الكتاب: تقريرات البيع
المؤلف: تقرير بحث الگلپايگاني ، لمقدس
الجزء:
الوفاة: ١٤١٤
المجموعة: فقه الشيعة من القرن الثامن
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات: تقرير أبحاث السيد محمد رضا الموسوي الگلپايگاني (وفاة ١٤١٤) / نسخة مخطوطة (حجرية)

كتاب البيع
تقريرات درس حضرة آية الله العظمى سيد محمد رضا موسوي گلپايگاني (قدس)
تأليف
محمد هادي المقدس النجفي
1

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة
ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي
من الذل وكبره تكبيرا ثم الصلاة والسلام على سيد البشر
وأفضل من سلف وغبر أشرف الكائنات وأعظم
الموجودات محمد " صلى الله عليه وآله " وعترة الهداة
سيما ابن عمه ووصيه وخليفته في أمته سيد الأوصياء
وعماد الأتقياء علي أمير المؤمنين وعلى أهل بيته الغر
الميامين.
أما بعد فيقول العبد الذليل المحتاج إلى عفو
ربه الجليل محمد هادي المقدس النجفي ابن المرحوم
المغفور له الحاج الشيخ علي المقدس الرشتي مولدا النجفي
مسكنا ومدفنا أعلى الله مقامه: هذا ما تلقيناه من السيد
الأستاذ آية الله الحاج السيد محمد رضا الموسوي
الگلپايگاني " قده " من مباحث البيع وأرجو من الله تعالى
أن يوفقني لاتمامه وحسن ختامه بجاه محمد وآله وكان
الشروع في المبيضة في اليوم الخامس من شوال المكرم
من السنة 1418 هجرية المؤلف: محمد هادي النجفي
2

(كتاب البيع:)
وفيه مقدمة ومقاصد
أما المقدمة ففي تعريف البيع: فقيل في تعريفه
- كما عن المصباح المنير: أنه مبادلة مال بمال وهو
تعريف بالاسم المصدري فإن الذي يقع في الخارج
من المتبايعين هو التبديل فإن البايع يبدل متاعه
بالثمن والمشتري يبدل ثمنه بالمبيع ولم تقع المبادلة
منهما ابتداء.
نعم بعد التبديل الذي وقع منهما يتحقق التبديل
فالتعبير حينئذ بالحاصل من المصدر وقيل في تعريفه
- كما عن التذكرة والمبسوط - هو انتقال عين من شخص
إلى غيره بعوض مقدر على وجه التراضي، وهذا تعريف
بالمسبب وعن الآخرين تعريفه بالايجاب والقبول الدالين
على الانتقال وهذا تعريف بالسبب وعن جامع المقاصد
تعريفه بنقل العين بالصيغة المخصوصة وقال شيخنا
الأنصاري في تعريفه: بأنه انشاء تمليك عين بمال "
3

ويرد عليه ما يرد على سائر التعريفات طردا وعكسا
بأن التمليك هو انشاء فلا يحتاج إلى الانشاء أيضا
فالأولى حذف كلمة الانشاء.
وكيف كان فهذه التعريفات كلها غير خالية
عن المناقشة إما طردا أو عكسا أو كليهما إلا أنه يمكن أن
يقال: إن الفقهاء رضوان الله عليهم لم يريدوا بكل واحد
من هذه التعريفات أن يكون جامعا للأفراد أو مانعا
للأغيار، بل مرادهم بذلك شرح الاسم مثل قولهم:
سعدانة نبت.
وعلى أي تقدير فبناءا على تعريف المصباح بأن
البيع مبادلة مال بمال " يظهر منه أنه لا بد في المبيع
أن يكون مالا، فالحبة من الحنطة أو الماء الذي يكون
في البحر بما إذا كان تملكه بالحيازة أو الحشرات لا يمكن
بيعها لأنه لا يعد هذه بنظر العرف مالا وإن كانت
ملكا لمالكها.
ثم إن الظاهر اختصاص المبيع بالأعيان فلا يشمل تبديل
المنافع بغيرها فلا يمكن بيع عمل الحر ونحو ذلك المتبادر عند
العرف الكاشف بأنه عند الشرع أيضا كذلك ومنافاة
4

هذا الكلام مع تعريف المصباح المنير للبيع بأنه مبادلة
مال بمال الشامل للأعيان والمنافع - غير ضائر بعد
بناء التعريف على المسامحة.
نعم في بعض الأخبار التصريح بجواز بيع خدمة
العبد مع أنه من المنافع
كرواية أبي مريم عن أبي عبد الله " عليه السلام " عن رجل
يعتق جاريته عن دبر أيطأها إن شاء أو ينكحها أو يبيع
خدمتها حياته؟ فقال: أي شئ شاء فعل (1).
وفي رواية أخرى عنه " عليه السلام " عن رجل أعتق
جارية له عن دبر في حياته، قال: إن أراد بيعها باع
خدمتها في حياته. فإذا مات أعتقت (2).
قوله: أعتق جارية له عن دبر أي صيرها مدبرة بأن
قال لها: أنت حرة دبر وفاتي أي بعد وفاتي
وفي خبر السكوني عن علي " عليه السلام " قال: باع رسول
الله " صلى الله عليه وآله " خدمة العبد ولم يبع رقبته (3)

(1) الوسائل الباب 3 من أبواب التدبير والمكاتبة والاستيلاد الحديث 1 - 3 - 4.
(2) الوسائل الباب 3 من أبواب التدبير والمكاتبة والاستيلاد الحديث 1 - 3 - 4.
(3) الوسائل الباب 3 من أبواب التدبير والمكاتبة والاستيلاد الحديث 1 - 3 - 4.
5

وكذا في بعض الأخبار التصريح بجواز بيع سكنى
الدار، كرواية إسحاق بن عمار الساباطي عن العبد
الصالح " عليه السلام " قال: سألته عن رجل في يده دار
ليست له ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله قد أعلمه
من مضى من آبائه أنها ليست لهم ولا يدرون لمن
هي فيبيعها ويأخذ ثمنها؟ قال: ما أحب أن يبيع
ما ليس له، قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده
فيقول: أبيعك سكناي وتكون في يدك كما هي
في يدي؟ قال: نعم يبيعها على هذا (1).
إلا أنه يمكن حمل هذه الروايات على أن المراد
بالبيع الإجارة، فأطلق البيع عليها مجازا لكنه خلاف الظاهر
فلا يبعد أن يقال: إن المبيع يعتبر أن يكون مما يعد مالا
سواء كان عينا أو منفعة إلا أن يدعى الاجماع على
اعتبار كونه عينا كما ادعاه بعضهم.
ثم إن العين هي مما يقابل المنفعة سواء كانت
شخصية أو كلية مشاعا كنصف الدار أو كليا في المعين

(1) الوسائل الباب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه الحديث 5.
6

كمن من هذه الصبرة، والفرق بين الكلي المشاع والكلي في
المعين أنه لا يجوز للبايع بيع الجزء الآخر من الدار إلا
بإجازة شريكه لأن كل جزء من الدار يكون فيه حق الشريك
بخلاف الكلي في المعين فإنه يجوز للبائع بيع جميعه
إلا المقدار الذي باعه للغير، مثلا إذا باع منا من هذه
الصبرة وكان جميعها مأة من يجوز له بيع تسعة و
تسعين منا ويبقي منا للمشتري الأول وكذا يجوز بيع
الكلي في الذمة، وبيع الدين الذي يكون له على الغير
ولكن يرد على هذين الفرضين أن البيع لا بد
أن يكون مما يمكن فيه تعلق الملكية، والكلي في الذمة
والدين ليسا كذلك لعدم وجودهما في الخارج فكيف
يجوز بيع الشئ المعدوم مع أن من المعلوم أن الملكية عرض
والعرض يحتاج إلى المعروض كالسواد والبياض والحرارة
والبرودة.
والحاصل أن العرض ليس له وجود استقلالي، بل
يوجد في ضمن وجود المعروض والمفروض هنا عدم وجود المملوك
في الخارج، فكيف تتحقق الملكية بدون وجود المملوك
7

في الخارج.
ولكن يمكن أن يقال: إن الملكية ليست كسائر الأعراض
التي لا يمكن تحققها في الخارج إلا بتحقق معروضاتها
كالحرارة والبرودة العارضتان للماء فبدون وجود
الماء في الخارج لا يمكن تحقق الحرارة أو البرودة في
الخارج، وهذا في الأعراض والمعروضات الواقعية
يكون كذلك أي لا يمكن تحققها إلا بتحقق
معروضاتها.
وهذا بخلاف الملكية والزوجية
والرقية والحرية ونحو ذلك مما لا يكون له تحقق إلا
بنحو الاعتبار فهذه الأمور وجودها وجود اعتباري
كشف عنه العرف وأمضاه الشارع أو كشف عنه
الشرع طبقا للعرف وليس لها وجود خارجي حتى
تحتاج إلى تحقق المعروضات في الخارج، فكما أن
وجود الملكية ونحوها اعتباري فكذا يمكن أن
يكون وجود معروضها كالكلي في الذمة والدين
اعتباريا، فحينئذ يرتفع الاشكال ويساعد ما ذكرنا
العرف، فإن العرف موافقون مع هذا النحو من
8

المعاملة، والشارع لم يردعهم عن ذلك
نعم يبقى هنا اشكال آخر في خصوص الدين، وهو
أنه كيف يمكن أن يصير المديون مالكا لما في ذمته إذا
باع للمشتري متاعا بالدين الذي يكون في ذمته، و
كيف يتسلط الانسان على نفسه؟
إلا أنه يجاب عن هذا الاشكال أيضا بأنه لا مانع
من تملك ما في ذمته آنا ما ثم سقوطه عن ذمته كما
إذا ملك العمودين، أعني الأبوين فإنه لا يجوز تملك
العمودين، فإذا تملكهما قهرا بأن ملكهما بالإرث ونحوه
فبمجرد دخولهما في ملكه ينعتقان عليه فتملك العمودين
هناك إنما يتصور بتملكهما آنا ما ثم انعتاقهما عليه فكذلك
فيما نحن فيه بأن يتملك ما في ذمته آنا ما يسقط عن
ذمته، هذا كله في المبيع.
وأما الثمن فالظاهر أن كونه من المنافع غير ضائر
نعم عن كاشف الغطاء نسبة المنع إلى بعض، ولعله
لعدم كون الثمن من المنافع متعارفا عند العرف، فلذا
لا يتبادر إلى الذهن إلا نقل الأعيان، ولكن عن غير
9

موضع من القواعد وكذا من التذكرة وجامع القاصد
جواز كون الثمن من المنافع.
وقال شيخنا الأنصاري في كتاب البيع: لا يبعد
عدم الخلاف فيه انتهى، وهل يجوز جعل عمل الحر
ثمنا أو لا؟ فإن قلنا: إن عمل الحر مال يبذل بإزائه
المال سواء كان قبل المعاوضة عليه أو بعده فلذا يصير
العامل غنيا لا يجوز له أخذ حق الفقراء كالزكاة إذا
كان قادرا على التكسب بواسطة العمل فإنه كما يكون
الانسان غنيا بوجود مؤنته ومؤنة عيالاته فعلا فكذا
يكون غنيا بوجود مؤنته ومؤنة عائلته قوة بأن يكون
قادرا على التكسب تدريجا فحينئذ يجوز جعله عوضا
للمبيع.
وأما إذا قلنا: إن عمل الحر لم يكن مالا قبل المعاوضة
مع أنه يعتبر أن يكون المبيع والثمن مالا قبل المعاوضة لكي
تصح المعاوضة بهما، ووجه عدم كون عمل الحر مالا
قبل المعاوضة أنه لا تتحقق به الاستطاعة فإنه إذا
أمكنه الحج بأن كان قادرا في طريق الحج على التكسب
10

لا يجب عليه الحج، وكذا إذا حبسه الظالم وفوت عليه
منافعه التي يمكن له استيفائها بالعمل، فإن الظالم
غير ضامن لمنافعه الفائتة، وهذا بخلاف العبد
والدابة فإن الظالم إذا غصبهما فهو ضامن لمنافعهما
فيعلم من ذلك أن عمل الحر ليس مالا قبل المعاوضة عليه
فلا يجوز جعله عوضا في المبيع.
نعم يمكن أن يقال: إنه بعد المعاوضة يصير مالا
بنظر العرف بأن استأجر حرا مثلا شهرا بكذا فإنه
بنظر العرف يصير بذلك ذا مال بأن كان له على
ذمة الحر عمل شهر وهذا له قيمة فيجوز جعله ثمنا في البيع
إلا أن الانصاف أن عمل الحر يكون مطلقا مالا
سواء كان قبل المعاوضة أو بعدها فلذا تراه أنه لا يمكنه
الاستفادة من حق الفقراء كالزكاة إذا كان قادرا على
التكسب بالعمل بأن وفي عمله بمؤنة سنته وسنة عائلته
والاستشكال بعدم وجوده حين المعاملة، والثمن
11

لا بد أن يكون موجودا حين البيع يدفعه - مضافا إلى
ورود مثله في عمل العبد واستيجار الدابة ولم يستشكل
فيهما أحد - أن الجواب الذي ذكرناه في بيع الكلي
في الذمة وبيع الدين جار هنا بأن نقول: إن الملكية
أمر اعتباري فلا مانع من تعلقها بأمر اعتباري، مع
أنه لا فرق بين عمل الحر وعمل العبد
الدال على جواز بيعه فتوى المشهور فحينئذ لا يعتبر
في الثمن أزيد من أن يكون مما له مالية بنظر العرف
أي مما يبذل بإزائه المال وإن لم يكن موجودا قبل
المعاملة كما في بيع خدمة العبد ومنفعة الدابة أو الدار
كما أن الإجارة أيضا كذلك ضرورة أن العين المستأجرة
إنما يؤجرها باعتبار المنافع التي لم توجد بعد بل هي
ستجدد بعد الإجارة، ولم يستشكل فيها أحد.
فتحصل من ذلك أنه لا مانع من جعل المنافع عوضا
للمبيع، وأما الحقوق فهل يجوز جعلها عوضا للمبيع
12

أم لا؟ فينبغي التفصيل فيها، فنقول - ومن الله
الاستعانة: إن الحقوق على أقسام: منها ما لا يجوز
نقله ولا اسقاطه ولا ينتقل بالإرث مثل حق الأبوة
وحق البنوة وحق التعليم والتربية وحق الزوج والزوجة
وحق الاستمتاع من الزوجة وحق المضاجعة وأمثال
ذلك على اشكال في بعضها، وهذه الأمثلة لم يذكر
الأستاذ " قده " إلا بعضها
ومنها ما يجوز اسقاطه فقط ولا يمكن نقله ولا
ينتقل بالإرث كحق الغيبة والافتراء والسب والاستهانة
ومنها ما ينتقل بالإرث ولكن لا يمكن نقله، نعم
يصح اسقاطه كحق الشفعة
ومنها ما يصح نقله واسقاطه وينتقل بالموت أيضا
كحق الخيار وحق القصاص وحق الرهانة وحق التحجير
وحق الشرط (كذا في حاشية السيد محمد كاظم الطباطبائي
على كتاب البيع) ولكن في جعل حق الخيار وحق القصاص
13

من الحقوق التي يصح نقلها نظر لعدم تصوير جواز
نقلها فإن حق الخيار كيف يجوز نقله إلى غير من له
الخيار نعم يجوز نقله إلى من له الخيار بأن كان له في
أول الأمر الخيار بالنسبة إلى فسخ البيع فباع خياره
للمشتري بأن يصير المشتري ممن له الخيار على فسخ
البيع.
هذا بالنسبة إلى حق الخيار وأما حق القصاص
فلم يمكننا التصور في جواز نقله، نعم يجوز اسقاطه وينتقل
بالموت إلى وارثه.
ثم إن بعض ما ذكرنا من الحقوق يمكن أن يكون
حكما لاحقا، والفرق بين الحكم والحق أن الحكم ليس فيه
السلطنة على الشئ أو على الشخص بل هو مجرد الإباحة
كالحكم بجواز الفسخ في الهبة غير المعوضة وكالحكم بجواز
أكل الطعام أو شرب الماء فإنه لا سلطنة هنا بل ليس
14

هنا إلا مجرد الرخصة له على الفسخ أو جواز أكل الطعام أو
شرب الماء مثلا.
وأما الحق فإنه نوع سلطنة على شئ كالسلطنة على
فسخ العقد أو السلطنة على شخص كحق القصاص، هذا
بحسب الكبرى واضح.
وأما بحسب الصغرى فتشخيص الحق من الحكم
والتمييز بينهما في غاية الاشكال إذ في كل مورد أطلق فيه
الحق يمكن تصوير كلا الوجهين فلا بد في تشخيص الحق
وتمييزه عن الحكم، أما وجود الاجماع أو وجود دليل معتبر
وإلا فبمجرد اطلاق الحق عليه في بعض الأخبار كحق السلام
وحق الزيارة وحق المجالسة - لا يمكن جعله من الحقوق
ما لم تكن الرواية صريحة أو ظاهرة في كونه من الحقوق
وكيف كان فالأقسام التي ذكرناها من الحقوق
لا يمكن جعل جميعها ثمنا للبيع إذ قد عرفت أن قسما منها غير
قابل للنقل والانتقال، وأما التي هي قابلة للنقل والانتقال
15

فهل يجوز جعلها ثمنا في البيع أم لا؟ قال شيخنا المحقق
الأنصاري " قدس سره ": وأما الحقوق القابلة
للانتقال كحق التحجير ونحوه فهي - وإن قبلت النقل
وقوبلت بالمال في الصلح - إلا أن في جواز وقوعها
عوضا للبيع اشكالا -: من أخذ المال في عوضي المبايعة
لغة وعرفا مع ظهور كلمات الفقهاء عند التعرض لشروط
العوضين ولما يصح أن يكون أجرة في حصر الثمن
في المال انتهى كلامه رفع مقامه.
إلا أنه يمكن التفصيل في ذلك بأن يقال: إن
الحق لا يجوز بيعه لمن عليه الحق لعدم تعقل أن يكون
من عليه الحق من له الحق أي لا يمكن أن يتسلط على
نفسه كما لا يمكن أن يكون الشئ الذي يكون تحتا
أن يصير فوقا باعتبار واحد.
نعم يمكن أن يكون الحق الذي في ذمته ثمنا باسقاط
ذلك الحق عن ذمته، إلا أن الاسقاط بنظر العرف
لا يكون ثمنا وليس عند العرف جعل الاسقاط ثمنا
16

للبيع متعارفا، هذا بالنسبة إلى من عليه الحق، وأما بالنسبة
إلى غيره فالظاهر أنه لا مانع من بيعه بأن يبيع الحق الذي
له على زيد لعمرو بجعل الحق ثمنا فيكون عمرو ذا حق على
زيد.
ولكن لا يخفى أن الحق إنما يجوز جعله ثمنا باعتبار
ذي الحق كحق التحجير فإن الذي يمكن جعله ثمنا هو
الأرض التي صار له الحق فيها بتحجيرها فإنها مال بنظر
العرف، وأما نفس الحق من دون ملاحظة ذي
الحق فليس بمال بنظر العرف، والمفروض أنه لا بد
في الثمن من أن يكون مالا لما عرفت من تعريف المصباح
من أن البيع مبادلة مال بمال.
ثم إن الأستاذ رحمه الله ذكر تعاريف كثيرة من
الفقهاء رضوان الله عليهم - للبيع وذكر النقض والابرام
الواردين عليها إلا أننا أضربنا عن ذكرها صفحا لما
ذكرنا في أول هذا الكتاب من أن هذه التعاريف
17

ليست تعريفات حقيقية بل هي من قبيل شرح الاسم
فلا نطول بها الكتاب.
ثم اعلم أن الشهيد الثاني " قدس سره " ذكر في
المسالك عند قول صاحب الشرائع " اطلاق العقد
ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد "
فقال في شرحه: عقد البيع وغيره من العقود حقيقة
في الصحيح مجاز في الفاسد لوجود خواص الحقيقة
والمجاز فيهما كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند
اطلاق قولهم: باع فلان داره وغيره، ومن ثم حمل
الاقرار به عليه حتى لو ادعى إرادة الفاسد لم تسمع
اجماعا، وعدم صحة السلب وغير ذلك من خواصه
ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره
بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة، وانقسامه إلى
الصحيح والفاسد أعم من الحقيقة انتهى.
وقال الشهيد الأول في محكي قواعده: الماهيات
18

الجعلية كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق
على الفاسد إلا الحج لوجوب المضي فيه انتهى.
وحاصل دليل صاحب المسالك لاثبات كون
العقود حقيقة في الصحيح دون الفاسد أمران:
أحدهما هو تبادر المعنى الصحيح من اطلاق
العقد والتبادر علامة الحقيقة
وثانيهما هو عدم صحة السلب عن العقد الصحيح
ولكن يرد عليه أن العلامتين وإن أفادتا الحقيقة
بالنسبة إلى الصحيح إلا أنهما لا تفيدان الاختصاص
وأما حمل الاقرار على البيع الصحيح فلأجل
وجود القرينة على أن مراده هو الصحيح فلا يدل على
أنه حقيقة فيه فقط
وأما قوله: إن القسمة أعم من الحقيقة ففيه أن
التقسيم ظاهر في الحقيقة، ألا ترى أنه لا يجوز تقسيم الأسد
إلى من يمشي على أربع ومن يمشي على اثنين
19

