه ما ذكرنا، وإن انتقل إليهما من واحد وكان بعد في يد من انتقل منه
وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة على سواء أقرع بينهما ولا تأثير لإقرار البائع في ذلك،
وكذلك إن كانت كل واحدة منهما غير مؤرخة أو كانت إحديهما مؤرخة والأخرى غير
مؤرخة وإن قبضها واحد ولا تاريخ للبينة أو اتفق التاريخان حكم لصاحب اليد، وإن
تفاوت التاريخ فالحكم للسابق، وإن لم تكن لأحدهما بينة لم يخل من أربعة أوجه: إما
أقر صاحب اليد لهما معا أو لأحدهما أو لم يقر لأحدهما وقال: لا أدري لمن هي، أو أقر
لواحد ثم قال: لا بل للآخر، فالأول تحالفا واقتسما نصفين، والثاني يكون لم أقر لم
إذا حلف، والثالث إن لم يدعها غيرهما تحالفا واقتسما والرابع حكم لمن أقر له وغرم
قيمتها للآخر.
والرابع من قسمة الأصل على أربعة أوجه: إما يكون لكل واحد منهما بينة على سواء
أو على اختلاف أو تكون البينة لأحدهما أو لا تكون لواحد منهما بينة.
فالأول يحكم فيه بالقرعة فمن خرجت قرعته وحلف فهي له، وإن امتنع من اليمين
208

وحلف الآخر فهي له، وإن امتنعا معا كانت بينهما نصفين.
والثاني يكون الحكم للعادلة وإن تساويا في العدالة فالحكم لأكثرهما عددا إذا حلف
صاحبها، ورجل وامرأتان بمنزلة رجلين.
والثالث يكون لمن له بينة، فإن كان خصمه ممن لا يعبر عن نفسه حلف أيضا مع
البينة.
والرابع تحالفا واقتسما نصفين إذا لم يكن لهما منازع وإنما يقتسمان نصفين إذا
ادعى كل واحد الكل، فإن ادعى أحدهما الكل والآخر النصف كان لصاحب النصف
الربع، وعلى هذا إن تنازعا ملكا وادعى أحدهما شراءه من زيد والآخر من عمرو فلم
يخل: إما كان الملك لزيد وقت البيع أو لعمرو أو لهما، فالأول والثاني يكون لمن ابتاع
من مالكه والثالث يكون لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ لتبعض الصفقة
وبين الإمضاء وإن سبق بيع أحدهما تكون له الشفعة.
ولا تأثير لبينة اليد مع بينة الملك ولا لبينة الإرث مع بينة بيع المورث أو الإصداق أو
الهبة والتسليم منه، وإذا ادعى انسان على غيره بمال معين فقال المدعى عليه: قبضتك أو
قضيتك منه كذا، كان ذلك إقرارا بالكل ولزمه أن يقيم بينة إن لم يعترف به المدعي،
فإن لم يكن له بينة كان له تحليفه، وإن قال: قبضتك كذا، وإن لم يقل: منها، لم
يكن اعترافا بالكل وكان اعترافا بما ادعى قضاءه.
فصل: في بيان أعداد البينة وغيرها:
البينة ستة أنواع: أحدها شهادة خمسين رجلا وذلك في موضعين رؤية الهلال مع فقد
علة في السماء ليلة شهر رمضان في إحدى الروايتين والقسامة، وثانيها شهادة أربعة وذلك
في ثلاثة مواضع الزنى واللواط والسحق، وثالثها شهادة رجلين وذلك في أربعة مواضع:
في الحدود وذلك سوى ما ذكرناه والطلاق والنكاح ورؤية الهلال إذا كان في السماء
علة، ورابعها شهادة رجلين أو رجل وامرأتين أو رجل ويمين وذلك في موضعين: في المال
وما كان وصلة إليه، وخامسها شهادة أربع نسوة وذلك في ستة مواضع: الرضاع والولادة
209

والعذرة والحيض والنفاس وعيوب النساء التي تكون تحت الثياب مثل
البرص والرتق
والقرن، وسادسها شهادة أربع نسوة أو ثلاث أو امرأتين أو واحدة وذلك في موضعين
الوصية واستهلال الصبي.
فإن شهد أربع على وصية واستهلال صبي قبلت وحكم بها، وإن شهد ثلاث قبلت
في ثلاث أرباعها، وإن شهدت اثنتان قبلت في النصف، وإن شهدت واحدة قبلت في
الربع وذلك عند عدم الرجال.
وتقبل شهادة النساء في أربعة مواضع: وقد ذكرنا موضعين والثالث تقبل شهادتهن
مع الرجال ومع اليمين إذا لم يكن رجال وهي في موضعين في المال وفيما كان وصلة
إليه، ورابعها تقبل شهادتهن مع الرجال ولا تقوم فيه اليمين مقام شاهد وذلك ضربان:
أحدهما أن تشهد امرأتان مع رجل بالقتل ويجب بذلك الدية دون القود والآخر في الزنى
والسحق، فإن شهد ثلاثة رجال وامرأتان بأحدهما ألزم بها الرجم على المحصن وإن شهد
رجلان وأربع نسوة على المحصن لزم الجلد دون الرجم، وما تقبل فيه شهادة النساء مع
الرجال فقد ذكرناه.
ولا تقبل شهادة النساء مع الرجال في أربعة مواضع: الحدود سوى ما ذكرناه ورؤية
الهلال والنكاح والطلاق.
فصل: في بيان تعارض البينتين وحكم القرعة:
كل أمر مشكل ففيه القرعة وتعارض البينتين مشكل وإنما تعارضتا إذا شهدت
إحديهما على الضد مما شهدت به الأخرى من غير ترجيح لإحداهما، فإذا اكترى انسان
دارا من غيره واختلفا لم يخل من أربعة أوجه: إما اختلفا في قدر الدار أو المدة أو جنس
الأجرة أو قدرها.
فالأول إذا قال صاحبها: أكريته منها البيت الفلاني بعشرة، وقال المكتري: بل
جميع الدار، وأقام كل واحد منهما بينة مؤرخة لم يخل من ستة أوجه: إما تساوى
البينتان من جميع الوجوه أو بسبق تاريخ بينة صاحبها أو تاريخ بينة المكتري أولا يكون
210

لأحدهما بينة وكان عقيب العقد أو كان في أثناء العقد أو كان لأحدهما بينة، فالأول
تعارضت بينتاهما والثاني يلزم المكتري عشرون والثالث كان الكل بعشرة والرابع
تحالفا وفسخ الحاكم بينهما العقد وترادا والخامس تحالفا وانفسخ العقد في الباقي وحكم
بأجرة المثل فيما مضى وإن كان بعد انقضاء المدة تحالفا وفسخ العقد وسقط المسمى
ولزمت أجرة المثل والسادس يكون الحكم لصاحب البينة.
والثاني إن ادعى صاحب الدار شهرا بعشرة والمكتري شهرين لم يخل من أربعة
أوجه: إما يكون لكل واحد منهما بينة على سواء أو بسبق تاريخ إحدى البينتين أو عريتا
من التاريخ أو لم يكن هناك بينة، فالأول تعارضت فيه البينتان والحكم فيه للقرعة
والثاني يكون الحكم للتأريخ السابق والثالث تحالفا فيه وحكم بأجرة المثل والرابع
حكمه كذلك.
والثالث والرابع من القسمة الأولى يكون فيهما البينة على المدعي واليمين على من
أنكر، فإن أقام كل واحد منهما بينة على سواء تعارضتا والحكم فيه للقرعة وباقي
الأحكام على ما ذكرنا.
وإن ادعى كل واحد منهما ملكية عين في الحال وأقام بينة على سواء تعارضتا، وإن
كان عينا في يد انسان وادعى شخصان عليه بأنه اشتراها مني بكذا و أقام كل واحد
منهما بينة على سواء تعارضتا، وكل موضع تعارضت فيه البينتان فلا بد فيه من القرعة
فمن خرجت قرعته وحلف كان الحكم له، فإن امتنع ردت على صاحبه، فإن حلف
أخذ، وإن امتنع كان المدعي به بينهما على ما ذكرنا قبل.
فصل: في بيان دعوى الميراث:
إذا مات انسان وخلف وارثا حرا وآخر مملوكا فعتق المملوك بعد وفاته لم يخل: إما
كان الوارث الحر واحدا أو أكثر، فإن كان واحدا لم يرث معه المعتق بحال، وإن كان
أكثر من واحد واقتسما الميراث فكذلك، وإن عتق قبل القسمة ورث معهما.
وإن خلف وارثا مسلما وآخر كافرا لم يرث مع المسلم الكافر سواء كان المورث
211

مسلما أو كافرا، فإن ادعى الكافر كفر المورث لم يكن لدعواه فائدة.
وإن مات وخلف وارثين وأحدهما أنه كان مسلما أو حرا حال وفاة المورث وصدقه
الآخر وادعى هو أيضا لنفسه ذلك ولم يصدقه صاحبه فإن أقام بينة على ما ادعاه وإلا
كان الميراث للمتفق على إسلامه، فإن التمس يمينه كان له ذلك، وإن ادعى أحد
الوارثين تقديم موت المورث والآخر تأخيره كان القول قول من ادعى التأخير إذا لم تكن
بينة على التقديم.
وإذا ادعى انسان أنه وارث فلان وقد مات وأقام بينة على أنه وارثه ولم تشهد على
أن لا وارث له سواه،
فإن كان المدعي ذا فرض أعطي اليقين مثل الأب والأم والزوج والزوجة حتى
يتضح الأمر واليقين أقل من سهميه من الميراث، فإن ظهر له وارث سواه وكان ممن
يحجبهم من السهم الأعلى إلى الأدون فقد أخذوا حقهم وأخذ ما بقي الوارث الباقي،
وإن لم يحجبهم وفى عليهم تمام حقهم وأعطى ما بقي من يستحقهم، وإن لم يظهر له
وارث سواهم أعطوا تمام حقوقهم.
فإن لم يكن المدعي ذا فرض لم يعط شيئا حتى يتضح الأمر، وإن شهد البينة الكاملة
بأن لا وارث له سواه أعطي جميع التركة، وإن ادعى أنه وارثه وأخ له غائب ولا وارث
له سواهما وأقام بينة على ذلك أعطي نصف الميراث، وإذا حضر الغائب وادعاه أعطي
النصف الآخر، وإن لم يدعه ألقي في بيت المال إن كان المال وجد في بيت المورث
حتى يتضح الأمر، وإن وجد في يد غيره رد عليه، وإذا أعطى من هؤلاء جميعا شيئا لم
يعط إلا بكفيل.
ومن ادعى ميراث أحد وخفي أمر ورثته واشتبه وأقام بينة على أنه وارثه فقط أو مع
غيره حاضرا كان أو غائبا وكانت البينة كاملة واستحق أخذ شئ في الحال لم يعط إلا
بكفيل.
212

فصل: في بيان دعوى النسب:
إذا ادعى الانسان نسبا لم يخل: إما ادعى أنه ولد له أو أحد عمومته أو خؤولته أو
إخوته.
فالأول: لم يخل: إما ادعى بفراش أو بغير فراش.
فإن ادعى بفراش لم يخل من ثلاثة أوجه: إما ادعى بفراش منفرد أو بفراش حرة
مشترك أو بفراش أمة مشترك، فالفراش المنفرد ضربان: إما كان الولد صبيا أو بالغا،
فإن كان صبيا قبل منه إذا لم يكن له نسب معروف وإن كان بالغا أو مراهقا وأقام
بينة فكذلك وإن لم يقم بينة قبل منه بشرطين: تصديقه إياه وإمكان أن يكون ولدا له.
وإذا ادعى بفراش حرة مشترك وأقام بينة قبل منه ويكون ذلك بشبهة عقد ويقع في
موضع واحد وذلك إذا وجد ليلا على فراشه امرأة نائمة واعتقد أنها زوجته ووطئها. وإن
ادعى بفراش أمة مشترك أقرع في ذلك فمن خرجت قرعته من الشركاء ألحق به وغرم
للباقين قيمة الأمة والولد على قدر نصيبهم وذلك إذا كانت أمة بين شركاء فوطئوها في
طهر واحد وعلقت.
وإن ادعى بغير فراش إما ادعى بشبهة العقد أو بغيرها.
فإن ادعى بشبهة عقد أقام بينة قبل منه، ويقع ذلك في ثلاثة مواضع: أولها يكون
بوطئ امرأة قد عقد عليها بظاهر الحال ثم بان أنها ذات زوج، وثانيها يكون بوطئ امرأة
وقد عقد عليها عقدا فاسدا وقد وطئها آخر وقد عقد هو أيضا عليها عقدا فاسدا، وثالثها
يكون بوطئ امرأة قد عقد عليها عقدا يكون فاسدا بعد ما طلقها من عقد عليها عقدا
شرعيا وولدت لأكثر من ستة أشهر من وطء الثاني وأمكن كون الولد من كل واحد
منهما وتنازعا، فإن أقام كل واحد منهما بينة على سواء تعارضتا وأقرع بينهما.
وإن ادعى بغير عقد لم يخل: إما يكون صبيا أو غير صبي، فإن كان صبيا ولم يكن
له نسب معروف ألحق به، وإن كان بالغا أو مراهقا وأقام بينة أو صدقه وأمكن أن
يكون ولدا له قبل منه.
والثاني: إن صدقه من ادعى نسبه قبل منه ذلك.
213

فصل: في بيان تداعى الزوجين في متاع البيت:
إذا اختلف الزوجان أو من يرثهما في متاع البيت لم يخل: إما كان في أيديهما معا
أو في يد أحدهما، فإن كان في أيديهما وكان لكل واحد منهما بينة تحالفا وقسم بينهما،
وإن لم يكن لواحد منهما بينة ويصلح لأحدهما كان له، وإن صلح لهما معا كان
بينهما، فإن كان لأحدهما بينة حكم له.
وإن كان في يد أحدهما كانت البينة على اليد الخارجة واليمين على المتشبثة.
فصل: في بيان أحكام اليمين وما يتعلق بها:
اليمين في الدعاوي على نية المستحلف إلا إذا كان الحالف معسرا فإنها تكون على
نيته ويجوز له أن يحلف أنه لا يلزمه شئ مما ادعى به عليه وينوي في الحال.
والحالف ضربان: مسلم وكافر، وكل واحد منهما ضربان: أخرس وناطق،
والناطق: رجل وامرأة وصحيح ومريض.
وتؤكد الأيمان بالعدد وجوبا وبالزمان والمكان واللفظ استحبابا.
فالعدد يدخل في القسامة واللعان وسنشرحهما.
والتأكيد بالزمان أن يحلف في الأوقات الشريفة وبعد الصلوات المفروضات.
وبالمكان أن يحلف في أشرف البقاع من كل بلد.
والتأكيد باللفظ أن يحلف بقوله: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة
الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه
من العلانية، والواجب قوله: والله، ولا يمين بغير الله تعالى وبغير أسمائه الحسنى وصفاته
العليا.
والكافر يحلف بما يراه يمينا وبما يكون أردع له وأصلح.
والأخرس يتوصل الحاكم إلى معرفة إقراره وإنكاره وإلى تعريفه حكم الحادثة
بالإشارة وأحضر مجلس الحكم من فهم أغراضه وأمكنه إفهامه، وإذا أراد أن يحلفه إذا
توجه وضع يده على المصحف وعرفه حكمها وحلفه بالإيماء إلى أسماء الله تعالى، وإن
214

كتب اليمين على لوح ثم غسلها وجمع الماء في شئ وأمره بشربه جاز، فإن شرب فقد
حلف وإن أبي ألزمه الحق.
والرجل إذا كان صحيحا أحضر مجلس الحكم إذا توجه عليه اليمين وحلف فيه،
وإن كان مريضا وأمكنه الحضور من غير ضرر فكذلك، وإن لم يمكنه حلف في منزله.
والمرأة إن كانت برزة فحكمها حكم الرجل، وإن كانت مخدرة بعث الحاكم إليها
من يحكم بينها وبين خصمها في منزلها، فإذا توجه عليها اليمين حلفها في منزلها.
واليمين تتوجه على المنكر إذا لم يكن للمدعي بينة وقد يكون في جنبة المدعي إذا لم
يكن له غير شاهد أو امرأتين فيما يحكم فيه بشاهد ويمين، ولا يحلف إلا بعد تعديل
الشاهد، وتدخل اليمين في حقوق الناس لا غير، وما كان حقا لله تعالى من وجه وحقا
للناس من وجه دخل فيه اليمين في حق الناس دون حق الله تعالى كالسرقة.
والحالف إما يحلف على فعل نفسه أو فعل غيره، فالأول يحلف على القطع نفيا
وإثباتا، والثاني يحلف في الإثبات على القطع وفي النفي على العلم. وإذا استحلف أو
التمس الجواب من المدعى عليه لم يخل: إما يستحلف المدعي أو المدعى عليه إذا أرد
عليه اليمين، فالأول لم يلزمه الجواب على اللفظ ولا اليمين وكفاه إذا كان الجواب
مشتملا على معنى الدعوى وكذلك حكم اليمين والثاني يلزمه اليمين على اللفظ والبينة
مقدمة على يمين المدعى عليه ويمينه على يمين المدعي.
وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين لم يثبت حكم النكول ورد اليمين على
المدعي، فإن نكل استثبت حكم المنكول إن لم يتعلل بإقامة بينة أو تحقق أو نظر في
حساب آخر فإن تعلل بشئ من ذلك أخر، فإذا حلف استحق وإذا استحلف لم يكن
له الرجوع إلا برضا من استحلفه، وإذا أقام شاهدا وقال: لا أختار اليمين، سقط حقه
منها. فإن ادعى ثانيا في مجلس آخر ونكل المدعى عليه عن اليمين أو ردها عليه كان له
أن يحلف، وإن ادعى توفير الحق صار مدعيا وكان عليه البينة واليمين على صاحبه وله
رد اليمين.
215

فصل: في بيان الشهادات:
الشهادة إخبار بثبوت الحق لواحد على غيره أو له من غير أن يكون على غيره، وقد
يكون لشهادة البينة بدل من اليمين كالقسامة أو لأحد الشاهدين وذلك فيما يحكم فيه
بشاهد ويمين.
والشاهد أحد عشر قسما: مسلم حر ومملوك ووالد وولد وأخ وأخت وأحد الزوجين
وصبي وامرأة وولد الزنى وكافر.
فالمسلم الحر تقبل شهادته إذا كان عدلا في ثلاثة أشياء: الدين والمروة والحكم،
فالعدالة في الدين الاجتناب من الكبائر ومن الإصرار على الصغائر، وفي المروة
الاجتناب عما يسقط المروة من ترك صيانة النفس وفقد المبالاة، وفي الحكم البلوغ
وكمال العقل.
ولا يقدح في قبول الشهادة أحد عشر شيئا: دناءة الصناعة والبداءة والإقامة بالقرى
والعداوة إذا كانت غير ظاهرة والطعن في الناس إذا كان بدنيا والنقصان في الخلقة
والعمى إذا أثبت صاحبه ولم يحتج في الإثبات إلى الرؤية وإن تحملها بصيرا ثم عمي
جازت شهادته في كل شئ إذا أثبت والصمم ويؤخذ بأول قول صاحبه والضيافة
والعبودة إلا على السيد والولادة من الزنى إذا كان المشهود به شيئا قليلا حقيرا.
ولا تقبل شهادة خمسة نفر: شهادة من يجر منفعة بشهادته إلى نفسه مثل الغريم إذا
شهد للمفلس المحجور عليه والسيد إذا شهد لعبده المأذون له في التجارة، والوصي إذا
شهد للموصي فيما هو وصيه فيه ما دام إليه أمر الوصية، والوكيل إذا شهد لموكله فيما هو
وكيله فيه، والأجير إذا شهد لمستأجره ما دام معه. وتجوز شهادتهم في غير ما ذكرناه إذا
كانوا بصفة من تقبل شهادته، وتقبل شهادة أربعة ولا تقبل عليهم: شهادة المقذوف
للقاذف، والعدو لعدوه، ومن يرى إباحة دم غيره له، ومن قطع طريقه لمن ادعي عليه
القطع.
والمملوك إذا كان بصفة العدالة تقبل شهادته على حد شهادة الحر إلا على سيده،
والمدبر في حكم العبد، والمكاتب تقبل شهادته على سيده بقدر ما تحرر منه وتقبل
216

شهادتهم لساداتهم، والولد تقبل شهادته لأبيه ولا تقبل عليه إذا شهد معه عدل آخر،
والوالد تقبل شهادته لولده وعليه مع عدل آخر، والآخر والأخت كذلك، وحكم الزوجين
على ذلك.
والصبي إذا كان مراهقا وهو إذا بلغ عشر سنين فصاعدا تقبل شهادته في القصاص
والشجاج لا غير ويؤخذ بأول كلامه، وإن كان غير مراهق لم تقبل شهادته بحال، فإن
تحملها صبيا وبلغ وذكر تقبل إذا كان أهلا لها، وكذلك الفاسق والكافر إذا تحملاها ثم
تاب الفاسق وأسلم الكافر، والمرأة فقد ذكرنا حكم شهادتها قبل وكذلك شهادة ولد
الزنى.
فصل: في بيان شهادة الفاسق:
الفاسق ضربان: قاذف وغير قاذف، والقاذف ضربان: إما قذف زوجته أو غيرها،
فإن قذف زوجته أو حقق بأربعة شهود أو لاعن لم يفسق وإن لم يحقق ولم يلاعن
فسق، وإن قذف غير زوجته وحقق لم يفسق وإلا فسق، وإذا فسق بالقذف لم تقبل
شهادته حتى يتوب، والتوبة فيه سرية وحكمية.
فالسرية فيما بينه وبين الله تعالى وهي الندم على ما فرط فيه والعزم على ترك المعاودة
إلى مثله.
والحكمية لم يخل: إما كان صادقا فيما بينه وبين الله تعالى أو كاذبا، فإن كان
صادقا قال: الكذب حرام ولا أعود إلى مثل ما قلت، وأصلح العمل بالضد مما قال،
وإن كان كاذبا قال: كذبت فيما قلت، وأصلح العمل.
وغير القاذف ضربان: إما ارتكب معصية الله تعالى ولم يتعلق بالناس أو ارتكب
معصية وظلم غيره، فالأول توبته النزوع عنه وإصلاح العمل بضده مع الندم على ما
فات والعزم على ترك مثله في المستقبل والثاني توبته النزوع عنه ورد المظلمة. فإن قتل
ظلما سلم نفسه من ولي الدم، فإن غصب مالا رد أو استحل من صاحبه أو صالح، وإن
قذف استحل منه، وإن ضرب أو جرح أقاد من نفسه، وإن أتلف مالا غرم وأصلح
217

العمل بالضد في الجميع وراعى جميع ما ذكرناه.
فصل: في بيان كيفية تحمل الشهادة:
لا يجوز إقامة الشهادة لأحد إلا بعد أن يتحملها وهو عالم بها، والعلم يحصل في ذلك
بأحد ثلاثة أشياء: بالمشاهدة وحدها وبالسماع والمشاهدة معا وبالسماع والاستفاضة.
فالمشاهدة تتعلق بالأفعال كالقتل والسرقة والزنى، وشرب الخمر والرضاع وأشباهها،
فإذا شاهد شيئا من ذلك وعلم حقيقته فقد تحمل شهادته وجاز له إقامة الشهادة على
حسب ما شاهد، وقد تجب إقامتها إذا أدى الامتناع منها إلى ضياع حق من حقوق
المسلمين ولم يؤد أداؤها إلى ضرر غير مستحق على الشاهد، وقد تحظر إذا أدى إلى شئ
من ذلك، وقد تكره إذا علم أو ظن أنه ترد شهادته، وعلى هذا لو رأى أحد آخر
يتصرف تصرف الملاك في دار أو ضيعة أو غيرهما من غير منازع ولا مانع جاز له أن يشهد
على تملكه.
والسماع والمشاهدة معا يتعلق بالعقود مثل البيع والصرف والسلف والصلح والإجارة
والشركة وغيرها، فإذا شاهد المتعاقدين وسمع كلاما منهما وعرفهما بالمشاهدة بعينهما
جاز له أن يشهد بذلك إذا حضرا ويقول: أشهد أنه باع هذا الشئ الفلاني من هذا
بكذا. وإن غاب أحدهما لم يجز له أن يشهد على الغائب إلا بعد حصول العلم بثلاثة
أشياء: بالعين والاسم والنسب، فإذا علم ذلك وكان ذاكرا للحال أو كان معه عدل
آخر وذكره إن لم يكن ذاكرا جاز له إقامة الشهادة على ما ذكرنا.
والسماع والاستفاضة يتعلقان بسبعة أشياء: بالنسب والموت والعتق والوقف والمال
المطلق والنكاح والولاء. ويجوز له أن يشهد بذلك مطلقا من غير أن يعزى إلى أحد
بشرطين: سماعه من عدلين فصاعدا وشياعه واستفاضته في الناس.
وإذا تحمل شهادة لم يخل: إما يتحمل على إقرار أو على شهادة، فإن تحمل على إقرار
لم يخل: إما يتحمل على رجل أو امرأة، فإن تحمل على رجل لم يتحمل إلا بعد المعرفة
بستة أشياء: بعينه حتى يمكنه الإقامة عليه حاضرا أو اسمه ونسبه حتى يمكنه الإقامة عليه
218

غائبا وبكونه بالغا عاقلا جائز الإقرار، فإن لم يعلم بعض ذلك وعرفه عدلان جاز ولم
يقم شهادة إلا على الوجه الذي تحمل. وإن تحمل على امرأة فكذلك، وإن أسفرت المرأة
ونظر إليها العدلان ليعرفانها كان أحوط، فإن تحملها على الشهادة جاز في غير حق الله
تعالى ما لم يتجاوز درجة واحدة ولم يكن المتحمل امرأة بأحد ثلاثة أوجه: بالاسترعاء، و
السماع من شاهد الأصل وهو يشهد بالحق عند الحاكم، أو يشهد به ويعزيه إلى سبب
وجوبه.
ويجب أن يشهد على شهادة كل واحد اثنان فإن شهد اثنان على شهادة اثنين جاز،
ولا تسمع الشهادة من الفرع مع حضور الأصل فإذا غاب الأصل أو كان في حكم
الغائب جاز وهو إذا كان مريضا أو ممنوعا أو تعذر عليه الحضور، وإذا شهد الفرع ثم
حصل الأصل لم يخل من وجهين: إما حكم الحاكم بشهادة الفرع أو لم يحكم، فإن
حكم وصدقه الأصل وكان عدلا نفذ حكمه وإن كذبه وتساويا في العدالة نقض الحكم،
وإن تفاوتا أخذ بقول أعدلهما، وإن لم يحكم بقوله سمع من الأصل وحكم به، وإن لم
يحضر الأصل وتغير حاله بفسق ولم يحكم الحاكم بعد بشهادة الفرع لم يحكم بها وإن
حكم لم ينقض، وإن تغير بغير فسق حكم بشهادة الفرع.
فصل: في بيان حكم الرجوع عن الشهادة:
إذا رجع الشهود عن الشهادة لم يخل من ثلاثة أوجه: إما رجع كلهم أو بعضهم قبل
الحكم أو بعده قبل استيفاء الحق أو بعده. فإن رجعوا قبل الحكم بطلت شهادتهم، وإن
رجعوا بعد الحكم قبل استيفاء الحق نقض الحاكم حكمه، وإن رجعوا بعد الاستيفاء
وكان الحق مالا وقد بقي رد على صاحبه، وإن تلف غرم الشهود، وإن رجعوا كلهم
غرموا بالنصف والمرأة على النصف من الرجل وإن رجع بعضهم غرم نصيبه.
وإن كان الحق حدا أو قصاصا وهلك المحدود أو المقتص منه لم يخل: إما قالت
البينة: أخطأنا أو تعمدنا ولم نعرف أنه يقتل، أو لم يدعوا الجهل، فالأول ألزم الدية
مخففة والثاني تغلظ الدية والثالث يجب عليهم القود. وإن قال بعضهم:
219

أخطأنا، وبعضهم: تعمدنا، لزم المخطئ الدية بالحساب والمتعمد القود على ما سنذكرها
في كتاب القصاص إن شاء الله تعالى مع حكم الجراح والأروش. وإن شهدا على
انسان بالسرقة فقطع ثم جاءا بالآخر وقالا: قد وهمنا والسارق هذا، غرما دية المقطوع
ولم تقبل شهادتهما على الثاني. وإن شهدا بالطلاق فاعتدت المرأة وتزوجها آخر ودخل
بها ثم رجعا عزرا وغرما المهر للثاني ورجعت المرأة إلى الأول بعد الاعتداد من الثاني.
فصل: في بيان الحجر والتفليس:
الحجر منع صاحب المال عن التصرف فيه وإنما يكون لأحد وجهين: إما يكون نظرا
لصاحبه أو لغيره، فالأول ثلاثة: الصبي والمجنون والسفيه، والثاني أيضا ثلاثة:
المريض والمكاتب والمفلس، والجميع ضربان: إما يصير محجورا عليه بحكم الحاكم وهو
اثنان: السفيه والمفلس، أو يكون محجورا عليه بغير حكمه وهو الباقي. فإذا بلغ الصبي
رشيدا أو أدى المكاتب ماله وصلح السفيه وصلح المريض وهو محجور عليه فيما زاد على
ثلث ماله وقضي دين المفلس وأفاق المجنون انفك الحجر.
والمفلس من ركبته الديون وماله لا يفي بها، وإذا ادعى الغرماء إفلاسه وطلبوا من
الحاكم الحجر عليه أجابهم إليه بثلاثة شروط: ثبوت الدين وحلول أجله وقصور ماله عن
قضاء الدين، ويلزم من الحجر ثلاثة أحكام: حظر تصرفه في ماله وتعلق الديون بغير ما في
يده من المال وجعل الحاكم من وجد متاعه بعينه عنده أحق به من غيره، وإن ادعى
الغرماء عليه اليسار بغير بينة كان القول قوله مع اليمين، وإن وجد مال في يده وقال: هو
لفلان، وكان حاضرا وصدقه قبل منه وإن كذبه لم يقبل منه. فإن ادعى لغائب حلف،
وإن حل أجل بعض الديون يحجر عليه له دون غيره إذا لم يكن في المال وفاء.
220

إصباح الشيعة
بمصباح الشريعة
لنظام الدين أبي الحسن سلمان بن الحسن بن سليمان الصهرشتي
221

القضاء والبينة والدعوى والحاكم والحلفة
وكمال الأحكام أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا، وكمال الخلقة أن يكون بصيرا
ولا يكون أعمى، وأن يكون عارفا للكتاب والسنة والإجماع والاختلاف ولسان العرب،
فيعرف العام والخاص والمحكم والمتشابه والمجمل والفصل والمطلق والمقيد والناسخ
والعموم والخصوص وفي السنة الخامسة المتواتر والآحاد، وأن يكون ثقة عدلا حسن الرأي
ذا حلم وورع وقوة على القيام بما مضى إليه، ويتولى ذلك من قبل الإمام الظاهر من قبل
الله تعالى، وفي حال الغيبة لفقهاء الشيعة أن يقضوا بالحق ما تمكنوا منه، ويجوز لهم التقية
عند الاضطرار فيما لا يؤدى إلى قتل مؤمن.
ويجب للحاكم أن يحكم بعلمه في جميع الأشياء من الأموال والحدود والقصاص وغير
ذلك سواء في ذلك ما علم في حال الولاية أو قبلها، ويقضى بشهادة المسلمين بشرط
الحرية والذكورة والبلوع وكمال العقل والعدالة في جميع الأشياء، وعن أمير المؤمنين
وإمام المتقين عليه الصلاة والسلام في تأويل قوله تعالى: ممن ترضون من الشهداء،
أن ترضون دينه وإصابته وصلاحه وعفته وتيقظه فيما يشهد فيحصل له تمييز.
ولا يقبل في الزنى إلا شهادة أربعة رجال لمعاينة الفرج مع اتحاد اللفظ والوقت،
ومتى اختلفوا في الرؤية أو نقص عددهم أو لم يأتوا بها في وقت واحد حدوا حد الافتراء،
أو شهادة ثلاثة رجال وامرأتين وهكذا حكم السحق، ويقبل فيما عداهما شهادة عدلين
ويعتبر في صحتها اتحاد المعنى ومطابقة الدعوى دون الوقت، ولا يقبل شهادة النساء
فيما يوجب الحد على الانفراد من الرجال ولا معهم إلا في الزنى.
223

من شهد عليه ثلاثة رجال وامرأتان بالزنى وكان محصنا رجم، وإن شهد عليه
بذلك رجلان أو أربع نسوة جلد مائة، فإن شهدت نسوة أو أكثر ورجل واحد لم يقبل
وجلدوا حد الفرية، ولا يقبل شهادتهن على حال في الطارف وفي رؤية الهلال ولا في
النكاح والرضاع والعتاق والخلع والزوجية والقتل الموجب للقود والوكالة والوديعة ولا في
الشهادة، ويقبل شهادتهن على الانفراد من الرجال في الولادة والاستهلال والعيوب
التي لا يطلع عليها الرجال كالرتق والإفضاء، ويقبل شهادة القابلة وحدها إذا كانت
مأمونة في الولادة والاستهلال ويحكم لأجلها بربع الدية والميراث، ويقبل شهادتهن فيما
عدا ذلك مع الرجال.
ويقوم كل امرأتين مقام رجل ويقضى بشهادة الواحد مع يمين المدعي في الديون
خاصة، وقيل: كل ما كان مالا أو المقصود منه المال كالبيع والصلح والإجارة والوصية
فإنه يثبت باليمين والشاهد الواحد يقوم الشاهد ثم اليمين وما لا يكون مالا ولا المقصود
منه المال فلا يثبت بذلك كالنكاح والقذف والقتل الموجب للقود والعتق.
ويقبل شهادة كل واحد من الولد والوالدين والزوجين للآخر، ويقبل شهادة العبيد
لكل واحد وعليه إلا موضع نذكره، ويقبل شهادة الأخ لأخيه والصديق لصديقه وإن
كان بينهما ملاطفة ومهاداة، ويقبل شهادة الأعمى فيما لا يحتاج فيه إلى مشاهدة الصبيان
في الشجاج والجراح إذا كانوا يعقلون ذلك ويؤخذ بأول كلامهم لا بآخره،
ويقبل شهادة القاذف إذا تاب وأصلح عمله ومن شرط التوبة أن يكذب نفسه.
ولا يقبل شهادة الولد على والده ولا العبد على سيده فيما يذكرانه ويقبل عليهما بعد
الوفاة، ولا يقبل شهادة ولد الزنى إلا إذا كانت في شئ حقير وكان على ظاهر العدالة
ولا شهادة العدو على عدوه ولا الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه ولا الأجير لمستأجره
ولا شهادة ذمي على مسلم إلا في الوصية في السفر خاصة بشرط عدم أهل الإيمان ولا
شهادة كل من يحب بشهادته نفعا إلى نفسه أو يدفع بها ضرا.
ولا شهادة أهل البدع والاعتقادات الباطلة وإن كانوا على ظاهر الاسلام والستر
والعفاف، ولا شهادة المغني وأيضا بالناي والوتر والمرحبان والمستمع إلى ذلك، ولا
224

شهادة السائل على الأبواب وفي الأسواق ولا شهادة من يأخذ الزكاة وهو عنها مستغن
ولا من يأخذ الأجرة على الأذان ويرتشي في الأحكام ولا شهادة اللاعب بالقمار أي نوع
كان ولا شهادة منشئ الشعر الكذاب أو هجو المؤمن ولا شهادة مفسدة ولا شهادة ملوك
القرآن ومن لا يأتي بحروفه على الصحة والبيان.
والقسامة يحكم بها إذا لم يكن لأولياء الدم عدلان يشهدان بالقتل ويقوم مقام
شهادتهما في إثباته، والقسامة خمسون رجلا من أولياء المقتول يقسم كل واحد منهم يمينا
أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فإن نقصوا عن ذلك كررت عليهم الأيمان حتى يكمل
خمسين يمينا، وإن لم يكن إلا ولي الدم وحده أقسم خمسين يمينا، فإن لم يقسم أولياء
المقتول أقسم رجل من أولياء المتهم أنه برئ مما ادعى عليه، فإن لم يكن له من يقسم
حلف هو خمسين يمينا وبرئ.
والقسامة لا تكون إلا مع التهمة بأمارات ظاهرة، والقسامة فيما فيه دية كاملة من
الأعضاء ستة نفر وفيما نقص من العضو بحسابه وأدنى ذلك رجل واحد من سدس
العضو، وروي: أن القسامة في قتل الخطأ فخمسة وعشرون رجلا.
تحمل الشهادة وأداؤها من فروض الكفاية، وإذا كان في تحملها أو أدائها ضرر غير
مستحق له أو لمؤمن لم يجز ذلك، ولا يجوز لأحد أن يتحمل شهادة إلا بعد العلم بما يفتقر
فيها إليه إذا أشهد على من لا يعرفه ولا يشهد إلا بتعريف عدلين، وليقمها كذلك و
لا يجزئه مشاهدة المشهود عليه ولا تحليه ولا تعريف من لا يحصل العلم، ولا يجوز أن يقيم
إلا بعد التزكية لها ولا يعول على وجود خطه، ومن علم شيئا ولا يشهد عليه كان مخيرا
في إقامتها إذا دعي إليه. لا يحصل العلم بالمشهود عليه إلا بمشاهدة أو سماع أو بهما
معا.
والأول كالغصب والسرقة والقتل والقطع في الزنى واللواط وشرب الخمر والرضاع
والولادة ولا يصح في شئ من ذلك الشهادة على الشهادة.
والثاني النسب والموت والملك المطلق يعلم ذلك بالاستفاضة.
والثالث العقود ولا بد فيها من مشاهدة المتعاقدين والسماع كليهما، ويثبت شهادة
225

الأصل بشهادة عدلين ويقوم مقامها إذا تعذر حصول الأصل لموت أو مرض أو سفر، ولا
يجوز ذلك إلا في الديون والأملاك والعقود، ولا يجوز في حقوق الله تعالى كالحدود.
ولا يجوز الشهادة على الشهادة في شئ ما، وإذا شهد اثنان على شهادة واحد ثم
شهدا على الشهادة في شئ آخر ثبت شهادتهما، ولا يحكم ببينة المدعي بعد استحلاف
المدعى عليه وللمدعى عليه رد اليمين على المدعي، ولا يجوز الحكم إلا بما قدمناه من
علم الحاكم أو ثبوت البينة على الوجه الذي قرره الشرع أو إقرار المدعى عليه أو يمينه أو
يمين المدعي، ويسمع بينة الخارج وهو المدعي دون بينة الداخل وهو صاحب اليد وإن
كان مع كل واحد منهما ولا يد لأحدهما حكم لأعدلهما شهودا، فإن استويا في ذلك
حكم لأكثرهما شهودا مع يمينه، فإن استويا أقرع بينهما فمن خرج اسمه حلف وحكم
له، وإن كان لكل منهما يد ولا بينة لأحدهما كان الشئ بينهما نصفين.
وإذا ثبت أن الشاهد شهد بالزور عزر وشهر وبطل الحاكم حكمه بها، إن كان ما
شهد به قتلا أو جرحا أو حدا اقتص منه، وإذا رجع عن الشهادة بشبهة دخلت عليه لزم
القتل أو الجرح وضمن مثل العين المستهلكة بشهادته أو قيمتها وأن يرضى المحدود بما
يتفقان عليه.
وينبغي للحاكم أن يقرر الوقت الذي يجلس فيه للحكم خاصة ولا يشوبه بأمر آخر
سواه، وألا يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بشئ، ويجلس
مستدبر القبلة بسكينة ووقار، وينزه مجلسه عن الدعابة والمجون، ويوصي نفسه على إقامة
الجلد والقوة في طاعة الله، ويستوي بين الخصمين في اللحظ والإشارة، ولا يبدأهما
بخطاب إلا أن يطيلا الصمت فحينئذ يقول لهما: إن كنتما حضرتما لأمر فاذكراه، فإن
سكتا وإلا أقامهما. وإن ادعى أحدهما على الآخر لم يسمع دعواه إلا أن تكون مستندة
إلى علم كأن يقول: أستحق عليه، أو ما أفاد هذا المعنى، ولو قال: أدعي عليه كذا أو
أتهمه بكذا، لم يصح وأن يكون ما ادعاه معلوما متميزا بنفسه أو بقيمته، فلو قال:
أستحق عليه دارا أو ثوبا، لم يصح للجهالة.
وإذا صحت الدعوى أقبل الحاكم على الخصم فقال: ما تقول فيما ادعى، فإن أقر
226

به وكان ممن يقبل إقراره للحرية والبلوع وكمال العقل والإيثار للإقرار لزمه
الخروج إلى خصمه منه، فإن أبي أمر بملازمته، فإن آثر صاحب الحق حبسه، وإن آثر إثبات اسمه
في ديوان الحكم أثبته، إذا كان عارفا بعين المقر واسمه ونسبه أقام البينة العادلة عنده
بذلك.
وإن نكر ما ادعى عليه قال للمدعي: قد أنكر دعواك، فإن قال: لي بينة، أمره
بإحضارها وفرق بينه وبين خصمه. وله أن يأخذ كفيلا بإحضاره إذا أحضر بينه وبين
الكفيل من الضمان إذا انقضت المدة ولم يحضرها، فإن أحضرها وكانت مرضية حكم
بها وإلا ردها، وإن أحضر شاهدا واحدا أو امرأتين قال له الحاكم: وتحلف مع ذلك على
دعواك، فإن حلف ألزم خصمه ما ادعاه وإن أبي أقامهما، وإن لم يكن له بينة قال له:
ما تريد؟ فإن أمسك أقامهما، وإذا قال: أريد يمينه، قال: أ تحلف؟ فإن قال: نعم،
خوفه الله تعالى من عاقبة اليمين الفاجرة في الدنيا والآخرة.
فإن أقر بما داعاه عليه ألزمه، وإن أصر على اليمين عرض عليهما الصلح، فإن أجابا
أمر بعض أمنائه أن يتوسطه ذلك بينهما، ولم يجب أن يلي هو ذلك بنفسه لأنه منصوب
لبت الحكم وإلزام الحق - ويستعمل الوسيط في الاصطلاح ما يحرم على الحاكم
فعله - فإن لم يجب إليه أعلم المدعي أن استحلاف خصمه يسقط دعواه ويمنع من
سماع بينة بها عليه وإن نزل على استحلاف خصمه أقامهما، وإن لم ينزل واستحلفه
سقط حق دعواه، وإن نكل المدعي عن اليمين ألزم الخروج إلى خصمه مما ادعاه، وإن
قال: لا، أقامهما، وإن قال: نعم، خوفه الله، فإن رجع عن اليمين أقامهما.
وإن استحق ما ادعاه من ادعى عند الحاكم حقا على غائب وأقام البينة بحث
الحاكم عن العدالة، وإذا سأله المدعي أن يقضى له على الغائب أجابه إلى ذلك واستحلفه
أن حقه الذي شهد أنه ثابت إلى وقتنا هذا أو كتب به كتاب، هذا إذا كان الخصم
ممتنعا عن الحضور أو غير مقدور على إحضاره أو هرب عن مجلس الحكم.
واعلم أن الحقوق ثلاثة أضرب: حق الله وحق الآدمي وحق الله تعالى يتعلق به حق
الآدمي.
227

فحق الله كالزنى واللواط والخمر لا يقضى بها على الغائب لأن القضاء على الغائب
احتياط وحقوق الله لا تحتاج إليه لأنها مبنية على الإسقاط والتخفيف بخلاف حقوق
الآدمي وذلك كالدين ونحوه فإنه يقضى به على الغائب كما سبق، وحق الله المتعلق
بآدمي كالسرقة فإنه يقضى فيها على الغائب بالغرم دون القطع.
إذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس حلفه بالإشارة إلى أسماء الله تعالى وبوضع يده
على اسم الله تعالى في المصحف أو كتب اسم الله وبوضع يده عليه إن لم يحضر
المصحف، ويعرف يمينه كما يعرف إقراره وإنكاره ويحضر يمينه من يفهم أغراضه، ولا
يحلف أحد إلا باسم الله وإن كان منكرا للوحدانية والأيمان كلها، وعلى القطع إلا ما
كانت على النفي من فعل الغير فإنه يكون على نفي العلم، إذا حلف قبل استحلاف
الحاكم لم يعتد بها ويعاد عليه إذا طالبه الخصم بذلك.
المدعي في الشرع من ادعى شيئا على غيره في يده أو في ذمته، ولا يقال لمن يدعي ما
لا في يده: إنه مدعي، إلا تجوزا، والمدعى عليه من ادعى عليه شئ في يده أو في ذمته.
وقد يجوز أن يكون رجل واحد منهما مدعيا ومدعى عليه كأن يختلف المتبايعان في قدر
الثمن، فقال البائع: بعتك بألف، مثلا، وقال المشتري: بعتنيه بخمسمائة لا بألف،
فالبينة بينة المدعي للزيادة يحقق بها ما يدعيه واليمين على المدعى عليه يحقق به ما
ينفيه.
لا تصح الدعوى المجهولة إلا في الوصية، إذا اختلف الزوجان في متاع البيت وادعى
كل منهما أن الجميع له ولا بينة لأحدهما فما يصلح للرجال يكون للرجال وما يصلح
للنساء يكون للمرأة وما يصلح لهما فبينهما بالسوية، وروي: أن الكل للمرأة وما يصلح
لهما فبينهما بالسوية، وروي: أن الكل للمرأة وعلى الرجل البينة لأن من المعلوم أن
الجهاز من بيت المرأة ينقل إلى بيت الرجل، والأول أحوط.
من كان له على غيره حق لا يمكن استيفاؤه منه بوجه وقدر أن يأخذ من ماله أخذ
بقدر ذلك لا غير كان له بذلك بينة أو لا إلا إذا كان وديعة عنده فإنه لا يجوز أن يأخذ
منها.
228

من حلف غيره على مال فليس له أن يطالبه بعد بإقامة البينة ولا له أن يأخذ من
ماله شيئا وإن جاء الحالف ثانيا وأعطاه ما حلف عليه جاز له قبضه، أو جامع المال
بربحه فلا يأخذ إلا نصف الربح.
229

السرائر
الحاوي لتحرير الفتاوى
لأبي منصور محمد بن إدريس محمد العجلي الحلي
558 - 598 ه‍ ق
231

كتاب القضايا والأحكام
باب آداب القضاء وما يجب أن يكون القاضي عليه من الأحوال:
القضاء بين المسلمين جائز وربما كان واجبا فإن لم يكن واجبا ربما كان
مستحبا، قال الله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق،
وقال: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما، وقال: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث،
وقد ذم الله تعالى من دعي إلى الحكم فأعرض عنه فقال: وإذا دعوا إلى الله ورسوله
ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، ومدح قوما دعوا إليه وأجابوا فقال تعالى: إنما
كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا
وأولئك هم المفلحون.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: لئن أجلس يوما فأقضي بين الناس أحب إلى من عبادة
سنة، وعليه إجماع الأمة إلا أبا قلابة فإنه طلب للقضاء فلحق بالشام فأقام زمانا ثم جاء
فلقيه أيوب السختياني وقال له: لو أنك وليت القضاء وعدلت بين الناس رجوت لك في
ذلك أجرا، فقال: يا أيوب السابح إذا وقع في البحر كم عسى أن يسبح؟ إلا أن أبا
قلابة رجل من التابعين لا يقدح خلافه في إجماع الصحابة وقد بينا أنهم أجمعوا ولا يمتنع
أن يكون امتناعه كان لأجل أنه أحس من نفسه بالعجز لأنه كان من أصحاب الحديث
ولم يكن فقيها.
وهو من فروض الكفايات إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
233

وقد روي عن النبي ع أنه قال: إن الله تعالى لا يقدس أمة ليس فيهم من
يأخذ للضعيف حقه. ولأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد روي كراهة تولى القضاء والامتناع، روي عن النبي ع أنه قال: من ولى
القضاء فقد ذبح بغير سكين، قيل: يا رسول الله وما الذبح؟ قال: نار جهنم.
وروي عنه ع أنه قال: يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فمن شدة ما
يلقاه من الحساب يود أن لم يكن قاضيا بين اثنين في تمرة. والوجه في الجمع بين هذه
الأخبار أن من كان من أهل العلم بالقضاء ويقضي بالحق فهو مثاب ومن كان من أهل
العلم لكنه لا يقضي بحق أو كان جاهلا لم يحل له أن يليه وكان مأثوما فيه.
والناس في القضاء على ثلاثة أضرب: من يجب عليه ومن يحرم عليه ومن يجوز له.
فأما من يجب عليه فكل من تعين ذلك فيه وهو إذا كان ثقة من أهل العلم لا يجد الإمام
غيره، فأما من يحرم عليه فإن كان جاهلا ثقة كان أو غير ثقة أو فاسقا من أهل العلم،
ومن يجوز له ولا يحرم عليه مثل أن يكون في المكان جماعة وأهل الفقه والعلم فللإمام أن
يدعو واحدا عليه. وقد بينا في كتاب الجهاد من له أن يتولى القضاء والأحكام بين
الناس ومن ليس له ذلك، والفرق بين الحكم والقضاء أن الحكم هو إظهار ما يفصل به
بين الخصمين قولا والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا.
وينبغي أن لا يتعرض للقضاء أحد حتى يثق من نفسه بالقيام به، وليس يثق أحد
بذلك من نفسه حتى يكون عاقلا كاملا عالما بالكتاب وناسخه ومنسوخه وعامه وخاصه
وندبه وإيجابه ومحكمه ومتشابهه، عارفا بالسنة المقطوع بها وناسخها ومنسوخها وعامها
وخاصها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومبينها، عالما باللغة مضطلعا أي فيما بمعاني كلام
العرب بصيرا بوجوه الإعراب لأنه مبين عن صاحب الشريعة ع فيجب أن
يعرف لغته،
روي أن رقبة بن مصقلة قال لأبي حنيفة الفقيه: ما تقول في رجل ضرب طلته بمرقاق
فقتلها؟ فقال أبو حنيفة: ما أدري ما تقول، فقال له: أ فتفتي ويحك في دين الله وأنت لا
تعرف لغة نبيه ص؟ الطلة: الحمأة، والمرقاق: الذي يسمى الشوبك.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الفقيه يحتاج إلى اللغة حاجة شديدة إلا الرواية. وقال
234

الأصمعي: سمعت حماد بن سلمة يقول: من لحن في حديثي فليس يحدث عني. وقال
أبو داود السنجي: سمعت الأصمعي يقول: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا
لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي ص: من كذب على فليتبوأ
مقعده من النار، لأنه لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت كذبت عليه.
وروي عن عمر بن الخطاب: أنه اجتاز بقوم يرمون فأساؤوا الرمي، فقالوا: يا أمير
المؤمنين نحن قوم متعلمين، فقال عمر: لإساءتكم في لحنكم شر من إسائتكم في رميكم
رحم الله امرءا أصلح من لسانه، وقال: تعلموا العربية فإنها تثبت العقل. وقيل للحسن
البصري: إن لنا إماما يلحن، فقال: أخروه. وكان ابن عمر يضرب ولده على اللحن.
وروي عن الصادق ع أنه قال: نحن قوم فصحاء فإذا رويتم الأخبار عنا
فأعربوها. ولأن الفقيه لو سأله سائل فقال له: ما تقول في ظبي رميته بسهمي فاحتمله
ومضى به وغاب عن عيني ووجدته بعد ذلك ميتا؟ فالجواب من الفقيه أن يقول له: لا
تأكله فإنه منهي عنه لقول الرسول ع: كل ما أصميت ودع ما أنميت، فقال
له: ما معنى أصميت وأنميت؟ فقال له الفقيه: لا أدري، فقال له المستفتي: فتنهاني
عن شئ بقول لا تدري ما هو
قال محمد بن إدريس: أصميت الرمية إذا قتلتها في مكانها من غير أن تحمل السهم
وتعدو به، وأنميت الرمية إذا احتملت بالسهم ومضت به. قال امرؤ القيس مادحا
للرامي:
هو لا تنمي رميته ما له لا عد من نفر فلهذا احتاج إلى اللغة.
ويكون ورعا من محارم الله تعالى زاهدا في الدنيا متوفرا على الأعمال الصالحات مجتنبا
للكبائر والسيئات شديد الحذر من الهوى حريصا على التقوى، فإذا كان بالصفات التي
ذكرناها جاز له أن يتولى القضاء والفصل بين الناس.
ولا ينعقد له القضاء إلا بولاية إمام المسلمين وإذنه، وإذا أراد أن يجلس للقضاء
ينبغي ويستحب له أن ينجز حوائجه التي تتعلق نفسه بها ليتخلى ويفرع للحكم ولا
يشغل قلبه بغيره.
235

ثم يستحب له أن يتوضأ وضوء الصلاة ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها ويخرج إلى
المسجد الأعظم الذي يصلى الجمعة فيه في البلد الذي يحكم فيه، فإذا دخله صلى
ركعتين ويجلس مستدبر القبلة ولا يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول
القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في شئ من الأشياء، فإن خالف ذلك
وجلس وقضى بالحق نفذ حكمه بغير خلاف.
وليجلس وعليه هدي " مفتوح الهاء مسكن الدال " وسكينة ووقار، فإذا جلس
حكم للأول فالأول، فإن لم يعلم بالأول أو دخلوا عليه في دفعة واحدة روى
أصحابنا: أنه يتقدم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم إليه أن يكتب اسمه واسم أبيه
وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة، فإذا فعلوا ذلك وكتبوا
أسماءهم وأسماء خصومهم في الرقاع قبض ذلك كله وخلط الرقاع وجعلها تحت شئ
يسترها به عن بصره ثم يأخذ منها رقعة ينظر فيها ويدعو باسم صاحبها وخصمه فينظر
بينهما.
ويستحب أن يصل إليه في حكمه كل أحد ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن
الوصول إليه
لما روى أبو مريم الأنصاري صاحب رسول الله ص أنه قال: من ولى
شيئا من أمور الناس فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون خلته " بفتح
الخاء وهي الحاجة " وفاقته وفقره.
وقد كره قوم القضاء في المساجد وأجازه آخرون وهو الأليق بمذهبنا
لأنه لا خلاف أن أمير المؤمنين ع كان يقضي في المسجد الجامع بالكوفة، ودكة
القضاء معروفة إلى اليوم وهي التي في وسط المسجد الجامع وهي تسمى أيضا دكة الطست لا يظلها شئ من الظلال.
فأما إقامة الحدود فيها فمكروهة. فإن حكم بحكم فإن وافق الحق لم يكن لأحد أن
يعارضه فيه وإن أخطأ وجب عليهم أن ينبهوه عليه،
وقال المخالف: ليس لأحد أن يرد عليه وإن حكم بالباطل عنده لأنه إذا كان باجتهاده
وجب عليه العمل به فلا يعترض عليه بما هو فرضه. ولا اجتهاد عندنا ولا قياس وليس
236

كل مجتهد مصيبا.
وإذا دخل الخصمان عليه وجلسا وأراد كل واحد منهما الكلام ينبغي له أن يأذن
للذي سبق بالدعوى، فإن ادعيا جميعا في وقت واحد فالذي رواه أصحابنا: أنه يأمر من
هو على يمين خصمه أن يتكلم ويأمر الآخر بالسكوت إلى أن يفرع من دعواه.
وإذا دخل عليه الخصمان فلا يبدأ أحدهما بالكلام منفردا وذلك على طريق
الكراهة، فإن سلما أو سلم أحدهما رد السلام دون ما سواه، ويستحب أن يكون نظره
إليهما واحدا ومجلسهما بين يديه على السواء لا أن ذلك واجب على من يتوهمه من لا
بصيرة له بهذا الشأن.
ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين والمستحب له تركهما حتى يبدءا بالكلام،
فإن صمتا ولم يتكلما فله أن يقول لهما حينئذ: إن كنتما حضرتما لشئ فاذكراه، فإن
بدأ أحدهما بالدعوى سمعها ثم أقبل على الآخر فسأله عما عنده فيما ادعاه خصمه، فإن
أقر به ولم يرتب بعقله واختياره ألزمه الخروج إليه منه بعد سؤال صاحب الحق، فإن
خرج وإلا إن كان له مال ظاهر من جنس الحق الذي أقر به لخصمه سلم الحاكم إلى
الخصم من ذلك ما له، وإن كان من غير جنس الحق باعه عليه وقضي دينه منه، إن لم
يكن له مال ظاهر وإلا أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه، فإن التمس الخصم حبسه على
الامتناع من أداء ما أقر به، فإن عرف الحاكم أنه معدم فقير خلي سبيله، فإن لم يعرف
من حاله شيئا حبسه له، فإن ظهر له بعد أن حبسه أنه معدم فقير لا يرجع إلى شئ ولا
يستطيع الخروج مما أقر به عليه خلي سبيله وأمره أن يتمحل
يعني يتكسب ويحتال قال الشاعر:
وقالت: تمحل لي بحج فإنني أرى الناس يعتدون للحج أرجلا
فقلت لها: والله مالي حيلة فما ذا عسيت اليوم أن أتمحلا
حق خصمه ويسعى في الخروج مما عليه.
وإن ارتاب الحاكم بكلام المقر وشك في صحة عقله أو اختياره الإقرار توقف عن
الحكم عليه حتى يستبرئ حاله، وإن أنكر المدعى عليه ما ادعاه المدعي سأله: أ لك
237

بينة على ذلك؟ فإن قال: نعم هي حاضرة، نظر في بينته بعد سؤاله، وإن قال: نعم غير
أنها ليست حاضرة، فلا يقول له الحاكم: أحضرها، بل يتركه إلى أن يحضر بينته ويسأله
سماعها.
وقال شيخنا في نهايته: قال له: أحضرها، وقد رجع عن هذا القول في مبسوطه.
وإن قال المدعي: لست أتمكن من إحضارها،
قال شيخنا في نهايته: جعل معه مدة من الزمان ليحضر فيه بينته وتكفل لخصمه، ورجع
عن هذا القول في مسائل خلافه فقال مسألة: إذا ادعى على غيره حقا فأنكر المدعى
عليه، فقال المدعي: لي بينة غير أنها غائبة، لم يجب له ملازمة المدعى عليه ولا مطالبته
له بكفيل إلى أن يحضر البينة، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: له المطالبة بذلك
وملازمته، قال رحمه الله: دليلنا أن الأصل براءة الذمة ومن أوجب ذلك فعليه الدلالة،
هذا آخر كلامه في مسائل خلافه وهو الحق اليقين لأن فيه الدليل ولا دليل على ما
خالف ذلك.
وإن قال: لا بينة لي، قال له: فما تريد؟ فإن قال: تأخذ لي بحقي من خصمي،
قال للمنكر: أ تحلف له؟ فإن قال: نعم، أقبل على صاحب الدعوى فقال له: قد
سمعت أ فتريد يمينه؟ فإن قال: لا، أقامهما ونظر في حكم غيرهما، وإن قال: نعم أريد
يمينه، رجع إليه فوعظه وخوفه بالله تعالى، فإن أقر الخصم بدعواه ألزمه الخروج إليه مما
ادعاه عليه بعد سؤاله، فإن قال المنكر عند توجه اليمين عليه: يحلف هذا المدعي على
صحة دعواه وأنا أدفع إليه ما ادعاه، قال الحاكم للمدعي: أ تحلف على صحة دعواك؟
فإن حلف ألزم خصمه الخروج إليه مما حلف عليه بعد سؤاله، وإن أبي اليمين بطلت
دعواه.
وإن أقام المدعي البينة فذكر المدعى عليه أنه قد خرج إليه من حقه كان عليه البينة
بأنه قد وفاه الحق، فإن لم يكن له بينة وطالب صاحب البينة بأن يحلف بأنه ما استوفى
ذلك الحق منه كان له ذلك، فإن امتنع من ذلك خصمه وأبي أن يحلف أنه لم يأخذ
حقه بطل حقه، وإن قال المدعي: ليس معي بينة، وطلب من خصمه اليمين فحلفه
الحاكم ثم أقام بعد ذلك البينة على صحة ما كان يدعيه لم يلتفت إلى بينته وأبطلت،
238

وإن اعترف المنكر بعد يمينه بالله بدعوى خصمه عليه وندم على إنكاره لزمه الحق
والخروج منه إلى خصمه، فإن لم يخرج إليه منه كان له حبسه، فإن ذكر إعسارا كشف
عن حاله، فإن كان على ما قال أنظر ولم يحبس، وإن لم يكن كذلك ألزم الخروج إلى
خصمه من حقه.
ومتى بدأ الخصم باليمين من غير أن يحلفه الحاكم لم يبرئه ذلك من الدعوى وكان
متكلفا، وإن أقر المدعى عليه بما ادعاه خصمه وقال: أريد أن تنظرني حتى أتمحله " أي
أتكسبه " قال الحاكم لخصمه: فما عندك فيما يقول؟ فإن سكت ولم يجب بشئ توقف
عليه القاضي هنيئة ثم قال له: قل ما عندك، فإن لم يقل شيئا أقامه ونظر في أمر غيره،
وإن قال: أنظره، فكذلك له، وإن أبي لم يكن للحاكم أن يشفع إليه فيه ولا يشير عليه
بالإنظار وله أن يأمرهما بالصلح ويشير بذلك لقوله تعالى: والصلح خير، وما هو خير
فللإنسان فعله بغير خلاف من محصل.
وقد يشتبه هذا الموضوع على كثير من المتفقهة فيظن أنه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح
ولا يشير به وهذا خطأ من قائله، وشيخنا أبو جعفر في مبسوطه قد أفصح عن ذلك وحققه
وذهب إليه فقال: إذا ترافع إليه نفسان وكان الحكم بينهما واضحا لا إشكال فيه لزمه
أن يقضي بينهما ويستحب أن يأمرهما بالمصالحة، وإن كان حكمهما مشكلا أخره إلى
البيان ولا حد له غير ظهور الحكم وبيان الحق، وإن قدمه لم يجز لأن الحكم قبل البيان
ظلم والحبس بالحكم بعد البيان ظلم، هذا آخر كلام شيخنا.
وإن قال: الدين على وأنا معسر لا أقدر على قضائه، نظرت في سبب الدين، فإن
كان عن مال حصل في يده كالقرض والشراء والصلح والغصب ونحو ذلك لم يقبل قوله
بالإعسار لأن الأصل الغنى وحصول المال حتى يثبت زواله، وإن كان سبب ثبوته من
غير مال حصل في يده كالمهر وأرش الجناية وإتلاف مال الغير ونحو ذلك نظرت، فإن
عرف له مال غير هذا كالميراث والغنيمة ونحو ذلك لم يقبل قوله أيضا في الإعسار لأن
الأصل المال، فإن أقام البينة بهلاك المال وأنه معسر فالقول قوله بغير يمين لأن الظاهر ما
قامت به البينة.
239

وأما إن كان سببه غير مال حصل في يديه ولم يعرف له مال أصلا فالقول قوله لأن
الأصل ألا مال مع يمينه لجواز أن يكون له مال، وقد قلنا: إنه ليس للحاكم أن يشفع
إليه بالإنظار ولكن يبت الحكم فيما بينهما بما ذكرناه وتقتضيه شرعة الاسلام.
وإن ظهر للحاكم أن المقر عبد أو محجور عليه لسفه أبطل إقراره، وإن كان تبينه
لذلك بعد دفعه ما أقر به إلى خصمه ألزم الآخذ له رده ويقدم بحفظه على المحجور عليه
ويرد ذلك على مولى العبد، وإذا أقر انسان لغيره بمال عند حاكم فسأل المقر له الحاكم
أن يثبت إقراره عنده
قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: لم يجز له ذلك إلا أن يكون عارفا بالمقر بعينه واسمه
ونسبه أو يأتي المقر له ببينة عادلة على أن الذي أقر هو فلان بن فلان بعينه واسمه ونسبه
لأنه لا يأمن أن يكون نفسان قد تواطئا على انتحال اسم انسان غائب واسم أبيه
والانتساب إلى آبائه ليقر أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل، فإذا أثبت الحاكم ذلك
على غير بصيرة كان مخطئا مغررا.
وقال في مسائل خلافه مسألة: إذا حضر خصمان عند القاضي فادعى أحدهما على الآخر
مالا فأقر له بذلك فسأل المقر له القاضي أن يكتب له بذلك محضرا والقاضي لا يعرفهما
ذكر بعض أصحابنا: أنه لا يجوز أن يكتب لأنه يجوز أن يكونا استعارا نسبا باطلا
وتواطئا على ذلك، وبه قال ابن جرير الطبري، وقال جميع الفقهاء: إنه يكتب ويحليهما
بحلاهما التامة ويضبط ذلك، قال رحمه الله: والذي عندي أنه لا يمتنع ما قاله الفقهاء
فإن الضبط بالحلية يمنع من استعارة النسب فإنه لا يكاد يتفق ذلك، ثم قال رحمه الله:
والذي قاله بعض أصحابنا يحمل على أنه لا يجوز أن يكتب ويقتصر في ذكر نسبهما فإن
ذلك يمكن استعارته، قال رحمه الله: وليس في ذلك نص مسند عن أصحابنا يرجع إليه،
هذا آخر كلام شيخنا في مسألة في مسائل الخلاف.
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: الذي ذكره وذهب إليه في مسائل خلافه هو
الذي أقول به وأعمل عليه ويقوى في نفسي، وهذا يبين لك أيها المسترشد أنه يذكر في
نهايته شيئا لا يعمل عليه ولا يرجع فيه إلى خبر مسند فيعتمد عليه ويرجع إليه، وأيضا
هذا مصير إلى أن للإنسان أن يعمل ويشهد بما يجد به خطه مكتوبا من غير ذكر الشهادة
وقطع على من شهد عليه وهذا عندنا لا يجوز أو رجوع إلى العمل لكتاب قاض إلى قاض
240

وجميع ذلك باطل عندنا.
فإذا أتاه بكتابه ولم يعلم بالمقر بعينه ويتحققه ويتيقنه فلا يجوز له أن يقضي عليه
فيأمن الغرر من هذا الوجه، وكذلك إن أخذ كتابه الذي فيه تثبيت إقراره إلى غيره من
الحكام لا يحل للحاكم الثاني أن يعمل به بغير خلاف بيننا، وكذلك إن شهد عند
الحاكم الأول الذي ثبت الإقرار شاهدان بأنه حكم بينهما لا يجوز له أن يرجع إلى
قولهما إذا لم يكن ذاكرا لهذه الحكومة متيقنا لها عارفا بالمقر قاطعا عليه.
وإذا ادعى انسان على أخرس شيئا وكانت له إشارة معقولة وكتابة مفهومة توصل
الحاكم إلى إفهامه الدعوى ومعرفة ما عنده فيها من إقرار أو إنكار، فإن أقر بالإشارة أو
أنكر بالكتابة حكم عليه بذلك، وإن لم يكن له إشارة معقولة ولا كتابة مفهومة
فقد روي عن أمير المؤمنين ع: أنه كتب نسخة اليمين في لوح ثم غسله وأمره
أن يشربه فامتنع فألزمه الحق.
وإن كان يتساكت عن خصمه وهو صحيح قادر على الكلام وإنما يعاند بالسكوت
قال شيخنا في نهايته: أمر بحبسه حتى يقر أو ينكر إلا أن يعفو الخصم عن حقه عليه،
وكذلك إن أقر بشئ ولم يبينه كأنه يقول: له على شئ، ولا يذكر ما هو ألزمه الحاكم
بيان ما أقر به، فإن لم يفعل حبسه حتى يبين.
قال محمد بن إدريس: والصحيح من مذهبنا وأقوال أصحابنا وما يقتضيه المذهب أن
المسألتين معا يجعله الحاكم ناكلا ويرد اليمين على خصمه، وإلى هذا القول يذهب
شيخنا أبو جعفر في مبسوطه في فصل فيما على القاضي في الخصوم والشهود، قال: فأما
القسم الثالث وهو إذا سكت أو قال: لا أقر ولا أنكر، قال له الحاكم ثلاثا: إما
أجبت عن الدعوى وإلا جعلناك ناكلا ورددنا اليمين على خصمك، وقال قوم: يحبسه
حتى يجيبه بإقرار أو إنكار ولا يجعله ناكلا فيقضي بالنكول والسكوت، وقوله: لا أقر ولا
أنكر، ليس بنكول.
قال شيخنا رحمه الله: والأول يقتضيه مذهبنا، وإلى هذا يذهب ابن البراج من أصحابنا
في كتابه المهذب ويختاره. وقال شيخنا أبو جعفر أيضا في مبسوطه في الجزء الثاني في
كتاب الإقرار: إذا ادعى عليه مالا بين يدي الحاكم وقال: لا أقر ولا أنكر، قال له
241

الحاكم: هذا ليس بجواب أجب بجواب صحيح فإن أجبت وإلا جعلتك ناكلا ورددت
اليمين على صاحبك، فإن لم يجب بجواب صحيح فالمستحب أن يكرر عليه ذلك ثلاث
مرات، فإن لم يجب بجواب صحيح جعله ناكلا ورد اليمين على صاحبه، فإن رد
اليمين بعد المرة الأولى جاز لأنه هو القدر الواجب وإنما جعلناه ناكلا بذلك لأنه لو
أجاب بجواب صحيح ثم امتنع عن اليمين جعل ناكلا، فإذا امتنع عن الجواب واليمين
فأولى أن يكون ناكلا، وهكذا إذا قال: لا أدري ما تقول، لأن ذلك ليس بجواب
صحيح مع علمه بما يقول، هذا آخر كلام شيخنا في الموضع المشار إليه أولا حرفا
فحرفا.
قال محمد بن إدريس: يمكن أن يفرق بين الحكم والقضاء بأن يقال: الحكم إظهار ما
يفصل به بين الخصمين قولا والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا، فهذا الفرق بينهما عند
أهل اللغة فأما من حيث عرف الشريعة فلا فرق بينهما.
باب سماع البينات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة:
إذا شهد عند الحاكم شاهدان وكانا عدلين وشهدا في مكان واحد على وجه واحد
ووافقت شهادتهما دعوى المدعي وجب على الحاكم الحكم بشهادتهما بعد سؤال
صاحب الحق، وإذا شهد عنده من لا يعرفهما بعدالة ولا حرج سمع شهادتهما وأثبتها
عنده ثم استكشف أحوالهما وسأل عنهما أهل الخبرة الباطنة دون أهل المعرفة الظاهرة
فإن وجدهما مرضيين جائزي الشهادة حكم بشهادتهما وإن وجدهما على غير ذلك
وبخلافه طرح شهادتهما، فإن حكم بعد البحث عنهما فلا يحكم إلا بعد سؤال صاحب
الحق.
والحكم أن يقول له: ألزمتك ذلك أو قضيت عليك به، أو يقول: أخرج إليه منه،
فمتى قال إحدى الثلاث كان حكما بالحق. وأما إن أنكر فقال: لا حق لك قبلي،
فهذا موضع البينة، فإن كان المدعي لا يعرف أنه موضع البينة كان للحاكم أن يقول
له: أ لك بينة؟ فإن كان عارفا بأنه وقت البينة فالحاكم بالخيار بين أن يسكت أو يقول
له: أ لك بينة؟ فإذا قال: أ لك بينة؟ لم يخل من أحد أمرين: إما أن لا يكون له بينة أو
242

له بينة، فإن لم يكن له بينة عرفه الحاكم أن لك يمينه، فإذا عرف ذلك لم يكن للحاكم
أن يستحلفه بغير مسألة المدعي لأن اليمين حق له فليس له أن يستوفيه إلا بمطالبته لنفس
الحق، فإن لم يسأله واستحلفه من غير مسألة لم يعتد باليمين لأنه أتى بها في غير وقتها،
فإذا لم يعتد بها أعادها عليه بمسألة المدعي.
فإذا عرض اليمين عليه لم يخل من أحد أمرين: إما أن يحلف أو ينكل، فإن حلف
أسقط الدعوى وليس للمدعي أن يستحلفه مرة أخرى في هذا المجلس أو في غيره، فإن
لم يحلف ونكل عن اليمين قال له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا ورددت
اليمين على خصمك فيحلف ويستحق عليك. ولا يجوز أن يحكم عليه بالحق بمجرد
النكول بل لا بد من يمين المدعي ليقوم النكول واليمين مقام البينة، وقد يشتبه هذا
الموضع على كثير من أصحابنا فيظن أن بمجرد النكول يثبت الحق وهذا خطأ محض.
فإن كانت له بينة إما أن تكون حاضرة أو غائبة، فإن كانت غائبة لم يقل له
الحاكم: أحضرها، لأنه لا حق له فله أن يفعل ما يرى، فإذا حضرا لم يسألهما الحاكم
عما عندهما حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يتصرف فيه بغير أمره، فإذا ثبت أنه
لا بد من سؤال المدعي الاستماع منهما فإن الحاكم لا يقول لهما: اشهدا، لأنه أمر وهو
لا يأمرهما لكنه يقول: تكلما إن شئتما من كان عنده كلام فليذكره إن شاء. ومتى بدأ أحد الخصمين بإذن أو بغير إذن وجعل يدعي على صاحبه منع الحاكم
صاحبه من مداخلته لأنه يفسد عليه نظام الدعوى، وأقل ما على الحاكم أن يمنع كل
واحد منهما أن ينال من عرض صاحبه لأنه جلس للفصل بين الناس والإنصاف وأقل
ما عليه أن لا يمكن أحدهما من الظلم والحيف، ولا يجوز له أن يضيف أحد الخصمين
دون صاحبه إما أن يضيفهما معا أو يدعهما معا
لما روي: أن رجلا نزل بعلي ع فأدلى بخصومة، فقال له على ع:
أ لك خصم؟ قال: نعم، قال: تحول عنا فإني سمعت رسول الله ص
يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه.
والقاضي بين المسلمين والحاكم والعامل عليهم يحرم على كل واحد منهم الرشوة
243