والمراد به الرجل الشجاع وهو معنى مجازي.
ويرد على كلام الشهيد الأول " قدس سره " في قواعده
أن العقود ليست من الماهيات الجعلية بل هي من
الماهيات العرفية التي أمضاها الشارع، فعطفها على
الماهيات الجعلية كالصلاة والصيام غير صحيح.
ويرد عليهما معا أن القول بأن العقود موضوعة للصحيح
يستلزم منه عدم جواز التمسك باطلاقات الآيات و
الروايات لو شك في اعتبار شئ في العقود مع أن
سيرة العلماء الأعلام على التمسك بالاطلاق، مثلا إذا
شك في اعتبار العربية في صيغة البيع ننفيه باطلاق
قوله تعالى " أحل الله البيع " أو قوله " تجارة عن تراض "
أو قوله " أوفوا بالعقود " ونحو ذلك فلو كانت العقود
موضوعة للصحيح لا يمكن التمسك بالاطلاق لأن المفروض
أنها موضوعة للصحيح فلا بد من احراز صحة الفرد
المشكوك حتى يمكن التمسك بالاطلاق، وإلا فيصير
20

من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية وهو غير جائز
كما بين في الأصول
وأجاب عن هذا الاشكال السيد الطباطبائي
في حاشيته على المكاسب بأنا قد بينا في محله جواز
التمسك بالاطلاقات على مذهب الصحيحي أيضا
سواء كان في العبادات أو المعاملات ولذا ترى
تمسكهم بها من الصدر الأول إلى الآن في العبادات
مع كون مذهب الأكثر فيها الوضع للصحيح، والسر
فيه أنه ليس الموضوع له عندهم عنوان الصحيح، بل
ما يكون جامعا للشرائط الشرعية بحسب ما يستفاد
من الأدلة بمعنى أنها طريق إلى الموضوع له الواقعي
هذا نظير ما يقال في دفع الاشكال الوارد على
الأعمي أيضا من أن المطلوب والمراد هو الصحيح
قطعا فكيف يتمسك بالاطلاقات،
وبالجملة كل مورد يجوز التمسك بالاطلاق على
21

الأعم يجوز على الصحيح أيضا انتهى موضع الحاجة من
كلامه زيد علو مقامه
أقول: هذا الذي ذكره " قدس سره " غير مجد
فإن الصحة على فرض أنها لم تكن مأخوذة في الموضوع
بل هي أمر انتزاعي منتزعة من جامعيته للأجزاء
والشرائط - لا يجوز التمسك بالاطلاق أيضا إذا شك
في كون شئ شرطا لعدم احراز الموضوع بدون ذلك
الشرط فإنه بدونه يشك في كونه جامعا للشرائط فيكون
من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية أيضا فحينئذ
لا فرق بين ما إذا أخذت الصحة في عنوان الموضوع
أو كانت الصحة أمرا منتزعا من الجامع للشرائط.
نعم أجاب عن الاشكال المذكور - أعني
عدم جواز التمسك بالاطلاق على فرض كون
الموضوع له هو الصحيح - شيخنا الأنصاري بما حاصله
ما ذكره السيد الطباطبائي في توضيح مراده نقلا من
22

حاشية المعالم للشيخ المدقق الشيخ محمد
تقي الأصبهاني الإيوان كئي " قدس سره " حيث
قال ما حاصله: إن الأظهر أن يقال بوضعها (أي
العقود) لخصوص الصحة بمعنى ما يكون مفيدا
للأثر المطلوب منه وأنه ليس للشارع فيها وضع
جديد، بل هي عنده أيضا موضوعة لما يفيد
الأثر، غاية الأمر أن المؤثر عند العرف قد لا يكون
مؤثرا عنده، فيكون من باب الاختلاف في المصداق
وإلا فالموضوع له غير مختلف، فيرجع الأمر إلى تخطئة
الشارع للعرف في المصداق بحيث لو انكشف لهم
أن ما هو مؤثر باعتقادهم غير مؤثر في الواقع يكون
خارجا عندهم عن حقيقة المعاملة.
وإذا كان كذلك فيجوز التمسك بالاطلاقات
فإن موضوعها هو المعاملات المؤثرة في نظر العرف
وهي مفيدة لكونها مؤثرة في نظر الشارع أيضا إلا ما ثبت
23

خروجه، والحاصل أنه ليس للشارع فيها وضع جديد
وحقيقة شرعية لتصير الاطلاقات مجملة انتهى.
والحاصل أنه لم يتصرف الشارع في
الموضوعات الموجودة عند العرف أي المعاملة
العرفية إلا بمقدار تخطئته له في بعض الموارد
كبيع الخمر أو الخنزير والبيع الربوي وبيع آلات الغناء
وآلات القمار ونحو ذلك، ولم يكن موضوع المعاملة
عنده مغايرا لموضوع المعاملة عندهم، وهذا مثل ما
إذا اختلف اثنان في اللون الأحمر الموجود في
اللباس فقال أحدهما: هذا دم، وقال الآخر:
هذا جوهر مع اتفاقهما بأن الدم نجس والجوهر
طاهر.
ثم قال السيد الطباطبائي: ثم لا يخفى أن
التوجيه المذكور إنما يتم بناءا على ما اختاره المصنف
من أن الملكية علقة واقعية بين المالك والمملوك
24

وأنها ليست من الأحكام الوضعية المجعولة وكذا الزوجية
ونحوها كالطهارة والنجاسة وأن العقد سبب واقعي
لها غير مجعول نظير سائر الأسباب والمسببات
الواقعية كالنار والاحراق مثلا إذ على هذا يمكن دعوى
أن الموضوع له للفظ البيع مثلا هو التمليك الواقعي
المؤثر للأثر المفيد للملكية وأنه غير مختلف عند الشرع
والعرف.
غاية الأمر أن بعض ما يراه العرف سببا واقعيا
مؤثرا كشف الشارع عن عدم كونه كذلك وأنه مخطئ
في هذا الاعتقاد كما أنه لو تخيل شيئا أنه نار فكشف عنه
الشارع وأنه ليس بنار واقعا فحينئذ يرجع الأمر
إلى التخطئة في المصداق ويكون بحيث لو كشف الغطاء
عن نظر العرف رجع من اعتقاده وحكم بعدم كونه
بيعا مثلا، وكذا في لفظ الطهارة فإنها موضوعة
عرفا وشرعا للنظافة إلا أن بعض ما يراه
25

العرف نظيفا لا يكون كذلك واقعا، والعرف لا
يرى الكثافة الواقعية، ولو كشف الواقع لا يحكم بكونه
نظيفا كالآنية المغسولة بماء الورد النجس مثلا، فهذا
ليس اختلافا في المعنى والمفهوم بل في المصداق.
لكن التحقيق منع هذا المبنى فإن الملكية وكذا
أخواتها من الزوجية والحرية والرقية ونحوها أحكام
مجعولة للعقلاء أو الشارع واعتبارات عقلائية
أو شرعية ولا واقع لها إلا هذا الاعتبار وإن الأسباب
الموجبة لها من البيع والنكاح ونحوهما أسباب جعلية
وإلا فلا تأثير لها فيها، وعليه فلا يتم التوجيه المذكور
إذ لا معنى حينئذ لتخطئة العرف في المصداق
إذ المفروض أن العقد بدون الشرط الشرعي
الفلاني سبب عندهم مفيد للملكية
فلا يمكن أن يقال: ما تراه سببا ليس بسبب
لأن الفرض أنه هو الجاعل للسبب والواضع للاسم
26

نعم يمكن تخطئته في أصل الجعل بأن يقال: إن مقتضى
المصلحة أن لا يجعل هذا سببا وهو غير التخطئة
في المصداق انتهى كلامه رفع مقامه.
والحاصل أنه لو قلنا: إن الشارع ليس له وضع
جديد في العقود، بل ما يكون عند العرف عقدا
يكون عنده عقدا إلا ما استثناه من بيع الخمر وبيع
الربا وبيع آلات القمار وقلنا: إن الملكية هي العلقة
الموجودة بين المالك والمملوك يتصور التخطئة في
المصداق بأن ينبه الشارع العرف بأن بيع
الخمر مثلا ليس من مصاديق البيع، وبعد تنبه العرف
بذلك ينكشف لديه أن ما توهمه بيعا ليس ببيع
حقيقة.
وأما إذا قلنا: إن الملكية ونحوها ليس لها واقعية
إلا نفس الاعتبار، كما هو المختار، فلا يمكن تخطئة
الشارع للعرف حينئذ، لأن المفروض أن لا
27

واقعية للملكية إلا نفس الاعتبار أي اعتبار
العرف والمفروض أن العرف قد اعتبرها
فكيف يمكن للشارع أن يقول للعرف: إنك
وإن اعتبرت الملكية في بيع الخمر لكن اعتبارك
لا حقيقة له، وهذا غير ممكن الصدور من الشارع
لتحقق الاعتبار من العرف قطعا، فلا يمكن
للشارع أن يصير الموجود معدوما.
نعم يمكن له أن يقول للعرف: إن اعتبارك
قد وقع في غير محله لأنه لا ينبغي لك هنا اعتبار
الملكية لعدم تحققها هنا
هذا كله لو قلنا: إنه لم يكن بين الشارع و
العرف اختلاف في موضوع العقود.
وأما إذا كان بينهما اختلاف في موضوعها
بأن كان الموضوع عند الشرع غير الموضوع عند
العرف فلا يمكن التمسك حينئذ بالاطلاق عند
الشك في اعتبار شئ في الجزئية والشرطية لكون
الاختلاف حينئذ في المفهوم إلا أن التحقيق ما عرفت
28

من أنه ليس للشارع هنا وضع جديد فالموضوع في
العقود عنده هو الموضوع العرفي وليس للشارع
التصرف في الموضوعات العرفية إلا بمقدار تخطئة
العرف في بعض الموضوعات كبيع الخمر والخنزير
وبيع النبيذ والواقع أن تخطئة الشارع للعرف في
الموارد المستثناة إنما هي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع
مثلا إذا قال: لا بيع إلا في ملك " ليس المراد نفي
الملكية عنه فإنه بنظر العرف يحصل الملكية بل المراد الحرمة
هذا تمام الكلام في المقدمة.
(المقصد الأول:)
في البيع وأقسامه اعلم أنه لا بد في تحقق البيع من
أحد أمور أربعة إما الكلام كالصيغة أو الفعل المشعر
على إرادة البيع كالتعاطي أو الإشارة أو الكتابة،
أما الصيغة فسيجئ الكلام فيها وكذا الإشارة
والكتابة، وأما المعاطاة فهي تتصور على وجهين
29

أحدهما أن يبيح كل واحد من المتعاطيين التصرف
فيما يعطيه من دون نظر إلى تمليكه.
الثاني أن يكون قصد كل واحد منهما
تمليك ماله للآخر وربما يذكر وجهان آخران
للمعاطاة: أحدهما أن يقع النقل من غير قصد
للبيع ولا تصريح للإباحة المذكورة، بل يعطي شيئا
ليناول شيئا فدفعه الآخر إليه.
والثاني أن يقصد الملك المطلق دون خصوص
البيع، نقلهما الشيخ الأنصاري " قدس سره " في كتاب
البيع عن بعض،
ولكن يرد على الأول بامتناع خلو الدافع عن
قصد الإباحة أو البيع أو العارية أو الوديعة أو القرض
أو غير ذلك من عناوين النقل وعلى الثاني
بامتناع تحقق الجنس بدون الفصل.
ثم إن المعروف بين العلماء أن المعاطاة
30

مفيدة للإباحة دون التمليك، ولكن تتحقق
الملكية بتلف إحدى العينين إلا أنه نقل عن
الشيخ المفيد، وبعض العامة أنها مفيدة للملك
اللازم، وحيث إن الإباحة قبل التلف وحصول
الملكية بعده لا يجامع قصد المتعاطيين - للملك
نزل المحقق الكركي الإباحة في كلام الفقهاء على
الملك المتزلزل وأنه يلزم - أي يصير لازما -
بذهاب إحدى العينين.
إلا أن صاحب الجواهر استبعد هذا الوجه
ورجح بقاء الإباحة في كلامهم على ظاهرها من دون
قصد المتعاطين للتمليك، ولا بد أولا من نقل
كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم حتى يظهر مرادهم
قال في محكي الخلاف: إذا دفع قطعة إلى البقلي
أو الشارب، فقال أعطني بها بقلا أو ماء فأعطاه
فإنه لا يكون بيعا وكذلك سائر المحقرات، وإنما يكون
31

إباحة له، فيتصرف كل منهما في ما أخذه تصرفا
مباحا من دون أن يكون ملكه، وفائدة ذلك
أن البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل أو أراد صاحب
القطعة أن يسترجع قطعته كان لهما ذلك لأن الملك لم يحصل
لهما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: يكون بيعا
صحيحا وإن لم يحصل الايجاب والقبول وقال:
ذلك في المحقرات دون غيرها
دليلنا أن العقد حكم شرعي ولا دلالة في
الشرع على وجوده هنا، فيجب أن لا يثبت وأما
الإباحة بذلك فهي مجمع عليها لا يختلف العلماء
فيها انتهى.
وهذا الكلام لا دلالة فيه على قصد المتعاطيين
للملك أصلا، وقال في السرائر - على ما حكي عنه -
بعد ذكر اعتبار الايجاب والقبول واعتبار تقدم
الأول على الثاني ما لفظه: فإذا دفع قطعة إلى
32

البقلي أو إلى الشارب فقال: أعطني فإنه لا يكون
بيعا ولا عقدا لأن الايجاب والقول ما حصلا
وكذلك سائر المحقرات وسائر الأشياء محقرا كان
أو غير محقر من الثياب والحيوان أو غير ذلك، وإنما
يكون إباحة له، فيتصرف كل منهما في ما أخذه تصرفا
مباحا من غير أن يكون ملكه، ولكل منهما أن يرجع
في ما بذله لأن الملك لم يحصل لهما وليس ذلك
من العقود الفاسدة لأنه لو كان عقدا فاسدا لم
يصح التصرف فيما صار إلى كل واحد منهما، وإنما
ذلك على جهة الإباحة انتهى.
وقال ابن زهرة - على ما حكي عنه - في الغنية
بعد ذكر الايجاب والقبول في عداد شرائط صحة
انعقاد البيع كالتراضي ومعلومية العوضين وبعد
بيان الاحتراز لكل من الشروط عن المعاملة الفاقدة
له ما لفظه: واعتبرنا حصول الايجاب والقبول
33

تحرزا عن القول بالاستدعاء من المشتري والايجاب
من البايع بأن يقول: بعنيه بألف فيقول: بعتك
بألف فإنه لا ينعقد بذلك، بل لا بد أن يقول
المشتري بعد ذلك: اشتريت أو قبلت حتى
ينعقد واحترازا أيضا عن القول بانعقاده بالمعاطاة
نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة ويقول: أعطني بقلا
فيعطيه فإن ذلك ليس ببيع وإنما هو إباحة للتصرف
يدل على ما قلناه الاجماع المشار إليه وأيضا فما
اعتبرناه مجمع على صحة العقد، وليس على صحته مما
عداه دليل ولما ذكرنا نهى النبي " صلى الله عليه و
آله " عن بيع المنابذة والملامسة وعن بيع الحصاة على
التأويل الآخر، ومعنى ذلك أن يجعل اللمس
بشئ والنبذ له والقاء الحصاة بيعا موجبا انتهى.
وهذا الكلام وكذا كلام صاحب السرائر
لا دلالة فيهما على أن محل الكلام قصد المتعاطيين
34

للتمليك.
وكذا كلام أبي الصلاح في الكافي قال - على
ما حكي عنه - بعد ما ذكر أنه يشترط في صحة البيع
أمور ثمانية ما لفظه -: واشترط الايجاب والقبول
لخروجه من دونهما عن حكم البيع - إلى أن قال -:
فإن اختل شرط من هذه لم ينعقد البيع ولم
يستحق التسليم، وإن جاز التصرف مع اخلال
بعضها للتراضي دون عقد البيع ويصح بعد الرجوع
انتهى.
وقال العلامة في التذكرة في حكم الصيغة: الأشهر
عندنا أنه لا بد منها فلا يمكن التعاطي في الجليل و
الحقير مثل أعطني بهذا الدينار ثوبا فيعطيه ما
يرضيه أو بقوله: خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه
وبه قال الشافعي مطلقا، لأصالة بقاء الملك و
قصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد، وعن
35

بعض الحنفية وابن شريح: في الجليل، وقال
أحمد: ينعقد مطلقا ونحوه قال مالك، فإنه قال
ينعقد بما يقصده الناس بيعا انتهى.
وهذا الكلام لا يخلو من الاشعار بكون قصد
المتعاطيين للتمليك خصوصا بعد نقل كلام أحمد
فإنه قال: ينعقد بما يقصده الناس بيعا "
والحاصل أن ما ذكره شيخ مشايخنا الأنصاري
" قدس سره " من أن محل الكلام فيما بين الفقهاء
في المعاطاة ما إذا قصد المتعاطين الملك دون
ما إذا كان قصدهما مجرد الإباحة " - محل نظر
فإنه لا يستفاد من كلامهم ذلك كما عرفت.
نعم يستشعر ذلك من كلام التذكرة وكذا يستفاد
ذلك من كلام صاحب الشرائع حيث قال: العقد
هو اللفظ الدال على نقل الملك من مالك إلى
آخر بعوض معلوم ولا يكفي التقابض من غير لفظ
وإن حصل من الأمارات ما يدل على إرادة
البيع سواء كان في الحقير أو الخطير انتهى، فإن كلامه
36

صريح في عدم انعقاد البيع بذلك وإن قصده المتعاطيان
وقال الشهيد الأول " قدس سره " في قواعده -
على ما حكي عنه - بعد قوله: قد يقوم السبب الفعلي
مقام السبب القولي وذكر أمثلة لذلك ما لفظه -: وأما
المعاطاة في المبايعات فهي تفيد الإباحة لا الملك
وإن كان في الحقير عندنا انتهى.
وهو ظاهر أيضا في أن مورد البحث قصد
المتعاطيين للملك، وكيف كان فقد عرفت أن
المحقق الكركي نزل كلام الفقهاء القائلين بالإباحة
على الملك المتزلزل، فقال: وما يوجد في عبارة
جمع من متأخري الأصحاب من أنها تفيد الإباحة
ويلزم بذهاب إحدى العينين يريدون به
عدم اللزوم في أول الأمر وبالذهاب يتحقق اللزوم
لامتناع إرادة الإباحة المجردة عن أصل الملك
إذ مقصود المتعاطيين إنما هو الملك فإذا لم يحصل
37

كانت فاسدة، ولم يجز التصرف في العين، و
كافة الأصحاب على خلافه، وأيضا فإن
الإباحة المختصة (المحضة ظ) لا تقتضي الملك أصلا و
رأسا، فكيف يتحقق ملك شخص
بذهاب مال آخر في يده؟ وإنما الأفعال لما لم
يكن دلالتها على المراد في الصراحة كالأقوال
وإنما تدل بالقرائن منعوا من لزوم العقد بها
فيجوز التراد ما دام ممكنا، فمع تلف إحدى العينين
يتمنع التراد ويتحقق اللزوم لأن إحداهما في مقابل
الآخر ويكفي تلف بعض إحدى العينين لامتناع
التراد في الباقي إذ هو موجب لتبعيض الصفقة
وللضرر ولأن المطلوب هو كون إحداهما في مقابلة
الأخرى انتهى موضع الحاجة
وحاصل كلامه يرجع إلى اشكالين إذا كان مراد
الفقهاء بالإباحة الإباحة المجردة أحدهما أن مراد
القائلين بالإباحة إذا كانت الإباحة المجردة عن
38

الملك فإنه لا يلائم قصد المتعاطيين للتمليك
إذ المفروض أن مقصودهما ليس هو الإباحة
المجردة عن الملك، فإذا تحققت الإباحة المجردة
عن الملك تحقق ما لم يكن مقصودهما ذلك،
فما وقع لم يقصد وما يقصد لم يقع، فيلزم على هذا
الالتزام بفساد البيع المعطاتي ومقتضاه عدم تحقق
الإباحة أصلا والحال أن كافة الأصحاب على خلافه
لاتفاقهم على الإباحة بذلك.
الاشكال الثاني أنه لو قلنا: إن المعاطاة مفيدة
للإباحة المجردة دون التمليك وأنها تصير لازمة
بتلف إحدى العينين يلزم أن يتحقق ملك شخص
بتلف ماله في يد الآخر وهذا غير معقول.
وأجاب عن الإباحة المجردة في المسالك
- بعد ما اختار أنها لم تكن بيعا فاسدا - ما لفظه
فعلى هذا يباح لكل منها التصرف ويجوز له الرجوع
39

في المعاوضة ما دامت العين باقية. فإذا ذهبت
لزمت، أما جواز التصرف فلما مر من تسليط كل
منهما الآخر على ما دفعه إليه وإذنا له فيه ولا معنى لإباحة
التصرف إلا ذلك انتهى موضع الحاجة.
أقول: يرد عليه أن مطلق التسليط على ماله لم يكن
مبيحا للتصرف فيه، ألا ترى إلى المتقامرين الذين
يسلط كل منهما الآخر على ماله مع أنه لا يجوز له
التصرف في ماله بغير إذنه وكذا معطي الربا و
الزاني ونحو ذلك، فالتسليط بنفسه ليس مجوزا
لإباحة التصرف.
قال شيخ مشايخنا الأنصاري " قدس سره "
في بيان إشكال صاحب جامع المقاصد، ما حاصله:
إن المقصود هو الملك فإذا لم يحصل فلا منشأ لإباحة
التصرف، إذ الإباحة إن كانت من المالك
فالمفروض أنه لم يصدر منه إلا التمليك وإن كانت
40