لما روي أن النبي ع قال: لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم. وهو حرام على
المرتشي بكل حال، وأما الراشي فإن كان قد رشاه على تغير حكم أو إيقافه فهو حرام،
وإن كان على إجرائه على واجبه لم يحرم عليه أن يرشوه لذلك لأنه يستنقذ ماله فيحل
ذلك له ويحرم على الحاكم أخذه.
والذي يقتضيه مذهبنا أن الحاكم يجب أن يكون عالما بالكتابة والنبي ع
عندنا كان يحسن الكتابة بعد النبوة وإنما لم يحسنها قبل البعثة.
وأما كيفية البحث فيقدم أولا من الذي يبحث عنه ومتى يبحث عنه، وجملته أن
الشهود ضربان: من له شدة عقول يعني وفور عقل وضبط وحزم وجودة تحصيل، ومن ليس
لهم ذلك من شدة عقول يعني هو عاقل إلا أنه ليس بكامل العقل. جميع هذا ذكره
شيخنا في مبسوطه ولا أرى به بأسا.
وإذا شهد عنده من يتتعتع في شهادته أو يتلعثم
معنى يتتعتع قال الجوهري صاحب كتاب الصحاح: التعتعة في الكلام التردد فيه من
حصر أو عي، وقال أيضا: قال أبو زيد: تلعثم الرجل في الأمر إذا تمكث فيه وتأنى.
فلا يسدده ولا يترك أحدا يلقنه بل يتمهل عليه حتى يفرع من شهادته، فإذا فرع فإن
كانت شهادته موافقة للدعوى قبلها وحكم بها وإلا طرحها.
ومتى أراد الاحتياط والأخذ بالجزم في قبول الشهادة ينبغي له أن يفرق بين الشهود
ويستدعي واحدا واحدا ويسمع شهادته ويثبتها عنده ويقيمه ويحضر الآخر فيسمع
شهادته ويثبتها ثم يقابل بين الشهادات، فإن اتفقت قابلها مع دعوى المدعي فإن وافقها
حكم بها بعد سؤال صاحب الحق على ما قدمناه، وإن اختلفت طرحها ولم يلتفت إليها
وكذلك إن اتفقت غير أنها لم توافق الدعوى طرحها أيضا ولم يعمل بها، وهذا حكم
سائر في جميع الأحكام والحقوق من الديون والأملاك والعقود والدماء والفروج والقصاص
والشجاج فإن الأحوط فيها أجمع أن يفرق بين الشهود، وإن جمع بينهم وسمع شهادتهم
لم يكن ذلك مما يوجب رد شهادتهم ولا موجبا الحكم بخلافها غير أن الأحوط ما
قدمناه.
244

ومن شهد عنده شاهدان عدلان على أن حقا ما لزيد وجاء آخران فشهدا أن ذلك
الحق لعمرو، فإن كانت أيديهما. خارجتين منه فينبغي للحاكم أن يحكم لأعدلهما
شهودا، فإن تساويا في العدالة كان الحكم لأكثرهما شهودا مع يمينه بالله تعالى إن الحق
له، فإن تساويا في العدالة والعدد أقرع بينهما فمن خرج عليه حلف وكان الحكم له،
فإن امتنع من خرج اسمه في القرعة من اليمين حلف الآخر وكان الحكم له، فإن امتنعا
جميعا من اليمين كان الحق بينهما نصفين.
ومتى كان مع واحد منهما يد متصرفة
قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: فإن كانت البينة تشهد بأن الحق ملك له فقط - خفيفة
الطاء ساكنة وهي بمعنى حسب - وتشهد للآخر بالملك أيضا انتزع الحق من اليد
المتصرفة وأعطي اليد الخارجة، وإن شهدت البينة لليد المتصرفة بسبب الملك من بيع أو
هبة أو معاوضة كانت أولى من اليد الخارجة.
قال محمد بن إدريس: والذي يقوى في نفسي وأعمل عليه وأفتى به أن اليد الخارجة في
المسألتين معا يسلم الشئ إليها وهي أحق من اليد المتصرفة، والبينة بينتها كيف ما
دارت القصة هذا الذي يقتضيه أصول مذهب أصحابنا بغير خلاف بين المحققين منهم،
ولقوله ع: البينة على المدعي وعلى الجاحد اليمين، فجعل ع البينة
بينة المدعي وفي جنبته فلا يجوز أن يسمع بينة الجاحد سواء كان معه سبب ملك أو
غيره، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب البيوع.
وجملة القول في ذلك وعقد الباب أن نقول: إذا تنازعا عينا وهي في يد أحدهما وأقام كل
واحد منهما بينة بما يدعيه من الملكية انتزعت العين من يد الداخل وأعطيت الخارج،
وكانت بينة الخارج أولى وهي المسموعة سواء شهدت بينة الداخل بالملك بالإطلاق أو
بالأسباب بقديمه أو بحديثه كيف ما دارت القصة، فإن بينة الخارج أولى على الصحيح
من المذهب وأقوال أصحابنا، ولقوله ع المجمع عليه من الفريقين المخالف
والمؤالف المتلقى عند الجميع بالقبول وهو: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه،
فقد جعل ع البينة في جنبة المدعي بغير خلاف.
فأما إن كانت العين المتنازع فيها خارجة من يدي المتنازعين وهي في يد ثالث غيرهما ثم
245

أقام كل واحد منهما بينة بها فإن أصحابنا يرجحون بكثرة الشهود، فإن استويا في
الكثرة رجحنا بالتفاضل في عدالة البينتين فيحكم في المال المتنازع فيه وتقدم بينة
صاحب الترجيح مع يمينه، فإن استويا في جميع الوجوه فالحكم عند أصحابنا المحصلين:
القرعة على أيهما خرجت أعطي وحلف الآخر أنه يستحقه وهو له.
فإن لم يكن ترجيح وهو في يد ثالث وأقام أحدهما بينة بقديم الملك والآخر بحديثه
وكل منهما يدعي أنه ملكي الآن وبينة كل واحد منهما تشهد بأنه ملكه الآن غير أن
إحدى البينتين تشهد بالملكية الآن وبقديم الملك والأخرى تشهد بالملكية الآن وبحديث
الملك مثاله: أن إحدى البينتين تشهد بالملك منذ سنتين والأخرى منذ سنة، فالبينة بينة
قديم الملك وهي المسموعة والمحكوم بها دون بينة حديث الملك لأن حديث الملك لا يملكه
إلا عن يد قديمة فهو مدعي الملكية عنه، ولا خلاف أنا لا نحكم بأنه ملك عنه لأنه لو
كان عنه ملك لوجب أن يكون الرجوع عليه بالدرك، فإذا لم يحكم بأنه عنه ملك بقي
الملك على صاحبه حتى يعلم زواله عنه وكذلك تكون بينة صاحب السبب أولى في هذه
المسألة إذا كانت العين المتنازع فيها في يد ثالث وخارجة من أيديهما عند بعض
أصحابنا والأقوى عندي استعمال القرعة هاهنا وألا يجعل لصاحب السبب هاهنا
ترجيح لأن الترجيح عندنا ما ورد إلا بكثرة الشهود، فإن تساووا في العدد فأعدلهما
شهودا - والمراد بأعدلهما في هذه المواضع أن البينتين جميعا شرائط العدالة فيهما إلا أن
إحديهما أكثر مواظبة على الأعمال الصالحات المندوبات وإن كانت الأخرى غير مخلة
بواجب ولا مرتكبة لقبيح، وليس المراد أن إحديهما فاسقة والأخرى عادلة لأن لفظة
أفضل في لسان العرب للمشاركة في الشئ والزيادة عليه فمن ظن أن المراد بأعدلهما
شهودا غير ما قلناه فقد أخطأ خطأ فاحشا - وبقديم الملك على ما دللنا عليه، ولا ترجيح
بغير ذلك عند أصحابنا.
والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا فلم يبق إلا استعمال القرعة لإجماعهم على
أن كل أمر مشكل فيه القرعة إلا أن يكون مع ذلك الأمر مرجح من المرجحات المجمع
عليها وهي المقدم ذكرها من كثرة العدد أو أعدلهما شهودا أو بقديم الملك، ولو قلنا:
نرجح بالسبب إذا كان في يد ثالث، لكان قويا وبه أفتى لأن فيه جمعا بين الأحاديث
والروايات وعليه الاجماع، فإن المحصلين من الأصحاب مجمعون عليه قائلون به، ولأن
246

السبب أولى من قديم الملك وقد رجحنا بقديم الملك لأن من شهد بالنتاج والبيع والهبة
نفي أن يكون ملكا قبله لأحد أعني النتاج وكان أقوى فليتأمل ذلك، فهذا تحقيق
المسائل المختلفة الموضوعة في الجزء الثالث من مسائل الخلاف لشيخنا أبي جعفر فإنها
مختلفة الألفاظ وتحريرها ما ذكرناه.
والذي أعتمده واعتقده وأعمل عليه بعد هذه التفاصيل جميعها ألا ترجيح إلا بالعدد
وبالتفاضل في عدالة البينتين فحسب دون الأسباب وقدم الأملاك لأن القياس عندنا
باطل على ما قدمناه، وإنما فصلنا ما فصلناه على وضع شيخنا في مسائل خلافه وهي من
فروع المخالفين ومذاهبهم فحكاها واختارها دون أن يكون مذهبا لنا أو لبعض مشيختنا
ولا وردت به أخبارنا ولم يذهب إليه أحد من أصحابنا سوى شيخنا أبي جعفر في كتابيه
الفروع مبسوطه ومسائل خلافه، وعادته في هذين الكتابين وضع أقوال المخالفين واختيار
بعضها فليلحظ ذلك.
فأما إن كانت يدهما معا عليها - كالدار هما فيها والباب يدهما جميعا عليه كان
بينهما - ولا بينة لواحد منهما حلف كل واحد منهما لصاحبه وكان الشئ بينهما
نصفين، وقد روى أصحابنا: أنه إذا كانت جارية مع رجل و امرأة وادعى الرجل أنها مملوكته
وادعت المرأة أنها بنتها وهي حرة وأنكرت الجارية الدعويين جميعا كان على الرجل
البينة بأن هذه الجارية مملوكته لم يبعها ولم يعتقها، فإن أقام بذلك بينة سلمت إليه
وكذلك إن أقرت الجارية أنها مملوكته وكانت بالغا سلمت إليه، وإن لم يقم بينة ولا
تكون هي بالغا أو تكون بالغا غير أنها لا تقر انتزعت من يده، فإن أقامت المرأة البينة
أنها بنتها سلمت إليها إذا كانت صغيرة وإن لم تكن لها بينة تركت الجارية تمضى حيث
شاءت.
ومتى كانت جارية بين شركاء فوطئوها كلهم في طهر واحد وحملت وولدت فادعى
كل واحد منهم أن الولد له أقرع بينهم فمن خرج اسمه ألحق الولد به وغرم للباقين قيمة
الولد على قدر ما لهم من الجارية ورد مع ذلك أيضا ثمن الجارية على قدر حصصهم.
قال محمد بن إدريس: وهذا يكون على التقريب وأنهم في يوم واحد أو لا يعرف المتقدم
247

من المتأخر واشتبه الأمر وأشكل وإلا إذا كان الطهر مثلا شهرا أو شهرين لأن الطهر لا
حد لأكثره عندنا فوطئها واحد منهم في أول الشهر والثاني في آخره ثم وضعت الولد
لستة أشهر منذ يوم وطئ الأول فهو للأول دون الباقين بغير خلاف فليلحظ ذلك.
ومتى سقط بيت على قوم فماتوا وبقي منهم صبيان أحدهما مملوك والآخر حر والمملوك
عبد لذلك الحر ولم يتميز أحدهما من الآخر أقرع بينهما فمن خرج اسمه فهو الحر وكان
الآخر مملوكا له.
وإذا قال انسان: أول مملوك أملكه فهو حر، وجعل ذلك نذرا ثم ملك جماعة في وقت
واحد أقرع بينهم وأعتق من خرج اسمه
على ما ورد في بعض الأخبار وأورده شيخنا في نهايته.
والذي يقوى في نفسي أنه إذا ملك جماعة لا ينعتق منهم أحد ولا يقرع على واحد منهم
لأن شرط النذر ما وجد وهو قول الناذر: أول مملوك أملكه، وهذا ما ملك واحدا قبل
الآخر، والأصل بقاء الرق وحصول الملك فمن أخرجه من الملك يحتاج إلى دليل ولا دليل
على ذلك من كتاب ولا سنة ولا إجماع، وأخبار الآحاد لا يلتفت إليها ولا يعول عليها،
بقي معنا من الأدلة الأصل وهو بقاء الملك وثبوته، وشيخنا أورده إيرادا لا اعتقادا كما
أورد أمثاله في كتاب النهاية وإن كان قوله وعمله واعتقاده وفتواه بخلافه، وقد رجع
شيخنا عن هذا بعينه في الجزء الرابع من المبسوط.
وإذا أوصى الانسان أن يعتق ثلث عبيده ولم يعينهم أقرع بينهم وأعتق من خرج
اسمه.
وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطه في آخر الجزء السادس: ومتى قلنا: إنه من الثلث أقرع
بينهما فمن خرج اسمه أعتق ورق الآخر هذا إذا كانت قيمة كل واحد منهما ثلث
ماله، فأما إذا اختلفت القيمتان وكانت قيمة أحدهما ثلث وقيمة الآخر سدس ماله فإذا
أقرعنا بينهما مع تساوى القيمة أقرعنا هاهنا فإن خرجت القرعة لمن قيمته الثلث عتق
ورق الآخر كله وإن خرجت القرعة لمن قيمته السدس عتق كله وكملنا الثلث من الآخر
فيعتق من الآخر نصفه.
فأما المسألة الأولى فأوردها في نهايته تحمل على أن ثلثهم يكون بمقدار ثلثه أو أقل منه،
248

وما ذكره في مبسوطه يحمل إذا كان ثلث العبد يزيد على ثلث الميت وهو ثلث التركة
فتجزئ العبيد بالقيمة لا بالرؤوس ويكون الحكم على ما قاله رحمه الله.
وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال ولا ما للنساء أقرع عليه فإن خرج سهم الرجال
ألحق بهم وورث ميراثهم وإن خرج سهم النساء ألحق بهن وورث ميراثهن، وكل أمر
مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه فينبغي أن يستعمل فيه القرعة لما روي عن الأئمة الأطهار
وتواترت به الآثار وأجمعت عليه الشيعة الإمامية.
وقال شيخنا في مبسوطه: إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر، فهلك السيد واختلف
الوارث والعبد فأقام الوارث البينة أنه مات حتف أنفه وأقام العبد البينة أنه مات
بالقتل، قال قوم: يتعارضان ويسقطان ويسترق العبد، وقال قوم: بينة العبد أولى لأن
موته قتلا يزيد على موت حتف أنفه لأن كل مقتول ميت وليس كل ميت مقتولا فكان
الزائد أولى ويعتق العبد، وعندنا تستعمل فيه القرعة فمن خرج اسمه حكم ببينته.
قال محمد بن إدريس: والأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا أنه يعتق العبد لأن هذا ليس
بأمر مشكل لأن بينة العبد شهدت بأمر زائد قد يخفى على بينة الوارث، وهكذا قال رحمه
الله في مبسوطه في رجل قال لعبد له: إن مت في رمضان فأنت حر، وقال لعبد له آخر:
إن مت في شوال فأنت حر، فمات السيد واختلف العبدان فأقام كل واحد منهما البينة
على ما ادعاه، قال محمد بن إدريس: الصحيح أنه يقبل بينة رمضان لأن معها زيادة وهو
أن يخفى على بينة شوال موته في رمضان ولا يخفى على بينة رمضان موته في شوال فكان
صاحب رمضان أولى، وليس هذا من الأمور المشكلة بقبيل.
وقد بينا في كتاب الشهادات ما يقبل فيه شهادة الصبيان وينبغي أن يفرق بينهم في
الشهادة ويؤخذ بأول قولهم ولا يؤخذ بثانيه، ومتى اختلفوا لم يرجع إلى شئ من أقوالهم
ولا يعتد أيضا بشئ من أقوالهم التي يرجعون إليها من الأقوال الأولة.
وإذا بحث الحاكم عن عدالة الشاهد فإن الجرح يقدم على التزكية ولا يقبل الجرح
إلا مفسرا وتقبل التزكية من غير تفسير،
وقال قوم: يقبل الأمران معا مطلقا، والصحيح الأول لأن الناس يختلفون فيما هو جرح
وما ليس بجرح فإن أصحاب الشافعي لا يفسقون من شرب النبيذ ومالك يفسقه، ومن
249

نكح المتعة في الناس من فسقه وعندنا أن ذلك لا يوجب التفسيق بل هو مباح طلق وربما
كان مستحبا فإذا كان كذلك لم يقبل الجرح إلا مفسرا لئلا يجرحه بما هو جرح عنده
وليس بجرح عند الحاكم.
ويفارق الجرح التزكية لأن التزكية إقرار صفة على الأصل فلهذا قبلت من غير تفسير،
والجرح إخبار عما حدث من عيوبه وتجدد من معاصيه فبان الفصل بينهما.
ولا يقبل الجرح ولا التزكية حتى يكون الشاهد بهما من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة
المتقادمة هذا في التزكية خاصة. والفصل بينهما أن الجرح يعرف في لحظة وهو أن
يرتكب ما يفسق به فيسقط شهادته ولو كان قبل ذلك أعدل الناس فلهذا لم يفتقر إلى
الخبرة المتقادمة، وليس كذلك التزكية لأنه لا يكون عدلا بأن يراه في يومه عدلا لأن
العدل من تاب عن المعاصي وطالت مدته في الطاعات إلا أن يتوب على ما قدمناه.
لا يجوز للحاكم أن يرتب شهودا يسمع شهادتهم دون غيرهم بل يدع الناس فكل
من شهد عنده فإن عرفه وإلا سأل عنه على ما قلناه،
وقيل: إن أول من رتب شهودا لا يقبل غيرهم إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي،
والصحيح ما قلناه لأن الحاكم إذا رتب قوما فإنما يفعل هذا بمن هو عدل عنده وغير من
رتبه كذلك مثله أو أعدل منه، فإذا كان الكل سواء لم يجز أن يخص بعضهم بالقبول
دون بعض ولأن فيه مشقة على الناس لحاجتهم إلى الشهادة بالحقوق في كل وقت من
نكاح وغصب وقتل وغير ذلك، فإذا لم يقبل إلا قوما دون قوم شق على الناس.
وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا يكتب بين يديه، وصفة الكاتب أن يكون عدلا
عاقلا، ولا يجوز له أن يتخذ كافرا بلا خلاف لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، وكاتب الرجل بطانته، ولقوله تعالى: يا
أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة،
وكاتب الرجل وليه وصاحب سره وعليه إجماع الصحابة. ولا ينبغي لقاض ولا وال من
ولاة المسلمين أن يتخذ كاتبا ذميا ولا يضع الذمي في موضع يفضل به مسلما، وينبغي
أن يعز المسلمين لئلا يكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم.
250

ولا يقبل عندنا كتاب قاض إلى قاض بغير خلاف بيننا وإجماعنا منعقد على ذلك،
وما يرويه المخالف في ذلك فكله أخبار آحاد لا يلتفت إليها ولا يعرج عليها لأن العمل
يجب أن يكون تابعا للعلم ولا علم في ذلك ولا دلالة عليه.
وإذا كتب الكتاب فأدرجه وختمه ثم استدعاهما فقال: هذا كتابي قد أشهدتكما على
نفسي بما فيه، لم يصح ولا يصح هذا الحمل ولا العمل عليه، وكذلك إن قرأه عليهما
عندنا لما قدمناه فهذا فرع يسقط عنا. وفي الوصايا فإنه لو أوصى بوصيته وأدرج الكتاب
وأظهر للشهود مكان الشهادة وقال: قد أوصيت بما أردته في هذا الكتاب ولست أختار
أن يقف أحد على حالي وتركتي قد أشهدتكما على بما فيه، لم يصح هذا الحمل بلا
خلاف. الذي يقتضيه مذهبنا أن الإمام إذا مات ينعزل النائبون عنه إلا أن يقرهم الإمام
القائم مقامه.
المشتري للعقار إذا أشهد على البائع بالبيع وطالبه بكتاب الأصل لم يجب عليه أن
يعطيه إياه لأنه ملكه ولأنه حجته عند الدرك.
وإذا كان لجماعة على رجل حقوق من جنس واحد أو أجناس فوكلوا من ينوب
عنهم في الخصومة فادعى الوكيل عليه الحقوق فإن اعترف فلا كلام وإن أنكر وكانت
هناك بينة حكم عليه بها فإن لم يكن بينة فالقول قوله مع يمينه، فإن أراد كل واحد من
الجماعة أن يستحلفه على الانفراد كان له لأن اليمين حق له فكان له أن ينفرد
باستيفائه، وإن قالت الجماعة: قد رضينا منه بيمين واحدة عن الكل لكلنا،
قال قوم: يستحلفه لأنه لما صح أن يثبت الحقوق عليه بالبينة الواحدة صح أن يسقط
الدعوى باليمين الواحدة، وقال آخرون: لا يجوز أن يقتصر الحاكم منه على يمين واحدة،
والأول هو الصحيح لأن اليمين حق لهم فإذا رضوا بيمين واحدة فينبغي أن يكتفى بها.
إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل فإن كان حاضرا أعدى عليه وإن كان
غائبا أحضره سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم،
وليس في ذلك ابتذال لأهل الصيانات والمروءات فإن عليا ع حضر مع يهودي
عند شريح وحضر عمر مع أبي عند زيد بن ثابت ليحكم بينهما في داره، وحج أبو جعفر
251

المنصور ثاني الخلفاء من العباسيين فحضر مع حمالين مجلس الحكم عند حاكمه لخلف
جرى بينهم، فإذا ثبت هذا، فمتى حضر قيل له: ادع الآن.
فإذا ادعى عليه لم يسمع الدعوى إلا محررة، فأما إن قال: لي عنده ثوب أو فرس أو
حق، لم تسمع دعواه لأن دعواه لها جواب فربما كان بنعم فلا يمكن الحاكم أن يقضي
به عليه لأنه مجهول، قالوا: أ ليس الإقرار بالمجهول يصح؟ هلا قلتم: إن الدعوى المجهولة
تصح؟ قلنا: الفصل بينهما أنه إذا أقر بمجهول لو كلفناه تحرير الإقرار ربما رجع عن
إقراره فلهذا ألزمنا المجهول به، وليس كذلك مسألتنا لأنه إذا ردت الدعوى عليه
ليحررها لم يرجع فلهذا لم يسمع إلا معلومة هذا كله ما لم تكن وصية.
فإن كانت الدعوى وصية سمع الدعوى فيها، وإن كانت مجهولة والفصل بينهما
وبين سائر الحقوق أن تمليك المجهول بها يصح فصح أن تدعي مجهولة وليس كذلك غيرها
لأن تمليك المجهول به لا يصح فلهذا لم تقبل الدعوى به إلا معلومة، فإذا ثبت ذلك فإن
حرر الدعوى فلا كلام وإن لم يحررها ولم يحسن ذلك فلا يجوز للحاكم أن يلقنه
تحريرها.
فإن كانت الدعوى أثمانا فلا بد من ذكر ثلاثة أشياء تكون معلومة وهو أن يذكر:
القدر والجنس والنوع. قالوا: أ ليس لو باع ثوبا بألف مطلقا انصرف إلى نقد البلد هلا
قلتم: تسمع الدعوى مطلقا وينصرف إلى نقد البلد؟ قلنا: الفصل بينهما أن الدعوى
إخبار عما كان واجبا عليه وذلك يختلف في وقت وجوبه باختلاف الأزمان والبلدان،
فلهذا لم تسمع منه إلا محررة وليس كذلك الشراء لأنه إيجاب في الحال فلهذا انصرف إلى
نقد البلد.
فأما إن كانت غير الأثمان لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون عينا قائمة أو
هالكة، فإن كانت عينا قائمة فإن كانت مما يمكن ضبطها بالصفات ضبطها وإن لم
يمكن ضبط الصفات كالجواهر ونحوها ذكر قيمتها، وإن كانت تالفة فإن كان لها مثل
كالحبوب والأدهان وصفها وطالب بها لأنها تضمن بالمثل وإن لم يكن لها مثل
252

كالحيوان والثياب فلا بد من ذكر القيمة.
كل موضع تحررت الدعوى فيه فليس للحاكم مطالبة المدعى عليه بالجواب بغير
مسألة المدعي لأن الجواب حق المدعي فليس للحاكم المطالبة به من غير مسألته كنفس
الحق، فإذا أقر بما ادعاه خصمه لم يكن للحاكم أن يحكم عليه به إلا بمسألة المقر له به
لأن الحكم عليه به حق له فلا يستوفيه إلا بأمره كنفس الحق، والحكم أن يقول له:
ألزمتك ذلك وقضيت عليك به، أو يقول: أخرج له منه، على ما قدمناه أولا وشرحناه.
إذا أراد الإمام أن يولي قاضيا فإن وجد متطوعا به ولاه ولا يولي من يطلب عليه
رزقا وإن لم يجد متطوعا كان له أن يولي القضاء ويرزقه من بيت المال، وروي: أن
عليا ع ولى شريحا وجعل له في كل سنة خمسمائة درهم وكان عمر قبله جعل
له كل شهر مائة درهم.
عندنا للحاكم أن يقضي بعلمه في جميع الأشياء لأنه لو لم يقض بعلمه أفضي إلى
إيقاف الأحكام أو فسق الحكام لأنه إذا طلق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ثم جحد
الطلاق كان القول قوله مع يمينه، فإن حكم بغير علمه وهو استحلاف الزوج وتسليمها
إليه فسق وإن لم يحكم وقف الحكم وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ثم جحد،
وإذا غصب من رجل ماله ثم جحد يفضى إلى ما قلناه.
الحقوق ضربان: حق للآدميين وحق لله. فإن ادعى حقا لآدمي كالقصاص وحد
القذف والمال فاعترف به أو قامت به البينة لم يجز للحاكم أن يعرض له بالرجوع عنه
والجحود لأنه لا ينفعه ذلك لأنه إذا ثبت باعترافه لم يسقط برجوعه وإن كان قد ثبت
بالبينة لم يسقط عنه بجحوده، وإن كان حقا لله كحد الزنى والشرب فإن كان ثبوته
عند الحاكم بالبينة لم يعرض له بالرجوع لأن الرجوع لا ينفعه، وإن كان ثبوته باعترافه
جاز للحاكم أن يعرض له بالرجوع لكنه لا يصرح بذلك لأن فيه تلقين الكذب وإنما قلنا
بجوازه لأن ماعزا لما اعترف قال له النبي ع: لعلك قبلتها لعلك لمستها.
إذا شهد شاهدان عند الحاكم بحق وكانا عدلين حين الشهادة ثم فسقا قبل الحكم
بشهادتهما أو بعد الحكم بشهادتهما، فإن فسقا قبل الحكم بشهادتهما قال قوم من
253

المخالفين: لا يحكم بشهادتهما، وقال آخرون: يحكم، وهذا الذي يقتضيه مذهبنا لأن
المعتبر في العدالة حين الأداء ولا يراعى ما قبل ذلك ولا ما بعده. فإن فسقا بعد الحكم
وقبل الاستيفاء فإن كان حقا لآدمي فلا ينقض وأمضي وإن كان حقا لله فإنه لا يمضى
لقوله ع: ادرءوا الحدود بالشبهات، وحدوث الفسق شبهة ويفارق المال لأن
المال لا يسقط بالشبهة.
فأما إن قامت البينة بأنهما كانا فاسقين قبل الشهادة والإقامة لها والحكم بها، فإن
قامت البينة عنده أنهما شربا الخمر أو قذفا حرا قبل الحكم بشهادتهما بيوم قال قوم:
ينقض الحكم، وهو الذي يقتضيه مذهبنا.
من ادعى مالا أو غيره ولا بينة له فتوجهت اليمين على المدعى عليه فنكل عنها فإنه
لا يحكم عليه بالنكول بل يلزم اليمين المدعي فيحلف ويحكم له بما ادعاه،
هذا هو مذهب أصحابنا، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته: فإذا نكل لزمه الحق، وأطلق
ذلك ورجع في مسائل الخلاف والمبسوط إلى ما اخترناه، والمعنى فيما ذكره في نهايته من
قوله: لزمه الحق، يعني أن بنكوله صارت اليمين على المدعي بعد أن كانت عليه، وكل
من كانت عليه اليمين فهو أقوى جنبة من صاحبه والقول قوله مع يمينه لا أنه أراد بمجرد
النكول يقضي الحاكم عليه بالحق من دون يمين خصمه.
فأما حقوق الله فعلى ضربين: حق لا يتعلق بالمال وحق يتعلق بالمال، فأما ما لا
يتعلق بالمال كحد الزنى وشرب الخمر وغير ذلك فلا يسمع فيه الدعوى ولا يلزم الجواب
ولا يستحلفه لأن ذلك مبني على الإسقاط.
إذا مات رجل وخلف طفلا وأوصى إلى رجل بالنظر في أمره فادعى الوصي دينا على
رجل فأنكر فإن حلف سقطت الدعوى وإن لم يحلف فلا يمكن رد اليمين على الوصي
لأنه لا يجوز أن يحلف عن غيره فيوقف إلى أن يبلغ الطفل ويحلف ويحكم له.
المستحب أن لا يكون الحاكم جبارا متكبرا عسوفا لأنه إذا عظمت هيبته لم يلحن
ذو الحجة بحجته هيبة له، ولا يكون ضعيفا مهينا لأنه لا يهاب فربما خرق بمجلسه
بالمشاتمة، ويكون فيه شدة من غير عنف ولين من غير ضعف فإن ذلك أولى بالمقصود.
254

ومتى حدثت حادثة فأراد أن يحكم فيها فإن كان عليها دليل من نص كتاب أو
سنة مقطوع بها أو إجماع عمل عليه،
قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطه: وعندنا أن جميع الحوادث هذا حكمها فلا يخرج عنها
شئ، قال رحمه الله: فإن شذت كانت مبقاة على الأصل، وهذا هو الصحيح الذي
يقتضيه مذهبنا الذي لا يجوز العدول عنه.
وقال شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من الاستبصار في باب البينتين: إذا تقابلتا، أورد
أخبارا تتضمن أن قوما اختصموا في بغلة أو دابة وأنهم أنتجوها على مذودهم.
قال محمد بن إدريس: المذود - بالميم والذال المعجمة والواو والدال غير المعجمة - المعلف
والمربط وهو مشتق من ذدت الشئ إذا حمى عنه وطرد عنه فهو مفعل من ذاد يذود
فكأنما البهيمة تحمى وتطرد عن مربطها ومعلفها.
قال الجاحظ في كتاب الحيوان: أورد في معنى البراغيث ثلاثة أبيات وهي:
هنيئا لأهل الري طيب بلادهم وإن أمير الري يحيى بن خالد
بلاد إذا جن الظلام تقاقرت براغيثها من بين مثنى وواحد
ديازجة سود الجلود كأنها بغال بريد أرسلت من مذاود
وقال المفضل بن سلمة في كتاب البارع: المرود - بالراء موضع الذال - الحبل الذي ترود
فيه أي تذهب وتجئ وأنشد بيتا يصف نشاط فرس:
قاظ بذي الأري فالمنحنى يقتلع الأري بالمرود
قال: يعني بالمرود مع المرود يعني قاظ بهذين الموضعين والأري محبس الدابة.
باب كيفية الاستحلاف:
قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: قد بينا في كتاب الأيمان والنذور ما يجوز أن يحلف
الانسان به وما لا يجوز، وما إذا حلف به كان حالفا وما لا يكون كذلك.
قال محمد بن إدريس: كتاب الأيمان والنذور في الجزء الثاني من نهايته فكيف يقول:
قد بينا، وبعد ما وصل إليه ولا صنفه؟ ولقائل أن يعتذر ويقول: أشار إلى الجملة
التي يريد أن يعملها ويصنفها، وذلك جائز وكثير ما قالت ذلك العلماء في تصانيفهم،
255

ولأبي العباس ثعلب في أول الفصيح مثل هذا على ما تعذر له، ويقال: ويجوز أيضا
أنه كان قد صنفه قبل هذا لأنه لا يمنع من ذلك مانع.
وينبغي للحاكم إذا أراد أن يحلف الخصم أن يخوفه بالله تعالى ويذكره العقاب
الذي يستحقه على اليمين الكاذبة والوعيد عليها، فإن أنجع ذلك وراجع الحق حكم بما
يقتضيه الحال مما يوجبه الشرع وإن أقام على الانكار واليمين استحلفه بالله تعالى أو
بشئ من أسمائه مما ينعقد اليمين به.
ولا ينعقد اليمين عند أهل البيت ع بشئ من المحدثات من الكتب
المنزلة ولا المواضع المشرفة ولا الرسل المعظمة ولا الأئمة المنتجبة فإن اليمين بجميع ذلك
بدعة في شريعة الاسلام، ولا يحلف بالبراءة من الله ولا من رسله ولا من أئمته ولا من
الكتب ولا بالكفر ولا بالعتق ولا بالطلاق فإن ذلك كله غير جائز وإن اقتصر على أن
يقول له: قل والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك
المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي على ما ادعاه ولا له قبلي
حق بدعواه، فإذا حلف فقد برئت ذمته من ظاهر الحكم إن كان كاذبا، وإن كان
صادقا فقد برئت ذمته ظاهرا وباطنا وكان المعرض له آثما.
واستحلاف أهل الكتاب يكون أيضا بالله أو بشئ من أسمائه وقد روي جواز أن
يحلفوا بما يرون هم الاستحلاف به ويكون الأمر في ذلك إلى الحاكم وما يراه أنه أردع لهم
وأعظم عليهم، ويستحب أن يكون الاستحلاف في المواضع المعظمة كالقبلة وعند المنبر
والمواضع التي يرهب من الجرأة على الله تعالى.
وإذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس حلفه بالإشارة والإيماء إلى أسماء الله تعالى
ويوضع يده على اسمه سبحانه في المصحف، ويعرف يمينه على الانكار كما يعرف
إقراره وإنكاره كما قدمنا القول في ذلك وشرحناه، وإن لم يحضر مصحف وكتب اسم
الله تعالى ووضعت يده عليه أيضا جاز.
وينبغي أن يحضر يمينه من له عادة بفهم أغراضه وإيمائه وإشارته، وقد روي: أنه
256

يكتب نسخة اليمين في لوح ثم يغسل ذلك اللوح ويجمع ذلك الماء ويؤمر بشربه فإن
شرب كان حالفا وإن امتنع من شربه ألزم الحق بعد رد اليمين على خصمه، على ما
قررناه في النكول. ويمكن حمل هذه الرواية والعمل بها على أخرس لا يكون له كتابة
معقولة ولا إشارة مفهومة والأول على من يكون ذلك على ما أسلفنا القول فيه.
وينبغي للحاكم أن لا يحلف أحدا إلا في مجلس الحكم، فإن كان هناك من توجهت
عليه اليمين ومنعه من حضور المجلس مانع من مرض أو عجز أو غير ذلك جاز للحاكم أن
يستخلف من ينوب عنه في المضي إليه واستحلافه على ما تقتضيه شريعة الاسلام.
والمرأة إذا وجبت عليها اليمين استحلفها الحاكم في مجلس الحكم وعظم عليها
الأيمان، فإن كانت المرأة لم تجر لها عادة بالخروج من منزلها إلى مجمع الرجال أو كانت
مريضة أو بها علة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء أنفذ الحاكم إليها من ينظر بينها
وبين خصمها من ثقاته وعدوله وأهل العلم والفقه عنده، فإن توجهت عليها اليمين
استحلفها في منزلها ولم يكلفها الخروج إلى مجمع الرجال، وإن توجه عليها الحق ألزمها
الخروج منه على ما يقتضيه شرع الاسلام وعدله، فإن امتنعت من ذلك كان حكمها
حكم الرجال وجاز له حبسها في الموضع الذي يجوز له حبس الرجال.
باب النوادر في القضايا والأحكام:
روى أبو شعيب المحاملي عن الرفاعي قال: سألت أبا عبد الله ع عن رجل قبل
رجلا يحفر له بئرا عشر قامات بعشرة دراهم فحفر له قامة ثم عجز، قال: تقسم
عشرة على خمسة وخمسين جزءا فما أصاب واحدا فهو للقامة الأولة والاثنين للاثنين
والثلاثة للثلاثة وعلى هذا الحساب إلى عشرة.
قال محمد بن إدريس: أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته، وقال في مبسوطه في
الجزء الثالث في كتاب الإجارات قال: يجوز الاستئجار لحفر البئر غير أنه لا يجوز حتى
يكون المعقود عليه معلوما ويصير معلوما بأحد أمرين: بتقدير المدة وتقدير نفس العمل،
257

فأما المدة فيكفي أن يقول: اكتريتك لتحفر لي بئرا يوما أو عشرة، وما يقدره لأن المعقود
عليه يصير معلوما محددا بذلك المقدار، وإن قدر العمل فلا بد من مشاهدة الأرض التي
يريد أن يحفر فيها لأنها تختلف في الرخاوة والصلابة، ولا بد من تقدير العرض والعمق
فيقول: قدر عرضه كذا ذراعا وقدر عمقه كذا وكذا ذراعا، وتقدير ذلك بالذراع الذي
هو معتاد بين الناس كما نقول في المكيال. فإذا استأجره على ذلك وأخذ يحفرها فأنهار
عليه الجرف فحصل تراب الجرف في البئر فانطم بعضها كان على المستأجر اخراجه، ولا
يجب على الأجير لأنه ملك المستأجر حصل في تلك الحفرة فهو بمنزلة ما لو وقع فيها طعام له
أو دابة له أو تراب من موضع آخر، فإن وقع من تراب البئر فيها لزم الحفار اخراجه لأن
ذلك مما تضمنه العقد لأنه استؤجر ليحفر ويخرج التراب، فإن استقبله حجر نظرت فإن
أمكن حفره ونقبه لزمه وإن كان عليه مشقة فيه لأنه ألزم الحفر بالعقد ولزمه على اختلاف
حاله وإن لم يمكن حفره ولا نقبه انفسخ العقد فيما بقي ولا ينفسخ فيما حفر، على
الصحيح من الأقوال.
قال رحمه الله: وتقسط على أجرة المثل لأن الحفر يختلف فحفر ما قرب من الأرض أسهل
لأنه يخرج التراب من قرب وحفر ما هو أبعد أصعب، قال رحمه الله: نظر فإن كان أجرة
المثل على ما بقي عشرة وفيما حفر خمسة أخذ ثلث المسمى، قال رحمه الله: وقد روى
أصحابنا في مثل هذا مقدرا ذكرناه في النهاية، قال رحمه الله: وعلى هذا إن نبع الماء قبل
انتهاء الحد ولم يمكن الزيادة على الحفر فالحكم على ما ذكرنا في الحجر إذا استقبله ولم
يمكن حفره، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطه أوردناه حرفا فحرفا.
والذي يقوى في نفسي ما أورده في مبسوطه واختاره لأن الأدلة تقتضيه والأخبار والاعتبار
والنظر السليم يقويه ولا يرجع في مثل هذا الموضع إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما
ولا عملا وقد ضعفه شيخنا ولم يلتفت عليه وجعله رواية ولذلك أورده في أبواب النوادر
في نهايته ولم يورده غيره من أصحابنا المتقدمين عليه لا شيخنا المفيد ولا السيد المرتضى
ولا أمثالهما رحمهم الله جميعا.
وروى حماد بن عيسى عن أبي عبد الله ع: أن أمير المؤمنين ع
أتى بعبد لذمي قد أسلم، فقال: اذهبوا به فبيعوه من المسلمين وادفعوا ثمنه إلى صاحبه
ولا تقروه عنده.
258

قال محمد بن إدريس: هذه رواية صحيحة تعضدها الأدلة وهو قوله تعالى: ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.
وروى حريز - بالحاء غير المعجمة والراء والزاء - عن أبي عبيدة زياد بن عيسى
الحذاء قال: قلت لأبي جعفر وأبي عبد الله ع: رجل دفع إلى رجل ألف
درهم يخلطها بماله ويتجر بها، قال: فلما طلبها منه قال: ذهب المال وكان لغيره معه
مثلها ومال كثير لغير واحد، فقال: كيف صنع أولئك؟ فقال: أخذوا أموالهم، فقال أبو
جعفر وأبو عبد الله ع جميعا: يرجع عليه بماله ويرجع هو على أولئك بما أخذوا.
قال محمد بن إدريس: هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته، ووجه الفقه والفتيا عندي
على تسليم للخبر أن الأول دفع المال إليه فخلطه بغيره فلما خلطه بغيره فرط فيه بالخلط
فضمنه، وأصحاب الأموال الباقية خلط أموالهم بإذنهم والأول خلط ماله في أموالهم بغير
إذنه فيجب عليه الضمان للأول جميع ماله، فلما أخذ أصحاب الأموال الذين أذنوا في
الخلط ورضوا به أموالهم على التمام والكمال فقد أخذوا ما لم يكن لهم بل الواجب
تسليم مال من لم يأذن بالخلط على الكمال ويدخل النقصان والخسران على الباقين،
فلما أخذوا المال رجع صاحب المال الذي لم يأذن بالخلط على المضارب المفرط بالخلط
بجميع ماله ورجع المضارب على من أخذ المال بقدر ما غرم، وقوله في الخبر: يخلطها بماله
ويتجر بها، المعنى فيه خلطها بماله واتجر بها وإن كان أتى به بلفظ الاستقبال فقد يأتي
المستقبل بمعنى الماضي والماضي بمعنى المستقبل وهذا كثير في كلام العرب والقرآن، قال
الله تعالى: ونادى أصحاب الأعراف، معناه وينادي، وقال الشاعر:
وانضخ جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخادم وذبائح
معناه فلقد كان بغير شك، فهذا فقه الحديث.
محمد بن إسماعيل عن جعفر بن عيسى قال: كتبت إلى أبي الحسن ع:
جعلت فداك المرأة تموت فيدعي أبوها أنه أعارها بعض ما كان عندها من متاع وخدم
أتقبل دعواه بلا بينة أم لا تقبل دعواه إلا ببينة؟ فكتب إليه: يجوز بلا بينة.
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: أول ما أقول في هذا الحديث أنه خبر واحد
لا يوجب علما ولا عملا وفيه ما يضعفه، وهو أن الكاتب الراوي للحديث ما سمع
259

الإمام يقول هذا ولا شهد عنده شهود أنه قاله وأفتى به، ولا يجوز أن يرجع إلى ما يوجد في
الكتب فقد يزور على الخطوط ولا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي دون ما يجده
بخطه بغير خلاف من محصل ضابط لأصول الفقه، ولقد شاهدت جميعة من متفقهة
أصحابنا المقلدين لسواد الكتب يطلقون القول بذلك، وأن أبا الميتة لو ادعى كل المتاع
وجميع المال كان قوله مقبولا بغير بينة وهذا خطأ عظيم في هذا الأمر الجسيم لأنهم إن
كانوا عاملين بهذا الحديث فقد أخطؤوا من وجوه:
أحدها: أنه لا يجوز العمل عند محصلي أصحابنا بأخبار الآحاد على ما كررنا القول فيه
وأطلناه.
والثاني: من يعمل بأخبار الآحاد لا يقول بذلك ولا يعمل به إلا إذا سمعه الراوي من
الشارع.
والثالث: أن الحديث ما فيه أنه ادعى أبوها جميع متاعها وخدمها وإنما قال: بعض ما
كان عندها، ولم يقل: جميع ما كان عندها، ثم إنه مخالف لأصول المذهب ولما عليه
إجماع المسلمين أن المدعي لا يعطي بمجرد دعواه، والأصل براءة الذمة وخروج المال من
مستحقه يحتاج إلى دليل، والزوج يستحق سهمه بعد موتها بنص القرآن فكيف يرجع عن
ظاهر التنزيل بأخبار الآحاد وهذا من أضعفها ولا يعضده كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا
إجماع منعقد.
فإذا خلا من هذه الوجوه بقي في أيدينا من الأدلة أن الأصل براءة الذمة والعمل بكتاب
الله وإجماع الأمة على أن المدعي لا يعطي بمجرد دعواه، ثم لم يورد هذا الحديث إلا
القليل من أصحابنا ومن أورده في كتابه ما يورده إلا في باب النوادر، وشيخنا المفيد
والسيد المرتضى لم يتعرضا له ولا أورداه في كتبهما وكذلك غيرهما من محققي أصحابنا،
وشيخنا أبو جعفر رحمه الله ما أورده في جميع كتبه بل في كتابين منها فحسب إيرادا لا
اعتقادا كما أورد أمثاله من غير اعتقاد لصحته على ما بيناه وأوضحناه في كثير مما تقدم
في كتابنا هذا، ثم شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه الله رجع عنه وضعفه في جوابات المسائل
الحائريات المشهورة عنه المعروفة.
وقد ذكر شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله في الرد على أصحاب العدد
الذاهبين إلى أن شهر رمضان لا ينقص قال: فأما ما تعلق به أصحاب العدد في أن شهر
260

رمضان لا يكون أقل من ثلاثين يوما فهي أحاديث شاذة قد طعن نقاد الآثار من الشيعة
في سندها وهي مثبتة في كتب الصيام في أبواب النوادر والنوادر هي التي لا عمل عليها،
هذا آخر كلامه رحمه الله، وهذا الحديث من رواه في كتابه ما يثبته إلا في أبواب النوادر،
ثم يحتمل بعد تسليمه وجها صحيحا وهو: يجوز بلا بينة، المراد به الاستفهام وأسقط
حرفه كما قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد القطر والحصى والتراب
ويحتمل أيضا أنه أراد بذلك التهجين والذم لمن يرى عطية ذلك بغير بينة بل بمجرد دعوى
الأب كما قال تعالى: ذق إنك أنت العزيز الكريم، عند قومك وأهلك فهذان وجهان
صحيحان يحتملها الكلام إذا سلم تسليم جدل.
قال: وكتبت إليه: إن ادعى زوج المرأة الميتة وأبو زوجها أو أم زوجها من متاعها أو
خدمها مثل الذي ادعى أبوها من عارية بعض المتاع أو الخدم أ يكونون بمنزلة الأب في
الدعوى؟ فكتب: لا.
وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن يزيد بن إسحاق عن هارون بن حمزة
قال: سألت أبا عبد الله عن رجل استأجر أجيرا فلم يأمن أحدهما صاحبه فوضع الأجر
على يد رجل فهلك ذلك الرجل ولم يدع وفاء فاستهلك الأجر، فقال: المستأجر ضامن
لأجرة الأجير حتى يقضي إلا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك فرضي بالرجل فإن فعل فحقه
حيث وضعه ورضي به.
قال محمد بن إدريس: فقه ذلك أن المستأجر إذا لم يقبض الأجير الأجرة ولا وكيل
الأجير فهو ضامن لها إلى أن يقبضها الأجير أو وكيله، ومن وضعها على يده فهو وكيل
للمستأجر دون الأجير فلأجل هذا كان ضامنا لها لأن الأجير لو طلبها ممن سلمت إليه
لم يسلمها، فأما إذا تسلمها الأجير أو أمر المستأجر أن يسلمها إلى شخص رضيه وهلكت
فإنها تكون من مال الأجير يهلك دون مال المستأجر لأنه لو طلبها لم يجز لمن هي عنده أن
يسلمها إليه.
وروى محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر ع يقول: قضى أمير المؤمنين
ع برد الحبيس وإنفاذ المواريث.
261

قال محمد بن إدريس: سألني شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصي المتكلم الرازي
رحمه الله عن معنى هذا الحديث وكيف القول فيه، فقلت: الحبيس معناه الملك
المحبوس على بني آدم من بعضنا على بعض مدة حياة الحابس دون حياة المحبوس عليه،
فإذا مات الحابس فإن الملك المحبوس يكون ميراثا لورثة الحابس وينحل حبسه على
المحبوس عليه فقضى ع برده إلى ملك الورثة لأنه ملك مورثهم، وإنما جعل منافعه
مدة حياته للمحبوس عليه دون رقبته فلما مات بطل ما كان جعله له وزال الحبس
فهو ملك من أملاكه فيرثه ورثته عنه بعد موته كما يرث سائر أملاكه فأنفد المواريث عليه
السلام فيه على ما تقتضيه شريعة الاسلام، فأما إذا كان الحبيس على مواضع قرب
العبادات مثل الكعبة والمشاهد والمساجد فلا يعاد إلى الأملاك ولا ينفد فيه المواريث لأنه
بحبسه على هذه المواضع خرج عن ملكه عند أصحابنا بغير خلاف بينهم فيه فلأجل هذا
قلنا: على بني آدم بعضنا على بعض، احترازا من الحبيس الذي على مواضع العبادات.
فأعجبه ذلك وقال: كنت لم أتطلع إلى المقصود فيه وحقيقة معرفته، وكان منصفا غير
مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقته ولا من صنعته وحقا ما أقول لقد شاهدته على خلق
قل ما يوجد في أمثاله من عوده إلى الحق وانقياده إلى ربقته وترك المراء ونصرته كائنا من
كان صاحب مقالته وفقه الله وإيانا لمرضاته وطاعته.
وروى يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم - بالحاء غير المعجمة - عن أبي عبد
الله ع قال: قلت: عشرة كانوا جلوسا ووسطهم كيس فيه عشرة ألف درهم
فسأل بعضهم بعضا: أ لكم هذا الكيس؟ فقال كلهم: لا، فقال واحد منهم: هو لي،
فلمن هو؟ قال: للذي ادعاه.
قال محمد بن إدريس رحمه الله: فقه هذا الخبر صحيح وليس هذا مما أخذه بمجرد دعواه
وإنما لم يثبت له صاحب سواه، واليد على ضربين: يد مشاهدة ويد حكمية، فهذا يده
عليه يد حكمية لأن كل واحد منهم نفى يده عنه وبقي يد من ادعاه عليه يد حكمية،
ولو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة أو متفرقا: هو لي، لكان الحكم فيه غير
ذلك، وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ثم ادعاه غيره لم يقبل دعواه بغير بينة لأن اليد
المشاهدة عليه لغير من ادعاه، والخبر الوارد في الجماعة أنهم نفوه عن أنفسهم ولم يثبتوا
لهم عليه يدا لا من طريق الحكم ولا من طريق المشاهدة، ومن ادعاه له عليه يد من طريق
262

الحكم فقبلنا دعواه فيه من غير بينة ففقهه ما حررناه، وأيضا إنما قال: ادعاه، من حيث
اللغة لأن الدعوى الشرعية من ادعى في يد غيره عينا أو دينا.
وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن الحسن بن مسكين عن رفاعة النخاس
عن أبي عبد الله ع قال: إذا طلق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون
للنساء وما يكون للرجال والنساء فيقسم بينهما، وإذا طلق الرجل المرأة فادعت أن المتاع
لها وادعى أن المتاع له كان له ما للرجال ولها ما للنساء.
قال محمد بن إدريس: هكذا أورده شيخنا في نهايته وليس بين المسألتين تناف ولا
تضاد، أما القول في صدر الخبر: وفي بيتها متاع فلها ما يكون للنساء أي ما يصلح للنساء
ولا يصلح للرجال، فهو عند أصحابنا للمرأة من غير مشاركة الرجال فيه بل تعطاه بمجرد
دعواها مع يمينها، وقوله بعد ذلك: وما يكون للرجال والنساء، المراد به ما يصلح للرجال
وللنساء يكون بينهما نصفين لأن يديهما عليه ولم يذكر فيه ما يصلح للرجال ويكون
للرجال دون النساء بل ذكر قسمين فحسب: أحدهما ما يكون للنساء لا يشركهن
الرجال فيه، والآخر ما يكون للرجال والنساء قسم بينهما،
ثم قال في آخر الكلام: وإذا طلق الرجل المرأة فادعت أن المتاع لها وادعى أن المتاع له
كان له ما للرجال ولها ما للنساء لا يشرك كل واحد منهما الآخر فيما لا يصلح إلا له،
فذكر قسمين فحسب ولم يذكر الثالث وهو الذي يصلح للرجال والنساء معا بل ذكره
في صدر الكلام، فالثالث يكون بينهما نصفين على ما قدمناه وذكره أولا.
وشيخنا أبو جعفر الطوسي يذهب في كتاب الاستبصار ويعمل: بأن المتاع جميعه
للمرأة، وأورد أخبارا في ذلك في صدر الباب، ثم قال في آخر الباب: فأما ما رواه محمد
ابن أحمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن الحسن بن مسكين عن رفاعة النخاس عن
أبي عبد الله ع قال: إذا طلق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون للنساء
وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما، قال: وإذا طلق الرجل المرأة فادعت أن المتاع لها
وادعى الرجل أن المتاع له كان له ما للرجال ولها ما للنساء.
قال رحمه الله: فهذا الخبر يحتمل شيئين: أحدهما أن يكون محمولا على التقية لأن ما أفتى
به ع في الأخبار الأولة - يعني رحمه الله في الأخبار التي أوردها بأن المال جميعه
263

للمرأة - لا يوافق عليه أحد من العامة وما هذا حكمه يجوز أن يتقى فيه، قال رحمه الله:
فالوجه الآخر أن يحمله على أن يكون ذلك على جهة الوساطة والصلح بينهما دون مر
الحكم.
قال محمد بن إدريس: وخبر رفاعة هو مذهب شيخنا في نهايته وفي مسائل خلافه في الجزء
الثالث فإنه قال: مسألة إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فقال كل واحد منهما:
كله لي، ولم يكن مع واحد منهما بينة نظر فيه فما يصلح للرجال القول قوله مع يمينه وما
يصلح للنساء فالقول قولها مع يمينها وما يصلح لهما كان بينهما، وقد روي: أن القول في
جميع ذلك قول المرأة مع يمينها، والأول أحوط، ثم قال: دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم،
وقد أوردناها في الكتابين المقدم ذكرهما فجعل رحمه الله ما أورده في الاستبصار من
الأخبار الكثيرة وجعله مذهبا له واختاره رواية في مسائل خلافه، وما اختاره في مسائل
خلافه رواه في استبصاره ثم دل على صحته بإجماع الفرقة، وكذلك يذهب في مبسوطه إلى
ما يذهب إليه في مسائل خلافه من مقالة أصحابنا ورواياتهم ويحكي الرواية الشاذة التي
اختارها مذهبا في استبصاره.
والذي يقوى عندي ما ذهب إليه في مسائل خلافه لأن عليه الاجماع وتعضده الأدلة لأن
ما يصلح للنساء الظاهر أنه لهن وكذلك ما يصلح للرجال، فأما ما يصلح للجميع فيداهما
معا عليه فيقسم بينهما لأنه ليس أحدهما أولى به من الآخر، ويترجح أحدهما على الآخر
ولا يقرع هاهنا لأنه ليس بخارج عن أيديهما وإنما لو كان في يد ثالث وأقام كل واحد
منهما البينة وتساوت البينتان في جميع الوجوه كان الحكم فيه القرعة لأنه ليس هو في أيديهما.
وروى علي بن محمد القاساني عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري
- بكسر الميم - عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي
منسوب إلى داربجرد، قال محمد بن إدريس: هكذا ذكره ابن قتيبة والزجاج قالا: إنهم
إذا نسبوا إلى داربجرد قالوا: دراوردي، وقال غيرهما: هو منسوب إلى دراورد قرية
بخراسان وهو مولى بلى وبلى قبيلة من العرب النسب إليها بلوي
قال: سألت أبا عبد الله ع عمن أخذ أرضا بغير حقها وبنى فيها، قال: يرفع
بناؤه وتسلم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالم حق.
264

قال محمد بن إدريس: يقال: العرق بكسر العين وتسكين الراء ولا يجوز بفتح العين
والراء لأن ذلك تصحيف وإنما قلنا: يقال مضاف إلى ظالم ومنفصل عنه بالتنوين،
هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطه.
وروى عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عن أبيه عن علي ع: أنه
قضى في رجلين اختصما في خص، فقال: إن الخص للذي إليه القمط،
وقالوا: القمط هو الحبل والخص الطن الذي يكون في السواد بين الدور فكان من إليه
الحبل هو أولى من صاحبه، وهذا هو الصحيح لأن عليه إجماع أصحابنا.
وروى الحسن بن علي بن يقطين عن أمية بن عمرو عن الشعيري قال: سئل أبو عبد
الله ع عن سفينة انكسرت في البحر فأخرج بعضه بالغوص وأخرج البحر بعض
ما غرق فيها، فقال: أما ما أخرجه البحر فهو لأهله الله أخرجه، وأما ما أخرج بالغوص
فهو لهم وهم أحق به.
قال محمد بن إدريس: وجه الفقه في هذا الحديث أن ما أخرجه البحر فهو لأصحابه وما
تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن وجده وغاص عليه لأنه صار بمنزلة المباح، ومثله من ترك
بعيره من جهد في غير كلأ ولا ماء فهو لمن أخذه لأنه خلاه آيسا منه ورفع يده عنه فصار
مباحا، وليس هذا قياسا لأن مذهبنا ترك القياس وإنما هذا على جهة المثال والمرجع
فيه إلى الاجماع وتواتر النصوص دون القياس والاجتهاد، وعلى الخبرين إجماع أصحابنا
منعقد.
وروى ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن جماعة من أصحابنا عنهما
ع قال: الغائب يقضى عليه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو
غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم، قال: ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا
بكفلاء، وقد قدمنا ذلك وشرحناه.
وروى محمد بن يحيى الخزاز عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه: أن عليا
ع كان يفلس الرجل إذا التوى على غرمائه ثم يأمره فيقسم ماله بينهم
بالحصص فإن أبي باعه فقسمه بينهم، يعني ماله.
قال محمد بن إدريس: معنى التوى أي دافع ومطل، قال الشاعر: تديمين ليالي وأنت
265

ملية، أي تديمين مطلي.
عنه عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه: أن عليا ع كان يحبس في
الدين فإذا تبين إفلاس وحاجة خلي سبيله حتى يستفيد مالا.
وروى السكوني
بفتح السين قال محمد بن إدريس: منسوب إلى السكون قبيلة من اليمن واسمه
إسماعيل بن أبي زياد وهو عامي المذهب إلا أنه يروى عن الأئمة ع.
عن أبي عبد الله ع عن أبيه عن علي ع: أن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان
زوجها معسرا فأبى أن يحبسه وقال: إن مع العسر يسرا.
وعنه عن جعفر عن أبيه: أن عليا كان يحبس في الدين ثم ينظر إن كان له مال
أعطى الغرماء وإن لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم إن
شئتم فأجروه وإن شئتم استعملوه، وذكر الحديث.
قال محمد بن إدريس: هذا الخبر غير صحيح ولا مستقيم لأنه مخالف لأصول مذهبنا
ومضاد لتنزيل الكتاب قال تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، ولم يذكر
استعملوه ولا آجروه وإنما أورد شيخنا أبو جعفر في نهايته إيرادا لا اعتقادا وقد رجع في
مسائل الخلاف، فقال: مسألة إذا أفلس من عليه الدين وكان ما في يده لا يفي بقضاء
ديونه فإنه لا يؤاجر ليكسب ويدفع إلى الغرماء، ثم قال: دليلنا أن الأصل براءة الذمة
ولا دليل على وجوب إجارته وأيضا قوله تعالى: وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة،
ولم يأمر بالتكسب، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه في الجزء الثاني.
وروى أبو بصير عن أبي جعفر قال: إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة وأهل الإنجيل
يتحاكمون إليه كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم وإن شاء تركهم،
هذا الخبر صحيح وعليه إجماع أصحابنا منعقد لأن الحاكم بالخيار في ذلك إن شاء حكم
وإن شاء ترك، ولا يجب عليه الحكم إلا أنه إن حكم فلا يجوز له أن يحكم إلا بما تقتضيه
شريعة الاسلام وعدله، ولا يجوز له أن يحكم إلا بالحق لقوله تعالى: ومن لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وإن شاء أعرض عنهم لقوله تعالى: فاحكم بينهم أو
أعرض عنهم، فقد خيره في ذلك.
266

وروى طلحة بن زيد والسكوني جميعا عن جعفر عن أبيه عن علي ع: أنه
كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حد ولا غيره حتى وليت بنو أمية فأجازوا
بالبينات.
قوله: فأجازوا بالبينات، يريد بذلك أن هذا كتاب فلان القاضي لا أن المقصود أجازوا
الأحكام بالبينات، وقد بينا أنه لا خلاف بين أصحابنا سلفهم وخلفهم بل إجماعهم
منعقد لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ولا يعمل به ولا يحكم لأن ذلك حكم شرعي
يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي، وأيضا فلا يجوز للحاكم الثاني والقاضي الثاني أن
يقلد القاضي الأول بل يجب عليه أن يحكم بالحق وإقامة البينة أو الإقرار وما يثبت من
ذلك عنده دون ما ثبت عند غيره، فأما ما يدعى من كتب الرسول ع إلى
البلدان فجميع ذلك أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا وما عمل بالكتاب بل بالتواتر
بما في الكتاب دونه إن كان عمل بشئ من ذلك على ما بيناه.
وروى هارون بن حمزة عن أبي عبد الله قال: قلت: رجلان من أهل الكتاب
نصرانيان أو يهوديان كان بينهما خصومة فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجور فأبى
الذي قضى عليه أن يقبل وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين، قال: يرد إلى حكم
المسلمين.
قال محمد بن إدريس: إن كان قد قضى عليه بما هو صحيح في مذهبهم فقد أمرنا أن
نقرهم على أحكامهم فلا يجوز لنا أن نفسخ حكمهم عليهم ولا نرده عليهم ولا نجيبه إلى
دفعه عن نفسه، وإن كان قد قضى عليه بجور على مذهبهم فنرده ويسلم ظاهر الحديث
لأنا ما أمرنا أن نقرهم إلا على أحكامهم وما يجوز عندهم دون ما لا يجوز، ويعضد ما
قلناه قوله في الحديث: قضى بينهما حاكم من حكامهما بجور، وما يكون حقا عندهم
ما يكون جورا على المحكوم عليه بل هو عنده حق وصواب.
وروى حريز - بالحاء غير المعجمة وآخر الاسم زاي - عن محمد بن مسلم وزرارة
عنهما جميعا قال: لا يحلف أحد عند قبر النبي ع على أقل مما يجب فيه
القطع.
قال محمد بن إدريس: هذا على جهة التغليظ فإن الحاكم لا يلزمه أن يحلف هناك إلا إذا
267

كانت الدعوى مقدار ربع دينار، فإن كان أقل من ذلك فلا يلزمه أن يحلف هناك.
وروى عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر ع قال: قلت
له: جعلت فداك في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال: في ثلاث عشرة سنة أو
أربع عشرة سنة، قلت: فإنه لم يحتلم فيها، قال: وإن لم يحتلم فإن الأحكام تجري
عليه.
قال محمد بن إدريس: قد ورد هذا الحديث وهو من أخبار الآحاد، والاعتماد عند
أصحابنا على البلوغ في الرجال وهو إما الاحتلام أو الإنبات في العانة أو خمس عشرة
سنة، وفي النساء الحيض أو الحمل أو تسع سنين، فإن شيخنا أبا جعفر رحمه الله أورد
هذا الحديث في نهايته إيرادا لا اعتقادا لأنه أورده في باب النوادر ورجع عنه في سائر
كتبه وذهب إلى أن حد بلوع النساء الحيض أو الحمل أو تسع سنين.
وروى أبو بصير قال: سألت أبا عبد الله ع عن رجل دبر غلامه وعليه دين
فرارا من الدين، قال: لا تدبير له وإن كان دبره في صحة منه وسلامة فلا سبيل للديان
عليه.
قال محمد بن إدريس: قد أورد هذا الحديث شيخنا أبو جعفر في نهايته، والذي عندي أن
التدبير الذي لا عن نذر عند أصحابنا بمنزلة الوصية لا خلاف بينهم في ذلك، فعلى هذا
التقرير والتحرير سواء دبره في حال صحة منه وسلامة أو غير ذلك فإنه يباع في الدين
ويبطل التدبير، وهذا خبر واحد أورده شيخنا إيرادا لا اعتقادا.
وقال بعض أصحابنا وهو صاحب كتاب الفاخر قال: ومن دبر عبدا لا مال له غيره
وعليه دين فدبره في صحة منه ومات فلا سبيل للديان عليه، فإن كان دبره في مرضه بيع
العبد في الدين فإن لم يحط الدين بثمن العبد استسعى في قضاء دين مواليه وهو حر إذا
تممه، هذا آخر كلامه، وقد قلنا ما عندنا في ذلك وهو أنه لا تدبير إلا بعد قضاء الدين
سواء دبره وعليه دين أو لم يكن عليه دين وسواء دبره في حال مرضه أو صحته.
وروى غياث بن كلوب عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه أن عليا
ع كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب من الثياب لأنه إنما أخذ
الجعل على الحمام ولم يأخذ على الثياب.
268

قال محمد بن إدريس: هذا خبر صحيح لأن الاجماع منعقد من أصحابنا عليه هذا إذا لم
يستحفظه الثياب، فأما إن استحفظه وفرط في الحفاظ فعليه الضمان لأنه صار مودعا
وكذلك إذا استأجره على حفظ الثياب ودخول الحمام فإنه يجب عليه حفظها فإذا فرط
في ذلك فإنه يجب عليه الضمان، فأما إذا لم يستحفظه ولا استأجره على حفظها فلا
ضمان عليه كما ورد في الحديث.
وروى عبد الرحمن بن سيابة
بالسين غير المعجمة والياء بنقطتين من تحت والباء بنقطة واحدة من تحت مفتوحة السين
والياء خفيفة وهي الخلالة سمى الرجل باسمها.
عن أبي عبد الله ع أنه قال: على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم
الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد فيرسل معهم فإذا قضوا الصلاة والعيد ردهم إلى
السجن.
وروي هذا الحديث غير متواتر، فإن كان عليه إجماع منعقد رجع إليه أو دليل سوى
الاجماع عول عليه ولا يرجع إلى أخبار الآحاد في مثل هذا.
269

كتاب الشهادات
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه... الآية، ومعناه إذا تبايعتم بدين لأن المداينة لا تكون إلى أجل إلا في البيع،
وقوله: فاكتبوه، أي أشهدوا.
ثم ذكر الشهادة في ثلاثة مواضع فقال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن
لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، ثم أمر بالإشهاد على التبايع فقال: وأشهدوا إذا
تبايعتم، ثم توعد على كتمانها فقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه
آثم قلبه. وفي هذا المعنى ما روي عنه ع أنه قال: من سئل عن علم فكتمه
ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار.
وقال: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء إلى قوله وأشهدوا ذوي عدل منكم،
ومعنى قوله: فإذا بلغن أجلهن، يعني قاربن البلوغ لأنه لا رجعة بعد بلوع الأجل.
وروي عن ابن عباس أن النبي ع سئل عن الشهادة فقال: ترى الشمس على
مثلها فاشهد أو دع.
فإذا ثبت ذلك وتقرر فالكلام في ذكر أقسام الحقوق منها وجملته أن الحقوق ضربان:
حق لله وحق للآدمي. فأما حق الآدمي فإنه ينقسم في باب الشهادة ثلاثة أقسام:
أحدها: لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين وهو ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال
وتطلع عليه الرجال كالنكاح والخلع والطلاق والرجعة والتوكيل له والوصية إليه والجناية
271

الموجبة للقود والعتق والنسب.
والثاني: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين وهو كل ما كان مالا أو
المقصود منه المال. فالمال: القرض والغصب، والمقصود منه المال: عقود المعاوضات،
البيع والصرف والسلم والصلح والإجارات والمساقاة والضمانات والحوالات والقراض
والرهن والوقف والوصية له لا إليه والجناية التي توجب المال عمدا كانت أو خطأ
كالجائفة والمأمومة وقتل الحر عبدا عمدا ونحو ذلك.
والثالث: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وأربع نسوة وهو الولادة والرضاع عند
بعض أصحابنا وإن كان الأكثر منهم لا يقبل في الرضاع شهادة النساء والاستهلال
والعيوب تحت الثياب.
فأما حقوق الله تعالى فجميعها لا مدخل لشهادة النساء ولا للشاهد مع اليمين فيها
وهي على ثلاثة أضرب:
ما لا يثبت إلا بأربعة وهو الزنى واللواط والسحق، وروى أصحابنا: أن الزنى
يثبت بثلاثة رجال وامرأتين وبرجلين وأربع نسوة، ونشرح ذلك عند المصير إليه إن شاء
الله تعالى.
والثاني ما لا يثبت إلا بشاهدين وهو الردة والسرقة وحد الحر في شرب المسكر
وكذلك العبد فيه سواء عندنا.
والثالث ما اختلفت فيه وهو الإقرار بالزنى،
فإنه قال قوم: لا يثبت إلا بأربعة كالزنا، وقال آخرون: يثبت بشاهدين كسائر
الإقرارات، وهو الأليق بمذهبنا والأصح من القولين.
وليس عندنا عقد من العقود من شرطه الشهادة وعند مخالفينا كذلك إلا النكاح
وحده عندهم وعندنا ليس من شرطه الشهادة.
يحكم بالشاهد واليمين في الأموال عندنا سواء كان المال دينا أو عينا وكذلك
يحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي في ذلك عند بعض أصحابنا،
والذي تقتضيه الأدلة ويحكم بصحته النظر الصحيح أنه لا تقبل شهادة امرأتين مع يمين
272

المدعي وجعلهما بمنزلة الرجل في هذا الموضع يحتاج إلى دليل شرعي والأصل ألا شرع
وحملها على الرجل قياس وهو عندنا باطل والإجماع فغير منعقد والأخبار غير متواترة فإن
وجدت فهو نوادر شواذ والأصل براءة الذمم، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا فإنه
يحتاج إلى أدلة قاهرة إما إجماع أو تواتر أخبار أو قرآن وجميع ذلك خال منه فبقي دليل
العقل وهو ما اخترناه وحققناه.
تقبل عندنا شهادة القاذف إذا تاب وأصلح،
وكيفية توبته من القذف هو أن يقول: القذف باطل حرام ولا أعود إلى ما قلت، وقال
بعضهم: التوبة إكذابه نفسه وحقيقة ذلك أن يقول: كذبت فيما قلت، روي ذلك في
بعض أخبارنا والذي قدمناه هو الصحيح لأنه إذا قال: كذبت فيما قلت، ربما كان
كاذبا في هذا لجواز أن يكون صادقا في الباطن وقد تعذر عليه تحقيقه فإذا قال: القذف
باطل حرام، فقد أكذب نفسه وقوله: لا أعود إلى ما قلت، فهو ضد ما كان منه ويفتقر
إلى صلاح العمل بعد ذلك وهو أن يعمل طاعة، هذا الكلام في قذف السب. وأما قذف
الشهادة فهو أن يشهد بالزنى دون الأربعة فإنهم فسقة فالتوبة ههنا أن يقول: قد ندمت
على ما كان مني ولا أعود إلى ما أتهم فيه، فإذا قال هذا زال فسقه وثبتت عدالته وقبلت
شهادته ولا يراعى صلاح العمل ويجوز للحاكم عندنا أن يقول لإنسان: تب أقبل
شهادتك، وإنما قلنا ذلك لأن النبي ع أمر بالتوبة وكذلك الله تعالى، هكذا
ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطه ولا أرى بذلك بأسا.
ولا يجوز للشاهد أن يشهد حتى يكون عالما بما يشهد به حين التحمل وحين الأداء،
لقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، وقال تعالى: إلا من شهد بالحق وهم
يعلمون، ولما قدمناه من رواية ابن عباس عن الرسول ع قال: سئل عن
الشهادة فقال للسائل: هل ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع.
ولا يجوز للحاكم أن يقبل إلا شهادة العدل فأما من ليس بعدل فلا تقبل شهادته،
لقوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم، فالعدالة في اللغة أن يكون الانسان متعادل
الأحوال متساويا، وأما في الشريعة هو من كان عدلا في دينه عدلا في مروءته عدلا في
أحكامه. فالعدل في الدين أن لا يخل بواجب ولا يرتكب قبيحا وقيل: لا يعرف بشئ
من أسباب الفسق، وهذا قريب أيضا. وفي المروءة أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط
273

المروءة مثل الأكل في الطرقات ولبس ثياب المصبغات للنساء وما أشبه ذلك، والعدل في
الأحكام أن يكون بالغا عاقلا وقال شيخنا في مبسوطه: فأما إن كان مجتنبا للكبائر
مواقعا للصغائر فإنه يعتبر الأغلب من حاله فإن كان الأغلب من حاله مجانبة المعاصي
وكان يواقع ذلك نادرا قبلت شهادته وإن كان الأغلب مواقعته للمعاصي واجتنابه لذلك
نادرا لم تقبل شهادته، وقال رحمه الله: وإنما اعتبرنا الأغلب في الصغائر لأنا لو قلنا: إنه
لا تقبل شهادة من واقع اليسير من الصغائر، أدى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد لأنه لا
أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي. قال محمد بن إدريس رحمه الله: وهذا القول لم
يذهب إليه رحمه الله إلا في هذا الكتاب أعني المبسوط ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا
لأنه لا صغائر عندنا في المعاصي إلا بالإضافة إلى غيرها وما خرجه واستدل به من أنه
يؤدى ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد لأنه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي فغير
واضح لأنه قادر على التوبة من ذلك الصغير فإذا تاب قبلت شهادته وليست التوبة مما
يتعذر على انسان ولا شك أن هذا القول تخريج لبعض المخالفين فاختاره شيخنا ههنا
ونصره أو أورده على جهته ولم يقل عليه شيئا لأن هذا عادته في كثير مما يورده في هذا
الكتاب.
فأما شهادة أهل الصنائع الدنية كالحارس والحجام والحائك والزبال وما أشبه ذلك فعندنا
أن شهادتهم مقبولة إذا كانوا عدولا في أديانهم لقوله تعالى: إن أكرمكم عند الله
أتقاكم.
كل من يجر بشهادته نفعا إلى نفسه أو يدفع ضررا عنها فإن شهادته لا تقبل،
فالجار إلى نفسه هو أن يشهد الغرماء للمفلس المحجور عليه أو يشهد السيد لعبده المأذون
له في التجارة والوصي بمال الموصي الذي له فيه تصرف والوكيل بمال الموكل كذلك
والشريك لشريكه بحق هو شركة بينهما. والدافع عن نفسه هو أن تقوم البينة على رجل
بقتل الخطأ فشهد اثنان من عاقلة الجاني بجرح الشهود أو قامت البينة بمال على الموكل
وعلى الموصي فشهد الوكيل والوصي بجرح الشهود فلا تقبل الشهادة في هذه المواضع وما
شاكلها لقوله ع: لا يجوز شهادة خصم ولا ظنين، " وهو المتهم " وهؤلاء
متهمون. ولا تقبل شهادة عدو على عدوه،
274

والعداوة ضربان: دينية ودنياوية. فالدينية لا ترد بها الشهادة مثل عداوة المسلم
للمشركين لا ترد بها شهادتهم لأنها عداوة في الدين وهي طاعة وقربة فهي واجبة،
وهكذا عداوة الكفار للمسلمين لا ترد شهادتهم بها لو كانت وحدها وإنما ترد لفسقهم
وكفرهم لا للعداوة أ لا ترى إنما ترد شهادتهم بعضهم على بعض ولبعض وإن لم يكن
هناك عداوة، وهكذا شهادة أهل الحق لأهل الأهواء الباطلة تقبل لأنهم يعادونهم في
الدين. فأما العداوة الدنياوية فإنه ترد بها الشهادة مثل أن يقذف رجل رجلا ثم يشهد
المقذوف على القاذف ويدعي أن فلانا قطع عليه وعلى رفيقه الطريق ثم يشهد عليه فإن
شهادته لا تقبل، وهكذا إذا شهد الزوج على زوجته بعد قذفها بالزنى فإن شهادته لا
تقبل وما أشبه ذلك من المواضع التي يعلم بحكم العادة أنه يحصل فيها تهمة الشاهد.
فأما شهادة العدو لعدوه فإنها تقبل لأن التهمة معدومة.
من كان الغالب من حاله السلامة والغلط منه نادر قبلت شهادته، وإن كان الغالب
الغلط والغفلة والسلامة نادرة لم تقبل لأنا لو قلنا ذلك أدى إلى قبول شهادة المغفلين، ولو
لم تقبل إلا ممن لا يغلط أدى إلى أن لا تقبل شهادة أحد لأن أحدا لا يخلو من ذلك
فاعتبرنا الأغلب.
كل من خالف الحق لا تقبل شهادته على ما بيناه،
فأما من يختلف من أصحابنا المعتقدين للحق في شئ من الفروع التي لا دليل عليها
موجبا للعلم فإنا لا نرد شهادتهم بل نقبلها إلا أن يكون على ذلك دليل ظاهر قاطع من
كتاب أو سنة متواترة أو إجماع ويخالف فيه ويعاند ويكابر فإنه ترد شهادته، هكذا ذكر
شيخنا أبو جعفر في مبسوطه وهو الحق والصواب لأنه فسق ظاهر وخلاف الأدلة.
الغناء من الصوت ممدود ومن المال مقصور فإذا ثبت هذا فالغناء عندنا محرم يفسق
فاعله وترد شهادته، فأما ثمن المغنيات فليس بحرام إجماعا لأنها تصلح لغير الغناء.
إذا سمع الشاهد رجلا يقر بدين فيقول: لفلان على ألف درهم، صار السامع به
شاهدا بالدين سواء قال المقر: اشهدوا علي بذلك، أو لم يقل. وكذلك إذا شاهد رجلين
تعاقدا عقدا كالبيع والصلح والإجارة والنكاح وغير ذلك وسمع كلام العقد صار شاهدا
بذلك، وكذلك الأفعال كالغصب والقتل والإتلاف يصير به شاهدا، وكذلك إذا كان
275

بين رجلين خلف في حساب فحضرا بين يدي شاهدين وقالا لهما: قد حضرنا لنتصادق
فلا تحفظا علينا ما يقر به كل واحد منا لصاحبه، ثم حصل من كل واحد منهما إقرار
لصاحبه بالدين صارا شاهدين ولا يلتفت إلى تلك المواعدة لأن الشاهد بالحق من علم به
فمتى علم به صار شاهدا.
فأما شهادة المختبئ فمقبولة عندنا وهو إذا كان على رجل دين يعترف به سرا
ويجحده جهرا فاحتال صاحب الدين فخبأ له شاهدين يسمعانه ولا يراهما ثم جاراه
واعترف به وسمعاه وشهدا به صحت الشهادة عندنا وخالف في ذلك شريح فقط.
ويعتبر في شهادة النساء الإيمان والستر والعفاف وطاعة الأزواج فيما أوجب الله
تعالى عليهن طاعته وترك البذاء - بالذال المعجمة وهو قول الفحش - والتبرج إلى أندية
الرجال إلا لحاجة ضرورية.
ولا يجوز قبول شهادة الظنين والمتهم
وقد قلنا: أن الظنين هو المتهم وإن كان اللفظ مختلفا والمعنى واحدا، هذا في كلام
العرب والقرآن كثير. والظنين هو المتهم بالزور والخيانة.
ولا شهادة الخصم والخائن
وقال شيخنا في نهايته: والأجير، وهذا خبر واحد لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه بل شهادة
الأجير مقبولة سواء كانت على من استأجره أو له وسواء فارقه أو لم يفارقه لأن أصول
المذهب تقتضي قبول هذه الشهادة وهو قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم،
وقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم، ولا مانع يمنع من قبول شهادته وهذا عدل فينبغي
أن تقبل شهادته ولأنه لا يجر بشهادته إليه نفعا ولا يدفع عنها ضررا ولا يعرف بشئ من
أسباب الفسق ولا دليل على رد شهادته من كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع.
ولا تقبل شهادة الفساق إلا على أنفسهم
وهذا إقرار لا شهادة وإنما أوردته على ما وجدته في مصنفات أصحابنا.
ولا تقبل شهادة ماجن
المجون ألا يبالي الانسان ما صنع وقد مجن بالفتح يمجن مجونا ومجانة فهو ماجن هكذا
ذكره الجوهري في كتاب الصحاح.
276

ولا تقبل شهادة فحاش وترد شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج وغيرهما من أنواع القمار
والأربعة عشر والشاهين
بفتح الهاء لأن ذلك تثنية شاة لأنه كذاب بقوله: شاهك مات، يعني به أحد أقطاع
الشطرنج ولغته بالفارسية الملك.
ولا بأس بشهادة أرباب الصنائع أي صنعة كانت إذا جمعوا الشرائط المقدم ذكرها
وكانت حلالا.
ولا يجوز شهادة من يبتغي على الأذان الأجر فأما أخذ الرزق عليه دون الإجارة فجائز
ويكون ذلك من بيت المال وكذلك على القضاء ولا يحل لأحد الأجرة عليهما بحال،
فأما الجهاد فيجوز عندنا أخذ الأجرة عليه لما رواه أصحابنا، فأما الصلوات فلا يجوز أخذ
الأجرة ولا الرزق عليها بحال وكذلك الصيام، ولا يجوز شهادة من يرتشي في الأحكام
وقد روي: أنه لا يجوز شهادة السائلين على أبواب الدور وفي الأسواق وإن كانت شرائط
العدالة فيهم حاصلة إلا أن ذلك يختص بمن يكون ذلك عادته وصناعته ويتخذ ذلك حرفة
وصناعة وبضاعة فأما من أحوجته ضرورة مجحفة في بعض الأحوال فلا ترد شهادته بحال
لأنه لا دليل على ذلك، وقد أعطينا الرواية الواردة بذلك حقها.
ويجوز شهادة ذوي الفقر والمسكنة المتجملين الساترين لأحوالهم إذا حصل فيهم
شرائط العدالة، ولا يجوز شهادة ولد الزنى لأنه عند أصحابنا كافر بإجماعهم عليه.
قال شيخنا أبو جعفر في نهايته: فإن عرفت منه عدالة قبلت شهادته في الشئ الدون،
وهذا غير مستقيم لأنه إن كان عدلا فتقبل شهادته في الدون وغير الدون وإن كان عنده
كافرا فلا تقبل شهادته لا في الدون ولا غير الدون وإنما هذا خبر واحد أورده إيرادا لا
اعتقادا.
ولا يجوز شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريك فيه ولا بأس بشهادته له فيما ليس
بشريك له فيه. ومن قطع به الطريق فأخذ المأخوذون اللصوص فشهد بعض المأخوذين
لبعض على اللصوص لم تقبل شهادتهم لأنهم خصوم وكذلك إن شهد بعض اللصوص
على بعض لأنهم فسقة إلا أن يشهد غيرهم عليهم أو يقر اللصوص فيحكم بالإقرار على
من أقر.
277

ولا بأس بشهادة الوصي على من هو وصى له إلا أنه يحلف الخصم إذا كان مع
الوصي غيره من أهل الشهادة أو لم يكن معه سواه لأنها شهادة على ميت وهو لا يعبر عن
نفسه ولما رواه أصحابنا، ولا بأس بشهادته فيما لا يكون له فيه ولاية ولا تصرف على ما
قدمنا القول فيه،
وقال شيخنا في نهايته: ولا بأس بشهادة الوصي على من هو وصى له غير أن ما يشهد به
عليه يحتاج أن يكون معه غيره من أهل العدالة ثم يحلف الخصم على ما يدعيه وما يشهد
للورثة مع غيره من أهل العدالة لم يجب مع ذلك يمين وأطلق ذلك إطلاقا وتحريره ما
ذكرناه.
ولا بأس بشهادة ذوي الآفات والعاهات في الخلق - بكسر الخاء وفتح اللام لأن ذلك
جمع خلقه - إذا كانوا من أهل العدالة، ولا بأس بشهادة الأعمى إذا حقق ولم تكن
شهادته فيما تعتبر الرؤية فيه إلا أن يكون قد شهد عليه في حال الصحة ثم عمي بعد ذلك
فتجوز شهادته بذلك بعد العمى، ولا بأس بشهادة الأصم وقد روي: أنه يؤخذ بأول قوله
ولا يؤخذ بثانيه، ولا بأس بشهادة الضيف إذا كان من أهلها.
وإقرار العقلاء جائز على نفوسهم فيما يوجب حكما في شريعة الاسلام سواء كان
مليا أو كافرا أو مطيعا كان أو عاصيا وعلى كل حال إلا أن يكون عبدا فإنه لا يقبل
إقراره على نفسه لا في مال ولا على بدن لأن إقراره على نفسه إقرار على الغير لأنه لا يملك
من نفسه شيئا. ولا يقبل إقرار الغير على الغير فإن لحقه العتاق بعد الإقرار ألزم بما أقر لأن
في الأول منع لأنه إقرار على سيده والآن لا مانع منه لأن حق سيده قد زال عنه.
والفاسق إذا شهد على غيره في أمر من الأمور - ما خلا الطلاق - ثم أقام الشهادة وهو
عدل قبلت شهادته وكذلك الكافر، واستثنينا الطلاق لأن جميع ما يشهد به الشاهد
المراعي في العدالة والقبول للشهادة وقت الأداء دون وقت التحمل إلا الطلاق فإنه يحتاج
إلى العدالة وقت التحمل ووقت الأداء.
وتقبل شهادة المتخذ للحمام غير اللاعب بها والمسابق والمراهن عليها إذا لم يعرف
منه فسق،
278

وقول شيخنا في نهايته: ويقبل شهادة من يلعب بالحمام، غير واضح لأنه سماه لاعبا
واللعب بجميع الأشياء قبيح فقد صار فاسقا بلعبه فكيف تقبل شهادته؟ وإنما أورد
لفظ الحديث إيرادا لا اعتقادا وإن كان المقصود باللعب ما ذكرناه وهو اتخاذها للأنس
وحمل الكتب دون اللعب.
ولا بأس بشهادة المراهن في الخف لأن المسابقة عليه جائزة ويدخل في الخف الفيل
أيضا، ولا بأس بشهادة المراهن في الحافر لأنه مأمور بذلك ومحلل ويدخل فيه الفرس
والبغل والحمار وكذلك المراهن في الريش - يعني النشاب - لأنه من النصال وكذلك
النصل
وقد يتوهم بعض من لا بصيرة له بهذا الشأن أن المراد بذلك الطيور في قوله: المراهن
بالريش لا بأس بقبول شهادته، وهذا خطأ فاحش لأن الرمي والمسابقة لم ترد إلا في
الحافر والخف والنصل فالنصل يدخل فيه النشابة التي هي للعجم والسهم الذي هو
للعرب.
والحراب والمزاريق وما عدا ذلك فهو قمار يفسق فاعله به.
فأما إنشاد الشعر فهو مباح لا ترد شهادة فاعله ما لم يكن فيه هجر ولا فحش ولا
تشبيب بامرأة ولا هجاء من لا يستحق الهجاء
روى جابر بن سمرة قال: كنت عند رسول الله أكثر من مائة مرة فكان أصحابه ينشدون
الأشعار ويذكرون أخبار الجاهلية قديما. وروى عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني
رسول الله ص فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ؟
قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتا فقال: هيه، فأنشدته حتى بلغت مائة بيت، هيه
معناه الحث والاستزادة وأصله إيه وإذا زجرت قلت: إيها، وإذا أغربت قلت: ويها،
وإذا تعجبت قلت: واها. وروي أنه ع كان في وليمة فسمع عجوزا تنشد:
أهدى لها أكبشا تبجبج في المربد زوجك ذا في الندي يعلم ما في غد
قال محمد بن إدريس: أورد هذا جميعه شيخنا في مبسوطه، وتبجبج بالباء المنقطة من
تحتها نقطة واحدة بالجيمين وبالباء بين الجيمين ومعناه تنفتق بالسمن يقال: بجها
الكلأ إذا فتقها بالسمن فأوسع خواصرها، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح
279

فضبطت ذلك سلا يجري تصحيف، وقال صاحب كتاب البارع: بتبحبح بالحائين غير
معجمتين أي تتسع من السمن.
باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها وما في ذلك من الأحكام:
لا يجوز أن يمتنع الانسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد إذا كان من أهلها إلا أن
يكون حضوره مضرا بشئ من أمر الدين أو بأحد من المسلمين. فأما الأداء فإنه في
الجملة أيضا من الفرائض لقوله تعالى: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم
قلبه، وقال: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، وقد يستشهد بعض أصحابنا بهذه
الآية الأخيرة على وجوب التحمل وعلى وجوب الأداء.
والذي يقوى في نفسي أنه لا يجب التحمل وللإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها
ليتحملها إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه وما ورد في ذلك فهو أخبار آحاد، فأما
الاستشهاد بالآية والاستدلال بها على وجوب التحمل فهو ضعيف جدا لأنه تعالى سماهم
شهداء ونهاهم عن الآباء إذا دعوا إليها وإنما يسمى شاهدا بعد تحملها فالآية بالأداء
أشبه، وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطه. فإن قيل: سماهم
شهداء لما يؤولون إليه من الشهادة كما يقولون لمن يريد الحج: حاجي، وإن لم يحج وكما
قال الله تعالى: إنك ميت، أي إنك ستموت. قلنا: هذا مجاز والكلام في الحقيقة غير
الكلام في المجاز فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة ولا دليل والكلمة
إذا كانت مشتقة من الفعل فلا تسمى به إلا بعد حصول ذلك الفعل لأن الضارب
والقاتل لا يسميان بذلك إلا بعد حصول الحدث المخصوص منهما.
إذا كان هناك خلق قد تحملوا الشهادة فالأداء واجب عليهم فكل من دعي منهم
لإقامتها وجب عليه ذلك لقوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا، فإذا حضر
الشاهد فلا يجوز له أن يشهد إلا على من يعرفه، فإن أراد أن يشهد على من لا يعرفه
فليشهد بتعريف من يثق إلى ديانته من رجلين عدلين عند أصحابنا، فأما الواحد والنساء
فلا يشهد بتعريفه ولا تعريفهن لأنه لا دليل على ذلك فإذا أقام الشهادة أقامها كذلك،
وإذا أشهد على امرأة وكان يعرفها بعينها جاز له أن يشهد عليها وإن لم ير وجهها، فإن
280

شك في حالها لم يجز له أن يشهد عليها إلا بعد أن تسفر عن وجهها ويثبتها معرفة فإن
عرفها من يثق بديانته من العدلين جاز له الشهادة عليها وإن لم تسفر عن وجهها.
ويجوز أن يشهد الانسان على الأخرس إذا كانت له كتابة معقولة وإشارة مفهومة
فعرف من إشارته الإقرار ويقيم شهادته كذلك ولا يقيمها بمجرد الإقرار بالكلام لأن ذلك
كذب، ويجوز أن يشهد على شهادة رجل آخر غير أنه ينبغي أن يشهد رجلان عدلان على
شهادة رجل واحد ليقوما مقامه، فأما واحد فلا يقوم مقام واحد وذلك لا يكون أيضا
إلا في حقوق الآدميين من الديون والأملاك والعقود، فأما الحدود فلا يجوز أن يقبل فيها
شهادة على شهادة.
ولا يجوز شهادة على شهادة على شهادة في شئ من الأشياء، ومن شهد على شهادة
آخر وأنكر الشهادة الشاهد الأول الأصلي
روي: أنه تقبل شهادة أعدلهما، أورد ذلك شيخنا في نهايته فإن كانت عدالتهما سواء
طرحت شهادة الشاهد الثاني، وقال ابن بابويه من أصحابنا في رسالته: تقبل في هذه
الحال شهادة الثاني وتطرح شهادة الأول، وهذا غير مستقيم ولا واضح بل الخلاف
والنظر في أنه تقبل شهادة أعدلهما فكيف تقبل في الثاني وهو فرع الأول الأصلي فإذا
رجع عن شهادته فالأولى أن تبطل شهادة الفرع ولأن الفرع يشهد على شئ لا يحققه -
أعني نفس الحق المشهود به - فكيف ينتزع الحاكم المال بهذه الشهادة وهو ما شهد عنده
على نفس الحق من علمه ولا قطع عليه نفسا - أعني الشاهد الذي هو الفرع - ولا خلاف
أن الفرع يثبت بشهادة الأصل بلا شبهة وهكذا إذا فسق الأصل بطلت شهادة الفرع.
وذكر شيخنا في مبسوطه قال: فإن سمع الحاكم من الفرع في الموضع الذي يسوع له أن
يسمع ويحكم بشهادته ثم تغيرت حال الأصل كان الحكم فيه كما لو سمع من الأصل
نفسه ثم تغيرت حاله فإن عمي الأصل أو خرس حكم بشهادة الفرع لأن الأصل لو شهد
ثم عمي أو خرس حكم بشهادته وإن فسق الأصل لم يحكم بشهادة الفرع لأنه لو سمع
من الأصل ثم فسق لم يحكم بشهادته لأن الفرع يثبت بشهادة الأصل فإذا فسق الأصل
لم يبق هناك ما يثبته، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطه. وأيضا فإذا رجع الأصل وأنكر
صار فاسقا كذابا عند الفرع فكيف يشهد على شهادة فاسق وكيف له أن يصدقه
281

ويشهد على شهادته وهو لا يأمن أن يكون في الأول كاذبا كما كان عند إنكاره لشهادة
الفرع كاذبا؟ وأيضا الحاكم إذا رجع الشاهد قبل الحكم بشهادته لم يحكم بها بغير
خلاف، وأيضا الأصل ألا حكم ولا شهادة وبقاء الأموال على أربابها وهذا حكم
شرعي فمن ادعى إثباته يحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل على ذلك من كتاب الله ولا
سنة مقطوع بها ولا إجماع والأصل معنا وهو نفي الأحكام الغير معلومة بأدلة العقول إلى أن
يقوم دليل سمعي على إثباتها، وأيضا قوله: ولا تقف ما ليس لك به علم، يشيد
ذلك ويعضده. وأيضا فالصحيح من أقوال أصحابنا المحصلين أن شهادة الفرع ما تجوز
إلا بعد تعذر حضور شاهد الأصل وفي هذه المواضع شاهد الأصل حاضر فلا يجوز قبول
شهادة الفرع فليلحظ ذلك.
لا مدخل للنساء في الشهادة على الشهادة سواء كان الحق مما يشهد فيه النساء أو لا
يشهدن فيه.
إذا شهد شاهد الفرع على شهادة الأصل لم يخل من ثلاثة أحوال:
إما أن يسميا الأصل ويعدلاه أو لا يعدلاه ولا يسمياه أو يسمياه ولم يعدلاه. فإن سمياه
وعدلاه ثبتت عدالته وشهادته لأنهما عدلان، وإن عدلاه ولم يسمياه لم يحكم بقولهما،
وإن سمياه ولم يعدلاه سمع الحاكم هذه الشهادة وبحث عن عدالة الأصل فإن ثبتت
عدالته حكم وإلا وقف. ويصير شاهد الفرع متحملا لشهادة شاهد الأصل بأحد أسباب
ثلاثة:
أحدها: الاسترعاء وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: أشهد أن لفلان بن فلان
على فلان بن فلان درهما فاشهد على شهادتي، فهذا هو الاسترعاء.
الثاني: أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل يشهد بالحق عند الحاكم فإذا سمعه يشهد به
عند الحاكم صار متحملا لشهادته.
الثالث: أن يشهد الأصل بالحق ويعزيه إلى سبب وجوبه فيقول: أشهد أن لفلان بن
فلان على فلان بن فلان ألف درهم من ثمن ثوب أو عبد أو دار أو ضمان ونحو هذا فإذا
عزاه إلى سبب وجوبه صار متحملا للشهادة.
فأما إن لم يكن هناك استرعاء ولا سمعه يشهد عند حاكم ولا عزاه إلى سبب وجوبه
مثل أن سمعه يقول: أشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان درهما، فإنه لا يصير
282

بهذا متحملا للشهادة على شهادته لأن قوله: أشهد بذلك، ينقسم إلى الشهادة بالحق
ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به وهو أن يسمع الناس يقولون: لفلان على فلان
كذا، وكذا وقف التحمل لهذا الاحتمال فإذا حقق ما قلنا زال الإشكال. وهذا جميعه
أورده شيخنا في مبسوطه فأوردناه على ما أورده ولم يرد في أخبارنا من هذا شئ.
ولا بأس بالشهادة على الشهادة وإن كان الشاهد الأول حاضرا غير غائب إذا منعه
من إقامة الشهادة مانع من مرض وغيره، ومن رأى في يد غيره شيئا ورآه يتصرف فيه
تصرف الملاك جاز له أن يشهد بأنه ملكه كما أنه يجوز له أن يشتريه على أنه ملكه،
وفقه ذلك أنه كما يجوز أن يشتريه ثم يدعيه بعد الشراء ملكا له فلو لا أنه كان يجوز له أن
يشهد له بالملك المطلق لما جاز له أن يدعيه ملكا له بعد شرائه منه، وقال شيخنا أبو جعفر
في مبسوطه: فأما الشهادة باليد فلا شبهة في جوازها، وقال بعضهم: يشهد له بالملك،
وقال: لأنه لما صح أن يشهد على بيعه ما في يديه صح أن يشهد له بالملك، قال رحمه الله: وروى أصحابنا
أنه يجوز له أن يشهد بالملك كما يجوز أن يشتريه ثم يدعيه ملكا له، هذا
آخر كلامه رحمه الله.
ولا بأس أن يشهد الانسان على مبيع وإن لم يعرفه ولا عرف حدوده ولا موضعه إذا عرف
البائع والمشتري ذلك ويكون شاهدا على إقرارهما بوصف المبيع
وقد روي: أنه يكره للمؤمن أن يشهد لمخالف له في الاعتقاد لئلا يلزمه إقامتها فربما
ردت شهادته فيكون قد أذل نفسه، وفقه هذه الرواية إنما يكره له أن يتحمل له شهادة
ابتداء فأما إن تحملها فالواجب عليه أداؤها وإقامتها إذا دعي إلى ذلك عند من دعي إلى
إقامتها عنده سواء ردها أو لم يردها قبلها أو لم يقبلها بغير خلاف لقوله تعالى: ومن
يكتمها فإنه آثم قلبه.
ومتى دعي الانسان لإقامة شهادة لم يجز له الامتناع منها على حال إلا أن يعلم أنه
إن أقامها أضر ذلك بمؤمن ضررا غير مستحق بأن يكون عليه دين وهو معسر ويعلم إن شهد
عليه حبسه الحاكم فاستضر به هو وعياله لم يجز له إقامتها، وإذا أراد إقامة شهادة لم يجز
له أن يقيم إلا على ما يعلمه ويتيقنه ويقطع عليه، ولا يعول على ما يجد خطه به مكتوبا
أو خاتمه مختوما لما قدمناه من قوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، وقول الرسول
283

ع لما سئل عن الشهادة فقال للسائل: فهل ترى الشمس؟ على مثلها فاشهد
أو دع.
وما روي عن الأئمة الأطهار في مثل هذا المعنى أكثر من أن يحصى قد أورد بعضه شيخنا
أبو جعفر في استبصاره. وقال شيخنا في نهايته: وإذا أراد إقامة الشهادة لم يجز له أن يقيم
إلا على ما يعلم ولا يعول على ما يجد خطه به مكتوبا فإن وجد خطه مكتوبا ولم يذكر
الشهادة لم يجز له إقامتها فإن لم يذكر وشهد معه آخر ثقة جاز له حينئذ إقامة الشهادة.
وهذا غير صحيح ولا مستقيم لما قدمناه من القرآن والأخبار والإجماع، ولا يلتفت إلى خبر
ضعيف قد أورده إيرادا لا اعتقادا فإنه رحمه الله رجع عن قوله في نهايته في استبصاره
وأورد الأخبار المتواترة في: أن الانسان لا يجوز له أن يقيم إلا بعد الذكر للشهادة ولا يجوز
له أن يعول على خطه وخاتمه. ثم أورد بعد ذلك في آخر الباب خبرا خبيثا ضعيفا شاذا
مخالفا لأصول مذهب أهل البيت ع موافقا لمذاهب أهل الغلو والإلحاد وهو
عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله ع: الرجل يشهدني على الشهادة
فأعرف خطي وخاتمي ولا أذكر من الباقي قليلا ولا كثيرا، قال: فقال لي: إذا كان
صاحبك ثقة ومعه رجل ثقة فاشهد له. قال شيخنا أبو جعفر في استبصاره: فهذا الخبر
ضعيف مخالف للأصول كلها قال: لأنا قد بينا أن الشهادة لا يجوز إقامتها إلا مع العلم،
ثم قال: وقد قدمنا أيضا الأخبار التي تقدمت من أنه لا يجوز إقامة الشهادة مع وجود
الخط والختم إذا لم يذكرها. ثم تأوله تأويلا نربأ به عن مثله ثم قال بعد تأويله واعتذاره
الذي يحتاج إلى اعتذار: وإن كان الأحوط ما تضمنته الأخبار الأولة.
قال محمد بن إدريس: ثم هذا يؤدى إلى أن يشهد الانسان لأخيه الثقة بقوله فيكون
مصيرا إلى مذهب ابن أبي العزاقر الغالي الذي أودعه كتابه " كتاب التكليف " وهو
معروف وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في فهرست المصنفين وقال: أروي الكتاب وذكر من
رواه عنه واستثني هذا الحديث فإنه قال: أرويه إلا حديثا واحدا وهو: أنه يجوز أن
يشهد الانسان لأخيه بقوله - نعوذ بالله من سوء التوفيق من هذا القول - ثم وأي علم
يحصل له إذا شهد معه آخر ثقة ولم يذكر هو الشهادة فهذا يكون شاهدا على شهادته وهو
حاضر ولا يجوز الشهادة على الشهادة إلا إذا تعذر على شاهد الأصول الحضور وههنا شاهد
الأصل حاضر وأيضا فلا بد من أن يكونا اثنين حتى يقوما مقامه وههنا شاهد الفرع
284

واحد فهذا القول فاسد بحمد الله تعالى من كل الأحوال وعلى سائر الأقوال.
ومن علم شيئا من الأشياء ولم يكن قد أشهد عليه ثم دعي إلى أن يشهد فالواجب
عليه الأداء لقوله تعالى: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، ولا يكون بالخيار في إقامتها.
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته: ومن علم شيئا من الأشياء ولم يكن قد أشهد عليه ثم
دعي إلى أن يشهد كان بالخيار في إقامتها وفي الامتناع منها اللهم إلا أن يعلم أنه إن لم
يقمها بطل حق مؤمن فحينئذ يجب عليه إقامة الشهادة.
كما لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسئل عن الشهادة، وكما لا يجوز له كتمانها وقد
دعي إلى إقامتها إلا أن يكون إقامتها تؤدي إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقه على ما
قدمناه فإنه لا يجوز له حينئذ إقامة الشهادة وإن دعي إليها، أو يكون فيما قلنا: أنه لا
يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة إلا أن يكون ترك شهادته يبطل حقا قد
علمه فيما بينه وبين الله تعالى فيجوز له بل يجب عليه أن يشهد به قبل أن يسأل عن
الشهادة.
وشيخنا في النهاية قد أورد المسألتين واستثنى استثنائين عقيبهما فيهما التباس وإبهام
لأن استثناء المسألة الأولى عقيب المسألة الثانية واستثناء المسألة الثانية عقيب المسألة
الأولى فلا يفهم بأول خاطر بل يحتاج إلى تأمل ورد الاستثناء الأول إلى المسألة الأولى
ورد الاستثناء الأخير إلى المسألة الثانية وقد زال الالتباس والإبهام فكم من معنى ضاع
لقصور العبارة ولسوء الإشارة فإني شاهدت جماعة من أصحابنا يلتبس هذا عليهم كثيرا
وهذا سهل على المتأمل المحصل لمعاني الخطاب وكلام العرب فإنهم يلقون الجملتين
المختلفتين ثم يرمون بتفسيرهما جملة ثقة بأن يرد السامع إلى كل جملة خبرها لقوله تعالى:
ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله. والسكون
بالليل وهو عقيب النهار.
باب شهادة الولد لوالده وعليه والوالد لولده وعليه والمرأة لزوجها وعليه والزوج لزوجته
وعليها:
لا بأس بشهادة الوالد لولده وعليه مع غيره من أهل الشهادة، ولا بأس بشهادة الولد
285

لوالده ولا يجوز شهادته عليه.
وقال السيد المرتضى في انتصاره: يجوز أيضا شهادته عليه، والأول هو المذهب وعليه
العمل والإجماع منعقد عليه ولا اعتبار بخلاف من يعرف اسمه ونسبه.
ولا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه إذا كان معه غيره من أهل الشهادات، ولا بأس
بشهادة الرجل لامرأته وعليها إذا كان معه غيره من أهل العدالة، ولا بأس بشهادتها له
وعليه فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه إذا كان معها غيرها من أهل العدالة.
وقولنا في جميع ذلك إذا كان معه غيره من أهل العدالة على ما أورده بعض أصحابنا وإلا
إذا لم يكن معه غيره يجوز أيضا شهادته له مع يمين المدعي فيما يجوز قبول شهادة الشاهد
الواحد مع اليمين.
ويجوز شهادات ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا إلا ما
استثنيناه،
والسيد المرتضى قال: من غير استثناء لأحد، على ما حكيناه عنه قبل هذا فإن قيل: وما
بالكم استثنيتم؟ قلنا: قد دللنا على أن الاجماع منعقد على ذلك فإن قيل: فأين أنتم من
قوله تعالى: ولو على أنفسكم أو الوالدين؟ قلنا: قد يخص العموم بالأدلة وإجماعنا من
أعظم الأدلة وأقواها ويمكن أن يعطي الظاهر حقه ونقول: يجب على الولد أن يقيم على
والده الشهادة ولا يجوز للحاكم أن يعمل بها كما أن الفاسق إذا دعي لإقامة شهادة شهد
بها فإنه يجب عليه أن يقيمها ويجب على الحاكم أن لا يعمل بها.
باب شهادة العبيد والإماء والمكاتبين والصبيان وأحكامهم:
لا بأس بشهادة العبيد إذا كانوا عدولا لساداتهم ولغير ساداتهم وعلى غير ساداتهم
ولا يجوز شهادتهم على ساداتهم،
وذهب أبو علي بن الجنيد من أصحابنا إلى: المنع من شهادة العبيد على كل حال.
وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه الله في استبصاره إلى: أن العبد لا تقبل شهادته
لسيده ولا عليه، وإن كان قائلا بما اخترناه في نهايته وهو الصحيح. والإجماع منعقد من
أصحابنا على ما قلناه أولا ولا اعتبار بخلاف ابن الجنيد لما قدمناه.
286

وإذا شهد العبد على سيده بعد أن يعتق قبلت شهادته عليه، وإذا أشهد رجل عبدين له
على نفسه بالإقرار بوارث فردت شهادتهما وجاز الميراث غير المقر له فأعتقهما أو لحقهما
العتاق بعد ذلك ثم شهدا للمقر له قبلت شهادتهما له ورجع بالميراث على من كان أخذه
وحازه ورجعا عبدين لمن شهدا له،
فإن قيل: أنتم قلتم لا تقبل شهادة العبيد على ساداتهم وههنا قد قبلتم شهادتهم على
سيدهم. قلنا: معاذ الله إنما شهدا في حال الحرية دون العبودية فوقت شهادتهما لم يكن
لهما سيد يشهدان عليه وإنما تجدد الرق بعد شهادتهما، بل إن قيل: شهدا لسيدهما
الحقيقي كان صحيحا. وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته: فإن ذكرا أن مولاهما كان
أعتقهما في حال ما أشهدهما لم يجز للمقر أن يردهما في الرق وتقبل شهادتهما في ذلك
لأنهما أحييا حقه. وهذا غير واضح ولا مستقيم لأن هذه الشهادة الأخيرة تكون شهادة
على سيدهما وقد بينا أنه لا يجوز شهادة العبيد على ساداتهم بغير خلاف بين أصحابنا وإن
كان قد ذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره متأولا للأخبار إلى أن شهادة العبيد لا تقبل
لساداتهم أيضا وهذا أيضا غير مستقيم ولا واضح بل الاجماع منعقد على جواز شهادتهم
لساداتهم وهو موافق لهذا القول في نهايته فلا يلتفت إلى قوله الذي يخالف فيه الاجماع.
ولا بأس بشهادة المكاتبين والمدبرين وتقبل شهادة المكاتبين المطلقين بمقدار ما عتقوا
- بفتح العين يقال: عتق العبد في نفسه وأعتقه غيره - على ساداتهم ولي فيه نظر، فأما
شهادة المدبرين فحكمهم حكم العبيد في الشهادا ت حرفا فحرفا، وكل من ذكرنا من
العبيد والمكاتبين والمدبرين تقبل شهاداتهم على أهل الاسلام إلا من استثنيناهم من
ساداتهم ولأهل الاسلام ولمن خالف الاسلام من الأحرار والعبيد في سائر الحقوق
والحدود وغير ذلك مما تراعى فيه الشهادة. وتجوز شهادة الصبيان دون الصبايا إذا بلغوا
عشر سنين فصاعدا إلى أن يبلغوا في شيئين فحسب " الشجاج والقصاص " ويؤخذ بأول
كلامهم ولا يؤخذ بآخره ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من جميع الأحكام، وإذا
أشهد الصبي على حق ثم بلغ وعدل وذكر ذلك جاز له أن يشهد بذلك وقبلت شهادته
إذا كان من أهلها على ما قدمناه.
287

باب شهادة النساء:
شهادة النساء على ثلاثة أضرب: ضرب لا يجوز قبولها على وجه وضرب يجوز قبولها
إذا انضم شهادة الرجال إليهن وضرب يجوز قبولها وإن لم ينضم شهادة الرجال إليهن،
فالأول رؤية الأهلة والطلاق والرضاع على ما قدمناه أولا وذكرناه فإنه لا يجوز قبول
شهادة النساء في ذلك وإن كثرن.
والثاني فكالرجم فإنه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان على رجل بالزنى قبلت
شهادتهم ووجب على المشهود عليه الرجم إن كان محصنا، وإن شهد رجلان وأربع نسوة
بذلك قبلت أيضا إلا أنه لا يرجم المشهود عليه إن كان محصنا بل يحد حد الزاني غير
المحصن، فإن شهد رجل وست نساء أو أكثر منهن لم يجز قبول شهادتهم وجلدوا كلهم
حد الفرية. وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزنى وإن الفعل كان في قبلها فادعت
أنها بكر أمر النساء بأن ينظرن إليها، فإن كانت كما قالت درئ عنها الحد وجلد
الأربعة حد الفرية وإن لم يكن كذلك رجمت أو حدت على ما يوجبه حالها. فأما أن
يشهد الأربعة رجال بأن الفعل كان في دبرها فدعواها غير نافعة لها وإن شهد لها بما
ادعت، وشيخنا أطلق ذلك في نهايته إطلاقا والأولى تقييده على ما حررناه. ويجوز
شهادتهن منضمات إلى الرجال في القتل والقصاص إذا كان معهن رجال، فأما إن كان
رجل واحد معهن بأن يشهد رجل وامرأتان على رجل بالقتل أو الجراح،
فقد ذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى قبولها، والذي يقوى في نفسي خلاف ذلك وأنها
غير مقبولة لأنه لا دليل عليه من إجماع ولا كتاب ولا سنة مقطوع بها.
فأما شهادتهن على ذلك على الانفراد فإنها لا تقبل على حال.
فأما قول شيخنا في نهايته على ما أوردناه عنه: إذا كان معهن رجال، فلا وجه
لانضمامهن إليهم في ذلك لأن الرجال يكفون ولا حاجة في تصحيح الشهادة وإتمامها
بهن.
وتقبل شهادتهن في الديون مع الرجال بغير خلاف على ما جاء به القرآن وعلى الانفراد
عند بعض أصحابنا، فإن شهد رجل وامرأتان بدين قبلت شهادتهم، فإن شهدت امرأتان
قبلت شهادتهما ووجب على الذي يشهدان له اليمين، كما يجب اليمين إذا شهد له
288

رجل واحد عند بعض أصحابنا على ما قدمناه.
فأما ما يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد فكل ما لا يستطيع الرجال النظر إليه
مثل العذرة والأمور الباطنة بالنساء، وتقبل شهادة القابلة وحدها إذا كانت بشرائط
العدالة في استهلال الصبي في ربع ميراثه بغير يمين، وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع
الوصية وشهادة امرأتين في نصف ميراث المستهل ونصف الوصية ثم على هذا الحساب
وذلك لا يجوز إلا عند عدم الرجال وعلى المسألتين إجماع أصحابنا فلأجله قلنا بذلك، ولا
يجوز شهادة النساء في شئ من الحدود إلا ما قلناه من حد الزنى والدم خاصة لئلا يبطل
دم امرئ مسلم غير أنه لا يثبت بشهادتهن القود ويجب بها الدية على الكمال عند من
ذهب إليه على ما حكيناه، ولا تقبل شهادة النساء في عقد النكاح،
وإليه ذهب شيخنا المفيد في مقنعته، وذهب شيخنا أبو جعفر في الاستبصار إلى قبول
شهادتهن في عقود النكاح. والذي قلنا واخترناه هو الذي تقتضيه أصول مذهبنا لأنه أمر
شرعي يحتاج إلى أدلة شرعية على ثبوته.
باب شهادة من خالف الاسلام:
ولا يجوز قبول شهادة من خالف الاسلام على المسلمين لا في حال الاختيار ولا حال
الاضطرار إلا في الوصية بالمال في حال الاضطرار خاصة دون سائر الأحكام لقوله تعالى:
أو آخران من غيركم. ويجوز شهادة المسلمين عليهم ولهم،
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته: ويجوز شهادة بعضهم على بعض ولهم كل ملة على أهل
ملته خاصة ولهم، ولا تقبل شهادة أهل ملة منهم لغيرهم ولا عليهم إلا المسلمين خاصة
حسب ما قدمناه فإنه تقبل شهادتهم لهم وعلى غيرهم من أصناف الكفار، وتقبل لهم إذا
كانوا أهل كتاب في أحكام المسلمين في الوصية بالمال خاصة حسب ما قدمناه.
وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطه خلاف ما ذهب في نهايته وهو أن قال: لا خلاف أن
شهادة أهل الذمة لا تقبل على المسلم إلا ما ينفرد به أصحابنا في الوصية خاصة في حال
السفر عند عدم المسلم، قال: فأما قبول شهادة بعضهم على بعض فقال قوم: لا تقبل
بحال لا على مسلم ولا على مشرك اتفقت ملتهم أو اختلفت وفيه خلاف. قال رحمه الله:
289

ويقوى في نفسي أنه لا تقبل بحال لأنهم كفار فساق.
ومن شرط الشاهد أن يكون عدلا،
قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب: وهذا الذي يقوى أيضا في نفسي وأعتقده
مذهبا أدين الله تعالى به وأعمل عليه وأفتى به لأن الاجماع من المسلمين منعقد عليه وهو
قبول شهادة العدول - وقد بينا أن العدل من لا يخل بواجب ولا يرتكب قبيحا - وقوله
تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم، وفيما عدا هذا خلاف ودليل الاحتياط يقتضيه
فلو اقتصرنا عليه لكفى، وأيضا فليس على خلاف ما اخترناه دليل من إجماع ولا سنة
مقطوع بها ولا كتاب وعلى ما اخترناه الاجماع والكتاب والسنة فلا يرجع عن المعلوم إلى
المظنون ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد فإنها لا توجب علما ولا عملا على ما ذكرنا القول
في ذلك.
والذمي إذا شهد على أمر من الأمور ثم أسلم جاز قبول شهادته على المسلمين والكافرين
إذا كان بشرائط العدالة وكذلك جميع الكفار.
باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين وحكم القسامة:
نقبل الشاهد الواحد مع يمين المدعي في كل ما كان مالا أو المقصود منه المال،
وقال شيخنا في نهايته: إذا شهد لصاحب الدين شاهد واحد قبلت شهادته وحلف مع
ذلك وقضي له به وذلك في الدين خاصة. ورجع عن هذا القول في استبصاره ومسائل
خلافه ومبسوطه وهو الصحيح الحق اليقين لأنه مذهب جميع أصحابنا.
ولا بد في ذلك من الترتيب وهو أن يشهد الشاهد أولا ثم يحلف المدعي بعد ذلك، فإن
حلف قبل شهادة الشاهد لا يعتد بذلك، فإن قال من أقام الشاهد: لست أختار اليمين
مع الشاهد ولا أضم إليه شاهدا آخر وأختار مطالبة المدعى عليه باليمين، كان له ذلك.
فإذا اختار الاستحلاف نظرت، فإن اختار أن يسترد ما بذله ويحلف هو لم يكن له ذلك
لأن من بذل اليمين لخصمه لم يكن له أن يستردها إلى نفسه بغير رضاه، وإن اختار أن
يقيم على ذلك ويستحلف المدعى عليه كان له فإذا فعل هذا لم يخل المدعى عليه من أحد
أمرين: إما أن يحلف أو ينكل - بضم الكاف - فإن حلف أسقط دعوى المدعي وإن
290

لم يحلف فقد نكل وحصل مع المدعي نكول وشاهد، وهل يقضى بنكوله مع شاهد
المدعي؟ فعندنا أنه لا يحكم به عليه، فإذا تقرر أنه لا يحكم عليه بمجرد النكول فهل يرد
اليمين على المدعي أم لا؟
قال بعض المخالفين لمذهبنا: لا ترد عليه لأنها يمين بذلها لخصمه فإذا عفا عنها لم تعد إلى
باذلها كيمين المدعى عليه إذا بذلها للمدعي ثم عفا عنها فإنها لا تعود إلى باذلها. وقال
قوم: ترد إليه، وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا لأن هذه غير تلك فإن هذه يمين
الرد يقضى بها في الأموال وغيرها وتلك يمينه مع الشاهد لا يقضى بها في غير الأموال
وسببها غير سبب تلك فإن سببها نكول المدعى عليه.
إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق نصابا من حرز وأقام به شاهدا واحدا حلف مع
شاهده ولزم الغرم دون القطع لأن السرقة توجب شيئين: غرما وقطعا، والغرم يثبت
بالشاهد واليمين دون القطع وأما القتل فإن كان يوجب مالا فإنه يثبت بالشاهد واليمين
عمدا كان أو خطأ وإن كان عمدا يوجب القود، فإذا كان له شاهد واحد كان لوثا
وكان له أن يحلف مع شاهده خمسين يمينا إذا لم يكن له من يحلف من قومه فإذا حلف
ثبت القتل وعندنا يوجب القود.
من وقف وقفا على قوم انتقل ملكه عن الواقف وإلى من ينتقل؟
قال قوم من المخالفين: إلى الموقوف عليه، وهو الذي يقتضيه مذهبنا، وقال قوم منهم:
ينتقل إلى الله لا إلى مالك، فإذا ثبت ذلك فادعى على رجل أنه وقف عليه هذه الدار
وقفا مؤبدا وأقام به شاهدا واحدا فهل يثبت بالشاهد واليمين أم لا؟ فمن قال: ينتقل
إلى الموقوف عليه، قال: ثبت بالشاهد واليمين، لأنه نقل ملك من مالك إلى مالك. ومن
قال: ينتقل إلى الله لا إلى مالك، قال: لا يثبت إلا بشاهدين، لأنه إزالة ملك إلى الله
كالعتق وإنما قلنا: إنه ينتقل إلى الموقوف عليه، لأن جميع أحكام الملك باقية عليه بحالها
بدليل أنه يضمن باليد وبالقيمة ويتصرف فيه وعند بعض أصحابنا يجوز بيعه على وجه.
ولا يجوز قبول شهادة واحد والحكم بها في الهلال والطلاق والحدود والقصاص وغير ذلك
من الأحكام، والقسامة لا تقبل إلا في الدماء خاصة،
والقسامة عند الفقهاء كثرة اليمين بالقسامة من القسم وسميت قسامة لتكثير اليمين
291

فيها. وقال أهل اللغة: القسامة عبارة عن أسماء الحالفين من أولياء المقتول فعبر بالمصدر
عنهم وقيم المصدر مقامهم يقال: أقسمت أقسم إقساما وقسامة، فأيهما كان فاشتقاقه
من القسم الذي هو اليمين.
إذا ادعى الرجل دما على قوم لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون معه أمارة تدل
على صدق ما يدعيه أو لا يكون،
فإن لم يكن معه ذلك فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ وإن لم
يحلف رددنا اليمين على المدعي فيحلف ويستحق ما ادعاه إن كان قتلا عمدا استحق
القود عندنا وإن كان غير عمد استحق الدية، ولا فصل بين هذا وبين سائر الدعاوي إلا
في صفة اليمين فإن الدعوى إذا كانت قتلا ودما هل تغلظ الأيمان فيه أم لا؟ قال قوم:
تغلظ، وقال آخرون: لا تغلظ، وهو الأظهر.
وإن كان معه أمارة تدل على دعواه ويشهد القلب بصدق ما يدعيه وهذا يسمى لوثا،
بفتح اللام وتسكين الواو والثاء المنقطة بثلاث نقط مثل أن يشهد معه شاهد واحد أو
وجد القتيل في برية والقتيل طري والدم جار وبالقرب منه رجل معه سكين عليها دم
والرجل ملوث بالدم أو وجد في قرية لا يدخلها غير أهلها، وهكذا لو وجد في دار فيها قوم
قد اجتمعوا على أمر من طعام أو غيره فوجد قتيل بينهم فهذا لوث فالظاهر أنهم قتلوه.
فمتى كان مع المدعي لوث فالقول قوله يبدأ به باليمين يحلف خمسين يمينا إن كان القتل
عمدا أو خمسا وعشرين يمينا إن كان خطأ. فإن حلف على قتل عمد محض عندنا يقاد
المدعى عليه به
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته: وصفة القسامة إذا لم يوجد في الدم رجلان عدلان
يشهدان بالقتل فأحضر ولي المقتول خمسين رجلا من قومه يقسمون بالله تعالى على أنه قتل
صاحبهم فإذا حلفوا قضي لهم بالدية، فإذا حضر دون الخمسين حلف ولي الدم بالله من
الأيمان ما يتم به الخمسين وكان له الدية، فإن لم يكن له أحد يشهد له حلف هو خمسين
يمينا ووجبت له الدية والصحيح أن له القود. وقد رجع شيخنا عن هذا القول إلى ما
اخترناه في الجزء الثاني من كتابه النهاية وقال بما قلناه وكذلك في مسائل خلافه
292

ومبسوطه.
ولا يكون القسامة إلا مع التهمة للمطالب بالدم والشبهة في ذلك على ما بيناه لوثا،
والقسامة فيما دون النفس تكون بحساب ذلك وسنبين أحكامها في كتاب الديات عند
المصير إليه إن شاء الله تعالى.
باب شهادات الزور:
لا يجوز لأحد أن يشهد بالزور وبما لا يعلم في أي شئ كان قليلا كان أو كثيرا وعلى
من كان موافقا محقا أو مخالفا مبطلا، فمتى شهد بذلك أثم واستحق من الله سبحانه
أليم العقاب وكان ضامنا.
وإن شهد أربعة رجال على رجل بالزنى وكان محصنا فرجم ثم رجع أحدهم فقال:
تعمدت ذلك، قتل وأدى الثلاثة الشهود إلى ورثة الشاهد المقتول الذي رجع عن شهادته
وقال: تعمدت، ثلاثة أرباع الدية
على ما روي في بعض أخبارنا وقد أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته، والذي يقوى في
نفسي أن إقراره جائز على نفسه لا يتعداه إلى غيره ولا ينقض الحكم لأنه لا دليل عليه من
كتاب ولا سنة مقطوع بها ولا إجماع منعقد وإنما ذلك ورد من طريق أخبار الآحاد التي
لا توجب علما ولا عملا. قال شيخنا في نهايته: فإن قال: أوهمت، ألزم ربع الدية.
وإن رجع اثنان وقالا: أوهمنا، ألزما نصف الدية وإن قالا: تعمدنا، وأراد أولياء المقتول
بالرجم أن يقتلوهما جميعا قتلوهما وأدى إلى ورثتهما دية كاملة يتقاسمان بينهما على
السواء ويؤدى الشاهدان الآخران إلى ورثتهما نصف الدية يعني نصف ألف دينار التي
هي دية كاملة للرجل الحر فيحصل مع ورثة كل واحد من الشاهدين المقتولين سبع مائة
وخمسون دينارا لأنه يسقط من دية كل واحد منهما بقدر نصيبه لو طالب ورثة المقتول
الأول المشهود عليه للشهود الأربعة بالدية وكان يجب على كل واحد منهم مائتان
وخمسون دينارا، وإن اختار أولياء المقتول قتل واحد منهما كان لهم قتله وأدى الآخر مع
الباقين من الشهود على ورثة الشاهد المقتول الثاني ثلاثة أرباع ديته وسقط بمقدار حصته
لو طولبوا بالدية على ما قررناه وحررناه، وإن رجع الكل عن شهادتهم كان حكمهم
293

حكم الاثنين سواء. كل ذلك على ما أورده شيخنا في نهايته على ما حكيناه عنه من
طريق أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا وقد قلنا ما عندنا في ذلك من أن إقرار
المقر جائز على نفسه لا يتعداه من قبله إلى غيره في سائر الأحكام الشرعيات.
وإن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته وكان قبل الدخول بها ثم رجعا وجب
عليهما نصف المهر الذي شهدا عليه بالطلاق، وإن كان بعد الدخول بها فلا شئ
عليهما من المهر لا نصفه ولا جميعه لأن الأصل براءة الذمة فمن أوجب عليهما شيئا
فعليه الدلالة، وليس خروج البضع عن ملك الزوج له قيمة كما لو أتلفا عليه ما لا قيمة
له فلا يلزمهما الضمان وأما قبل الدخول فيلزمه نصف المهر فيجب أن يغرماه له لأنهما
غرماه إياه وأتلفاه بشهادتهما فليلحظ الفرق بين الموضعين.
وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه، وقال رحمه الله في نهايته: وإن شهد
رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدت وتزوجت ودخل بها ثم رجعا وجب عليهما الحد
وضمنا المهر للزوج الثاني وترجع المرأة إلى الأول بعد الاستبراء بعدة من الثاني.
قال محمد بن إدريس: وقوله رحمه الله: ويضربان الحد، يريد بذلك التعزير فسماه حدا
لأنه لا يجب على كل واحد منهما حد كامل لكن هما شاهدا زور فيعزران بحسب ما يراه
الإمام ع أو الحاكم من قبله. وقوله: ترجع إلى الأول، فيه نظر لأنهما إذا
شهدا بالطلاق عند الحاكم كانا عنده وقت شهادتهما بشرائط العدالة وحكم بشهادتهما
وأمضي الحكم وتزوجت المرأة بحكمه. وقوله: فلا تأثير لرجوعهما ولا ينقض الحكم
برجوعهما بل يغرمان ما أتلفا وضيعا بشهادتهما من الأموال ولا ينقض الحاكم ما حكم
به ولا يرجع عن المشهود له بشئ مما شهدا له به، هذا حكم سائر في جميع الأشياء مجمع
عليه عند أصحابنا وإليه يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ومبسوطه. قال في
مسائل خلافه: مسألة إذا شهد شاهدان بحق وعرفت عدالتهما وحكم الحاكم واستوفى الحق
ثم رجعا عن الشهادة لم ينقض حكمه، وبه قال جميع الفقهاء، وقال سعيد بن
المسيب والأوزاعي: ينقضه، قال: دليلنا أن الذي حكم به مقطوع به بالشرع ورجوعهم
يحتمل الصدق والكذب فلا ينقض به ما قد قطع عليه. هذا آخر كلامه رحمه الله في
مسائل الخلاف.
294

قال محمد بن إدريس: وطلاق هذه المرأة مقطوع عليه وتزويجها مأمور به محكوم بصحة
العقد بغير خلاف فلا يرجع عن هذا المقطوع عليه المحكوم بصحته شرعا بأمر مظنون وهو
رجوعهما لأنه يحتمل الصدق والكذب والحق والباطل فلا ينقض به ما قد قطع عليه
وحكم بصحته شرعا، وما أورده في نهايته رحمه الله خبر واحد لا يوجب علما ولا عملا
ذكره في استبصاره وأورد خبرا آخر وتأوله، والخبر الذي أورده ليقضي به على ما اختلف
عليه من الأخبار ليس فيه أنه رجعا جميعا أعني الشاهدين على ما أورده في نهايته بل
فيه: وأكذب نفسه أحد الشاهدين، فإذا كان هذا الاختلاف والتأويل في الخبر ولا
إجماع معنا ولا كتاب الله سبحانه ولا أخبار متواترة ولا سنة مقطوع بها بل إجماعنا منعقد
على ما قررناه من أن الحاكم لا ينقض حكمه إذا حكم برجوع الشهود فلا يعدل عن
الدليل إلى غيره لأنه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.
فإن شهدا بسرقة فقطع المشهود عليه ثم رجع ألزما دية يد المقطوع فإن رجع أحدهما
ألزم نصف دية يده هذا إذا قالا: وهمنا في الشهادة، فإن قالا: تعمدنا، قطع يد واحد
منهما بيد المقطوع وأدى الآخر نصف دية اليد على المقطوع الثاني، وإن أراد المقطوع
الأول المشهود عليه أن يقطعهما قطعهما وأدى إليهما دية يد واحدة يتقاسمان بها
بينهما على السواء، وكذلك إن شهدا على رجل بدين ثم رجعا ألزما مقدار ما شهدا به
فإن رجع أحدهما ألزم بمقدار ما يصيبه من الشهادة وهو النصف.
ومتى شهدا على رجل ثم رجعا قبل أن يحكم الحاكم طرحت شهادتهما ولم يلزما
شيئا بل يتوقف الحاكم عن إنفاذ الحكم، وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم غرما ما
شهدا به سواء كان الشئ قائما بعينه أو لم يكن كذلك
وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته: غرما ما شهدا به إذا لم يكن الشئ قائما بعينه فإن
كان الشئ قائما بعينه رد على صاحبه ولم يلزما شيئا. وقد دللنا على صحة ما ذهبنا
إليه قبل هذا بلا فصل حين قلنا: إن إجماع أصحابنا منعقد على أنه إن رجع الشهود بعد
حكم الحاكم فلا يلتفت إلى رجوعهما فيما حكم به ولا ينقض حكمه لأن حكمه مقطوع
من جهة الشرع على صحته ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب فلا يرجع عن أمر مقطوع
على صحته بأمر مشكوك فيه محتمل. وقد رجع شيخنا عما ذكره في نهايته في مسائل
295

خلافه ومبسوطه فقال في مبسوطه في الرجوع عن الشهادة: إذا شهد الشهود عند الحاكم
بحق فعرف عدالتهم ثم رجعوا لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن رجعوا قبل الحكم أو
بعده وقبل القبض أو بعد الحكم والقبض معا، فإن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بلا
خلاف إلا أبا ثور فإنه قال: يحكم به، والأول أصح. وإن رجعوا بعد الحكم وقبل
القبض نظرت فإن كان الحق حدا لله كالزنى والسرقة وحد الخمر لم يحكم بها لأنها
حدود تدرأ بالشبهات ورجوعهم شبهة وإن كان حقا لآدمي سقط بالشبهة كالقصاص
وحد القذف لم يستوف لمثل ذلك. وأما إن رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء أيضا لم
ينقض حكمه بلا خلاف إلا سعيد بن المسيب والأوزاعي فإنهما قالا: ينقض، والأول
أصح قال رحمه الله: فإذا ثبت أن الحكم لا ينقض فإن المستوفي قد قبض الحق فلا
اعتراض عليه، وما الذي يجب على الشهود قال رحمه الله: لا يخلو المستوفي من ثلاثة
أحوال: إما أن يكون إتلافا مشاهدة كالقتل والقطع أو حكما كالطلاق والعتق أو لا
مشاهدة ولا حكما كنقل المال من رجل إلى آخر، قال: وإن شئت قلت: لا يخلو أن
يكون إتلافا أو في حكم الإتلاف أو خارجا عنهما، ثم ذكر رحمه الله رجوعهما عن
الشهادة بالقتل والقطع في السرقة وشرحه ثم ذكر رجوعهما عن الطلاق وإلزامهما المهر
وشرحه وقال: إما أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان بعد الدخول فلا مهر عليهما
وإن كان قبل الدخول ثم رجعا فإن الحاكم لا ينقض حكمه وعليهما الضمان لنصف
المهر المسمى. ولم يتعرض لما ذكره في نهايته من رجوعهما إلى الزوج الأول بل قال:
فإن الحاكم لا ينقض حكمه، فإذا حرمها الحاكم على الثاني ورجعها إلى الأول على
ما قال في نهايته فقد نقض حكمه، ثم قال بعد ذلك رحمه الله: فأما إذا لم يكن إتلافا
مشاهدة ولا حكما وهو إن شهدا بدين وحكم بذلك عليه ثم رجعا فهل عليهما الضمان
للمشهود عليه أم لا؟ قال قوم: لا ضمان عليهما، وقال آخرون: عليهما الضمان،
وكذلك قالوا في من أعتق عبدا في يده أو وهبه وأقبضه ثم ذكر إنه كان لزيد فهل عليهما
قيمته لزيد على قولين لأنه أقر به بعد أن فعل ما حال بينه وبينه بغير حق، قال رحمه الله:
والأقوى عندي أن عليهما الضمان للمشهود عليه وكذلك تلزم القيمة للمعتق لعبده لمن
أقر له به. هذا آخر ما ذكره شيخنا في مبسوطه فأوردته لأنه كلام سديد في موضعه وجملة
نافعة كثيرة الفقه.
296

وكل موضع رجع فيه الشهود نظرت فإن ذكروا أنهم أخطؤوا فلا تعزير على واحد
منهم وإن قالوا: تعمدنا، كان عليهما التعزير.
إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين ثم بان له أنه حكم بشهادة من لا يجوز الحكم
بشهادته نقض الحكم بلا خلاف، فإن كان حكم بإتلاف كالقصاص والقتل والرجم
فلا قود هاهنا لأنه عن خطأ الحاكم، وأما الدية فإنها على الحاكم عند قوم وعند آخرين
على المزكين وروى أصحابنا: أن ما أخطأت الحكام فعلى بيت المال. فأما إن حكم
بالمال نظرت فإن كان عين المال باقية استردها وإن كانت تالفة فإن كان المشهود له هو
القابض وكان موسرا غرم ذلك وإن كان معسرا ضمن الإمام حتى إذا أيسر رجع الإمام
عليه والفرق بين هذا وبين الدية أن الحكم إذا كان بالمال حصل في يد المشهود له ما
يضمن باليد فلهذا كان الضمان عليه، وليس كذلك القتل لأنه ما حصل في يد المشهود
له ما يضمن باليد لأن ضمان الإتلاف ليس بضمان اليد فلهذا كان الضمان على الإمام
في بيت المال.
وإذا شهدا بسرقة على انسان فقطع ثم جاءا بآخر وقالا: هذا الذي سرق وإنما وهمنا
على ذلك، غرما دية اليد ولم تقبل شهادتهما على الآخر وإنما لم تقبل شهادتهما على
الآخر وإن لم يحصل فيهما شئ من أسباب الفسق لقلة ضبطهما وتحقيقهما وتعقلهما،
ولأجل هذا لا يقبل الحاكم شهادة المغفلين الذين ليس لهم شدة عقول ولا وفور تحصيل
وإن كانوا على ظاهر العدالة وليس رجوع الشاهدين عن الشهادة بموجب للفسق ولا لرد
شهادتهما على الآخر وإنما ردت لما قلناه.
وينبغي للإمام أن يعزر شهود الزور على ما قدمناه ويشهرهم في أهل محلتهم وسوقهم
لكي يرتدع غيرهم عن مثله في مستقبل الأوقات والإشهار: هو أن ينادي في محلتهم
ومجتمعهم وسوقهم فلان وفلان شاهدا زور، ولا يجوز أن يشهرا بأن يركبا حمارا وتحلق
رؤوسهما ولا أن ينادياهما على أنفسهما ولا أن يمثل بهما.
297

شرائع الاسلام
في مسائل الحلال والحرام
لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا
يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي المشتهر بالمحقق وبالمحقق الحلي
602 - 676 ه‍ ق
299

كتاب القضاء
والنظر في صفات القاضي وآدابه وكيفية الحكم وأحكام الدعاوي:
والنظر في أطراف خمسة:
النظر الأول: في الصفات:
ويشترط فيه البلوغ وكمال العقل والإيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم والذكورة.
فلا ينعقد القضاء لصبي ولا مراهق ولا كافر لأنه ليس أهلا للأمانة وكذا الفاسق،
ويدخل في ضمن العدالة اشتراط الأمانة والمحافظة على فعل الواجبات.
ولا ينعقد القضاء لولد الزنى مع تحقق حاله كما لا تصح إمامته ولا شهادته في
الأشياء الجليلة، وكذا لا ينعقد لغير العالم المستقل بأهلية الفتوى، ولا يكفي فتوى
العلماء ولا بد أن يكون عالما بجميع ما وليه، ويدخل فيه أن يكون ضابطا فلو غلب
عليه النسيان لم يجز نصبه. وهل يشترط علمه بالكتابة؟ فيه تردد، نظرا إلى اختصاص
النبي ص بالرئاسة العامة مع خلوة في أول أمره من الكتابة والأقرب
اشتراط ذلك لما يضطره إليه من الأمور التي لا تتيسر لغير النبي ص بدون
الكتابة.
ولا ينعقد القضاء للمرأة وإن استكملت الشرائط، وفي انعقاد قضاء الأعمى تردد
أظهره أنه لا ينعقد لافتقاره إلى التمييز بين الخصوم وتعذر ذلك مع العمى إلا فيما يقل،
وهل يشترط الحرية؟ قال في المبسوط: نعم، والأقرب أنه ليس شرطا.
301

وهنا مسائل:
الأولى: يشترط في ثبوت الولاية إذن الإمام ع أو من فوض إليه الإمام، ولو
استقضى أهل البلد قاضيا لم يثبت ولايته، نعم لو تراضى خصمان بواحد من الرعية
وترافعا إليه فحكم بينهما لزمهما الحكم، ولا يشترط رضاهما بعد الحكم، ويشترط فيه ما
يشترط في القاضي المنصوب عن الإمام ويعم الجواز كل الأحكام، ومع عدم الإمام ينفذ
قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت ع الجامع للصفات المشروطة في الفتوى
لقول أبي عبد الله ع: فاجعلوه قاضيا فإني جعلته قاضيا فتحاكموا إليه. ولو
عدل والحال هذه إلى قضاة الجور كان مخطئا.
الثانية: تولى القضاء مستحب لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطه وربما وجب
ووجوبه على الكفاية، وإذا علم الإمام أن بلدا خال من قاض لزمه أن يبعث له و يأثم
أهل البلد بالاتفاق على منعه ويحل قتالهم طلبا للإجابة، ولو وجد من هو بالشرائط
فامتنع لم يجبر مع وجود مثله، ولو ألزمه الإمام قال في الخلاف: لم يكن له الامتناع لأن
ما يلزم به الإمام واجب، ونحن نمنع الإلزام إذ الإمام لا يلزم بما ليس لازما. أما لو لم
يوجد غيره تعين هو ولزمه الإجابة، ولو لم يعلم به الإمام وجب أن يعرف نفسه لأن
القضاء من باب الأمر بالمعروف. وهل يجوز أن يبذل مالا ليلي القضاء؟ قيل: لا، لأنه
كالرشوة.
الثالثة: إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما فإن
قلد الأفضل جاز، وهل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه تردد، والوجه الجواز لأن خلله
ينجبر بنظر الإمام.
الرابعة: إذا أذن له الإمام في الاستخلاف جاز، ولو منع لم يجز، ومع إطلاق التولية
إن كان هناك أمارة تدل على الإذن مثل سعة الولاية التي لا تضبطها اليد الواحدة جاز
الاستنابة وإلا فلا استنادا إلى أن القضاء موقوف على الإذن.
الخامسة: إذا ولى من لا يتعين عليه القضاء فإن كان له كفاية من ماله فالأفضل أن
لا يطلب الرزق من بيت المال ولو طلب جاز لأنه من المصالح، وإن تعين للقضاء ولم
302

يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق، وإن كان له كفاية قيل: لا يجوز له أخذ الرزق لأنه
يؤدى فرضا. أما لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف والوجه التفصيل، فمع عدم
التعيين وحصول الضرورة قيل: يجوز، والأولى المنع. ولو اختل أحد الشرطين لم يجز،
وأما الشاهد فلا يجوز له أخذ الأجرة، لتعين الإقامة عليه مع التمكن، ويجوز للمؤذن
والقاسم وكاتب القاضي والمترجم وصاحب الديوان ووالى بيت المال أن يأخذوا الرزق
من بيت المال لأنه من المصالح وكذا من يكيل للناس ويزن ومن يعلم القرآن والآداب.
السادسة: تثبت ولاية القاضي بالاستفاضة، وكذا يثبت بالاستفاضة النسب والملك
المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق، ولو لم يستفض إما لبعد موضع ولايته عن موضع
عقد القضاء له أو لغيره من الأسباب أشهد الإمام أو من نصبه الإمام على ولايته شاهدين
بصورة ما عهد إليه وسيرهما معه ليشهدا له بالولاية، ولا يجب على أهل الولاية قبول دعواه
مع عدم البينة وإن شهدت له الأمارات ما لم يحصل اليقين.
السابعة: يجوز نصب قاضيين في البلد الواحد لكل منهما جهة على انفراده، وهل يجوز
التشريك بينهما في الولاية الواحدة؟ قيل: بالمنع حسما لمادة اختلاف الغريمين في
الاختيار، والوجه الجواز لأن القضاء نيابة تتبع اختيار المنوب.
الثامنة: إذا حدث به ما يمنع الانعقاد انعزل وإن لم يشهد الإمام بعزله كالجنون أو
الفسق، ولو حكم لم ينفذ حكمه، وهل يجوز أن يعزل اقتراحا؟ الوجه: لا، لأن ولايته
استقرت شرعا فلا تزول تشهيا. أما لو رأى الإمام أو النائب عزله لوجه من وجوه
المصالح أو لوجود من هو أتم منه نظرا فإنه جائز مراعاة للمصلحة.
التاسعة: إذا مات الإمام ع قال الشيخ رحمه الله: الذي يقتضيه مذهبنا
انعزال القضاة أجمع. وقال في المبسوط: لا ينعزلون لأن ولايتهم تثبت شرعا فلا تزول
بموته ع، والأول أشبه. ولو مات القاضي الأصلي لم ينعزل النائب عنه لأن
الاستنابة مشروطة بإذن الإمام ع، فالنائب عنه كالنائب عن الإمام فلا ينعزل
بموت الواسطة والقول بانعزاله أشبه.
العاشرة: إذا اقتضت المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط انعقدت ولايته مراعاة
303

للمصلحة في نظر الإمام كما اتفق لبعض القضاة في زمان علي ع وربما منع
من ذلك، فإنه ع لم يكن يفوض إلى من يستقضيه ولا يرتضيه بل يشاركه فيما
ينفذه فيكون هو ع الحاكم في الواقعة لا المنصوب.
الحادية عشرة: كل من لا تقبل شهادته لا ينفذ حكمه كالولد على الوالد والعبد على
مولاه والخصم على خصمه، ويجوز حكم الأب على ولده وله والأخ على أخيه وله كما
تجوز شهادته.
النظر الثاني: في الآداب:
وهي قسمان: مستحبة ومكروهة:
فالمستحبة: أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عما يحتاج إليه في أمور بلده، وأن
يسكن عند وصوله في وسط البلد لترد الخصوم عليه ورودا متساويا، وأن ينادي بقدومه إن
كان البلد واسعا لا ينتشر خبره فيه إلا بالنداء، وأن يجلس للقضاء في موضع بارز مثل
رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه، وأن يبدأ بأخذ ما في يد الحاكم المعزول من حجج
الناس وودائعهم لأن نظر الأول سقط بولايته.
ولو حكم في المسجد صلى عند دخوله تحية المسجد، ثم يجلس مستدبر القبلة ليكون
وجوه الخصوم إليها وقيل: يستقبل القبلة لقوله ص: خير المجالس ما
استقبل به القبلة، والأول أظهر. ثم يسأل عن أهل السجون ويثبت أسماءهم وينادي
في البلد بذلك ليحضر الخصوم ويجعل لذلك وقتا، فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد
ويسأله عن موجب حبسه وعرض قوله على خصمه فإن ثبت لحبسه موجب أعاده وإلا
أشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم أطلقه، وكذا لو أحضر محبوسا فقال: لا خصم
لي، فإنه ينادي في البلد فإن لم يظهر له خصم أطلقه، وقيل: يحلفه مع ذلك.
ثم يسأل عن الأوصياء على الأيتام ويعتمد معهم ما يجب من تضمين أو إنفاذ أو
اسقاط ولاية إما لبلوع اليتيم أو لظهور خيانة أو ضم مشارك إن ظهر من الوصي عجز، ثم
ينظر في أمناء الحاكم الحافظين لأموال الأيتام الذين يليهم الحاكم ولأموال الناس من
304