من الشارع فليس عليها دليل، ولم يشعر كلامهم
بالاستناد إلى نص في ذلك، مع أن الغاء الشارع
للأثر المقصود وترتيب غيره بعيد جدا مع أن
التأمل في كلامهم يعطي إرادة الإباحة المالكية
لا الشرعية انتهى.
وكيف كان فيمكن أن يجاب عن الاشكال المذكور
أولا بأنه بناءا على أن المعاطاة مفيدة للإباحة
المجردة كما استظهرنا ذلك من كلمات أكثر القدماء
- يمكن أن يقال: إنهم لم يبيحوا جميع التصرفات
حتى المتوقفة على الملك فلذا حكي عن الشهيد
في حواشيه على القواعد المنع عما يتوقف على
الملك كاخراجه في خمس أو زكاة وكوطي
الجارية، وعن الشيخ في المبسوط التصريح بأن
الجارية لا تملك بالهدية العارية عن الايجاب
والقبول ولا يحل وطئها وثانيا على فرض
41

تجويز جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك
نقول: إنه لا مانع من تجويز جميع التصرفات
مع القول بالإباحة المجردة بأن نقول بتحقق
الملكية آنا ما مقارنا لهذه التصرفات المبتنية على
الملك، ثم ذكر شيخنا الأنصاري " قدس سره "
في المعاطاة ستة أقوال:
الأول اللزوم مطلقا كما هو ظاهر المفيد
الثاني اللزوم بشرط كون الدال على التراضي
أو المعاملة لفظا، قال: حكي عن بعض معاصري
الشهيد الثاني وبعض متأخري المحدثين.
الثالث الملك غير اللازم، ذهب إليه
المحقق الكركي ونسبه إلى كل من قال بالإباحة
وفي النسبة ما عرفت.
الرابع عدم الملك مع إباحة جميع التصرفات
حتى المتوقفة على الملك كما هو ظاهر عبائر كثيرة.
الخامس إباحة ما لا يتوقف على الملك
42

قال: وهو الظاهر من الكلام المتقدم عن حواشي
الشهيد على القواعد وهو المناسب لما حكيناه عن
الشيخ في اهداء الجارية من دون ايجاب وقبول.
السادس القول بعدم إباحة التصرف مطلقا
نسب إلى ظاهر النهاية لكن ثبت رجوعه عنه في
غيرها
ثم قال الشيخ " قدس سره ": والمشهور بين علمائنا
عدم الملك بالمعاطاة وإن قصد المتعاطيان بها
التمليك بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقق الثاني
الذي قال به ولم يقتصر على ذلك حتى نسبه إلى
الأصحاب انتهى
وعلى أي حال وفاقا للمشهور بين
المتأخرين هو القول بكونها مفيدة للملك اللازم
والذي يستدل أو يمكن الاستدلال به على ذلك
أمور: الأول السيرة المستمرة ويمكن تقريب
43

السيرة بأحد وجهين أحدهما هو استمرار سيرة
المتشرعة من زمن الشارع " عليه السلام " إلى زماننا
هذا على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك
من التصرف فيه بأنواع التصرف حتى المتوقفة
على الملك وفي توريثه للوارث، وهذه السيرة
ثابتة قطعا بين المتشرعة في هذا الزمان ويثبتها
من زمن الشارع جيلا بعد جيل تشابه الأزمان
وثانيهما سيرة العقلاء من زمن أبينا آدم " عليه
السلام " على ذلك، ولم يرد من الشارع ردعهم
عن ذلك بل اطلاقات الأدلة الآتية
تثبتها
الثاني من الأدلة قوله تعالى " وأحل الله
البيع وحرم الربا " فإن المراد بقوله: وأحل الله
البيع " إما الحكم التكليفي أعني حلية البيع في قبال
حرمة الربا والمراد أن هذا الفعل الصادر عن العقلاء
حلال وليس بحرام بخلاف الربا الصادر منهم فإنه
44

حرام، وإما أن يكون المراد بها هي الحلية الوضعية
بأن يكون المراد أن المعاملة المسماة بالبيع عند العرف
صحيح نافذ عند الشرع أيضا، فالمراد بالآية الحكم
الوضعي أعني الصحة والنفوذ.
أما على الأول فدلالة الآية على صحة البيع
بالالتزام حيث إن لازم كون البيع حلالا صحته
ونفوذه وإلا فلا معنى لحليته.
وأما على الثاني - أعني كون المراد من الحلية
الحكم الوضعي - فدلالة الآية على صحة البيع بنحو
المطابقة، وقال شيخنا الأنصاري " قدس سره ": ما
حاصله: معنى صحة البيع حلية جميع التصرفات
المترتبة على البيع انتهى والذي دعاه إلى ذلك
- مع أن ظاهر الآية حلية نفس البيع - أنه لا معنى
لحلية نفس البيع لأن البيع بنظر
العرف شئ مباح ليس فيه محذور، فمخاطبتهم
45

بأن البيع حلال من قبيل توضيح الواضح، وكيف كان
فشمول الآية للمعاطاة باطلاقها بديهي لكونها بيع
عرفي، وانكار كونها بيعا مكابرة.
الثالث من الأدلة على صحة المعاطاة قوله تعالى
" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض " حيث إنها تدل على جواز الأكل
إذا كانت تجارة عن تراض ومن المعلوم أن المعاطاة
من مصاديق " تجارة عن تراض " فتشملها الآية
ولكن أورد شيخنا الأنصاري على جميع هذه الأدلة الثلاثة بقوله:
اللهم إلا أن يقال: إنهما (أي الآيتين) لا تدلان
على الملك، وإنما تدلان على إباحة جميع التصرفات
حتى المتوقفة على الملك كالبيع والعتق والايصاء،
وإباحة هذه التصرفات إنما تستلزم الملك بالملازمة
الشرعية الحاصلة في سائر المقامات من الاجماع
وعدم القول بالانفكاك دون المقام الذي لا يعلم
ذلك منهم حيث أطلق القائلون بعدم الملك
46

إباحة التصرفات، وصرح في المسالك بأن من
أجاز المعاطاة سوغ جميع التصرفات غاية الأمر
أنه لا بد من التزامهم بأن التصرف المتوقف على
الملك يكشف عن سبق الملك عليه آنا ما، فإن
الجمع بين إباحة هذه التصرفات وبين توقفها على
الملك يحصل بالتزام هذا المقدار ولا يتوقف على
الالتزام بالملك من أول الأمر، فيقال: إن مرجع
هذه الإباحة أيضا إلى التمليك.
وأما ثبوت السيرة واستمرارها على التوريث
فهي كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة
في الدين مما لا يحصى في عباداتهم ومعاملاتهم و
سياساتهم كما لا يخفى انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول: أما السيرة فالانصاف أنها ليست كسائر
سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلة المبالاة في الدين
بل هي سيرة المتشرعة والمتدينين بل الفقهاء والعلماء
47

العاملين فإنك لا تجد أحدا من العلماء يستشكل
في شراء المتاع من العوام مع أنه يعلم عادة أنهم اشتروه
بالمعاطاة ويشتريه هو أيضا منهم بالمعاطاة ولا
تجد أحدا من العلماء، وكذا لا تسمع من أحد من العلماء
السابقين يخطي العوام في معاملاتهم المعاطاتية
وكذا لا تجد أحدا من العلماء يستشكل في توريث
العوام أموالهم مع أنه عالم بأن أكثر أموالهم أو جميعها
إنما حصلوها بالمعاطاة، فلذا ذكر الشيخ " قدس سره " هذا
الاشكال بكلمة " اللهم " المشعرة بضعفه
وأما الآيتان فالظاهر دلالتهما على صحة بيع
المعاطاة، فإن حلية التصرفات مطلقا حتى المتوقفة
على الملك ليس بنظر العرف إلا باعتبار تحقق
الملكية بهذا البيع، واستفاد الحلية المجردة عن الملك
من الآيتين ليس من المتفاهم العرفي، وحصول
الملكية آنا ما قبل التصرف لا يساعد عليه العرف
فإن قوله تعالى " إلا أن تكون تجارة عن تراض " لا
48

يفهم العرف منه إلا حلية الأكل باعتبار تحقق
تجارة عن تراض بين المتعاملين لا الحلية المجردة
عن الملك، وكذا قوله تعالى " أحل الله البيع "
فإنه لا يستفيد العرف منه الحلية المجردة بل الحلية
المترتبة على تحقق البيع.
ولذا قال الشيخ " قدس سره " في آخر كلامه:
فالأولى حينئذ التمسك في الطلب بأن المتبادر
عرفا من حل البيع صحته شرعا، هذا مع امكان
اثبات صحة المعاطاة في الهبة والإجارة بعض
اطلاقاتهما وتتميمه في البيع بالاجماع المركب.
هذا، مع أن للفقيه التزام حدوث الملك
عند التصرف المتوقف عليه لا يليق بالمتفقه
فضلا عن الفقيه، قال: ولذا ذكر بعض الأساطين
(والمراد به صاحب كشف الغطاء) في شرحه على
القواعد في مقام الاستبعاد: إن القول بالإباحة
49

المجردة مع قصد المتعاطيين التمليك والبيع مستلزم
لتأسيس قواعد جديدة
منها أن العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود
ومنها أن يكون إرادة التصرف من المملكات
فيملك العين أو المنفعة بإرادة التصرف فيها أو
بيعه دفعة وإن لم يخطر ببال المالك الأول الإذن
في شئ من هذه التصرفات لأنه قاصد
للنقل من حين الدفع وأنه لا سلطان له بعد ذلك
بخلاف من قال: أعتق عبدك عني وتصدق
بمالي عنك "
وتوضيح مراده أن قوله: أعتق عبدك عني
وتصدق بمالي عنك ليس من قبيل المعاطاة
بناءا على أنها مفيدة للإباحة المجردة عن الملك
فإن إرادة التصرف مفيدة للملك بناءا على
هذا القول، بخلاف أعتق عبدك عني فإن
إرادة العتق أو التصدق ليست مملكة، بل معنى
50

أعتق عبدك أو ملكه أو لا إياي أو ملك
مالك إياي، ثم أنت وكيل من ناحيتي بعتقه
أو تصدقه عني.
قال رحمه الله: ومنها أن الأخماس والزكوات
والاستطاعة والديون والنفقات وحق المقاسمة
والشفعة والمواريث والربا والوصايا بما يتعلق في
اليد مع العلم ببقاء مقابله وعدم التصرف فيه
أو عدم العلم به فينفي بالأصل فتكون متعلقة
بغير الأملاك، وأن صفة الغنى والفقر تترتب
عليه كذلك فيصير ما ليس من الأملاك بحكم
الأملاك "
وحاصل مراده رحمه الله أن المعاطاة إذا لم
تفد الملك بل أفادت الإباحة المجردة يلزم
أن تتعلق بالأخماس والزكوات والديون والنفقات
وكذا حق المقاسمة وحق الشفعة والمواريث
51

والربا والوصايا - بغير الملك فيجب على أن أؤدي
مثلا خمس هذا المال الذي أخذته بالمعاطاة
من المالك مع أنه ملك صاحبه وهذا غريب
وكذا يلزم أن أصير مستطيعا بمال الغير وأيضا
يلزم أن أصير غنيا بمال الغير فلا يجوز لي حينئذ
أخذ الزكاة فيصير ما ليس من الأملاك بحكم الأملاك.
قال: ومنها (أي ومن الاستبعادات) كون
التصرف من جانب مملكا للجانب الآخر
مضافا إلى غرابة استناد الملك إلى التصرف.
ومنها جعل التلف السماوي من جانب
مملكا للجانب الآخر والتلف من الجانبين
متعين (معين ظ) للمسمى من الطرفين ولا رجوع إلى قيمة
المثل حتى يكون له الرجوع بالتفاوت، ومع
حصوله في يد الغاصب أو تلفه فيها، فالقول
بأنه المطالب لأنه تملك بالغصب أو التلف
52

في يد الغاصب غريب، والقول بعدم الملك
بعيد جدا مع أن في التلف القهري إن ملك
التالف قبل التلف فعجيب ومعه بعيد لعدم
قابليته، وبعده ملك معدوم، ومع عدم الدخول
في الملك يكون ملك الآخر بغير عوض ونفي
الملك مخالف للسيرة وبناء المتعاطيين "
وهذا الاستبعاد مركب من استبعادات ثلاثة
الأول أن التلف السماوي كيف يكون
مملكا؟ ثم كيف يكون نفس التلف من الجانبين
بأي نحو كان - معينا للمسمى دون الرجوع إلى
قيمة المثل، مع أن مقتضى عدم تحقق البيع هو
الرجوع إلى قيمة المثل كما هو شأن البيع الفاسد.
الثاني أنه إذا غصب المبيع ببيع المعاطاة
غاصب سواء تلف في يده أو لا فهل يكون المطالب
من الغاصب هو المباح له أو المالك، فإن كان
53

المباح له فلا بد أن تكون المطالبة لأجل أنه تملك
المبيع بسبب غصب الغاصب له أو تلفه في يده
وهو غريب فإنه كيف يصير غصب الغاصب
للمال أو تلفه في يده مملكا؟ وإن قلنا بعدم ملكه
له حينئذ فهو أيضا بعيد فكيف يمكنه المطالبة من
الغاصب.
الثالث من الاستبعادات أن التلف
القهري هل يكون مملكا قبل تلفه أو حين تلفه
أو بعد تلفه؟ فإن كان قبل التلف فهو عجيب
لعدم تحقق سبب الملكية، وإن كان حين
التلف فهو بعيد لعدم قابليته لكونه في معرض
الزوال، وبعد التلف ملك معدوم لا يمكن تملكه
وإن لم يكن التلف مملكا أصلا يبقى الطرف الآخر
بلا عوض وهو غير ممكن الالتزام به مضافا إلى
أن نفي الملك مخالف لسيرة المتشرعة، وبناء
54

المتعاطيين فإن بنائهما على قصد الملك.
ومنها (أي من الاستبعادات) أن التصرف
إن جعلناه من النواقل القهرية فلا يتوقف على
النية فهو بعيد، وإن أوقفناه عليها كان الواطي
للجارية من غيرها واطئا بالشبهة والجاني عليه و
المتلف خائنا على مال الغير ومتلفا له "
وحاصل مراده " قدس سره " أن التصرف الذي
جعله القائلون بالإباحة مملكا فهل يكون من النواقل
القهرية أو النواقل الاختيارية، فإن كان الأول
فلا يحتاج إلى نية التملك عند إرادة التصرف
بل ينتقل إليه قهرا بمجرد التصرف وهو بعيد.
وإن كان الثاني يلزم أن يكون وطي الجارية
بلا نية التملك وطيا بالشبهة، وكذا يلزم أن تكون
الجناية على المأخوذ بالمعاطاة جناية على مال الغير
واتلافه اتلافا لمال الغير، وكل هذا لا يمكن
55

الالتزام به.
ومنها أن النماء الحادث قبل التصرف إن
جعلنا حدوثه مملكا له دون العين فبعيد أو معها
فكذلك، وكلاهما مناف لظاهر الأكثر، وشمول
الإذن له خفي "
وحاصله أن النماء المتصل تابع لأصله فيشمله
الإذن الذي صدر من المالك بالنسبة إلى أصله
وأما النماء المنفصل فشمول الإذن له من المالك خفي
والمفروض أن العرف يعامل معه معاملة أصله
وهذا لا يوافق القول بالإباحة المجردة فلا بد إما
أن نلتزم بأن حدوث النماء يكون مملكا لنفسه
فقط أو نلتزم بأن حدوثه يكون مملكا لنفسه مع
أصله وكلاهما غريب، فإن حدوث النماء كيف
يكون من المملكات؟ وكلا الاحتمالين مناف
لظاهر الأكثر
ومنها (أي من الاستبعادات) قصر التمليك
56

على التصرف مع الاستبعاد فيه إلا أن إذن
المالك فيه إذن في التمليك فيرجع إلى كون المتصرف
في تمليك نفسه موجبا قابلا وذلك جار في القبض
بل هو أولى منه لاقترانه بقصد التمليك دونه
انتهى كلامه رفع مقامه.
ومحصل هذا الوجه أن المعاطاة إذا قلنا
بكونها مفيدة للإباحة فقط وأن الملكية تتحقق بالتصرف
بأن يقال: إن إذن المالك بالتصرف إذن
في التمليك فيصير المتصرف في تمليك نفسه
موجبا قابلا، أما كونه موجبا فلأنه مأذون من قبل
المالك في التصرف، وأما كونه قابلا فمن قبل
نفسه، فإذا كان مستند جواز التصرف المملك
هو الإذن من قبل المالك فكون القبض مملكا
أولى من التصرف، فإن القبض أيضا وقع
بإذن المالك مع أن القبض مقترن بقصد
57

المالك التمليك فالأولى استناد الملكية إلى
القبض المقترن بقصد المالك دون التصرف
فالقول بتحقق الملكية من أول الأمر أولى من
القول بتحققها بالتصرف الذي يقول به
الأكثر بل يحصرها في التصرف.
هذا، ولكن أورد على الاشكال الأول
المحقق الأنصاري " قدس سره " أولا بأن تبعية
العقود للقصود إنما هي في العقود التي قام على
صحتها دليل وهي المعاملات التي تتحقق بالصيغة
وأما المعاملات الفعلية التي لم يدل على صحتها
دليل فلا يحكم بترتب الأثر المقصود عليها كالمعاطاة
على القول بالإباحة المجردة.
وثانيا أن تخلف العقد عن مقصود المتبايعين
كثير، وضرب رحمه الله لذلك أمثلة.
منها المعاملة الفاسدة فإنهم أطبقوا (على ظ) أنها مفيدة
58

لضمان المثل في المثلي والقيمة في القيمي لقولهم: ما
يضمن بصحيحه يضمن بفاسده مع أن قصد المتعاملين
ضمان كل من العوضين بالآخر، وتوهم أن دليلهم
على ذلك قاعدة اليد - مدفوع بأنه لم يذكر هذا
الوجه إلا بعضهم معطوفا على الوجه الأول وهو
إقدامهما على الضمان.
ومنها أن الشرط الفاسد في ضمن العقد غير
مفسد للعقد على رأي أكثر القدماء بل يقع العقد
بدون الشرط الفاسد مع أنه مخالف لقصد
المتعاملين.
ومنها بيع ما يملك وما لا يملك بصيغة واحدة
وصحته بالنسبة إلى ما يملك وبطلانه بالنسبة إلى
ما لا يملك مع أنه خلاف مقصود المتعاملين
ومنها بيع الغاصب لنفسه فإنه يقع للمالك
مع إجازته على قول كثير مع أن قصد الغاصب
59

كان أن يبيع لنفسه.
ومنها ترك ذكر الأجل في العقد الانقطاعي
فإنه يجعله دائما على قول نسبه في المسالك وكشف
اللثام إلى المشهور، هذا.
ولكن أورد عليه السيد الطباطبائي في حاشيته
على المكاسب بقوله: لا يخفى أنه ليس شئ من
هذه الموارد من باب التخلف عن القصد إلا
الوجه الأخير بناءا على القول به وهو انقلاب
الانقطاع دواما مع عدم ذكر الأجل، وذلك
لأن في المورد الأول نقول أولا: إن الحق ما
ذكره المتوهم من أن الدليل على الضمان قاعدة
الضمان وإن لم يكن نظر المشهور إليها إذ المتبع ما
هو مقتضى الحق إلا ما هو في نظر المشهور بناء على
صحة النسبة
وثانيها على فرض كون الوجه في الضمان هو
الاقدام فليس ذلك من قبيل ما نحن فيه إذ ليس
60

هذا من باب امضاء المعاملة على خلاف المقصود
بل بعد الحكم بالفساد وعدم الامضاء أصلا حكم بالصحة
في صورة الاقدام عليه، وبالعدم في صورة العدم
وأين هذا من تخلف العقد عن القصد، و
هذا واضح جدا.
وأما المورد الثاني - وهو حكمهم بصحة العقد
مع فساد الشرط مع أن المقصود مقترن به - فوجه
عدم الافساد أنه من باب تعدد المطلوب لا
العنوانية فلا دخل له بما نحن فيه إذ ليس من باب
التخلف إلا بالنسبة إلى المطلوب
الثانوي ولذا قلنا: إنه مثبت للخيار كما في تخلف
الشرط الصحيح، ومن ذلك يظهر حال المورد
الثالث وهو بيع ما يملك وما لا يملك بل عدم
التقييد فيه أظهر كما لا يخفى.
وأما الرابع وهو بيع الغاصب فالإجازة إنما
61

تتعلق بنفس المبادلة بين المالين لا بلحاظ
قصده كون العوض له مع أن هذا القصد من
الغاصب ليس إلا مجرد الداعي وليس داخلا
في حقيقة المعاملة، وعلى فرض كونه من باب
التقييد يمكن الالتزام بعدم صحته
بالإجازة وكان الأولى للمصنف " قدس سره "
أن يذكر من جملة الموارد بيع الصرف والسلم
فإن الشارع حكم فيها بالنقل من حين القبض
مع أن مقصود المتبايعين النقل من حين البيع
فتدبر انتهى
قلت: يمكن أن يقال: إن عدم ذكر الأجل
في العقد الانقطاعي وانقلاب العقد إلى
الدوام ليس من باب تخلف العقد عن القصد
أيضا بأن يقال: إن طبيعة العقد من حيث إنه عقد
النكاح تقتضي البقاء والدوام كما أن طبيعة البيع
أيضا كذلك وذكر الأجل يمنع من هذا الاقتضاء
62