وديعة أو مال محجور عليه فيعزل الخائن ويسعد الضعيف بمشارك أو يستبدل به بحسب ما
يقتضيه رأيه، ثم ينظر في الضوال واللقط فيبيع ما يخشى تلفه وما تستوعب نفقته ويسلم ما
عرفه الملتقط حولا إن كان شئ من ذلك في يد أمناء الحاكم ويستبقي ما عدا ذلك مثل
الجواهر والأثمان محفوظا على أربابها ليدفع إليهم عند الحضور على الوجه المحرر أولا.
ويحضر من أهل العلم من يشهد حكمه فإن أخطأ نبهوه لأن المصيب عندنا واحد،
ويخاوضهم فيما يستبهم من المسائل النظرية لتقع الفتوى مقررة، ولو أخطأ فأتلف لم
يضمن وكان على بيت المال. وإذا تعدى أحد الغريمين سنن الشرع عرفه خطأه بالرفق،
فإن عاد زجره، فإن عاد أدبه بحسب حاله مقتصرا على ما يوجب لزوم النمط.
والآداب المكروهة: أن يتخذ حاجبا وقت القضاء، وأن يتخذ المسجد مجلسا للقضاء
دائما ولا يكره لو اتفق نادرا، وقيل: لا يكره مطلقا، التفاتا إلى ما عرف من قضاء
على ع بجامع الكوفة. وأن يقضي وهو غضبان وكذا يكره مع كل وصف
يساوى الغضب في شغل النفس كالجوع والعطش والغم والفرح والوجع ومدافعة الأخبثين
وغلبة النعاس، ولو قضى والحال هذه نفذ إذا وقع حقا، وأن يتولى البيع والشراء بنفسه
وكذا الحكومة، وأن يستعمل الانقباض المانع من اللحن بالحجة وكذا يكره اللين الذي
لا يؤمن معه من جرأة الخصوم، ويكره أن يرتب للشهادة قوما دون غيرهم، وقيل: يحرم،
لاستواء العدول في موجب القبول ولأن في ذلك مشقة على الناس بما يلحق من كلفة
الاقتصار.
وهنا مسائل:
الأولى: الإمام ع يقضي بعلمه مطلقا، وغيره من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي
حقوق الله سبحانه على قولين أصحهما القضاء، ويجوز أن يحكم في
ذلك كله من غير حضور شاهد يشهد الحكم.
الثانية: إذا أقام المدعي بينة ولم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر
ليعدلها، قال الشيخ: يجوز حبسه، لقيام البينة بما ادعاه، وفيه إشكال من حيث لم
305

يثبت بتلك البينة حتى يوجب العقوبة.
الثالثة: لو قضى الحاكم على غريم بضمان مال وأمر بحبسه فعند حضور الحاكم
الثاني ينظر فإن كان الحكم موافقا للحق ألزم وإلا أبطله سواء كان مستند الحكم
قطعيا أو اجتهاديا، وكذا كل حكم قضى به الأول وبان للثاني فيه الخطأ فإنه ينقضه،
وكذا لو حكم هو ثم تبين الخطأ فإنه يبطل الأول ويستأنف الحكم بما علمه حقا.
الرابعة: ليس على الحاكم تتبع حكم من كان قبله لكن لو زعم المحكوم عليه أن
الأول حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه وكذا لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأول أبطله
سواء كان من حقوق الله أم من حقوق الناس.
الخامسة: إذا ادعى رجل أن المعزول قضى عليه بشهادة فاسقين وجب إحضاره وإن
لم يقم المدعي بينة، فإن حضر واعترف به ألزم، وإن قال: لم أحكم إلا بشهادة
عدلين، قال الشيخ رحمه الله: يكلف البينة لأنه اعترف بنقل المال وهو يدعي ما يزيل
الضمان عنه وهو يشكل لما أن الظاهر استظهار الحكام في الأحكام فيكون القول قوله مع
يمينه لأنه يدعي الظاهر.
السادسة: إذا افتقر الحاكم إلى مترجم لم يقبل إلا شاهدان عدلان ولا يقتنع بالواحد
عملا بالمتفق عليه.
السابعة:
إذا اتخذ القاضي كاتبا وجب أن يكون بالغا عاقلا مسلما عدلا بصيرا
ليؤمن انخداعه، وإن كان مع ذلك فقيها كان حسنا.
الثامنة: الحاكم إن عرف عدالة الشاهدين حكم، وإن عرف فسقهما أطرح، وإن
جهل الأمرين بحث عنهما وكذا لو عرف إسلامهما وجهل عدالتهما توقف حتى يتحقق
ما يبني عليه من عدالة أو جرح، وقال في الخلاف: يحكم، وبه رواية شاذة. ولو حكم
بالظاهر ثم تبين فسقهما وقت الحكم نقض حكمه، ولا يجوز التعويل في الشهادة على
حسن الظاهر.
وينبغي أن يكون السؤال عن التزكية سرا فإنه أبعد من التهمة ويثبت مطلقة، ويفتقر
إلى المعرفة الباطنة المتقادمة، ولا يثبت الجرح إلا مفسرا وفي الخلاف يثبت مطلقا، ولا
306

يحتاج الجرح إلى تقادم المعرفة ويكفي العلم بموجب الجرح، ولو اختلف الشهود في الجرح
والتعديل قدم الجرح لأنه شهادة بما يخفى على الآخرين، ولو تعارضت البينتان في الجرح
والتعديل قال في الخلاف: توقف الحاكم. ولو قيل: يعمل على الجرح، كان حسنا.
التاسعة: لا بأس بتفريق الشهود ويستحب في من لا قوة عنده.
العاشرة: لا يشهد شاهد بالجرح إلا مع المشاهدة لفعل ما يقدح في العدالة أو أن يشيع
ذلك في الناس شياعا موجبا للعلم، ولا يعول على سماع ذلك من الواحد والعشرة لعدم
اليقين بخبرهم، ولو ثبت عدالة الشاهد حكم باستمرار عدالته حتى يتبين ما ينافيها،
وقيل: إن مضت مدة يمكن تغير حال الشاهد فيها استأنف البحث عنه، ولا حد لذلك
بل بحسب ما يراه الحاكم.
الحادية عشرة: ينبغي أن يجمع قضايا كل أسبوع ووثائقه وحججه ويكتب عليها،
فإذا اجتمع ما لشهر كتب عليه من شهر كذا، وإذا اجتمع ما لسنة جمعه ثم كتب عليه
قضاء سنة كذا.
الثانية عشرة: كل موضع وجب على الحاكم فيه كتابة المحضر، فإن حمل له من بيت
المال ما يصرفه في ذلك وجب عليه الكتابة وكذا إن أحضر الملتمس ذلك من خاصه، ولا
يجب على الحاكم دفع القرطاس من خاصه.
الثالثة عشرة: يكره للحاكم أن يعنت الشهود إذا كانوا من ذوي البصائر والأديان
القوية، مثل أن يفرق بينهم لأن في ذلك غضا منهم، ويستحب ذلك في موضع الريبة.
الرابعة عشرة: لا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في التلفظ بالشهادة أو
يتعقبه بل يكف عنه حتى ينهى ما عنده وإن تردد، ولو توقف في الشهادة لم يجز له
ترغيبه إلى الإقدام على الإقامة ولا تزهيده في إقامتها وكذا لا يجوز إيقاف عزم الغريم عن
الإقرار لأنه ظلم لغريمه، ويجوز ذلك في حقوق الله تعالى فإن الرسول ص
قال لماعز عند اعترافه بالزنى: لعلك قبلتها لعلك لمستها، وهو تعريض بإيثار الاستتار.
الخامسة عشرة: يكره أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه.
السادسة عشرة: الرشوة حرام على آخذها ويأثم الدافع لها إن توصل بها إلى الحكم له
307

بالباطل، ولو كان إلى حق لم يأثم، ويجب على المرتشي إعادة الرشوة إلى صاحبها، ولو
تلفت قبل وصولها إليه ضمنها له.
السابعة عشرة: إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره إذا كان
حاضرا سواء كان حرر المدعي دعواه أو لم يحررها، أما لو كان غائبا لم يعده الحاكم
حتى يحرر الدعوى، والفرق لزوم المشقة في الثاني وعدمها في الأول هذا إذا كان في
بعض مواضع ولايته وليس له هناك خليفة يحكم، وإن كان في غير ولايته أثبت الحكم
عليه بالحجة وإن كان غائبا، ولو ادعى على امرأة فإن كانت برزة فهي كالرجل وإن
كانت مخدرة بعث إليها من ينوبه في الحكم بينها وبين غريمها.
النظر الثالث: في كيفية الحكم:
وفيها مقاصد:
المقصد الأول: في وظائف القاضي:
وهي سبع:
الأولى: التسوية بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والإنصات والعدل
في الحكم، ولا تجب التسوية في الميل بالقلب لتعذره غالبا وإنما تجب التسوية مع
التساوي في الاسلام أو الكفر، ولو كان أحدهما مسلما جاز أن يكون الذمي قائما
والمسلم قاعدا أو أعلى منزلا.
الثانية: لا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه ولا أن يهديه لوجوه
الحجاج لأن ذلك يفتح باب المنازعة وقد نصب لسدها.
الثالثة: إذا سكت الخصمان استحب أن يقول لهما: تكلما أو ليتكلم المدعي، ولو
أحس منهما باحتشامه أمر من يقول ذلك، ويكره أن يواجه بالخطاب أحدهما لما يتضمن
من إيحاش الآخر.
الرابعة: إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحا لزمه القضاء، ويستحب ترغيبهما
في الصلح فإن أبيا إلا المناجزة حكم بينهما وإن أشكل أخر الحكم حتى يتضح، ولا حد
308

للتأخير إلا الوضوح.
الخامسة: إذا ورد الخصوم مترتبين، بدئ بالأول فالأول، فإن وردوا جميعا قيل:
يقرع بينهم، وقيل: يكتب أسماء المدعين ولا يحتاج إلى ذكر الخصوم، وقيل: يذكرهم
أيضا، لتحضر الحكومة معه وليس بمعتمد. ويجعلها تحت ساتر ثم يخرج رقعة رقعة
ويستدعي صاحبها، وقيل: إنما تكتب أسماؤهم، مع تعسر القرعة بالكثرة.
السادسة: إذا قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى لم تسمع حتى يجيب عن
الدعوى، وينهى الحكومة ثم يستأنف هو.
السابعة: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى، ولو ابتدرا الدعوى سمع من الذي
عن يمين صاحبه، ولو اتفق مسافر وحاضر فهما سواء ما لم يستضر أحدهما بالتأخر فيقدم
دفعا للضرر، ويكره للحاكم أن يشفع في اسقاط حق أو إبطال.
المقصد الثاني: في مسائل متعلقة بالدعوى:
وهي خمس:
الأولى: قال الشيخ: لا تسمع الدعوى إذا كانت مجهولة مثل أن يدعي فرسا أو
ثوبا، ويقبل الإقرار بالمجهول ويلزم تفسيره، وفي الأول إشكال. أما لو كانت الدعوى
وصية سمعت وإن كانت مجهولة لأن الوصية بالمجهول جائزة، ولا بد من إيراد الدعوى
بصيغة الجزم، فلو قال: أظن أو أتوهم، لم تسمع، وكان بعض من عاصرناه يسمعها في
التهمة ويحلف المنكر وهو بعيد عن شبه الدعوى.
الثانية: قال: إذا كان المدعي به من الأثمان افتقر إلى ذكر جنسه ووصفه ونقده،
وإن كان عرضا مثليا ضبطه بالصفات ولم يفتقر إلى ذكر قيمته وذكر القيمة أحوط،
وإن لم يكن مثليا فلا بد من ذكر القيمة، وفي الكل إشكال ينشأ من مساواة الدعوى
بالإقرار.
الثالثة: إذا تمت الدعوى هل يطالب المدعى عليه بالجواب أم يتوقف ذلك على
التماس المدعي؟ فيه تردد، والوجه أنه يتوقف لأنه حق له فيقف على المطالبة.
309

الرابعة: لو ادعى أحد الرعية على القاضي فإن كان هناك إمام رافعه إليه، وإن لم
يكن وكان في غير ولايته رافعه إلى قاضي تلك الولاية، وإن كان في ولايته رافعه إلى
خليفته.
الخامسة: يستحب للخصمين أن يجلسا بين يدي الحاكم ولو قاما بين يديه كان
جائزا.
المقصد الثالث: في جواب المدعى عليه:
وهو: إما إقرار أو إنكار أو سكوت.
أما الإقرار: فيلزم إذا كان جائز التصرف، وهل يحكم به عليه من دون مسألة
المدعي؟ قيل: لا، لأنه حق له فلا يستوفى إلا بمسألته. وصورة الحكم أن يقول: ألزمتك
أو قضيت عليك أو ادفع إليه ماله. ولو التمس أن يكتب له بالإقرار لم يكتب حتى يعلم
اسمه ونسبه أو يشهد شاهدا عدل، ولو شهد عليه بالحلية جاز ولم يفتقر إلى معرفة
النسب واكتفى بذكر حليته، ولو ادعى الإعسار كشف عن حاله فإن استبان فقره أنظره،
وفي تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان أشهرهما: الإنظار حتى يوسر. وهل
يحبس حتى يتبين حاله؟ فيه تفصيل ذكر في باب المفلس.
وأما الانكار: فإذا قال: لا حق له على، فإن كان المدعي يعلم أنه موضع المطالبة
بالبينة فالحاكم بالخيار إن شاء قال للمدعي: أ لك بينة؟ وإن شاء سكت، أما إذا كان
المدعي لا يعلم أنه موضع المطالبة بالبينة وجب أن يقول الحاكم ذلك أو معناه، فإن لم
يكن له بينة عرفه الحاكم أن له اليمين. ولا يحلف المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي لأنه
حق له فيتوقف استيفاؤه على المطالبة، ولو تبرع هو أو تبرع الحاكم بإحلافه لم يعتد بتلك
اليمين وأعادها الحاكم إن التمس المدعي.
ثم المنكر إما أن يحلف أو يرد أو ينكل.
فإن حلف سقطت الدعوى، ولو ظفر المدعي بعد ذلك بمال الغريم لم يحل له
مقاصته، ولو عاود المطالبة أثم ولم تسمع دعواه، ولو أقام بينة بما حلف عليه المنكر لم
310

تسمع وقيل: يعمل بها ما لم يشترط المنكر سقوط الحق باليمين، وقيل: إن نسي بينة
سمعت وإن أحلف، والأول هو المروي. وكذا لو أقام بعد الإحلاف شاهدا وبذل معه
اليمين وهنا أولى، أما لو أكذب الحالف نفسه جاز مطالبته وحل مقاصته مما يجده له مع
امتناعه عن التسليم.
وإن رد اليمين على المدعي لزمه الحلف، ولو نكل سقطت دعواه، وإن نكل المنكر
بمعنى أنه لم يحلف ولم يرد قال الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا، ويكرر ذلك
ثلاثا استظهارا لا فرضا. فإن أصر قيل: يقضى عليه بالنكول، وقيل: بل يرد اليمين
على المدعي. فإن حلف ثبت حقه وإن امتنع سقط، والأول أظهر وهو المروي.
ولو بذل المنكر يمينه بعد النكول لم يلتفت إليه، ولو كان للمدعي بينة لم يقل
الحاكم: أحضرها، لأن الحق له. وقيل: يجوز، وهو حسن. ومع حضورها لا يسألها
الحاكم، ما لم يلتمس المدعي. ومع الإقامة بالشهادة لا يحكم إلا بمسألة المدعي أيضا،
وبعد أن يعرف عدالة البينة يقول: هل عندك جرح؟ فإن قال: نعم، وسأل الإنظار في
إثباته أنظره ثلاثا، فإن تعذر الجرح حكم بعد سؤال المدعي.
ولا يستحلف المدعي مع البينة إلا أن تكون الشهادة على ميت فيستحلف على بقاء
الحق في ذمته استظهارا، ولو شهدت على صبي أو مجنون أو غائب ففي ضم اليمين إلى
البينة تردد أشبهه أنه لا يمين ويدفع الحاكم من مال الغائب قدر الحق بعد تكفيل
القابض بالمال، ولو ذكر المدعي أن له بينة غائبة خيره الحاكم بين الصبر وبين إحلاف
الغريم وليس له ملازمته ولا مطالبته بكفيل.
وأما السكوت: فإن اعتمده ألزم الجواب، فإن عاند حبس حتى يبين وقيل: يجبر
حتى يجيب، وقيل: يقول الحاكم: إما أجبت وإلا جعلتك ناكلا ورددت اليمين على
المدعي، فإن أصر رد الحاكم اليمين على المدعي، والأول مروي، والأخير بناء على عدم
القضاء بالنكول. ولو كان به آفة من طرش أو خرس توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة
المفيدة لليقين، ولو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى المترجم لم يكف الواحد وافتقر في
الشهادة بإشارته إلى مترجمين عدلين.
311

مسائل تتعلق بالحكم على الغائب:
الأولى: يقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقا مسافرا كان أو حاضرا،
وقيل: يعتبر في الحاضر تعذر حضوره مجلس الحكم.
الثانية: يقضى على الغائب في حقوق الناس كالديون والعقود ولا يقضى في حقوق الله
كالزنى واللواط لأنها مبنية على التخفيف، ولو اشتمل الحكم على الحقين قضي بما يختص
الناس كالسرقة يقضي بالغرم وفي القضاء بالقطع تردد.
الثالثة: لو كان صاحب الحق غائبا فطالب الوكيل فادعى الغريم التسليم إلى الموكل
ولا بينة ففي الإلزام تردد بين الوقوف في الحكم لاحتمال الأداء وبين الحكم وإلغاء
دعواه لأن التوقف يؤدى إلى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء، والأول أشبه.
المقصد الرابع: في كيفية الاستحلاف:
والبحث في أمور ثلاثة:
البحث الأول: في اليمين:
ولا يستحلف أحد إلا بالله ولو كان كافرا، وقيل: لا يقتصر في المجوسي على لفظ
الجلالة لأنه يسمى النور إلها بل يضم إلى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل الاحتمال. ولا
يجوز الإحلاف بغير أسماء الله سبحانه كالكتب المنزلة والرسل المعظمة والأماكن
المشرفة، ولو رأى الحاكم إحلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع جاز، ويستحب للحاكم
تقديم العظة على اليمين والتخويف من عاقبتها ويكفي أن يقول: قل والله ما له قبلي
حق.
وقد يغلظ اليمين بالقول والزمان والمكان لكن ذلك غير لازم ولو التمسه المدعي بل
هو مستحب في الحكم استظهارا، فالتغليظ بالقول مثل أن يقول: قل والله الذي لا إله إلا
هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما
يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي على شئ مما ادعاه، ويجوز التغليظ بغير هذه الألفاظ
312

مما يراه الحاكم. وبالمكان كالمسجد والحرم وما شاكله من الأماكن المعظمة. وبالزمان
كيوم الجمعة والعيد، وغيرهما من الأوقات المكرمة.
ويغلظ على الكافر بالأماكن التي يعتقد شرفها والأزمان التي يرى حرمتها،
ويستحب التغليظ في الحقوق كلها وإن قلت عدا المال فإنه لا يغلظ فيه بما دون نصاب
القطع.
- فرعان:
الأول: لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر ولم يتحقق بامتناعه نكول.
الثاني: لو حلف لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه لم ينحل يمينه -.
وحلف الأخرس بالإشارة، وقيل: توضع يده على اسم الله في المصحف أو يكتب
اسم الله سبحانه وتوضع يده عليه. وقيل: يكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد
إعلامه، فإن شرب كان حالفا، وإن امتنع ألزم الحق استنادا إلى حكم علي عليه
الصلاة والسلام في واقعة الأخرس.
ولا يستحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس قضائه إلا مع العذر كالمرض المانع وشبهه
فحينئذ يستنيب الحاكم من يحلفه في منزله، وكذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز إلى مجمع
الرجال أو الممنوعة بأحد الأعذار.
البحث الثاني: في يمين المنكر والمدعي:
اليمين يتوجه على المنكر تعويلا على الخبر وعلى المدعي مع الرد ومع الشاهد الواحد
وقد تتوجه مع اللوث في دعوى الدم، ولا يمين للمنكر مع بينة المدعي لانتفاء التهمة عنها،
ومع فقدها فالمنكر مستند إلى البراءة الأصلية فهو أولى باليمين، ومع توجهها يلزمه الحلف
على القطع مطردا إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم.
فلو ادعي عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر حلف على الجزم، ولو ادعى على أبيه
الميت لم يتوجه اليمين ما لم يدع عليه العلم فيكفيه الحلف أنه لا يعلم وكذا لو قيل:
313

قبض وكيلك. أما المدعي ولا شاهد له فلا يمين عليه إلا مع الرد أو مع النكول على قول،
فإن ردها المنكر توجهت فيحلف على الجزم، ولو نكل سقطت دعواه إجماعا.
ولو رد المنكر اليمين ثم بذلها قبل الإحلاف قال الشيخ: ليس له ذلك إلا برضا
المدعي، وفيه تردد منشأه أن ذلك تفويض لا اسقاط. ويكفي مع الانكار الحلف على
نفي الاستحقاق لأنه يأتي على الدعوى، فلو ادعي عليه غصبا أو إجارة مثلا فأجاب
بأني لم أغصب ولم أستاجر قيل: يلزمه الحلف على وفق الجواب، لأنه لم يجب به إلا
وهو قادر على الحلف عليه.
والوجه أنه إن تطوع بذلك صح وإن اقتصر على نفي الاستحقاق كفى، ولو ادعى
المنكر الإبراء أو الإقباض فقد انقلب مدعيا والمدعي منكرا فيكفي المدعي اليمين على
بقاء الحق، ولو حلف على نفي ذلك كان آكد لكنه غير لازم، وكل ما يتوجه الجواب عن
الدعوى فيه يتوجه معه اليمين ويقضي على المنكر به مع النكول كالعتق والنكاح والنسب
وغير ذلك، هذا على القول بالقضاء بالنكول وعلى القول الآخر ترد اليمين على المدعي
ويقضى له مع اليمين وعليه مع النكول.
مسائل ثمان:
الأولى: لا يتوجه اليمين على الوارث ما لم يدع عليه العلم بموت المورث والعلم بالحق
وأنه ترك في يده مالا، ولو ساعد المدعي على عدم أحد هذه الأمور لم يتوجه، ولو ادعي
عليه العلم بموته أو بالحق كفاه الحلف أنه لا يعلم، نعم لو أثبت الحق والوفاة وادعى في
يده مالا حلف الوارث على القطع.
الثانية: إذا ادعى على المملوك فالغريم مولاه، ويستوي في ذلك دعوى المال والجناية.
الثالثة: لا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ولا يتوجه اليمين على المنكر،
نعم لو قذفه بالزنى ولا بينة فادعاه عليه قال في المبسوط: جاز أن يحلف ليثبت الحد على
القاذف، وفيه إشكال إذ لا يمين في الحد.
الرابعة: منكر السرقة يتوجه عليه اليمين لإسقاط الغرم، ولو نكل لزمه المال دون
314

القطع بناء على القضاء بالنكول، وهو الأظهر وإلا حلف المدعي، ولا يثبت الحد على
القولين وكذا لو أقام شاهدا وحلف.
الخامسة: لو كان له بينة فأعرض عنها والتمس يمين المنكر أو قال: أسقطت البينة
وقنعت باليمين، فهل له الرجوع؟ قيل: لا، وفيه تردد ولعل الأقرب الجواز. وكذا
البحث لو أقام شاهدا فأعرض عنه وقنع بيمين المنكر.
السادسة: لو ادعى صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول قبل قوله ولا يمين وكذا لو
خرص عليه فادعى النقصان وكذا لو ادعى الذمي الاسلام قبل الحول، أما لو ادعى
الصغير الحربي الإنبات بعلاج لا بسن ليتخلص عن القتل فيه تردد ولعل الأقرب أنه لا
يقبل إلا مع البينة.
السابعة: لو مات ولا وارث له وظهر شاهد بدين قيل: يحبس حتى يحلف أو يقر لتعذر
اليمين في طرف المشهود له وكذا لو ادعى الوصي أن الميت أوصى للفقراء وشهد واحد
فأنكر الوارث، وفي الموضعين إشكال لأن السجن عقوبة لم يثبت موجبها.
الثامنة: لو مات وعليه دين يحيط بالتركة لم ينتقل إلى الوارث وكانت في حكم مال
الميت، وإن لم يحط انتقل إليه ما فضل عن الدين، وفي الحالين للوارث المحاكمة على ما
يدعيه لمورثه لأنه قائم مقامه.
البحث الثالث: في اليمين مع الشاهد:
يقضى بالشاهد واليمين في الجملة استنادا إلى قضاء رسول الله ص
وقضاء علي عليه الصلاة والسلام بعده، ويشترط شهادة الشاهد أولا وثبوت عدالته ثم
اليمين، ولو بدئ باليمين وقعت لاغية وافتقر إلى إعادتها بعد الإقامة.
ويثبت الحكم بذلك في الأموال كالدين والقرض والغصب، وفي المعاوضات كالبيع
والصرف والصلح والإجارة والقراض والهبة والوصية له، والجناية الموجبة للدية كالخطأ
وعمد الخطأ وقتل الوالد ولده والحر العبد وكسر العظام والجائفة والمأمومة، وضابطه ما
كان مالا أو المقصود منه المال، وفي النكاح تردد. أما الخلع والطلاق والرجعة والعتق
315

والتدبير والكتابة والنسب والوكالة والوصية إليه وعيوب النساء فلا، وفي الوقف إشكال
منشأه النظر إلى من ينتقل إليه والأشبه القبول لانتقاله إلى الموقوف عليهم.
ولا يثبت دعوى الجماعة مع الشاهد إلا مع حلف كل واحد منهم، ولو امتنع
البعض ثبت نصيب من حلف دون الممتنع، ولا يحلف من لا يعرف ما يحلف عليه يقينا
ولا ليثبت مالا لغيره،
فلو ادعى غريم الميت مالا له على آخر مع شاهد فإن حلف الوارث ثبت وإن امتنع
لم يحلف الغريم، وكذا لو ادعى رهنا وأقام شاهدا أنه للراهن لم يحلف لأن يمينه
لإثبات مال الغير.
ولو ادعى الجماعة مالا لمورثهم وحلفوا مع شاهدهم تثبت الدعوى وقسم بينهم على
الفريضة، ولو كان وصية قسموه بالسوية إلا أن يثبت التفضيل، ولو امتنعوا لم يحكم
لهم، ولو حلف بعض أخذ ولم يكن للممتنع معه شركة، ولو كان في الجملة مولى عليه
يوقف نصيبه، فإن كمل ورشد حلف واستحق، وإن امتنع لم يحكم له، وإن مات قبل
ذلك كان لوارثه الحلف واستيفاء نصيبه.
مسائل خمس:
الأولى: لو قال: هذه الجارية مملوكتي وأم ولدي حلف مع شاهده، ويثبت رقيتها
دون الولد لأنه ليس مالا ويثبت لها حكم أم الولد بإقراره.
الثانية: لو ادعى بعض الورثة أن الميت وقف عليهم دارا وعلى نسلهم فإن حلف
المدعون مع شاهدهم قضي لهم، وإن امتنعوا حكم بها ميراثا وكان نصيب المدعين
وقفا، وإن حلف بعض ثبت نصيب الحالف وقفا وكان الباقي طلقا يقضى منه الديون
ويخرج الوصايا وما فضل ميراثا، وما يحصل من الفاضل للمدعين يكون وقفا، ولو
انقرض الممتنع كان للبطن التي تأخذ بعده الحلف مع الشاهد ولا يبطل حقهم بامتناع
الأول.
الثالثة: إذا ادعى الوقفية عليه وعلى أولاده بعده وحلف مع شاهده تثبت الدعوى ولا
316

يلزم الأولاد بعد انقراضه يمين مستأنفة لأن الثبوت الأول أغنى عن تجديده وكذا إذا
انقرضت البطون وصار إلى الفقراء أو المصالح، أما لو ادعى التشريك بينه وبين أولاده
افتقر البطن الثاني إلى اليمين لأن البطن الثاني بعد وجودها تعود كالموجودة وقت
الدعوى، فلو ادعى إخوة ثلاثة أن الوقف عليهم وعلى أولادهم مشتركا فحلفوا مع
الشاهد ثم صار لأحدهم ولد فقد صار الوقف أرباعا، ولا يثبت حصة هذا الولد ما لم
يحلف لأنه يتلقى الوقف عن الواقف فهو كما لو كان موجودا وقت الدعوى، ويوقف له
الربع فإن كمل وحلف أخذ وإن امتنع قال الشيخ: يرجع ربعه على الإخوة لأنهم أثبتوا
أصل الوقف عليهم ما لم يحصل المزاحم وبامتناعه جرى مجرى المعدوم وفيه إشكال ينشأ
من اعتراف الإخوة بعدم استحقاق الربع. ولو مات أحد الإخوة قبل بلوع الطفل عزل له
الثلث من حين وفاة الميت لأن الوقف صار أثلاثا وقد كان له الربع إلى حين الوفاة،
فإن بلغ وحلف أخذ الجميع وإن رد كان الربع إلى حين الوفاة لورثة الميت والأخوين
والثلث من حين الوفاة للأخوين وفيه أيضا إشكال كالأول.
الرابعة: لو ادعى عبدا وذكر أنه كان له وأعتقه فأنكر المتشبث قال الشيخ: يحلف
مع شاهده ويستنقذه، وهو يعيد لأنه لا يدعي مالا.
الخامسة: لو ادعى عليه القتل وأقام شاهدا فإن كان خطأ أو عمد الخطأ حلف
وحكم له، وإن كان عمدا موجبا للقصاص لم يثبت باليمين الواحدة وكانت شهادة
الشاهد لوثا وجاز له إثبات دعواه بالقسامة.
خاتمة تشتمل على فصلين:
الأول: في كتاب قاض إلى قاض:
إنهاء حكم الحاكم إلى الآخر إما بالكتابة أو القول أو الشهادة.
أما الكتابة: فلا عبرة بها لإمكان التشبيه.
وأما القول مشافهة: فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت، ففي
القضاء به تردد نص الشيخ في الخلاف أنه لا يقبل.
317

وأما الشهادة: فإن شهدت البينة بالحكم وبإشهاده إياهما على حكمه تعين القبول
لأن ذلك مما تمس الحاجة إليه، إذ احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعد
غالب وتكليف شهود الأصل التنقل متعذر أو متعسر فلا بد من وسيلة إلى استيفائها مع
تباعد الغرماء ولا وسيلة إلا رفع الأحكام إلى الحكام، وأتم ذلك احتياطا ما صورناه.
لا يقال: يتوصل إلى ذلك بالشهادة على شهود الأصل، لأنا نقول: قد لا يساعد
شهود الفرع على التنقل والشهادة الثالثة لا تسمع. ولأنه لو لم يشرع إنهاء الأحكام بطلت
الحجج مع تطاول المدد ولأن المنع من ذلك يؤدى إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة
بأن يرافعه المحكوم عليه إلى الآخر، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأول اتصلت
المنازعة ولأن الغريمين لو تصادقا أن حاكما حكم عليهما ألزمهما الحاكم ما حكم
الأول، فكذا لو قامت البينة لأنها تثبت ما لو أقر الغريم به لزم.
لا يقال فتوى الأصحاب أنه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ولا العمل به، ورواية
طلحة بن زيد والسكوني عن أبي عبد الله ع: أن عليا ع كان لا يجيز
كتاب قاض إلى قاض لا في حد ولا غيره حتى وليت بنو أمية فأجازوا بالبينات، لأنا
نجيب عن الأول بمنع دعوى الاجماع على خلاف موضع النزاع لأن المنع من العمل
بكتاب قاض إلى قاض ليس منعا من العمل بحكم الحاكم مع ثبوته.
ونحن نقول: فلا عبرة عندنا بالكتاب مختوما كان أو مفتوحا، وإلى جواز ما ذكرنا
أومأ الشيخ أبو جعفر رحمه الله في الخلاف. ونجيب عن الرواية بالطعن في سندها فإن
طلحة بتري والسكوني عامي ومع تسليمها نقول بموجبها فإنا لا نعمل بالكتاب أصلا ولو
شهد به فكان الكتاب ملغى، إذا عرفت هذا فالعمل بذلك مقصور على حقوق الناس
دون الحدود وغيرها من حقوق الله.
ما ينهى إلى الحاكم:
ثم ما ينهى إلى الحاكم أمران: أحدهما حكم وقع بين المتخاصمين والثاني إثبات
دعوى مدع على غائب.
318

أما الأول: فإن حضر شاهدان لإنهاء خصومة الخصمين وسمعا ما حكم به الحاكم
وأشهدهما على حكمه ثم شهدا بالحكم عند الآخر ثبت بشهادتهما حكم ذلك الحاكم
وأنفذ ما ثبت عنده، لا أنه يحكم بصحة الحكم في نفس الأمر إذ لا علم له بذلك بل
الفائدة فيه قطع خصومة الخصمين لو عاودا المنازعة في تلك الواقعة.
وإن لم يحضرا الخصومة فحكي لهما الواقعة وصورة الحكم وسمى المتحاكمين
بأسمائهما وآبائهما وصفاتهما وأشهدهما على الحكم ففيه تردد والقبول أولى لأن حكمه
كما كان ماضيا كان اخباره ماضيا.
وأما الثاني: وهو إثبات دعوى المدعي فإن حضر الشاهدان الدعوى وإقامة الشهادة
والحكم بما شهدا به وأشهدهما على نفسه بالحكم وشهدا بذلك عند الآخر قبلها وأنفذ
الحكم، ولو لم يحضرا الواقعة وأشهدهما بما صورته أن فلان بن فلان الفلاني ادعى على
فلان بن فلان الفلاني كذا وشهد له بدعواه فلان وفلان، ويذكر عدالتهما أو تزكيتهما،
فحكمت أو أمضيت، ففي الحكم به تردد مع أن القبول أرجح خصوصا مع إحضار
الكتاب المتضمن للدعوى وشهادة الشهود.
أما لو أخبر حاكما آخر بأنه ثبت عنده كذا لم يحكم به الثاني وليس كذلك لو
قال: حكمت، فإن فيه ترددا. وصورة الإنهاء أن يقص الشاهدان ما شاهداه من الواقعة
وما سمعاه من لفظ الحاكم ويقولا: وأشهدنا على نفسه أنه حكم بذلك وأمضاه. ولو
أحالا على الكتاب بعد قراءته وقالا: أشهدنا الحاكم فلان على نفسه أنه حكم بذلك،
جاز.
ولا بد من ضبط الشئ المشهود به بما يرفع الجهالة عنه، ولو اشتبه على الثاني أوقف
الحكم حتى يوضحه المدعي، ولو تغيرت حال الأول بموت أو عزل لم يقدح ذلك في
العمل بحكمه، وإن تغيرت بفسق لم يعمل بحكمه ويقر ما سبق إنفاذه على زمان فسقه
ولا أثر لتغير حال المكتوب إليه في الكتاب بل كل من قامت عنده البينة بأن الأول
حكم به وأشهدهم به عمل بها إذ اللازم لكل حاكم إنفاذ ما حكم به غيره من الحكام.
319

مسائل ثلاث:
الأولى: إذا أقر المحكوم عليه أنه هو المشهود عليه ألزم، ولو أنكر وكانت الشهادة
بوصف يحتمل الاتفاق عليه غالبا فالقول قوله مع يمينه ما لم يقم المدعي البينة وإن كان
الوصف مما يتعذر اتفاقه إلا نادرا لم يلتفت إلى إنكاره لأنه خلاف الظاهر، ولو ادعى أن
في البلد مساويا له في الاسم والنسب كلف إبانته في إثباته، فإن كان المساوي حيا
سئل فإن اعترف أنه الغريم ألزم وأطلق الأول وإن أنكر وقف الحكم حتى يتبين، وإن
كان المساوي ميتا وهناك دلالة تشهد بالبراءة إما لأن الغريم لم يعاصر وإما لأن تاريخ
الحق متأخر عن موته ألزم الأول وإن احتمل وقف الحكم حتى يتبين.
الثانية: للمشهود عليه أن يمتنع من التسليم حتى يشهد القابض، ولو لم يكن عليه
بالحق شاهد قيل: لا يلزم الإشهاد، ولو قيل: يلزم، كان حسنا حسما لمادة المنازعة أو
كراهية لتوجه اليمين.
الثالثة: لا يجب على المدعي دفع الحجة مع الوفاء لأنها حجة له لو خرج المقبوض
مستحقا، وكذا القول في البائع إذا التمس المشتري كتاب الأصل لأنه حجة له على
البائع الأول بالثمن لو خرج المبيع مستحقا.
الفصل الثاني: في لواحق من أحكام القسمة:
والنظر في القاسم والمقسوم والكيفية واللواحق:
أما النظر الأول:
فيستحب للإمام أن ينصب قاسما كما كان لعلي ع، ويشترط فيه البلوغ
وكمال العقل والإيمان والعدالة والمعرفة بالحساب، ولا يشترط الحرية. ولو تراضى
الخصمان بقاسم لم تشترط العدالة، وفي التراضي بقسمة الكافر نظر أقربه الجواز كما لو
تراضيا بأنفسهما من غير قاسم، والمنصوب من قبل الإمام تمضى قسمته بنفس القرعة ولا
يشترط رضاهما بعدها وفي غيره يقف لزوم على الرضا بعد القرعة وفي هذا إشكال من
حيث أن القرعة وسيلة إلى تعيين الحق وقد قارنها الرضا، ويجزئ القاسم الواحد إذا لم
320

يكن في القسمة رد.
ولا بد من اثنين في قسمة الرد لأنها تتضمن تقويما فلا ينفرد به الواحد ويسقط
اعتبار الثاني مع رضا الشريك، وأجرة القسام من بيت المال فإن لم يكن إمام أو كان
ولا سعة في بيت المال كانت أجرته على المتقاسمين، فإن استأجره كل واحد بأجرة معينة
فلا بحث وإن استأجروه في عقد واحد ولم يعينوا نصيب كل واحد من الأجرة لزمهم
الأجرة بالحصص وكذا لو لم يقدروا أجرة كان له أجرة المثل عليهم بالحصص لا
بالسوية.
النظر الثاني: في المقسوم:
وهو إما الأجزاء كذوات الأمثال مثل الحبوب والأدهان أو متفاوتها كالأشجار
والعقار.
فالأول: يجبر الممتنع مع مطالبة الشريك بالقسمة لأن الانسان له ولاية الانتفاع بماله
والانفراد أكمل نفعا ويقسم كيلا ووزنا متساويا أو متفاضلا ربويا كان أو غيره لأن
القسمة تمييز حق لا بيع.
والثاني: إما أن يستضر الكل أو البعض أو لا يستضر أحدهم. وفي الأول لا يجبر
الممتنع كالجواهر والعضائد الضيقة، وفي الثاني إن التمس المستضر أجبر من لا يتضرر
وإن امتنع المتضرر لم يجبر.
ويتحقق الضرر المانع من الإجبار بعدم الانتفاع بالنصيب بعد القسمة وقيل:
بنقصان القيمة، وهو أشبه، وللشيخ قولان. ثم المقسوم إن لم يكن فيه رد ولا ضرر أجبر
الممتنع ويسمى قسمة إجبار وإن تضمنت أحدهما لم يجبر ويسمى قسمة تراض، ويقسم
الثوب الذي لا ينقص قيمته بالقطع كما يقسم الأرض وإن كان ينقص قيمته بالقطع
لم يقسم لحصول الضرر بالقسمة، ويقسم الثياب والعبيد بعد التعديل بالقيمة قسمة
إجبار، وإذا سألا الحاكم القسمة ولهما بينة بالملك قسم، وإن كانت يدهما عليه ولا
منازع لهما قال الشيخ في المبسوط: لا يقسم، وقال في الخلاف: يقسم، وهو الأشبه لأن
321

التصرف دلالة الملك.
النظر الثالث: في كيفية القسمة بالحصص:
أولا: إن تساوت قدرا وقيمة فالقيمة بتعديلها على السهام لأنه يتضمن بالقيمة كالدار
يكون بين اثنين وقيمتها متساوية، وعند التعديل يكون القاسم مخيرا بين الإخراج على
الأسماء والإخراج على السهام.
أما الأول: فهو أن يكتب كل نصيب في رقعة ويصف كل واحد بما يميزه عن الآخر
ويجعل ذلك مصونا في ساتر كالشمع والطين ويأمر من لم يطلع على الصورة باخراج
أحدهما على اسم أحد المتقاسمين فما خرج فله.
وأما الثاني: فهو أن يكتب كل اسم في رقعة ويصونهما ويخرج على سهم من
السهمين فمن خرج اسمه فله ذلك السهم.
ثانيا: وإن تساوت قدرا لا قيمة عدلت السهام قيمة وألغي القدر حتى لو كان
الثلثان بقيمته مساويا للثلث جعل الثلث محاذيا للثلثين، وكيفية القرعة عليه كما
صورناه.
ثالثا: وإن تساوت الحصص قيمة لا قدرا مثل أن يكون لواحد النصف وللآخر الثلث
وللآخر السدس وقيمة أجزاء ذلك الملك متساوية سويت السهام على أقلهم نصيبا
فجعلت أسداسا، ثم كم تكتب رقعة؟ فيه تردد بين أن يكتب بعدد الشركاء أو بعدد
السهام، والأقرب الاقتصار على عدد الشركاء لحصول المراد به فالزيادة كلفة.
إذا عرفت هذا فإنه يكتب ثلاث رقاع لكل اسم رقعة ويجعل للسهام أول وثان
وهكذا إلى الأخير والخيار في تعيين ذلك إلى المتقاسمين، ولو تعاسروا عينه القاسم، ثم
يخرج رقعة فإن تضمنت اسم صاحب النصف فله الثلاثة الأول، ثم يخرج ثانية فإن
خرج صاحب الثلث فله السهمان الآخران، ولا يحتاج إلى اخراج الثالثة بل لصاحبها
ما بقي.
وكذا لو خرج اسم صاحب الثلث أولا كان له السهمان الأولان، ثم يخرج أخرى
322

فإن خرج صاحب النصف فله الثالث والرابع والخامس، ولا يحتاج إلى اخراج أخرى
لأن السادس تعين لصاحبها.
وهكذا لو خرج اسم صاحب السدس أولا كان له السهم الأول، ثم يخرج أخرى
فإن كان صاحب الثلث كان له الثاني والثالث والباقي لصاحب النصف، ولو خرج في
الثانية صاحب النصف كان له الثاني والثالث والرابع وبقي الآخران لصاحب الثلث
من غير احتياج إلى اخراج اسمه.
ولا يخرج في هذه على السهام بل على الأسماء إذ لا يؤمن أن يؤدى إلى تفرق السهام
وهو ضرر، ولو اختلفت السهام والقيمة عدلت السهام تقويما وميزت على قدر سهم أقلهم
نصيبا وأقرع عليها كما صورناه.
وأما لو كانت قسمة رد وهي المفتقرة إلى رد في مقابلة بناء أو شجر أو بئر فلا يصح
القسمة ما لم يتراضيا جميعا لما يتضمن من الضميمة التي لا تستقر إلا بالتراضي، وإذا
اتفقا على الرد وعدلت السهام فهل يلزم بنفس القرعة؟ قيل: لا، لأنها تتضمن معاوضة
ولا يعلم كل واحد من يحصل له العوض فيفتقر إلى الرضا بعد العلم بما ميزته القرعة.
مسائل ثلاث:
الأولى: لو كان لدار علو وسفل فطلب أحد الشريكين قسمتها بحيث يكون لكل
واحد منهما نصيب من العلو والسفل بموجب التعديل جاز وأجبر الممتنع مع انتفاء
الضرر، ولو طلب انفراده بالسفل أو العلو لم يجبر الممتنع وكذا لو طلب قسمة كل واحد
منهما منفردا.
الثانية: لو كان بينهما أرض وزرع فطلب قسمة الأرض حسب أجبر الممتنع لأن
الزرع كالمتاع في الدار، ولو طلب قسمة الزرع قال الشيخ: لم يجبر الآخر، لأن تعديل
ذلك بالسهام غير ممكن وفيه إشكال من حيث إمكان التعديل بالتقويم إذا لم يكن فيه
جهالة. أما لو كان بذرا لم يظهر لم يصح القسمة لتحقق الجهالة، ولو كان سنبلا قال
أيضا: لا يصح، وهو مشكل لجواز بيع الزرع عندنا.
323

الثالثة: لو كان بينهما قرحان متعددة وطلب واحد قسمتها بعضا في بعض لم يجبر
الممتنع، ولو طلب قسمة كل واحد بانفراد أجبر الآخر وكذا لو كان بينهما حبوب
مختلفة، ويقسم القراح الواحد وإن اختلفت أشجار أقطاعه كالدار الواسعة إذا اختلفت
لبنتها، ولا يقسم الدكاكين المتجاورة بعضها في بعض قسمة إجبار لأنها أملاك متعددة
يقصد كل واحد منها بالسكنى على انفراده فهي كالأقرحة المتباعدة.
الرابع: في اللواحق:
وهي ثلاث:
الأولى: إذا ادعى بعد القسمة الغلط عليه لم تسمع دعواه فإن أقام بينة سمعت
وحكم ببطلان القسمة لأن فائدتها تميز الحق ولم يحصل، ولو عدمها فالتمس اليمين
كان له إن ادعى على شريكه العلم بالغلط.
الثانية: إذا اقتسما ثم ظهر البعض مستحقا فإن كان معينا في أحدهما بطلت
القسمة لبقاء الشركة في النصيب الآخر، ولو كان فيهما بالسوية لم تبطل لأن فائدة
القسمة باقية وهو إفراد كل واحد من الحقين، ولو كان فيهما لا بالسوية بطلت لتحقق
الشركة، وإن كان المستحق مشاعا معهما، فللشيخ قولان: أحدهما لا تبطل فيما زاد
عن المستحق والثاني تبطل لأنها وقعت من دون إذن الشريك، وهو الأشبه.
الثالثة: لو قسم الورثة تركة ثم ظهر على الميت دين فإن قام الورثة بالدين لم تبطل
القسمة، وإن امتنعوا نقضت وقضي منها الدين.
النظر الرابع: في أحكام الدعوى:
وهو يستدعي بيان مقدمة ومقاصد. أما المقدمة: فتشتمل على فصلين:
الفصل الأول: في المدعي:
وهو الذي يترك لو ترك الخصومة وقيل: هو الذي يدعي خلاف الأصل أو أمرا
324

خفيا، وكيف عرفناه فالمنكر في مقابلته. ويشترط البلوغ والعقل وأن يدعي لنفسه أو لمن
له ولاية الدعوى عنه ما يصح منه تملكه، فهذه قيود أربعة. فلا تسمع دعوى الصغير ولا
المجنون ولا دعواه مالا لغيره إلا أن يكون وكيلا أو وصيا أو وليا أو حاكما أو أمينا
لحاكم، ولا تسمع دعوى المسلم خمرا أو خنزيرا.
ولا بد من كون الدعوى صحيحة لازمة، فلو ادعى هبة لم تسمع حتى يدعي
الإقباض وكذا لو ادعى رهنا، ولو ادعى المنكر فسق الحاكم أو الشهود ولا بينة فادعى
علم المشهود له ففي توجه اليمين على نفي العلم تردد أشبهه عدم التوجه لأنه ليس حقا
لازما.
ولا يثبت بالنكول ولا باليمين المردودة ولأنه يثير فسادا، وكذا لو التمس المنكر يمين
المدعي منضمة إلى الشهادة لم يجب إجابته لنهوض البينة بثبوت الحق، وفي الإلزام
بالجواب عن دعوى الإقرار تردد منشأه أن الإقرار لا يثبت حقا في نفس الأمر بل إذا
ثبت قضي به ظاهرا.
ولا تفتقر صحة الدعوى إلى الكشف في نكاح ولا غيره وربما افتقرت إلى ذلك في
دعوى القتل لأن فائته لا يستدرك، ولو اقتصرت على قولها: هذا زوجي، كفى في دعوى
النكاح، ولا يفتقر ذلك إلى دعوى شئ من حقوق الزوجية لأن ذلك يتضمن دعوى لوازم
الزوجية. ولو أنكر النكاح لزمه اليمين، ولو نكل قضي عليه على القول بالنكول وعلى
القول الآخر ترد اليمين عليها، فإذا حلفت ثبتت الزوجية وكذا السياقة لو كان هو
المدعي.
ولو ادعى أن هذه بنت أمته لم تسمع دعواه لاحتمال أن تلد في ملك غيره ثم تصير له
وكذا لو قال: ولدتها في ملكي، لاحتمال أن تكون حرة أو ملكا لغيره. وكذا لا تسمع
البينة بذلك ما لم يصرح بأن البنت ملكه وكذا البينة، ومثله لو قال: هذه ثمرة نخلتي.
وكذا لو أقر له من الثمرة في يده أو بنت المملوكة لم يحكم عليه بالإقرار لو فسره بما ينافي
الملك، ولا كذا لو قال: هذا الغزل من قطن فلان أو هذا الدقيق من حنطته.
325

الفصل الثاني: في التوصل إلى الحق:
من كانت دعواه عينا في يد انسان فله انتزاعها ولو قهرا ما لم يثر فتنة ولا يقف ذلك
على إذن الحاكم، ولو كان الحق دينا وكان الغريم مقرا باذلا له لم يستقل المدعي
بانتزاعه من دون الحاكم لأن الغريم مخير في جهات القضاء فلا يتعين الحق في شئ دون
تعيينه أو تعيين الحاكم مع امتناعه، ولو كان المدين جاحدا وللغريم بينة يثبت عند
الحاكم والوصول إليه ممكن ففي جواز الأخذ تردد أشبهه الجواز وهو الذي ذكره الشيخ في
الخلاف والمبسوط وعليه دل عموم الإذن في الاقتصاص.
ولو لم يكن له بينة أو تعذر الوصول إلى الحاكم ووجد الغريم من جنس ماله اقتص
مستقلا بالاستيفاء، نعم لو كان المال وديعة عنده ففي جواز الاقتصاص تردد أشبهه
الكراهية، ولو كان المال من غير جنس الموجود جاز أخذه بالقيمة العدل.
ويسقط اعتبار رضا المالك بإلظاظه، كما يسقط اعتبار رضاه في الجنس، ويجوز أن
يتولى بيعها وقبض دينه من ثمنها دفعا لمشقة التربص بها، ولو تلفت قبل البيع قال
الشيخ: الأليق بمذهبنا أنه لا يضمنها، والوجه الضمان لأنه قبض لم يأذن فيه المالك
ويتقاصان بقيمتها مع التلف.
مسألتان:
الأولى: من ادعى ما لا يد لأحد عليه قضي له، ومن بابه أن يكون كيس بين جماعة
فيسألون: هل هو لكم؟ فيقولون: لا، ويقول واحد منهم: هو لي، فإنه يقضى به لمن
ادعاه.
الثانية: لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله، وما أخرج بالغوص
فهو لمخرجه وبه رواية في سندها ضعف.
326

وأما المقاصد:
المقصد الأول: في الاختلاف في دعوى الأملاك:
وفيه مسائل:
الأولى: لو تنازعا عينا في يدهما ولا بينة قضي بها بينهما نصفين، وقيل: يحلف كل
منهما لصاحبه. ولو كانت يد أحدهما عليها قضي بها للمتشبث مع يمينه إن التمسها
الخصم، ولو كانت يدهما خارجة فإن صدق من هي في يده أحدهما أحلف وقضي له وإن
قال: هي لهما، قضي بها بينهما نصفين وأحلف كل منهما لصاحبه ولو دفعهما أقرت في
يده.
الثانية: يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضاد مثل أن يشهد شاهدان بحق
لزيد ويشهد آخران أن ذلك الحق بعينه لعمرو أو يشهدان بأنه باع ثوبا مخصوصا لعمرو
غدوة وشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت، ومهما أمكن التوفيق بين الشهادتين
وفق، فإن تحقق التعارض فإما أن يكون العين في يدهما أو يد أحدهما أو في يد ثالث.
ففي الأول يقضي بها بينهما نصفين لأن يد كل واحد على النصف وقد أقام الآخر
بينة فيقضي له بما في يد غريمه.
وفي الثاني يقضى بها للخارج دون المتشبث إن شهدتا لهما بالملك المطلق وفيه قول
آخر - ذكره في الخلاف - بعيد، ولو شهدتا بالسبب قيل: يقضى لصاحب اليد،
لقضاء علي ع في الدابة. وقيل: يقضى للخارج، لأنه لا بينة على ذي اليد كما
لا يمين على المدعي عملا بقوله ص: واليمين على من أنكر، والتفصيل
قاطع للشركة وهو أولى. أما لو شهدت للمتشبث بالسبب وللخارج بالملك المطلق فإنه
يقضى لصاحب اليد سواء كان السبب مما لا يتكرر كالنتاج ونساجة الثوب الكتان أو
يتكرر كالبيع والصياغة، وقيل: بل يقضى للخارج وإن شهدت بينة بالملك المطلق عملا
بالخبر، والأول أشبه.
ولو كانت في يد ثالث قضي بأرجح البينتين عدالة، فإن تساويا قضي لأكثرهما
شهودا، ومع التساوي عددا وعدالة يقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف وقضي له، ولو
327

امتنع أحلف الآخر وقضي له، وإن نكلا قضي به بينهما بالسوية، وقال في المبسوط:
يقضى بالقرعة إن شهدتا بالملك المطلق، ويقسم بينهما إن شهدتا بالملك المقيد. ولو
اختصت إحديهما بالتقييد قضي بها دون الأخرى، والأول أنسب بالمنقول.
ويتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين، ولا يتحقق بين شاهدين وشاهد
ويمين وربما قال الشيخ: نادرا يتعارضان ويقرع بينهما. ولا بين شاهد وامرأتين وشاهد
ويمين بل يقضى بالشاهدين بالشاهد والمرأتين دون الشاهد واليمين، وكل موضع قضينا
فيه بالقسمة فإنما هو في موضع يمكن فرضها كالأموال دون ما يمتنع كما إذا تداعى
رجلان زوجة.
والشهادة بقديم الملك أولى من الشهادة بالحادث مثل أن تشهد إحديهما بالملك في
الحال والأخرى بقديمه أو إحديهما بالقديم والأخرى بالأقدم فالترجيح لجانب الأقدم،
وكذا الشهادة بالملك أولى من الشهادة باليد لأنها محتملة، وكذا الشهادة بسبب الملك
أولى من الشهادة بالتصرف.
الثالثة: لو ادعى شيئا فقال المدعى عليه: هو لفلان، اندفعت عنه المخاصمة حاضرا
كان المقر له أو غائبا. فإن قال المدعي: أحلفوه أنه لا يعلم أنها لي، توجهت اليمين لأن
فائدتها الغرم لو امتنع لا القضاء بالعين لو نكل أو رد. وقال الشيخ: لا يحلف ولا يغرم لو
نكل، والأقرب أنه يغرم لأنه حال بين المالك وبين ماله بإقراره لغيره. ولو أنكر المقر له
حفظها الحاكم لأنها خرجت عن ملك المقر ولم تدخل في ملك المقر له، ولو أقام المدعي
بينة، قضي له أما لو أقر المدعى عليه بها لمجهول لم يندفع الخصومة وألزم البيان.
الرابعة: إذا ادعى أنه آجره الدابة وادعى آخر أنه أودعه إياها تحقق التعارض مع
قيام البينتين بالدعويين وعمل بالقرعة مع تساوى البينتين في عدم الترجيح.
الخامسة: لو ادعى دارا في يد انسان وأقام بينة أنها كانت في يده أمس أو منذ شهر
قيل: لا تسمع هذه البينة. وكذا لو شهدت له بالملك أمس لأن ظاهر اليد الآن الملك
فلا يدفع بالمحتمل وفيه إشكال ولعل الأقرب القبول، أما لو شهدت بينة المدعي أن
صاحب اليد غصبها واستأجرها منه حكم بها لأنها شهدت بالملك وسبب يد الثاني، ولو
328

قال: غصبني إياها، وقال آخر: بل أقر لي بها، وأقاما البينة قضي للمغصوب منه ولم
يضمن المقر لأن الحيلولة لم تحصل بإقراره بل بالبينة.
المقصد الثاني: في الاختلافات في العقود:
إذا اتفقا على استئجار دار معينة شهرا معينا واختلفا في الأجرة وأقام كل منهما بينة
بما قدره فإن تقدم تاريخ أحدهما عمل به لأن الثاني يكون باطلا، وإن كان التاريخ
واحدا تحقق التعارض إذ لا يمكن في الوقت الواحد وقوع عقدين متنافيين وحينئذ يقرع
بينهما ويحكم لمن خرج اسمه مع يمينه، هذا اختيار شيخنا في المبسوط.
وقال آخر: يقضى ببينة المؤجر، لأن القول قول المستأجر لو لم يكن بينة إذ هو يخالف
على ما في ذمة المستأجر فيكون القول قوله.
ومن كان القول قوله مع عدم البينة كانت البينة في طرف المدعي وحينئذ نقول: هو
مدع زيادة، وقد أقام البينة بها فيجب أن يثبت، وفي القولين تردد.
ولو ادعى استئجار دار فقال المؤجر: بل آجرتك بيتا منها. قال الشيخ: يقرع بينهما،
وقيل: القول قول المؤجر، والأول أشبه لأن كلا منهما مدع. ولو أقام كل منهما بينة
تحقق التعارض مع اتفاق التاريخ ومع التفاوت يحكم للأقدم لكن إن كان الأقدم بينة
البيت حكم بإجارة البيت بأجرته وبإجارة بقية الدار بالنسبة من الأجرة.
ولو ادعى كل منهما أنه اشترى دارا معينة وأقبض الثمن وهي في يد البائع قضي
بالقرعة مع تساوى البينتين عدالة وعددا وتاريخا وحكم لمن خرج اسمه مع يمينه، ولا
يقبل قول البائع لأحدهما ويلزمه إعادة الثمن على الآخر لأن قبض الثمنين ممكن فتزدحم
البينتان فيه، ولو نكلا عن اليمين قسمت بينهما ويرجع كل منهما بنصف الثمن، وهل
لهما أن يفسخا؟ الأقرب نعم، لتبعض المبيع قبل قبضه. ولو فسخ أحدهما كان للآخر
أخذ الجميع لعدم المزاحم وفي لزوم ذلك له تردد أقربه اللزوم.
ولو ادعى اثنان أن ثالثا اشترى من كل منهما هذا المبيع وأقام كل منهما بينة فإن
اعترف لأحدهما قضي له عليه بالثمن وكذا إن اعترف لهما قضي عليه بالثمنين، ولو أنكر
329

وكان التاريخ مختلفا أو مطلقا قضي بالثمنين جميعا لمكان الاحتمال، ولو كان التاريخ
واحدا تحقق التعارض إذ لا يكون الملك الواحد في الوقت الواحد لاثنين ولا يمكن إيقاع
عقدين في الزمان الواحد فيقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف وقضي له، ولو امتنعا من
اليمين قسم الثمن بينهما.
ولو ادعى شراء المبيع من زيد وقبض الثمن وادعى آخر شراءه من عمرو وقبض
الثمن أيضا وأقاما بينتين متساويتين في العدالة والعدد والتاريخ فالتعارض متحقق
فحينئذ يقضى بالقرعة ويحلف من خرج اسمه ويقضى له، ولو نكلا عن اليمين قسم
المبيع بينهما ورجع كل منهما على بائعه بنصف الثمن ولهما الفسخ والرجوع بالثمنين،
ولو فسخ أحدهما جاز ولم يكن للآخر أخذ الجميع لأن النصف الآخر لم يرجع إلى بائعه.
ولو ادعى عبد أن مولاه أعتقه وادعى آخر أن مولاه باعه منه وأقاما البينة قضي
لأسبق البينتين تاريخا فإن اتفقتا قضي بالقرعة مع اليمين، ولو امتنعا عن اليمين قيل:
يكون نصفه حرا ونصفه رقا لمدعي الابتياع ويرجع بنصف الثمن، ولو فسخ عتق كله،
وهل يقوم على بائعه؟ الأقرب نعم لشهادة البينة بمباشرة عتقه.
مسائل:
الأولى: لو شهد للمدعي أن الدابة ملكه منذ مدة فدلت سنها على أقل من ذلك قطعا
أو أكثر سقطت البينة لتحقق كذبها.
الثانية: لو ادعى دابة في يد زيد وأقام بينة أنه اشتراها من عمرو فإن شهدت البينة
بالملكية مع ذلك للبائع أو للمشتري أو بالتسليم قضي للمدعي، وإن شهدت البينة
بالملكية بالشراء لا غير قيل: لا يحكم، لأن ذلك قد يفعل فيما ليس بملك فلا تدفع اليد
المعلومة بالمظنونة، وهو قوي. وقيل: يقضى له، لأن الشراء دلالة على التصرف السابق
الدال على الملكية.
الثالثة: الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد وادعى رقيته قضي له بذلك
ظاهرا وكذا لو كان في يد اثنين، وأما لو كان كبيرا وأنكر فالقول قوله لأن الأصل
330

الحرية، ولو ادعى اثنان رقيته فاعترف لهما قضي عليه وإن اعترف لأحدهما كان مملوكا
له دون الآخر.
الرابعة: لو ادعى كل واحد منهما أن الذبيحة له وفي يد كل واحد بعضها وأقام كل
واحد منهما بينة قيل: يقضى لكل واحد بما في يد الآخر، وهو الأليق بمذهبنا. وكذا لو
كان في يد كل واحد شاة وادعى كل منهما الجميع وأقاما بينة، قضي لكل منهما بما في
يد الآخر.
الخامسة: لو ادعى شاة في يد عمرو وأقام بينة فتسلمها ثم أقام الذي كانت في يده
بينة أنها له قال الشيخ: ينقض الحكم وتعاد وهو بناء على القضاء لصاحب اليد مع
التعارض، والأولى أنه لا ينقض.
السادسة: لو ادعى دارا في يد زيد وادعى عمرو نصفها وأقاما البينة قضي لمدعي الكل
بالنصف لعدم المزاحم وتعارضت البينتان في النصف الآخر فيقرع بينهما ويقضى لمن
خرج اسمه مع يمينه، ولو امتنعا من اليمين قضي بها بينهما بالسوية فيكون لمدعي الكل
ثلاثة الأرباع ولمدعي النصف الربع.
ولو كانت يدهما على الدار وادعى أحدهما الكل والآخر النصف وأقام كل منهما
بينة كانت لمدعي الكل ولم يكن لمدعي النصف شئ لأن بينة ذي اليد بما في يده غير
مقبولة، ولو ادعى أحدهما النصف والآخر الثلث والثالث السدس وكانت يدهم عليها
فيد كل واحد منهم على الثلث لكن صاحب الثلث لا يدعي زيادة على ما في يده
وصاحب السدس يفضل ما في يده ما لا يدعيه هو ولا مدعي الثلث فيكون لمدعي
النصف فيكمل له النصف، وكذا لو قامت لكل منهم بينة بدعواه.
ولو ادعى أحدهم الكل والآخر النصف والثالث الثلث ولا بينة، قضي لكل واحد
منهم بالثلث لأن يده عليه وعلى الثاني والثالث اليمين لمدعي الكل وعليه وعلى مدعي
الثلث اليمين لمدعي النصف.
وإن أقام كل منهم بينة فإن قضينا مع التعارض ببينة الداخل فالحكم كما لو لم
تكن بينة لأن لكل واحد بينة ويدا على الثلث، فإن قضينا ببينة الخارج وهو الأصح
331

كان لمدعي الكل مما في يده ثلاثة من اثني عشرة بغير منازع والأربعة التي في يد مدعي
النصف لقيام البينة لصاحب الكل بها وسقوط بينة صاحب النصف بالنظر إليها إذ لا
تقبل بينة ذي اليد وثلاثة مما في يد مدعي الثلث، ويبقى واحد مما في يد مدعي الكل
لمدعي النصف وواحد مما في يد مدعي الثلث يدعيه كل واحد من مدعي النصف
ومدعي الكل يقرع بينهما ويحلف من يخرج اسمه ويقضى له، فإن امتنعا قسم بينهما
نصفين فيحصل لصاحب الكل عشرة ونصف ولصاحب النصف واحد ونصف وتسقط
دعوى مدعي الثلث.
ولو كانت في يد أربعة فادعى أحدهم الكل والآخر الثلثين والثالث النصف والرابع
الثلث ففي يد كل واحد ربعها فإن لم يكن بينة قضينا لكل واحد بما في يده وأحلفنا كلا
منهم لصاحبه، ولو كانت يدهم خارجة ولكل بينة خلص لصاحب الكل الثلث إذ لا
مزاحم له ويبقى التعارض بين بينة مدعي الكل ومدعي الثلثين في السدس فيقرع بينهما
فيه، ثم يقع التعارض بين بينة مدعي الكل ومدعي الثلثين ومدعي النصف في السدس
أيضا فيقرع بينهم فيه، ثم يقع التعارض بين الأربعة في الثلث فيقرع بينهم ويخص به
من يقع القرعة له ولا يقضى لمن يخرج اسمه إلا مع اليمين ولا يستعظم أن يحصل بالقرعة
الكل لمدعي الكل فإن ما حكم الله تعالى به غير مخطئ.
ولو نكل الجميع عن الأيمان قسمنا ما يقع التدافع فيه بين المتنازعين في كل مرتبة
بالسوية فيصح القسمة من ستة وثلاثين سهما لمدعي الكل عشرون ولمدعي الثلثين ثمانية
ولمدعي النصف خمسة ولمدعي الثلث ثلاثة، ولو كان المدعي في يد الأربعة ففي يد كل
واحد منهم ربعها، فإذا أقام كل واحد منهم بينة بدعواه قال الشيخ: يقضى لكل واحد
منهم بالربع، لأن له بينة ويدا.
والوجه القضاء ببينة الخارج على ما قررناه فيسقط اعتبار بينة كل واحد بالنظر إلى ما
في يده ويكون ثمرتها في دعوى التكملة فيما يدعيه مما في يد غيره فيجتمع بين كل
ثلاثة على ما في يد الرابع وينتزع لهم ويقضى فيه بالقرعة واليمين، ومع الامتناع بالقسمة
فيجمع بين مدعي الكل والنصف والثلث على ما في يد مدعي الثلثين وذلك ربع اثنين
332

وسبعين وهو ثمانية عشرة فمدعي الكل يدعيها أجمع ومدعي النصف يدعي منهما ستة
ومدعي الثلث يدعي اثنين فيكون عشرة منها لمدعي الكل لقيام البينة بالجميع الذي
يدخل فيه العشرة ويبقى ما يدعيه صاحب النصف وهو ستة يقرع بينه وبين مدعي الكل
فيها ويحلف، ومع الامتناع يقسم بينهما، وما يدعيه صاحب الثلث وهو اثنان يقرع عليه
بين مدعي الكل وبينه فمن خرج اسمه أحلف وأعطي، ولو امتنعا قسم بينهما، ثم
تجتمع دعوى الثلاثة على ما في يد مدعي النصف فصاحب الثلثين يدعي عليه عشرة
ومدعي الثلث يدعي اثنين ويبقى في يده ستة لا يدعيها إلا مدعي الجميع فيكون له
ويقارع الآخرين ثم يحلف.
وإن امتنعوا أخذ نصف ما ادعياه ثم يجتمع الثلاثة على ما في يد مدعي الثلث وهو
ثمانية عشر، فمدعي الثلثين يدعي منه عشرة ومدعي النصف يدعي ستة يبقى اثنان
لمدعي الكل ويقارع على ما أفرد للآخرين.
فإن امتنعوا عن الأيمان قسم ذلك بين مدعي الكل وبين كل واحد منهما بما ادعياه
ثم يجتمع الثلاثة على ما في يد مدعي الكل، فمدعي الثلثين يدعي عشرة ومدعي النصف
يدعي ستة ومدعي الثلث يدعي اثنين فتخلص يده عما كان فيها، فيكمل لمدعي الكل
ستة وثلاثون من أصل اثنين وسبعين ولمدعي الثلثين عشرون ولمدعي النصف اثنا عشرة
ولمدعي الثلث أربعة، هذا إن امتنع صاحب القرعة من اليمين ومقارعيه.
السابعة: إذا تداعى الزوجان متاع البيت قضي لمن قامت له البينة، ولو لم يكن بينة
فيد كل واحد منهما على نصفه، قال في المبسوط: يحلف كل واحد منهما لصاحبه
ويكون بينهما بالسوية سواء كان مما يخص الرجال أو النساء أو يصلح لهما وسواء كانت
الدار لهما أو لأحدهما وسواء كانت الزوجية باقية بينهما أو زائلة ويستوي في ذلك تنازع
الزوجين والوارث. وقال في الخلاف: ما يصلح للرجال للرجل
وما يصلح للنساء للمرأة وما يصلح لهما يقسم بينهما، وفي رواية: أنه للمرأة، لأنها تأتي بالمتاع من أهلها، وما
ذكره في الخلاف أشهر في الروايات وأظهر بين الأصحاب. ولو ادعى أبو الميتة أنه أعارها
بعض ما في يدها من متاع أو غيره، كلف البينة كغيره من الأنساب وفيه رواية بالفرق
333

بين الأب وغيره ضعيفة.
المقصد الثالث: في دعوى المواريث:
وفيه مسائل:
الأولى: لو مات المسلم عن ابنين فتصادقا على تقدم إسلام أحدهما على موت الأب و
ادعى الآخر مثله فأنكر أخوه فالقول قول المتفق على تقدم إسلامه مع يمينه أنه لا يعلم أن
أخاه أسلم قبل موت أبيه، وكذا لو كانا مملوكين فأعتقا واتفقا على تقدم حرية أحدهما
واختلفا في الآخر.
الثانية: لو اتفقا أن أحدهما أسلم في شعبان والآخر في غرة رمضان ثم قال المتقدم:
مات الأب قبل شهر رمضان، وقال المتأخر: مات بعد دخول شهر رمضان، كان الأصل
بقاء الحياة والتركة بينهما نصفين.
الثالثة: دار في يد انسان ادعى آخر أنها له ولأخيه الغائب إرثا عن أبيهما وأقام
بينة، فإن كانت كاملة وشهدت أنه لا وارث سواهما سلم إليه النصف وكان الباقي في
يد من كانت الدار في يده، وقال في الخلاف: يجعل في يد أمين حتى يعود ولا يلزم
القابض للنصف إقامة ضمين بما قبض. ونعني بالكاملة ذات المعرفة المتقادمة والخبرة
الباطنة، ولو لم تكن البينة كاملة وشهدت أنها لا تعلم وارثا غيرهما أرجئ التسليم
حيث يبحث الحاكم عن الوارث مستقصيا بحيث لو كان وارث لظهر وحينئذ يسلم إلى
الحاضر نصيبه ويضمنه استظهارا.
ولو كان ذا فرض أعطي مع اليقين بانتفاء الوارث نصيبه تاما، وعلى التقدير الثاني
يعطيه اليقين إن لو كان وارث فيعطى الزوج الربع والزوجة ربع الثمن معجلا من غير
تضمين وبعد البحث يتمم الحصة مع التضمين، ولو كان الوارث ممن يحجبه غيره
كالأخ فإن أقام البينة الكاملة أعطي المال وإن أقام بينة غير كاملة أعطي بعد البحث
والاستظهار بالتضمين.
الرابعة: إذا ماتت امرأة وابنها فقال أخوها: مات الولد أولا ثم المرأة فالميراث لي
334

وللزوج نصفان، وقال الزوج: بل ماتت المرأة ثم الولد فالمال لي، قضي لمن تشهد له البينة
ومع عدمها لا يقضى بإحدى الدعويين لأنه لا ميراث إلا مع تحقق حياة الوارث، فلا
ترث الأم من الولد ولا الابن من أمه ويكون تركة الابن لأبيه وتركة الزوجة بين الأخ
والزوج.
الخامسة: لو قال: هذه الأمة ميراث من أبي، وقالت الزوجة: هذه أصدقني إياها
أبوك، أقام كل منهما بينة يقضى ببينة المرأة لأنها تشهد بما يمكن خفاؤه على الأخرى.
المقصد الرابع: في الاختلاف في الولد:
إذا وطئ اثنان امرأة وطئا يلحق به النسب إما أن تكون زوجة لأحدهما ومشتبهة
على الآخر أو مشتبهة عليهما أو يعقد كل واحد منهما عليها عقدا فاسدا ثم تأتي بولد لستة
أشهر فصاعدا ما لم يتجاوز أقصى الحمل فحينئذ يقرع بينهما ويلحق بمن تعينه القرعة
سواء كان الواطئان مسلمين أو كافرين أو عبدين أو حرين أو مختلفين في الاسلام والكفر
والحرية والرق أو أبا وابنه، هذا إذا لم يكن لأحدهما بينة.
ويلحق النسب بالفراش المنفرد والدعوى المنفردة وبالفراش المشترك والدعوى
المشتركة ويقضى فيه بالبينة ومع عدمها بالقرعة.
335