فمع عدم ذكر الأجل ولو ناسيا يتحقق ما هو مقتضى
العقد، وهو الدوام وأين هذا من تخلف العقد
عن القصد هذا ملخص ما ذكره الأستاذ رحمه الله
ولكن يرد عليه أن عقد النكاح له فردان متباينان
عند الشارع: دوام وانقطاع لا أن العقد ليس
له في الخارج إلا مصداق واحد وهو العقد الدوامي
إلا أن الشارع قد جوز انقطاع العقد بذكر الأجل
كما ذكره الأستاذ " ره "، بل الظاهر أن عقد الدوام غير
عقد الانقطاع، فهما فردان متباينان كما ذكرنا، فإذا
أراد العاقد عقد الانقطاع فليس مراده جنس العقد
الشامل للدوام والانقطاع، بل مراده النوع، وهو
العقد الانقطاعي.
غاية الأمر أنه نسي أن يذكر فصله، وهو
ذكر الأجل فيصير من مصاديق تخلف العقد عن القصد
وأما ما ذكره من لزوم كون إرادة التصرف
63

مملكا فأجاب منه الشيخ بأنه لا بأس بالتزامه إذا
كان مقتضى الجمع بين الأصل ودليل جواز التصرف
المطلق وأدلة توقف بعض التصرفات على الملك
فيكون كتصرف ذي الخيار والواهب فيما انتقل
عنهما بالوطي والبيع والعتق انتهى.
وحاصل مراده " قدس سره " أن في المورد أدلة
ثلاثة: أحدها الأصل يعني استصحاب عدم
انتقال الملك عن المالك الأول بالمعاطاة إلى
أن يعلم المزيل فقبل التصرف نشك في الانتقال
فالأصل بقائه.
وثانيها الاجماع على جواز التصرف في ما انتقل
بالمعاطاة بأنواع التصرفات حتى المتوقفة على الملك
وثالثها أدلة أن بعض التصرفات موقوفة
على الملك كقوله: لا بيع إلا في ملك ولا عتق
إلا في ملك ولا وطي إلا في ملك فالجمع بين
هذه الأدلة الثلاث يقتضي أن نقول بعدم إفادة
المعاطاة للملكية إلا حين التصرف، وأما ما ذكره
64

من تعلق الأخماس والزكوات والاستطاعة والديون
والنفقات وحق المقاسمة والشفعة والمواريث و
الوصايا بما في يد المباح له - فأجاب عنه الشيخ " قدس
سره " بأنه استبعاد محض، ودفعها بمخالفتها للسيرة
رجوع إليها مع أن تعلق الاستطاعة الموجبة للحج وتحقق
الغنى المانع عن استحقاق الزكاة لا يتوقفان على
الملك انتهى.
ولا يخلو عبارته " قده " عن الاندماج وعدم إفادة
المراد، فإنه إذا كان مراده أن عدم تعلق الأخماس
والزكوات إلى آخر ما ذكره كاشف الغطاء بما انتقل
بالمعاطاة استبعاد محض أي نختار عدم تعلق
هذه الأمور بما انتقل بالمعاطاة، ودفع ذلك
بأنه مخالف لسيرة المتشرعة على تعلق هذه الأمور
بما انتقل بالمعاطاة - مدفوع بأنه تكون السيرة دليلا على
التعلق، وإن كانت مخالفة للقاعدة فتخصص القاعدة
65

بها ففيه أن هذا الجواب مخالف صريحا لكلام كاشف
الغطاء، فإن استبعاده " ره " من جهة تعلق هذه
الأشياء بما إذا انتقلت بالمعاطاة لا بعدم انتقالها
وإن كان مراده أن تعلق هذه الأشياء بالمأخوذ
بالمعاطاة مستبعد لأنه مخالف للسيرة، فإن سيرة
المتشرعة على تعلق هذه الأشياء بالأملاك والمأخوذ
بالمعاطاة ليس ملكا ففيه أولا أن السيرة قائمة
على التعلق لا على عدم التعلق، واستبعاد كاشف الغطاء
من هذه الجهة.
وثانيا أن استبعاد كاشف الغطاء لأجل مخالفة
هذه الأشياء للقواعد لا للسيرة حتى يجاب بأن
دفعها بمخالفتها للسيرة رجوع إليها
ثم إن الاشكال ليس في مدرك تعلق هذه الأشياء
بالمأخوذ بالمعاطاة حتى يجاب بأن المدرك هي السيرة
بل الاشكال في أنه كيف تتعلق هذه الأشياء
المختص تعلقها بالأملاك بغير الأملاك فالتمسك
بالسيرة لا يرفع هذا الاستبعاد، وكيف كان فقد
66

يجاب عن هذا الاستبعاد بالنسبة إلى هذه الأمور
العشرة ما عدا الخمس والزكاة وحق الشفعة بما في
تقريرات بعض تلامذة العلامة النائني فإنه قال:
وأما الموارد الباقية فتعلقها بما في يد أحد المتعاطيين
لا يكشف عن الملكية بل يمكن أن يكون مباحا، و
مع هذا تتعلق به أما الاستطاعة فلحصولها ببذل
الزاد والرحلة.
وأما الغنى المانع عن استحقاق الزكاة فلعدم
توقفه على الملك ولذا لا يجوز أخذ الزكاة للأقارب
إذا كان من يجب عليه الانفاق عليهم مليا (أي غنيا)
وأما تعلق حق الديان به فلأنه - وإن لم يكن
من بيده مالكا إلا أنه لكونه مالكا لأن يملك باسترداد
العوض أو بالتصرف فيما عنده فللغريم الزامه
بأحدهما.
وأما تعلق حق الانفاق به فلأن وجوب الانفاق
67

يدور مدار الغنى وهو حاصل بكون ما في يد
المنفق مباحا له.
وأما حق التقسيم فلعدم اختصاص وجوب
الافراز على الشريك في الشئ المشاع بين الشخصين
بأن يكون كل منهما مالكا له بل حيث إن المباح
له، له التصرف في ما أبيح له بأي نحو من أنحاء
التصرف، فله الزام شريكه بافراز حقه الموجب
لصيرورته مالكا له.
وأما مسألة الإرث فلا يبعد أن يقال: إن
الموت موجب للزوم كموت الواهب، واللزوم
هنا مساوق للملكية بناء على أن الإباحة اللازمة
غير متصورة، هذا، مع أن الإرث لا يتوقف على
الملك لأن كل ما تركه الميت من حق أو ملك
يرثه الوارث، ولكن يرد على هذا الأخير بأنه
إذا كان الموروث من قبيل الحق أي حق التصرف
في المأخوذ بالمعاطاة فللمالك حق الرجوع إلى
68

عينه إذا كان عوضه باقيا مع أن السيرة على
خلافه فإنها قائمة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة
معاملة الملك المطلق لا معاملة الحق، ثم قال
المقرر المتقدم: وأما مسألة الربا فلا تختص حرمته
بالبيع الموجب للملك بل يجري حتى في الضمان
بالمثل والقيمة فضلا عن الضمان بالمسمى انتهى.
وفيه أنه لا دليل على جريان الربا في الضمان
بالمثل أو القيمة فإن المتيقن من حرمة الربا حرمته
في المعاوضات وكذا في القرض فإذا أتلف
منا من حنطته الجيدة فلا مانع ظاهرا من تضمينه
بمنين من الحنطة الردية إذا كانت قيمتها مساوية
للمن من حنطته الجيدة، فإن أدلة حرمة الربا لا
تشمل هذا المورد.
نعم إذا كانت الحنطتان متساويتين وأراد
أخذ الزيادة يحرم لا من جهة الربا، بل
69

من جهة أن أخذه للزيادة أكل المال بالباطل.
نعم إذا كان مراده بالضمان بالمثل أو القيمة
القرض صح ما ذكره " قدس سره " فإن الربا جار في
القرض قطعا.
ثم قال المقرر المتقدم: وأما مسألة الوصية
فلو كان المراد من الاستبعاد أنه كيف يكون
ما ليس ملكا مخرجا للثلث ففيه أنه لو قلنا بأن
المال المباح يصير ملكا بموت المباح له فلا اشكال
لأن الثلث يخرج مما يملكه حين الموت، نعم لو
قلنا بعدم صيرورته ملكا فالاستبعاد في محله
انتهى.
ويمكن أن يقال: إن الوصية بالمال للموصى له
هو تمليكه بعد موته بأن يوصى أن يملكوه المال
بعد موته فهي ليست تمليكا في حال حياته، بل
الوصية بالتمليك، والمفروض أنه كان للموصى
جواز جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك
70

فحينئذ جاز له هذا التصرف أيضا وهذا التصرف
إن كان من التصرفات المتوقفة على الملك
ينتقل المأخوذ بالمعاطاة إليه ويصير ملكا له حين
التصرف فلم يكن من مصاديق الوصية بمال الغير
وإن لم يكن هذا التصرف موقوفا على الملك
فلا مانع من هذا التصرف غير الموقوف على الملك
وأما ما ذكره " قدس سره " من أن المال المباح
يصير ملكا بموت المباح له فهو غريب، فإن الموت
سبب لخروج المال عن ملكه، فكيف يصير سببا لدخوله
في ملكه والميت غير قابل لتملكه للمال؟
إلا أن يقال بمثل ما قلنا في التصرف من تملكه
للمال آنا ما قبيل موته، ثم ينتقل عنه إلى وارثه.
ولكن لا دليل على انتقال المال المباح إلى
المباح له بموته إلا أن يكون مقتضى الجمع بين الأدلة
ذلك، ثم قال الشيخ " قدس سره ": وأما كون التصرف
71

مملكا للجانب الآخر فقد ظهر جوابه انتهى.
ومراده رحمه الله ما ذكره في رفع استبعاد كون
التصرف مملكا من أنه لا مانع منه إذا اقتضى الجمع
بين الأدلة ذلك كما بيناه هناك.
ثم قال " ره " في جواب كون التملك مملكا للجانبين
فإن ثبت باجماع أو سيرة كما هو الظاهر كان كل
من المالين مضمونا بعوضه فيكون تلفه في يد
كل منهما من ماله مضمونا بعوضه نظير تلف
المبيع قبل قبضه في يد البائع لأن هذا
هو مقتضى الجمع بين هذه الاجماع وبين عموم " على
اليد ما أخذت " وبين أصالة عدم الملك إلا
في الزمان التيقن وقوعه فيه.
(و) توضيحه أن الاجماع لما دل على عدم ضمانه
بمثله أو قيمته حكم بكون التلف من مال ذي اليد
رعاية لعموم " على اليد ما أخذت " فذلك
الاجماع مع العموم بمنزلة الرواية الواردة
72

في أن تلف المبيع قبل قبضه من مال بايعه،
فإذا قدر التلف من مال البائع
فلا بد من أن يقدر في آخر أزمنة امكان تقديره
رعاية لأصالة عدم حصول الملكية قبله كما يقدر
ملكية المبيع للبائع وفسخ العقد من حين التلف
استصحابا لأثر العقد انتهى.
وحاصل مراده رحمه الله أن هنا - أي في المعاطاة
- أدلة ثلاثة لا بد من الجمع بينها أحدها الاجماع
أو السيرة على عدم ضمان التالف بالمثل والقيمة
وثانيها عموم قوله: على اليد ما أخذت حتى
تؤدي فحيث قام الاجماع أو السيرة على عدم
ضمان التالف المأخوذ بالمعاطاة بالمثل أو القيمة
سواء كان التلف من الجانبين أو من جانب واحد
يدور الأمر بين الأمرين: إما تخصيص الاجماع
لعموم قوله: " على اليد ما أخذت " أو كون
التالف من مال المباح له الذي كان بيده
73

حتى لا يشمله عموم على اليد ما أخذت " فيبقى
العموم على حاله، ومن المعلوم ترجيح الثاني أعني
كون التالف من مال المباح له على الأول حفظا
لعموم " على اليد " ولأن التخصص أولى من
التخصيص فإنه إذا قلنا بعدم ضمان التالف بالمثل
أو القيمة كما دل على الاجماع أو السيرة يلزم تخصيص
عموم " على اليد " المقتضي لضمان المثل في
المثلي والقيمة في القيمي.
وأما إذا قلنا: بكون التالف من مال المباح له
فيقدر ملكيته له آنا ما قبل التلف، فلا محالة يصير
خارجا عن عموم " على اليد " فهو خارج عنه تخصصا
لأنه صار ملكه قبل التلف، ثم تلف، وهذا نظير
تلف المبيع قبل قبضه فإنه يقال: كيف يتلف من
مال بايعه مع أنه كان ملكا للمشتري، فإنه يجاب
بأنه ينتقل آنا ما إلى ملك البايع ثم يتلف من ماله
لا يقال: بناءا على كون التلف من مال المباح
له في المعاطاة لم لا نقول: بأنه صار ملكا للمباح له
74

من أول الأمر بل هو الأولى لأنه مقترن بقصد
المالك للبيع فلا نحتاج إلى تصوير انتقال الملك
آنا ما إلى المباح له، بل يمكن الجمع بين الاجماع و
عموم " على اليد " بالقول بانتقال الملك إليه من أول الأمر.
لأنا نقول: حيث قام الدليل على عدم إفادة
المعاطاة للملكية بناء على ما هو المشهور بين القدماء
ولا أقل من الشك في إفادتها للملكية فالأصل
يقتضي عدم الانتقال فالأصل حينئذ مقتض
لبقاء الملك على ملك مالكه الأول إلى أن يتحقق
المزيل وهو التلف، فيعلم حينئذ انتقاله عنه، و
هو مقتضى الجمع بين هذا
ولكن أورد على الشيخ رحمه الله الفاضل المعاصر
الشيخ محمد حسين الأصبهاني " قدس سره " بقوله:
ولا يخفى عليك أنه - وإن كان يدفع الاشكال
75

عن ملكية التلف من الجانبين تحفظا على العموم
في الطرفين لكنه بمجرده لا يدفع الاشكال إذا كان
التلف من جانب واحد لأن غاية ما يقتضي
الجمع تقدير ملك التالف بلا موجب لتقدير
ملك الباقي للآخر فلا بد من ضم أمر آخر نبهنا
عليه في الحاشية المتقدمة آنفا من اقتضاء عدم اخراج
المال عن ملك مالكه إلا على طبق رضاه فإنه يقتضي
تقدير الملك بالعوض فإنه الذي أقدم عليه المتعاطيان
ورضيا باستيلاء كل منهما على ماله بدلا عن مال الآخر.
وأما توهم تصحيحه بأن عموم " على اليد " يدل
على الضمان، والاجماع يدل على عدم الضمان بالمثل
والقيمة فقط، وليس غير المسمى شئ يكون التالف
مضمونا به كما يوهمه كلام بعض أجلة المحشين (1) -
فيندفع بأن الكلام في كون التالف مملوكا بالعوض
لا متداركا به إذ من البين الذي لا يكاد يشك
فيه أحد أن مضمون قاعدة اليد ضمان الغرامة
لا ما يعم الضمان المعاوضي أعني كون التالف

(1) هو السيد محمد كاظم الطباطبائي.
76

مملوكا وليس غرض المصنف " قدس سره " أيضا
اثبات عوضية المسمى بعموم " على اليد " بل
كلامه " ره " مبني على التحفظ على عمومه وتعين
عن ورود التخصيص عليه رأسا انتهى.
ويرد عليه أن المفروض أن ما أقدم عليه المتعاطيان
لم يمضه الشارع بناءا على أن المعاطاة لا تفيد إلا
الإباحة المجردة غاية الأمر أنه يجوز لكل منهما التصرف
في ما انتقل إليه بالمعاطاة حتى التصرف المتوقف
على الملك، وعلى فرض صيرورته ملكا للمباح له
بالتلف في طرف لا يستلزم صيرورة عوضه ملكا
للآخر مع بقاء عينه، فيمكن أن يقال ببقائه على إباحته
غاية الأمر أنه لا يمكن للذي تلفت العين في يده
استرجاع ماله من الطرف الآخر، فيكون
من الإباحة اللازمة إلى أن يتحقق تلف العوض
الآخر فحينئذ تتحقق الملكية في الطرفين اللهم إلا
77

أن يدعى بتحقق الاجماع على الملازمة بين حصول
الملكية في التالف والطرف الآخر ولكنه مجرد
الدعوى.
ثم قال الشيخ " قدس سره ": وأما ما ذكره من
صورة غصب المأخوذ بالمعاطاة فالظاهر على
القول بالإباحة أن لكل منهما المطالبة ما دام باقيا
وإذا تلف فظاهر اطلاقهم التمليك بالتلف - تلفه
من مال المغصوب منه، نعم لو قام اجماع كان
تلفه من مال المالك لو لم يتلف عوضه قبله
انتهى.
ولكنه " قده " قد بين حكمه فقط ولم يرفع الاستبعاد
الذي ذكره كاشف الغطاء من أنه كيف يصير
بالغصب ملكا للمباح له؟.
ثم قال الشيخ أيضا: وأما ما ذكره (أي كاشف
الغطاء) من حكم النماء فظاهر المحكي عن بعض أن
القائل بالإباحة لا يقول بانتقال النماء إلى الآخذ
بل حكمه حكم أصله ويحتمل أن يحدث النماء في ملكه
78

ثم إن مما ذكرنا تقدر على التخلص عن سائر ما ذكره
مع أنه " ره " لم يذكرها للاعتماد انتهى كلامه رفع في
جنة الخلد مقامه.
وعلى أي حال فالخروج عن أصالة عدم الملك
التي يعضدها الشهرة المحققة بين القدماء القائلين
بالإباحة المصرحين بعدم حصول الملك مشكل
مضافا إلى دعوى الغنية والقواعد الاتفاق على
عدم إفادة المعاطاة الملكية.
ولكن رفع اليد عن اطلاق أدلة البيع كقوله تعالى
" أحل الله البيع " وقوله تعالى " إلا أن تكون تجارة
عن تراض " ونحوهما، وعن الشهرة المحققة بين العقلاء
على ترتيب آثار البيع عليها ولم يرد عن الشارع الردع
عنها - أشكل مع أنك قد عرفت تنزيل المحقق الكركي
كلام القدماء على الملك المتزلزل فالقول بالملكية
لا يخلو عن قوة وفاقا لشيخنا الأنصاري
79

ثم إنه اختلف في لزومها وجوازها على ثلاثة
أقوال أحدها أنها جائزة مطلقا أي سواء كان
الدال على التراضي لفظا أو غيره وثانيها اللزوم
مطلقا حكى ذلك عن ظاهر المفيد، وثالثها أنها
مفيدة للزوم بشرط كون الدال على التراضي لفظا
كما حكى ذلك عن بعض معاصري الشهيد الثاني
واختار الشيخ الأنصاري " قدس سره " قول المفيد
وقال: إنه أوفقها بالقواعد بناءا على أصالة اللزوم
في الملك للشك في زوله بمجرد رجوع مالكه
الأصلي.
ودعوى أن الثابت هو الملك المشترك
بين المتزلزل والمستقر، والمفروض انتقال الفرد
الأول بعد الرجوع، والفرد الثاني كان مشكوك
الحدوث من أول الأمر فلا ينفع الاستصحاب
بل ربما يزاد استصحاب بقاء علقة المالك - مدفوعة
80

مضافا إلى امكان دعوى كفاية تحقق القدر
المشترك في الاستصحاب فتأمل، فإن
انقسام الملك إلى المتزلزل والمستقر ليس
باعتبار اختلاف في حقيقته وإنما هو باعتبار
حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال
برجوع المالك الأصلي، ومنشأ هذا الاختلاف
هو اختلاف حقيقة السبب المملك لا اختلاف
حقيقة الملك، فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام
الشرعية للسبب لا من الخصوصيات المأخوذة
في المسبب.
ويدل عليه أنه يكفي في الاستصحاب الشك
في أن اللزوم من خصوصيات الملك أو من
لوازم السبب المملك؟ ومع أن المحسوس بالوجدان
أن انشاء الملك في الهبة اللازمة وغيرها على
نهج واحد أن اللزوم والجواز لو كان من خصوصيات
81

الملك، فإما أن يكون تخصيص القدر المشترك
بإحدى الخصوصيتين بجعل المالك أو بحكم
الشارع، فإن كان الأول كان اللازم التفصيل
بين أقسام الملك المختلفة بحسب قصد الرجوع
وقصد عدم الرجوع وعدم قصده وهو بديهي
البطلان إذ لا تأثير لقصد المالك في الرجوع وعدمه
وإن كان الثاني لزم امضاء الشارع
العقد على غير ما قصده المنشئ وهو باطل في
العقود ولما تقدم من: أن العقود المصححة عند
الشارع تتبع القصود.
وإن أمكن القول بالتخلف هنا في مسألة
المعاطاة بناء على ما ذكرنا سابقا انتصارا للقائل
بعدم الملك من منع وجوب امضاء المعاملات
الفعلية على قصود المتعاملين، لكن الكلام في
قاعدة اللزوم في الملك تشمل العقود أيضا انتهى.
وحاصل مراده " قدس سره " أنه تمسك لإفادة
82

المعاطاة للزوم بالاستصحاب.
ولكن أورد على الاستصحاب باشكالين
أحدهما أنه من استصحاب الكلي في القسم
الثاني أعني ما إذا كان المشكوك مرددا
بين مقطوع الانتفاء ومقطوع البقاء إلا أنه
مشكوك الحدوث كما إذا علم بأنه دخل في هذه
الدار حيوان ولا يعلم أنه كان بقا فلم يبق إلا
ثلاثة أيام أو كان فيلا فكان باقيا، فبعد ثلاثة أيام
لا يمكن استصحاب بقاء كلي الحيوان لأنه إذا
كان بقا فقد مات بعد الثلاثة قطعا، وإن كان فيلا
كان باقيا، إلا أن الفيل كان مشكوك الحدوث
فلا يمكن استصحاب كلي الحيوان لأنه مردد بين
مقطوع الانتفاء ومشكوك الحدوث.
وثانيهما أن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب
بقاء علقة المالك الأول ولم يجب الشيخ " ره " عن الاشكال
83

الثاني لظهور القطع ببطلانه بقطع علقة المالك
الأول بانتقال الملك منه إلى غيره، وإن كان
مراده بالعلقة علقة جواز فسخ المعاملة فهي مشكوكة
الحدوث.
وأجاب - رحمه الله - عن الاشكال الأول
بجوابين الأول أنه يكفي في الاستصحاب تحقق
القدر المشترك من الملك: الجائز واللازم أي
القدر المشترك بين طويل العمر وقصيره فإنا
إذا شككنا بأن المعاطاة هل أفادت ملكا قصير
العمر ليفسخه المالك بقوله: فسخت أو ملكا طويل
العمر لئلا يفسخه قول المالك الأول يجري
الاستصحاب في أصل الملكية المشكوكة الزوال
بقول المالك: فسخت
ولكن المحقق الخراساني صاحب الكفاية اعترض
عليه بأنه من الشك في المقتضي، والشك في المقتضي
لا يجوز فيه الاستصحاب على مبنى الشيخ في الأصول
84

والجواب أن هذا المورد ليس من قبيل الشك
في المقتضي، فإن الشك في المقتضي مورده ما
إذا كان المستصحب بنفسه قصير العمر كالنكاح
المنقطع فإن هذا القسم من النكاح له أمد وغاية
ينتهي عمره بانتهائه إلى غايته من دون دخل شئ
فيه، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل لأن الملكية
لها اقتضاء البقاء ما لم يعرض عليها الفسخ أو إعمال الخيار
فالشك في تحقق الفسخ بقوله: فسخت من قبيل الشك
في تحقق المانع بعد كون الملكية مقتضية للبقاء
لولا عروض المانع، والشك في عروض المانع مورد
للاستصحاب قطعا.
الثاني من جوابي الشيخ أن انقسام الملك إلى
المستقر وغير المستقر ليس باعتبار الاختلاف في حقيقته
بل الاختلاف إنما هو في السبب المملك للملك
فإن الشارع جعل للملك سببين أحدهما المعاطاة
85

وثانيهما العقد مع كون الملك أمرا وحدانيا بسيطا
غاية الأمر أنه حكم بالملك الذي جاء من ناحية
المعاطاة بالجواز وبالملك الذي جاء من ناحية الصيغة
باللزوم، واختلاف الحكمين ليس كاشفا عن
الاختلاف في الملك، بل الملك شئ واحد
له سببان فتارة يوجد بهذا السبب وأخرى بذلك
السبب، ولكل سبب حكم على حده.
ألا ترى أن الملك الحاصل من البيع والحاصل
من الهبة أمر واحد بنظر العرف مع أن الشارع
حكم على الأول باللزوم وعلى الثاني بالجواز "
ولكن أورد عليه السيد الطباطبائي صاحب
العروة بقوله: فيه أولا أن الظاهر أن الاختلاف
بينهما اختلاف في حقيقتهما فإن الملكية في أنظار
العرف قسمان وإن كان ذلك من جهة اختلاف
السبب، فالملكية الحاصلة في الهبة عندهم غير الملكية
86

الحاصلة في البيع حيث إن الأول مبني على الجواز
عندهم، ويجوزون الرجوع فيه، بخلاف الثاني
فإنه مبني على اللزوم، فالاختلاف بينهما كالاختلاف
بين حدث الجنابة وحدث النوم والبول وإلا
فأمكن أن يقال: إن حقيقة الحدث أيضا أمر واحد
وإنما اختلاف الأحكام من جهة اختلاف الأسباب
ومن المعلوم أنه ليس كذلك.
بل أقول: إن مجرد اختلاف السبب إذا لم
يكن موجبا لاختلاف المسبب لا يقتضي اختلاف الأحكام كما لا يخفى
وثانيا أنه على فرض اتحاد الحقيقة يكفي في
الاشكال التعدد الفردي كما في مثال الحيوان
المردد بين زيد وعمرو في الدار إذا كان قاطعا
بخروج أحدهما للعين، ألا ترى أنه لو شك في
أن الواقع في الخارج هو البيع اللازم أو الهبة الجائزة
يكون استصحاب الملكية من استصحاب الكلي
87

لأن الفرد مردد بين الباقي والزائل وكذا في ما نحن فيه
من مسألة المعاطاة وأشباهها.
وثالثا أن ما ذكره من كفاية الشك في أن
اللزوم من خصوصيات الملك أو السبب ممنوع
إذ معه ليس المستصحب محرزا كما لا يخفى
فلو قلنا بعدم جريان استصحاب الكلي لا يجوز
الاستصحاب في ما لو دار المستصحب بينه وبين
الفرد وهذا واضح انتهى.
أقول: أما قوله: إن الاختلاف بينهما اختلاف
في حقيقتهما فالظاهر أنه ليس كذلك، ألا ترى
إلى قوله " عليه السلام ": البيعان بالخيار ما لم يفترقا فإذا
افترقا وجب البيع " فهل يكون الاختلاف بين
الحكمين أي حكم ما قبل الافتراق الذي هو جواز
فسخ البيع وما بعد الافتراق الذي حكمه وجوب البيع
في معاملة واحدة - كاشفا عن الاختلاف في
حقيقتهما؟ ومن المعلوم أنه ليس كذلك فإن المعاملة
88

الواحدة كيف يمكن جعل الحقيقتين المختلفتين فيها؟
فيظهر من هذه الرواية ظهورا بينا أن الملك الجائز و
الملك اللازم حقيقة واحدة، وإنما الاختلاف في
أحكامهما من جهة الاختلاف في أسبابهما كما أن قتل
زيد مثلا أمر واحد، ولكن أسبابه مختلفة، فربما يكون
سببه - أي سبب قتله - السيف وربما يكون السبب
سقي السم أو ضربه بالبندقة ونحو ذلك فهذه الأسباب
المختلفة لقتله لا يصيره متعددا كما هو واضح.
وأما قوله: إنه على فرض اتحاد الحقيقة يكفي في
الاشكال التعدد الفردي الخ فنقول: إنا لم نستصحب
الفرد حتى يرد علينا الاشكال المذكور بل نستصحب
الكلي أي كلي الملك، والاعتراض بأن الأثر كان
مترتبا على الفرد، والكلي لا أثر له - مندفع بأن كلي
الملك له أثر أيضا، وهو جواز التصرف، إلا أن يقال
بعدم امكان استصحاب الكلي أيضا لتردده بين
89

مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث.
نعم يمكن أن يقال: إنه من استصحاب الفرد
المشخص لا من استصحاب الكلي لأن هذا الفرد
المشخص من الملك الذي تحقق بالمعاطاة - مشكوك
الزوال بقول المالك الأول: فسخت، وإن كان
مرددا بين قصير العمر وطويله كما أن النوم المشكوك
غلبته على العين والأذن ينفى بالاستصحاب
مع أنه يمكن ذكر التقديرين فيه بأن يقال: إن كان
النوم غالبا على الحاستين فهو مبطل للوضوء قطعا و
إن لم يكن كذلك فالوضوء صحيح قطعا.
وأزيدك مثالا آخر مثلا إذا كان زيد زوجا
لهند وغاب عنها وشككنا في حياته ومماته ولم نعلم
أن زيدا ابن من هو، ثم وصل إلينا خبر قطعي بأن
زيد بن بكر قد مات فلم نعلم أن زيدا زوج هند كان
ابن بكر أو ابن غيره فلا مانع من استصحاب حياة
زيد زوج هند مع أنه يمكن أن يذكر كلا التقديرين
90

القطعيين فيه بأن يقال: إن زوج هند إن كان زيد
بن بكر فهو قد مات قطعا، وإن كان ابن غيره
فهو باق قطعا، وبهذا يمكن أن يجاب عن الاشكال
الثالث - أي عدم احراز الموضوع بأن يقال: إن
الموضوع هو الملك الذي تحقق بالمعاطاة وتردده
بين قصير العمر بانفساخه بقول المالك الأول: فسخت
وطويله بعدم انفساخه - غير ضائر بعد ما كان من
استصحاب الشخص، وبعد ما كان معينا بحسب
الواقع وإن كان مرددا عندنا.
ويمكن أن يكون مراد السيد الطباطبائي بجواز استصحاب
الفرد المردد هو ما ذكرنا، فلا يرد عليه بعدم وجود الفرد
المردد في الخارج، هذا كله ملخص ما ذكره الأستاذ رحمه
الله في هذا المقام إلا أن الذي ذكره " قدس سره " غير
خال بنظري القاصر عن الاشكال
ثم أنه استدل الشيخ " قدس سره " لاثبات اللزوم
91

في المعاطاة - بعد الاستصحاب - بقولهم " عليهم السلام ":
الناس مسلطون على أموالهم " قال: فإن مقتضى
السلطنة أن لا يخرج عن ملكيته بغير اختياره، فجواز
تملكه عنه بالرجوع فيه من دون رضاه مناف للسلطنة
المطلقة انتهى.
ولكن أورد عليه بأمور:
الأول ما أورده الشيخ على نفسه بقوله:
فاندفع ما يتوهم الخ وحاصل الاشكال أن غاية ما
تدل عليه الرواية سلطنة الشخص على ملكه، وأما بعد
رجوع المالك الأول فهل يبقى له السلطنة أو لا
فلا تدل عليه الرواية، ويمكن دفعه بأن جواز الرجوع
مناف للسلطنة المطلقة المستفادة من اطلاق السلطنة
للمالك، لكن يرد عليه أن السلطنة ثابتة له
ما دام كونه مالا له أي ما دامت الإضافة باقية أي
إضافة المال إلى المالك، وبعد الرجوع نشك في
92

بقاء الإضافة، فلا يمكن التمسك حينئذ بالسلطنة
المطلقة على عدم جواز الرجوع فإن ثبوت السلطنة
فرع بقاء المال على ملك صاحبه والمفروض أنه
مشكوك بالفسخ فالتمسك بها تمسك بالشبهة
المصداقية، فالاشكال الذي ذكره الشيخ " قدس سره "
باق على حاله.
الاشكال الثاني ما ذكره المحقق الخراساني
قال: ويمكن أن يقال كما أشرنا إليه: إنه ليس إلا
لبيان سلطنة المالك على ماله وتسلطه عليه وأنه
ليس بمحجور لا لبيان اثبات أنحاء السلطنة له ليصير
دليلا على لزوم عقد بمعنى عدم جواز الرد لمنافاة
جوازه لاطلاقها فتأمل انتهى، ويمكن الجواب عن
الاشكال أنه بناءا على أن المستفاد من الرواية السلطنة
المطلقة للمالك الشاملة لجميع أنحاء السلطنة - يندفع
هذا الاشكال ويقال: إن قدرة المالك الأول على
93

فسخ المعاطاة منافية لسلطنة المالك الثاني على
إبقاء المال على ملكه.
الاشكال الثالث ما استشكله الأستاذ
رحمه الله من أن إقدام المشتري على المعاملة الجائزة
الفسخ هو الاقدام على تحديد سلطنته على هذا
المال بتقدير معين، فإذا فرضنا أن المعاطاة مفيدة
للجواز فاقدام المشتري على هذه المعاملة الخاصة
اقدام على ما هو في معرض الزوال فلا يمكن
حينئذ التشبيب لابقاء سلطنته بمثل قولهم " عليهم السلام ":
الناس مسلطون على أموالهم "
بل أقول أنا: إنه في صورة الشك في
إفادتها للزوم أو الجواز أيضا كذلك فإنه اقدام
على ما لم يأمن ببقائه في صورة الفسخ
واستدل الشيخ رحمه الله لاثبات اللزوم
بأمور أخر أحدها قوله " عليه السلام ": لا يحل مال امرء
إلا عن طيب نفسه " حيث دل على انحصار
94

سبب حل مال الغير أو جزء سببه في رضا المالك
فلا يحل بغير رضاه، وتوهم تعلق الحل بمال
الغير وكونه مال الغير بعد الرجوع أول الكلام
- مدفوع بما تقدم مع (من ظ) أن تعلق الحل بالمال يفيد
العموم بحيث يشمل التملك أيضا، فلا يحل التصرف
فيه ولا تملكه إلا بطيب نفس المالك انتهى
كلامه رحمه الله.
ولكن الاستدلال بالرواية المزبورة مبني على
أن المراد بالحلية في الرواية الحلية الوضعية بأن يكون المراد
منها الصحة، وقوله: لا يحل بمعنى لا يصح، فيصير
المعنى: لا يصح التصرف في مال امرء إلا بطيب
نفسه، ففسخ المعاطاة بغير إذن المشتري تصرف
في ماله من غير طيب نفسه، وهو غير صحيح.
وأما إذا قلنا: إن المراد بعدم الحلية هو الحكم
التكليفي أعني حرمة التصرف في مال الغير
95

إلا من طيب نفسه كما هو ظاهر الرواية فلا دلالة
للرواية المزبورة على ما ذكره " قدس سره " لأن الحرمة
غير منافية للصحة كما في البيع عند النداء لصلاة
الجمعة فإنه حرام إلا أن البيع صحيح، والرواية ظاهرة
في الحكم التكليفي واستفادة الحكم الوضعي منها
غير متفاهم فالاستدلال بهذه الرواية على اللزوم
غير خال عن الاشكال، هذا ملخص ما ذكره الأستاذ
ونظره رحمه الله في ذلك أن النهي في المعاملات
غير موجب للفساد إلا إذا تعلق بنفس المعاملة
كقوله تعالى: وحرم الربا " وقوله " عليه السلام ": نهى رسول
الله صلى الله عليه وآله عن بيع الغرر " ونحو ذلك
وأما إذا توجه بأمر خارج عن المعاملة بأن علم أن نفس
المعاملة غير منهي عنها، بل النهي قد تعلق بأمر خارج
عنها كالبيع عند النداء فلا دلالة للنهي حينئذ على
الفساد كما قرر في الأصول.
الأمر الثاني مما استدل به الشيخ " ره " على لزوم
96

المعاطاة قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض " ويمكن
تقريب الاستدلال بالآية على إثبات اللزوم
بكل واحد من المستثنى والمستثنى منه في هذه
الآية، أما المستثنى فبأن يقال: إن ظاهر الآية
انحصار الحلية في التجارة عن تراض، والفسخ من
غير رضا المالك ليس تجارة ولا عن تراض.
وأما المستثنى منه فتقريب الاستدلال به أن
يقال: إن الآية قد دلت على حرمة أكل أموال
الناس بالباطل، والفسخ من غير رضا المالك من
باب أكل أموال الناس بالباطل عرفا، ولم يرد من
الشرع دليل على خروج الفسخ من الأكل بالباطل.
نعم في مثل حق المارة وحق الأخذ بالشفعة
وإن كان بنظر العرف من الأكل بالباطل حيث إنه
تصرف في مال الغير من دون رضاه إلا أن الشارع
97

حيث جوز الأكل في هذين الموردين خرج عن الأكل
بالباطل تخصصا كما زعمه بعض أجلة
المحشين فإن قوله تعالى: لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل " لسانه آب عن التخصيص لأنه لا يمكن
للشارع أن يقول: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا
هذا الباطل، فإنه يجوز الأكل منه فإنه مع الاعتراف
بأنه باطل ولو الباطل العرفي كيف يمكن للشارع تجويز
الأكل منه؟
نعم يمكن للشارع تخطئة العرف في كونه باطلا
بأن يقول لهم: إن ما زعمتموه من كون الأكل في
حق المارة من الأكل بالباطل - ليس كذلك
فإنه ليس باطلا لكونه حقه مثلا، والتوهم الذي ذكره " قدس
سره " في قوله: الناس مسلطون على أموالهم " من أنه بعد
الفسخ لم يعلم أنه من أموال الناس فلا يمكن التمسك
بالآية لاثبات بطلانه - جار هنا، وجواب هذا التوهم
هو الجواب الذي ذكره هناك من أن اطلاق كونه
98

من أموال الناس يشمل ما بعد الفسخ أيضا، ولكن
الاشكال الذي ذكرناه هناك من أنه تمسك بالعام
في الشبهة المصداقية وارد هنا، والجواب الذي ذكره
هناك لا يدفع الاشكال، ومع ذلك كله يرد على
الاستدلال بالمستثنى بأن الاستثناء إذا كان
منقطعا فلا يفيد الحصر لا في الجملة الايجابية كما في
قولنا: الغنم كلها حلال إلا أن الأرنب حرام فإنه لا
يفيد حصر الحرمة في الأرنب كما هو واضح.
ولا في الجملة السلبية كما إذا قلنا: لا يجوز أكل
لحم الخنزير إلا أن لحم الغنم يجوز أكل لحمها فإنه لا يفيد
انحصار الحلية في الغنم فحينئذ يمكن جواز الأكل بغير
التجارة عن تراض كما إذا أباح أحد طعامه للغير.
ويرد على الاستدلال بالمستثنى منه بأن الفسخ
مشكوك لأنه من التصرف الباطل لاحتمال جواز
الفسخ في المعاطاة، فالتمسك بالمستثنى منه تمسك
99

بالعام في الشبهة المصداقية نعم إذا قلنا بأن الاستثناء
متصل بأن كان معنى الآية هكذا: لا تكلوا أموال
الناس فإنه باطل إلا أن تكون تجارة عن تراض
فإنه حينئذ يجوز أكلها، فيجوز التمسك عند ذلك
بالمستثنى لإفادة الاستثناء حينئذ الحصر، ولكن
ظاهر الآية كون الاستثناء فيها منقطعا.
الثالث مما استدل به الشيخ على لزوم المعاطاة
قوله: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا وجب
البيع " ومن المعلوم أن المعاطاة بيع عرفي ولم يردع
عنها الشارع بل تشملها اطلاقات كلامه كقوله تعالى:
" أحل الله البيع " فحينئذ يشملها اطلاق قوله " عليه السلام ":
فإذا افترقا وجب البيع " الرابع مما استدل به أيضا قوله تعالى: أوفوا بالعقود "
بناءا على أن العقد هو مطلق العهد كما في صحيحة
عبد الله بن سنان أو العهد المشدد كما عن بعض
أهل اللغة، وكيف كان فلا يختص باللفظ فيشمل المعاطاة انتهى
100

إلا أنه يرد عليه أن العهد ظاهر في الفعل الذي
يلتزم أن يأتي به كما إذا نذر أن يأتي بالفعل الفلاني
أو عاهد الله أن لا يشرب الخمر أو حلف أن لا
يشربها أو تعاهد أن يخيط للغير ثوبا ونحو ذلك.
وأما في ما نحن فيه فلم يكن فيه التزام باتيان فعل
أو تركه، بل إنما ملكه ماله بالعوض وليس فيه التزام حتى
الالتزام بالتصرف، فإن جواز التصرف مترتب
على المعاملة لا على وجود العهد بين المتبايعين وعدم
جواز الفسخ من مقتضيات التمليك الذي صدر
من المالك فإنه يقتضي البقاء.
كما أن عدم جواز التصرف في الإرث الذي
ورثه من أبيه لأجل حضور الملك للوارث، و
هذا غير مرتبط بالعقد، بل بالملك الحاصل له.
فالآية أجنبية عما نحن فيه.
إلا أن يقال: إن معنى الوفاء بالعقد العمل
101

بمقتضى العقد، ومقتضاه تمليك الغير وابقاء
ما في يده على ملكه، فالفسخ خلاف مقتضى العقد
وقد أمره الشارع العمل بما اقتضاه العقد بقوله:
" أوفوا بالعقود " فأخذه عنه بالفسخ والتصرف فيه
على خلاف مقتضى العقد.
إلا أنه يرد عليه ما يرد على الدليلين السابقين
من أنه قبل الفسخ يجب الوفاء بالعقد بمقتضى الآية
وأما بعد الفسخ فلم يعلم بقاء العقد حتى يجب الوفاء
به فالتمسك بالآية بعد الفسخ تمسك بالعام في
الشبهة المصداقية.
الخامس مما استدل به الشيخ رحمه الله قوله
" عليه السلام ": المؤمنون عند شروطهم " قال: فإن
الشرط مطلق الالتزام، فيشمل ما كان بغير اللفظ انتهى
وأنت خبير بأن الشرط الواجب الوفاء ما كان
في ضمن عقد لازم، وأما الشرط الابتدائي كما إذا
102

شرط عليه بأن يخيط له ثوبا إذا جائه يوم الجمعة مثلا
- والحاصل أنه لم يكن في ضمن عقد لازم - فلا
يجب الوفاء به كما ثبت في محله، والمعاطاة على
فرض شمول الشرط له من هذا القبيل، فإن الالتزام
فيها لم يقع في ضمن عقد لازم حتى يجب الوفاء
به، فهذه الأدلة كلها أو أكثرها مخدوشة الدلالة
على اللزوم، بل الاجماع قائم على عدم لزوم المعاطاة
أما من القائلين بأن المعاطاة مفيدة للملكية كالمحقق
الكركي ومن تأخر عنه فهم قائلون بالملكية الجائزة.
وأما القائلون بأنها مفيدة للإباحة المجردة كأكثر
القدماء فهم أولى بعدم التزامهم للملك اللازم، إلا أن
يقال: إن الاجماع غير كاشف عن قول المعصوم أو
رأيه بناءا على رأي أكثر المتأخرين من كون حجية الاجماع
من جهة كشفه عن رأي المعصوم " عليه السلام " لأن أكثر
المدعين بعدم إفادتها للملك اللازم قائلون بعدم
103