كتاب الشهادات
والنظر في أطراف خمسة:
الطرف الأول: في صفات الشهود: ويشترط فيه ستة أوصاف:
الأول: البلوغ: فلا تقبل شهادة الصبي ما لم يصر مكلفا، وقيل: تقبل مطلقا إذا
بلغ عشرا، وهو متروك. واختلفت عبارة الأصحاب في قبول شهادتهم في الجراح والقتل
فروى جميل عن أبي عبد الله ع: تقبل شهادتهم في القتل ويؤخذ بأول
كلامهم، ومثله روى محمد بن حمران عن أبي عبد الله ع. وقال الشيخ في
النهاية: تقبل شهادتهم في الجراح والقصاص، وقال في الخلاف: تقبل شهادتهم في
الجراح ما لم يتفرقوا إذا اجتمعوا على مباح. والتهجم على الدماء بخبر الواحد خطر
فالأولى الاقتصار على القبول في الجراح بالشروط الثلاثة: بلوع العشر وبقاء الاجتماع
إذا كان على مباح تمسكا بموضع الوفاق.
الثاني: كمال العقل: فلا تقبل شهادة المجنون إجماعا، أما من يناله الجنون أدوارا
فلا بأس بشهادته حال إفاقته لكن بعد استظهار الحاكم بما يتيقن معه حضور ذهنه
واستكمال فطنته، وكذا من يعرض له السهو غالبا فربما سمع الشئ ونسي بعضه
فيكون ذلك مغيرا لفائدة اللفظ وناقلا لمعناه فحينئذ يجب الاستظهار عليه حتى يستثبت
ما يشهد به، وكذا المغفل الذي في جبلته البله فربما استغلط لعدم تفطنه لمزايا الأمور
والأولى الإعراض عن شهادته ما لم يكن الأمر الجلي الذي يتحقق الحاكم استثبات
337

الشاهد له وأنه لا يسهو في مثله.
الثالث: الإيمان: فلا تقبل شهادة غير المؤمن وإن اتصف بالإسلام لا على مؤمن ولا
على غيره لاتصافه بالفسق والظلم المانع من قبول الشهادة، نعم تقبل شهادة الذمي
خاصة في الوصية إذا لم يوجد من عدول المسلمين من يشهد بها، ولا يشترط كون الموصي
في غربة وباشتراطه رواية مطرحة.
ويثبت الإيمان بمعرفة الحاكم أو قيام البينة أو الإقرار، وهل تقبل شهادة الذمي على
الذمي؟ قيل: لا، وكذا لا تقبل على غير الذمي، وقيل: تقبل شهادة كل ملة على
ملتهم، وهو استناد إلى رواية سماعة، والمنع أشبه. الرابع: العدالة:
إذ لا طمأنينة مع التظاهر بالفسق ولا ريب في زوالها بمواقعة الكبائر
كالقتل والزنى واللواط وغصب الأموال المعصومة وكذا بمواقعة الصغائر مع الإصرار أو في
الأغلب، أما لو كان في الندرة فقد قيل: لا يقدح لعدم الانفكاك منها إلا فيما يقل
فاشتراطه التزام للأشق، وقيل: يقدح لإمكان التدارك بالاستغفار، والأول أشبه.
وربما توهم واهم أن الصغائر لا تطلق على الذنب إلا مع الإحباط وهذا بالإعراض
عنه حقيق، فإن إطلاقها بالنسبة ولكل فريق اصطلاح، ولا يقدح في العدالة ترك
المندوبات، ولو أصر مضربا عن الجميع ما لم يبلغ حدا يؤذن بالتهاون بالسنن.
وهنا مسائل:
الأولى: كل مخالف في شئ من أصول العقائد ترد شهادته سواء استند في ذلك إلى
التقليد أو إلى الاجتهاد، ولا ترد شهادة المخالف في الفروع من معتقدي الحق إذا لم
يخالف الاجماع ولا يفسق وإن كان مخطئا في اجتهاده.
الثانية: لا تقبل شهادة القاذف ولو تاب قبلت، وحد التوبة أن يكذب نفسه وإن
كان صادقا ويوري باطنا، وقيل: يكذبها إن كان كاذبا ويخطئها في الملأ إن كان
صادقا، والأول مروي. وفي اشتراط إصلاح العمل زيادة عن التوبة تردد والأقرب
الاكتفاء بالاستمرار لأن بقاءه على التوبة إصلاح ولو ساعة، ولو أقام بينة بالقذف أو
338

صدقه المقذوف فلا حد عليه ولا رد.
الثالثة: اللعب بآلات القمار كلها حرام كالشطرنج والنرد والأربعة عشر وغير ذلك
سواء قصد اللهو أو الحذق أو القمار.
الرابعة: شارب المسكر ترد شهادته ويفسق خمرا كان أو نبيذا أو تبعا أو منصفا أو
فضيخا ولو شرب منه قطرة وكذا الفقاع، وكذا العصير إذا غلى من نفسه أو بالنار ولو لم
يسكر إلا أن يغلي حتى يذهب ثلثاه، أما غير العصير من التمر أو البسر فالأصل أنه حلال
ما لم يسكر، ولا بأس باتخاذ الخمر للتخليل.
الخامسة: مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب يفسق فاعله وترد شهادته وكذا
مستمعه سواء استعمل في شعر أو قرآن ولا بأس بالحداء به، ويحرم من الشعر ما تضمن
كذبا أو هجاء مؤمن أو تشبيبا بامرأة معروفة غير محللة له وما عداه مباح والإكثار منه
مكروه.
السادسة: الزمر والعود والصنج وغير ذلك من آلات اللهو حرام يفسق فاعله
ومستمعه، ويكره الدف في الأملاك والختان خاصة.
السابعة: الحسد معصية وكذا بغضة المؤمن والتظاهر بذلك قادح في العدالة.
الثامنة: لبس الحرير للرجال في غير الحرب اختيارا محرم ترد به الشهادة، وفي المتكأ
عليه والافتراش له تردد، والجواز مروي. وكذا يحرم التختم بالذهب والتحلي به
للرجال.
التاسعة: اتخاذ الحمام للأنس وإنفاذ الكتب ليس بحرام، وإن اتخذها للفرحة
والتطير فهو مكروه والرهان عليها قمار.
العاشرة: لا ترد شهادة أحد من أرباب الصنائع المكروهة كالصياغة وبيع الرقيق ولا
من أرباب الصنائع الدنية كالحياكة والحجامة ولو بلغت في الدناءة كالزبال والوقاد لأن
الوثوق بشهادته مستند إلى تقواه.
الخامس: ارتفاع التهمة: ويتحقق المقصود ببيان مسائل:
الأولى: لا تقبل شهادة من يجر بشهادته نفعا كالشريك فيما هو شريك فيه وصاحب
339

الدين إذا شهد للمحجور عليه والسيد لعبده المأذون والوصي فيما هو وصي فيه، وكذا لا
تقبل شهادة من يستدفع بشهادته ضررا كشهادة أحد العاقلة بجرح شهود الجناية، وكذا
شهادة الوكيل والوصي بجرح شهود المدعي على الموصي أو الموكل.
الثانية: العداوة الدينية لا تمنع القبول فإن المسلم تقبل شهادته على الكافر، أما
الدنيوية فإنها تمنع سواء تضمنت فسقا أو لم تتضمن، وتتحقق العداوة بأن يعلم من
حال أحدهم السرور بمساءة الآخر والمساءة بسروره أو يقع بينهما تقاذف، وكذا لو شهد
بعض الرفقاء لبعض على القاطع عليهم الطريق لتحقق التهمة أما لو شهد العدو لعدوه
قبلت لانتفاء التهمة.
الثالثة: النسب وإن قرب لا يمنع قبول الشهادة كالأب لولده وعليه والولد لوالده
والأخ لأخيه وعليه، وفي قبول شهادة الولد على والده خلاف والمنع أظهر سواء شهد بمال
أو بحق متعلق ببدنه كالقصاص والحد، وكذا تقبل شهادة الزوج لزوجته والزوجة
لزوجها مع غيرها من أهل العدالة، ومنهم من شرط في الزوج الضميمة كالزوجة ولا وجه
له، ولعل الفرق إنما هو لاختصاص الزوج بمزيد القوة في المزاج من أن تجذبه دواعي
الرغبة، والفائدة تظهر لو شهد فيما يقبل فيه شهادة الواحد مع اليمين، وتظهر الفائدة في
الزوجة لو شهدت لزوجها في الوصية، وتقبل شهادة الصديق لصديقه وإن تأكدت بينهما
الصحبة والملاطفة لأن العدالة تمنع التسامح.
الرابعة: لا تقبل شهادة السائل في كفه لأنه يسخط إذا منع ولأن ذلك يأذن بمهانة
النفس فلا يؤمن على المال، ولو كان ذلك مع الضرورة نادرا لم يقدح في شهادته.
الخامسة: تقبل شهادة الأجير والضيف وإن كان لهما ميل إلى المشهود له لكن يرفع
التهمة تمسكهما بالأمانة.
لواحق هذا الباب وهي ستة:
الأولى: الصغير والكافر والفاسق المعلن إذا عرفوا شيئا ثم زال المانع عنهم فأقاموا
تلك الشهادة قبلت لاستكمال شرائط القبول، ولو أقامها أحدهم في حال المانع فردت ثم
340

أعادها بعد زوال المانع قبلت، وكذا العبد لو ردت شهادته على مولاه ثم أعادها بعد عتقه
أو الولد على أبيه فردت ثم مات الأب وأعادها، أما الفاسق المستتر إذا أقام فردت ثم
تاب وأعادها فهنا تهمة الحرص على دفع الشبهة عنه لاهتمامه بإصلاح الظاهر لكن
الأشبه القبول.
الثانية: قيل: لا تقبل شهادة المملوك أصلا، وقيل: تقبل مطلقا، وقيل: تقبل إلا
على مولاه، ومنهم من عكس، والأشهر القبول إلا على المولى. ولو أعتق قبلت شهادته
وعلى مولاه وكذا حكم المدبر والمكاتب المشروط، أما المطلق إذا أدى من مكاتبته شيئا
قال في النهاية: تقبل على مولاه بقدر ما تحرر منه، وفيه تردد أقربه المنع.
الثالثة: إذا سمع الإقرار صار شاهدا وإن لم يستدعه المشهود عليه، وكذا لو سمع
اثنين يوقعان عقدا كالبيع والإجارة والنكاح وغيره، وكذا لو شاهد الغصب أو الجناية،
وكذا لو قال له الغريمان: لا تشهد علينا، فسمع منهما أو من أحدهما ما يوجب حكما.
وكذا لو خبئ فنطق المشهود عليه مسترسلا.
الرابعة: التبرع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة فيمنع القبول، أما في حقوق الله
أو الشهادة للمصالح العامة فلا يمنع إذ لا مدعي لها وفيه تردد.
الخامسة: المشهور بالفسق إذا تاب لتقبل شهادته، الوجه أنها لا تقبل حتى يستبان
استمراره على الفلاح، وقال الشيخ: يجوز أن يقول: تب أقبل شهادتك.
السادسة: إذا حكم الحاكم ثم تبين في الشهود ما يمنع القبول فإن كان متجددا بعد
الحكم لم يقدح، وإن كان حاصلا قبل الإقامة وخفي عن الحاكم نقض الحكم إذا
علم.
الوصف السادس طهارة المولد: فلا تقبل شهادة ولد الزنى أصلا، وقيل: تقبل في
اليسير مع تمسكه بالصلاح، وبه رواية نادرة. ولو جهلت حاله، قبلت شهادته وإن نالته
بعض الألسن.
341

الطرف الثاني: فيما به يصير شاهدا:
والضابط العلم لقوله تعالى: ولا تقف ما ليس لك به علم، ولقوله ع وقد
سئل عن الشهادة وقال: هل ترى الشمس؟ فقال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع.
ومستندها إما المشاهدة أو السماع أو هما، فما يفتقر إلى المشاهدة الأفعال لأن آلة
السمع لا تدركها كالغصب والسرقة والقتل والرضاع والولادة والزنى واللواط فلا يصير
شاهدا بشئ من ذلك إلا مع المشاهدة ويقبل فيه شهادة الأصم، وفي رواية يؤخذ بأول
قوله لا بثانيه وهي نادرة.
وما يكفي فيه السماع فالنسب والموت والملك المطلق لتعذر الوقوف عليه مشاهدة
في الأغلب، ويتحقق كل واحد من هذه بتوالي الأخبار من جماعة لا بضمهم قيد المواعدة
أو يستفيض ذلك حتى يتآخم العلم، وفي هذا عندي تردد.
وقال الشيخ: لو شهد عدلان فصاعدا صار السامع متحملا وشاهد أصل لا شاهدا
على شهادتهما لأن ثمرة الاستفاضة الظن وهو حاصل بهما، وهو ضعيف لأن الظن
يحصل بالواحد.
فرع:
لو سمعه يقول للكبير: هذا ابني، وهو ساكت، أو قال: هذا أبي، وهو ساكت، قال
في المبسوط: صار متحملا لأن سكوته في معرض ذلك رضا بقوله عرفا، وهو بعيد
لاحتماله غير الرضا.
تفريع على القول بالاستفاضة:
الأول: الشاهد بالاستفاضة لا يشهد بالسبب مثل البيع والهبة والاستغنام لأن ذلك
لا يثبت بالاستفاضة فلا يعزى الملك إليه مع إثباته بالشهادة المستندة إلى الاستفاضة، أما
لو عزاه إلى الميراث صح لأنه يكون عن الموت الذي يثبت بالاستفاضة، والفرق تكلف
لأن الملك إذا ثبت بالاستفاضة لم تقدح الضميمة مع حصول ما يقتضي جواز الشهادة.
342

الثاني: إذا شهد بالملك مستندا إلى الاستفاضة هل يفتقر إلى مشاهدة اليد
والتصرف؟ الوجه: لا. أما لو كان لواحد يد ولآخر سماع مستفيض، فالوجه ترجيح
اليد لأن السماع قد يحتمل إضافة الاختصاص المطلق المحتمل للملك وغيره ولا تزال اليد
بالمحتمل.
مسائل ثلاث:
الأولى: لا ريب أن المتصرف بالبناء والهدم والإجارة بغير منازع يشهد له بالملك
المطلق، أما من في يده دار فلا شبهة في جواز الشهادة له باليد، وهل يشهد له بالملك المطلق؟
قيل: نعم، وهو المروي وفيه إشكال من حيث أن اليد لو أوجبت الملك له لم تسمع
دعوى من يقول: الدار التي في يد هذا لي، كما لا تسمع لو قال: ملك هذا لي.
الثانية: الوقف والنكاح يثبت بالاستفاضة أما على ما قلناه فلا ريب فيه، وأما على
الاستفاضة المفيدة لغالب الظن فلأن الوقف للتأييد فلو لم تسمع فيه الاستفاضة لبطلت
الوقوف مع امتداد الأوقات وفناء الشهود، وأما النكاح فلأنا نقضي بأن خديجة
ع زوجة النبي ص كما نقضي بأنها أم فاطمة ع، ولو
قيل: إن الزوجية تثبت بالتواتر، كان لنا أن نقول: التواتر لا يثمر إلا إذا استند السماع
إلى المحسوس، ومن المعلوم أن المخبرين لم يخبروا عن مشاهدة العقد ولا عن إقرار النبي
ص بل نقل الطبقات متصل إلى الاستفاضة التي هي الطبقة الأولى،
ولعل هذا أشبه بالصواب.
الثالثة: الأخرس يصح منه تحمل الشهادة وأداؤها ويبني على ما يتحققه الحاكم من
إشارته، فإن جهلها اعتمد فيها على ترجمة العارف بإشارته، نعم يفتقر إلى مترجمين ولا
يكون المترجمان شاهدين على شهادته بل يثبت الحكم بشهادته أصلا لا بشهادة المترجمين
فرعا.
الثالث: ما يفتقر إلى السماع والمشاهدة كالنكاح والبيع والشراء والصلح والإجارة
فإن حاسة السمع يكفي في فهم اللفظ ويحتاج إلى البصر لمعرفة اللافظ ولا لبس في شهادة
343

من اجتمع له الحاستان، أما الأعمى فتقبل شهادته في العقد قطعا لتحقق الآلة الكافية
في فهمه فإن انضم إلى شهادته معرفان جاز له الشهادة على العاقد مستندا إلى تعريفهما
كما يشهد المبصر على تعريف غيره، ولو لم يحصل ذلك وعرف هو صوت العاقد معرفة
يزول معها الاشتباه قيل: لا يقبل لأن الأصوات تتماثل، والوجه أنها تقبل فإن
الاحتمال يندفع باليقين لأنا نتكلم على تقديره. وبالجملة فإن الأعمى تصح شهادته
متحملا ومؤديا عن علمه وعن الاستفاضة فيما يشهد به بالاستفاضة، ولو تحمل شهادة
وهو مبصر ثم عمي فإن عرف نسب المشهود أقام الشهادة، وإن شهد على العين وعرف
الصوت يقينا جاز أيضا، أما شهادته على المقبوض فماضية قطعا، وتقبل شهادته إذا
ترجم للحاكم عبارة حاضر عنده.
الطرف الثالث: في أقسام الحقوق:
وهي قسمان: حق الله سبحانه وحق الآدمي.
والأول منه: ما لا يثبت إلا بأربعة رجال كالزنى واللواط والسحق، وفي إتيان
البهائم قولان أصحهما ثبوته بشاهدين، ويثبت الزنى خاصة بثلاثة رجال وامرأتين
وبرجلين وأربع نساء غير أن الأخير لا يثبت به الرجم ويثبت به الجلد ولا يثبت بغير
ذلك، ومنه ما يثبت بشاهدين وهو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود كالسرقة
وشرب الخمر والردة، ولا يثبت شئ من حقوق الله تعالى بشاهد وامرأتين ولا بشاهد
ويمين ولا بشهادة النساء منفردات ولو كثرن.
وأما حقوق الآدمي فثلاثة:
منها ما لا يثبت إلا بشاهدين، وهو الطلاق والخلع والوكالة والوصية إليه والنسب
ورؤية الأهلة، وفي العتق والنكاح والقصاص تردد أظهره ثبوته بالشاهد والمرأتين.
ومنها ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين، وهو الديون والأموال
كالقرض والقراض والغصب، وعقود المعاوضات كالبيع والصرف والسلم والصلح
والإجارات والمساقاة والرهن والوصية له والجناية التي توجب الدية، وفي الوقف تردد
344

أظهره أنه يثبت بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين.
الثالث: ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنضمات، وهو الولادة والاستهلال
وعيوب النساء الباطنة، وفي قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف أقربه
الجواز. وتقبل شهادة امرأتين مع رجل في الديون والأموال وشهادة امرأتين مع اليمين،
ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولو كثرن، وتقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع
ميراث المستهل وفي ربع الوصية، وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء لا يثبت بأقل من
أربع.
مسائل:
الأولى: الشهادة ليست شرطا في شئ من العقود إلا في الطلاق، ويستحب في
النكاح والرجعة وكذا في البيع.
الثانية: حكم الحاكم يتبع للشهادة، فإن كانت محقة نفذ الحكم باطنا وظاهرا وإلا
نفذ ظاهرا، وبالجملة الحكم ينفذ عندنا ظاهرا لا باطنا، ولا يستبيح المشهود له ما حكم
له إلا مع العلم بصحة الشهادة أو الجهل بحالها.
الثالثة: إذا ادعى من له أهلية التحمل وجب عليه وقيل: لا يجب، والأول مروي و
الوجوب على الكفاية. ولا يتعين إلا مع عدم غيره ممن يقوم بالتحمل، أما الأداء فلا
خلاف في وجوبه على الكفاية، فإن قام غيره سقط عنه، وإن امتنعوا لحقهم الذم
والعقاب، ولو عدم الشهود إلا اثنان تعين عليهما ولا يجوز لهما التخلف إلا أن تكون
الشهادة مضرة بهما ضررا غير مستحق.
الطرف الرابع: في الشهادة على الشهادة:
وهي مقبولة في حقوق الناس عقوبة كانت كالقصاص أو غير عقوبة كالطلاق
والنسب والعتق، أو مالا كالقراض والقرض وعقود المعاوضات، أو ما لا يطلع عليه
الرجال غالبا كعيوب النساء والولادة والاستهلال.
345

ولا تقبل في الحدود سواء كانت لله محضا كحد الزنى واللواط والسحق، أو مشتركة
كحد السرقة والقذف على خلاف فيهما.
ولا بد أن يشهد اثنان على الواحد لأن المراد إثبات شهادة الأصل وهو لا يتحقق
بشهادة الواحد، فلو شهد على كل واحد اثنان صح، وكذا لو شهد اثنان على شهادة كل
واحد من شاهدي الأصل، وكذا لو شهد شاهد أصل وهو مع آخر على شهادة أصل آخر،
وكذا لو شهد اثنان على جماعة كفى شهادة الاثنين على كل واحد منهم، وكذا لو كان
شهود الأصل شاهدا وامرأتين فشهد على شهادتهم اثنان أو كان الأصل فيما يقبل فيه
شهادتهن منفردات كفى شهادة اثنين عليهن.
وللتحمل مراتب أتمها أن يقول شاهد الأصل: أشهد على شهادتي أنني أشهد على
فلان بن فلان لفلان بن فلان بكذا، وهو الاسترعاء. وأخفض منه أن يسمعه يشهد عند
الحاكم إذ لا ريب في تصريحه هناك بالشهادة، ويليه أن يسمعه يقول: أنا أشهد لفلان بن
فلان على فلان بن فلان بكذا، ويذكر السبب مثل أن يقول: من ثمن ثوب أو عقار، إذ
هي صورة جزم وفيه تردد. أما لو لم يذكر سبب الحق بل اقتصر على قوله: أنا أشهد
لفلان على فلان بكذا، لم يصر متحملا لاعتياد التسامح بمثله وفي الفرق بين هذه وبين
ذكر السبب إشكال.
ففي صورة الاسترعاء يقول: أشهدني فلان على شهادته. وفي صورة سماعه عند
الحاكم يقول: أشهد أن فلانا شهد عند الحاكم بكذا. وفي صورة السماع لا عنده يقول:
أشهد أن فلانا شهد على فلان لفلان بكذا بسبب كذا.
ولا تقبل شهادة الفرع إلا عند تعذر حضور شاهد الأصل، ويتحقق العذر بالمرض وما
ماثله وبالغيبة ولا تقدير لها، وضابطه مراعاة المشقة على شاهد الأصل في حضوره.
ولو شهد شاهد الفرع، فأنكر شاهد الأصل فالمروي العمل بشهادة أعدلهما، فإن
تساويا أطرح الفرع، وهو يشكل بما أن الشرط في قبول الفرع عدم الأصل وربما أمكن لو
قال الأصل: لا أعلم. ولو شهد الفرعان ثم حضر شاهد الأصل فإن كان بعد الحكم لم
يقدح في الحكم وافقا أو خالفا، وإن كان قبله سقط اعتبار الفرع وبقي الحكم لشاهد
346

الأصل، ولو تغيرت حال الأصل بفسق أو كفر لم يحكم بالفرع لأن الحكم مستند إلى
شهادة الأصل.
وتقبل شهادة النساء على الشهادة فيما يقبل فيه شهادة النساء منفردات كالعيوب
الباطنة والاستهلال والوصية، وفيه تردد أشبهه المنع. ثم الفرعان إن سميا الأصل
وعدلاه قبل، وإن سمياه ولم يعدلاه سمعها الحاكم وبحث عن الأصل وحكم مع ثبوت
ما يقتضي القبول وطرح مع ثبوت ما يمنع القبول لو حضر وشهد، أما لو عدلاه ولم يسمياه
لم يقبل.
ولو أقر باللواط أو بالزنى بالعمة أو الخالة أو بوطئ البهيمة ثبت بشهادة شاهدين،
وتقبل في ذلك الشهادة على الشهادة ولا يثبت بها حد ويثبت انتشار حرمة النكاح،
وكذا لا يثبت التعزير في وطء البهيمة ويثبت تحريم الأكل في المأكولة وفي الأخرى
وجوب بيعها في بلد آخر.
الطرف الخامس: في اللواحق:
وهي قسمان:
القسم الأول: في اشتراط توارد الشاهدين على المعنى الواحد
: ويترتب عليه مسائل:
الأولى: توارد الشاهدين على الشئ الواحد شرط في القبول، فإن اتفقا معنى حكم
بهما وإن اختلفا لفظا إذ لا فرق بين أن يقولا: غصب، وبين أن يقول أحدهما: غصب
والآخر انتزع. ولا يحكم لو اختلفا معنى مثل أن يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالإقرار
بالبيع لأنهما شيئان مختلفان، نعم لو حلف مع أحدهما ثبت.
الثانية: لو شهد أحدهما أنه سرق نصابا غدوة وشهد الآخر أنه سرق عشية لم يحكم
بها لأنها شهادة على فعلين، وكذا لو شهد الآخر أنه سرق ذلك بعينه عشية لتحقق
التعارض أو لتغاير الفعلين.
الثالثة: لو قال أحدهما: سرق دينارا، وقال الآخر: درهما، أو قال أحدهما: سرق
347

ثوبا أبيض، وقال الآخر: أسود، ففي كل واحد منهما يجوز أن يحكم مع أحدهما مع يمين
المدعي لكن يثبت له الغرم ولا يثبت القطع. ولو تعارض في ذلك بينتان على عين واحدة
سقط القطع للشبهة ولم يسقطه الغرم، ولو كان تعارض البينتين لا على عين واحدة ثبت
الثوبان والدرهمان.
الرابعة: لو شهد أحدهما أنه باعه هذا الثوب غدوة بدينار وشهد له آخر أنه
باعه ذلك الثوب بعينه في ذلك الوقت بدينارين لم يثبتا لتحقق التعارض وكان له
المطالبة بأيهما شاء مع اليمين، ولو شهد له مع كل واحد شاهد آخر ثبت الديناران ولا
كذلك لو شهد واحد بالإقرار بألف والآخر بألفين فإنه يثبت الألف بهما والآخر بانضمام
اليمين، ولو شهد بكل واحد شاهدان يثبت ألف بشهادة الجميع والألف الآخر بشهادة
اثنين وكذا لو شهد أنه سرق ثوبا قيمته درهم وشهد آخر أنه سرقه وقيمته درهمان ثبت
الدرهم بشهادتهما والآخر بالشاهد واليمين، ولو شهد بكل صورة شاهدان ثبت الدرهم
بشهادة الجميع والآخر بشهادة الشاهدين بهما ولو شهد أحدهما بالقذف غدوة والآخر
عشية أو بالقتل كذلك لم يحكم بشهادتهما لأنها شهادة على فعلين أما لو شهد أحدهما
بإقراره بالعربية والآخر بالعجمية قبل لأنه إخبار عن شئ واحد.
القسم الثاني: في الطوارئ:
وهي مسائل:
الأولى: لو شهدا ولم يحكم بهما فماتا حكم بهما وكذا لو شهدا ثم زكيا بعد الموت.
الثانية: لو شهدا ثم فسقا قبل الحكم حكم بهما لأن المعتبر بالعدالة عند الإقامة، ولو
كان حقا لله كحد الزنى لم يحكم لأنه مبني على التخفيف ولأنه نوع شبهة، وفي الحكم
بحد القذف والقصاص تردد أشبهه الحكم لتعلق حق الآدمي به.
الثالثة: لو شهدا لم يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما لم يحكم لهما
بشهادتهما.
الرابعة: لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم، ولو رجعا بعد الحكم والاستيفاء
348

وتلف المحكوم به لم ينقض الحكم وكان الضمان على الشهود، ولو رجعا بعد الحكم
وقبل الاستيفاء فإن كان حدا لله نقض الحكم للشبهة الموجبة للسقوط وكذا لو كان
للآدمي كحد القذف أو مشتركا كحد السرقة، وفي نقض الحكم لما عدا ذلك من
الحقوق تردد. أما لو حكم وسلم فرجعوا والعين قائمة فالأصح أنه لا ينقض ولا تستعاد
العين وفي النهاية ترد على صاحبها، والأول أظهر.
الخامسة: المشهود به إن كان قتلا أو جرحا فاستوفي ثم رجعوا فإن قالوا: تعمدنا،
اقتص منهم، وإن قالوا: أخطأنا، كان عليهم الدية، وإن قال بعضهم: تعمدنا،
وبعض: أخطأنا، فعلى المقر بالعمد القصاص وعلى المقر بالخطا نصيبه من الدية، ولولي
الدم قتل المقرين بالعمد أجمع ورد الفاضل عن دية صاحبه وله قتل البعض ويرد الباقون
قدر جنايتهم.
ولو قال أحد شهود الزنى بعد رجم المشهود عليه: تعمدت، فإن صدقه الباقون كان
لأولياء الدم قتل الجميع ويردون ما فضل عن دية المرجوم، وإن شاءوا قتلوا واحدا ويرد
الباقون تكملة ديته بالحصص بعد وضع نصيب المقتول، وإن شاءوا قتلوا أكثر من واحد
ويرد الأولياء ما فضل من دية صاحبهم وأكمل الباقون من الشهود ما يعوز بعد نصيب
المقتولين. أما لو لم يصدقه الباقون لم يمض إقراره إلا على نفسه فحسب، وقال في
النهاية: يقتل ويرد عليه الباقون ثلاثة أرباع الدية، ولا وجه له. ولو شهدا بالعتق فحكم
ثم رجعا ضمنا القيمة تعمدا أو خطأ لأنهما أتلفاه بشهادتهما.
السادسة: إذا ثبت أنهم شهدوا بالزور نقض الحكم واستعيد المال، فإن تعذر غرم
الشهود، ولو كان قتلا ثبت عليهم القصاص وكان حكمهم حكم الشهود إذا أقروا
بالعمد، ولو باشر الولي القصاص واعترف بالتزوير لم يضمن الشهود وكان القصاص
على الولي.
السابعة: إذا شهدا بالطلاق ثم رجعا فإن كان بعد الدخول لم يضمنا، وإن كان قبل
الدخول ضمنا نصف المهر المسمى لأنهما لا يضمنان إلا ما دفعه المشهود عليه بسبب
الشهادة.
349

فروع:
الأول: إذا رجعا معا ضمنا بالسوية، وإن رجع أحدهما ضمن النصف، ولو ثبت
بشاهد وامرأتين فرجعوا ضمن الرجل النصف وضمنت كل واحدة الربع، ولو كان عشر
نسوة مع شاهد فرجع الرجل ضمن السدس وفيه تردد.
الثاني: لو كان الشهود ثلاثة ضمن كل واحد منهم الثلث ولو رجع واحد منفردا
وربما خطر أنه لا يضمن لأن في الباقين ثبوت الحق، ولا يضمن الشاهد ما يحكم به
بشهادة غيره للمشهود له، والأول اختيار الشيخ رحمه الله، وكذا لو شهد رجل وعشر نسوة
فرجع ثمان منهن قيل: كان على كل واحدة نصف السدس لاشتراكهم في نقل المال،
والإشكال فيه كما في الأول.
الثالث: لو حكم فقامت البينة بالجرح مطلقة لم ينقض الحكم لاحتمال التجدد بعد
الحكم، ولو تعين الوقت وهو متقدم على الشهادة نقض، ولو كان بعد الشهادة وقبل
الحكم لم ينقض، وإذا نقض الحكم فإن كان قتلا أو جرحا فلا قود و الدية في بيت
المال، ولو كان المباشر للقصاص هو الولي ففي ضمانه تردد والأشبه أنه لا يضمن مع
حكم الحاكم وإذنه، ولو قتل بعد الحكم وقبل الإذن ضمن الدية، أما لو كان مالا فإنه
يستعاد إن كانت العين باقية وإن كانت تالفة فعلى المشهود له لأنه ضمن بالقبض
بخلاف القصاص، ولو كان معسرا قال الشيخ: ضمن الإمام ويرجع به على المحكوم له
إذا أيسر، وفيه إشكال من حيث استقرار الضمان على المحكوم له بتلف المال في يده فلا
وجه لضمان الحاكم.
مسائل:
الأولى: إذا شهد اثنان أن الميت أعتق أحد مماليكه وقيمته الثلث وشهد آخران أو
الورثة أن العتق لغيره وقيمته الثلث، فإن قلنا: المنجزات من الأصل، عتقا، وإن قلنا:
تخرج من الثلث، فقد انعتق أحدهما، فإن عرفنا السابق صح عتقه وبطل الآخر وإن
جهل استخرج بالقرعة. ولو اتفق عتقهما في حالة واحدة قال الشيخ: يقرع بينهما بعتق
350

المقروع. ولو اختلفت قيمتهما أعتق المقروع، فإن كان بقدر الثلث صح وبطل الآخر،
وإن كان أزيد صح العتق منه في القدر الذي يحتمله الثلث، وإن نقص أكملنا الثلث من
الآخر.
الثانية: إذا شهد شاهدان بالوصية لزيد وشهد من ورثته عدلان أنه رجع عن ذلك
وأوصى لخالد قال الشيخ: يقبل شهادة الرجوع لأنهما لا يجران نفعا، وفيه إشكال من
حيث أن المال يؤخذ من يدهما فهما غريما المدعي.
الثالثة: إذا شهد شاهدان لزيد بالوصية وشهد شاهد بالرجوع وأنه أوصى لعمرو كان
لعمرو أن يحلف مع شاهده لأنها شهادة منفردة لا تعارض الأولى.
الرابعة: لو أوصى بوصيتين منفردتين فشهد آخران أنه رجع عن إحديهما قال الشيخ:
لا يقبل لعدم التعيين فهي كما لو شهد بدار لزيد أو عمرو.
الخامسة: إذا ادعى العبد العتق وأقام بينة تفتقر إلى البحث، ولو سأل التفريق حتى
تثبت التزكية قال في المبسوط: يفرق، وكذا قال لو أقام مدعي المال شاهدا واحدا
وادعى أن له آخر وسأل حبس الغريم لأنه متمكن من إثبات حقه باليمين، وفي الكل
إشكال لأنه تعجيل العقوبة قبل ثبوت الدعوى.
351

المختصر النافع
لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا
يحيى بن الحسن بن سعيد الهذلي المشتهر بالمحقق وبالمحقق الحلي
602 - 676 ه‍ ق
353

كتاب القضاء
والنظر في الصفات والآداب وكيفية الحكم وأحكام الدعوى: النظر الأول في الصفات
والصفات ست: التكليف والإيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم والذكورة.
ويدخل في العدالة اشتراط الأمانة والمحافظة على الواجبات، ولا ينعقد إلا لمن له أهلية
الفتوى ولا يكفيه فتوى العلماء، ولا بد أن يكون ضابطا فلو غلبه النسيان لم ينعقد له
القضاء. وهل يشترط علمه بالكتابة الأشبه نعم، لاضطراره إلى ما لا يتيسر لغير النبي
ص إلا بها. ولا ينعقد للمرأة، وفي انعقاده للأعمى تردد والأقرب أنه لا
ينعقد لمثل ما ذكرناه في الكتابة، وفي اشتراط الحرية تردد الأشبه أنه لا يشترط.
ولا بد من إذن الإمام ولا ينعقد بنصب العوام له، نعم لو تراضى اثنان بواحد من
الرعية فحكم بينهما لزم، ومع عدم الإمام ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت
ع الجامع للصفات، وقبول القضاء عن السلطان العادل مستحب لمن يثق بنفسه
وربما وجب.
النظر الثاني: في الآداب: وهي مستحبة ومكروهة.
فالمستحب: إشعار رعيته بوصوله إن لم يشتهر خبره، والجلوس في قضائه مستدبر
القبلة، وأن يأخذ ما في يد المعزول من حجج الناس وودائعهم، والسؤال عن أهل
السجون وإثبات أسمائهم، والبحث عن موجب اعتقالهم ليطلق من يجب إطلاقه،
355

وتفريق الشهود عند الإقامة فإنه أوثق خصوصا في موضع الريبة عدا ذوي البصائر لما
يتضمن من الغضاضة، وأن يستحضر من أهل العلم من يخاوضه في المسائل المشتبهة.
والمكروهات: الاحتجاب وقت القضاء، وأن يقضى مع ما يشغل النفس كالغضب
والجوع والعطش والغم والفرح والمرض وغلبة النعاس، وأن يرتب قوما للشهادة، وأن
يشفع إلى الغريم في اسقاط أو إبطال.
مسائل:
الأولى: للإمام أن يقضي بعلمه مطلقا في الحقوق، ولغيره في حقوق الناس وفي حقوق
الله قولان.
الثانية: إن عرف عدالة الشاهدين حكم، وإن عرف فسقهما اطرح، وإن جهل
الأمرين فالأصح التوقف حتى يبحث عنهما.
الثالثة: تسمع شهادة التعديل مطلقة ولا تسمع شهادة الجرح إلا مفصلة.
الرابعة: إذا التمس الغريم إحضار الغريم وجب إجابته ولو كان امرأة إن كانت
برزة، ولو كان مريضا أو امرأة غير برزة استناب الحاكم من يحكم بينهما.
الخامسة: الرشوة على الحاكم حرام وعلى المرتشي إعادتها.
النظر الثالث: في كيفية الحكم:
وفيه مقاصد:
المقصد الأول: في وظائف الحاكم:
وهي أربع:
الأولى: التسوية بين الخصوم في السلام والكلام والمكان والنظر والإنصات والعدل
في الحكم. ولو كان أحد الخصمين كافرا جاز أن يكون الكافر قائما والمسلم قاعدا أو
أعلى منزلا.
الثانية: لا يجوز أن يلقن أحد الخصمين شيئا يستظهر به على خصمه.
356

الثالثة: إذا سكتا استحب له أن يقول: تكلما، أو: إن كنتما حضرتما لشئ
فاذكراه، أو ما ناسبه.
الرابعة: إذا بدر أحد الخصمين سمع منه، ولو قطع عليه غريمه منعه حتى تنتهي دعواه
أو حكومته، ولو ابتدرا الدعوى سمع من الذي عن يمين صاحبه، وإن اجتمع خصوم
كتب أسماء المدعين واستدعى من يخرج اسمه.
المقصد الثاني: في جواب المدعى عليه:
وهو إما إقرار أو إنكار أو سكوت.
أما الإقرار فيلزم إذا كان جائز الأمر رجلا كان أو امرأة، فإن التمس المدعي الحكم
به حكم له، ولا يكتب على المقر حجة إلا بعد المعرفة باسمه ونسبه أو يشهد بذلك عدلان
إلا أن يقنع المدعي بالحلية، ولو امتنع المقر من التسليم أمر الحاكم خصمه بالملازمة، ولو
التمس حبسه حبس، ولو ادعى الإعسار كلف البينة ومع ثبوته ينظر، وفي تسليمه إلى
الغرماء رواية وأشهر منها تخليته، ولو ارتاب بالمقر توقف في الحكم حتى يستبين حاله.
وأما الانكار فعنده يقال للمدعي: أ لك بينة؟ فإن قال: نعم، أمر بإحضارها فإذا
حضرت سمعها. ولو قال: البينة غائبة، أجل بمقدار إحضارها. وفي تكفيل المدعى عليه
تردد ويخرج من الكفالة عند انقضاء الأجل، وإن قال: لا بينة، عرفه الحاكم أن له
اليمين. ولا يجوز إحلافه حتى يلتمس المدعي، فإن تبرع أو أحلفه الحاكم لم يعتد بها
وأعيدت مع التماس المدعي.
ثم المنكر إما أن يحلف أو يرد أو ينكل.
فإن حلف سقطت الدعوى، ولو ظفر له المدعي بمال لم يجز له المقاصة، ولو عاود الخصومة
لم تسمع دعواه، ولو أقام بينة لم تسمع، وقيل: يعمل بها ما لم يشترط الحالف
سقوط الحق بها. ولو أكذب نفسه جاز مطالبته وحل مقاصته.
فإن رد اليمين على المدعي صح، فإن حلف استحق، وإن امتنع سقطت دعواه.
ولو نكل المنكر عن اليمين وأضر قضي عليه بالنكول، وهو المروي، وقيل: يرد
357

اليمين على المدعي فإن حلف ثبت حقه وإن نكل بطل.
ولو بذل المنكر اليمين بعد الحكم بالنكول لم يلتفت إليه، ولا يستحلف المدعي مع
بينة إلا في الدين على الميت يستحلف على بقائه في ذمته استظهارا.
وأما السكوت: فإن كان لآفة توصل إلى معرفة إقراره أو إنكاره، ولو افتقر إلى
مترجم لم يقتصر على الواحد، ولو كان عنادا حبسه حتى يجيب.
المقصد الثالث: في كيفية الاستحلاف:
ولا يستحلف أحد إلا بالله ولو كان كافرا لكن إن رأى الحاكم إحلاف الذمي بما
يقتضيه دينه أردع جاز، ويستحب للحاكم تقديم العظة، ويجزئه أن يقول: والله ما له
قبلي كذا. ويجوز تغليظ اليمين بالقول والزمان والمكان ولا تغليظ لما دون نصاب القطع،
ويحلف الأخرس بالإشارة، وقيل: يوضع يده على اسم الله تعالى في المصحف، وقيل:
يكتب اليمين في لوح ويغسل ويؤمر بشربه بعد إعلامه فإن شربه كان حالفا وإن امتنع
ألزم الحق.
ولا يحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس قضائه إلا معذورا كالمريض أو امرأة غير برزة،
ولا يحلف المنكر إلا على القطع ويحلف على فعل غيره على نفي العلم كما لو ادعى على
الوارث فأنكر، أو ادعى أن يكون وكيله قبض أو باع. وأما المدعي ولا شاهد له فلا يمين
عليه إلا مع الرد أو مع نكول المنكر على قول، ويحلف على الجزم. ويكفي مع الانكار
الحلف على نفي الاستحقاق، فلو ادعى المنكر الإبراء أو الأداء انقلب مدعيا، والمدعي
منكرا فيكفيه اليمين على بقاء الحق. ولا يتوجه على الوارث بالدعوى على موروثه إلا مع
دعوى علمه بموجبه أو إثباته وعلمه بالحق وأنه ترك في يده مالا.
ولا تسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ولا يتوجه بها يمين على المنكر، ولو
ادعى الوارث لموروثه مالا سمع دعواه سواء كان عليه دين يحيط بالتركة أو لم يكن،
ويقضى بالشاهد واليمين في الأموال والديون ولا يقبل في غيره مثل الهلال والحدود
والطلاق والقصاص، ويشترط شهادة الشاهد أولا وتعديله ولو بدأ باليمين وقعت لاغية
358

ويفتقر إلى إعادتها بعد الإقامة، ولا يحلف مع عدم العلم ولا يثبت مال غيره.
مسألتان:
الأولى: لا يحكم الحاكم بإخبار لحاكم آخر ولا بقيام البينة بثبوت الحكم عند غيره،
نعم لو حكم بين الخصوم وأثبت الحكم وأشهد على نفسه فشهد شاهدان بحكم عند آخر
وجب على المشهود عنده إنفاذ ذلك الحكم.
الثانية: القسمة تميز الحقوق ولا يشترط حضور قاسم بل هو أحوط فإذا عدلت السهام
كفت القرعة في تحقق القسمة، وكل ما يتساوى أجزاؤه يجبر الممتنع على قسمته كالحنطة
والشعير وكذا ما لا يتساوى أجزاؤه إذا لم يكن في القسمة ضرر كالأرض والخشب ومع
الضرر لا يجبر الممتنع.
النظر الرابع: في الدعوى:
وهي تستدعي فصولا:
الفصل الأول: في المدعي:
وهو الذي يترك لو ترك الخصومة، وقيل: هو الذي يدعي خلاف الأصل أو أمرا
خفيا. ويشترط: التكليف، وأن يدعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى عنه، وإيراد
الدعوى بصيغة الجزم وكون المدعي به مملوكا. ومن كانت دعواه عينا فله انتزاعها، ولو
كان دينا والغريم مقر باذل أو مع جحوده عليه حجة لم يستقل المدعي بالانتزاع من دون
الحاكم، ولو فات أحد الشروط وحصل للغريم في يد المدعي مال كان له المقاصة ولو
كان من غير جنس الحق، وفي سماع الدعوى المجهولة تردد، أشبهه الجواز.
مسائل:
الأولى: من انفرد بالدعوى لما لا يد عليه قضي له به ومن هذا أن يكون بين جماعة
كيس فيدعيه أحدهم.
359

الثانية: لو انكسرت سفينة في البحر فما أخرجه البحر فهو لأهله وما أخرج بالغوص
فهو لمخرجه، وفي الرواية ضعف.
الثالثة: روي في رجل دفع إلى رجل دراهم بضاعة يخلطها بماله ويتجر بها، فقال:
ذهبت، وكان لغيره معه مال كثير فأخذوا أموالهم، قال: يرجع عليه بماله ويرجع هو على
أولئك بما أخذوا، ويمكن حمل ذلك على من خلط المال ولم يأذن له صاحبه وأذن الباقون.
الرابعة: لو وضع المستأجر الأجرة على يد أمين فتلفت كان المستأجر ضامنا إلا أن
يكون الآجر دعاه إلى ذلك فحقه حيث وضعه.
الخامسة: يقضى على الغائب مع قيام البينة ويباع ماله ويقضى دينه ويكون الغائب
على حجته ولا يدفع إليه المال إلا بكفلاء.
الفصل الثاني: في الاختلاف في الدعوى:
وفيه مسائل:
الأولى: لو كان في يد رجل وامرأة جارية فادعى أنها مملوكته وادعت المرأة حريتها
وأنها بنتها، فإن أقام أحدهما بينة قضي له وإلا تركت الجارية حتى تذهب حيث
شاءت.
الثانية: لو تنازعا عينا في يدهما قضي لهما بالسوية ولكل منهما إحلاف صاحبه، ولو
كانت في يد أحدهما قضي بها للمتشبث وللخارج إحلافه، ولو كانت في يد ثالث
وصدق أحدهما قضي له وللآخر إحلافه، ولو صدقهما قضي لهما بالسوية ولكل منهما
إحلاف الآخر وإن كذبهما أقرت في يده.
الثالثة: إذا تداعيا خصا قضي لمن إليه القمط، وهي رواية عمرو بن شمر عن جابر
وفي عمرو ضعف. وعن منصور بن حازم عن أبي عبد الله ع: أن عليا
ع قضى بذلك، وهي قضية في واقعة.
الرابعة: إذا ادعى أبو الميتة عارية بعض متاعها كلف البينة وكان كغيره من
الأنساب، وفيه رواية بالفرق ضعيفة.
360

الخامسة: إذا تداعى الزوجان متاع البيت فله ما للرجال ولها ما للنساء وما يصلح
لهما يقسم بينهما، وفي رواية: هو للمرأة وعلى الرجال البينة.
وفي المبسوط: إذا لم يكن بينة ويدهما عليه كان بينهما.
الفصل الثالث: في تعارض البينات:
يقضى مع التعارض للخارج إذا شهدتا بالملك المطلق على الأشبه ولصاحب اليد لو
انفردت بينته بالسبب كالنتاج وقديم الملك وكذا الابتياع، ولو تساويا في السبب
فروايتان أشبههما القضاء للخارج، ولو كانت يداهما عليه قضي لكل منهما بما في يد
الآخر فيكون بينهما نصفين، ولو كان المدعي به في يد ثالث قضي بالأعدل فالأكثر،
فإن تساويا عدالة وكثرة أقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف وقضي له، ولو امتنع أحلف
الآخر، ولو امتنعا قسم بينهما، وفي المبسوط: يقرع بينهما إن شهدتا بالملك المطلق
ويقسم إن شهدتا بالملك المقيد، والأول أشبه.
361

كتاب الشهادات
والنظر في أمور أربعة: الأول: في صفات الشاهد: وهي ستة:
الأول: البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبي ما لم يصر مكلفا، وقيل: تقبل إذا بلغ
عشرا، وهو شاذ. واختلفت عبارة الأصحاب في قبول شهادتهم في الجنايات ومحصلها
القبول في الجراح مع بلوع العشر ما لم يختلفوا ويؤخذ بأول قولهم، وشرط الشيخ في
الخلاف: ألا يفترقوا.
الثاني: كمال العقل، فالمجنون لا تقبل شهادته ومن يناله الجنون أدوارا تقبل في
حال الوثوق باستكمال فطنته.
الثالث: الإيمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن، وتقبل شهادة الذمي في الوصية خاصة
مع عدم المسلم، وفي اعتبار الغربة تردد.
وتقبل شهادة المؤمن على أهل الملل، ولا تقبل شهادة أحدهم على المسلم ولا غيره،
وهل تقبل على أهل ملته؟ فيه رواية بالجواز ضعيفة، والأشبه المنع.
الرابع: العدالة، ولا ريب في زوالها بالكبائر، وكذا في الصغائر مصرا وأما الندرة من
اللمم فلا، ولا يقدح اتخاذ الحمام للأنس وإنفاذ الكتب، أما الرهان عليها فقادح
لأنه قمار.
واللعب بالشطرنج ترد به الشهادة، وكذا الغناء وسماعه، والعمل بآلات اللهو
363

وسماعها، والدف إلا في الأملاك والختان، ولبس الحرير للرجل إلا في الحرب، والتختم
بالذهب، والتحلي به للرجال.
ولا تقبل شهادة القاذف، وتقبل لو تاب وحد توبته أن يكذب نفسه، وفيه قول آخر
متكلف.
الخامس: ارتفاع التهمة، فلا تقبل شهادة الجار نفعا كالشريك فيما هو شريك فيه
والوصي فيما له فيه ولاية، ولا شهادة ذي العداوة الدنيوية وهو الذي يسر بالمساءة ويساء
بالمسرة، والنسب لا يمنع القبول، وفي قبول شهادة الولد على أبيه خلاف أظهره المنع،
وكذا تقبل شهادة الزوج لزوجته وشرط بعض الأصحاب انضمام غيره من أهل الشهادة
وكذا في الزوجة، وربما صح فيها الاشتراط، والصحبة لا تمنع القبول كالضيف والأجير
على الأشبه، ولا تقبل شهادة السائل بكفه لما يتصف به من مهانة النفس فلا يؤمن
خدعه، وفي قبول شهادة المملوك روايتان أشهرهما القبول، وفي شهادته على المولى قولان،
أظهرهما المنع، ولو أعتق قبلت للمولى وعليه، ولو أشهد عبديه بحمل أنه ولده فورثهما غير
الحمل وأعتقهما الوارث فشهدا للحمل قبلت شهادتهما ورجع الإرث إلى الولد ويكره له
استرقاقهما، ولو تحمل الشهادة الصبي أو الكافر أو العبد أو الخصم أو الفاسق ثم زال
المانع وشهدوا قبلت شهادتهم.
السادس: طهارة المولد، فلا تقبل شهادة ولد الزنى، وقيل: تقبل في الشئ الدون،
وبه رواية نادرة.
ويلحق بهذا الباب مسائل:
الأولى: التبرع بالأداء قبل الاستنطاق يمنع القبول لتطرق التهمة، وهل يمنع في حقوق
الله؟ فيه تردد.
الثانية: الأصم وتقبل شهادته فيما لا يفتقر إلى السماع، وفي رواية: يؤخذ بأول
قوله، وكذا تقبل شهادة الأعمى فيما لا يفتقر إلى الرؤية.
الثالثة: لا تقبل شهادة النساء في الهلال والطلاق، وفي قبولها في الرضاع تردد أشبهه
364

القبول، ولا تقبل في الحدود، وتقبل مع الرجال في الرجم على تفصيل يأتي، وفي الجراح
والقتل بأن يشهد رجل وامرأتان ويجب بشهادتهن الدية لا القود، وفي الديون مع
الرجال، ولو انفردن كامرأتين مع اليمين فالأشبه عدم القبول، ويقبلن منفردات في
العذرة وعيوب النساء الباطنة.
وتقبل شهادة القابلة في ربع ميراث المستهل، وامرأة واحدة في ربع الوصية، وكذا
كل امرأة يثبت شهادتها في الربع حتى يكملن أربعا فتقبل شهادتهن في الوصية أجمع،
ولا ترد شهادة أرباب الصنائع المكروهة كالصياغة ولا الصنائع الدنيئة كالحياكة
والحجامة ولو بلغت الدناءة كالزبال والوقاد، ولا ذوي العاهات كالأجذم والأبرص.
الثاني: فيما يصير به شاهدا
: وضابطه العلم، ومستنده المشاهدة أو السماع. فالمشاهدة للأفعال كالغصب والقتل
والسرقة والرضاع والولادة والزنى واللواط، أما السماع فيثبت به النسب والملك والوقف
والزوجية.
ويصير الشاهد متحملا بالمشاهدة لما يكفي فيه المشاهدة، والسماع لما يكفي فيه
السماع وإن لم يستدعه المشهود عليه، وكذا لو قيل له: لا تشهد، فسمع من القائل ما
يوجب حكما. وكذا لو خبئ فنطق المشهود عليه.
وإذا دعي الشاهد للإقامة وجب إلا مع ضرر غير مستحق ولا يحل الامتناع مع
التمكن، ولو دعي للتحمل فقولان، المروي: الوجوب ووجوبه على الكفاية، ويتعين مع
عدم من يقوم بالتحمل.
ولا يشهد إلا مع المعرفة أو شهادة عدلين بالمعرفة، ويجوز أن تسفر المرأة ليعرفها
الشاهد، ويشهد على الأخرس بالإشارة ولا يقيمها بالإقرار.
مسائل:
الأولى: قيل: يكفي في الشهادة بالملك مشاهدته يتصرف فيه، وبه رواية والأولى
365

الشهادة بالتصرف لأنه دلالة الملك وليس بملك.
الثانية: يجوز الشهادة على ملك لا يعرفه الشاهد إذا عرفه المتبايعان.
الثالثة: لا يجوز إقامة الشهادة إلا مع الذكر ولو رأى خطه، وفي رواية: إن شهد معه
آخر جاز إقامتها، وفي الرواية تردد.
الرابعة: من حضر حسابا وسمع شهادة ولم يستشهد كان بالخيار في الإقامة ما لم
يحس بطلان الحق إن امتنع، وفي الرواية تردد.
ويكره أن يشهد لمخالف إذا خشي أنه لو استدعاه إلى الحاكم يرد شهادته.
الثالث: في الشهادة على الشهادة:
وهي مقبولة في الديون والأموال والحقوق، ولا تقبل في الحدود، ولا يجزئ إلا اثنان
على شاهد الأصل.
وتقبل الشهادة على شهادة النساء في الموضع الذي تقبل فيه شهادتهن على تردد،
وأجلى الألفاظ أن يقول: اشهد على شهادتي أنني أشهد على كذا.
ولا تقبل شهادة الفرع إلا مع تعذر حضور شاهد الأصل لمرض أو غيبة أو موت، ولو
شهد الفرع فأنكر شاهد الأصل فالمروي: العمل بأعدلهما فإن تساويا اطرح الفرع، وفيه
إشكال لأن قبول شهادة الفرع مشروط بعدم شاهد الأصل. ولا تقبل شهادة على شهادة
على شهادة في شئ.
الرابع: في اللواحق:
وفيه مسائل:
الأولى: إذا رجع الشاهدان قبل القضاء لم يحكم، ولو رجعا بعد القضاء لم ينقض
الحكم وضمن الشهود.
وفي النهاية: إن كانت العين قائمة ارتجعت ولم يغرما وإن كانت تالفة ضمن
الشهود.
366

الثانية: إذا ثبت أنهما شاهدا زور نقض الحكم واستعيدت العين مع بقائها، ومع
تلفها أو تعذرها يضمن الشهود.
الثالثة: لو كان المشهود به قتلا أو رجما أو قطعا فاستوفي ثم رجع الشهود، فإن قالوا:
تعمدنا، اقتص منهم أو من بعضهم ويرد البعض ما وجب عليهم ويتم الولي إن بقي
عليه شئ. ولو قالوا: أخطأنا، لزمتهم الدية. ولو قال بعضهم: أخطأنا، لزمه نصيبه من
الدية ولم يمض إقراره على غيره. ولو قال: تعمدت، رد عليه الولي ما يفضل ويقتص منه
إن شاء. وفي النهاية: يرد الباقون من شهود الزنى ثلاثة أرباع الدية ويقتل، و الرواية
صحيحة السند غير أن فيها تسلطا على الأموال المعصومة بقول واحد.
الرابعة: لو شهدا بطلاق امرأة فزوجت ثم رجعا ضمنا المهر وردت إلى الأول بعد
الاعتداد من الثاني، وتحمل هذه الرواية على أنها نكحت بسماع الشهادة لا مع حكم
الحاكم ولو حكم لم يقبل الرجوع.
الخامسة: لو شهد اثنان على رجل بسرقة فقطع ثم قالا: أوهمنا والسارق غيره، أغرما
دية يد الأول ولم يقبلا في الأخير لما يتضمن من عدم الضبط.
السادسة: تجب شهرة شاهد الزور وتعزيره بما يراه الإمام حسما للجرأة.
367

الجامع للشرائع
للشيخ أبي زكريا يحيى بن أحمد بن يحيى بن الحسن
بن سعيد الهذلي
601 - 689 أو 690 ه‍ ق
369

كتاب القضاء
والدعوى وسماع البينة وتعارضها وكيفية تحمل الشهادة:
إذا كان الرجل عاقلا بصيرا كاملا كاتبا عالما بالقضاء دينا ورعا فهو أهل لولاية
القضاء، وقد يجب عليه إذا أمره الإمام، ويحرم على الجاهل وإن كان ثقة وعلى العالم غير
الثقة، فإن عرض الجائر ولاية القضاء على من هو أهله لم يحل له إجابته إليه، فإن خاف
على نفسه أو ماله أجاب ناويا نيابة من إليه ذلك وكذلك الولاية من قبله محرمة، فإن
خاف على نفسه أو ماله نوى نيابة العادل واجتهد الوالي والقاضي لأنفسهما من
الأباطيل، فإن اضطر إليها لخوف على نفس أو مال جاز إلا قتل النفس المحترمة فإنه
لا تقية فيه.
فإن تنازع المؤمنون حال انقباض يد الإمام ع فالحاكم من روى حديثهم
ع وعرف أحكامهم والراد عليه كالراد عليهم، فإن اختار كل واحد من
الخصمين حكما فاختلفا فأعدلهما وأورعهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث ولا يلتفت
إلى ما حكم به الآخر.
وينبغي أن يلبس أطهر ثيابه وأنظفها ويخرج فيجلس في أوسط بلده مستدبر القبلة
بعد صلاة ركعتين ويتخذ كاتبا صالحا عفيفا، فإن اجتمع عنده خصوم أمر كاتبه
بكتابة أسمائهم فيقرع عليها ليسمع ممن خرجت قرعته، فإن جاء اثنان فتداعيا دفعة
سمع ممن على يمين خصمه فإن بدأ أحدهما بالدعوى فدمه، ولا يقضي وهو غضبان ولا
جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بغير الحكم.
371

وليكن عليه هدي وسكينة ووقار، والتسوية بين الخصمين في المجلس إلا في المسلم
والكافر، ولا يبدأ أحدهما بكلام إلا برد السلام، ولا يصف أحد الخصمين دون
خصمه، ولا يقبل هديته ولا يجب دعوته، ولا بأس بحضور الجنازة وعيادة المريض، ولا
يكن شافعا لأحدهما إلى الآخر، ويجوز أن يشير عليهما بالصلح، ولا يسمع الدعوى إلا
محررة إلا في الوصية، وليول وليا للطفل والسفيه يخاصم عنهما وليهما، ولا يلقى خصما
حجة، ولا يرفع عليه صوته دون خصمه.
وإذا سمع دعواه سأل المدعى عليه، فإن اعترف ألزمه الأداء إن عرفه موسرا أو كان
الأصل مالا قبضه، فإن لم يؤد وطلب الخصم حبسه حبسه، فإن علمه معسرا لم يحبسه
وأمره بتأخر حق غريمه، وإن جهل حاله حبسه حتى يتبين أمره، وإن ارتاب الحاكم
بعقله أو اختياره لم يثبت الحكم عليه حتى يبينه، وإن سأله الخصم إثبات الحجة عليه
لم يفعل إلا أن يكون عارفا به وبنسبه أو يشهد شاهدا عدل بذلك وقيل: إذا لم يحصل
ذلك حلاه في كتابه.
فإن أنكر قال لخصمه: أ لك بينة؟ فإن أحضرها فنظر فيها، وإن قال: هي غائبة،
أنظره ليأتي بها، فإن طلب تكفيل الخصم خوفا من هربه كفله وضرب له مدة، فإن لم
يأت فيها خرج الكفيل من كفالته.
فإن قال: لا بينة لي، وطلب اليمين أحلفه له فإن نكل حكم عليه بالدعوى.
وإن ردها على المدعي وحلف أثبت له حقه وإن نكل فلا شئ له، فلو رضي المدعي
باليمين ثم أقام البينة بعدها لم يحكم له بها.
وإن أقر الحالف ألزم بلا خلاف، وعند بعض أصحابنا يستمع البينة ما لم يبرئه،
وإن لم يجب المدعى عليه بخرس توصل إلى إفهامه الدعوى وحكم عليه بإيمائه وإشارته
من إقرار أو إنكار وأحضر من يعرف ذلك منه ويحلفه كذلك، وإن كتب نسخة اليمين في
لوح وغسله وأمره بشربه فامتنع فهو نأكل وإن شربه أسقط عنه الدعوى.
وإن لم يجب وهو صحيح حبس حتى يجيب، وإن أقر بشئ ولم يبينه حبس حتى
يبين، ولو شهد عليه شاهدان بالإقرار بشئ ولم يبينه ألزمه بيانه، ولو شهدت البينة عليه
372

بمجهول لم يحكم بها، ولو بان للحاكم أن المقر عبد أو محجور عليه أبطل إقراره، وإن سأل
الغريم الإنظار لم يلزم صاحب الحق إنظاره.
وإن حضر عنده شخصان وصمتا جاز أن يقول: إن كنتما حضرتما بشئ فاذكراه.
وينبغي أن لا يحكم بين الخصمين إلا في مجلس حكم، وإن كان الخصم امرأة برزة
أحضرها وإن كانت مخدرة أو الرجل مريضا أنفذ إليهما من ينظر بينهما وبين خصمهما
وأحلفهما إن توجهت اليمين عليهما، فإن ثبت عليهما الحق ولم يؤدياه ألزمهما الخروج
منه. فكل من ثبت عليه حق فإن لم يفعلوا فله قهرهم على بيع متاعهم وأن يبيع عليهم،
وله الحبس والتأديب.
كيفية الاستحلاف:
واليمين إنما يكون بالله وأسمائه الخاصة كما قلنا في باب الأيمان، وله أن يحلف
أهل الكتاب بالتوراة والإنجيل وموسى وعيسى ولا يحلفهم بما هو كفر، ويستحب له
وعظ المنكر، وأن يذكر في اليمين: والله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب الضار النافع
المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية، ويجب تأكيدها بالعدد في
القسامة واللعان.
ولا يمين في حد، ويحلف في السرقة على المال دون القطع واليمين على إثبات فعل
نفسه ونفيه، وإثبات فعل غيره على القطع ولا على نفي فعل غيره على نفي العلم،
ويستحب أن يتحرى اليمين بعد العصر وعند المنبر والقبلة وفي المسجد ولا يحلف عند قبر
رسول الله ص على أقل من ربع دينار، وإن قال الحاكم: قل والله ما له
على ما ادعاه، كفاه.
وإذا أحضر المدعي شاهدين استحب للحاكم التفريق بينهما بحيث لا يسمع
أحدهما كلام صاحبه وكتب كاتبه ما يشهدان به، وكذا في جميع الحقوق والحدود
والقصاص وغير ذلك وفي الحدود والقصاص آكد، وإن لم يفعل جاز ثم يقابل بين
الشهادات فإن اتفقت في المعنى قبلها وإن اختلفت أو اتفقت وخالفت الدعوى ردها،
373

فإن شهد أحدهما بألف والآخر بألفين حكم بألف فإن حلف مع الشاهدين حكم
بألفين، وإن شهدا عليه بألف وشهد شاهدان أنه قضاها حكم بالقضاء، وإن شهد
أحدهما بالغصب والآخر بالإقرار به لم تكمل وتمم بيمين.
وإذا ادعى على غيره دينا فأقر به فادعى الإيفاء أو الإبراء فعليه البينة، فإن تعذرت
فعلى المقر له اليمين فإن نكل بطلت دعواه، فإن ردها على المقر وحلف سقط عنه وإن
نكل لزمه وليس له ردها، وإن ادعى عليه دينا، فقال: قضيته، أو قضيتك منه كذا،
فقد أقر بكله. وإن قال: قضيتك كذا، فقد أقر بما ادعى قضاه فقط. فإن ادعى عليه
دينا وأقام بينة عليه بإقراره به ودينا آخر من جنسه وأقام بينة بإقراره له به بتأريخين
والسبب واحد أو مطلقا وادعى تغايرهما احتاج إلى بينة، فإن تعذرت حلف المدعى عليه
وروي: أن المدعي يحلف على المختلف فيه فإن أبي فلا حق له، فإن اختلف السبب
ألزم بهما معا.
وإذا كان كيس بحضرة جماعة فادعاه أحدهم، وقال الباقون: ليس لنا، فهو له.
وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت بعد الطلاق أو الموت أو قبلهما والبيت للرجل أو
المرأة ولا بينة، فللمرأة ما يصلح للنساء وما يصلح للرجال والنساء مع يمينها، وللرجل ما
يصلح للرجال مع يمينه والميزان من متاع الرجل. وإذا غرق متاع انسان في بحر فأخرج الله
بعضه فهو لصاحبه وما أخرجه الانسان فهو له لأن صاحبه تركه آيسا منه فهو كالشئ
المباح.
وإذا شهد شاهدان أو شاهد والوصي على الميت بدين حلف المدعي إن الحق باق إلى
الآن في ذمة الميت، فإن لم يحلف فلا حق له وأوجب بعض أصحابنا مع البينة اليمين
لمن لا يعبر عن نفسه كالصبي والغائب ويجوز الحكم على الغائب، وحد الغيبة ما يقصر
في مثله من غير وكيل حاضر، ويحلف خصمه مع البينة، ويباع ماله ويقضى دينه وينفق
على من يجب النفقة عليه ويؤخذ كفيل ثقة مليئ من مدعي الدين فإذا قدم الغائب
فأقام حجة تبطل دعواه رجع على الكفيل.
فإن لم يكن له بحضرة الحاكم مال فسأله المحكوم له كتابا إلى حاكم آخر لينفذ
374

حكمه أجابه، فإذا ثبت مضمون الكتاب عند الحاكم الآخر بشاهدين أحضر المحكوم
عليه فإن أقر ألزمه، وإن أنكر حكم عليه، وإن ادعى الوفاء أو جرح الشهود طالبه بالبينة
وأجله لإحضارها ثلاثا وإن التمس يمين المحكوم له على أنه يستحق ذلك أو لم يستوفه،
قال له: فقد حلف.
وإن ادعى أنه غير المكتوب فيه ولم يسمه لم يقبل منه وألزم، وإن سماه حيا
أحضر، فإن أقر ألزم، وإن أنكر فإن كان للمحكوم له بينة تشهد على عين المحكوم عليه
أقامها وإلا كتب إلى الكاتب ليميز إن أمكنه ووقف الحكم، وإن سمى ميتا ولم
يعاصره المحكوم له ألزم الحي، وإن عاصر وتاريخ الشهادة عليه بعد موته فكذلك وإن
كان في حياته وقف الحكم وقيل: يلزم الحي. فإن سأل المحكوم له الحاكم الثاني أن
يكتب له كتابا إلى حاكم آخر نقل الشهادة دون الحكم.
وينبغي للحاكم أن يسمع شهادة الشاهد بحضرة المشهود عليه إذا كان حاضرا، فإن
شهد في غيبته ثم حضر عرفه إياه ومكنه من جرحه وأمهله ثلاثة أيام وتكفل به إن طلب
ذلك خصمه، وإن قال: لا جرح لي، لم يحكم عليه حتى يطالبه بذلك صاحب الحق.
ولا يلزم من عليه دين مؤجل إقامة كفيل به، ولا يستحلف الحاكم خصما إلا بعد طلب
المدعي، وإذا كان لجماعة دعوى حقوق من جنس واحد على واحد فوكلوا شخصا فيها
جازت يمين واحدة للكل وجاز لكل واحد منهم يمين. وللحاكم الخيار إن شاء حكم بين
أهل الذمة وإن شاء لم يحكم.
وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه الله: أجمع أصحابنا على أنه لا يحكم بكتاب
قاض إلى قاض لا ببينة ولا بلا بينة في حد ولا في غيره لمسافة تقصير.
وروى عبد الرحمان بن سيابة عن أبي عبد الله ع أنه قال: على الإمام أن
يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ويوم العيد إلى العيد ويرسل معهم فإذا
قضوا الصلاة والعيد ردهم إلى السجن. وروي: أن الرزق على القضاء من بيت المال
سحت، ولا يحل له أن يأخذ أجرا من الخصمين، فإذا أشكل عليه القضاء لم يجز أن
يحكم بالتقليد وأنظر الخصمين حتى ينظر فإن لم يعلم قال: لا أدري فإن شئتما
375

فاصطلحا وإلا ارتفعا إلى الإمام أو قاض آخر. وإذا قضى بقضاء ثم بان له فساده نقضه،
وأجمع أصحابنا على بطلان القول بالقياس والاستحسان والاجتهاد، وينبغي أن يجعل
وقتا للمذاكرة بالعلم ووقتا للنظر بين الخصوم.
ويجب أن يكون مجتهدا عالما بفقه الكتاب والسنة ولسان العرب ومسائل الاجماع لأن
لا يقضي بما يخالفه والخلاف ليعلم أنه موافق لأحدهم. وإنما يعرف فقه الكتاب إذا
عرف الناسخ من المنسوخ، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر،
والواجب، والندب، والمباح، وفي السنة مثل ذلك. وإذا حضره خصمان لا يعرف
لسانهما ترجم له عدلان وإذا حكم بشهادة شاهدين ثم بان كونهما فاسقين حال
الشهادة نقض حكمه.
وإذا ولى الحكم من ليس بأهله لم يجز التحاكم إليه ووجب التحاكم إلى شخص
من أهل الحق على ما وصفناه، فإن لم يحضر في بلدهما رحلا إليه أو اصطلحا، والحاكم
يحكم بعلمه في عدالة الشاهد وجرحه بلا خلاف وفي حقوق الناس وحقوق الله في
الأظهر، ولا يكون حاكما لمن لا يقبل له شهادة، ولا على من لا تقبل شهادته عليه ولا
يتخذ الإمام والقاضي كاتبا فاسقا ولا كافرا.
وإذا شهد عند القاضي شاهدان لا يعرفهما سأل عنهما مجاوريهما ومخالطيهما، فإن
شهد شاهدان بالجرح أو العدالة عمل بذلك ولا يقبل الجرح إلا مفسرا بخلاف العدالة،
وإن شهد شاهدان بالجرح ومثلهما بالعدالة قدم الجرح، وإذا تلعثم الشاهد لم يسدده القاضي.
ولا يجوز الترافع إلا إلى الإمام أو نائبه ومن أذن له وللنائب أن يستنيب إن كان فيما
لا يمكن توليه بنفسه وإن كان بخلافه لم يجز إلا بإذن الإمام، وإذا مات الإمام انعزل
النائبون عنه، وإن اختار الخصمان رجلا يحكم بينهما وله شروط القضاء لزمهما حكمه،
وإن قال الخصم: إن شهد على فلان أجزت شهادته، فشهد عليه لم يلزمه إذا لم يكن
مقبول الشهادة. وإذا أخبر الحاكم بحكمه عليه أو أنه حكم عليه بإقراره أو بشهادة
شاهدين عليه حال ولايته قبل قوله، وإن عزل فقال: حكمت عليه أو حكم عليه
376