حصول الملك بالمعاطاة، فالسالبة عندهم سالبة
بانتفاء الموضوع، نعم بناءا على رأي القدماء
في حجية الاجماع يصح ذلك حيث إن الاجماع
عندهم هو وجود الحجة فعلى رأيهم بوجود الخبر
الجامع لشرائط الحجية بزعمهم يتحقق الاجماع.
ولكن أجاب الشيخ " قده " عن اشكال الاجماع
بقوله: نعم يمكن أن يقال: بعد ثبوت الاتفاق
المذكور: إن أصحابنا بين قائل بالملك الجائز و
بين قائل بعدم الملك رأسا، فالقول بالملك
اللازم قول ثالث فتأمل.
وكيف كان فتحصيل الاجماع على وجه استكشاف
قول الإمام عن قول غيره من العلماء - كما هو طريق
المتأخرين - مشكل لما ذكرنا، وإن كان هذا لا
يقدح في الاجماع على طريق القدماء كما بين في الأصول
وبالجملة فما ذكره في المسالك من قوله بعد ذكر
قول من اعتبر مطلق اللفظ في اللزوم: ما أحسنه وما
104

أمتن دليله إن لم يكن اجماع على خلافه - في غاية الحسن
والمتانة، والاجماع وإن لم يكن متحققا على وجه
يوجب القطع إلا أن المظنون قويا تحققه على عدم
اللزوم مع عدم لفظ دال على انشاء التمليك
سواء لم يوجد لفظ أصلا أم وجد ولكن لم ينشأ التمليك
به، بل كان من جملة القرائن على قصد التمليك بالتقابض
وقد يظهر ذلك من غير واحد من الأخبار بل يظهر
منها أن إيجاب البيع باللفظ دون مجرد التعاطي كان
متعارفا بين أهل السوق والتجار.
بل يمكن دعوى السيرة على عدم الاكتفاء في البيوع
الخطيرة التي يراد بها عدم الرجوع بمجرد التراضي.
نعم ربما يكتفون بالمصافقة، فيقول البائع: بارك
الله لك أو ما أدى هذا المعنى بالفارسية، نعم يكتفون
بالتعاطي في المحقرات ولا يلتزمون بعدم جواز
الرجوع فيها، بل ينكرون على الممتنع عن الرجوع مع بقاء
105

العينين انتهى كلامه رفع في الجنان مقامه.
أما قوله " ره ": إلا أن المظنون قويا تحققه (أي
الاجماع) على عدم اللزوم فيرد عليه أن الظن لا
يغني من الحق شيئا وهذا الظن لم يدل على حجيته
دليل.
وأما قوله: وقد يظهر ذلك من غير واحد من
الأخبار فليته ذكر بعض تلك الأخبار حتى ننظر
في دلالته، بل يظهر من بعض الأخبار خلاف ذلك
وأنه بدون اللفظ كان متعارفا بين أهل السوق و
التجار كما ذكر ذلك السيد الطباطبائي " قدس سره " في
حاشيته على المكاسب.
وأما قوله: بل يمكن دعوى السيرة على عدم الاكتفاء
في البيوع الخطيرة ففيه أن السيرة في زماننا على خلاف
ذلك فإنهم يكتفون في البيوع الخطيرة كبيع الدار وبيع
آلاف أمتار من الأراضي بمجرد التعاطي، نعم لأجل
استحكامه يسجلونه في المحاضر الحكومية، وبتشابه الأزمان
يمكن بل المظنون قويا أنه كان كذلك في الأزمنة السابقة
106

وأما قوله رحمه الله: نعم يكتفون بالتعاطي في المحقرات
ولا يلتزمون بعدم جواز الرجوع " ففيه أن اكتفاءهم في
المحقرات بالتعاطي حق وأما عدم التزامهم بعدم
الرجوع فليس كذلك، فإنا نرى بالعيان أن بناء
أهل الأسواق والتجار بل المتدينين منهم أنهم لا
يلتزمون بالرجوع حتى في مثل شراء البقل بل يهينون
الذي أراد الرجوع.
بقي الكلام في الخبر الذي ذكره الشيخ " قدس
سره " لأجل التمسك بأن المعاطاة ليست بيعا أو ليست
بلازمة وهو ما عن الكافي في بيع ما ليس عنده والتهذيب
في باب النقد والنسية عن محمد بن أبي عمير عن يحيى
بن الحجاج عن خالد بن الحجاج أو ابن نجيح قال: قلت
لأبي عبد الله " عليه السلام ": الرجل يجيئني ويقول: اشتر
لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا، فقال: أليس
إن شاء أخذ وإن شاء ترك؟ قلت: بلى، قال: لا
107

بأس، إنما يحلل الكلام ويحرم الكلام (1) الخبر
وذكر " قدس سره " في هذا الخبر مع قطع النظر عن
صدره احتمالات أربعة الأول أن يراد بالكلام
اللفظ الدال على التحريم والتحلل، بمعنى أن تحريم شئ
وتحليله لا يكون إلا بالنطق به فلا يتحقق بالقصد
المجرد عن الكلام ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال
دون الأقوال.
الثاني أن يراد بالكلام اللفظ مع مضمونه كما
في قولك: هذا الكلام صحيح أو فاسد لا مجرد اللفظ
أعني الصوت، ويكون المراد أن المطلب الواحد
يختلف حكمه الشرعي حلالا وحرمة باختلاف
المضامين المؤداة بالكلام المقصود واحد وهو
التسليط على البضع مدة معينة يتأتى بقولها: ملكتك
بضعي أو سلطتك عليه أو آجرتك نفسي أو أحللتها
وبقولها: متعت نفسي بكذا، فما عدا الأخير موجب
لتحريمه، والأخير محلل، وعلى هذا المعنى ورد قوله
" عليه السلام ": إنما يحرم الكلام في عدة من روايات المزارعة

(1) الكافي ج 5 ص 201.
108

منها ما في التهذيب عن ابن محبوب عن أبي الربيع
الشامي عن أبي عبد الله " عليه السلام " عن الرجل يزرع
أرضا فيشترط عليه البذر ثلاثا والبقر ثلاثا قال: لا
ينبغي له أن يسمى بذرا ولا بقرا، فإنما يحرم الكلام
ولكن يقول لصاحب الأرض: أزرع أرضك
ولك منا كذا وكذا: نصف أو ثلث أو ما كان
ولا يسمى بذرا ولا بقرا (1) الخبر.
الثالث أن يراد بالكلام في الفقرتين الكلام
الواحد، ويكون تحريمه وتحليله اعتبار وجوده وعدمه
فيكون وجوده محللا وعدمه محرما أو بالعكس أو باعتبار
محله وغير محله، فيحل في محله ويحرم في غيره، ويحتمل
هذا الوجه الروايات الواردة في المزارعة.
الرابع أن يراد من الكلام المحلل خصوص المقاولة
والمواعدة، ومن الكلام المحرم ايجاب البيع وايقاعه
ثم إن الظاهر عدم إرادة المعنى الأول مع

(1) الوسائل الباب 8 من أبواب المزارعة ح 10.
109

لزوم تخصيص الأكثر إن ظاهره حصر أسباب
التحليل والتحريم في الشريعة في اللفظ - يوجب عدم
ارتباطه بالحكم المذكور في الخبر جوابا عن السؤال
مع كونه كالتعليل له، لأن ظاهر الحكم - كما يستفاد من
عدة روايات أخر تخصيص الجواز بما إذا لم يوجب
البيع على الرجل قبل شراء المتاع من مالكه ولا دخل
لاشتراط النطق في التحليل والتحريم في هذا الحكم
أصلا فكيف يعلل به؟
وكذا المعنى الثاني إذ ليس هنا مطلب واحد حتى
يكون تأديته بمضمون محللا وبآخر محرما فتعين الثالث
وهو أن الكلام الدال على الالتزام بالبيع لا يحرم
هذه المعاملة إلا وجوده قبل شراء العين الذي
يريدها الرجل لأنه بيع ما ليس عنده، ولا يحلل
إلا عدمه إذ مع عدم الكلام الموجب لالتزام
البيع لم يحصل إلا التواعد بالمبايعة وهو غير مؤثر،
فحاصل الرواية أن سبب التحليل والتحريم في هذه
المعاملة منحصر في الكلام عدما ووجودا أو المعنى
110

الرابع وهو أن المقاولة والمراضاة مع المشتري الأول (ظ)
قبل اشتراء العين محلل للمعاملة، وايجاب البيع معه
محرم لها، وعلى كلا المعنيين يسقط الخبر عن الدلالة
على اعتبار الكلام في التحليل كما هو المقصود في مسألة
المعاطاة.
نعم يمكن اعتبار الكلام في ايجاب البيع بوجه
آخر بعد ما عرفت - بأن الكلام هو ايجاب البيع
بأن يقال: إن حصر المحلل والمحرم في الكلام لا يتأتى
إلا مع انحصار ايجاب البيع في الكلام إذ لو وقع بغير
الكلام لم ينحصر المحلل والمحرم في الكلام إلا أن يقال:
إن وجه انحصار ايجاب البيع في الكلام في مورد
الرواية هو عدم امكان المعاطاة في خصوص المورد إذ
المفروض أن المبيع عند مالكه الأول فتأمل انتهى.
ولكن قال السيد الطباطبائي " قدس سره " في حاشيته
على المكاسب: الانصاف أن المعنى الأول أظهر
111

من سائر المحتملات بالنسبة إلى صدر الخبر أيضا
مضافا إلى كونه من حيث هو كذلك، وذلك لأن
المقصود من تلك الأخبار أنه إذا أراد أن يشتري
لغيره شيئا ويبيعه منه بزيادة، فإن كان بيعه منه
قبل شرائه لنفسه فهو غير جائز ويكون من بيع ما
ليس عنده.
وإن كان ذلك بعد شرائه لنفسه وكان ما
سبق منه مجرد المقاولة فلا بأس، وقوله (ع): أليس
إن شاء أخذ وإن شاء ترك " كناية عن عدم البيع
قبل الشراء وإن المشتري الثاني حين دفع العين إليه
ليس ملزوما بأخذها ويجوز له أن يشتريها وأن
يدعها، وحينئذ فمحصل الرواية أنه إن جاء الرجل
وقال: اشتر لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا
وأنت اشتريت له، فإن كان شرائك قبل أن
تبيعه منه بحيث إذا أردت أن تعطيه كان له
أن يمتنع فلا بأس به لأنه لا يكون بيع ما ليس عندك
وذلك لأن المؤثر في المعاملات إنما هو الكلام
112

أعني ايجاب البيع مثلا وانشائه بالصيغة، والمفروض
عدم وجوده بعد، فلا يكون ذلك من البيع الممنوع
وإن كان شراءك بعد البيع منه بحيث يكون ملزما
بالأخذ بمجرد الاعطاء، فلا يجوز، لأنه من بيع ما ليس
عندك لأن المفروض وجوب ايجاب المؤثر
في النقل.
إلى أن قال: وأما لزوم تخصيص الأكثر عليه
فهو ممنوع لأغلبية المعاملات المحتاجة إلى الايجاب
والقبول بحسب الخارج من التحليل والتحريم بالإباحة
والإذن والمنع من الهدايا والضيافات ونحوهما مع
أن الخبر منصرف عن مثلها، وذلك لأن الغالب
الوقوع في الخارج من التحليل والتحريم إنما هو البيع
والصلح والإجارة ونحوها فتدبر.
فالأولى في رد الاستدلال بالخبر أن يقال:
إن ظاهره مخالف للاجماع لأن المفروض أن
113

المعاطاة مفيدة للإباحة بالاجماع، وحمله على إرادة
توقف اللزوم على الكلام تأويل لا يساعده دليل
فيشكل المصير إليه فتدبر انتهى.
أما احتمال أن يكون الكلام في الفقرتين الكلام
الواحد ويكون تحريمه وتحليله اعتبار وجوده وعدمه
باعتبار محله وغير محله فهو خلاف الظاهر فإن الظاهر
من كون الكلام مؤثرا في التحليل أو التحريم كون وجوده
محللا أو محرما لا أن وجوده محرما وعدمه محللا أو
بالعكس فإنه غير متبادر من اللفظ عرفا.
وأما الاحتمال الرابع فإنه لا يدل الخبر على عدم
كون المعاطاة بيعا وإن أفادت كلمة " إنما " الحصر
لأن الحصر فيه إضافي بالنسبة إلى المقاولة والمواعدة
ولا يدل على أن غير الكلام لا يتحقق به البيع والحاصل
أن هذه الرواية مع احتمالاتها الأربعة غير دالة على
أن المعاطاة لم تكن بيعا.
وأما رواية يحيى بن الحجاج عن أبي عبد الله
" عليه السلام " عن رجل قال لي: اشتر لي هذا الثوب
114

أو هذه الدابة فبعنيها أربحك كذا وكذا، قال: لا
بأس بذلك اشترها ولا تواجب البيع قبل
أن تستوجبها أو تشتريها " (1) فقد قال الشيخ " قدس
سره ": فإن الظاهر أن المراد من مواجبته ليس
مجرد اعطاء العين للمشتري انتهى.
قلت: نعم هو كذلك، فإن الظاهر منها أنك
لا تقرأ معه الايجاب والقبول، ولكن مجرد المواعدة
غير ضائر إلا أنها لا تدل أيضا على أن المعاطاة ليست
بيعا، فإن اللقب ليس له مفهوم، فإذا قال: إن ذكر
الايجاب والقبول مضر لا ينفي أن المعاطاة معه
مضر أيضا كما هو واضح، ونحو هذه الرواية الروايتان
اللتان ذكرهما الشيخ " قدس سره " في ما بعد.
وينبغي التنبيه على أمور تبعا للشيخ رحمه الله.
الأول أن المعاطاة على القول بإفادتها للملك
بيع كما هو ظاهر من كلام كثير من استدلالهم بقوله
115

تعالى: أحل الله البيع " ونحو ذلك وأما على القول
بإفادتها للإباحة فهي بيع عرفي إن قصدا أي
البائع والمشتري - للملكية، وأما إذا لم يقصد الملكية
بل قصدا مجرد الإباحة فلم تكن حينئذ ملكا لا شرعا
ولا عرفا، فحينئذ إذا شككنا في اعتبار شئ فيها فلا
بد من الرجوع إلى الأدلة الدالة على صحة هذه
المعاملة في نفي اعتبار ذلك الشئ مثل عموم
" الناس مسلطون على أموالهم " بأن يقال: إن
الحديث دال بعمومه على أن مالك هذا المتاع
مسلط على إباحته للغير بأي نحو كان ولو مع فقدان
بعض الشرائط.
كذا يستفاد من كلام الشيخ " قدس سره "
إلا أنه يرد عليه أن قوله " عليه السلام ": الناس مسلطون
على أموالهم " لم يكن مشرعا بمعنى أن عموم الناس
لا يشمل المورد الذي نشك في مشروعيته أو نقطع
بعدم مشروعيته مثلا عموم " الناس " لا يشمل التصرف
في العصا بأن يضرب بها الناس فلا بد لشمول عموم
" الناس مسلطون على أموالهم " من احراز مشروعية
116

معاملة من الخارج ليشملها العموم، وهنا نشك مثلا
في أن المعاملة المفيدة للإباحة المجردة تتحقق ولو
بالمعاملة مع الصبي أو لا؟ فلا يمكن التمسك لنفي
هذا الشرط بعموم " الناس مسلطون " كما هو
واضح.
وأما إذا قصد بالمعاطاة البيع كما هو المختار
فهل يشترط فيه شروط البيع مطلقا أم لا مطلقا
أو التفصيل بين ما إذا قلنا بإفادتها الملكية فيشترط
فيها شروط البيع أو إفادتها الإباحة فقط فلا يشترط
فيها شروط البيع؟ وجوه.
أما وجه الأول فيشهد له الأدلة العامة الدالة
على اعتبار الشرائط في البيع حيث إنها بيع عرفي ويؤيده
أن مورد النزاع بين العامة والخاصة في المعاطاة أن
الصيغة هل هي معتبرة في البيع كسائر الشرائط أم لا؟
فيعلم منه أن ما عدا الصيغة معتبر في المعاطاة.
117

وأما وجه الثاني فبأن يقال: إن البيع في
النص والفتوى ظاهر في البيع اللازم كما يظهر من
قوله " عليه السلام ": البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا
وجب البيع " وقول الفقهاء: إن الأصل في البيع
اللزوم، والخيار إنما ثبت بالدليل، وقولهم: إن
البيع من العقود اللازمة، وقولهم: البيع هو العقد
الدال على كذا، فيستفاد من مجموع ذلك أن البيع
شئ لا يجوز فسخه إلا بخيار أو تقايل، فالمعاطاة خارج
عن هذا الحد.
وأما وجه الثالث فيقال: إنه إذا كانت المعاطاة
مفيدة للإباحة فقد مر وجهه في الوجه الثاني من أنها
ليست بيعا وإن الشرائط إنما هي معتبرة في البيع وأما
إذا كانت مفيدة للملك فيشترط فيها جميع ما يشترط
في أقسام البيع، ووجهه ما مر في الوجه الأول من
الأدلة العامة الدالة على اعتبار شرائط البيع، ومن المعلوم
أنها بيع عرفي ومفيدة للملك على المفروض.
ولكن الشيخ " قدس سره " اختار الوجه الأول من الوجوه
118

الثلاثة، أي اعتبار شرائط البيع فيها مطلقا، أي سواء
كانت مفيدة للملك أو الإباحة لكونها بيعا ظاهرا على
القول بإفادتها للملك، وأما على القول بإفادتها
للإباحة فلأنها لم تثبت إلا في المعاملة الفاقدة للصيغة
فقط فلا تشمل للفاقدة لغيرها.
(الأمر الثاني من التنبيهات:)
أن المتيقن من مورد المعاطاة هو ما إذا حصل
التعاطي من الطرفين فلو حصل الاعطاء من طرف
واحد لم تتحقق المعاطاة فضلا عما إذا لم يحصل الاعطاء
أصلا حتى من طرف واحد فإن ظاهر لفظ المعاطاة
تحقق التعاطي من الطرفين، فإن المفاعلة لا تتحقق
إلا من الطرفين، لكن الظاهر من جماعة من متأخر المتأخرين
تبعا للشهيد في الدروس أنه إذا حصل العطاء من طرف
واحد أنهم جعلوه من المعاطاة كما حكاه الشيخ " ره " عنهم
وهذا وإن لم يصدق عليه المعاطاة إلا أن هذا لا يضر
119

في جريان حكم المعاطاة عليه بناء على عموم الحكم
لكل بيع فعلي، بل ربما يصدق المعاطاة حتى
في ما إذا لم يتحقق العطاء من أحد الطرفين أيضا
بأن تحققت المقاولة فقط، ثم بعد ذلك تتحقق
المعاطاة أو اعطاء أحد العوضين، فتتحقق المعاطاة
باعطاء واحد، مثلا إذا أعطى الثمن أو المثمن فقط
بقصد المعاملة، فهذا الفعل الواحد تتحقق به المعاملة
بأن أعطى المثمن مثلا والمشتري أخذه
بذلك القصد، فيحصل الايجاب والقبول
الفعليين بفعل واحد.
وكذا تحصيل المعاطاة بايصال المثمن إلى
المشتري وايصال الثمن إلى البايع بأي نحو من
أنحاء الايصال ولو بأن يجعل الثمن في الموضع
المعد له ويأخذ المثمن أو يرسل الثمن بالبريد مثلا
أو نحو ذلك، وهذا وإن لم يصدق عليه المعاطاة
إلا أن العرف والسيرة قد ساعدا على ذلك و
جعلاهما من أقسام المعاطاة
التنبيه الثالث الفرق بين البايع والمشتري
120

واضح إذا كان أحد العوضين مما تعارف جعله ثمنا
في البيع بأن كان من الدراهم والدنانير والفلوس المسكوكة
أو النوط فإن مثل هذا يعد ثمنا، ومقابله يكون مثمنا
إذا كان من الأمتعة، فالذي يعطي الدراهم يكون مشتريا
والذي يعطي المتاع يكون بايعا.
وأما إذا كان كلاهما من المتاع بأن كان أحدهما
لحما والآخر حنطة مثلا فإن قصد صاحب الحنطة بأن
تكون حنطته في مقابل ثمن اللحم بأن قصد أن هذا
المقدار من الحنطة يساوي درهما ليصير ثمنا
للحم الذي اشتراه فيصير هذا مشتريا ومعطي اللحم
بايعا، وأما إذا لم يقصد ذلك بأن قصد كل واحد
أن تكون سلعته في مقابل سلعة الآخر من دون قصد
البدلية أو تحقق قصد البدلية من كليهما بأن قصد
بايع اللحم أن يكون لحمه في قبال الحنطة وبايع الحنطة
قصد أيضا كذلك فتمييز البايع من المشتري حينئذ
121