حاكم، لم يقبل قوله ولم يكن شاهدا. فإن قال: أقر بكذا، كان شاهدا. والحاكم
كالعامي في غير موضع ولايته.
وإذا كتب الحاكم كتابا بالحكم أشهد شاهدين على أنه حكم بمضمونه بعد قراءته
عليهما، فإن أشهدهما أنه حكم بمضمونه ولم يقرئه عليهما لم يصح وكذلك إشهاد
الشخص على نفسه في الأملاك والوصايا على كتاب مدرج لا يصح إجماعا.
وإذا نصب قاسما جاز أن يعطيه رزقا من بيت المال وإن لم يكن واستأجر شخصا
قاسما بينهما فأجرته عليهما على الأنصباء إلا أن يستأجره كل واحد منهما بأجرة،
ويجزئ قاسم واحد إلا أن يكون فيها تقويم ورد فلا بد من قاسمين.
وإذا عدلت السهام وأقرع عليها لزمت بالقرعة، فإن كان فيها رد لم يلزم بالقرعة بل
بتراضيهما بعدها، وقيل: يلزم بها كالأولى. وإذا بان بعد القسمة أن في الملك حصة
لغيرهما بطلت القسمة، وإذا اقتسما ولم يخرجا مجازا أو شربا لإحدى الحصتين وكان
هناك درب نافذ أو شرب عام سلك فيه وسقى منه وإن لم يكن فسخت القسمة لأنها
قسمة ضرر.
وإذا لم ينقص القيمة ولا الانتفاع بالقسمة أو نقصت القيمة فقط قسم وإن نقصا
معا أو نقص الانتفاع فقط من حصة أيهما كان لم يقسم، وإذا ادعى أحد المتقاسمين
أنه غلط عليه ولا بينة له حلف خصمه، وإن كانت قسمة تراض كأن رضي أحدهما
بموضع والآخر بموضع واقتسما بأنفسهما لم يلتفت إلى دعواه مبطلا كان أو محقا لرضاه.
كيفية الحكم وأحكام الدعوى:
والمدعي هو الذي إذا ترك ترك والمدعى عليه بالعكس، ويستحلف المدعى عليه في
كل دعوى من مال أو نكاح أو عتق أو ولاء إلا الحدود.
فإذا ادعى شخص ملكا في يد غيره فأنكره فإن أقام بينة حكم له، وإن أقر أن له
بينة ولم يختر إحضارها واختار يمين خصمه حلف له دينا أو عينا، فإن أقام البينة فطلب
المدعى عليه معها يمينه لم يلزمه، فإن أقام كل واحد منهما بينة بالمال فبعض أصحابنا
377

يحكم للخارج وبعضهم للداخل وبعضهم فقال: إن شهدت للداخل بسبب الملك
كالاستيلاد والإرث فهو أولى وإلا فالخارج.
فإن شهدت لهما جميعا بسبب أو سببين أو لم يشهدا بسبب فالبينة للخارج، فإن
شهدت البينة للخارج باليد لم ينزع من الداخل لأن يده عليها ضرورية مشاهدة، فإن
تداعياه وهو خارج عن أيديهما فذو البينة أولى، فإن أقاما بينتين حكم لأعدلهما، فإن
تساويا حكم لأكثرهما شهودا، فإن اتفقتا أقرع بينهما فمن خرجت قرعته حلف وقضي
له، فإن نكل حلف الآخر وقضي له، فإن نكل قسم بينهما.
وإن فقد البينة وأقر من هو في يده لأحدهما سلم إليه ويختصم هو والآخر، فإن أقر به
لغيرهما سلم إليه وخاصماه، وإن قال: هي لهذا، ثم قال: بل لهذا، بعد تسليمه إلى
الأول غرم له قيمته. وإن قال ذلك قبل تسليمه إليه سلم إليه وفي غرمه للآخر قولان،
وإن قال: لا أدري لمن هي، فادعيا عليه العلم حلف أنه لا يعلم. فإن قال: هي لهذا،
وسلمت إليه، فقال له الآخر: إنك تعلم أنها لي، فهل يحلف له؟ يبني على التغريم. فإن
قيل: يغرم، لو صدقه حلف له. ومن قال: لا يغرم، قال: لا يحلف. وإن تداعيا المال وهو
في أيديهما فقال كل منهما: هو لي، فإن كان ثمة بينة حكم بها، وإن أقاما بينتين ولا
ترجيح قسم بينهما نصفين، فإن تداعاها كذلك ثلاثة فعلى ثلاثة أو أربعة فعلى أربعة
وهكذا.
وإن لم يكن لهما بينة حلف كل واحد منهما بدعوى صاحبه وإذا تحالفا قسم
كذلك، وإن ادعى أحدهما الكل والآخر النصف فلمدعي الكل النصف لأن الآخر لا
يدعيه والنصف الآخر بينهما نصفين فيقسم على أربعة، فإن ادعى شخص الكل والآخر
الربع فمن ثمانية لمدعي الربع سهم منها، وإن ادعى واحد الكل وآخر الثلث فمن ستة
لمدعي الثلث سهم منهم.
فإن ادعى واحد الكل وآخر الثلثين وآخر النصف وآخر الثلث فمن ستة و ثلاثين
لمدعي الكل عشرون ولمدعي الثلثين ثمانية ولمدعي النصف خمسة ولمدعي الثلث ثلاثة،
وذلك لأن الثلث لا ينازع مدعي الكل فيه أحد، والسدس الذي هو بين النصف والثلثين
378

ادعاه مدعي الكل والثلثين يقسم بينهما نصفين، والسدس الذي هو بين النصف والثلث
ادعاه مدعي الكل والنصف والثلثين يقسم أثلاثا بينهم، وبقي ثلث الأصل ادعاه
الأربعة يقسم بينهم أرباعا وعلى هذا، ويعول في موضع العول كالمسائل الأول.
وقضى أمير المؤمنين ع في شخصين أخرج أحدهما خمسة أرغفة والآخر ثلاثة
وجلس معهما ثالث فأكلوه جميعا فأصابهما ثمانية دراهم فاختلفا في قسمتها: بأن قسم
الدراهم على ثلث الأرغفة فجعل لكل ثلث رغيف منها درهما، فحكم لصاحب الثلاثة
بدرهم والباقي لصاحب الخمسة بعد أن قال لهما: اصطلحا، فأبيا إلا الحكم لأنه قال
لهما: أ ليس كل واحد قد أكل مثل الآخر، فقالا: بلى، فقال: قد أكل كل واحد ثلاثة
أرغفة إلا ثلث رغيف.
وقضى في جاريتين ولدت الواحدة ابنا والأخرى بنتا فتداعياه: أن يوزن لبنهما
فأيهما كان أثقل فالابن لها.
وقضى في امرأة تزوجها شيخ فواقعها ومات على بطنها فولدت ابنا فقذفها إخوته
بالفجور وأنكره إخوته فأمر الوالي برجمها، فذكرت قصتها له ع فأمر بردها، فلما
كان الغد جاء بصبيان أتراب ومعهم ابنها وقال: العبوا، فلما ألهاهم اللعب صاح بهم
فقاموا وقام الصبي من بينهم متوكئا على راحتيه فورثه من الشيخ وحد إخوته حد
القذف، وقال: عرفت هذا من تكاة الصبي على راحتيه.
وروي: أنه قضى في شخصين اختصما في خص بين ملكيهما كل منهما يدعيه: لمن
إليه معاقد القمط وعلى هذا إذا تداعيا حائطا بين ملكيهما فإن كان متصلا ببناء أحدهما
اتصال البنيان أو كان لأحدهما فيه تصرف كالسقف والجذوع فهو له مع يمينه إذا لم
يكن لغريمه بينة.
فإن تداعيا فرسا أحدهما راكبها والآخر آخذ بلجامها كانت بينهما، وإن كان لكل
واحد من الجارين على الحائط سقف أو جذع أو هو متصل ببناء كل منهما ولا بينة فهو
بينهما، فإن تداعيا سقف غرفة والسفل لأحدهما والعلو لآخر ولا بينة فالسقف لصاحب
الغرفة، فإن تداعيا عرصة الخان وعلوه لأحدهما وسفله للآخر والدرجة للعلو في صدره فهي
379

بينهما، فإن كانت الدرجة في الدهليز فالعرصة لصاحب السفل ومن الباب إلى الدرجة
بينهما، فإن اختلفا في الدرجة فهي لصاحب العلو.
وترجح شهادة شاهدين على شهادة شاهد وإن حلف معه وشهادة ثلاث نسوة ورجل
على شاهدين، وتساوى شهادة امرأتين مع اليمين شهادة رجل مع اليمين وشهادة شاهد
وامرأتين شهادة شاهدين.
وقيل: يرجح تقديم الملك، وقيل: لا يرجح، ويكون كالشهادة بالملك المطلق.
وإذا شهد شاهدان على امرأة أنها زوجة زيد وآخران أنها زوجة عمرو حكم
لأعدلهما شهودا، فإن تساويا أقرع بينهما وكانت زوجة من خرجت قرعته. فإذا كانت
جارية مع رجل وامرأة فادعى الرجل أنها ملكه وادعت المرأة أنها بنتها وهي حرة
فأنكرتهما، فإن أقام بينة أو أقرت له الجارية وهي بالغ حكم له بها، وإن لم يقم بينة
وهي صغيرة أو بالغة لا تقر نزعت من يده، فإن أقامت المرأة بينة سلمت إليها وإلا
تركت، وإذا تعارضت البينتان على وجه لا يمكن الجمع بينهما أقرع بينهما، وروي عن
أبي الحسن موسى بن جعفر ع: كل مجهول ففيه القرعة.
ولا ينبغي للشاهد أن يشهد حتى يسأله الحاكم ولا يحل له كتمانها بعد سؤاله، فإن
دعي ليشهد وجب عليه ذلك إلا أن يكون بشهادته مضرا بشئ من أمر الدين أو بأحد من
المسلمين ضررا قبيحا، ولا يشهد على من لا يعرفه حتى يشهد عنده عدلان بنسبه ويقيم
الشهادة كذلك، وإن شهد على امرأة فكذلك وإن لم تسفر عن وجهها وينبغي أن تتنقب
وتظهر للشهود.
ويشهد على إقرار الأخرس وإنكاره بما يعلم من إشارته وإيمائه ويقيم الشهادة كذلك،
ويجوز أن يشهد على مبيع لا يعرفه إذا عرفه البائع والمشتري، ويكره أن يشهد لمخالف
خوفا من إحضاره عند من لا يقبل شهادته والمؤمن لا يذل نفسه، وإذا دعي إلى إقامة
شهادة وجب عليه ذلك إلا أن يعلم أن في ذلك مفسدة كأن يحبس المشهود عليه وهو
معسر.
ولا يجوز أن يشهد على ما لا يعلمه، وإن وجد خطه بشهادة وعرفه ولم يذكر الشهادة
380

لم يحل له أن يشهد وإن شهد معه شاهد آخر ثقة لأنه لا يجوز الشهادة على الظن. وإذا
علم شيئا ولم يشهد عليه فله الخيار في إقامة الشهادة به إلا أن لا يكون لصاحب الحق
شاهد غيره فيتعين عليه إقامتها لأن لا يبطل حقه.
وروى حفص بن غياث عن الصادق ع جواز الشهادة لصاحب اليد
المتصرفة بالملك، قال: ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك:
هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز لك أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله، ثم قال: لو
لم يجز هذا لما قامت للمسلمين سوق.
ويجوز أن نأخذ في أحكام من خالفنا كما أخذوا منا في أحكامهم على سبيل التقية
والمداراة، وعن علي بن الحسين ع: إذا كنتم في أئمة الجور فاقضوا إلى
أحكامهم ولا تشهروا أنفسكم فتقتلوا، وإن تعاملتم بأحكامنا كان خيرا لكم.
وإذا كانت الشهادة على فعل كالقتل والسرقة والزنى حقق ذلك مشاهدة وأقامها على
ذلك، وإن كانت على عقد كالبيع والنكاح احتاج إلى السماع والمشاهدة ومعرفتهما
بعينهما وشهد عليهما إذا حضرا فإن غابا لم يشهد إلا بالعلم بالعين والاسم والنسب
وذكر الحال والسماع.
والاستفاضة تتعلق بسبعة: النسب والملك المطلق والموت والعتق والوقف والنكاح
والولاء. ويشهد بذلك من غير أن ينسبه إلى أحد بشرط أن يسمعه من عدلين فصاعدا
وشياعته واستفاضته في الناس وإن لم يبلغ التواتر، فإن لم يسمعه إلا من شاهدين اعتبر
فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة، وإن شهد على شهادة الغير ثم حضر الأصل قبل
الحكم بالشهادة لم يحكم لحضور الأصل، وإن حضر بعد الحكم وصدقه فلا بأس وإن
كذبه قيل: لا ينقض حكمه، وقيل: إن تفاوتا في العدالة أخذ بشهادة أعدلهما فإن
تساويا نقض الحكم.
وروى الحسين بن سعيد عن القاسم بن أبان عن عبد الرحمن قال: سألت أبا عبد
الله ع عن رجل شهد على شهادة آخر، فقال: لم أشهده، فقال: يجوز شهادة
أعدلهما والله تعالى أعلم.
381

كتاب الشهادات
العدل الذي يقبل شهادته هو: البالغ العاقل المسلم العفيف المصلي الفرض الساتر
نفسه المواظب على الحضور في جماعة المسلمين إلا لعذر، المجتنب الكبائر من الربا والزنى
وعقوق الوالدين وقذف المحصنة والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم ظلما وقتل النفس
المحرمة وشرب المسكر إلى غير ذلك غير المصر على الصغائر، الواصف للتوحيد والعدل
والنبوة والإمامة فإن وقعت منه النادرة ندم عليها واستغفر منها، والمرأة الصالحة مع طاعة
زوجها إن كانت زوجة التاركة للبذاء والتبرج العفيفة الصائنة، وإن كان عبدا أطاع
مع ذلك سيده فيما لا معصية لله فيه.
من لا تقبل شهادته:
ولا تقبل شهادة الكفار على المسلمين وتقبل شهادة المسلمين عليهم، وأجازوا في
الوصية خاصة شهادة أهل الذمة للضرورة، وروى عبيد الله بن علي الحلبي قال: سألت
أبا عبد الله ع هل تجوز شهادة أهل ملة على غير أهل ملتهم؟ قال: نعم إن لم
يوجد من أهل ملتهم جازت شهادة غيرهم لأنه لا يصلح ذهاب حق أحد.
ولا تقبل شهادة أهل البدع من هذه الأمة وإن تدينوا بالبدعة، ولا تقبل شهادة
الحاسد والخائن والفاسق والماجن والفحاش والسائل بكفه من سوق أو درب والعراف
والقائف والكاهن والساحر والحاكم بالنجوم والمشعبد وصاحب القمار وكسبهم محرم
383

كأجر البغي، ولا شهادة ولد الزنى وروي: إن عرفت منه عدالة قبل في الشئ الدون،
ولا شهادة الأجير لمستأجره والخصم على خصمه وكل جار بشهادته إلى نفسه نفعا ودافع
عنها ضررا، ولا تقبل شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريكه فيه، ولا شهادة الوصي
للأيتام فيما هو وصي فيه، ولا شهادة الأب والجد لولده الطفل والمجنون، ولا شهادة
الوكيل لموكله فيما وكله فيه فإن عزله عن الوكالة فشهد فيما كان خاصم فيه لم تقبل،
وشهادة الغريم بمال المفلس المحجور عليه، والسيد لعبده المأذون له في التجارة، ولا تقبل
شهادة المتهم على من يتهم عليه، ولا تابع لمتبوع.
ويقبل شهادة ذوي النسب بعضهم لبعض وعليهم إلا شهادة الولد على والده فإنها لا
تقبل حيا وتقبل شهادته عليه بعد موته، ويقبل شهادة أحد الزوجين للآخر وعليه والوصي
على من هو وصيه والشريك على شريكه والأجير على مستأجرة وله بعد فراقه والضيف
والخصي ومن قطعت يده ورجله بعد التوبة.
ولا تقبل شهادة الصبيان إلا إذا بلغوا عشر سنين فصاعدا وميزوا في الشجاج والجراح
خاصة ويؤخذ بأول كلامهم، وتقبل شهادة الأصم ويؤخذ بأول قوله وشهادة الأعمى
فيما لا يحتاج إلى الرؤية كبيع وإجارة ونسب وشبهها ويقبل فيما ينظر إذا كان له حالة
إبصار ونسبه إليها، ولا بأس بشهادة العبد العدل لعموم الآية وقيل: تقبل على سيده،
وقيل: تقبل إلا له، وعلى هذا يقبل شهادة من عتق بعضه للسيد أو عليه بقدر ما عتق منه.
ولا تقبل شهادة اللاعب بالشطرنج والنرد والقمار والخاتم والأربعة عشر، وإذا
قذف زوجته وحقق أو لاعن لم يفسق وإن لم يحصلا فسق وإن قذف أجنبية وحقق وإلا
فسق، ولا تقبل شهادة سابق الحاج فإنه أتعب نفسه وراحلته وأفنى زاده واستخف
بصلاته، ولا تقبل شهادة القاذف حتى يتوب وحده إن كان كاذبا أن يندم ويكذب
نفسه وإن كان صادقا أن يقول: القذف باطل وحرام ولا أعود إليه، ويصلح العمل وهو
أن يحصل منه فعل صالح قل أو كثر، ولا يعتبر في قبول شهادة غيره من التائبين ذلك.
وإن اقتطع مال غيره فتوبته رده على صاحبه فإن كان تالفا فمثله أو قيمته فإن كان
معسرا نوى الرد حين الجدة، فإن كان قتلا أو جرحا أو ضربا فإن يسلم نفسه إلى أولياء
384

الدم والمجروح أو المضروب ويندم ويعزم على أن لا يعود، وإن كان قذفا استحل منه،
فإن اغتابه ولم يعلم لم يعلمه واستغفر له.
وإن شهد دون الأربعة بالزنى فحدوا فتوبتهم أن يقولوا: ندمنا على ما كان ولا نعود
إلى ما يتهم فيه فتقبل شهادتهم، ولا يحتاج إلى إصلاح عمل. ولو قال القاضي لشخص:
تب أقبل شهادتك، فظهرت منه التوبة قبلها. والكافر والصبي والفاسق والعبد إذا شهدوا
بشهادة ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعدل الفاسق وعتق العبد قبلت شهادتهم وإن
أقاموا الشهادة فردت ثم تغير حالهم فأعادوها قبلت، وقيل في الفاسق إذا عدل: لا
تقبل.
ولا تقبل شهادة من يبتغي أجرا على الأذان والصلاة بالناس ولا من يرشي في الحكم
ولا من لا مروة له كأكل الطعام في سوق ومن لا يبالي ما قال ولا ما قيل له ولا شهادة
ذي عداوة على عدوه وإن كانت العداوة دينية قبلت كشهادة المسلم على الكافر.
وروى علاء بن سيابة قال: سألت أبا عبد الله ع عن شهادة من يلعب
بالحمام، قال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق، قلت: فإن من قبلنا يقولون: قال عمر:
هو الشيطان، فقال: سبحان الله أما علمت أن رسول الله ص قال: إن
الملائكة لتنفر عند الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل فإنها
تحضره.
وإذا قطع بقوم الطريق فأخذ اللصوص فشهد بعض المسلوبين على اللصوص لم تقبل
شهادته لأنه خصم، ويجوز شهادة ذوي العاهات والآفات والفقراء الصالحين الساترين
لأحوالهم إذا عدلوا وشهادة ذوي الصنائع الدنية كالحجام والحارس والنساج ومعلم
الصبيان والحمامي إذا عدلوا، وتوبة شاهد الزور أن يغرم ما ذهب بشهادته، وإذا ردت
شهادة الشاهد في بعض ما شهد به لا للتهمة كشهادته على والده وأجنبي قبلت في الآخر
وإن ردت فيه للتهمة كشهادتهما أنه قذف أجنبية وأمها بعد موتها ردت فيهما، وقيل:
فيها يبعض.
385

باب أعداد البينات والشهادة على الشهادة:
تعتبر شهادة أربعة رجال في الزنى واللواط والسحق وشهادة رجلين وأربع نسوة في الزنى
ويوجب الجلد، وثلاثة رجال وامرأتين فيه وتوجب الرجم، وشهادة رجلين في وطء
البهيمة والميتة والاستمناء باليد والقذف والتعريض والسرقة والشراب والطلاق والعتاق
والنكاح والنسب والوكالة والوصية له وإليه ورؤية الهلال والأموال والجنايات والعقود
وحكم الحاكم والرضاع وغير ذلك.
وشهادة شاهد وامرأتين في الأموال والديون وما كان وصلة إليها كعقد البيع والصلح
وإسقاط مال كالإبراء وفسخ البيع وقتل الحر عبدا والمسلم كافرا وقتل الخطأ وشبهه
وجراحة عمد توجب مالا كالجائفة والآمة وقطع اليد من نصف الساعد والوقف إذا قيل:
ينتقل إلى الموقوف عليه. وشاهد ويمين وامرأتين ويمين في ذلك، وشاهد وامرأتين في قتل
العمد وجناية تجب بها الدية.
ولا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود سوى ما ذكرنا ولا في رؤية الهلال
والنكاح والطلاق، وتقبل شهادة أربع نسوة في الولادة والعذرة والحيض والنفاس وعيوب
النساء تحت الثياب كالبرص والرتق، وتقبل شهادة أربع نسوة في الدين وفي الوصية بمال
واستهلال الصبي، وثلاث في ثلاثة أرباع الوصية وثلاثة أرباع ميراث المستهل، واثنتين
في النصف، وواحدة في الربع.
وسأل عبد الله بن حكم أبا عبد الله ع عن امرأة شهدت على رجل أنه دفع
صبيا في بئر فمات، قال: على الرجل ربع دية الصبي بشهادة المرأة. وتعتبر شهادة
خمسين في هلال شهر رمضان مع فقد العلة على الرواية، والقسامة خمسون رجلا يقسمون
أن فلانا قتل فلانا في العمد، وخمسة وعشرون في الخطأ، وستة رجال في عضو أو جرح
بلغ الدية وفي دونها بحسابه منها، ويحصل اللوث في الجنايات بشهادة واحد.
فإن شهد شاهد واحد بسرقة حلف معه المدعي ووجب المال دون القطع، والرضاع
لا يثبت إلا بشاهدين عدلين، وقال بعض أصحابنا: بأربع نسوة، وقال بعضهم:
بواحدة. ولا يثبت الولايات كالوصية إليه والوكالة والنكاح والوقف عند من قال: ينتقل
386

إلى الله بدون الشاهدين. وكذا العتق والتدبير والطلاق والرجعة.
وليس في الشرع عقد ولا إيقاع يفتقر صحته إلى الشهادة سوى الطلاق والخلع والتخيير
والظهار ويعتبر فيها عدالتهما حال التحمل والأداء، وإذا أريد إثبات غيرها عند الحاكم
اعتبر العدالة حال الأداء.
الشهادة على الشهادة:
ولا تصح الشهادة على الشهادة في الحدود وتصح في غيرها كالأملاك والديون والعقود
ما لم يتجاوز درجة واحدة ولم يكن المتحمل امرأة لأنه لا تجوز شهادة على شهادة على
شهادة ولا شهادة امرأة على شهادة، وإنما تجوز بأحد ثلاثة أشياء: الأول: قوله: اشهد
على شهادتي أو عن شهادتي بكذا، والثاني: أن يسمعه يشهد عند الحاكم، والثالث: أن
يشهد به ويعزوه إلى سببه كالبيع والنكاح وشبهه، ويؤديها الفرع على صفة ما تحملها.
ويشهد على شهادة كل شاهد اثنان ويجوز أن يشهدا على شهادة الاثنين، ولا يسمع
شهادة الفرع مع حضور شاهد الأصل، فإن تعذر لموته أو مرضه أو غيبته جاز وأن يكون
الأصل عدلا حال شهادة الفرع، فإن كان عدلا في تلك الحال وشهد على شهادته ثم فسق
قبل الحكم بشهادة الفرع لم يحكم بها، وإن تغير حاله بغير الفسق حكم، وإن تغير
بفسق بعد الحكم بشهادة الفرع لم ينقض حكمه.
فإن شهدا بشهادة وعدلا المشهود على شهادته وسمياه ثبت عدالته بشهادتهما، وإن
عدلاه ولم يسمياه لم تصح، وإن سمياه ولم يعدلاه بحث الحاكم عن حاله فإن ثبتت
عدالته حكم وإلا توقف.
باب الرجوع عن الشهادة:
إذا رجع الشهود في الحدود والقصاص قبل الحكم بشهادتهم لم يحكم فإن رجعوا
بعده قبل استيفائه نقض الحكم للشبهة، وإن رجع شهود الزنى فقالوا: أوهمنا أو شككنا
في شهادتنا، فعليهم الدية أرباعا. ولو شهد في الزنى ثلاثة رجال وامرأتان ورجعوا كان
387

على كل امرأة ثمن الدية، ولو شهد به ستة رجال ورجعوا كانت أسداسا، فإن قالوا:
عمدنا، فحكمهم حكم الجماعة يقتلون واحدا وسنبينه إن شاء الله تعالى، فإن قال
واحد: عمدت، والباقون: أوهمنا، فللولي قتل العامد ورد الباقون عليهم قسطهم من
الدية.
وإن رجع شاهدا قتل العمد أو السرقة بعد القتل والقطع فقالا: عمدنا، كانا
كالمشتركين في قتل أو قطع عمدا. وإن قالا: أوهمنا، فدية النفس أو دية اليد عليهما
سواء. فإن قال أحدهما: عمدت، والآخر: أوهمت، قطع أو قتل العامد وأدى المتوهم
إليه نصف دية النفس في القتل وفي القطع خمس الدية. فإن رجع بعضهم لم يكن على
من لم يرجع شئ.
وروى إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي بصير عن أبي عبد الله ع في امرأة
شهد عندها شاهدان أن زوجها مات فتزوجت ثم جاء زوجها الأول، قال: لها المهر بما
استحل من فرجها الأخير، ويضرب الشاهدان الحد ويضمنان المهر بما غرا الرجل،
وترجع إلى زوجها الأول.
وروى الحسن بن محبوب عن العلاء وأبي أيوب عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر
ع في رجلين شهدا على رجل غائب عند امرأته أنه طلقها فاعتدت المرأة
وتزوجت ثم إن الزوج الغائب قدم فزعم أنه لم يطلقها وأكذب نفسه أحد الشاهدين،
فقال: لا سبيل للآخر عليها ويؤخذ الصداق من الذي شهد ورجع فيرد على الآخر ويفرق
بينهما وتعتد من الأخير ولا يقربها الأول حتى تنقضي عدتها.
وإذا شهدا بمال فحكم بشهادتهما الحاكم ثم رجعا لم ينقض حكمه وغرمهما المال
بالسواء، فإن رجع أحدهما فنصفه وإن كانوا ثلاثة ورجع واحد فثلثه، وروي: إن كان
المال قائما بعينه رد على صاحبه وإن كان تالفا غرم الشاهدان وإن رجعا قبل الحكم لم
يحكم.
وإذا شهدا على رجل بالسرقة فقطع ثم جاءا بآخر فقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا
على الأول، غرما ديتها ولم تقبل شهادتهما على الثاني، وإن شهدا على رجل بطلاق
388

زوجته قبل الدخول بها ثم رجعا ضمنا له نصف المهر لأنه غرمه بشهادتهما و قرراه عليه
وقد كان معرضا للسقوط برده وشبهها، وإن كانت شهادتهما بعد الدخول فلا غرم له
عليهما لأنهما لم يضيعا بشهادتهما شيئا لاستقرار المهر بالدخول.
فإن شهد عنده من لا يعرفهما فأثنى عليهما بالعدالة شخصان فحكم بشهادتهما في
مال أو بدن فرجعا عن التزكية رجع عليهما، وروى أصحابنا في ما أخطأت القضاة من
دم أو قطع: أنه على بيت المال. وإذا شهد شاهدان ثم فسقا أو فسق أحدهما قبل الحكم
لم يحكم وإن فسقا بعده لم ينقضه.
389

قواعد الأحكام
في مسائل الحلال والحرام
للشيخ جمال الدين أبي منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين
علي بن محمد بن مطهر الحلي المشتهر بالعلامة الحلي والعلامة على الإطلاق
647 - 726 ه‍ ق
391

كتاب القضاء
مقاصد وفيه فصول: الفصل الأول: في التولية:
وإنما تثبت بإذن الإمام أو نائبه ولا تثبت بنصب أهل البلد، ولو تراضى الخصمان
بحكم بعض الرعية فحكم لزمهما حكمه في كل الأحكام حتى العقوبات، ولا يجوز
نقض ما حكم به فيما لا ينقض فيه الأحكام وإن لم يرضيا بعده إذا كان بشرائط
القاضي المنصوب عن الإمام، نعم لو رجع أحدهما عن تحكيمه قبل حكمه لم ينفذ
حكمه.
وفي حال الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء فمن عدل عنه إلى قضاة
الجور كان عاصيا، ولو تعدد تخير المدعي لا المنكر في الترافع إلى من شاء إن تساووا، ولو
كان أحدهم أفضل تعين الترافع إليه حال الغيبة وإن كان المفضول أزهد إذا تساويا في
الشرائط، أما حال ظهور الإمام عليه فالأقرب جواز العدول إلى المفضول لأن خطأه
ينجبر بنظر الإمام وهكذا حكم التقليد في الفتاوى.
ويستحب التولية لمن يثق من نفسه بالقيام بشرائطها على الأعيان، وتجب على
الكفاية، ويجب على الإمام تولية القضاة في البلاد فإن امتنعوا من الترافع إليه حل قتالهم
طلبا للإجابة، ولو تعدد من هو بالشرائط وتساووا لم يجبر أحدهم على الامتناع إلا أن
يلزمه الإمام، ولو لم يوجد سوى واحد لم يحل له الامتناع مطلقا بل لو لم يعرف الإمام
بحاله وجب عليه تعريف حاله لأن القضاء من باب الأمر بالمعروف.
393

ولا يجوز أن يبذل مالا ليليه إلا أن يعلم من تعين عليه أن الظالم لا يوليه إلا بالمال
فيجوز بذله، ولا تجوز الولاية من قبل الظالم إلا إذا عرف من نفسه التمكن من الحكم
بالحق فإن لم يعلم لم يحل له إلا مع الإلزام فيجوز إلا أن يكون الحكم في قتل من لا
يحل قتله فيحرم مطلقا، ولو تعين وخاف على نفسه الخيانة وجب عليه الطلب وترك
الخيانة فإن وجد من هو أصلح منه خرم عليه الطلب.
وللقاضي الاستخلاف مع الإذن صريحا أو فحوى أو بشاهد الحال كأن يكون ولايته
متسعة لا ينضبط بالواحد ولو منعه عن الاستخلاف حرم وكذا لو أطلق.
وتثبت الولاية بالاستفاضة كما يثبت بها النسب والملك المطلق والموت والنكاح
والوقف والعتق ولو لم يستفض سير معه شاهدين على الولاية ولا يجب قبول قوله مع عدم
البينة حينئذ وإن شهدت له الأمارات الظنية.
والتحكيم سائغ وإن كان في البلد قاض، وهل له الحبس واستيفاء العقوبة؟
إشكال. ولا ينفذ على غير المتراضيين حتى لا يضرب دية الخطأ على عاقلة الراضي بحكمه.
ويجوز أن يوليه عموم النظر في خصوص العمل بأن يقلده جميع الأحكام في بلد بعينه
فينفذ حكمه في أهله ومن يأتي إليه، وأن يقلده خصوص النظر في عموم العمل مثل:
جعلت إليك الحكم في المداينات خاصة في جميع ولايتي، فلا ينفذ حكمه في غيرها. ولو
قال الإمام: من نظر في الحكم بين فلان وفلان فقد وليته، ففي انعقاد الولاية فيه نظر.
والألفاظ التي تنعقد بها الولاية سبعة: وليتك وقلدتك واستنبتك و
استخلفتك
ورددت إليك الحكم وفوضت إليك وجعلت إليك.
الفصل الثاني: في صفات القاضي:
ويشترط فيه: البلوغ والعقل والذكورة والإيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم. فلا
ينعقد قضاء الصبي وإن كان مراهقا، ولا المجنون، ولا الكافر، ولا الفاسق، ولا المرأة
وإن جمعت باقي الشرائط، ولا ولد الزنى، ولا الجاهل بالأحكام، ولا غير المستقل بشرائط
الفتوى، ولا يكتفى بفتوى العلماء.
394

ويجب أن يكون عالما لجميع ما وليه ضابطا محافظا على فعل الواجبات أمينا، ولو
غلب عليه النسيان أو ساوى ذكره لم يجز توليته، وفي اشتراط علمه بالكتابة إشكال
وكذا البصر والأقرب اشتراطهما واشتراط الحرية والسلامة من الخرس والصمم، ولو
تعذرت الشرائط وغلب على الولايات متغلبون فسقة لم ينفذ حكم من ولاه صاحب
الشوكة.
ويجوز تعدد القضاة في بلد واحد سواء شرك بينهم بأن جعل كلا منهما مستقلا أو
فوض إلى كل واحد منهم محلة وطرفا، ولو شرط اتفاقهما في حكم فالأقرب الجواز،
وإذا استقل كل منهما في جميع البلد تخير المدعي في المرافعة إلى أيهما شاء، ولو اقتضت
المصلحة تولية من لم يستكمل الشرائط ففي الجواز مراعاة للمصلحة نظر.
وكل من لا يقبل شهادته لا ينفذ حكمه كالولد على والده والعبد على سيده والعدو
على عدوه، ويحكم الأب لولده وعليه وكذا الأخ، ولا يجوز أن يكون الحاكم أحد
المتنازعين بل يجب أن يكون غيرهما.
وإذا ولى من لا يتعين عليه فالأفضل ترك الرزق له من بيت المال إن كان ذا كفاية
ويسوع له لأنه من المصالح، وكذا يجوز له إذا تعين ولم يكن ذا كفاية، ولو كان ذا
كفاية لم يجز له لأنه يؤدى واجبا.
ولو أخذ الجعل من المتحاكمين فإن لم يتعين وحصلت الضرورة قيل:
جاز، والأقرب المنع. وإن تعين أو كان مكتفيا لم يجز، أما الشاهد فلا يحل له الأجر
على الإقامة ولا التحمل.
ويجوز للمؤذن والقاسم وكاتب القاضي ومترجمه والكيال والوزان ومعلم القرآن
والآداب وصاحب الديوان ووالى بيت المال أن يأخذوا الرزق من بيت المال لأن ذلك
كله من المصالح.
خاتمة:
شرائط الاجتهاد المبيحة للقضاء والإفتاء في العلم والمعرفة تسعة أشياء: الكتاب
395

والسنة والإجماع والخلاف وأدلة العقل من الاستصحاب والبراءة الأصلية وغيرهما،
ولسان العرب وأصول العقائد وأصول الفقه وشرائط البرهان.
أما الكتاب فيحتاج إلى معرفة عشرة أشياء: العام والخاص والمطلق والمقيد والمحكم
والمتشابه والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، في الآيات المتعلقة بالأحكام وهي نحو
خمسمائة آية ولا يلزمه معرفة جميع آيات القرآن العزيز.
وأما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام الشرعية دون غيرها، ويعرف
المتواتر والآحاد، والمسند والمتصل، والمنقطع والمرسل، ويعرف الرواة، ويعرف مسائل
الاجماع والخلاف وأدلة العقل وتعارض الأدلة والتراجيح، ويعرف من لسان العرب من
اللغة والنحو والتصريف ما يتعلق بالقرآن المحتاج إليه والسنة المفتقر إليها، ويشترط أن
يكون ذا قوة يتمكن بها من استخراج الفروع من الأصول ولا يكفي حفظ ذلك كله من
دون قوة الاستخراج، ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها الفقهاء، وفي تجزئ
الاجتهاد إشكال الأقرب جوازه.
الفصل الثالث: في العزل:
ولا ينعزل القاضي إلا بأمرين:
أ: تجدد ما يمنع القضاء كفسق أو جنون أو إغماء أو عمى أو نسيان، ولو جن ثم
أفاق ففي عود ولايته ضعف سواء عزله الإمام أو لا وسواء أشهد على عزله أو لا، ولو
حكم لم ينفذ.
ب: سقوط ولاية الأصل، فلو تجدد فسق المنوب أو جنونه أو عزله أو موته انعزل
النائب عنه سواء عزله الإمام أو نائبه وقيل: لا ينعزل بذلك لأن النائب عنه كالنائب
عن الإمام إذ الاستنابة مشروطة بإذن الإمام، وفيه نظر. ولو مات إمام الأصل فالأقرب
انعزال القضاة.
وإذا رأى الإمام أو نائبه المصلحة في عزل القاضي لوجه ما أو لوجود من هو أكمل
منه عزله، وهل يجوز عزله اقتراحا؟ فيه نظر. وهل يقف الانعزال على بلوع الخبر؟ فيه
396

احتمال ينشأ من مساواته للوكيل ومن القطع بعدم انعزاله للضرر. ولو قال: إذا قرأت
كتابي هذا فأنت معزول، انعزل إذا قرئ عليه ولا ينعزل قبل القراءة، وينعزل بانعزاله
كل مأذون في شغل معين، وفي نائبه في كل ناحية خلاف. ولو قال بعد العزل: قضيت
بكذا، لم يقبل إلا بالبينة. ولو شهد مع عدل أن هذا حكم به قاض ولم يسم نفسه
فإشكال، ولو قال قبل العزل قبل قوله بغير حجة.
ولو ادعى على المعزول رشوة أحضره القاضي وفصل بينهما، وكذا لو قال: أخذ المال
مني، بشهادة فاسقين وإن لم يذكر الأخذ فالأقرب سماع الدعوى إذ يجب الغرم على
القاضي إذا لم يأخذ مع تفريطه. ولو قال: قضى على بشهادة فاسقين، وجب إحضاره
وإن لم يقم المدعي بينة، فإن حضر واعترف ألزم. ولو قال: لم أحكم إلا بشهادة
عدلين، قيل: كلف البينة لاعترافه بنقل المال وادعائه مزيل الضمان، وفيه نظر لأن
الظاهر من الحكام الاستظهار في حكمهم فيجب عليهم اليمين لادعائه الظاهر.
ولو قال نائب المعزول: أخذت هذا المال أجرة عملي، لم يقبل وإن صدقه المعزول
إلا بحجة وفي الاكتفاء بيمينه في قدر أجرة المثل نظر. ولو عزل القاضي بعد سماع البينة
قبل الحكم ثم ولى وجبت الاستعادة، ولو خرج من ولايته ثم عاد لم يجب.
المقصد الثاني: في كيفية الحكم:
وفيه فصول:
الفصل الأول: في الآداب:
ينبغي للحاكم إذا سار إلى بلد ولايته أن يسأل من أهله حال البلد ويتعرف منهم ما
يحتاج إلى معرفته، وإذا قدم أشاع بقدومه وواعدهم يوما لقراءة عهده، وأن يسكن وسط
البلد، وأن يجلس للقضاء في موضع بارز كرحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه، وأن يبدأ
بأخذ ديوان الحكم من المعزول وما فيه من وثائق الناس والمحاضر وهي نسخ ما ثبت عند
الحاكم والسجلات وهي نسخ ما حكم به والحجج التي للناس، وأن يخرج للقضاء في
397

أجمل هيئة، خاليا من غضب أو جوع أو عطش أو غم أو فرح أو وجع أو احتياج إلى
قضاء حاجة أو نعاس، فإن حكم في المسجد صلى عند دخوله ركعتين ثم يجلس مستدبر
القبلة ليكون وجوه الخصوم إليها وقيل: يستقبلها، ثم ينظر أول جلوسه في المحبوسين
فيطلق كل من حبس بظلم أو تعزير، ومن اعترف أنه حبس بحق أقره.
ومن قال: أنا مظلوم لأني معسر، فإن صدقه غريمه أطلقه، وإن كذبه فإن كان الحق
مالا وثبت بالبينة أن له مالا رده إلى الحبس إلا أن تقوم بينة بتلفه، ولو لم يكن الدعوى
مشتملة على أخذ مال ولا ثبت أن له أصل مال فالقول قوله مع اليمين في الإعسار، وإن
قال: أنا مظلوم إذ لا حق على، طولب خصمه بالبينة، فإن أقامها وإلا أطلقه بعد يمينه،
وهل يجوز إطلاقه بادعائه الظلم وإن لم يحضر خصمه؟ الأقرب المنع، ولو قال: لا خصم
لي ولا أدري لم حبست، نودي على طلب خصمه، فإن لم يحضر أطلق، وإن ذكر غائبا
وزعم أنه مظلوم ففي إطلاقه نظر أقربه أنه لا يحبس ولا يطلق لكن يراقب إلى أن يحضر
خصمه ويكتب إليه ليعجل فإن لم يحضر أطلق.
ثم بعد ذلك ينظر في الأوصياء وأموال الأطفال والمجانين ويعتمد معهم ما يجب من
تضمين أو إنفاذ أو اسقاط ولاية إما لبلوع ورشد أو ظهور خيانة أو ضم مشارك إن ظهر
عجز ثم ينظر في أمناء الحكم الحافظين لأموال الأيتام والمجانين والمحجور عليهم لسفه
وغيره والودائع وتفرقة الوصايا بين المساكين فيعزل الخائن ويعين العاجز بمشارك ويستبدل
به إن كان أصلح ويقره إن كان أمينا قويا، وإن كان قد تصرف وهو أهل له نفذ، وإن
كان فاسقا وكان أهل الوصية بالغين عاقلين معينين صح دفعه إليهم، وإن كانوا غير
معينين كالفقراء والمساكين احتمل الضمان إذ ليس له التصرف وعدمه لأنه أوصله إلى
أهله، وكذا لو فرق الوصية غير الوصي.
ثم ينظر في الضوال واللقط فيبيع ما يخشى تلفه وما يستوعب مؤنته قيمته ويسلم ما
عرفه الملتقط حولا إليه إن كان في يد الأمين واختار الملتقط ذلك ويحفظ ما عدا ذلك
كالجواهر والأثمان إلى أن يظهر أربابها.
ثم يأمر العلماء بالحضور عنده وقت الحكم لينبهوه على الخطأ إن وقع منه ويستوضح
398

منهم ما عساه يشكل عليه لا بأن يقلدهم، فإن أخطأ فأتلف لم يضمن في ماله بل في
بيت المال.
ثم يتروى بعد ذلك في ترتيب الكاتب والمترجم والقسام والوزان والناقد، وليكن
الكاتب عدلا عاقلا عفيفا عن المطامع ولا يشترط العدد، وأما المترجم فلا بد من اثنين
عدلين وكذا المسمع إذا كان بالقاضي صمم، ولا يشترط لفظ الشهادة ولا الحرية، ولو
طلب المسمع أجرة ففي وجوبها في مال صاحب الحق إشكال.
ولا يعزر من أساء أدبه في مجلسه إلا بعد الزجر باللسان والإصرار فإن ظهر كذب
الشاهد عزره ظاهرا ونادى عليه، ويكره أن يتخذ حاجبا وقت القضاء، واتخاذ
المساجد مجلسا لحكمه دائما على رأي، والقضاء مع غضبه وشبهه مما يشغل الخاطر ولو قضى
حينئذ نفذ، وأن يتولى البيع والشراء لنفسه والحكومة، وأن يستعمل الانقباض المانع من
الحجاج عنده أو اللين المفضي إلى سقوط محله وترتيب شهود معينين.
الفصل الثاني: في التسوية:
ويجب على الحاكم التسوية بين الخصمين إن تساويا في الاسلام والكفر في القيام
والنظر وجواب السلام وأنواع الكلام والجلوس والإنصات والعدل في الحكم، وله أن
يرفع المسلم على الذمي في المجلس فيجلس المسلم أعلى من الذمي، ويجوز أن يكون
المسلم قاعدا والذمي قائما.
ولا يجب التسوية في الميل القلبي فإن ادعى أحد الخصمين سمع منه وإلا استحب له
أن يقول لهما: تكلما أو ليتكلم المدعي منكما، ولو أحس منهما باحتشامه أمر من يقول
ذلك، ويكره أن يخصص أحدهما بالخطاب، فإن ادعى طالب الثاني بالجواب، فإن أقر
ثبت الحق وإن لم يقل: قضيت. وإن أنكر قال للمدعي: هل لك بينة؟ فإن قال: لا،
ثم جاء ببينة فالأقرب سماعها فلعله تذكر.
فإن تزاحم المدعون قدم السابق ورودا، فإن تساووا أقرع، ويقدم المسافر المستوفز
والمرأة وكذلك المفتي والمدرس عند التزاحم ثم السابق بقرعة يقنع بخصومة واحدة ولا
399

يزيد وإن اتحد المدعى عليه، ولو سبق أحدهما إلى الدعوى فقال الآخر: كنت أنا
المدعي، لم يلتفت إليه إلا بعد إنهاء الحكومة ولو بدرا دفعة يسمع من الذي على يمين
صاحبه أولا.
ويكره له أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه، ولا ينبغي أن يحضر ولائم الخصوم
ولا بأس بوليمة غيرهم إذا لم يكن هو المقصود بالدعوة، ويستحب له أن يعود المرضى
ويشهد الجنائز، والرشوة حرام على آخذها ويأثم دافعها إن توصل بها إلى الباطل لا إلى
الحق ويجب على المرتشي إعادتها وإن حكم عليه بحق أو باطل، ولو تلفت قبل وصولها
إليه ضمنها.
ولا يجوز أن يلقن أحد الخصمين ما فيه ضرر على خصمه ولا أن يهديه لوجوه الحجاج
لأنه نصب لسد باب المنازعة، ولو قطع المدعى عليه دعوى المدعي بدعوى لم تسمع حتى
ينتهي الحكومة وإذا كان الحكم واضحا لزمه القضاء، ويستحب ترغيبهما في الصلح
فإن تعذر حكم بمقتضى الشرع فإن أشكل أخر حتى يظهر ولا حد له سواه، ويكره له أن
يشفع في اسقاط أو إبطال، ويستحب إجلاس الخصمين بين يدي الحاكم ولو قاما جاز.
الفصل الثالث: في مستند القضاء:
الإمام يقضي بعلمه مطلقا وغيره يقضي به في حقوق الناس وكذا في حقه تعالى على
الأصح، ولا يشترط في حكمه حضور شاهدين يشهدان الحكم لكن يستحب، ولو لم
يعلم افتقر إلى الحجة فإن علم فسق الشاهدين أو كذبهما لم يحكم وإن علم عدالتهما
استغنى عن المزكي وحكم وإن جهل الأمر بحث عنهما، ولا يكفي في الحكم معرفة
إسلامهما مع جهل العدالة وتوقف حتى تظهر العدالة فيحكم أو الفسق فيطرح، ولو
حكم بالظاهر ثم تبين فسقهما وقت الحكم نقضه، ولا يجوز أن يعول على حسن
الظاهر.
ولو أقر الغريم عنده سرا حكم بعلمه كما لو أقر في مجلس القضاء، ولا يجوز له أن
يعتمد على خطه إذا لم يتذكر وكذا الشاهد وإن شهد معه آخر ثقة لإمكان التزوير عليه،
400

ولو كان الخط محفوظا عنده وأمن التحريف تسلط على رواية الحديث دون الشهادة
والحكم، ولو شهد عنده شاهدان بقضائه ولم يتذكر فالأقرب القضاء، و كذا المحدث
يحدث عن من أخبره بحديثه فيقول: حدثني فلان عني. وكذا لقاض آخر أن يحكم
بالشاهدين على قضائه إذا لم يكذبهما.
ومن ادعي عليه أنه قضى له فأنكر لم يكن له التحليف كما لا يحلف الشاهد،
وينبغي للحاكم إذا طلب الاستظهار في موضع الريبة أن يفرق بين الشهود خصوصا في
من لا قوة عنده ويكره إذا كان الشهود من ذوي البصائر والأديان القوية.
الفصل الرابع: التزكية:
ويجب على الحاكم الاستزكاء مع الشك بالعدالة وإن سكت الخصم إلا أن يقر
الخصم بعدالتهما على إشكال، وهل عليه أن يعين حال الاستزكاء مع الشاهدين
الخصمين؟ يحتمل ذلك لإمكان أن يعرف بينهم عداوة، وهل يعرفهما قدر المال؟ يحتمل
ذلك أيضا لإمكان أن يعدله باليسر دون الكثير، والأقرب المنع فإن العدالة لا تتجزأ.
وصفة المزكي كصفة الشاهد ويجب أن يكون عارفا بباطن من يعدله بكثرة الصحبة
والمعاشرة المتقادمة، ولا يشترط المعاملة وإن كانت أحوط، ولا يجرح إلا مع المشاهدة ما
يراه الحاكم من طول الزمان وقصره، فإن ارتاب الحاكم بعد التزكية لتوهمه غلط
الشاهد فليبحث وليسأل الشاهد على التفصيل فربما اختلف كلامه فإن أصر على إعادة
لفظه جاز له الحكم بعد البحث وإن بقيت الريبة على إشكال.
ولا يثبت الجرح والتعديل إلا بشاهدين عدلين ذكرين ولا يقابل الجارح الواحد بينة
التعديل، ولو رضي الخصم بأن يحكم عليه بشهادة فاسق لم يصح، ولو اعترف بعدالة
الشاهد ففي الحكم عليه نظر فإن سوغناه لم يثبت تعديله في حق غيره، ولو أقام المدعى
عليه بينة أن هذين الشاهدين شهدا بهذا الحق عند حاكم فرد شهادتهما لفسقهما بطلت
شهادتهما بخطه.
401

الفصل الخامس: في نقض الحكم:
إذا حكم حاكم بحكم خالف فيه الكتاب أو السنة المتواترة أو الاجماع وبالجملة إذا
خالف دليلا قطعيا وجب عليه وعلى غير ذلك الحاكم نقضه ولا يسوع إمضائه سواء
خفي على الحاكم به أو لا وسواء أنفذه الجاهل به أو لا، وإن خالف به دليلا ظنيا لم
ينقض كما لو حكم بالشفعة مع الكثرة إلا أن يقع الحكم خطأ بأن يحكم بذلك لا لدليل
قطعي ولا ظني أو لم يستوف شرائط الاجتهاد، ولو تغير اجتهاده قبل الحكم حكم لفعل
ما يقدح في العدالة أو أن يشيع ذلك بين الناس شياعا موجبا للعلم، ولا يقول على
سماعه من واحد أو عشرة لعدم العلم بخبرهم ولو فرضنا حصوله جرح، وله أن يحكم
بشهادة عدلين إن نصب حاكما في التعديل ولا بد في التعديل من الشهادة به والإتيان
بلفظها وإنه مقبول الشهادة فيقول: أشهد أنه عدل مقبول الشهادة، فرب عدل لا تقبل
شهادته والأقرب الاكتفاء بالثاني، ولا يشترط أن يقول: على ولي، ولا يكفي أن
يقول: لا أعلم منه إلا الخير.
ولا يكفي الخط بالتعديل مع شهادة رسولين عدلين، ولو سأل المدعي حبس الغريم
بعد سماع بينته إلى أن يثبت العدالة، قيل: جاز لقيام البينة بدعواه، والأقرب المنع.
وكذا لا يجب مطالبته برهن أو ضمين، وينبغي إخفاء السؤال عن التزكية فإنه أبعد من
التهمة ولا يجوز الجرح والتعديل بالتسامع، ويثبت العدالة مطلقة ولا يثبت الجرح إلا
مفسرا على رأي ولو فسر بالزنى لم يكن قاذفا، ولا يحتاج في الجرح إلى تقادم المعرفة
بخلاف العدالة بل يكفي العلم بموجبه.
ولو اختلف الشهود في الجرح والتعديل قدم الجرح، ولو تعارضت البينتان قيل: يقف
الحاكم، ويحتمل أن يعمل بالجرح. وإذا ثبتت عدالة الشاهد حكم باستمرارها حتى
يظهر منافيها، والأحوط أن يطلب التزكية مع مضى مدة يمكن تغير حال الشاهد وذلك
بحسب بما تغير اجتهاده إليه.
وليس عليه تتبع قضايا من سبقه ولا قضاء غيره من الحكام، فإن تتبعها نظر في
الحاكم قبله فإن كان من أهله لم ينقض من أحكامه ما كان صوابا، وينقض غيره إن
402

كان حقا لله تعالى كالعتق والطلاق وإن كان لآدمي نقضه مع المطالبة، فإن لم يكن
من أهله نقض أحكامه أجمع وإن كانت صوابا على إشكال ينشأ من وصول المستحق إلى
حقه، ولو كان الحكم خطأ عند الحاكم الأول وصوابا عند الثاني ففي نقضه مع كون
الأول من أهله نظر، والأقرب أن كل حكم ظهر له أنه خطأ سواء كان هو الحاكم أو
السابق فإنه ينقضه ويستأنف الحكم بما علمه حقا، ولو زعم المحكوم عليه أن الأول
حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه وكذا لو ثبت عنده ما يبطل حكم الأول أبطله.
وحكم الحاكم لا يغير الشئ عن صفته وينفذ ظاهرا لا باطنا، فلو علم المحكوم له
بطلان الحكم لم يستبح ما حكم له سواء كان مالا أو فسخا أو عقدا أو طلاقا، فلو أقام
شاهدي زور بنكاح امرأة لم يحل له وطؤها وإن حكم له بالزوجية، ويجب على المرأة
الامتناع ما أمكنها وعليه الإثم والمهر والحد إلا أن يعتقد الاستباحة بذلك ولها أن تنكح
في الباطن غيره لكن لا تجمع بين المائين، ولو شهد على طلاقه فاسقان باطنا وظاهرهما
العدالة وقع واستباح كل منهما نكاحها على إشكال.
تتمة:
صورة الحكم الذي لا ينقض أن يقول الحاكم: قد حكمت بكذا أو قضيت أو
أنفذت أو أمضيت أو ألزمت أو ادفع إليه ماله أو أخرج من حقه أو يأمره بالبيع وغيره.
ولو قال: ثبت عندي أو ثبت حقك أو أنت قد قمت بالحجة وأن دعواك ثابتة شرعا، لم
يكن ذلك حكما ويسوع إبطاله. وينبغي أن يجمع قضايا كل أسبوع ووثائقه وحججه
ويكتب عليها لشهر كذا أو لسنة كذا.
الفصل السادس: في الإعداء:
إذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم لزمه أن يعديه ويستدعي خصمه إن كان
حاضرا سواء حرر المدعي دعواه أو لا وسواء علم الحاكم بينهما معاملة أو لا، ولو كان
غائبا لم يستدعه الحاكم حتى يحرر الدعوى للمشقة في الثاني، وإن حرر الدعوى
403

أحضره إن كان في بعض ولايته ولا خليفة له هناك وإن كان له خليفة يحكم أو كان في
غير ولايته أثبت الحكم عليه بالحجة وإن كان غائبا، وللمستعدى عليه أن يوكل من
يقوم مقامه في الحضور وإن كان في البلد.
ولو استعدى على امرأة فإن كانت برزة فهي كالرجل وإن كانت متخدرة بعث إليها
من ينوبه في الحكم بينهما في بيتها أو توكل من يحضر مجلس الحكم، فإن ثبت عليها يمين
بعث الحاكم إليها أمينه ومعه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما فإن أقرت شهدا عليها.
وللحاكم تعزير من يمتنع من الحضور والتوكيل، فإن اختفى نادى على بابه ثلاثة
أيام: إنه إن لم يحضر سمر بابه وختم عليه، فإن لم يحضر بعد الختم بعث الحاكم من
ينادي: إن لم يحضر أقام عنه وكيلا وحكم عليه، فإن لم يحضر فعل ذلك وحكم عليه
وله أن يحكم عليه حال الغيبة ابتداء.
ولو استعدى على الحاكم المعزول فالأولى للحاكم مطالبته بتحرير الدعوى صونا
للقاضي عن الامتهان، فإذا حررها أحضره سواء ادعى بمال أو بجور في حكم أو رشوة
وسواء كان مع المدعي بينة أو لا.
ولو ادعى على شاهدين بأنهما شهدا عليه بزور أحضرهما فإن اعترفا غرمهما وإلا
طالب المدعي بالبينة على اعترافهما فإن فقدها ففي توجيه اليمين عليهما إشكال أقربه
ذلك، ولو ادعى أحد الرعية على القاضي فإن كان هناك إمام رافعه إليه وإن لم يكن
وكان في غير ولايته رافعه إلى قاضي تلك البقعة وإن كان في ولايته رافعه إلى خليفته.
المقصد الثالث: في الدعوى والجواب:
وفيه فصول:
الفصل الأول:
المدعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة أو الذي يدعي خلاف الظاهر أو خلاف
الأصل والمنكر في مقابلته، فلو أسلما قبل الوطء فادعى الزوج التقارن فالنكاح دائم
404

وادعت التعاقب فالزوج هو الذي أنه لا يترك وسكوته والمرأة تدعي الظاهر وهو التعاقب
لبعد التساوق ففي تقديم أحدهما احتمال ويصدق الودعي في الرد باليمين للرخصة إن
قلنا به.
ويشترط في المدعي البلوغ والعقل وأن يدعي لنفسه أو لمن له ولاية الدعوى منه ما
يصح تملكه، فلا يسمع دعوى الصغير ولا المجنون ولا دعواه مالا لغيره إلا مع الولاية
كالوكيل والوصي والحاكم ونائبه، ولا دعوى المسلم خمرا أو خنزيرا ولو على ذمي، ولو
ادعى ثمنهما صح إذا أسند البيع إلى كفره.
ويشترط في الدعوى الصحة واللزوم، فلو ادعى هبة لم تسمع إلا مع دعوى الإقباض
وكذا الوقف والرهن عند مشترطه فيه، ولو ادعى فسق الحاكم أو الشهود ولا بينة فادعى
علم المحكوم له أو المشهود له ففي توجه اليمين على نفي العلم إشكال من حيث بطلان
الحكم عنه مع الإقرار ومن أنه لا يدعي حقا لازما ولا يثبت بالنكول ولا اليمين
المردودة ولاشتماله على فساد.
ولو التمس بعد إقامة البينة عليه إحلاف المدعي على الاستحقاق أجيب، ولو
التمس المنكر يمين المدعي مع الشهادة لم يلزم إجابته، ولو ادعى الإقرار فالأقرب الإلزام
بالجواب ولا يفتقر إلى الكشف في نكاح وغيره إلا القتل، ولو ادعت أنه زوجها كفى في
دعوى النكاح وإن لم تضم شيئا من حقوق الزوجية فإن أنكر حلف مع عدم البينة فإن
نكل حلفت وثبت النكاح، وكذا البحث لو كان هو المدعي.
ولا تسمع دعوى: هذه بنت أمتي، لجواز ولادتها في غير ملكه، ولو قال: ولدتها في
ملكي، لاحتمال الحرية أو تملك غيره، ولا تسمع البينة بذلك ما لم يصرح بأنها ملكه
وكذا البينة وكذا هذه ثمرة نخلتي، ولو أقر ذو اليد بذلك لم يلزمه شئ لو فسره بما ينافي
الملك. ولو قال: هذا الغزل من قطنه أو هذا الدقيق أو الخبز من حنطته، لزمه.
والأقرب سماع الدعوى المجهولة كفرس أو ثوب كما يقبل الإقرار به والوصية، وهل
يشترط الجزم؟ إشكال. فإن سوغنا السماع مع الظن جوزنا اليمين على التهمة ولا رد
هنا، وإن شرطنا علم المقدار افتقر في الأثمان إلى ذكر الجنس والقدر والنقد وفي دعوى
405

غيرها إلى الوصف بما يرفع الجهالة، ولا يحتاج إلى ذكر قيمته وذكرها أحوط، ويجب فيما
لا مثل له ذكرها.
الفصل الثاني: فيما يترتب على الدعوى:
وإذا تمت الدعوى فالأقرب أن الحاكم لا يبتدئ بطلب الجواب من الخصم إلا بعد
سؤال المدعي ذلك لأنه حق له فيتوقف على المطالبة، فإذا سأله الحاكم فأقسامه ثلاث:
الأول: الإقرار:
فإذا أقر وكان جائز التصرف حكم عليه إن سأله المدعي بأن يقول له: قد ألزمتك أو
أخرج إليه من حقه، وما شابهه. ولو التمس أن يكتب له عليه كتابا لزمه إن كان يعرفه
باسمه ونسبه أو يعرفه عدلان أو يشهد عليه بالحلية، وإن سأله أن يشهد على إقراره
شاهدين لزمه أيضا فإن دفع إلى الحاكم ثمن القرطاس من بيت المال وإلا كان على
الملتمس الثمن، ولا يجب على الحاكم دفع الثمن من خاصه، فإن ادعى الإعسار وثبت
صدقه إما بالبينة المطلعة على حاله أو بتصديق الخصم لم يحل حبسه وأنظر إلى أن يوسر،
فإن مات فقيرا سقط، وإن عرف كذبه حبس حتى يخرج من الحق، وإن جهل بحث
الحاكم فإن ثبت إعساره أنظر ولم يجب دفعه إلى غرمائه ليستعملوه وإن اشتبه فإن عرف
ذا مال أو كان أصل الدعوى مالا حبس حتى يثبت إعساره وإلا حلف على الفقر فإن
نكل حلف المدعي على القدرة وحبس.
الثاني: الانكار:
ويسأل الحاكم المدعي عقيبه: أ لك بينة؟ إن لم يعرف الحاكم أنه موضع سؤال ذلك
وإن عرف لم يجب، فإن قال: نعم، أمره بإحضارها ثم ينظر في أمر غيرهما، وإن قال:
لا بينة لي، عرفه الحاكم أن له اليمين، فإن طلب إحلافه أحلفه الحاكم ولا يتبرع
الحاكم بإحلافه، وكذا الحالف لا يبتدئ باليمين من غير أن يحلفه الحاكم، فلو تبرع
الحالف أو الحاكم باليمين وقعت لاغية ولم يعتد بها ويعيدها الحاكم بعد سؤاله وكذا لو
حلفه من غير حاكم.
406

وإذا حلف المنكر سقطت الدعوى عنه ولا يحل للمدعي مطالبته بعد ذلك بشئ وإن
كان كاذبا في يمينه، ولو ظفر له بمال لم يحل له مقاصته ويأثم مع معاودة المطالبة ولا
تسمع دعواه ولا بينته، وقيل: يحكم بالبينة إلا أن يشترط الحالف سقوط الحق باليمين،
وقيل: تسمع مع النسيان. وكذا لو أقام شاهدا واحدا وبذل معه اليمين نعم لو أكذب
الحالف نفسه جاز أن يطالب وأن يقاص مما يجده له مع امتناعه عن التسليم.
وإن رد المنكر اليمين عن المدعي فإن حلف ثبت دعواه وإن نكل سقطت، وهل له
المطالبة بعد ذلك؟ إشكال. ولو قال المدعي قد أسقطت عنك هذه اليمين لم يسقط دعواه
فإن أعاد الدعوى مرة ثانية فله إحلافه، ولو نكل المنكر بمعنى أنه لم يحلف ولم يرد قال
له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا، ثلاث مرات استظهارا لا فرضا، فإن أصر
فالأقرب أن الحاكم يرد اليمين على المدعي، فإن حلف ثبت حقه وإن امتنع سقط،
وقيل: يقضى بنكوله مطلقا، ولو بذل المنكر اليمين بعد نكوله لم يلتفت إليه.
الثالث: السكوت:
فإن كان لآفة من طرش أو خرس توصل الحاكم إلى معرفة جوابه بالإشارة المفيدة
لليقين، فإن افتقر إلى المترجم لم يكف الواحد بل لا بد من عدلين، وإن كان عنادا
ألزمه بالجواب فإن امتنع حبس حتى يبين، وقيل: يجبر عليه، وقيل: يقول الحاكم: إن
أجبت وإلا جعلتك ناكلا ورددت اليمين على المدعي، فإن أصر رد اليمين على المدعي.
الفصل الثالث: في كيفية سماع البينة:
إذا سأل الحاكم المدعي بعد الانكار عن البينة وذكر أن له بينة لم يأمره بإحضارها
لأن ذلك حقه وقيل له ذلك، فإن جهل قال له: أحضرها إن شئت، فإذا أحضرها لم
يسألها الحاكم حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حقه فلا يتصرف فيه من غير إذنه، فإذا سأله
المدعي سؤالها قال: من كانت عنده شهادة فليذكر إن شاء، ولا يقول لهما: اشهدا، فإن
أقاما الشهادة لم يحكم إلا بمسألة المدعي، فإن سأله الحكم وعرف عدالتهما بالعلم أو
بالتزكية واتفقت شهادتهما ووافقت الدعوى قال للخصم: إن كان عندك ما يقدح في
407

شهادتهم فبينه عندي، فإن سأل الإنظار أنظره ثلاثة أيام، فإن لم يأت بجارح حكم
عليه بعد سؤال المدعي.
وإن ارتاب بالشهادة فرقهم وسأل كل واحد عن جزئيات القضية فيقول: في أي
وقت شهدت وفي أي مكان وهل كنت وحدك وهل كنت أول من شهد؟ فإن اختلفت
أقوالهم أبطلها وإلا حكم وكذا يبطلها لو لم توافق الدعوى، وإن اتفقت فلو ادعى على زيد
قبض مائة دينار نقدا منه فأنكر فشهد واحد بقبض المال لكن بعضه نقد وبعضه جنس منه
وشهد الآخر بقبضه نقدا لكن من وكيله سقطت البينة، ولو قال المدعي: لي بينة وأريد
إحلافه ثم أحضر البينة لإثبات حقي، لم يكن له ذلك. ولو رضي باليمين وإسقاط بينته
جاز، ولو أقام شاهدا واحدا وحلف ثبت حقه، وإن نكل لم يثبت حقه في هذا المجلس.
وإذا أقام المدعي عدلين لم يستحلف مع البينة إلا أن يكون الشهادة على ميت
فيستحلف على بقاء الحق في ذمته استظهارا، أما لو أقام بينة بعارية عين أو غصبها كان
له انتزاعها من غير يمين، ولو كانت الشهادة على صبي أو على مجنون أو غائب فالأقرب
ضم اليمين ويدفع الحاكم من مال الغائب بعد التكفيل، ولو أوصي له حال الموت ففي
وجوب اليمين مع البينة حينئذ إشكال، ولو أقام شاهدا واحدا حلف يمينا واحدة.
ولو قال المدعي: لي بينة غائبة، خيره الحاكم بين الصبر وإحلاف الغريم وليس له
ملازمته ولا مطالبته بكفيل، وكذا لو أقام شاهدا واحدا وإن كان عدلا، وقيل: له حبسه
أو المطالبة بكفيل لقدرته على إثبات حقه باليمين فيحبس إلى أن يشهد آخر وليس بجيد.
ويكره للحاكم أن يعنت الشهود بأن يفرق بينهم إذا كانوا من أهل البصيرة والورع
ويستحب في موضع الريبة، ولا يجوز للحاكم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في الشهادة
أو يتعقبه بل يكف عنه إلى أن يذكر ما عنده، وإن تردد فلا يرغبه في الإقامة لو توقف ولا
يزهده ولا يوقف عزم الغريم عن الإقرار إلا في حقه تعالى.
408

المقصد الرابع: في الإحلاف:
وفيه فصول:
الفصل الأول:
لا ينعقد اليمين الموجبة للبراءة من الدعوى إلا بالله تعالى ولو كان كافرا، وقيل:
يفتقر في إحلاف للمجوسي مع لفظة الجلالة إلى ما يزيل الاحتمال لأنه يسمى النور
إلها، ولا يجوز الإحلاف بغيره من كتاب منزل أو نبي مرسل أو إمام أو مكان شريف أو
بالأبوين. فإن رأى الحاكم إحلاف الذمي بما يقتضيه دينه أردع جاز وهي تثبت في كل
مدعى عليه من مسلم وكافر وامرأة ورجل.
ويستحب للحاكم وعظ الحالف قبله ويكفي: قل والله ما له عندي حق، وينبغي
التغليظ بالقول والمكان والزمان في الحقوق كلها وإن قلت إلا المال فلا يغلظ في أقل من
نصاب القطع فالقول مثل: والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار
النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي على شئ
مما ادعاه وغير ذلك من ألفاظ يراها الحاكم، والمكان كالمساجد والحرم والزمان كيوم
الجمعة والعيد وبعد الزوال ويغلظ على الكافر بما يعتقده مشرفا من الأمكنة والأزمنة
والأقوال، ولو امتنع الحالف من التغليظ لم يجبره عليه ولا تحل يمينه لو حلف على تركه.
ولو ادعى العبد وقيمته أقل من النصاب العتق فأنكر مولاه لم يغلظ في يمينه ولو رد
فحلف العبد غلظ لأنه يدعي العتق، وكل ما لا يثبت بشاهد ويمين يجري فيه التغليظ
ويجري في عيوب النساء.
وحلف الأخرس بالإشارة، وقيل: يوضع يده على اسم الله تعالى، وقيل: يكتب في
لوح صورة اليمين ويغسل بالماء فإن شرب برئ وإن امتنع نكل، ولا يستحلف الحاكم
إلا في مجلس حكمه إلا لعذر فيستنيب الحاكم للمريض والمخدرة من يحلفهما في
منزلهما، وشرط اليمين أن يطابق الانكار أو الدعوى وأن تقع بعد عرض القاضي.
409

الفصل الثاني: في الحالف:
ويشترط فيه: البلوغ والعقل والاختيار والقصد وتوجه دعوى صحيحة عليه. فلا عبرة
بيمين الصبي وإن ادعى البلوغ لم يحلف عليه بل يصدق مع إمكانه، ولو قال: أنا صبي،
لم يحلف بل ينتظر بلوغه. نعم لو ادعى الصبي المشرك أنه استنبت الشعر بالعلاج حلف
وإلا قتل ويحتمل أن يحبس حتى يبلغ ثم يحلف وإن نكل قتل، ولو حلف المجنون أو
المكره أو السكران والنائم والمغمى عليه والغافل لم يعتد بها، ويحلف الكامل في إنكار
المال والنسب والولاء والرجعة والنكاح والظهار والإيلاء ولا يحلف في حدود الله تعالى
ولا القاضي ولا الشاهد ويحلف القاضي بعد العزل، ولا يحلف الوصي والقيم إذ لا يقبل
إقرارهما بالدين على الميت ولا من ينكر الوكالة باستيفاء الحق وإن علم أنه وكيل فيجوز
جحود الموكل، ويجوز للوكيل بالخصومة إقامة البينة على وكالته من غير حضور الخصم.
والحالف قسمان: منكر ومدعي. أما المنكر فإنما يحلف مع فقد بينة المدعي ومع
وجودها إذا رضي المدعي بتركها واليمين، وأما المدعي فإنما يحلف مع الرد أو النكول
على رأي فإن ردها المنكر توجهت فإن نكل سقط دعواه إجماعا. ولو رد المنكر اليمين ثم
بذلها قبل الإحلاف قيل: ليس له ذلك إلا برضا المدعي، وفيه إشكال ينشأ من أن
ذلك تفويض لا اسقاط، ويحلف المدعي مع اللوث في دعوى الدم.
وإذ ادعى على المملوك فالغريم مولاه سواء كانت الدعوى مالا أو جناية، والأقرب
عندي توجه اليمين عليه فإن نكل ردت على المدعي ويثبت الدعوى في ذمة العبد يتبع بها
بعد العتق، ولا يسمع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ولا يتوجه اليمين على المنكر،
ولو قذفه ولا بينة فادعاه عليه قيل: له إحلافه ليثبت الحد على القاذف، وفيه نظر من
حيث أنه لا يمين في حد.
ومنكر السرقة يحلف لإسقاط الغرم فإن نكل حلف المدعي ويثبت المال دون القطع
وكذا لو حلف مع شاهد واحد، ولا يحلف مدعي إبدال النصاب في الحول ولا مدعي
نقصان الخرص، ولا مدعي الاسلام قبل الحول بل يصدقون، ولو أقام شاهدا فأعرض عنه
وقنع بيمين المنكر أو كان له بينة كاملة فأعرض عنها وقال: أسقطت البينة، وقنع
410

بيمين المنكر فالأقرب أن له الرجوع إلى البينة واليمين مع شاهده قبل الإحلاف.
ولو شهد للميت واحد بدين ولا وارث قيل: يحبس حتى يحلف أو يقر لتعذر اليمين
من المشهود له، وكذا لو ادعى الوصي الوصية للفقراء وأقام شاهدا فأنكر الوارث، وفيه
نظر. ولو أحاط الدين بالتركة لم يكن للوارث التصرف في شئ منها إلا بعد الأداء أو
الإسقاط، وهل يكون التركة على حكم مال الميت؟ الأقرب تعلق الدين بها تعلق الرهن
فالنماء للوارث وإن لم يحط كان الفاضل طلقا وعلى التقديرين المحاكمة للوارث على ما
يدعيه لمورثه وعليه. ولو أقام شاهدا حلف هو دون الديان، فإن امتنع فللديان إحلاف
الغريم فيبرأ منهم لا من الوارث، فإن حلف الوارث بعد ذلك كان للديان الأخذ من
الوارث إن أخذ، وهل يأخذون من الغريم؟ إشكال.
الفصل الثالث: المحلوف عليه:
وإنما يحلف على البت في فعل نفسه وغيره ونفي فعل نفسه أما نفي فعل غيره فيحلف
على عدم العلم والضابط أن اليمين على العلم دائما، ولا يجوز أن يحلف مع الظن الغالب
فلا يحل له باليمين البت بظن يحصل من قول عدل أو خط أو قرينة حال من نكول خصم
وغيره، فلو ادعى عليه بإيداع أو ابتياع أو قرض أو جناية حلف على النفي، ولو ادعى على
مورثه لم يتوجه اليمين إلا أن يدعي عليه العلم فيحلف على نفيه فيقول: لا أعلم على
مورثي دينا ولا أعلم منه إتلافا أو بيعا. وهل يثبت في نفي أرش الجناية عن العبد؟
إشكال.
ويجب البت في نفي الإتلاف عن بهيمته التي قصر فيها بتسريحها، ولو قال: قبض
وكيلك، حلف على نفي العلم، ويكفي مع الانكار الحلف على نفي الاستحقاق وإن
نفى الدعوى على رأي. ولو ادعى المنكر الإبراء أو الإقباض انقلب مدعيا والمدعي منكرا
فيكفي المدعي اليمين على بقاء الحق وله أن يحلف على نفي ذلك ويكون آكد وليس
لازما، وكلما يتوجه الجواب عن الدعوى فيه يتوجه معه اليمين ويقضى على المنكر به مع
النكول ورد اليمين حتى النسب والعتق والنكاح.
411