مشكل، ويمكن أن يقال بتحقق كل واحد من العنوانين
أي عنوان البايع والمشتري على كل واحد منهما
فيحنث لو كان حالفا على عدم بيع اللحم أو شراء
الحنطة، نعم لا يترتب على هذين العنوانين أحكام
البيع والشراء لانصراف أدلتهما إلى من اختص بصفة
البايع أو المشتري، فلا تعم من كان مجمع العنوانين والله
العالم. (التنبيه الرابع:)
في ملزمات المعاطاة على القول بالملك و
على القول بالإباحة.
قال شيخنا الأنصاري " قدس سره ": اعلم أن
الأصل على القول بالملك اللزوم - إلى أن قال -: و
أما على القول بالإباحة فالأصل عدم اللزوم
لقاعدة تسلط الناس على أموالهم وأصالة سلطنة
المالك الثابتة قبل المعاطاة وهي حاكمة على أصالة
بقاء الإباحة الثابتة قبل رجوع المالك لو سلم جريانها انتهى.
ولكن لا يخفى أن أصالة بقاء الإباحة تنقطع
برجوع المالك إلى عينه فلا جريان لها أصلا لكي
122

تكون أصالة سلطنة المالك معارضة لها أو حاكمة عليها
كما أشار إليه الشيخ " قدس سره " بقوله " لو سلم جريانها " وكيف كان
فملزمات المعاطاة أمور الأول تلف العينين أو
أحدهما على اشكال بالنسبة إلى تلف إحدى العينين
أما على القول بالإباحة فتلف العينين من الملزمات
لأن تلفه من مال مالكه، ولم يكن سبب لضمان العين
بالمثل أو القيمة، وتوهم جريان قاعدة " على اليد " هنا
ممنوع لما سيجئ بيانه ذيلا.
وأما على القول بالملك فلما عرفت من - أصالة اللزوم
والمتيقن من مخالفتها هو صورة امكان التراد، وبعد
تلف العينين يمتنع التراد فليرجع إلى الأصل الأول
الذي كان مقتضاه اللزوم، وربما يتوهم بأن جواز
التراد هنا على نحو الجواز في البيع الخياري، فكما
أن تلف العين غير مانع من إعمال الخيار في
البيع الخياري فكذا هنا، ولكن يندفع بأن الجواز
123

هناك كان من مقتضيات العقد بخلاف
الجواز هنا أي في المعاطاة فإنه بمعنى جواز الرجوع
في العينين، فما دام العينان باقيتان فالجواز باق
فإذا تلفتا ارتفع موضوع الجواز، وعلى فرض الشك
في كيفية تعلق الجواز وأنه هل تعلق بالعقد أو العينين
لا يمكن استصحابه فإن المتيقن هو تعلقه بالتراد
أي تراد العينين، فتعلقه بأصل المعاملة كان مشكوكا
من أول الأمر فلا يجري الاستصحاب، ومنه يعلم
حكم ما إحدى العينين على القول بالملك
وأما على القول بالإباحة فقد استوجه بعض العلماء
تبعا للمسالك أصالة عدم اللزوم لأصالة بقاء سلطنة
مالك العين الموجودة.
وأورد عليه الشيخ " قدس سره " بأنها معارضة بأصالة براءة
ذمته عن مثل التالف أو قيمته انتهى.
وفيه أولا بأنه لا معنى لاجراء البراءة بالنسبة
إلى الشئ الذي في يده إلا أن يقال بأن المراد
بذلك أنه لم تكن ذمته مشغولة بشئ في قبال هذا
124

الشئ الذي في يده ولكن يرد عليه الاشكال التالي
وثانيا أنه يعلم علما قطعيا بأن هذا الشئ
الذي تحت يده لم يكن تحت يده مجانا وبلا عوض
بل يكون مضمونا إما ببدله الحقيقي أعني المثل أو
القيمة أو الجعلي أعني العين الموجودة إلا أن من
المعلوم عدم ضمانه بالمثل أو القيمة لأن قاعدة " على
اليد " غير شاملة لما نحن فيه لاختصاص تلك القاعدة
باليد العدوانية وليس هنا كذلك لأن المفروض
هنا أن تصرفاته في العين تصرفات مجانية وبلا عوض
بل كان عوضها ما أباحها هو أيضا لصاحبه من العين
الموجودة.
فلذا اعترف الشيخ " قدس سره " أخيرا بعدم
جريان هذا الأصل - أي أصل براءة ذمته - عن مثل
التالف وقيمته، فأصالة بقاء سلطنة المالك
موجودة بلا معارض بأخذ ماله الموجود.
125

الثاني من ملزمات المعاطاة هو ما إذا نقل
العينين أو إحداهما عن ملكه إلى ملك غيره بإحدى
النواقل الشرعية اللازمة بل الجائزة على وجه فإنه
حينئذ يمتنع التراد أيضا بالبيان المتقدم على القول
بالملك وهو مما لا اشكال فيه، وكذا على القول
بالإباحة بناء على القول بإباحة التصرفات
الناقلة عن الملك كما هو مختار المشهور.
ثم إنه إذا عادت العين إليه بفسخ أو إقالة
أو نحوهما فهل يجوز التراد أو لا؟ فيه وجهان أحدهما
جوازه لامكان التراد حينئذ، فيستصحب، وثانيهما
عدم الجواز لأن المتيقن من جواز التراد هو في مورد
وجود العينين على ما هما عليه، فبعد الانتقال من ملكه
يشك في جوازه، والقدر المتيقن مانع من جريان
الاستصحاب، فالموضوع غير محرز في الاستصحاب
فلا يمكن جريانه.
هذا بناءا على الملك وكذا على القول
بالإباحة لأن سبق الملك بالتصرف كاشف
126

عن انتقاله عن ملك مالكه الأول وداخل في ملك
الثاني، فترجع العين بالفسخ إلى ملك الثاني فلا
دليل على زواله.
نعم لو قلنا بأن الكاشف عن الملك هو العقد
الناقل عن الملك، فإذا ارتفع العقد كان مقتضى
القاعدة جواز فسخ المالك الأول يصير العقد كلا
عقد فيصير المالك الأول مالكا له، وإن كان
مباحا لغيره يرد عوضه.
وكذا إذا قلنا: إن البيع لا يحتاج إلى سبق الملك
بل يمكن أن يبيع الانسان ملك غيره إذا كان التصرف
فيه مباحا له، لكن الوجهين ضعيفان غاية الضعف
أما الوجه الأول فبأن يقال: إن التصرف أدخل
العين في ملك المباح له، وبعد فسخ العقد لا معنى
لعود سلطنة المالك الأول إلى العين بعد زوالها
عنها بالعقد، فبالفسخ تنتقل العين إلى المالك الثاني
127

ليس إلا، وليس للمالك الأول السلطنة عليها، بل
سلطنته قد زالت عنها بالعقد: وعودها يحتاج إلى
الدليل.
وأما الوجه الثاني فلأنه لا يعقل بيع ملك الغير
وتملك ثمنه وإن كان جائز التصرف لأن الثمن
يدخل في ملك من يخرج المثمن عن ملكه، فإذا
فرض أن يقول أحد للآخر: بع متاعي لنفسك و
فرض صحة ذلك فمعنى كلامه أنك وكيل في
أن تنقل متاعي إلى نفسك بالهبة مثلا، ثم بعد
الانتقال إليك بعه لنفسك أو يكون نفس كلامه
هذا هو الانتقال إليه بالهبة.
هذا كله إذا كان العقد - أعني العقد الذي
يوقعه المالك الثاني - عقدا لازما، وكذا الحكم
إذا كان عقدا جائزا لم يكن للمالك الأول
استرداد العين إذا فسخ المالك الثاني العقد
لانقطاع سلطنة الأول بمجرد العقد سواء قلنا
بأن المعاطاة مفيدة للملك أو للإباحة لكن العقد
128

لو كان غير معاوضة كالهبة وقلنا بأن التصرف في
مثل هذا العقد لا يكشف عن سبق الملك لعدم
وجود العوض في الهبة حتى يقال: إن المعاوضة
تقتضي أن يكون العوض داخلا في ملك من
يخرج المعوض عن ملكه، والهبة ليست كذلك لأنه
ليس عوض فيها، فالهبة تنقل الملك عن ملك المالك
الأول إلى المتهب - اتجه الحكم بجواز التراد حينئذ
مع بقاء العين الأخرى على ملك مالكه أو عودها
إليه بهذا النحو من العود، إذ لو عاد إليه بنحو آخر فحكمه
حكم التلف،
هذا ملخص ما أفاده شيخ مشايخنا المحقق الأنصاري
" قدس سره ".
وفيه أولا أن الواهب يهب عن قبل نفسه
لا عن قبل المالك الأول وثانيا أن الواهب
129

لم يكن وكيلا عن المالك الأول حتى يكون الهبة
من المالك الأول، فالمالك الأول ليس واهبا
لا بالمباشرة ولا بالتسبيب فليس له الرجوع في الهبة
لأن جواز الرجوع في الهبة للواهب والمفروض أن
المالك الأول لم يكن واهبا.
وثالثا ما ذكره الفاضل الأصبهاني في حاشيته
على المكاسب بقوله: لا يخفى عليك أن التراد
متقوم برد كل من المتعاطين بالإضافة إلى المعاطاة
بحيث يكون رجوع كل منهما في المعاطاة على المتعاطي
فالرجوع في الهبة رجوع في غير المعاطاة، ورجوع المالك
على المتهب رجوع إلى غير المتعاطي، والرجوع في
الهبة رجوع بدليل جواز الرجوع في الهبة لا رجوع بدليل
جواز التراد في المعاطاة من اجماع ونحوه، فجواز التراد
في الهبة غير مقوم لجواز التراد من وجوه عديدة انتهى.
فرع لو باع العين شخص ثالث فأجاز المالك
الأول كانت إجازته رجوعا إلى عينه ويتحقق بذلك
130

التراد على اشكال في ذلك كبيعه وسائر تصرفاته
وأما إذا أجاز المالك الثاني قبل إجازة الأول
نفذت إجازته بلا اشكال، ووجه الاشكال في
إجازة المالك الأول أن الإجازة تتعلق بملك
الغير فإن العين بالفرض قد صارت ملكا للمالك
الثاني بناءا على أن المعاطاة مفيدة للملك، فكيف
يمكن للمالك الأول إجازة المعاملة الواقعة في ملك
الثاني فضولة؟
لا يقال: إن الإجازة تكشف عن رجوعه
آنا ما إلى عينه ثم إجازته للمعاملة الفضولية.
لأنا نقول: كيف يمكن تحقق الرجوع والإجازة
في آن واحد وبكلمة واحدة من مثل قوله: أجزت
وقياس الإجازة بالبيع وغيره من النواقل قياس مع
الفارق لأن البيع وشبهه تصرف مستقيم في العين
فهو دال بالملازمة على قصده للرجوع لأنه لا يمكن
بيع ملك الغير، بخلاف الإجازة فإنها ليست
131

تصرفا في العين بل إجازة لتصرف الغير فيها و
هذا ليس كالتصرف البيعي "
ولكن يمكن أن يجاب عن الاشكال بأنه بعد
الالتفات بأن هذه العين صارت ملكا للغير
فإجازة المعاملة الفضولية الواقعة عليها ملازمة لقصد
الرجوع إليها، فإجازة المالك الأول كالبيع للعين
وينعكس الحكم اشكالا ووضوحا على القول بالإباحة
لأن القول بها لازمه كون العين قبل انتقاله عن
تصرف المباح له باقيا على ملك مالكه الأول،
فبعد الإجازة تصير المعاملة الفضولية واقعة لنفسه
فإجازته لها دالة على قصد التراد.
وأما المالك الثاني فإجازته لها ليست بهذه
المثابة من الوضوح لأن الملك قبل تصرفه فيه
للمالك الأول، وهل تكون الإجازة للبيع الفضولي
يعد تصرفا ناقلا فيه أو لا؟ يجئ فيه الاشكال المتقدم
مع جوابه، ولكل منهما - أي المالك الأول والثاني
رد المعاملة الفضولية قبل إجازة الآخر، وبعد رد كل
132

واحد منهما لا مجال لإجازة الآخر وهو واضح
فرع آخر قال الشيخ أيضا: ولو رجع الأول
فأجاز الثاني فإن جعلنا الإجازة كاشفة لغي
الرجوع، ويحتمل عدمه لأنه رجوع قبل تصرف
الآخر فيفسد ويلغو الإجازة، وإن جعلناها ناقلة
لغت الإجازة قطعا انتهى.
أما وجه لغوية الرجوع لو جعلنا الإجازة كاشفة
فأجاز المالك الثاني المعاملة الفضولية فإن الإجازة
تكشف عن تحقق المعاملة من أول وقوعها - عن
الفضولي، فرجوع المالك الأول وقع بعد تحقق
المعاملة وهو لغو.
وأما وجه عدم اللغوية وأن رجوعه صحيح
فتلغو الإجازة فلما أشار إليه الشيخ " قدس سره " بأنه
رجوع قبل تصرف الآخر، وهذا الاحتمال هو
الأقوى لأنه قبل الإجازة كان المالك الأول
جائز التصرف في ملكه أو في ما انتقل عنه بالمعاطاة
133

بأن كان جائزا له أن يرده إلى ملكه، فرده بالرجوع
فإجازة المالك الثاني إجازة في ملك الغير فإنه
بعد رجوع الأول صار ملكا، فإجازة المالك
الثاني تصير لغوا.
ثم أنه لو امتزجت العينان أو إحداهما سقط
جواز التراد على القول بالملك لامتناعه حينئذ، و
يحتمل الشركة وهو ضعيف لعدم وجود دليل لفظي
يشمل جواز التراد في هذه الصورة أيضا، فإن دليل
جواز التراد هو الاجماع وهو لبي، والقدر المتيقن
من الاجماع هو غير هذه الصورة، هذا على القول
بالملك.
وأما على القول بالإباحة فالأصل بقاء سلطنة
المالك على ماله الممتزج بغيره فيصير شريكا مع
الغير 7 (في الممزوج نعم لو كان المزج) ألحقه بالتالف كالسكر الذي صار سكنجبينا
- انقطع سلطنته عنه.
ولو تصرف في العين تصرفا مغيرا لصورة
العين بأن طحن الحنطة أو فصل الثوب ونحو ذلك
فلا تلزم المعاطاة بذلك على القول بالإباحة فيجوز
134

له التراد لعدم تلف عينه بل تغير وصفه فقط.
وأما بناءا على القول بالملك فهل يجري استصحاب
بقاء سلطنة المالك أو لا؟ ومنشأ اشكال جريان
الاستصحاب أن يقال: إن الموضوع في الاستصحاب
هل هو عرفي أو حقيقي؟ فإن قلنا بالأول يجري
الاستصحاب وهو الأقوى، وإن قلنا بالثاني لا يجري
لأن موضوعه بالطحن قد تغير بالدقة العقلية.
الثالث من ملزمات المعاطاة ما إذا كان
أحد العوضين دينا في ذمة أحد المتعاطيين، فباعه
شيئا، وجعل الثمن الدين الذي في ذمته، فبمجرد
تحقق المعاطاة يملك ما في ذمته، وخاصيته أنه
يسقط عنه الدين، فهذا أيضا من ملزمات المعاطاة
لأن سقوط ما في ذمته بمنزلة التلف فإن الساقط
لا يعود، واحتمال عود ما في ذمته بالرجوع في المعاطاة
ضعيف في الغاية كما لا يخفى على أولي الدراية
135

(التنبيه الخامس:)
أن الشهيد الثاني ذكر في المسالك - على ما
حكي عنه -: وجهين في صيرورة المعاطاة بيعا بعد
التلف أو معاوضة مستقلة قال: يحتمل الأول
لأن المعاوضات محصورة وليست إحداها، و
كونها معاوضة برأسها يحتاج إلى دليل.
ويحتمل الثاني لاطباقهم على أنها ليست بيعا
حال وقوعها فكيف يصير بيعا بعد التلف، وتظهر
الفائدة في ترتب الأحكام المختصة بالبيع عليها
كخيار الحيوان لو كان التالف الثمن أو بعضه وعلى
تقدير ثبوته فهل الثلاثة من حين المعاطاة أو من
حين اللزوم؟ كل محتمل، ويشكل الأول بقولهم:
إنها ليست بيعا.
والثاني بأن التصرف ليس بنفسها اللهم
إلا أن يجعل المعاطاة جزء السبب والتلف تمامه
والأقوى عدم ثبوت خيار الحيوان هنا بناءا
على أنها ليست لازمة وإنما يتم على قول المفيد
136

ومن تبعه، وأما خيار الغيب والغبن فيثبتان على
التقديرين كما أن خيار المجلس منتف انتهى.
إلا أن الشيخ " قدس سره " قال: والظاهر أن
هذا تفريع على القول بالإباحة في المعاطاة وأما على
القول بكونها مفيدة للملك المتزلزل فيلغى الكلام
في كونها معاوضة مستقلة أو بيعا متزلزلا قبل اللزوم
حتى يتبعه حكمها بعد اللزوم إذ الظاهر أنه عند القائلين
بالملك المتزلزل بيع بل لا اشكال في ذلك عندهم
على ما تقدم من المحقق الثاني، فإذا لزم صار بيعا لازما
فيلحقه أحكام البيع عدا ما استفيد من دليله ثبوته للبيع
العقدي الذي مبناه على اللزوم لولا الخيار.
إلى أن قال: وكيف كان فالأقوى أنها على
القول بالإباحة بيع عرفي لم يصححه الشارع ولم يمضه
إلا بعد تلف إحدى العينين أو ما في حكمه، وبعد
التلف يترتب عليه أحكام البيع عدا ما اختص
137

دليله بالبيع الواقع صحيحا من أول الأمر انتهى كلامه
رفع في الخلد مقامه.
وأورد عليه السيد الطباطبائي صاحب العروة
- أي على قوله: ولم يمضه إلا بعد تلف إحدى
العينين " فقال: هذا خلاف التحقيق إذ لا وجه
لكونها بيعا بعد التلف بعد أن لم تكن بيعا من حين
وقوعها ولا دليل على ذلك أصلا، والسيرة
ساكتة عن هذا، غايتها إفادة كونها إباحة لازمة
بعد التلف، وأما الملكية فلا، فضلا عن كونها بيعا
يترتب عليه أحكامه، هذا مع أن هذا من المصنف
مناف لبعض ما مر منه من كون الإباحة في المقام
نظير إباحة الطعام مدارها على الرضا الباطني انتهى.
ويرد عليه أيضا أن جعل الخيار في معاملة إنما هو
لأجل التمكن من فسخها، والمفروض أن المعاطاة
ممكنة الفسخ حيثما أراده، فجعل الخيار فيها يصير لغوا
أي قسم من أقسام الخيار، نعم في المعاملات المبنية
على اللزوم لولا الخيار يصح جعل الخيار فيها.
138

(التنبيه السادس:)
أنه لا اشكال في تحقق المعاطاة المصطلحة التي
هي معركة الآراء بين الخاصة والعامة بما إذا تحقق
انشاء الملك أو الإباحة بالفعل وهو قبض العينين
أما إذا حصل بالقول غير الجامع لشرائط اللزوم
فإن قلنا بعدم اشتراط اللزوم بشئ زائد على
الانشاء اللفظي كما قويناه سابقا بناء على التخلص
بذلك عن اتفاقهم على توقف العقود اللازمة
على اللفظ، فلا اشكال في صيرورة المعاملة بذلك
عقدا لازما، ذكر ذلك الشيخ " قده " في مكاسبه.
إلا أنه أورد على قوله: فإن قلنا بعدم اشتراط
اللزوم الخ - المحقق الخراساني - صاحب الكفاية بقوله:
لا يخفى أنه خلف في ما إذا حصل بالقول غير الجامع لشرائط
اللزوم فلا يكاد يتأتى فيه إلا بالخلف انتهى.
ولكن يمكن أن يجاب بأن هذا الاشكال
139

غير وارد على الشيخ " قدس سره " لأن قوله: بالقول غير
الجامع لشرائط اللزوم " على مبنى المشهور فلا ينافيه
أن القول الكذائي عند الشيخ مفيد اللزوم فالتعبير
بالقول غير الجامع من باب المعرف وله عنوان
المشير لا أنه عنده أيضا كذلك.
ثم قال الشيخ " قدس سره ": وإن قلنا بمقالة
المشهور من اعتبار أمور زائدة على اللفظ فهل
يرجع الانشاء القولي إلى الحكم بالمعاطاة مطلقا
أو بشرط تحقق قبض العين معه أو لا يتحقق قبض
العين معه أو لا يتحقق به مطلقا؟ نعم إذا حصل انشاء
آخر بالقبض المتحقق بعده تحقق المعاطاة فالانشاء
القولي السابق كالعدم لا عبرة به ولا بوقوع القبض
بعده خاليا عن قصد الانشاء بل بانيا على كونه
حقا لازما لكونه من آثار الانشاء القولي السابق نظير
القبض في العقد الجامع للشرائط؟
ظاهر كلام غير واحد من مشايخنا المعاصرين الأول
تبعا لما يستفاد من ظاهر كلام المحقق والشهيد الثانيين
140

قال المحقق في صيغ عقوده - على ما حكي عنه بعد
ذكره الشروط المعتبرة في الصيغة - أنه لو أوقع البيع
بغير ما قلناه وعلم التراضي منهما كان معاطاة
انتهى.
وفي؟ في مقام عدم كفاية الإشارة مع القدرة
على النطق - أنها تفيد المعاطاة مع الافهام الصريح
انتهى، وظاهر الكلامين صورة وقوع الانشاء بغير
القبض بل يكون القبض من آثاره وظاهره كصريح
جماعة منهم المحقق والعلامة بأنه لو قبض ما ابتاعه
بالعقد الفاسد لم يملك وكان مضمونا عليه - هو
الوجه الأخير لأن مرادهم بالعقد الفاسد إما
خصوص ما كان فساده من جهة مجرد اختلال
شروط الصيغة كما ربما يشهد به ذكر هذا الكلام
بعد شروط الصيغة وقبل شروط العوضين والمتعاقدين
أو ما يشمل هذا أو غيره كما هو الظاهر، وكيف كان
141