ولا يتوجه اليمين على الوارث ما لم يدع علمه بموت مورثه وبحقه وإنه ترك مالا في
يده، فلو سلم المدعي جهل الوارث بأحدها لم يتوجه عليه حق، ويكفي في العلم بالموت
أو الحق نفي العلم وفي ادعاء المال في يده البت، والنية نية القاضي فلا يصح تورية
الحالف ولا قوله: إن شاء الله في نفسه. ولو كان القاضي يعتقد ثبوت الشفعة مع الكثرة
لم يكن لمعتقد نفيها الحلف على نفي اللزوم بتأويل اعتقاد نفسه بل إذا ألزمه القاضي
صار لازما ظاهرا وعليه أن يحلف، وهل يلزمه باطنا؟ إشكال أقربه اللزوم إن كان
مقلدا لا مجتهدا.
الفصل الرابع: في حكم اليمين:
وهو انقطاع الخصومة أبدا لا براءة الذمة وليس للمدعي بعد ذلك المطالبة ولا إقامة
البينة وإن لم يعلم أن له بينة، ولو قال: كذب شهودي، بطلت البينة والأقرب عدم
بطلان الدعوى، وحينئذ لو ادعى الخصم إقراره بكذبهم وأقام شاهدا لم يكن له أن
يحلف ليسقط البينة لأن مقصوده الطعن، وإن قلنا: يبطل، جاز الحلف لإسقاط الدعوى
بالمال. ولو قال: حلفني مرة فليحلف على أنه ما حلف، سمع على إشكال، فلو أجابه،
بأنه حلفني مرة على أني ما أحلفته فليحلف أنه ما حلفني، لم يسمع للتسلسل.
ولو قدر المدعي على انتزاع عينه من يد خصمه فله ذلك ولو قهرا بمساعدة الظالم ما لم
يثر فتنة وإن لم يأذن الحاكم، ولو كان حقه دينا فإن كان الغريم مقرا باذلا لم يستقل
بالأخذ من دون إذنه لأن له الخيار في جهة القضاء فإن امتنع استقل الحاكم دونه أيضا،
ولو كان جاحدا وله بينة يثبت عند الحاكم وأمكن الوصول إليه فالأقرب جواز الأخذ من
دون إذن الحاكم، ولو لم يكن بينة أو تعذر الوصول إلى الحاكم ووجد الغريم من جنس
ماله استقل بالأخذ، ولو كان المال عنده وديعة ففي الأخذ خلاف أقربه الكراهية، ولو
كان المال من غير الجنس أخذه بالقيمة العدل ولم يعتبر رضي المالك وله بيعه وقبض
ثمنه عن دينه ولو تلفت قبل البيع لم يضمن والأقرب الضمان لأنه قبض لم يأذن فيه
المالك ويتقاصان حينئذ.
412

وكل من ادعى ما لا يد لأحد عليه ولا منازع فيه قضي له كالكيس يحضره جماعة
ادعاه أحدهم ولم ينازعه غيره ولا يد لأحد عليه، ولو انكسرت سفينة في البحر فلأهله ما
أخرجه البحر وما أخرج بالغوص لمخرجه إن تركوه بنية الإعراض، ولو حلف الوارث
على نفي علم الدين أو الاستحقاق لم يمنع المدعي من إقامة البينة.
الفصل الخامس: في اليمين مع الشاهد:
كل ما يثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين إلا عيوب النساء وهو كل ما كان
مالا أو المقصود منه المال كالدين والقرض والغصب وعقود المعاوضات كالبيع والصلح
والإجارة والقراض والهبة والوصية له والجناية الموجبة للدية كالخطأ وعمد الخطأ وقتل الوالد
ولده والحر العبد وكسر العظام والجائفة والمأمومة.
ولا يثبت الخلع والطلاق والرجعة والعتق والكتابة والتدبير والنسب والوكالة
والوصية إليه وعيوب النساء بالشاهد واليمين أما النكاح فإشكال أقربه الثبوت إن كان
المدعي الزوجة، والوقف يقبل فيه لأنه عندنا ينتقل إلى الموقوف عليه، ولا فرق بين أن
يكون المدعي مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا رجلا أو امرأة.
ويشترط شهادة الشاهد أولا وثبوت عدالته قبل اليمين، فلو حلف قبل أداء الشهادة
أو بعدها قبل التعديل وقعت لاغية وافتقر إلى إعادتها والأقرب أن الحكم يتم بالشاهد
واليمين معا لا بأحدهما والفائدة الغرم مع الرجوع، ولا يثبت دعوى الجماعة مع الشاهد
إلا أن يحلف كل واحد منهم فمن حلف ثبت نصيبه دون نصيب الممتنع، وليس لولد
الناكل بعد موته أن يحلف إلا في الوقف ولو مات قبل النكول فلولده أن يحلف وفي
وجوب إعادة الشهادة إشكال، ولو ورث الناكل الحالف قبل الاستيفاء استوفى المحلوف
عليه ما لم يكذبه في الدعوى.
ولا يحلف من لا يعرف ما يحلف عليه قطعا ولا يكتفى بما يجده مكتوبا بخطه وإن
كان محفوظا عنده وعلم عدم التزوير وكذا ما يجده بخط مورثه ولا يحلف ليثبت مالا
لغيره، فلو ادعى غريم الميت مالا للميت على غيره وأقام شاهدا حلف الوارث، وإن كان
413

الدين مستوعبا فإن امتنع الوارث لم يحلف الغريم ولا يجبر الوارث على اليمين، وكذا لو
ادعى رهنا وأقام شاهدا أنه للراهن لم يحلف لأن يمينه لإثبات مال الغير.
ويحلف الورثة لإثبات مال مورثهم ويقسم فريضة فإن امتنع بعضهم سقط نصيبه
ولم يزاحم الحالف، ولو كان وصية اقتسموه بالسوية إلا أن يفضل فإن امتنع بعضهم لم
يشارك الحالف، ولو كان بعضهم صبيا أو مجنونا وقف نصيبه فإن بلغ رشيدا حلف
واستحق وإلا فلا ولو مات قبل ذلك كان لوارثه الحلف واستيفاء نصيبه.
ولا يجب أخذ نصيب المولى عليه من الغريم وهل يطالب بكفيل؟ إشكال. وهل
للمولى عليه شركة فيما يقبضه الحالف؟ الأقرب ذلك إن كمل وحلف.
فروع:
أ: لو ادعى بعض الورثة الوقف من مورثهم عليهم وعلى نسلهم حلفوا مع الشاهد
وقضي لهم وإن امتنعوا حكم بالمدعى ميراثا لكن يحكم على مدعي الوقف بوقفية نصيبه
في حقه لا في حق الديان، ولو حلف بعضهم ثبت نصيب الحالف وقفا وكان الباقي
طلقا وينحصر فيه الديون والوصايا والفاضل ميراث وما يحصل من الفاضل للمدعين
الذين لم يحلفوا يكون وقفا، ولو انقرض الممتنع كان للبطن الثاني الحلف مع الشاهد
ولا يبطل حقهم بامتناع الأول.
ب: لو ادعى الوقف عليه وعلى أولاده وقف ترتيب حلف مع شاهده ولا يلزم
الأولاد بعده يمين أخرى وكذا لو آل إلى الفقراء أو المصالح لانقراض البطون، وإن كان
وقف تشريك افتقر البطن الثاني إلى اليمين لأنها بعد وجودها تصير كالموجودة وقت
الدعوى ويحتمل في الأول ذلك لأن البطن الثاني يأخذ من الواقف لا من البطن الأول.
ج: لو ادعى ثلاثة بنين تشريك الوقف بينهم وبين البطون فحلفوا ثم صار لأحدهم
ولد وقف له الربع من حينما يولد، فإن حلف بعد بلوغه أخذه، وإن امتنع قيل: يرجع
الربع إلى الثلاثة لأنهم أثبتوه بحلفهم ولا مزاحم إذ بامتناعه جرى مجرى المعدوم ويشكل
باعتراف الأولاد بعدم استحقاقهم له فيصرف إلى الناكل ولا يصرف إلى المدعى عليه
414

أولا ولا إلى ورثته.
ولو مات أحد الثلاثة قبل بلوع الصغير عزل له الثلث من حين وفاة الميت لصيرورة
الوقف أثلاثا وقد كان له الربع إلى حين الوفاة، فإن حلف بعد كماله أخذ الجميع،
وإن نكل كان الربع إلى حين الوفاة بين ورثة الميت والباقيين أثلاثا والثلث من حين
الوفاة للباقيين وفيه الإشكال ويمكن رجوعه إليه لا إلى المدعى عليه، ولو أكذب الناكل
الوقف لم يرد عليه شئ قطعا وكان للحالفين أو للواقف لأنه وقف تعذر مصرفه فيرجع
إلى ورثة الواقف.
د: لو ادعى البطن الأول الوقف على الترتيب وحلفوا مع شاهدهم فقال البطن
الثاني بعد وجودهم: إنه وقف تشريك، كانت الخصومة بينهم وبين البطن الأول، فإن
أقاموا شاهدا واحدا حلفوا معه وتشاركوا ولهم مطالبتهم بحصتهم من النماء من حين
وجودهم.
ه‍: لو ادعى البطن الأول الوقف مرتبا ونكلوا عن اليمين مع شاهدهم فوجد البطن
الثاني احتمل إحلافهم وعدمه إلى أن يموت البطن الأول، ومنشأ التردد جعل النكول
كالإعدام واعتراف الثاني ينفي استحقاقهم الآن، ولو حلف بعضهم ثم مات احتمل
صرف نصيبه إلى الناكل وإلى ولد الحالف وإلى الواقف لتعذر المصرف.
و: لو ادعى إعتاق عبد في ملكه وهو في يد غيره لم يحلف مع شاهده لأنه يثبت الحرية
ولو ادعى جارية ذات ولد في يد الغير ونسب الولد وأنها أم ولده حلف مع شاهده ليثبت
الرقبة دون الولد ويثبت حكم الاستيلاد بإقراره.
ز: يحلف في دعوى قتل الخطأ وشبهه مع الشاهد لا في العمد يكون شهادة الشاهد
لوثا يثبت معه الدعوى بالقسامة.
الفصل السادس: في النكول:
والأقرب أنه لا يقضى به بل يرد اليمين على المدعي، ولو نكل المدعي سقطت دعواه
في الحال وله إعادتها في غير المجلس وإنما ترد على المدعي إذا تم النكول بأن يقول:
415

لا أحلف أو أنا نأكل أو سكت، ويقول القاضي: احلف. وينبغي للحاكم أن يعرض له
اليمين ثلاث مرات ويشرح له حكم النكول، فإن لم يشرح وقضي بالنكول فرجع وقال:
لم أعرف حكم النكول، ففي جواز الحلف إشكال وحيث منعناه لو رضي المدعي بيمينه
فالأقرب جوازه ويحتمل أن يكون نكول المدعي كحلف المدعى عليه، ولو حلف فهو
كإقرار الخصم أو كالبينة إشكال لكن يستحق الحق به.
ولو قال المدعي: أمهلوني، أمهل بخلاف المدعى عليه. ولو أقام شاهدا واحدا ونكل
عن اليمين معه احتمل أن يكون له الحلف بعد ذلك وعدم القبول إلا بشاهد آخر، ولو
ادعى القاضي مالا لميت لا وارث له على انسان فنكل احتمال حبسه حتى يحلف أو يقر
والقضاء عليه وتركه، ولو ادعى الفقير أو الساعي إقرار المالك بثبوت الزكاة في ذمته لم
يحلفا مع نكوله بل يثبت الاحتمالات.
المقصد الخامس: في القضاء على الغائب:
وفيه فصول:
الفصل الأول: المدعي:
ولا بد أن يدعي معلوما في جنسه ووصفه وقدره صريحا بأن يقول: إني مطالب به،
فلو قال: لي عليه كذا، لم يكف في الحكم ويفتقر إلى البينة. وهل يشترط أن يدعي
جحود الغائب؟ نظر، فإن شرطناه لم يسمع دعواه لو اعترف بأنه معترف، ولو لم
يتعرض لجحوده سمعت ويحلف مع البينة على عدم الإبراء والإسقاط والاعتياض.
ولا يجب التعرض في اليمين لصدق الشهود، ولو ادعى وكيله على الغائب لم يحلف
ويسلم إليه الحق بعد كفيل فإن حلف موكله الغائب وإلا استعيد، وكذا يأخذ ولي
الطفل والمجنون المال مع البينة ويكفل لو ادعى الغريم البراءة ولو قال لوكيل الغائب:
أبرأني موكلك أو دفعت إليه، لم ينفعه وألزم بتسليم المال ثم يثبت الإبراء ويحتمل
الوقوف في الحكم لاحتمال صدقه.
416

ولا يجب على المدعي دفع الحجة سواء كان الغريم حاضرا أو غائبا لأنها حجة لو
خرج المدفوع مستحقا، وكذا لا يدفع البائع كتاب الأصل إلى المشتري لأنه حجة على
البائع الأول لو خرج المبيع مستحقا، ولو شرط المشتري دفعه لزم، ولو طلب نسخة أو
طلب المديون نسخ الحجة فالأقرب الإباحة، نعم للمشهود عليه أن يمتنع من الأداء حتى
يشهد القابض، وإن لم يكن عليه بينة تقصيا من اليمين.
الفصل الثاني: المحكوم عليه:
وبه يقضى على من غاب عن مجلس القضاء مطلقا وإن كان حاضرا على رأي أو
مسافرا دون المسافة، وقيل: يعتبر في الحاضر تعذر حضوره. ولا يشترط في سماع البينة
حضوره وإن كان في البلد، ولو كان غائبا جاز إحضاره مع البينة لا بدونها للمشقة إذا
لم يكن هناك حاكم، ويقضى على الغائب في حقوق الناس في الديون والعقود والطلاق
والعتق والجنايات والقصاص ولا يقضى في حقوقه تعالى عليه كالزنى واللواط لأنها على
التخفيف، ويقضى عليه في السرقة بالمال دون القطع، وللقاضي النظر في مال حاضر
ليتيم غائب عن ولايته.
أما المحكوم به فإن كان دينا أو عقارا يمكن تعريفه بالحد ضبط بما يميزه عن غيره،
وإن كان عبدا أو فرسا وما أشبهه مما يتميز بعلامة احتمل الحكم به بالحلية كالمحكوم
عليه وذكر القيمة دون الصفات كالثياب والأمتعة، وسماع البينة دون القضاء لفائدة
بعث العين إلى بلد الشهود ليشهدوا على عينه.
ويطالب بكفيل إذا أخذ العبد ولا يجب شراؤه والمطالبة بضمين على الثمن ويحتمل
إلزامه بالقيمة للحيلولة في الحال ثم يرد إليه مع الثبوت، ولو أنكر مثل هذا العبد
الموصوف في يده فعلى المدعي البينة على أنه في يده، فإن أقام أو حلف بعد النكول حبسه
إلى أن يحضره ويخلد عليه الحبس إلى أن يحضر أو يدعي التلف فيقبل منه القيمة ويقبل
دعوى التلف للضرورة لئلا يخلد الحبس، وإن حلف أنه ليس في يدي هذا العبد ولا بينة
بطلت الدعوى، وإذا علم المدعي أنه يحلف حول الدعوى إلى القيمة، ولو قال: ادعى
417

عبدا قيمته عشرة فإما أن يحضر العين أو القيمة، فالأقرب صحة هذا الدعوى وإن كانت
مترددة فلو أحضره ولم يثبت الدعوى فعلى المدعي مؤونة الإحضار ومؤونة الرد وفي ضمان
منفعة العبد إشكال.
الفصل الثالث: في كتاب قاض إلى قاض:
لا عبرة عندنا بالكتاب إجماعا سواء كان مختوما أو لا وسواء قال القاضي لشاهدي
الإنهاء: أشهدتكما على أن ما في هذه الكتاب خطي أو لا، وكذا لو قال: إن ما في
الكتاب حكمي، ما لم يفصل، ولو قال المقر: أشهد على بما في هذه القبالة وأنا عالم
به، فالأقرب أنه إن حفظ الشاهد القبالة أو ما فيها وشهد على إقراره جاز لصحة الإقرار
بالمجهول.
ولو شهدت البينة بالحكم وأشهدهما الحاكم على حكمه فالأقرب إنفاذ الثاني
للحاجة إلى الإثبات في البلاد البعيدة وتعذر وحمل شهود الأصل ولخوف الاندراس فإن
الشهادة الثالثة لا تسمع ولأنه لو أقر أن حاكما حكم عليه أنفذه الثاني، والبينة تثبت
ما يقر المقر به لو جحد، والنص المانع من العمل بكتاب قاض إلى قاض يتناول ما منعناه
أولا وإنما يثبت ما سوغناه في حقوق الناس دون الحدود وغيرها من حقوقه تعالى بشرط
أن يحضر شاهدا الإنهاء خصومة الغريمين ويسمعا حكم الحاكم بينهما ويشهدهما على
حكمه، فإذا شهدا عند الثاني أنفذ ما حكم به الأول لا أنه يحكم بصحته بل الفائدة
قطع الخصومة لو عاود الخصمان المنازعة، ولو لم يحضرا الخصومة وحكى لهما الدعوى
والحكم وأشهدهما عليه ففيه نظر أقربه القبول في اخباره كحكمه.
ولو كانت الدعوى على غائب فسمعها الشاهدان وإقامة البينة والحكم ثم أشهدهما
الحاكم به أنفذها الثاني أيضا، ولو أخبر الحاكم آخر بأنه حكم فالقبول أرجح، ولو
أخبر بأنه ثبت عنده أو شهد الشاهدان بالثبوت لم يفد شيئا، وإذا أراد إقامة البينة
بالحكم عند الثاني حكيا ما شاهداه من الخصومة وما سمعاه من الحاكم وقالا: أشهدنا
على حكمه وإمضائه. ولو قرئ عليهما الكتاب فقالا: أشهدنا بأنه حكم بذلك، جاز.
418

ويجب أن يضبط الشاهدان ما يشهدا به، فإن اشتبه على الثاني لم يحكم إلا بعد
الوضوح وللشاهد على الحكم أن يشهد عند المكتوب إليه وعند غيره، وإن لم يكتب
القاضي في كتابه إلى من يصل إليه من القضاة أو مات الكاتب أو المكتوب إليه ولو
تغيرت حال الأول بعزل أو موت لم يقدح في العمل بحكمه، ولو تغيرت بفسق لم يعمل
بحكمه ويقر ما سبق إنفاذه على زمان فسقه، أما المكتوب إليه فلا اعتبار بتغيره بل كل
حاكم قامت بينة الإنهاء عنده حكم.
ويجب أن يذكر الشاهدان اسم المحكوم عليه وأبيه وجده وحليته بحيث يتميز عن
مشاركه وذكره في الكتاب أيضا أحوط، فإن أقر المأخوذ أنه المحكوم عليه ألزم وإن أنكر
فالقول قوله مع اليمين إذا كانت الشهادة بوصف مشارك غالبا إلا أن يقيم المدعي البينة
أنه الخصم، ولو كان الوصف يتعذر مشاركته فيه إلا نادرا لم يلتفت إليه لأنه خلاف
الظاهر، ولو أظهر من يشاركه في الصفات اندفع الحكم عنه إلا أن يقيم المدعي البينة أنه
الخصم، وإن أنكر كونه مسمى بذلك الاسم فإن أقام المدعي بينة حكم عليه وإلا حلف
وانصرف القضاء عنه وإن نكل حلف المدعي وألزم، ولو لم يحلف على نفي الاسم بل
على أنه لا يلزمه شئ لم يقبل.
ولو قصر القاضي فكتب اسم المقر واسم أبيه خاصة فأقر رجل أنه يسمى باسمه وأن
أباه يسمى باسمه وأنه المعنى بالكتاب ولكن أنكر الحق فالوجه أنه يلزمه على إشكال
ينشأ من أن القضاء المبهم في نفسه غير ملزم، ولو ادعى أن في البلد مساويا له في الاسم
والوصف كلف إظهاره، فإن كان حيا سئل فإن اعترف أنه الغريم أطلق الأول وإن
أنكر وقف الحكم حتى ينكشف الغريم منهما، وإن كان ميتا وشهدت الحال ببراءته
إما لتأخر تاريخ الحق عن موته أو لأن الغريم لم يعاصره أو لغير ذلك لم يلتفت إليه وإلا
وقف حتى يظهر الأمر.
ولو اقتصر الحاكم على سماع البينة لم يحكم الثاني وإن كانت عادلة عنده، ولو قال
الخصم: أنا أجرح شاهدي الأصل أو الإنهاء في بلادهم، لم يمكن بل يسلم المال ثم إن
ظهر الجرح استرد.
419

المقصد السادس: في القسم:
وفيه فصول:
الفصل الأول: في حقيقة القسمة:
القسمة تمييز أحد النصيبين عن الآخر وإفراد الحق عن غيره وليست بيعا، وإن
تضمنت ردا فتجوز قسمة الثمار خرصا والمكيل وزنا وبالعكس ولا تصح إلا باتفاق
الشركاء. وإذا سأل الشركاء من الحاكم القسمة أجابهم وإن لم يثبت عنده الملك لهم
على رأي سواء كان عقارا نسبوه إلى ميراث أو غيره، وإذا سألها بعضهم أجبر الممتنع
عليها مع انتفاء الضرر بالقسمة وتسمى قسمة إجبار وشروطها ثلاثة: أن يثبت الملك عند
الحاكم أو يصدق الشريك عليه، وانتفاء الضرر، وإمكان تعديل السهام من غير شئ
يجعل معها.
ولو تضمنت ردا لم يجبر الممتنع عليها ويسمى قسمة تراض كأرض قيمتها مائة فيها
بئر تساوى مائتين احتاج من يكون نصيبه الأرض إلى أخذ خمسين من صاحبه وتكون
بتعديل السهام والقرعة، ولو أراد أحدهم التخير لم تجب القسمة ولا يجبر الممتنع عليها،
وإن اشتملت القسمة على ضرر كالجواهر والعضائد الضيقة والسيف والسكين وشبهه لم
تجز قسمته ولو اتفق الشركاء عليها، ولو طلب أحد الشريكين المهاياة من غير قسمة إما في
الاجزاء كأن يسكن أو يزرع هذا المعين والآخر الباقي أو في الزمان لم يجبر الممتنع سواء
كان مما يصح قسمته أو لا على إشكال، ولو اتفقا جاز ولا تلزم بل لكل منهما الرجوع.
الفصل الثاني: القاسم:
وعلى الإمام أن ينصب قاسما للحاجة إليه ويشترط فيه: البلوغ والعقل والإيمان
والعدالة ومعرفة الحساب ويرزقه من بيت المال كما كان لعلي ع ولا يشترط
الحرية. ولو اتفق الشركاء على قاسم غيره جاز ولا يشترط فيه شئ مما تقدم سوى
التكليف فيجوز لو كان فاسقا أو كافرا بل لو تراضوا على القسمة بأنفسهم من غير قاسم
420

أصلا جاز.
ثم القاسم إن كان من قبل الإمام مضت قسمته بنفس القرعة بعد التعديل لأن قرعة
قاسم الحاكم بمنزلة حكمه ولا يعتبر رضاؤهما بعدها، وإن نصباه وكان بشرائط صفة
قاسم الحاكم أولا أو اقتسماه بأنفسهما من غير قاسم يقف اللزوم على الرضا بعد القرعة
وفيه نظر من حيث أن القرعة سبب التعيين وقد وجدت مع الرضا، ولو تراضيا على أن
يأخذ أحدهما قسما بعينه والآخر الآخر من غير قرعة جاز، وإذا لم يكن رد أجزأ القاسم
الواحد وإلا وجب اثنان لأنها يتضمن التقويم ولا يكفي فيه الواحد، ولو رضي الشريك
لم يجب الثاني، وليس للقاضي أن يقضي بالتقويم باعتقاده لأنه تخمين ويحكم بالعدالة
باعتقاده.
وأجرة القاسم من بيت المال، فإن لم يكن إمام أو ضاق عنه بيت المال فالأجرة على
المتقاسمين، فإن استأجره كل منهما بأجرة معلومة ليقسم نصيبه جاز، وإن استأجروه
جميعا في عقد بأجرة معينة ولم يعينوا نصيب كل واحد من الأجرة لزمتهم الأجرة
بالحصص ويحتمل التساوي للتساوي في العمل ويضعف بالحافظ والأجرة عليهما وإن
كان الطالب أحدهما.
الفصل الثالث: في متعلق القسمة:
المقسوم إن كان متساوي الأجزاء كالحبوب والأدهان وغيرهما مما له مثل صحت
قسمته قسمة إجبار سواء كان جامدا كالحبوب والثمار أو مائعا كالدهن والعسل
والسمن، ولو تعددت الأجناس فطلب أحدهما قسمة كل نوع على حدته أجبر الممتنع
وإن طلب قسمتها أنواعا بالقيم لم يجبر ويقسم كيلا ووزنا متساويا ومتفاوتا ربويا
كان أو غيره.
وإن كان مختلف الأجزاء كالأشجار والعقار والحيوان والأواني والجواهر وغيرها فإن
تضرر الشركاء بأجمعهم لم تصح القسمة ولا يجبر الممتنع عليها، وإن استضر بعضهم فإن
كان الطالب هو المتضرر أجبر الممتنع وإلا فلا، وإن انتفى الضرر عن الجميع وجبت
421

القسمة مع طلب بعضهم وأجبر الممتنع.
ويحصل الضرر المانع من الإجبار بنقصان القيمة وقيل: بعدم الانتفاع بالنصيب.
وإذا لم يتضمن القسمة ردا أجبر الممتنع عليها وإن تضمنت لم يجبر، والثوب إن نقص
بالقطع لم يقسم قسمة إجبار وإن لم ينقص وجبت، ولو تعددت الثياب فإن اتحد
الجنس قسمت بالتعديل قسمة إجبار وإن اختلفت ولم يمكن قسمة كل ثوب على حدته
لم تجب، والعبيد تقسم بالتعديل قسمة إجبار على إشكال.
ولا تصح قسمة الوقف لعدم انحصار المستحق في المقاسم وإن تغاير الواقف، ولو
كان بعض الملك طلقا صحت قسمته مع الوقف وإن اتحد المالك، ولو تضمنت ردا جاز
من صاحب الوقف خاصة فإن كان في مقابلة الوصف فالجميع وقف.
والقناة والحمام وما لا يقبل القسمة تجري فيها المهاياة ولا تلزم، فإن رجع بعد
استيفاء نوبته غرم قيمة ما استوفاه، ولا يباع المشترك مع النزاع وعدم إمكان القسمة
وانتفاء المهاياة، ولو ساوى أحد العبدين ألفا والآخر ستمائة فإن رد أخذ الجيد مائتين
تساويا ولا إجبار ولو انفرد أحدهما بالردئ وخمس الجيد لنزول الشركة على أحد العبدين
استويا لكن الأقرب أنه لا يجبر عليه لأن أصل الشركة قائم ويحتمل أن يكون كقسمة
التعديل.
الفصل الرابع: في كيفية القسمة:
قد يكون قسمة إجبار وقد يكون قسمة تراض وقد مضى تفسيرهما. وقسمة الإجبار ما
يمكن التعديل فيها من غير رد وأقسامها أربعة: أن يتساوى السهام ويتساوى أجزاء
المقسوم أو يختلف السهام ويتساوى قيمة الأجزاء وبالعكس.
فالأول: كأرض متساوية الأجزاء في القيمة بين ستة لكل واحد سدسها وهذه
تقسم ستة أجزاء بالمساحة ثم يقرع بأن تكتب رقاع بعدد السهام متساوية ثم يتخير في
اخراج الأسماء على السهام أو بالعكس.
فإن أخرج الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم كل واحد من الشركاء
422

ويجعل في بندقة من شمع أو طين متساوية ويقال لمن لم يحضر القسمة: أخرج بندقة
على هذا السهم، فيكون لمن خرج اسمه ثم يخرج أخرى على الآخر إلى أن ينتهي.
وإن أخرج على الأسماء كتب في الرقاع أسماء السهام فكتب في رقعة الأول مما
يلي جهة كذا وفي الأخرى الثاني إلى أن ينتهي ثم يخرج رقعة على واحد بعينه فيكون له
السهم الذي في الرقعة.
الثاني: أن تتفق السهام خاصة فيعدل الأرض بالقيمة ويجعل ستة أسهم متساوية
القيمة ويفعل كالأول.
الثالث: أن يتساوى القيمة خاصة كأرض متساوية الأجزاء في القيمة لواحد نصفها
ولآخر ثلثها ولثالث سدسها فإنها يقسم ستة أجزاء على قدر الأقل وتعدل بالأجزاء،
ويكتب ثلاث رقاع بأسمائهم ويجعل للسهام أول وثان إلى الأخير، ويتخير في ذلك
الشركاء فإن تعاسروا عينه القاسم، ثم يخرج رقعة على السهم الأول فإن خرجت
لصاحب السدس أخذه، ثم أخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ
الثاني والثالث وكانت الثلاثة الباقية لصاحب النصف، وإن خرجت الثانية لصاحب
النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث، وإن
خرجت الأولى لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول ثم يخرج الثانية على الرابع فإن
خرجت لصاحب الثلث أخذه مع الخامس وكان السادس لصاحب السدس، وإن
خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ الآخر الخامس والسادس، وإن خرجت
الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم يخرج الثانية على الثالث فإن خرجت
لصاحب السدس أخذه وأخذ الثالث الثلاثة الباقية، وإن خرجت الثانية لصاحب
النصف أخذ الثالث والرابع والخامس وكان السادس للأخير.
ولا يفتقر إلى كتبة ست رقاع لصاحب النصف ثلاث ولصاحب الثلث اثنتان
ولصاحب السدس واحدة كما توهمه بعضهم لعدم فائدته فإن المقصود خروج صاحب
النصف، ولا يصح أن يكتب رقاعا بأسماء السهام ويخرجها على أسماء الشركاء لأدائه
إلى التضرر بتفريق السهام لأنه قد يخرج السهم الثاني لصاحب السدس فإذا خرجت
423

الثانية باسم صاحب النصف أو الثلث فيها السهم الأول حصل الضرر.
الرابع: أن يختلف السهام والقيمة فيعدل السهام بالتقويم ويجعلها على أقلهم نصيبا
ستة أقسام متساوية القيمة ثم يخرج الرقاع على أسماء السهام.
أما قسمة التراضي وهي التي يتضمن ردا في مقابلة بناء أو شجر أو بئر فإنما تصح
مع رضي الجميع، وإذا اتفقا على الرد وعدلت السهام قيل: لا يلزم بنفس القرعة
لتضمنها المعاوضة ولا يعلم كل واحد من يحصل له العوض فافتقر إلى الرضا بعد القرعة.
ولو طلب أحدهما الانفراد بالعلو أو السفل أو قسمة كل منهما منفردا لم يجبر الممتنع بل
يأخذ كل منهما نصيبه من العلو والسفل بالتعديل، ولو طلب أحدهما قسمة السفل
خاصة ويبقى العلو مشتركا أو بالعكس لم يجبر الآخر لأن القسمة للتمييز ومع بقاء
الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز.
ولو كان بينهما خان أو دار متسعة ولا ضرر في القسمة أجبر الممتنع ويفرد بعض
المساكن عن بعض وإن تكثرت، أما لو كان خانان أو داران فطلب أحدهما أن يجمع
نصيبه في أحد الدارين أو أحد الخانين لم يجبر الممتنع، ولو كان بينهما قرحان متعددة
وطلب أحدهما قسمتها بعضها في بعض لم يجبر الممتنع، ولو طلب قسمة كل واحد على
حدته أجبر الآخر.
ويقسم القراح الواحد وإن اختلفت أشجار إقطاعه كالدار المتسعة، ولا يقسم
الدكاكين المتجاورة بعضها في بعض قسمة إجبار لتعددها ويقصد كل واحد بالسكنى
منفردا، ولو اشترك الزرع والأرض فطلبا قسمة الأرض خاصة أجبر الممتنع لأن الزرع
كالمتاع، ولو طلب قسمة الزرع أجبر على رأي أما لو كان بذرا لم يظهر لا تصح وتصح لو
كان سنبلا على رأي، ولو كان فيها غرس وطلب أحدهما قسمة أحدهما أعني الأرض أو
الشجر خاصة لم يجبر الآخر، ولو طلب قسمتهما معا بعضا في بعض أجبر الآخر مع
إمكان التعديل لا مع الرد.
ولو كانت الأرض عشرة أجربة قيمة جريب منها يساوى تسعة، فإن أمكن قسمة
الجميع بينهما بأن يكون لأحدهما نصف الجريب ونصف التسعة وللآخر مثله وجب،
424

وإن تعذر جعل الجريب قسما والتسعة وأجبر الممتنع عليها، ولو كان الحمام كبيرا
يبقى منفعته بعد القسمة إذا جدد مستوقده وبئره صحت.
الفصل الخامس: في الأحكام:
القسمة لازمة ليس لأحد المتقاسمين فسخها إلا مع الاتفاق عليه، ولو ادعى أحد
المتقاسمين الغلط عليه وأنه أعطي دون حقه لم يتوجه له الدعوى على قسام القاضي بغير
الأجرة ولا له عليه يمين بل إن أقام بينة نقضت القسمة، وإن فقدها كان له إحلاف
شريكه، فإن حلف برئ وإن نكل أحلف هو ونقضت هذا في قسمة الإجبار أما قسمة
التراضي فالأقرب أنه كذلك.
ولو ظهر استحقاق بعض المقسوم فإن كان معينا وكان كله أو أكثره في نصيب
أحدهما بطلت القسمة، وإن كان بالسوية لم ينقض وأخرج من النصيبين سواء اتحدت
جهته أو تعددت ما لم يحدث نقص في حصة أحدهما بأخذه ويظهر تفاوت فإن القسمة
حينئذ تبطل مثل أن يسد طريقه أو مجرى مائه أو ضوئه، وإن كان غير معين بل مشاعا
بينهما فالأقرب البطلان، وقيل: بالصحة. ولا فرق فيما ذكرناه بين أن يكونا عالمين
بالاستحقاق أو جاهلين أو أحدهما عالما.
ولو ظهر استحقاق بعض معين في نصيب أحدهما واستحقاق بعض آخر لغير الأول
في نصيب الآخر فإن كان الباقي على تعديله صحت القسمة وإلا بطلت، ولو قسم الورثة
التركة وظهر دين فإن أدوه وإلا بطلت، ولو امتنع بعضهم من الأداء بيع نصيبه خاصة في
قدر ما يصيبه من الدين ولو اقتسموا البعض وكان في الباقي وفاء أخرج منه الدين فإن
تلف قبل أدائه كان الدين في المقسوم تنقض إن لم يؤد الورثة.
ولو ظهر عيب في نصيب أحدهما احتمل بطلان القسمة لانتفاء التعديل الذي هو
شرط صحتها فيتخير الشريك بين أخذ الأرش والفسخ، ولو اقتسما حيوانا لم يضمن
أحدهما لصاحبه المتجدد في الثلاثة، ولو ظهر استحقاق أحد النصيبين أو بعضه بعد بناء
الشريك فيه أو غرسه لم يضمن شريكه قيمة بنائه وغرسه ولا أرشه سواء كانت قسمة
425

إجبار أو تراض، ولو ظهرت وصية بجزء من المقسوم فكالمستحق ولو كانت بمال
فكالدين.
ولو أخذ أحد الشريكين بيتا في دار والآخر غيره وبيت الأول يجري ماؤه في حصة
الثاني لم يكن للثاني منعه من الجريان عليه إلا أن يشترط رد الماء عنه وإن أطلق أبقى
على حاله، ولو وقع الطريق لأحدهما وكان لحصة الآخر منفذ إلى الدرب صحت القسمة
وإلا بطلت إلا أن يجعل عليه مجازا في حصته أو يشترط سقوط المجاز، ولو كان مسلك
البيت الواقع لأحدهما في نصيب الآخر فهو كمجرى الماء.
ولولي الطفل المطالبة بالقسمة مع الغبطة لا بدونها ولو طلب الشريك القسمة وانتفى
الضرر أجبر الولي عليها وإن كانت الغبطة في الشركة، ولو قال صاحب النصف:
رضيت بالشرقي، مثلا، وقال الآخر: رضيت بالغربي، ولم يتميز بالمساحة أحد النصفين
عن الآخر لم يصح القسمة.
المقصد السابع: في متعلق الدعاوي المتعارضة:
وفيه فصول:
الفصل الأول: في دعوى الأملاك:
لو تداعيا عينا في يدهما ولا بينة قضي لهما بها نصفين وحلف كل واحد لصاحبه،
ولو نكلا قسمت بينهما بالسوية أيضا، ولو نكل أحدهما وحلف الآخر فهي للحالف وإن
أقام كل منهما بينة فكذلك يقضى لكل منهما بما في يد صاحبه، ولو أقام أحدهما بينة
قضي له بالجميع، ولو كانت العين في يد أحدهما قضي له بها إن لم يكن بينة وعليه
اليمين لصاحبه.
ولو أقام كل منهما بينة فهي للخارج وقيل: للداخل. ولو أقام الداخل بينة لم تسقط
عنه اليمين ولو أقام الخارج انتزعها، ولو كانت في يد ثالث حكم لمن يصدقه بعد اليمين
منهما ولو كذبهما معا أقرت في يده بعد أن يحلف لهما ولو صدقهما كانت بينهما
بالسوية وأحلف لهما وأحلف كل لصاحبه، ولو قال: ليست لي ولا أعرف صاحبها أو
426

هي لأحدكما ولا أعرف عينه، أقرع بينهما لتساويهما في الدعوى وعدم البينة.
ولو كان لأحدهما بينة حكم بها وحلف للآخر، ولو أقاما بينة قضي لأرجحهما
عدالة فإن تساويا فلأكثرهما عددا فإن تساويا أقرع بينهما فمن خرج اسمه أحلف
وأعطي الجميع، فإن نكل أحلف الآخر وقضي له فإن نكلا قسم بينهما وقيل: يقضى
بالقرعة مع الإطلاق ويقسم مع الشهادة بالسبب ويختص ذو السبب.
ولو أنكرهما فأقام أحدهما بينة حكم له، وإن أقاما بينتين أقرع، وإن أقر بها بعد
إنكاره لهما أو لأحدهما قبل إقراره إذا لم يكن بينة، وإن أقر لأحدهما ابتداء من غير سبق
إنكار صار المقر له صاحب اليد، ولو قال: هي لأحدكما لا أعرفه عينا ولا
أعرف صاحبها أ هو أحدكما أو غيركما أو صاحب اليد، أو قال: أودعنيها أحدهما أو
رجل لا أعرفه عينا، فادعيا عليه العلم حلف لكل منهما على نفي العلم، وإن صدقاه
فلا يمين عليه، ولو صدقه أحدهما حلف للآخر، وإن أقر بها لأحدهما أو لغيرهما صار
المقر له صاحب اليد.
فإن قال غير من أقر له: احلف لي على أنها ليست ملكي أو لست المودع لك،
حلف. فإن نكل أغرم القيمة، وإن اعترف بها لهما فهي كما لو كانت في أيديهما
ابتداء وعليه اليمين لكل منهما في النصف المحكوم به لصاحبه وعلى كل منهما اليمين
لصاحبه في النصف المحكوم له به.
ولو كان في يد كل منهما عبد فادعاهما كل منهما فلكل منهما ما في يده، فإن أقاما
بينة قضي لكل منهما بالعبد الذي في يد الآخر، ولو أقام أحدهما بينة قضي له بهما.
ولو تداعى الزوجان متاع البيت حكم لذي البينة، فإن فقدت فيد كل واحد على
النصف يقضى له به بعده ويحلف كل منهما لصاحبه سواء صلح لهما أو لأحدهما وسواء
كانت الزوجية قائمة أو لا وسواء كانت الدار لهما أو لأحدهما أو لثالث وسواء تنازع
الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما مع ورثة الآخر، وقيل: يحكم للرجل بما يصلح له وللمرأة
بما يصلح لها ويقسم ما يصلح لهما. وروي: أنه للمرأة، لأنها تأتي بالمتاع من أهلها.
ولو ادعى أبو الميتة أنه أعارها بعض ما في يدها من متاع أو غيره كلف البينة كغيره،
427

وروي: أنه يصدق بغير بينة، وكذا البحث لو تنازعا في بعضه. ولو كان في دكان عطار
ونجار فاختلفا في قماشه حكم لكل بآلة صناعته، ولو اختلف المؤجر والمستأجر في شئ
في الدار فإن كان منقولا فهو للمستأجر وإلا فهو للمؤجر كالرفوف والسلم المثبت
والرحى المنصوبة، ولو كان الخياط في دار غيره فتنازعا في الإبرة والمقص حكم بهما
للخياط لقضاء العادة بأن من دعا خياطا إلى منزله فإنه يستصحب ذلك معه، ولو تنازعا
في القميص فهو لصاحب الدار لأن العادة أن القميص لا يحمله الخياط إلى منزل غيره.
وراكب الدابة أولى من قابض لجامها، وصاحب الحمل أولى والسرج لصاحب
الدابة دون الراكب، والراكب أولى بالحمل من صاحب الدابة، ولو تنازعا صاحب العبد
وغيره في ثياب العبد فهي لصاحب العبد لأن يد العبد عليها، ولو تنازع صاحب الثياب
وآخر في العبد تساويا لأن نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحبه، ولو تنازع صاحب
الأرض والنهر في حائط بينهما فهو لهما لأنه حاجز بينهما فتساويا، ولو ادعى رقية صغير
مجهول النسب في يده حكم له ظاهرا فلو بلغ وأنكر أحلف وكذا لو كان في يد اثنين، ولو
كان كبيرا لم يحكم برقيته إلا أن يصدقهما أو يصدق أحدهما فيكون مملوكا له دون
الآخر.
مسائل:
أ: لو كانت في أيديهما عين فادعاها أحدهما وادعى الآخر نصفها ولا بينة فهي
بينهما بالسوية وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه ولا يمين على صاحبه، ولو أقام كل
منهما بينة فالنصف للمستوعب وتعارضت البينتان في النصف الذي في يد صاحب
النصف فإن حكمنا به للخارج فهو لمدعي الكل أيضا ولا شئ لمدعي النصف وإن
حكمنا به لذي اليد فهو لصاحب النصف.
ولو أقام أحدهما بينة حكم بها، ولو كانت في يد ثالث لا يدعيها وأقاما بينة
فللمستوعب النصف ويتعارض البينتان في الآخر فيحكم للأعدل فللأكثر فإن تساويا
أقرع، ويقضى للخارج مع يمينه فإن امتنع أحلف الآخر وإن نكلا قسم بينهما
428

فللمستوعب ثلاثة الأرباع وللآخر الربع ويحتمل أن يكون لمدعي الكل الثلثان ولمدعي
النصف الثلث لأن المنازعة وقعت في أجزاء غير معينة ولا مشار إليها فيقسم على طريق
العول.
ب: لو كانت في يد ثلاثة فادعى أحدهم النصف والثاني الثلث والثالث السدس
فيد كل واحد على الثلث، فصاحب الثلث لا يدعي زيادة عما في يده وصاحب السدس
يفضل في يده سدس لا يدعيه سوى مدعي النصف فيحكم له به وكذا لو أقاموا بينة، ولو
ادعى كل منهم أن باقي الدار وديعة أو عارية معه وكانت لكل واحد منهم بينة بما ادعاه
من الملك قضي له به لأن بينته تشهد له بما ادعاه ولا معارض لها، وإن لم يكن لواحد
بينة حلف كل منهم وأقر في يده ثلثها.
ج: لو ادعى أحدهم الجميع والثاني النصف والثالث الثلث ويدهم عليها فإن لم
يكن بينة فلكل الثلث وعلى الثاني والثالث اليمين للمستوعب وعليه وعلى الثالث اليمين
للثاني، وإن أقام المستوعب بينة أخذ الجميع، وإن أقام الثاني أخذ النصف والباقي بين
الآخرين نصفان للمستوعب السدس بغير يمين ويحلف على نصف السدس ويحلف الثالث
على الربع الذي يأخذه جميعه، وإن أقام الثالث أخذه والباقي بين الآخرين للمستوعب
السدس بغير يمين ويحلف على السدس الآخر ويحلف الثاني على جميع ما يأخذه.
وإن أقام كل بينة فإن قضي للداخل قسمت أثلاثا لأن لكل واحد بينة ويدا على
الثلث، وإن قضي للخارج سقطت بينة الثالث لأنها داخلة، وللثاني السدس لأن بينته
خارجة فيه، وللمستوعب خمسة أسداس لأن له السدس بغير بينة لأنه لا منازع له فيه فإن
أحدا لا يدعيه وله الثلثان لكون بينته خارجة فيهما، ويحتمل أن يقال: في يد كل واحد
الثلث أربعة من اثني عشر، فللمستوعب مما في يده ثلثه بغير منازع والأربعة التي في يد
الثاني لقيام البينة للمستوعب بها وسقوط بينة الثاني بالنظر إليها لأنه داخلة وثلثه مما في
يد الثالث ويبقى واحد مما في يد المستوعب للثاني وواحد مما في يد الثالث يدعيه كل
من الثاني والمستوعب فيقرع ويقضى للخارج بعد اليمين، فإن امتنع حلف الآخر فإن
امتنعا قسم نصفين فيحصل للمستوعب عشرة ونصف وللثاني واحد ونصف ويسقط
429

الثالث.
ولو كانت يدهم خارجة فالنصف للمستوعب لعدم المنازع ويقرع في الآخر فإن
خرجت للمستوعب أو للثاني حلف وأخذ، وإن خرجت للثالث حلف وأخذ الثلث ثم
يقرع بين الآخرين في السدس، ولو أقاموا بينة فالنصف للمستوعب لعدم المنازع،
والسدس الزائد يتنازعه المستوعب والثاني، والثلث يدعيه الثلاثة وقد تعارضت البينات
فيه فيقرع بين المتنازعين فيما تنازعوا فيه فمن خرج صاحبه حلف وأخذ، ويكون الحكم
كما لو لم يكن بينة.
ولو نكلوا عن الأيمان أخذ المستوعب النصف ونصف السدس الزائد عن الثلث وثلث
الثلث، والثاني نصف السدس وثلث الثلث، والثالث التسع فيخرج من ستة وثلاثين
للمستوعب خمسة وعشرون وللثاني سبعة وللثالث أربعة ويحتمل أن يقال: أقل عدد له ثلث
ونصف ستة، فالثالث يدعي اثنين والثاني ثلثه فيتخلص ثلثه للمستوعب بغير منازع،
وتنازع المستوعب والثاني في السهم من الثلاثة الباقية فيقسم بينهما فتضرب اثنين في
ستة يصير اثنا عشر للمستوعب ستة بغير منازع والثالث لا يدعي أكثر من أربعة فسهمان
بين المستوعب والثاني يبقى أربعة يتنازع الثلاثة فيها بالسوية فيقسم أثلاثا فيكمل
للمستوعب ثمانية وثلث وللثاني اثنان وثلث وللثالث أحد وثلث، وعلى العول للمستوعب
ستة وللثاني ثلاثة وللثالث سهمان فيصح من أحد عشر.
د: لو ادعى أحدهم الجميع والثاني الثلثين والثالث النصف احتيج إلى حساب له
ثلثان ونصف وذلك ستة، فالثاني يدعي أربعة والثالث ثلاثة فلا منازعة لهما في سهمين
فهما للمستوعب يبقى أربعة لا يدعي الثالث إلا ثلاثة فيبقي سهم يتنازعه المستوعب
والثاني فيكون بينهما فينكسر فيضرب اثنين في ستة فيصير اثنا عشر، فالثاني لا يدعي
أكثر من ثمانية فتسلم أربعة للمستوعب، والثالث لا يدعي أكثر من ستة فسهمان
للمستوعب والثاني لكل منهما سهم، وبقيت ستة استوت منازعتهم فيها فلكل واحد
سهمان، فللمستوعب سبعة هي نصف ونصف سدس، وللثاني ثلاثة وهي ربع،
وللثالث سهمان هي سدس.
430

وعلى العول يضرب المستوعب بالكل وهو ستة والثاني بالثلثين وهو أربعة والثالث
بالنصف وهو ثلاثة فالجميع ثلاثة عشر للمستوعب ستة من ثلاثة عشر وللثاني أربعة
وللثالث ثلاثة، أما لو كانت يدهم عليها ففي يد كل واحد الثلث فيصح من أربعة
وعشرين لأنا نجمع بين دعوى المستوعب والثاني على ما في يد الثالث، فالمستوعب يدعيه
أجمع والثاني يدعي نصفه فالنصف للمستوعب فصار أرباعا فالجميع اثنا عشر، ثم يجمع
بين دعوى المستوعب والثالث على ما في يد الثاني وهو الثلث من اثني عشر، فالمستوعب
يدعيها والثالث ربعها فسلمت ثلاثة للمستوعب وتنازعا في سهم فانكسر فصار أربعة
وعشرين في يد كل واحد ثمانية.
ثم نجمع بين دعوى المستوعب والثاني على ما في يد الثالث وهي ثمانية، فأربعة
سلمت للمستوعب بلا منازعة لأنه لا يدعي إلا ستة عشر من الجميع والثمانية في يده،
وأربعة في يد المستوعب، وأربعة في يد الثالث، والأربعة الأخرى بالسوية بينهما، فحصل
للمستوعب ستة وللثاني سهمان ثم نجمع بين دعوى المستوعب والثالث فيما في يد
الثاني، فالثالث يدعي سهمين فستة سلمت للمستوعب وتنازعا في سهمين فلكل سهم
فصار للمستوعب سبعة وللثالث سهم، ثم نجمع بين دعوى الثالث والثاني على ما في يد
المستوعب وهو ثمانية، فالثاني يدعي أربعة والثالث سهمين فيأخذ الثاني أربعة والثالث
سهمين يبقى في يد المستوعب سهمان له، فحصلت للمستوعب من الثالث ستة
ومن الثاني سبعة وبقي في يده سهمان فالجميع خمسة عشر، وحصل للثالث من الثاني سهم ومن
المستوعب اثنان وذلك ثلاثة وحصل للثاني مما في يد الثالث سهمان ومن المستوعب أربعة وذلك ستة.
وعلى العول نجمع بين دعوى المستوعب والثاني على ما في يد الثالث، فالمستوعب
يدعيه أجمع والثاني يدعي نصفه فيضرب هذا بسهم وهذا بسهمين صار ثلاثة، ثم نجمع
بين دعوى المستوعب والثالث على ما في يد الثاني فالثالث يدعي ربعه والمستوعب يدعي
كله، ومخرج الربع أربعة فيضرب هذا بسهم وهذا بأربعة فيصير ما في يده خمسة، ثم
نجمع بين دعوى الثالث والثاني على ما في يد المستوعب فالثالث يدعي ربع ما في يده
431

والثاني نصفه والنصف والربع من أربعة فيجعل ما في يده أربعة فانكسر حساب العين
على الثلث والربع والخمس فاضرب ثلاثة في أربعة وخمسة في المرتفع تبلغ ستين، ثم ثلاثة
في ستين لأن في يد كل واحد الثلث تبلغ مائة وثمانين في يد كل واحد ستون، فثلث ما
في يد الثالث للثاني وهو عشرون وثلثاه أربعون للمستوعب، وخمس ما في يد الثاني وهو
اثنا عشر للثالث وأربعة أخماسه للمستوعب ثمانية وأربعون ونصف ما في يد المستوعب وهو
ثلاثون للثاني وربعه خمسة عشر للثالث وبقي مما في يده خمسة عشر له فيكمل
للمستوعب مائة وثلاثة وللثاني خمسون وللثالث سبعة وعشرون.
ه‍: لو كانت في يد أربعة فادعى أحدهم الكل والثاني الثلثين والثالث النصف
والرابع الثلث فإن لم يكن بينة فلكل الربع الذي في يده بعد التحالف، ولو كانت
يدهم خارجة فإن أقام أحدهم بينة حكم له وإن أقام كل بينة خلص للمستوعب الثلث
بغير مزاحم ويبقى التعارض بين بينة المستوعب والثاني في السدس فيقرع بينهما بعد
تساوى البينتين عدالة وعددا، ثم يقع التعارض بين بينة المستوعب والثاني والثالث في
السدس فيقرع بينهما فيه، ثم التعارض بين الأربعة في الثلث فيقرع ولا يقضى للخارج
إلا مع اليمين فإن نكل حلف الآخر فإن امتنع قسما ولا استبعاد في حصول الكل
للمستوعب فإن حكمه تعالى غير مخطئ.
ولو نكل الجميع عن الأيمان قسم ما يقع فيه التنازع بين المتنازعين في كل مرتبة
بالسوية فيكون الإقراع هنا في ثلاثة مواضع أو نقول: يأخذ المستوعب الثلث، ثم يتقارع
الجميع في الباقي فإن خرجت المستوعب أو الثاني أخذه، وإن خرج الثالث أخذ النصف
وأقرع بين الثلاثة في الباقي، وإن خرج الرابع أخذ الثلث وأقرع بين الثلاثة في الثلث
الباقي.
وتصح المسألة من ستة وثلاثين للمستوعب عشرون وللثاني ثمانية وللثالث خمسة
وللرابع ثلاثة، ولو كانت في أيديهم ففي يد كل واحد الربع، فإذا أقام كل بينة بدعواه
فإن قضي للداخل فلكل الربع لأن له بينة ويدا وعلى القضاء للخارج تسقط بينة كل
واحد بالنظر إلى ما في يده ويسمع فيما في يد غيره، فيجمع بين كل ثلاثة على ما في يد
432

الرابع وينتزع لهم ويقضى فيه بالقرعة واليمين ومع الامتناع بالقسمة، فيجمع بين
المستوعب والثالث والرابع على ما في يد الثاني وهو ربع اثنين وسبعين وذلك ثمانية عشر
فالمستوعب يدعيها أجمع والثالث يدعي ثلثها والرابع تسعها فيخلص للمستوعب عشرة.
ويتقارع المستوعب والثالث في ستة فيحلف الخارج أو الآخر أو يتقاسمان، ويتقارع
المستوعب والرابع في اثنين ويحلف الخارج أو الآخر أو يقسم، ثم يجتمع دعوى الثلاثة على
ما في يد الثالث فالمستوعب يدعيه والثاني يدعي خمسة اتساعه والرابع يدعي تسعا
فيخلص الثلث للمستوعب، ويقارع الآخرين على ما ادعياه فيحلف الخارج أو الآخر أو
يقسم، ثم تجتمع الثلاثة على ما في يد الرابع فالمستوعب يدعيه والثاني يدعي خمسة
اتساعه والثالث يدعي ثلثه يبقى تسعة اثنان للمستوعب ويقارع الباقيين على ما تقدم فإن
امتنعوا من الأيمان فالقسمة، ثم تجتمع الثلاثة على ما في يد المستوعب فالثاني يدعي خمسة
اتساعه والثالث ثلثه والرابع تسعة فيخلص عما في يده فيكمل للمستوعب النصف
وللثاني عشرون وللثالث اثنا عشر وللرابع أربعة هذا مع امتناع الخارج بالقرعة ومقارعة
من اليمين.
و: لو انتهب الأبوان والزوج التركة وادعى كل على صاحبه أخذ الزيادة عن حقه
فأمرهم الحاكم بأن يرد الزوج نصف ما معه والأم ثلث ما معها والأب سدس ما معه
وقسم المردود بينهم بالسوية فوافق المردود والمتخلف نصيبه، فطريق معرفة قدر المال وقدر
المنهوب وقدر نصيب كل واحد بحسب ما يستحقه أن نفرض منتهب الزوج شيئا
ومنتهب الأم دينارا ومنتهب الأب درهما هي التركة كلها، والمردود نصف شئ وثلث
دينار وسدس درهم، فالراجع إلى الزوج سدس شئ وتسع دينار وثلث سدس درهم
فيكمل معه ثلثا شئ وتسع دينار وثلث سدس درهم يعدل نصف التركة، فإذا أسقط
نصف الشئ من الثلثين وتسع دينار من نصفه وثلث سدس درهم من نصفه يتخلف
سدس شئ يعدل سبعة أجزاء من ثمانية عشر جزءا من دينار وثمانية أجزاء من ثمانية
عشر جزء من درهم، فالشئ الكامل يعدل دينارين وثلث دينار ودرهمين وثلثي درهم
فالتركة ثلاثة دنانير وثلث دينار وثلاثة دراهم وثلثا درهم.
433

فإذا أردت معرفة نسبة الدرهم من الدينار قلنا: نصيب صاحب الثلث دينار وسدس
دينار ونصف درهم يعدل ثلث التركة، وبعد اسقاط المتكرر يبقى جزءا من ثمانية عشر
جزءا من دينار يعدل ثلاثة عشر جزءا من ثمانية عشر جزءا من درهم فالدينار ثلاثة عشر
درهما فالتركة سبعة وأربعون درهما.
الفصل الثاني: في العقود:
لو ادعى كل منهما الشراء من ذي اليد وإيفاء الثمن ولا بينة رجع إليه، فإن
كذبهما حلف لهما واندفعا عنه، وإن صدق أحدهما حلف للآخر وقضي للأول، وللثاني
إحلاف الأول أيضا فإن عاد وأقر للثاني بعد أن حلف الأول غرم للثاني القيمة إلا أن
يصدقه الأول، ولو صدق كل واحد في النصف حكم لكل بالنصف وحلف لهما، ولو
أقام كل منهما بينة على الشراء وتساويا عدالة وعددا وتاريخا حكم لمن تخرجه القرعة مع
يمينه.
ولا يقبل قول البائع لأحدهما وعليه إعادة الثمن على الآخر إذ قبض ثمنين ممكن فلا
تعارض فيه، ولو نكل الخارج بالقرعة أحلف الآخر فإن نكلا قسمت العين بينهما
ورجع كل منهما بنصف الثمن ولكل منهما الفسخ، ولو فسخ أحدهما فللآخر أخذ
الجميع والأقرب لزوم ذلك له، ولو كانت العين في يد أحدهما قضي له مع عدم البينة، ولو
أقاما بينة حكم للخارج على رأي.
ولو ادعى اثنان شراء ثالث من كل منهما وأقاما بينة فإن اعترف لأحدهما قضي له
عليه بالثمن وكذا لو اعترف لهما قضي بالثمنين، ولو أنكر واختلف التاريخ أو كان
مطلقا أو أحدهما قضي بالثمنين، ولو اتحد التاريخ تحقق التعارض لامتناع تملك اثنين
شيئا واحدا دفعة وامتناع إيقاع عقدين دفعة فيحكم بالقرعة ويقضى لمن خرج اسمه بعد
اليمين فإن امتنعا قسم الثمن بينهما.
ولو ادعى أحدهما شراء المبيع من زيد والآخر شراءه من عمرو وأنه ملكهما وإقباض
الثمن وأقاما بينة متساوية عدالة وعددا وتاريخا تحقق التعارض فيقضي بالقرعة ويحكم
434

للخارج فإن نكلا عن اليمين قسم المبيع بينهما ورجع كل منهما على بائعه بنصف
الثمن ولهما الفسخ والرجوع بالثمنين، ولو فسخ أحدهما لم يكن للآخر أخذ الجميع لعدم
رجوع النصف إلى بائعه، ولو كانت العين في يدهما قسمت ولو كانت في يد أحدهما قضي
له أو للخارج على الخلاف وكذا لو كانت في يد البائع.
ولو ادعى شراء عبد من صاحبه وادعى العبد العتق قدم قول السيد مع اليمين، ولو
كذبهما وأقاما بينة حكم للسابق فإن اتفقتا فالقرعة مع اليمين فإن امتنعا تحرر نصفه
وكان الباقي لمدعيه ويرجع بنصف الثمن، ولو فسخ عتق كله والأقرب تقويمه على بائعه
لشهادة البينة بمباشرة عتقه، ولو كان العبد في يد المشتري فإن قدمنا بينة الداخل حكم له
وإلا حكم بالعتق لأن العبد خارج.
ولو اختلف المتواجران في قدر الأجرة حكم لأسبق البينتين، فإن اتفقتا قيل: يقرع
بحكم بينة المؤجر، لأن القول قول المستأجر. ولو ادعى استئجار دار شهرا بعشرة وادعى
المؤجر أنه آجره بيتا منها ذلك الشهر بعشرة ولا بينة فقد اختلفا في صفة العقد إلا أنهما
اختلفا في قدر المكتري فيتحالفان أو نقول: بالقرعة، لأن كلا منهما مدع أو نقول: القول
قول المؤجر، لأن المستأجر يدعي إجارة في الزائد على البيت والمؤجر ينكر فيقدم قوله.
ولو أقام أحدهما بينة حكم بها، ولو أقاما بينة تعارضتا سواء كانتا مطلقتين أو
مؤرختين بتأريخ واحد أو إحديهما مطلقة والأخرى مؤرخة لامتناع عقد واحد على البيت
والدار في زمن واحد فيقرع بينهما أو يحكم ببينة المكتري لأنها تشهد بزيادة، ولو اختلف
التاريخ حكم للأقدم لكن إن كان الأقدم بينة المؤجر حكم بإجارة البيت بأجرته
وبإجارة بقية الدار بالنسبة من الأجرة.
ولو ادعى كل واحد على ثالث ألفا من ثمن دار في يده فلا تعارض ويثبت لكل
واحد ألف في ذمته إلا أن يعينا وقتا يستحيل فيه تقدير عقد من متعاقدين، ولو ادعى
استئجار العين وادعى المالك الإيداع تعارضت البينتان وحكم بالقرعة مع تساويهما.
435

الفصل الثالث: في الموت:
لو خلف المسلم ابنين فاتفقا على تقدم إسلام أحدهما على الموت وادعى الآخر مثله
فأنكر الأول حلف المتفق عليه أنه لا يعلم تقدم إسلام أخيه وكذا لو كانا مملوكين واتفقا
على سبق حرية أحدهما واختلفا في الآخر، ولو اتفقا على أن أحدهما أسلم في شعبان
والآخر في رمضان ثم ادعى المتقدم سبق الموت على رمضان والمتأخر تأخره قدم إصالة بقاء
الحياة واشتركا في التركة، ولو ادعت الزوجة إصداق عين أو شرائها وادعى ابن الميت
الإرث حكم لبينة المرأة.
ولو قال: إن قتلت فأنت حر، فأقام الوارث بينة أنه مات حتف أنفه وبينة العبد أنه
قتل فالأقرب تقديم بينة العبد للزيادة.
ولو ادعى عينا في يد غيره أنها له ولأخيه الغائب إرثا عن أبيهما وأقام بينة كاملة
وشهدت بنفي غيرهما سلم إليه النصف وكان الباقي في يد من كانت الدار في يده،
وقيل: يجعل في يد أمين حتى يعود، ولا يلزم القابض للنصف إقامة ضمين، ولو لم تكن
كاملة وهي ذات المعرفة المتقادمة والخبرة الباطنة وشهدت أنها لا تعلم وارثا غيرها أخر
التسليم إلى أن يستظهر الحاكم في البحث عن نفي غيرهما بحيث لو كان لظهر وحينئذ
يسلم إلى الحاضر نصيبه بعد التضمين استظهارا.
ولو كان ذا فرض أعطي مع اليقين بانتفاء الوارث نصيبه تاما وعلى التقدير الثاني
نعطيه اليقين إن لو كان وارث فيعطى الزوج والزوجة ربع الثمن معجلا من غير تضمين
وبعد البحث يتمم الحصة مع التضمين، ولو كان الوارث محجوبا كالأخ أعطي مع البينة
الكاملة ولو كانت غير كاملة أعطي بعد البحث والضمين.
ولو ادعى الأخ موت الزوجة بعد الولد والزوج قبله قضي لذي البينة فإن فقدتا لم
ترث الأم من الولد ولا العكس، ويحكم بتركة الولد للأب وتركة الأم بين الزوج والأخ،
وإذا ثبت عتق عبدين ببينتين كل واحد ثلث مال المريض دفعة قيل: يقرع ويعتق من
تخرجه القرعة، ولو اختلفت قيمتهما أعتق المقروع فإن كان أكثر من الثلث عتق ما
يحتمله، وإن كان كل واحد في مجلس واشتبه السابق أقرع ولكن لو كان أحد العبدين
436

سدس المال ووقعت القرعة عليه عتق من الآخر نصفه، ولو عرف السابق عتق وبطل
الآخر.
ولو شهد أجنبيان بوصية العتق لأحدهما وهو ثلث وشهد وارثان بأنه رجع عنه إلى آخر
وهو ثلث أيضا ففي القبول نظر للتهمة ويحتمل عتق ثلثي الثاني بالإقرار، ولو شهدت
بينة أنه أوصى لزيد بالسدس وأخرى أنه أوصى لبكر بسدس وثالثة بأنه رجع عن
إحديهما احتمل بطلان الرجوع لإبهامه وصحته فيقرع أو يقسم، ولو شهد اثنان بالوصية
لزيد وشهد من ورثته عدلان أنه رجع عن ذلك وأوصى لخالد فالأقرب عدم القبول لأنهما
يجران نفعا من حيث أنهما غريمان، ولو شهد بالرجوع شاهد أجنبي حلف معه وثبت.
الفصل الرابع: في النسب:
إذا تداعى اثنان ولدا لم يحكم لأحدهما إلا بالبينة، ولو وطئا معا امرأة في طهر واحد
فإن كانا زانيين لم يلحق الولد بهما بل إن كان لها زوج لحق به وإلا كان ولد زنى،
فإن كان أحدهما زانيا فالولد للزوج، وإن كان وطؤهما مباحا بأن يتشبه عليهما أو على
أحدهما وكان الآخر زوجا أو يعقد كل منهما عقدا فاسدا ثم تأتي بالولد لستة أشهر من
وطئهما ولم يتجاوز أقصى الحمل فحينئذ يقرع بينهما فمن أخرجته القرعة ألحق به سواء
كانا مسلمين أو أحدهما أو كافرين وحرين كانا أو عبدين أو أحدهما أو أبا وابنه، ولو
كان مع أحدهما بينة حكم بها.
ويلحق النسب بالفراش المنفرد والدعوى المنفردة وبالفراش المشترك والدعوى
المشتركة ويقضى فيه بالبينة ومع عدمها بالقرعة، ولو وطئ الثاني بعد تخلل حيضة
انقطع الإمكان عن الأول إلا أن يكون الأول زوجا في نكاح صحيح، ولو كان في
نكاح فاسد ففي انقطاع إمكانه نظر.
ومن انفرد بدعوى مولود صغير في يده لحقه فإن بلغ وانتفى عنه لم يقبل نفيه، ولو
ادعى نسب بالغ فأنكر لم يلحقه إلا بالبينة وإن سكت لم يكن تصديقا، ولو ادعى
نسب مولود على فراش غيره بأن ادعى وطئا بالشبهة لم يقبل و إن وافقه الزوجات بل
437

لا بد من البينة على الوطء لحق الولد ولو تداعيا صبيا وهو في يد أحدهما لحق بصاحب
اليد خاصة على إشكال، ولو استحلف ولدا فأنكرت زوجته ولادته ففي لحوقه بها بمجرد
إقرار الأب نظر، ولو بلغ الصبي بعد أن تداعيا اثنان قبل القرعة فانتسب إلى أحدهما قبل
وإلا أقرع إن لم ينكرهما معا، ولا يقبل رجوعه بعد الانتساب.
ولا اعتبار بانتساب الصغير وإن كان مميزا ونفقته قبل القرعة عليهما ثم يرجع من
يلحقه القرعة به، ولو أقام كل من المدعين بينة بالنسب حكم بالقرعة، ولو أقام بينة أن
هذا ابنه وآخر بينة أنها بنته فظهر خنثى فإن حكم بالذكورية للبول فهو لمدعي الابن
وبالأنوثية لمدعي الأنثى.
المقصد الثامن: في بقايا مباحث الدعاوي:
وهي أربعة مباحث المبحث
الأول: ما يتعلق بالدعاوي:
من كان له حق عقوبة لم يكن له استيفاؤه بنفسه بل يجب رفعه إلى الحاكم، ولو لم
يجد للجاحد مع عدم البينة إلا من غير الجنس وهو أكثر من حقه لم تكن الزيادة
مضمونة، ولو نقب الجدار ليأخذه لم يكن عليه أرش النقب، ولو كانت دراهمه صحاحا
فوجد مكسرة فإن رضي جاز ولو كان بالعكس لم يجز بل تباع بالذهب ثم يشترى به
مكسرة، ولو جحد من له عليه مثله جاز أن يجحد أيضا وإن اختلف جنس الحقين ما لم
يزد حق الجاحد فيقر غريمه بالباقي بعد إندار حقه أو قيمته.
وإذا أقام المدعي البينة لم يكن للغريم إحلافه إلا أن يقدم دعوى صحيحة كبيع أو
إبراء أو علمه بفسق الشهود على إشكال، ولو قال: أقر لي، ففي السماع نظر لأن الإقرار
ليس عين الحق، والأقرب سماعه لأنه وإن لم يكن عين الحق فإنه ينتفع فيه، وليس له
الإحلاف على فسق الشاهد أو القاضي وإن نفعه تكذيبهم أنفسهم. ولو ادعى إبراء
المدعي أحلف قبل الاستيفاء، ولو ادعى إبراء موكله استوفى ثم نازع الموكل، ولا يسمع
قوله: أبرأني عن الدعوى، إذ لا معنى للإبراء عن الدعوى، وفي اشتراط تقييد دعوى
438

العقد بالصحة نظر.
ولو ادعى الصبي المميز الحرية لم يسمع فإن بلغ سمعت يمينه ولا تأثير لليد ولا إبطال
الدعوى السابقة، ويجوز شراء العبد البالغ مع سكوته ولو ادعى الإعتاق لم يقبل بخلاف
ادعاء الحرية في الأصل، وتصح دعوى الدين المؤجل قبل الحول ودعوى الاستيلاد
والتدبير، ولو أمره ببيع ثوب قيمته خمسة بعشرة فله أن يقول: لي عليه ثوب إن تلف فعليه
خمسة فإن باع فعشرة وإن كان باقيا فرده، ويقبل المتردد للحاجة.
البحث الثاني: فيما يتعلق بالجواب:
لو قال: لي عن دعواك مخرج أو لفلان على أكثر مما لك استهزاء، فليس بإقرار. ولو
قال: لي عليك عشرة، فقال: لا يلزمني العشرة، لم يكفه الحلف مطلقا بل يحلف ليس
عليه عشرة ولا شئ منها، فإن اقتصر كان ناكلا عن اليمين فيما دون العشرة فيحلف
المدعي على عشرة إلا شيئا إلا إذا أضاف إلى عقد مثل: بعته بخمسين، فحلف أنه
اشترى لا بخمسين فلا يمكنه أن يحلف على ما دون الخمسين لمناقضة الدعوى.
ولو قال: مزقت ثوبي فلي عليك أرشه، كفاه نفي الأرش ولا يجب التعرض لنفي
التمزيق وكذا لو ادعى ملكا أو دينا كفاه: لا يلزمني التسليم، لجواز أن يكون الملك في
يده بإجارة أو رهن ويخاف لو أقر من المطالبة بالبينة فحيلته أن يقول في الجواب: إن
ادعيت ملكا مطلقا فلا يلزمني التسليم وإن ادعيت مرهونا عندي فاعترف حتى
أجيب، أو ينكر ملكه إن أنكر دينه كما لو ظفر بغير جنس حقه.
ولو ادعى عليه عينا فقال: ليس لي أو هو لمن لا أسميه، طولب بالتعيين وإلا لم
تنصرف الخصومة عنه ويحتمل أن يأخذه الحاكم إلى أن تقوم حجة بالملك للمالك ولا
يحتمل تسليمه إلى المدعي لدلالة اليد على نفي ملكه، وإن قال: لفلان، وهو حاضر فإن
صدقه انصرفت الحكومة.
وللمدعي إحلاف المقر لفائدة الغرم لو نكل واعترف له ثانيا، ولو كذبه المقر له
انتزعه الحاكم إلى أن يظهر مستحقه ويحتمل دفعه إلى المدعي لعدم المنازع، ولو أضاف إلى
439

غائب انصرفت الحكومة عنه وللمدعي إحلافه فإن امتنع حلف المدعي وهل ينتزع الشئ
أو يغرم؟ الأقرب الثاني وعلى الأول إن رجع الغائب كان هو صاحب اليد فيستأنف
الخصومة.
ولو كان للمدعي بينة فهو قضاء على الغائب يحتاج إلى يمين، ولو كان لصاحب اليد
بينة على أنه للغائب سمعت إن أثبت وكالة نفسه وقدمت على بينة المدعي إن قلنا بتقديم
بينة ذي اليد، وإن لم يدع وكالة فالأقرب السماع، وإن لم يكن مالكا ولا وكيلا لدفع
اليمين عنه، ولو ادعى رهنا أو إجارة سمعت فإن سمعنا لصرف اليمين قدمت بينة
المدعي في الحال وإن سمعنا لعلقة الإجارة والرهن ففي تقديم بينته أو بينة المدعي
إشكال.
وإذا خرج المبيع مستحقا فله الرجوع على البائع بالثمن فإن صرح في نزاع المدعي
بأنه كان ملكا للبائع ففي الرجوع إشكال أقربه ذلك، ولو أخذ جارية بحجة فأحبلها ثم
أكذب نفسه فالولد حر والجارية أم ولد وعليه قيمتها للمقر له ومهرها ويحتمل أن يحكم
بالجارية للمقر له لو صدقته.
ولو ادعى قصاصا على العبد لم يقبل إقرار العبد إلا أن يصدقه السيد نعم لو أعتق
فالأقرب الحكم عليه بما أقربه أولا، ولو صدق السيد خاصة لم يثبت القصاص على العبد
بل كان للمستحق انتزاعه أو مطالبة المولى بالأرش وكذا البحث لو ادعى أرشا، ولو
أنكر العبد فيهما فهل عليه اليمين؟ الأقرب ذلك بناء على المطالبة له لو أعتق، وكذا
البحث لو ادعى عليه دينا.
البحث الثالث: فيما يتعلق بتعارض البينات:
يتحقق التعارض في الشهادة مع تحقق التضاد مثل أن يشهد اثنان بعين لزيد ويشهد
اثنان أنه بعينه لعمرو أو يشهدا أنه باع عينا لزيد غدوة وآخران باعها في ذلك الوقت
لعمرو ومهما أمكن التوفيق بين الشهادتين وفق.
وإن تحقق التعارض فإن كانت العين في أيديهما قيمت بينهما نصفين فيقضي لكل
440

منهما بما في يد صاحبه إن قدمنا بينة الخارج وبما في يده إن قدمنا بينة الداخل، وإن
كانت في يد أحدهما قضي للخارج على رأي إن شهدنا بالملك المطلق ولو شهدنا بالسبب
فكذلك على رأي آخر، وإن شهدت للخارج بالسبب وللمتشبث بالمطلق قدم الخارج
قطعا ولو انعكس قدم ذو اليد سواء تكرر السبب كالبيع أولا كالنتاج، وقيل: يقدم
الخارج أيضا.
ولو كانت في يد ثالث قضي بأكثرهما عدالة، فإن تساويا فأكثرهما عددا، فإن تساويا
أقرع فمن خرج اسمه أحلف وقضي له فإن نكل أحلف الآخر وقضي له وإن نكلا
قسمت بينهما بالسوية، وقيل: يقضى بالقرعة إن شهدتا بالملك المطلق ويقسم إن شهدتا
بالمقيد. ولو قيدت إحديهما قضي بها، ولو أقر الثالث لأحدهما فالوجه أنه كاليد يترجح
البينة فيه.
والقسم إنما تجري فيما يمكن فرضها فيه كالأموال وإن امتنعت قسمتها كالجوهرة
والعبد أما ما لا يمكن الشركة فيه فلا كما لو تداعيا الزوجية فإنه يحكم بالقرعة، وإذا
تكاذبت البينتان صريحا مثل أن تشهد إحديهما على القتل في وقت وتشهد الأخرى
بالحياة في ذلك الوقت فالأقرب التساقط، ولو لم يكن بينة والعين في أيديهما تحالفا
وقضي بها لهما ويحلف كل واحد على نفي ما يدعيه صاحبه ولا يلزمه التعرض للإثبات.
وإذا حلف الأول على النفي فنكل الثاني رد عليه اليمين فيحلف على الإثبات
وإن نكل الأول الذي بدأ به القاضي تحكما أو بالقرعة اجتمع على الثاني يمين النفي
للنصف الذي في يده ويمين الإثبات للنصف الذي في يد شريكه فيكفيه يمين واحدة تجمع
بين النفي والإثبات، ويتحقق التعارض بين الشاهدين والشاهد والمرأتين ولا يتحقق بين
شاهدين وشاهد ويمين ولا بين شاهد وامرأتين وشاهد ويمين بل يحكم بالشاهدين أو
الشاهد والمرأتين دون الشاهد واليمين وربما قيل: بالتعارض، فيقرع بينهما.
البحث الرابع: في أسباب الترجيح:
وهي ثلاثة:
441

الأول: قوة الحجة كالشاهدين أو الشاهد وامرأتين على الشاهد واليمين، ولو
اقترنت اليد بالحجة الضعيفة احتمل تقديمها والتعادل، ولو كان شهود أحدهما أكثر
وأعدل فهي أرجح.
الثاني: اليد فيقدم الداخل على الخارج على رأي والأقوى العكس إلا أن يقيمها بعد
بينة الخارج على إشكال، فلو ادعى عينا في يد غيره فأقام البينة فأخذها منه ثم أقام
الذي كانت في يده بينة أنها له نقض الحكم وأعيدت على إشكال، ولو أراد إقامة البينة
قبل ادعاء من ينازعه للتسجيل فالأقرب الجواز، ولو أقام بعد الدعوى لإسقاط اليمين
جاز، ولو أقام بعد إزالة يده ببينته الخارج وادعى ملكا سابقا ففي التقديم بسبب يده
التي سبق القضاء بإزالتها إشكال.
وإذا قدمنا بينة الداخل فالأقرب أنه يحتاج إلى اليمين، وإذا قامت البينة على
الداخل فادعى الشراء من المدعي أو ثبت الدين فادعى الإبراء فإن كانت البينة حاضرة
سمعت قبل إزالة اليد وتوفية الدين وإن كانت غائبة طولب في الوقت بالتسليم ثم إذا
أقام استرد، ولو طلب الإحلاف قدم على الاستيفاء، ولو اعترف لغيره بملك لم يسمع
بعده دعواه حتى يدعي تلقي الملك من المقر له إما بواسطة أو غيرها، ولو أخذ منه بحجة
ففي احتياجه بعده في الدعوى إلى ذكر التلقي منه إشكال، والأجنبي لا يحتاج فإن البينة
ليست حجة عليه فله دعوى الملك مطلقا، ولو ادعى عليه قرضا أو ثمنا فجحد
الاستحقاق كان له أن يدعي الإيفاء أما لو جحدهما لم يسمع دعواه به.
الثالث: اشتمال إحدى البينتين على زيادة كزيادة التاريخ، فإذا شهدت بينة على
أنه ملكه منذ سنة والآخر منذ سنتين حكم للأقدم لأن بينته أثبتت الملك له في وقت لم
يعارضه فيه البينة الأخرى فيثبت الملك فيه، ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان
وتعارضتا في الملك في الحال فسقطتا وبقي ملك السابق تحت استدامته وأن لا يثبت لغيره
ملك إلا من جهته، ويحتمل التساوي لأن المتأخرة لو شهدت أنه اشتراه من الأول
لقدمت على الأخرى فلا أقل من التساوي وثبوت الملك في الماضي من غير معارضة إنما
يثبت تبعا ثبوته في الحال، ولهذا لو انفرد بادعاء الملك في الماضي لم يسمع دعواه ولا
442

بينته وكذا البحث لو شهدت إحديهما بالملك في الحال والأخرى بالقديم.
ولو أطلقت إحديهما وأرخت الأخرى تساويا، ولو أسندت إحديهما إلى سبب كنتاج
أو شراء أو زراعة قدمت بينته، ولو شهدت لذي اليد بالتقدمة تعارض رجحان التقدم إن
رجحتا به وكون الآخر خارجا فيحتمل تقديم الخارج ولو انعكس فكذلك، أما لو
شهدت إحديهما بأنها له منذ سنة والأخرى أنها في يد المتشبث منذ سنتين قدمت شهادة
الملك على شهادة اليد وإن تقدمت والشهادة بسبب الملك أولى من الشهادة بالتصرف.
ولو شهدت البينة بأن الملك له بالأمس ولم يتعرض للحال لم يسمع إلا أن تقول:
وهو ملكه في الحال أو لا نعلم له مزيلا، ولو قال: لا ندري زال أم لا، لم يقبل، ولو
قال: أعتقد أنه ملكه بمجرد الاستصحاب، ففي قبوله إشكال، أما لو شهد بأنه أقر له
بالأمس ثبت الإقرار واستصحب موجبه وإن لم يتعرض الشاهد للملك الحالي. ولو قال
المدعى عليه: كان ملكك بالأمس، انتزع من يده لأنه مخبر عن تحقيق فيستصحب بخلاف
الشاهد فإنه يخبر عن تخمين، وكذا يسمع من الشاهد لو قال: هو ملكه بالأمس اشتراه
من المدعى عليه بالأمس أو أقر له المدعى عليه بالأمس، لأنه استند إلى تحقيق.
ولو شهد أنه كان في يد المدعي بالأمس قبل وجعل المدعي صاحب يد، وقيل: لا
يقبل، لأن ظاهر اليد الآن الملك فلا يدفع بالمحتمل، نعم لو شهدت بينة المدعي أن
صاحب اليد غصبه أو استأجرها منه حكم له لأنها شهدت بالملك وسبب يد الثاني. ولو
قال: غصبني إياها، وقال آخر: بل أقر لي بها، فأقاما بينة قضي للمغصوب ولم يضمن
المقر لأن الحيلولة لم تحصل بإقراره بل بالبينة والبينة المطلقة لا توجب زوال الملك على ما
قبل البينة. فلو شهدت على دابة فنتاجها قبل الإقامة للمدعى عليه وكذا الثمرة الظاهرة
على الشجرة ومع هذا فالمشهور أن المشتري إذا أخذ منه بحجة مطلقة رجع على البائع وكذا
لو أخذ من المتهب من المشتري أو من المشتري من المشتري رجع الأول أيضا، ويحمل
مطلقة إذا لم يدع على المشتري إزالة ملكه منه على سبق الملك فيطالب البائع بالثمن،
ومن العجب أن يترك في يده نتاج حصل قبل البينة وبعد الشراء ثم هو يرجع على البائع،
ولو قيل: لا يرجع إلا إذا ادعى ملكا سابقا على الشراء، كان وجها.
443

ولو ادعى ملكا مطلقا فشهد الشاهد به وبالسبب لم يضر، ولو أراد الترجيح
بالسبب وجب إعادة البينة بعد الدعوى للسبب، ولو ذكر الشاهد سببا سوى ما ذكره
المدعي تناقضت الشهادة والدعوى فلا تسمع على أصل الملك، ولو ادعى ما يبطل به العقد
وأنكر الآخر قدم قول مدعي الصحة فإن أقاما بينة ففي تقديم بينة مدعي البطلان نظر.
ولو ادعى أن وكيله آجر بدون أجرة المثل وادعى الوكيل الإجارة بأجرة المثل وأقاما
بينة ففي تقديم بينة أحدهما نظر، ولو ادعى ملكية الدابة منذ مدة فدلت سنها على أقل
من ذلك قطعا أو أكثر سقطت البينة لظهور كذبها، ولو ادعى عينا في يد زيد وأقام بينة
أنه اشتراها من عمرو فإن شهدت البينة بالملكية مع ذلك للبائع أو للمشتري أو بالتسليم
إن قضي بسبق اليد قضي للمدعي وإن شهدت بالشراء خاصة لم يحكم لأنه قد يفعل فيما
ليس بملك فلا تدفع اليد المعلومة بالمظنون، وقيل: يقضى له، لأن الشراء دلالة على
التصرف السابق الدال على الملكية، وكذا لو ادعى وقفا من زيد وهي في يد عمرو أو غير
ذلك من أسباب التمليك.
ولو ادعى الخارج أن العين التي في يد المتشبث ملكه منذ سنة فادعى المتشبث أنه
اشتراها منه منذ سنتين وأقاما بينة قدمت بينة الداخل على إشكال، ولو اتفق تاريخ
البينتين إلا أن بينة الداخل تشهد بسبب قدمت أيضا، ولو ادعى أحدهما أنه اشتراها من
الآخر قضي له بها.
وإذا كان في يده صغيرة فادعى رقيتها حكم له بذلك وإن ادعى نكاحها لم يقبل إلا
بالبينة، ولو ادعى ملكا وأقام بينة به فادعى آخر أنه باعها منه أو وهبها إياه أو وقفها
عليه وأقام بذلك بينة حكم له لأن بينة هذا شهدت بأمر خفي على البينة الأخرى والبينة
الأخرى شهدت بالأصل.
ولو شهد اثنان عليه بأنه أقر بألف وشهد آخر أنه قضاه ثبت الإقرار فإن حلف مع
شاهده على القضاء ثبت وإلا حلف المقر له على عدمه وطالبه، ولو شهد أحدهما أن له
عليه ألفا وشهد الآخر أنه قضاه ألفا لم يثبت الألف لأن شاهد القضاء لم يشهد عليه
بالألف وإنما تضمنت شهادته أنها كانت عليه والشهادة لا تقبل إلا صريحة، ولو ادعى
444

وأقام بها بينة وأقام المدعى عليه بينة بالقضاء ولم يعلم التاريخ برئ بالقضاء لأنه لم
يثبت عليه إلا ألف واحدة ولا يكون القضاء إلا لما عليه.
المقصد التاسع: في الشهادات:
وفيه فصول:
الفصل الأول: في صفات الشاهد:
وهي سبعة:
الأول: البلوغ: فلا يقبل شهادة الصبي وإن كان مراهقا، وقيل: تقبل مطلقا إذا
بلغ عشر سنين. ويقبل شهادتهم في الجراح بشروط ثلاثة: عدم التفريق والاجتماع على
المباح وبلوع العشر. فلو تفرقوا لم يقبل شهادتهم لاحتمال أن يلقنوا.
الثاني: العقل: فلا يقبل شهادة المجنون ولو كان يعتوره أدوارا وشهد حال إفاقته قبل
بعد علم الحاكم بحضور رشده وكمال فطنته، وكذا يجب الاستظهار على المغفل الذي في
طبعه البله وكثير النسيان فيفتقر الحاكم عند الريبة ويحكم عند الجزم بذكرهم وأن
المشهود به لا يسهون عن مثله.
الثالث: الإيمان: فلا يقبل شهادة من ليس بمؤمن وإن اتصف بالإسلام لا على مؤمن
ولا غيره، ولا يقبل شهادة الكافر أصليا كان أو مرتدا لا على المسلم ولا على مثله على
رأي إلا الذمي في الوصية عند عدم عدول المسلمين.
الرابع: العدالة: وهي كيفية نفسانية راسخة تبعث على ملازمة المروة والتقوى. فلا
يقبل شهادة الفاسق، ويخرج المكلف عن العدالة بفعل كبيرة وهي ما توعد الله تعالى
فيها بالنار كالقتل والزنى واللواط والغصب للأموال المعصومة وإن قلت، وعقوق
الوالدين، وقذف المحصنات المؤمنات، وكذا يخرج بفعل الصغائر مع الإصرار أو
الأغلب، ولا يقدح النادر للحرج وقيل: يقدح ولا حرج لإمكان الاستغفار، ولا يقدح
في العدالة ترك المندوبات وإن أصر ما لم يبلغ الترك إلى التهاون بالسنن.
والمخالف في شئ من أصول العقائد ترد شهادته سواء استند إلى تقليد أو اجتهاد،
445

أما المخالف في الفروع من معتقدي الحق إذا لم يخالف الاجماع لا يفسق ولا يرد شهادته
وإن أخطأ في اجتهاده، ويرد شهادة القاذف إلا أن يتوب وحدها إكذاب نفسه وإن كان
صادقا اعترف بالخطا في الملأ ولا يشترط في إصلاح العمل أكثر من الاستمرار على رأي،
ولو صدقه المقذوف أو أقام بينة لم ترد شهادته ولا يحد.
واللاعب بآلات القمار كلها فاسق كالشطرنج والنرد والأربعة عشر والخاتم وإن قصد
الحذق أو اللهو أو القمار ترد شهادته، وكذا شارب المسكر خمرا كان أو غيره وإن كان
قطرة وكذا الفقاع والعصير إذا غلا من نفسه أو بالنار قبل ذهاب ثلثيه وإن لم يسكر، ولا
بأس بما يتخذ من التمر أو البسر ما لم يسكر واتخاذ الخمر للتخليل، والغناء حرام يفسق
فاعله وهو ترجيع الصوت ومده وكذا يفسق سامعه قصدا سواء كان في قرآن أو شعر ويجوز
الحداء.
وهجاء المؤمنين حرام سواء كان بشعر أو غيره، وكذا التشبيب بامرأة معروفة محرمة
عليه، ويكره الإكثار من الشعر، وكذا يحرم استماع آلات اللهو كالزمر والعود والصنج
والقصب وغيرها ويفسق فاعله ومستمعه ولا بأس بالدف في الأعراس والختان على
كراهية، ولبس الحرير حرام يفسق فاعله إلا في الحرب والضرورة ولا بأس بالتكاة عليه
والافتراش له، وكذا لبس الرجال الذهب ولو كان طليا في خاتم.
والحسد حرام وكذا بغضة المؤمن والتظاهر بذلك قادح في العدالة، ويجوز اتخاذ
الحمام للأنس وإنفاذ الكتب ويكره للتفرج والتطيير والرهان عليها قمار، والصنائع
المباحة والمكروهة والدنية حتى الزبال لا ترد بها الشهادة.
الخامس: المروة: فمن يرتكب ما لا يليق بأمثاله من المباحات بحيث يستسخر به
ويهزأ به كالفقيه يلبس القباء والقلنسوة ويأكل ويبول في الأسواق أو يكب على اللعب
بالحمام وأشباه ذلك من الإفراط في المزاح يرد شهادته لأن ذلك يدل على ضعف في عقله
أو قلة مبالاة فيه وكل ذلك يسقط الثقة بقوله.
السادس: طهارة المولد: فلا يقبل شهادة ولد الزنى مطلقا وقيل: يقبل في الشئ
الدون مع صلاحه. ولو جهلت حاله قبلت شهادته وإن طعن عليه.
446

السابع: انتفاء التهمة: وأسبابها ستة:
الأول: أن يجر بشهادته إليه نفعا ويدفع ضررا كالشريك لشريكه فيما هو شريك فيه
وتقبل في غيره، والوصي فيما هو وصي فيه ويقبل في غيره، والمدين يشهد للمحجور عليه
ولو لم يكن محجورا عليه قبلت، والسيد لعبده المأذون أو يشهد أن فلانا جرح مورثه أو
العاقلة تجرح شهود جناية الخطأ والوكيل والوصي يجرحان شهود المدعي على الموكل أو
الميت، ولو شهد بمال لمورثه المجروح أو المريض قبل ما لم يمت قبل الحكم، وكذا تقبل لو
شهد الاثنين بوصية من تركة فشهد الاثنان لهما بوصية أخرى من تلك التركة أو شهد
رفقاء القافلة على اللصوص أو شهد لمكاتبه وإن كان مشروطا.
الثاني: البعضية: فلا تقبل شهادة الولد على والده على الأقوى وتقبل له وكذا تقبل
على جميع الأقارب سواء كان للولد أو عليه أو للأخ أو عليه أو للأم أو عليها وغير ذلك،
وفي مساواة الجد للأب وإن علا للأب إشكال، ولا فرق بين الشهادة في المال أو الحق
كالقصاص والحد، ويقبل شهادة كل من الزوجين لصاحبه وعليه وإن لم يكن معه مثله
فيما يقبل شهادة النساء فيه منفردات أو الرجل مع اليمين، ولو شهد على أبيه وأجنبي
بحق بطلت في حق الأب دون الأجنبي على إشكال.
الثالث: العداوة: والمانع هو العداوة الدنيوية لا الدينية فإن المسلم تقبل شهادته على
الكافر والدنيوية تمنع سواء تضمنت فسقا أو لا، ولا يقبل شهادة العدو على عدوه ويقبل
له ويتحقق العداوة بأن يعلم فرح العدو بمساءة عدوه والغم بسروره أو يقع بينهما
تقاذف، ولو شهد بعض الرفقاء لبعض على قاطع الطريق لم يقبل للتهمة، ويقبل شهادة
الصديق لصديقه وعليه وإن تأكدت المودة.
الرابع: التغافل: فمن يكثر سهوه ولا يستقيم تحفظه وضبطه ترد شهادته وإن كان
عدلا ومن هنا قال بعض الفقهاء: إنا لنرد شهادة من نرجو شفاعته.
الخامس: دفع عار الكذب: فمن ردت شهادته لفسق فتاب لتقبل شهادته ويظهر
صلاح حاله لم تقبل، وقيل: يجوز أن يقول للمشهور بالفسق: تب أقبل شهادتك،
وليس بجيد نعم لو عرف استمراره على الصلاح قبلت. ولو تاب فأعاد الشهادة المردودة
447

بفسقه ففي القبول نظر، ولو عرف الكافر أو الفاسق أو الصبي شيئا ثم زال المانع عنهم
ثم أقاموا تلك الشهادة قبلت ولو أقامها حال المانع فردت فأعادها بعد زواله قبلت،
والعبد إذا ردت شهادته على مولاه ثم أعتق فأعادها سمعت وكذا لو باعه أو شهد الولد
فردت ثم أعادها بعد موت والده.
السادس: الحرص على الشهادة بالمبادرة قبل الاستدعاء: فلو تبرع بإقامة الشهادة عند
الحاكم قبل السؤال لم يقبل للتهمة وإن كان بعد الدعوى ولا يصير به مجروحا، أما
حقوق الله تعالى أو الشهادة للمصالح العامة فلا يمنع التبرع القبول إذ لا مدعي لها،
ويقبل شهادة البدوي على القروي وبالعكس والأجير والضيف والمملوك لسيده ولغير
سيده وعلى غير سيده لا على سيده على رأي، وقيل: لا يقبل مطلقا، وقيل: لا يقبل إلا
على مولاه. ولو أعتق قبلت شهادته على مولاه، والمدبر والمشروط كالقن، أما من انعتق
بعضه فالأقرب أنه كذلك، وقيل: يقبل عليه شهادته بقدر ما فيه من الحرية. ولو ظهر
للحاكم أنه قضي بمن لا يقبل شهادته نقض الحكم ولو تجدد المانع بعد الحكم لم
ينقض.
الفصل الثاني: في العدد والذكورة:
لا يثبت بشهادة الواحد شئ سوى هلال رمضان خاصة على رأي ضعيف، ويثبت
بشهادة المرأة الواحدة ربع ميراث المستهل وربع الوصية.
والشهادات قسمان:
الأول: حق الله تعالى: وفيه مرتبتان:
الأولى: الزنى ولا يثبت إلا بأربعة عدول ذكور والأقرب أنه لا يجوز للعدل النظر إلى
العورة قصدا لتحمل الشهادة في الزنى ويجوز في عيوب النساء وغيره، ولا بد في اللواط
والسحق من أربعة رجال عدول، ويثبت الزنى خاصة بشهادة ثلاثة رجال وامرأتين
ويجب الرجم مع الإحصان، وبشهادة رجلين وأربع نساء ويثبت الجلد معه لا الرجم،
ولا يثبت بشهادة الواحد مع النساء وإن كثرن بل يحد الشهود للقذف، وهل يثبت
448

الإقرار بالزنى بشهادة الرجلين أو لا بد من أربع؟ نظر. والأقرب ثبوت إتيان البهائم
بشاهدين.
الثانية: ما عدا الزنى مما فيه حد كالسرقة وشرب الخمر والردة والقذف ولا يثبت إلا
بشاهدين، وكذا ما ليس بحد كالزكاة والخمس والكفارات والنذور والإسلام، وكذا
البلوغ والولاء والعدة والجرح والتعديل والعفو عن القصاص.
الثاني: حق الآدمي: ومراتبه ثلاثة:
الأولى: ما لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين عدلين كالطلاق والخلع والوكالة والوصية
إليه والنسب ورؤية الأهلة. والأقرب ثبوت العتق والنكاح والقصاص بشاهد وامرأتين.
الثانية: ما يثبت بشاهدين وشاهد وامرأتين وشاهد ويمين وهو: الديون والأموال
كالقرض والغصب والقراض، وعقود المعاوضات كالبيع والصلح والإجارات والمزارعة
والمساقاة والرهن والوصية له والجناية الموجبة للمال كالخطأ وشبهه والمأمومة والجائفة
وكسر العظام.
والأقرب جريان ذلك في الوقف وفي حقوق الأموال كالأجل والخيار والشفعة وفسخ
العقد وقبض نجوم الكتابة وفي النجم الأخير إشكال.
الثالثة: ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنضمات كالولادة والاستهلال وعيوب
النساء الباطنة والرضاع على الأقوى. ويقبل شهادة النساء في الأموال والديون منضمات
إلى رجل أو يمين لا منفردات وإن كثرن فيثبت بشاهد وامرأتين أو بامرأتين ويمين، وكل
موضع يقبل فيه شهادة النساء منفردات لا يثبت بأقل من أربع ويثبت ربع ميراث
المستهل وربع الوصية بشهادة الواحدة من غير يمين والأقرب ثبوت ذلك أيضا برجل واحد
لا أزيد من غير يمين.
ولو شهدت امرأتان ثبت نصف ميراث المستهل ونصف الوصية ولو شهد ثلاث ثبت
ثلاثة الأرباع ولو شهد أربع ثبت الجميع ولا يثبت في الخنثى المشكل بأقل من أربع،
وإذا شهد على السرقة رجل وامرأتان ثبت المال دون القطع، ولو علق العتق بالنذر على
الولادة فشهد أربع نساء بها ثبت ولم يقع النذر.
449

الفصل الثالث: في مستند علم الشاهد:
وضابطه العلم القطعي، ومستنده:
أما المشاهدة وذلك في الأفعال كالغصب والسرقة والقتل والرضاع والولادة والزنى
واللواط. ويقبل فيه شهادة الأصم لانتفاء الحاجة إلى السمع فيها، وروي: أنه يؤخذ بأول قوله.
وأما السماع والأبصار معا وذلك في الإقرار كالعقود مثل النكاح والبيع والصلح
والإجارة وغيرها فإنه لا بد من البصر لمعرفة المتعاقدين ومن السماع لفهم اللفظ.
ولا يقبل شهادة الأعمى بالعقد إلا أن يعرف الصوت قطعا على رأي أو يعرف
المتعاقدين عنده عدلان أو يشهد على المقبوض ويقبل شهادته فرعا وترجمة لحاضر عند
الحاكم، ولو تحمل الشهادة بصيرا ثم عمي وعرف نسب المشهود عليه أو عرفه عنده
عدلان أقام الشهادة وإن شهد على العين وعرف الصوت ضرورة جاز أن يشهد أيضا،
والقاضي إذا عمي بعد سماع البينة قضى بها، ومن لا يعرف نسبه لا بد من الشهادة على
عينه فإن مات أحضر مجلس الحكم فإن دفن لم ينبش وتعذرت الشهادة.
ولا يشهد على المرأة إلا أن يعرف صوتها قطعا أو تسفر عن وجهها ويميزها عند الأداء
بالإشارة ويجوز النظر إليها لتحمل الشهادة، وإذا قامت البينة على عينها وزعمت أنها
بنت زيد لم يسجل القاضي على بنت زيد إلا أن تقوم البينة بالنسب.
وأما السماع خاصة وذلك فيما يثبت بالاستفاضة وهو النسب والموت والملك المطلق
والنكاح والوقف والعتق وولاية القاضي ويشترط فيه توالي الأخبار من جماعة يغلب على
الظن صدقهم أو يشتهر اشتهارا يتآخم العلم على إشكال، قيل: لو شهد عدلان فصاعدا
صار السامع متحملا وشاهد أصل لا فرعا على شهادتهما، والأقوى أنه لا بد من جماعة
لا تجمعهم رابطة التواطؤ. ولو سمعه يقول: هذا ابني، عن الكبير مع سكوته، أو هذا
أبي، قيل: صار متحملا لاستناد السكوت إلى الرضا. وشاهد الاستفاضة لا يشهد
بالسبب كالبيع في الملك إلا في الميراث ولا يفتقر شاهد الاستفاضة بالملك إلى مشاهدة
التصرف باليد ويرجح ذو اليد على شهادة الاستفاضة.
450

واعلم أن النسب يثبت بالتسامع من قوم لا ينحصرون عند الشاهد فليشهد به إذ لا
يمكن رؤيته وإن كان من الأم وكذا الموت، وإذا اجتمع في الملك اليد والتصرف
والتسامع جازت الشهادة فإنه لا يحس به وهذا الاجتماع منتهى الإمكان، والأقرب أن
مجرد اليد والتصرف بالبناء والهدم والإجارة المتكررة بغير منازع يكفي دون التسامع
فيشهد له بالملك المطلق ومجرد اليد كذلك على الأقوى، قيل: لو أوجبت الملك لم يسمع
دعوى الدار التي في يد: هذا لي، كما لا تسمع: ملكه لي، وينتقض بالتصرف والأقرب
أنه لا يشترط في استفاضة الوقف والنكاح العلم بل يكفي غلبة الظن.
وأما الإعسار فيجوز الشهادة عليه بخبرة الباطن وشهادة قرائن الأحوال مثل صبره
على الجوع والضر في الخلوة، ولو شك في الشهادة على أحدهما فشهد اثنان بالتعيين ففي
إلحاقه بالتعريف إشكال.
الفصل الرابع: في التحمل والأداء:
التحمل واجب على من له أهلية الشهادة على الكفاية على الأقوى فإن لم يوجد سواه
تعين خصوصا الطلاق، ويحصل التحمل بأن يشهداه على فعل أو عقد يوقعانه، وكذا
يحصل بسماعه منهما وإن لم يستدعياه، وكذا لو شاهد الغصب أو الجناية ولم يأمره
بالشهادة عليه أو سمع إقرار كامل وإن لم يأمره، وكذا لو قالا له: لا تشهد علينا، فسمع
منهما أو من أحدهما ما يوجب حكما صار متحملا وكذا لو خبئ فنطق المشهود عليه
مسترسلا صار متحملا ويصح تحمل الأخرس، وليست الشهادة شرطا في شئ إلا في
الطلاق ويستحب في النكاح والرجعة والبيع.
وأما الأداء فإنه واجب على الكفاية إجماعا على كل متحمل للشهادة فإن قام غيره
سقط عنه، ولو امتنعوا أجمع أثموا، ولو عدم الشهود إلا اثنان تعين عليهما الأداء ولا يجوز
لهما التخلف، ولو امتنع أحدهما وقال: أحلف مع الآخر، أثم.
ولو خاف الشاهد ضررا غير مستحق إما عليه أو على أهله أو بعض المؤمنين لم تجب
عليه إقامتها وإن تعين، ويجب الإقامة مع انتفاء الضرر على كل متحمل وإن لم يستدعه
451

المشهود عليه أو المشهود له للشهادة بل سمعها اتفاقا ولا يحل له الأداء إلا مع الذكر
القطعي ولا يجوز له أن يستند إلى ما يجده مكتوبا بخطه وإن عرف عدم التزوير عليه سواء
كان الكتاب في يده أو يد المدعي وسواء شهد معه آخر ثقة بمضمون خطه أو لا على
الأقوى.
ويؤدى الأخرس الشهادة ويحكم بها الحاكم مع فهم إشارته فإن خفيت عنه اعتمد
على مترجمين عارفين بإشارته ولا يكفي الواحد ولا يكون المترجمان شاهدي فرع على
شهادته بل يثبت الحاكم الحكم بشهادته أصلا لا بشهادة المترجمين، وحكم الحاكم يتبع
للشهادة فإن كانت محقة نفذ باطنا وظاهرا وإلا ظاهرا خاصة فلا يستبيح المشهود له ما
حكم له الحاكم إلا مع العلم بصحة الشهادة أو الجهل بحالها.
الفصل الخامس: في الشهادة على الشهادة:
ومطالبه خمسة:
الأول: المحل:
ولا يثبت في الحدود مطلقا سواء كانت محضا لله تعالى كالزنى واللواط والسحق أو
مشتركة كالسرقة والقذف على رأي، ويثبت في حقوق الناس كافة سواء كانت عقوبة
كالقصاص أو غير عقوبة كالطلاق والنسب والعتق أو مالا كالقرض والقراض وعقود
المعاوضات وعيوب النساء والولادة والاستهلال والوكالة والوصية.
ولو أقر باللواط أو بالزنى بالعمة أو الخالة أو وطء البهيمة يثبت بشاهدين ويقبل في
ذلك الشهادة على الشهادة ولا يثبت بها حد ويثبت انتشار حرمة النكاح وكذا لا يثبت
التعزير في وطء البهيمة ويثبت تحريم الأكل في المأكولة ووجوب البيع في بلد آخر في
غيرها.
الثاني: في كيفية التحمل:
وأكمل مراتبه أن يقول شاهد الأصل: اشهد على شهادتي أني أشهد على فلان
بكذا، وهو الاسترعاء، أو أشهدتك على شهادتي. وأدون منه أن يسمعه يشهد عند
452

الحاكم فله أن يشهد على شهادته وإن لم يشهد للقطع بتصريحه هناك بالشهادة، وأدون
من هذا أن يسمعه يقول: أنا أشهد لفلان على فلان بكذا، ويذكر السبب مثل ثمن ثوب
أو أجرة عقار ففي الشهادة نظر ينشأ من أنها صورة جزم ومن التسامح بمثل ذلك في غير
مجالس الحكام، وكذا لو قال: عندي شهادة قطعية أو مجزومة، أما لو قال: أنا أشهد
بكذا، ولم يذكر السبب ولا الجزم فإنه لا يتحمل بمثل ذلك لتجويز الوعد.
ولو قال: علي لفلان كذا، لم يحمل على الوعد وجازت الشهادة به إذ لا يتساهل في
الإقرار، ففي الاسترعاء يقول: أشهدني على شهادته، وفي صورة السماع عند الحاكم
يقول: أشهد أن فلانا شهد عند الحاكم بكذا، وفي صورة سماعه مع السبب: أشهد أن
فلانا شهد بكذا بسبب كذا، ولا يقول في هذه الصور: أشهدني، إلا في الأول.
المطلب الثالث: في العدد:
ويجب أن يشهد على كل شاهد اثنان إذ المقصود إثبات شهادة الأصل وإنما يتحقق
بشهادة اثنين لا بشهادة واحد، ولو شهدا على شهادة كل واحد منهما جاز، ولا يجوز أن
يشهد أحدهما على شهادة واحد والآخر على الآخر، ويجوز أن يشهد شاهد أصل مع آخر
على شهادة الأصل الثاني وشهادة اثنين على جماعة إذا شهدا على كل واحد منهم، وهل
تقبل شهادة الفرع في الزنى لنشر التحريم أو إثبات المهر مع الإكراه؟ الأقرب ذلك،
وحينئذ يفتقر إلى أربعة تشهد على كل واحد من الأربعة أم يكفي اثنان عليهم؟
إشكال.
ولو كان الشهود رجل وامرأتان أو أربع نسوة فشهد عليهم اثنان قيل: إذا شهد كل
واحد منهما على الجميع. وهل يقبل شهادة النساء على الشهادة فيما يقبل فيه شهادتهن
منفردات كالعيوب الباطنة والاستهلال والوصية؟ الأقرب المنع.
المطلب الرابع:
يشترط في سماع شهادة الفرع تعذر حضور شاهد الأصل أما لموت أو مرض أو سفر
ولا تقدير له والضابط مراعاة المشقة على شاهد الأصل مع حضوره، وليس على شهود
الفرع تزكية شهود الأصل لكن إن زكوا يثبت عدالتهم وشهادتهم بقول الفرع وإلا بحث
453

الحاكم عن شهود الأصل، فإن ثبت عدالتهم حكم إن كان يعرف عدالة شهود الفرع
وإلا بحث عنهم أيضا ولو زكى الجميع اثنان قبل وليس على شهود الفرع أن يشهدوا
على صدق شهود الأصل ولو لم يسم الفرع شاهد الأصل لم يقبل شهادته وإن عدله حتى
يصرح باسمه.
الخامس: الطوارئ:
ولا يؤثر في شهادة الفرع موت شاهد الأصل ولا غيبته ولا مرضه، ولو طرأ عليه
الفسق أو العداوة أو الردة لم يقبل شهادة الفرع، ولو طرأ الجنون أو الإغماء أو العمى لم
يؤثر، ولو كذب الأصل الفرع قيل: يعمل بشهادة أعدلهما، فإن تساويا أطرح الفرع وهو
محمول على قول الأصل: لا أعلم، أما لو جزم بكذب الفرع فإنها تطرح. ولو شهد
الفرعان فحكم الحاكم ثم حضر شاهد الأصل لم يقدح في الحكم وافقا أو خالفا وإن
كان قبله سقط اعتبار الفرع وبقي الحكم لشاهد الأصل.
الفصل السادس: في اختلاف الشاهدين:
يشترط في الحكم بالشهادة اتفاق الشاهدين على المعنى الواحد لا اللفظ، فلو قال
أحدهما: غصب، وقال الآخر: أخذ قهرا، ثبت الغصب ولا يحكم لو اختلفا معنى كأن
يشهد أحدهما بالبيع والآخر بالإقرار به، فلو حلف مع أحدهما ثبت، ولو شهد أحدهما أنه
سرق غدوة وقال الآخر: عشية ذلك النصاب أو غيره، لم يحكم للتعارض أو تغاير
الفعلين، وكذا لو قال أحدهما: سرق دينارا، والآخر: درهما أو ثوبا أبيض، وقال
الآخر: أسود.
وبالجملة إذا كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمانه أو مكانه أو صفة
له تدل على تغاير الفعلين لم يكمل شهادتهما، ولو حلف مع أحدهما ثبت الغرم دون
القطع، ولو شهد اثنان على سرقة معين في وقت وآخران على سرقته في غيره على وجه
يتحقق التعارض ثبت الغرم وبطل القطع، ولو تغايرت العين أو اتحدت وأمكن التعدد
454

ثبتتا ولا تعارض وثبت القطع.
ولو شهد اثنان بفعل وآخران على غيره ثبتا إن أمكن الاجتماع وإلا كان له أن
يدعي أحدهما مثل أن يشهد اثنان بالقتل غدوة وآخران عشية وكذا كل ما لا يتكرر.
ولو شهد أحدهما أنه باعه هذا الثوب بدينار وشهد الآخر أنه باعه ذلك الثوب بعينه
في ذلك الوقت بدينارين لم يثبتا للتعارض وله المطالبة بأيهما شاء مع اليمين، ولو شهد
له مع كل واحد شاهد ثبت الديناران، أما لو شهد واحد بالإقرار بدينار والآخر بالإقرار
بدينارين ثبت الدينار بهما والآخر بانضمام اليمين إلى الثاني، ولو شهد بكل إقرار
شاهدان ثبت الدينار بشهادة الأربعة والآخر باثنين وكذا لو شهد أنه سرق ثوبا قيمته
دينار وشهد الآخر أنه سرقه وقيمته ديناران ثبت الدينار بهما والآخر بالشاهد واليمين،
ولو شهد بكل صورة شاهدان ثبت الدينار بشهادة الأربعة والآخر بشهادة الشاهدين.
ولو شهد أحدهما بالبيع أو القذف أو الغصب أو القتل غدوة وشهد الآخر به عشية لم
يحكم بالشهادة لأنها على فعلين، ولو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية والآخر بالعجمية قبل
لأن اتحاد الإخبار غير شرط، ولو شهد أحدهما أنه أقر عنده أنه استدان أو باع أو قتل أو
غصب يوم الخميس والآخر أنه أقر أنه فعل ذلك يوم الجمعة لم يحكم إلا مع اليمين أو
بشاهد آخر ينضم إلى أحدهما، ولو شهد أحدهما أنه غصبه من زيد أو أقر بغصبه منه
وشهد الآخر أنه ملك زيد لم تكمل الشهادة.
الفصل السابع: في الرجوع:
ومطالبه ثلاثة:
المطلب الأول: في الرجوع في العقوبات:
إذا رجع الشاهد في العقوبة قبل القضاء منع من القضاء ولو كانوا قد شهدوا بالزنى
حدوا للقذف، فإن قالوا: غلطنا، فالأقرب سقوط الحد. ولو لم يصرح بالرجوع بل قال
للحاكم: توقف عن الحكم، ثم قال له: احكم، فالأقرب جواز الحكم ما لم يحصل
للحاكم ريبة. وهل يجب عليهما الإعادة؟ إشكال. ولو رجع بعد الحكم فالأقرب عدم
455

الاستيفاء في حقه تعالى والإشكال أقوى في حقوق الآدمي أما المال فيستوفى.
ولو رجعا عن زنى الإكراه بعد الحكم وقلنا بسقوط الحد ففي إلحاق توابعه به إشكال
الأقرب العدم فيجب المهر، وتحرم المصاهرة وأخت الموطوء وأمه وبنته لو رجعوا عن اللواط
وأكل الموطوءة وإيجاب بيع غيرها لو رجعوا عن وطء الدابة ولو رجعوا عن الردة بعد
الحكم فالأقرب سقوط القتل، والوجه عدم إلحاق التوابع أيضا فيقسم ماله وتعتد زوجته
عدة الوفاة أو الطلاق لو كانت عن غير فطرة.
ولو رجعا قبل استيفاء القصاص لم تستوف، وهل ينتقل إلى الدية؟ إشكال، فإن
أوجبناها رجع عليهما. ولو أوجبت شهادتهم قتلا أو جرحا ثم رجعوا بعد الاستيفاء فإن
قالوا: تعمدنا، اقتص منهم، وإن قالوا: أخطأنا، فعليهم الدية، ولو قال بعضهم:
تعمدت، وقال الآخر: أخطأت، فعلى الأول القصاص بعد رد ما يفضل من ديته عن
جنايته وعلى الثاني نصيبه من الدية.
ولو قال: تعمدت الكذب وما ظننت قبول شهادتي في ذلك، ففي القصاص إشكال
والأقرب أنه شبيه عمد تجب الدية مغلظة، وكذا لو ضرب المريض لتوهمه أنه صحيح ما
يحتمله الصحيح دون المريض فمات على إشكال.
ولو كان المتعمد أكثر من واحد كان للولي قتل الجميع ويرد عليهم الفاضل عن دية
صاحبه يقتسمونه بالنسبة وله قتل واحد ويرد الباقون قدر جنايتهم، فلو قال أحد شهود
الزنى بعد الرجم: تعمدت، فإن صدقه الباقون فللولي قتل الجميع ويرد ثلاث ديات
بينهم بالسوية، وله قتل ثلاثة ويرد ديتين ويرد الحي ربع الدية لورثة الثلاثة بالسوية،
وله قتل اثنين ويرد دية واحدة عليهما ويرد الآخران نصف دية عليهما أيضا، وله قتل
واحد ويرد الثلاثة إلى ورثته ثلاثة أرباع الدية، ولو لم يصدقه الباقون لم يمض إقراره إلا
على نفسه فحسب، وقيل: يرد الباقون عليه ثلاثة أرباع الدية، وليس بجيد، ولو صدقه
الباقون في كذبه في الشهادة لا في كذب الشهادة اختص القتل به ولا يؤخذ منهم شئ.
ولو شهدوا بما يوجب حدا لا قتلا فحد فمات ثم رجعوا ضمنوا الدية ولم يقتل
أحدهم، ولو رجعوا بعد استيفاء الدية من العاقلة فالراجع العاقلة دون الجاني، ولو رجع
456

ولي القصاص وقد باشر القتل فعليه القصاص والشاهد معه كالشريك إن صدقه اقتص
منه أيضا وإلا فلا، ولو شهدا بسرقة فقطع ثم قالا: أخطأنا وإنما السارق هذا، غرما
دية يد الأول ولم يقبل شهادتهما على الثاني.
ولو زكى الاثنان شهود الزنى ثم ظهر فسقهم أو كفرهم فإن كان يخفى عن المزكيين
فالأقرب أنه لا يضمن أحد وتجب في بيت المال لأنه من خطأ الحاكم وخطأ الحكام في
بيت المال، وإن كان لا يخفى فالضمان على المزكيين ولا قصاص على أحد، وكذا لو
رجعوا عن التزكية سواء قالوا: تعمدنا أو أخطأنا. ولو ظهر فسق المزكيين فالضمان على
الحاكم في بيت المال لأنه فرط بقبول شهادة فاسق وكذا يضمن لو جلد بشهادة من ظهر
فسقه أو كفره. وإذا رجع الشاهد أو المزكي اختص الضمان بالراجع دون الآخر، ولو رجعا معا
فإن رجع الولي على الشاهد كان له قتله، ولو طالب المزكي لم يكن عليه قصاص بل
الدية وحينئذ فليس للولي جمعهما في الطلب، ولو شهد اثنان بالإحصان فرجم ثم رجعا
لم يغرم شهود الزنى شيئا ولم يقتص منهم ويقتص من شهود الإحصان وفي قدر غرمهم
نظر ويرجع إليهما بقدر نصيب شهود الزنى من الغرم، ولو رجع شهود الزنى لم يجب على
شهود الإحصان شئ، ولو رجع الجميع ضمنوا وفي كيفية الضمان إشكال لاحتمال أن
يضمن شاهد الإحصان النصف أو توزع الدية عليهم بالسوية.
ولو شهد أربعة بالزنى واثنان منهم بالإحصان فعلى الأول على شاهدي الإحصان
ثلاثة الأرباع وعلى الآخرين الربع وعلى الثاني على شاهدي الإحصان الثلثان وعلى
الآخرين الثلث ويحتمل تساويهم لأن شاهدي الإحصان وإن تعددت جناياتهم فإنهم
يتساوون من اتحدت جنايته كما لو جرحه أحدهما مائة وآخر واحدا ثم مات من
الجميع، ولو رجع شهود الإحصان بعد موت الصحيح بالجلد فلا ضمان.
المطلب الثاني: البضع:
لو شهدا بالطلاق ثم رجعا قبل الحكم بطلت الشهادة، وإن رجعا بعده فإن كان بعد
الدخول لم يضمنا شيئا وإن كان قبله ضمنا النصف لأنه قد كان في معرض السقوط
457

بارتدادها مثلا أو فسخها لعيب فيه، ولو رجع أحدهما خاصة لزمه الربع ويحتمل إيجاب
مهر المثل لأنهما فوتا عليه بضعا فضمناه بمهر المثل لأنه قيمته ويشكل بعدم ضمان
البضع كما لو قتلها أو قتلت نفسها أو حرمت نكاحها برضاع فإن أوجبنا هنا مهر المثل
فكذا بعد الدخول.
فلو شهدا بنكاح امرأة فحكم الحاكم ثم رجعا فإن طلقها قبل الدخول لم يغرما شيئا
لأنهما لم يفوتا عليها شيئا وإن دخل بها وكان المسمى بقدر مهر المثل أو أكثر ووصل
إليها فلا شئ لها عليهما لأنها قد أخذت عوض ما فوتاه عليها وإن كان دونه فعليهما
التفاوت وإن لم يصل إليها فعليهما ضمان مهر مثلها لأنه عوض ما فوتاه عليها هذا إذا
كان المدعي للنكاح الرجل، ولو كان المدعي هو المرأة فإن طلق الزوج قبل الدخول بأن
قال: إن كانت زوجتي فهي طالق، ضمنا نصف المسمى، وإن كان بعد الدخول فإن
كان المسمى أزيد من مهر المثل ضمنا الزيادة للزوج.
ولو شهدا بعتق الزوجة فحكم الحاكم ففسخت النكاح ثم رجعا غرما القيمة للمولى
ومهر المثل للزوج إن جعلنا البضع مضمونا.
ولو شهدا برضاع محرم ثم رجعا ضمنا على القول بضمان البضع وإلا فلا.
المطلب الثالث: في المال:
وإذا رجع الشاهدان أو أحدهما قبل الحكم لم يجز الحكم ولا غرم، ولو رجعا بعد
الحكم والاستيفاء وتلف المحكوم به فلا نقض بالإجماع ويغرم الشهود ما تلف
بشهادتهم، ولو رجعوا قبل التلف لكن بعد الحكم والاستيفاء أو بعد الحكم قبل
الاستيفاء فالأصح عدم النقض ويغرم الشهود قيمة ما شهدوا به للمشهود عليه، ولو كانا
فاسقين وفرط الحاكم ثم رجعا لم يغرما شيئا لبطلان الحكم في نفسه، ولو كذبهما
المشهود عليه في الرجوع سقط الغرم، ولو شهدا بالعتق فحكم به ثم رجعا غرما قيمته
للمولى سواء قالا: تعمدنا أو أخطأنا. والقيمة المأخوذة منهما هي قيمة العين وقت
الحكم، ولو كان المشهود من ذوات الأمثال لزمهما المثل.
ولو شهدا بكتابة عبده ثم رجعا فإن عجز ورد في الرق فلا شئ عليهما وإن أدى
458

وعتق ضمنا جميع قيمته لأنهما فوتاه بشهادتهما وما قبضه من كسب عبده لا يحسب
عليه، ولو أراد تغريمهما قبل انكشاف الحال غرما ما بين قيمته سليما ومكاتبا ولا
يستعاد منه لو استرق لزوال العيب بالرجوع وهو فعل المولى وكذا لو شهدا بالكتابة
المطلقة، ولو شهدا باستيلاد أمته ثم رجعا غرما ما نقصت الشهادة من قيمتها.
مسائل:
أ: لو رجعا معا ضمنا بالسوية، ولو رجع أحدهما ضمن النصف، ولو ثبت بشاهد
وامرأتين ضمن الرجل النصف وكل امرأة الربع، ولو كان بشاهد ويمين ضمن الشاهد
النصف، ولو أكذب الحالف نفسه اختص بالضمان سواء رجع الشاهد معه أو لا.
ب: لو شهد أكثر من العدد الذي يثبت به الحق كثلاثة في المال أو القصاص وستة
في الزنى فرجع الزائد منهم قبل الحكم أو الاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفاء
ولا ضمان وإن رجع بعد الاستيفاء ضمن بقسطه فلو رجع الثالث في المال ضمن ثلثه
ويحتمل عدم الضمان إلا أن يكون مرجحا في صورة التعارض.
ولو شهد بالزنى ستة فرجع اثنان بعد القتل فعليهما القصاص أو ثلث الدية وإن رجع
واحد فالسدس وعلى الثاني لا شئ عليهما فإن رجع ثلاثة فعلى الأول يضمنون نصف
الدية وعلى الثاني الربع بالسوية وإن رجع أربعة فالثلثان على الأول والنصف على الثاني
فإن رجع خمسة فخمسة أسداس على الأول وثلاثة أرباع على الثاني فإن رجع الستة فعلى
كل واحد السدس على القولين.
ج: لو حكم في المال بشهادة رجل وعشر نسوة فرجعوا فعلى الرجل السدس وعلى كل
امرأة نصف سدس ويحتمل وجوب النصف على الرجل لأنه نصف البينة وعليهن
النصف، وإن رجع بعض النسوة وحده أو الرجل وحده فعلى الراجع مثل ما عليه لو رجع
الجميع ويحتمل أنه متى رجع من النسوة ما زاد على اثنين لم يكن عليهن شئ.
د: لو شهد أربعة بأربعمائة فرجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين وثالث عن ثلاثمائة
ورابع عن الجميع فعلى كل واحد مما رجع عنه بقسطه، فعلى الأول خمسة وعشرون وعلى
الثاني خمسون وعلى الثالث خمسة وسبعون وعلى الرابع مائة لأن كل واحد منهم فوت على
459

المشهود عليه ربع ما رجع عنه، ويحتمل أن لا يضمن الثالث والرابع أكثر من خمسين
خمسين لأن المائتين التي رجعا عنها قد بقي بها شاهدان.
ه‍: لو ظهر فسق الشاهدين بعد قطع أو قتل بشهادتهما أو كفرهما لم يضمنا وضمن
الحاكم في بيت المال لأنه وكيل عن المسلمين وخطأ الوكيل في حق موكله عليه وسواء
تولاه الحاكم أو أمر بالاستيفاء الولي أو غيره، ولو باشر الولي بعد الحكم وقبل أن يأذن له
الحاكم ضمن الدية وكذا قبل الحكم، ولو كانت الشهادة بمال استعيدت العين إن
كانت باقية وضمن المشهود له إن كانت تالفة، ولو كان معسرا أنظر، وقيل: يضمن
الحاكم ويرجع به على المحكوم له إذا أيسر.
و: لو حكم فقامت بينة بالجرح مطلقا لم ينقض الحكم لاحتمال تجدده بعد
الحكم، ولو ثبت متقدما على الشهادة نقض ولو كان بعد الشهادة وقبل الحكم لم
ينقض.
ز: لو شهدا ولم يحكم فماتا حكم وكذا لو شهدا ثم زكيا بعد الموت، ولو شهدا ثم
فسقا قبل الحكم حكم لأن المعتبر بالعدالة وقت الإقامة، أما لو كان حقا لله لم يحكم
والأقرب في حد القذف والقصاص الحكم بخلاف القطع في السرقة.
ح: لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما أو بعضه لم يحكم
لهما ولا لشركائهما في الميراث بشهادتهما.
ط: لو ثبت أنهم شهدوا بالزور نقض الحكم واستعاد المال فإن تعذر غرم الشهود،
ولو كان قتلا فالقصاص على الشهود وكان حكمهم حكم الشهود إذا اعترفوا بالعمد،
ولو باشر الولي القصاص واعترف بالتزوير لم يضمن الشهود وكان القصاص عليه.
ي: لو اعترف الحاكم بخطاه في الحكم فإن كان بعد العزل غرم في ماله وإن كان
قبله استعيدت العين إن كانت قائمة على إشكال وإلا ضمن في بيت المال، ولو قال:
تعمدت، فالضمان عليه يقتص منه أو يؤخذ المال من خاصه.
يا: لو ثبت الحكم بشهادة الفرع ثم رجع فإن كذبه شاهد الأصل في الرجوع
فالأقرب عدم الضمان ولو صدقه أو جهل حاله ضمن، فلو شهد اثنان على اثنين ثم رجعا
460

ضمن كل النصف ويقتص منهما لو تعمدا، ولو رجع أحدهما ضمن نصيبه، ولو رجعا
معا عن الشهادة على أحد الأصلين احتمل إلحاقهما برجوع شاهدي الأصل وبرجوع
أحدهما، ولو رجع أحدهما عن الشهادة على أحد الأصلين والآخر عن الشهادة على الآخر
ضمنا الجميع، ولو رجع أحدهما عن الشهادة على أحد الأصلين احتمل تضمين النصف،
ولو شهد على كل شاهد اثنان ورجع الجميع ضمن كل الربع ويقتص منهم لو اعترفوا في
القتل بالعمد، ولو رجع بعضهم فعليه الربع.
يب: لو رجع شاهد الأصل بعد الحكم بشهادة الفرع ضمنا ولو رجع أحدهما ضمن
ما أتلف بشهادته ولو كذبا شهود الفرع لم يلتفت إلى تكذيبهما ولم يغرما شيئا لاحتمال
كذب شهود الفرع.
يج: لو رجع الشاهدان بعد الحكم بشهادتهما فأقام المدعي الشاهدين غيرهما ففي
الضمان إشكال وكذا لو شهد الفرعان ثم رجعا بعد الحكم ثم حضر شاهد الأصل فشهد
ففي تضمين شاهدي الفرع إشكال.
يد: لو كذبا الحاكم المعزول بعد أن حكم بشهادتهما في الشهادة عنده فالأقرب
أنهما لا يضمنان وفي تضمين الحاكم حينئذ إشكال، ولو أقام الحاكم شاهدين على
أنهما شهدا عنده فالأقرب أنهما يضمنان ولو كذباه قبل عزله لم يلتفت إلى تكذيبهما
والأقرب أنهما يضمنان.
يه: لو حكم على بيع بشهادة اثنين ثم شهد بأن أحدهما شريك المشتري لم ينقض
حكمه ولم يقبل شهادته.
يو: لو شهدا بولاية كوصية إليه أو وكالة ثم رجعا ضمنا الأجرة للموكل أو الوارث
إن أخذها أحدهما منهما أو استحقها لهما إن لم يأخذها الوكيل أو الوصي، وهل للوكيل
أو الوصي المطالبة للموكل أو الورثة بالأجرة؟ إشكال. فإن أوجبناه كان للموكل
والوارث الرجوع على الشاهدين.
يز: لو شهدا بالمنافع كالإجارة ضمناها كما يضمنان الأعيان فإن كان المدعي
المؤجر ضمنا للمستأجر التفاوت بين أجرة المثل والمسمى وإن كان المستأجر ضمنا
461

للمؤجر التفاوت أيضا، ولو تعذر استيفاء الأجرة ضمناها وكذا لو شهدا بالبيع وتعذر
استيفاء الثمن، ولو كان الثمن أقل من القيمة ضمنا التفاوت للمالك.
يح: لو رجع المعرفان بعد الحكم غرما ما شهد به الشاهدان وفي تضمينهما الجميع أو
النصف نظر ولو أنكر التعريف لم يضمنا.
يط: لو شهدا أنه أعتق عبده وقيمته مائتان على مائة ضمنها آخر ثم رجعا بعد الحكم
رجع كل من المولى والضامن عليهما بمائة.
ك‍: لو شهدا بنكاح امرأة على صداق معين وشهد آخران بالدخول ثم رجعوا أجمع بعد
الحكم احتمل وجوب الضمان أجمع على شاهدي النكاح لأنهما ألزماه المسمى ووجوب
النصف عليهما والنصف على شاهدي الدخول لأن شاهدي النكاح أوجباه وشاهدي
الدخول قرراه فيقسم أرباعا، فلو شهد اثنان حينئذ بالطلاق ثم رجعا لم يلزمهما شئ
لأنهما لم يتلفا عليه شيئا يدعيه ولا أوجبا عليه ما ليس بواجب.
كا: إذا زاد الشاهد في شهادته أو نقص قبل الحكم بين يدي الحاكم احتمل رد
شهادته أما الأولى فللرجوع وأما الثانية فلعدم التثبت كأن يشهد بمائة ثم يقول: بل هي
مائة وخمسون أو سبعون، وكذا لو شهد بمائة ثم قال: قضاه خمسين، احتمل الرد، أما لو
قال: أدانه مائة، ثم قال: قضاه خمسين، فإنه يقبل شهادته في الباقي قطعا.
كب: لو رجعا في الشهادة على الميت بعد اليمين ففي إلزامهما بالجميع نظر.
كج: لو رجعا عن تاريخ البيع بأن شهدا بالبيع منذ سنة ثم قالا: بل منذ شهر،
احتمل تضمين العين لأن البيع السابق مغاير اللاحق فلا يقبل قولهما في اللاحق وقد
رجعا عن السابق وحينئذ يضمنان الأجرة من حين الشهادة الأولى إلى الثانية واحتمل
أن يضمنا المنافع خاصة لأن الرجوع في التاريخ ليس رجوعا عن الأصل، وعلى هذا
الاحتمال لو شهد اثنان بالشراء من البائع لآخر منذ شهرين مثلا ضمنا له العين قطعا
والمنافع للبائع من التاريخ الأول إلى تاريخ الشراء الثاني وللثاني منه إلى تاريخ الرجوع،
فلو رجع الأخيران فإن قلنا: يضمن الأولان العين على تقدير عدم الشهادة الثانية، ضمن
الأولان للثاني والأخيران للبائع، وإن قلنا: بعدم الضمان، ضمن الأولان للثاني
462

والأخيران لهما وهكذا حكم باقي العقود.
أما الإقرار فيشكل لإمكان القول بالاتحاد مع تغاير التاريخ ولهذا لو شهد أحدهما
بالإقرار منذ سنة والآخر به منذ سنتين ثبت ولم يثبت لو شهد أحدهما بالبيع منذ سنة
والآخر به منذ سنتين لاتحاد الأول دون الثاني، فلو رجعا عن تاريخ الإقرار بالعين
ضمنا المنافع خاصة دون العين مع احتماله وباقي البحث كالأول.
كد: يجب تعزير شاهدي الزور ليرتدع غيره في المستقبل وإشهاره في قبيلته ومحلته،
فإن تابا وظهر إصلاح العمل منهما قبلت شهادتهما لكن بعد الاستظهار والبحث التام
عن صلاحهما ولا يؤدب الغالط في شهادته ولا من ردت لمعارضة بينة أخرى أو لفسقه.
كه: في التضمين بترك الشهادة مع ضعف المباشرة إشكال كما لو علما ببيع المورث
من زيد فباع الوارث من عمرو ولما يعلم وتعذر الرجوع على المشتري.
463

اللمعة الدمشقية
للشيخ أبي عبد الله شمس الدين محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن الشيخ شمس الدين
محمد بن حامد بن أحمد المطلبي العاملي الثباطي الجزيني المشتهر بالشهيد الأول
734 - 786 ه‍ ق
465

كتاب القضاء
وهو وظيفة الإمام أو نائبه، وفي الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء فمن
عدل عنه إلى قضاة الجور كان عاصيا، وتثبت ولاية القاضي بالشياع وبشهادة عدلين ولا
بد من الكمال والعدالة وأهلية الإفتاء والذكورة و الكتابة والبصر إلا في قاضي التحكيم،
ويجوز ارتزاق القاضي من بيت المال مع الحاجة، ولا يجوز الجعل من الخصم.
والمرتزقة: المؤذن والقاسم والكاتب ومعلم القرآن والآداب وصاحب الديوان ووالى
بيت المال.
ويجب على القاضي التسوية بين الخصمين في الكلام والسلام والنظر وأنواع الإكرام
والإنصات والإنصاف. وله أن يرفع المسلم على الكافر في المجلس وأن يجلس المسلم مع
قيام الكافر، ولا تجب التسوية في الميل القلبي.
وإذا بدر أحد الخصمين بالدعوى سمع منه، ولو ابتدرا سمع من الذي عن يمين
صاحبه، وإذا سكتا فليقل: ليتكلم المدعي منكما أو: تكلما. ويكره تخصيص أحدهما
بالخطاب.
وتحرم الرشوة فتجب إعادتها، وتلقين أحد الخصمين حجته، فإن وضح الحكم لزم
القضاء إذا التمسه المقضى له، ويستحب ترغيبهما في الصلح، ويكره أن يشفع في اسقاط
أو إبطال أو يتخذ حاجبا وقت القضاء أو يقضي مع اشتغال القلب بنعاس أو جوع أو هم
أو غضب.
467

القول في كيفية الحكم:
المدعي هو الذي يترك لو ترك، والمنكر مقابله، وجواب المدعى عليه إما إقرار أو إنكار
أو سكوت.
فالإقرار يمضى مع الكمال، ولو التمس كتابة إقراره كتب وأشهد مع معرفته أو
شهادة عدلين بمعرفته أو قناعته بحليته، فإن ادعى الإعسار وثبت صدقه ببينة مطلعة على
باطن أمره أو بتصديق خصمه أو كان الدعوى بغير مال وحلف ترك وإلا حبس حتى
يعلم حاله.
وأما الانكار فإن كان الحاكم عالما قضى بعلمه وإلا طلب البينة، فإن قال: لا بينة
لي، عرفه أن له إحلافه، فإن طلبه أحلفه الحاكم ولا يتبرع بإحلافه ولا يستقل به الغريم
من دون إذن الحاكم، فإن حلف سقطت الدعوى عنه وحرمت مقاصته. ولا يسمع البينة
بعده، وإن رد اليمين حلف المدعي، فإن امتنع سقطت دعواه، فإن نكل ردت اليمين
أيضا، وقيل: يقضى بنكوله، والأول أقرب. وإن قال: لي بينة، عرفه أن له إحضارها،
وليقل: أحضرها إن شئت، و إن ذكر غيبتها خيره بين إحلاف الغريم والصبر، وليس له
إلزامه بكفيل ولا ملازمته، وإن أحضرها وعرف الحاكم العدالة حكم، وإن عرف
الفسق ترك، وإن جهل استزكى، ثم سأل الخصم عن الجرح، فإن استنظر أمهله ثلاثة
أيام، فإن لم يأت بالجارح حكم عليه بعد الالتماس، وإن ارتاب الحاكم بالشهود
فرقهم وسألهم عن مشخصات القضية، فإن اختلفت أقوالهم سقطت، ويكره أن يعنت
الشهود إذا كانوا من أهل البصيرة بالتفريق، ويحرم أن يتعتع الشاهد وهو أن يداخله في
الشهادة أو يتعقبه أو يرغبه في الإقامة أو يزهده لو توقف، ولا يقف عزم الغريم عن
الإقرار إلا في حقه تعالى لقضية ماعز بن مالك عند النبي ص.
وأما السكوت إن كان لآفة توصل إلى الجواب، وإن كان عنادا حبس حتى يجيب
أو يحكم عليه بالنكول بعد عرض الجواب عليه.
468

القول في اليمين:
لا ينعقد اليمين الموجبة للحق ولا المسقطة للدعوى إلا بالله تعالى مسلما كان
الحالف أو كافرا، ولو أضاف مع الجلالة خالق كل شئ في المجوسي كان حسنا، ولو
رأى الحاكم ردع الذمي بيمينهم فعل إلا أن يشتمل على محرم، وينبغي التغليظ بالقول
والزمان والمكان في الحقوق كلها إلا أن ينقص المال عن نصاب القطع، ويستحب
للحاكم وعظ الحالف قبله، ويكفي نفي الاستحقاق وإن أجاب بالأخص، ويحلف على
القطع في فعل نفسه وتركه وفعل غيره وعلى نفي العلم في نفي فعل غيره.
القول في الشاهد واليمين:
كل ما يثبت بشاهد وامرأتين يثبت بشاهد ويمين، وهو كل ما كان مالا أو المقصود
منه المال كالدين والقرض والغصب، وعقود المعاوضات كالبيع، والصلح والجناية
الموجبة للدية كالخطأ وعمد الخطأ وقتل الوالد ولده والعبد وكسر العظام والجائفة
والمأمومة. ولا تثبت عيوب النساء ولا الخلع والطلاق والرجعة والعتق على قول، والكتابة
والتدبير والنسب والوكالة والوصية إليه بالشاهد واليمين، وفي النكاح قولان. ولو كان
المدعون جماعة فعلى كل واحد يمين، ويشترط شهادة الشاهد أولا وتعديله ثم الحكم يتم
بهما لا بأحدهما، ولو رجع الشاهد غرم النصف، والمدعي لو رجع غرم الجميع، ويقضى
على الغائب عن مجلس الحكم، ويجب اليمين مع البينة على بقاء الحق، وكذا يجب في
الشهادة على الميت والطفل والمجنون.
القول في التعارض:
لو تداعيا ما في أيديهما حلفا واقتسماه وكذا إن أقاما بينة، ويقضى لكل منهما بما في
يد صاحبه، ولو خرجا فهي لذي البينة، ولو أقاماها رجح الأعدل فالأكثر فالقرعة، ولو
تشبث أحدهما فاليمين عليه ولا يكفي ببينته عنها، ولو أقاما بينة ففي الحكم لأيهما
خلاف، ولو تشبثا وادعى أحدهما الجميع والآخر النصف ولا بينة اقتسماها بعد يمين
469

مدعي النصف، ولو أقاما بينة فهي للخارج على القول بترجيح بينته وهو مدعي الكل
وعلى الآخر بينهما، ولو كانت في يد ثالث وصدق أحدهما صار صاحب اليد وللآخر
إحلافهما، ولو كان تاريخ إحدى البينتين أقدم قدمت.
القول في القسمة:
وهي تمييز أحد النصيبين عن الآخر وليست بيعا وإن كان فيها رد، ويجبر الشريك
لو التمس شريكه ولا ضرر، ولو تضمنت ردا لم يجبر، وكذا لو كان فيها ضرر كالجواهر
والعضائد الضيقة والسيف فلو طلب المهاياة جاز ولم يجب، وإذا عدلت السهام واتفقا
على اختصاص كل واحد بسهم لزم وإلا أقرع، ولو ظهر غلط بطلت، ولو ادعاه أحدهما
ولا بينة حلف الآخر فإن حلف تمت وإن نكل حلف المدعي ونقضت، ولو ظهر
استحقاق بعض معين بالسوية فلا نقض وإلا نقضت، وكذا لو كان مشاعا.
470

كتاب الشهادات
وفصوله أربعة: الفصل الأول: الشاهد:
وشرطه البلوغ إلا في الجراح بشرط بلوع العشر وأن يجتمعوا على مباح وأن لا
يتفرقوا، والعقل، والإسلام ولو كان المشهود عليه كافرا على الأصح إلا في الوصية عند
عدم المسلمين، والإيمان، والعدالة وتزول بالكبيرة والإصرار على الصغيرة وتترك المروءة
وطهارة المولد، وعدم التهمة فلا يقبل شهادة الشريك لشريكه في المشترك بينهما والوصية
في متعلق وصيته والغرماء للمفلس والسيد لعبده والعاقلة بجرح شهود الجناية.
والمعتبر في الشروط وقت الأداء لا وقت التحمل، وتمنع العداوة الدنيوية بأن يعلم
منه السرور بالمساءة وبالعكس، ولو شهد لعدوه قبل إذ كانت العداوة لا تتضمن فسقا،
ولا تقبل شهادة كثير السهو بحيث لا يضبط المشهود به ولا المتبرع بإقامتها إلا أن يكون
في حق الله تعالى ولو ظهر للحاكم سبق القادح في الشهادة على حكمه نقض.
ومستند الشهادة العلم القطعي أو رؤيته فيما يكفي فيه أو سماعا في نحو العقود مع
الرؤية أيضا ولا يشهد إلا على من يعرفه ويكفي معرفان عدلان، وتسفر المرأة عن وجهها،
وتثبت بالاستفاضة سبعة: النسب والموت والملك المطلق والوقف والنكاح والعتق وولاية
القاضي. ويكفي متاخمة العلم على قول، ويجب التحمل على من له أهلية الشهادة على
الكفاية فلو فقد سواه تعين، ويصح تحمل الأخرس وأداؤه بعد القطع بمراده، وكذا يجب
الأداء على الكفاية إلا مع خوف ضرر غير مستحق ولا يقيمها إلا مع العلم، ولا يكفي
471

الخط وإن شهد معه ثقة، ومن نقل عن الشيعة جواز الشهادة بقول المدعي إذا كان أخا
في الله معهود الصدق فقد أخطأ في نقله، نعم هو مذهب العزاقري من الغلاة.
الفصل الثاني: في تفصيل الحقوق:
فمنها بأربعة رجال وهو الزنى واللواط والسحق. ويكفي في الموجب للرجم ثلاثة
رجال وامرأتان، وللجلد رجلان وأربع نسوة.
ومنها برجلين وهي الردة والقذف والشرب وحد السرقة والزكاة والخمس والنذر
والكفارة والإسلام والبلوع والولاء والتعديل والجرح والعفو عن القصاص والطلاق والخلع
والوكالة والوصية إليه والهلال.
ومنها ما يثبت برجلين ورجل وامرأتين وشاهد ويمين وهو الديون والأموال والجناية
الموجبة للدية.
ومنها بالرجال والنساء ولو منفردات كالولادة والاستهلال وعيوب النساء الباطنة
والرضاع والوصية له.
ومنها بالنساء منضمات خاصة وهو الديون والأموال.
الفصل الثالث: في الشهادة على الشهادة:
ومحلها حقوق الناس كافة سواء كانت عقوبة كالقصاص، أو غير عقوبة كالطلاق
والنسب والعتق، أو مالا كالقرض وعقود المعاوضات وعيوب النساء والولادة
والاستهلال والوكالة والوصية بقسميها. ولا تثبت في حق الله تعالى مختصا كالزنى
واللواط والسحق، أو مشتركا كالسرقة والقذف على خلاف. ولو اشتمل الحق على
الأمرين ثبت حق الناس خاصة فيثبت بالشهادة على إقراره بالزنى نشر الحرمة لا الحد،
ويجب أن يشهد على واحد عدلان ولو شهد على الشاهدين فما زاد جاز، ويشترط تعذر
شاهد الأصل بموت أو مرض أو سفر وضابطه المشقة في حضوره، ولا تقبل الشهادة الثالثة
فصاعدا.
472

الفصل الرابع: في الرجوع:
إذا رجعا قبل الحكم امتنع الحكم وإن كان بعده لم ينتقض الحكم ويضمن
الشاهدان سواء كانت العين باقية أو تالفة، ولو كانت الشهادة على قتل أو رجم أو قطع
ثم رجعوا واعترفوا بالتعمد اقتص منهم أو من بعضهم ويرد الباقون نصيبهم، وإن قالوا:
أخطأنا، فالدية عليهم. ولو شهدا بطلاق ثم رجعا قال في النهاية: ترد إلى الأول
ويغرمان المهر للثاني، وتبعه أبو الصلاح. وفي الخلاف: إن كان بعد الدخول فلا غرم
وهي زوجة الثاني، وإن كان قبل الدخول غرما للأول نصف المهر. ولو ثبت تزوير
الشهود نقض الحكم واستعيد المال فإن تعذر أغرموا وعزروا على كل حال ويشهروا.
473