فالصورة الأولى (أي اختلال شروط الصيغة)
داخلة قطعا ولا يخفى أن الحكم فيها بالضمان
مناف لجريان حكم المعاطاة.
وربما يجمع بين هذا الكلام وما تقدم من المحقق
والشهيد الثانيين، فيقال: إن موضوع المسألة
في عدم جواز التصرف بالعقد الفاسد ما إذا
علم عدم الرضا إلا بزعم صحة المعاملة فإذا انتفت
الصحة انتفى الإذن لترتبه على زعم الصحة، فكان
التصرف تصرفا بغير إذن وأكلا للمال بالباطل
لانحصار وجه الحل في كون المعاملة بيعا أو تجارة
عن تراض أو هبة أو نحوها من جوه الرضا بأكل المال
من غير عوض.
والأولان قد انتفيا بمقتضى الفرض وكذا البواقي
للقطع من جهة زعمهما المعاملة بعدم الرضا بالتصرف
مع عدم بذل شئ في المقابل، فالرضا المقدم
كالعدم، فإن تراضيا بالعوضين بعد العلم بالفساد
142

واستمر رضاهما فلا كلام في صحة المعاملة ورجعت إلى
المعاطاة، كما إذا علم الرضا من أول؟ بإباحتهما التصرف
بأي وجه اتفق سواء صحت المعاملة أو فسدت
فإن ذلك ليس من البيع الفاسد في شئ "
وحاصل ما أجاب عنه الشيخ " قدس سره " في رد
هذا الجمع ما ذكره " ره " في تفصيل الكلام من أن المتعاملين
بالعقد الفاقد لبعض الشرائط إما أن يقع تقابضهما
بغير رضا من كل منهما في تصرف الآخر بل حصل قهرا
عليهما أو على أحدهما واجبارا على العمل بمقتضى العقد
فلا اشكال في حرمة التصرف في المقبوض على هذا
الوجه، وكذا إن وقع على وجه الرضا الناشئ عن بناء
كل منهما على ملكية الآخر اعتقادا أو تشريعا كما في كل
قبض وقع على هذا الوجه لأن حيثية كون القابض
مالكا مستحقا لما يقبضه جهة تقييد مأخوذ في الرضا
ينتفي بانتفائها في الواقع كما في نظائره، وهذان
الوجهان مما لا اشكال في حرمة التصرف في العوضين
143

كما أنه لا اشكال في الجواز إذا أعرضنا عن أثر العقد
وتقابضا بقصد التمليك فيكون معاطاة صحيحة
عقيب عقد فاسد.
وأما إن وقع بالتصرف بعد العقد من
دون ابتنائه على استحقاقه بالعقد السابق ولا قصد
لانشاء تمليك بل وقع مقارنا لاعتقاد الملكية الحاصلة
بحيث لولاها كان الرضا أيضا موجودا وكان المقصود
الأصلي من المعاملة التصرف وأوقعا العقد الفاسد
وسيلة له ويكشف عنه أنه لو سئل كل منهما من رضاه
بتصرف صاحبه على تقدير عدم التمليك أو بعد
تنبيهه على عدم حصول الملك كان راضيا.
فادخال هذا في المعاطاة يتوقف على أمرين
الأول كفاية هذا الرضا المركوز في النفس، بل
الرضا الشأني لأن الموجود بالفعل هو رضاه من حيث
كونه مالكا في نظره، وقد صرح بعض من قارب
عصرنا بكفاية ذلك، ولا يبعد رجوع الكلام المتقدم
ذكره على هذا ولعله لصدق طيب النفس على هذا
144

الأمر المركوز في النفس.
الثاني أنه لا يشترط في المعاطاة انشاء الإباحة
أو التمليك بالقبض بل ولا بمطلق الفعل بل يكفي
وصول كل من العوضين إلى المالك الآخر والرضا
بالتصرف قبله أو بعده على الوجه المذكور.
وفيه اشكال من أن ظاهر محل النزاع بين العامة
والخاصة هو العقد الفعلي كما ينبئ عنه قول العلامة " ره "
في رد كفاية المعاطاة في البيع أن الأفعال قاصرة
عن إفادة المقاصد وكذا استدلال المحقق الثاني
على عدم لزومها بأن الأفعال ليست كالأقوال
في صراحة الدلالة.
وكذا ما تقدم من الشهيد في قواعده من أن الفعل
في المعاطاة لا يقوم مقام القول وإنما يفيد الإباحة "
إلى غير ذلك من كلماتهم الظاهرة في أن محل الكلام
هو الانشاء الحاصل بالتقابض وكذا كلمات العامة
فقد ذكر بعضهم: أن البيع ينعقد بالايجاب والقبول
145

وبالتعاطي، ومن أن الظاهر أن عنوان التعاطي
(التقابض خ ل) في كلماتهم لمجرد الدلالة على الرضا وأن
عمدة الدليل على ذلك هي السيرة ولذا تعدوا إلى
ما إذا لم يحصل إلا قبض أحد العوضين، والسيرة
موجودة في المقام فإن بناء الناس على أخذ الماء
والبقل وغير ذلك من الجزئيات من
دكاكين أربابهم مع عدم حضورهم ويضعون (ووضعهم خ ل)
الفلوس في الموضع المعد له، وعلى دخول الحمام مع عدم
حضور صاحبه ووضع الفلوس في كوز الحمامي.
فالمعيار في المعاطاة وصول المالين أو أحدهما
مع التراضي بالتصرف وهذا ليس ببعيد على القول
بالإباحة انتهى كلام الشيخ " قدس سره ".
وحاصل اشكاله رحمه الله أن المقبوض بالعقد الفاسد
لا يمكن تصحيحه إلا بأن يقال بالعلم بتحقق الرضا الحاصل
بالتعاطي الواقع بعد العقد، وهذا الرضا كاف في
تصحيح العقد ويصير العقد بيعا شرعيا غير لازم
كالمعاطاة، إلا أنه يرد عليه أن الرضا الذي يكون
146

في ضمن العقد الفاسد إن كان مبتنيا على زعم صحة
المعاملة بحيث لولا صحتها لم يكن راضيا بالمعاملة، فهذا
الرضا غير مفيد بعد فساد المعاملة وإن كان رضاه
غير مقيد بصحتها بل يكون راضيا مطلقا سواء صحت
المعاملة أم لا، فلذا يقع منه المعاطاة بانيا على رضاه
لا بانيا على صحتها، فهذا الرضا صار سببا لصحة المعاملة
لا العقد الفاسد، فهو كالمعدوم، فالعقد الفاسد لم
يكن حكمه حكم المعاطاة بأي وجه من الوجوه فالصحة مستندة
إلى التقابض الذي يقع بعد العقد الفاسد لا إلى العقد
الفاسد، إذ التقابض بنفسه كاف في صحة المعاملة
لتحقق المعاطاة بذلك أو مستندة إلى العلم برضا المالك
بالمعاملة.
فالعقد الفاسد لا تأثير له أصلا ولم يكن بمنزلة المعاطاة
كما توهمه المحقق والشهيدان، ولعل مرادهما " قدس سرهما " هو
ما ذكرناه والله العالم.
مقدمة: قال شيخنا الأنصاري رحمه الله
147

قد عرفت أن اعتبار اللفظ في البيع بل في جميع العقود
مما نقل عليه عقد الاجماع وتحقق فيه الشهرة العظيمة
مع الإشارة إليه في بعض النصوص،
لكن هذا يختص بصورة القدرة، أما مع العجز عنه
كالأخرس فمع عدم القدرة على التوكيل لا اشكال ولا؟
في عدم اعتبار اللفظ وقيام الإشارة مقامه، وكذا
مع القدرة على التوكيل لا لأصالة عدم وجوبه كما قيل
لأن الوجوب بمعنى الاشتراط كما في ما نحن فيه
هو الأصل بل لفحوى ما ورد من عدم اعتبار اللفظ في
طلاق الأخرس، فإن حمله على صورة عجزه عن التوكيل
حمل المطلق على الفرد النادر انتهى.
أما ما أشار إليه بقوله: بل بفحوى ما ورد " فهو خبر
يونس في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته
قال (ع) إذا فعل في قبل الطهر بشهود وفهم منه
كما يفهم عن مثله ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة (1).
وصحيح ابن أبي نصر قال: سألت الرضا " عليه السلام "

(1) الوسائل الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 4.
148

عن الرجل تكون عنده المرأة يصمت ولا يتكلم قال:
أخرس هو؟ قلت: نعم ويعلم منه بغض لامرأته
وكراهة لها أيجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال: لا ولكن
يكتب ويشهد على ذلك، قلت: فإنه لا يكتب و
لا يسمع كيف يطلقها؟ قال: بالذي يعرف به من
أفعاله مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها (1).
وصحيحة الثمالي قال: سألت أبا عبد الله " عليه السلام "
عن رجل قال لرجل: اكتب إلى امرأتي بطلاقها أو
اكتب إلى عبدي بعتقه يكون ذلك طلاقا وعتقا؟
فقال: لا، ما يكون طلاق ولا عتق حتى ينطق به لسانه
أو يخطه بيده (2).
وقد دلت هذه الرواية على كفاية الكتابة في طلاق
الأخرس والرواية المتقدمة على كفاية الإشارة.
وحمل هذه الروايات على صورة العجز عن التوكيل
حمل على الفرد النادر، إذ قلما يتفق مورد لا يمكنه

(1) الوسائل الباب 19 من أبواب الطلاق الحديث 1
(2) لم أظفر بها في مظانها عجالة.
149

التوكيل ولو بالإشارة.
وفي رواية أبان بن عثمان قال: سألت أبا عبد
الله " عليه السلام " عن طلاق الأخرس، قال: يلف قناعها
على رأسها ويجذبه (1).
وفي رواية السكوني وأبي بصير عنه " عليه السلام " قال:
طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها ويضعها على رأسها
ويعتزلها (2).
ومقتضى هذه الروايات أن كل ما يدل على إرادة
الطلاق فهو كاف سواء كان بالإشارة بأقسامها أي
أعم من أن تكون باليد أو بالرأس أو بأن يجعل قناعها
على رأسها ويجذبه وغير ذلك أو بالكتابة والظاهر
عدم ترجيح إحداهما على الأخرى.
فما ذكره شيخنا الأنصاري " قدس سره " من قوله:
وأما مع القدرة على الإشارة فقد رجح بعض الإشارة
ولعله لأنها أصرح في الانشاء من الكتابة، وفي بعض
روايات الطلاق ما يدل على العكس انتهى - لا يخفى
ما فيه فإنا لم نظفر على رواية تدل على تقدم الكتابة على

(1) الوسائل الباب 19 من أبواب الطلاق الحديث 2 - 3 - 5.
(2) الوسائل الباب 19 من أبواب الطلاق الحديث 2 - 3 - 5.
150

الإشارة، وصحيحة ابن أبي نصر المتقدمة غير دالة
على ذلك فإنها لا تدل على أزيد من تحقق الطلاق
بالكتابة كما يتحقق بالإشارة، وذكر الكتابة أولا ثم
ذكر الإشارة بعدها في صورة عدم القدرة
على الكتابة غير دال على تقدم الكتابة عليها
(المبحث الثاني:)
في عقد البيع وألفاظه أما من حيث المادة
ففيه وجوه وأقوال كما ذكره السيد الطباطبائي في حاشيته
على المكاسب:
الأول الاقتصار على القدر المتيقن فلا يتحقق
البيع بالألفاظ التي يشك في تحققه بها كنقلت وملكت
الثاني الألفاظ المنقولة شرعا المعهودة لغة حتى
أنه وإن كانت منقولة شرعا لكنها غير معهودة بحسب
اللغة لا تكفي.
الثالث الاقتصار على اللفظ الذي عنون به
المعاملة، فيجب أن يكون في البيع بلفظ بعت وفي
151

الإجارة بلفظ آجرت وفي النكاح بلفظ أنكحت
وهكذا، فلا يجوز ايقاع عقد بلفظ عقد آخر، مثلا
لا يجوز ايقاع الإجارة بلفظ بيع منفعة الدار
الرابع وجوب الاقتصار على
الألفاظ الحقيقية فلا يجوز بالألفاظ المجازية ولا بالكنايات
الخامس الاقتصار على ما عدا الكنايات، فيجوز
استعمال الألفاظ المجازية.
السادس جواز استعمال الحقائق والمجازات
القريبة دون المجازات البعيدة.
السابع الفرق بين المجازات وأن كل مجاز تكون
قرينته لفظا يجوز استعماله في العقود، وأما إذا كانت
القرينة قرينة حالية أو مقامية فلا يجوز استعماله.
الثامن أنه يجوز استعمال كل لفظ صريح في إفادة
العقود أو ظاهر في ذلك سواء كانت الإفادة باللفظ
الحقيقي أو بالألفاظ المجازية وسواء كانت بالقرينة
اللفظية أو بغير اللفظية، واختار الشيخ " قدس سره " القول
السابع وهو الأقوى بل لا يبعد القول الثامن أيضا
152

فإن المدار في ألفاظ البيع وغيره على افهام المطلب
للمخاطب وللمشتري، وهذا الافهام كما يتحقق
بالألفاظ الحقيقية يتحقق بالألفاظ المجازية فما ذكره
العلامة في التذكرة - على ما حكي عنه - بقوله:
الرابع من شروط الصيغة الصريح فلا يقع بالكناية
بيع البتة مثل قوله: أدخلته في ملكك أو جعلته لك
أو خذه مني أو سلطتك عليه بكذا عملا بأصالة بقاء
الملك، ولأن المخاطب لا يدري بم خوطب
انتهى.
ولعل مراده بالكناية الكناية غير المفهمة لمراد
المتكلم بقرينة قوله " ره " ولأن المخاطب لا يدري
بم خوطب، إذا عرفت هذا نقول، إنه يجوز البيع بعدة
ألفاظ
الأول بلفظ بعت فإنه لا خلاف نصا وفتوى
في تحقق البيع كما ادعاه شيخنا الأنصاري " قدس سره "
فإنه وإن كان مشتركا بين البيع والشراء وكان معناه
153

من الأضداد كما قال في القاموس: باعه يبيعه بيعا و
مبيعا، والقياس مباعا - إذا باعه وإذا اشتراه، ضد انتهى
لكن كثرة استعماله في البيع بحيث صار معنى البيع متبادرا
منه عند اطلاقه وصار الذهن منصرفا إليه بمجرد التفوه
به قد أغنتنا عن نصب القرينة، فإن القرينة إنما يحتاج
إليها إذا كان المراد من اللفظ مشتبها لأجل اشتراكه بين
المعنيين، والاشتراك وإن كان هنا موجودا إلا أن
كثرة استعماله في خصوص البيع صيره مستغنيا عنها وقد
عرفت فيما تقدم أن الملاك في ألفاظ البيع هي إفادتها
لمراد المتكلم سواء كان بالألفاظ المجازية أو الألفاظ المشتركة
مع القرينة أو بدونها إذا كان المراد معلوما.
وهنا كذلك فإن كثرة الاستعمال قد عينت المراد
بالبيع عند الاطلاق.
بل يمكن أن يقال: إنا لم نظفر على مورد استعمل
لفظ البيع في الاشتراء فحينئذ لا منافاة بين هذا الذي
ذكرنا من جواز استعمال لفظ بعت مع كونه مشتركا لفظيا
بين البيع والشراء وبين ما قدمناه من عدم جواز استعمال
الألفاظ المجازية في البيع، وذلك لما أشرنا إليه من أن
154

لفظ بعت صار استعماله شايعا بحيث لا يتبادر منه غيره
بل استعماله في الاشتراء صار متروكا.
الثاني من الألفاظ التي قيل بجواز استعماله
في البيع لفظ " شريت " فإنه وإن كان مشتركا بين
البيع والشراء كما في القاموس قال: شراه يشريه:
ملكه بالبيع وباعه كاشترى، فهما ضد انتهى - إلا أنه
قيل: لم يستعمل في القرآن الكريم إلا في البيع خاصة
قال الله تعالى: وشروه بثمن بخس دراهم معدودة
وكانوا فيه من الزاهدين " (1) وقال تعالى في سورة
البقرة الآية 102: ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا
يعلمون ".
وقال تعالى في سورة النساء الآية 74: فليقاتل
في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة "
وقال تعالى في سورة البقرة الآية 207: ومن الناس
من يشتري نفسه ابتغاء مرضاة الله " ومن المعلوم

(1) سورة يوسف الآية 20.
155

أن الشراء في هذه الآيات بمعنى البيع دون
الاشتراء، ولكن مع ذلك كله استشكل في استعماله
في البيع بقلة استعماله في البيع، بل يمكن أن يقال: إنه
وإن كان في صدر الاسلام مستعملا في البيع إلا
أن الاستعمال المذكور صار متروكا في هذا الزمان
بحيث لم نر من استعمله في البيع، فحينئذ استعمال مثل
هذا اللفظ في البيع غير خال عن الاشكال بل منع.
الثالث من الألفاظ التي يجوز استعمالها في البيع
ملكت بالتشديد
قال الشيخ " قدس سره ": والأكثر على وقوع البيع
به بل ظاهر نكت الارشاد الاتفاق حيث قال:
لا يقع البيع بغير اللفظ المتفق عليه كبعت وملكت "
ويدل عليه ما سبق في تعريف البيع من أن التمليك
بالعوض المنحل إلى مبادلة العين بالمال هو المرادف
للبيع عرفا ولغة كما صرح به فخر الدين حيث قال: إن
معنى بعت في لغة العرب ملكت غيري " وما قيل
من أن التمليك يستعمل في الهبة بحيث لا يتبادر
عند الاطلاق غيرها - فيه أن الهبة إنما تفهم من
156

تجريد اللفظ عن العوض لا من مادة التمليك فهي
مشتركة معنى بين ما يتضمن المقابلة وبين المجرد عنها
فإن اتصل بالكلام ذكر العوض أفاد المجموع المركب
بمقتضى الوضع التركيبي البيع وإن تجرد عن ذكر العوض
اقتضى تجريده الملكية المجانية انتهى.
ويرد عليه أولا أن الهبة إذا تفهم من تجريد
اللفظ فمقتضاه أن الموضوع له الحقيقي للفظ ملكت
الهبة، لا أنه مشترك معنوي بينها وبين البيع، فلذا
يتبادر منه عند الاطلاق أي عند تجريده عن ذكر العوض
الهبة.
وثانيا أن قوله: أفاد المجموع المركب البيع " يظهر
منه أن لفظ ملكت وحده لم يفد الملك بل إذا انضم
إليه ذكر العوض أفاد كلاهما البيع بحيث لولا ذكر العوض
- فإن لفظ ملكت لم يفد البيع، ومثل هذا اللفظ الذي
يحتاج إلى لفظ آخر ليدل على البيع - كيف يمكن استعماله
في البيع بناء على مذهبه من اعتبار استعمال الألفاظ
157

الحقيقية في البيع، فلا يجوز استعمال الألفاظ المجازية
أو المشتركة فيه.
وثالثا أن قوله " قدس سره ": فإن اتصل بالكلام
ذكر العوض أفاد المجموع المركب بمقتضى الوضع
التركيبي البيع - ظاهر في أن للمركب وضعا آخر
وراء وضع المفرد مع أنه ليس كذلك، فإن المركب
ليس له وضع على حده عدا وضع المفرد كما هو واضح
الرابع من ألفاظ الايجاب لفظ " اشتريت "
بناءا على اشتراكه بين البيع والشراء، فعن مفتاح الكرامة
أنه قد يقال بصحته (أي بصحة العقد به) كما هو الموجود
في بعض نسخ التذكرة والمنقول عنها في نسختين من
تعليق الارشاد انتهى.
قال الشيخ رحمة الله عليه: وقد يستظهر ذلك من
عبارة كل من عطف على " بعت وملكت "
شبههما أو ما يقوم مقامهما إذ إرادة خصوص لفظ
شريت من هذا بعيد جدا، وحمله على إرادة ما
يقوم مقامهما في اللغات الأخر للعاجز عن العربية
أبعد، فيتعين إرادة ما يراد فهما لغة أو عرفا، فيشمل
158

شريت واشتريت، لكن الاشكال المتقدم في شريت
أولى بالجريان هنا لأن شريت استعمل في القرآن الكريم
في البيع بل لم يستعمل فيه إلا فيه بخلاف اشتريت انتهى موضع
الحاجة.
ويرد عليه أيضا - مضافا إلى ما أورده " قدس سره "
- أن اشتريت وإن كان مشتركا بين البيع والشراء إلا أن
استعماله في البيع حيث إنه لا يكون متعارفا بين الناس
في هذا الزمان - غير جائز نظير الاشكال الوارد
في شريت.
هذا كله في الايجاب
وأما القبول فلا اشكال في وقوعه بلفظ قبلت
ورضيت واشتريت وشريت وابتعت وملكت بالتخفيف
وهل يقع بلفظ بعت؟ فيه اشكال لأنه وإن كان مشتركا
إلا أنه لم يكن القبول بلفظ بعت متعارفا، وهل يقع
بلفظ أجزت أو أمضيت؟ فيه وجهان.
159

(المبحث الثالث:)
في شرائط عقد البيع وهي أمور
الأول: اعتبار العربية فلا يقع بغيرها واستدل
لذلك بأمور:
أحدها التأسي بالنبي " صلى الله عليه وآله "
فإنه (ص) كان يوقعه بالعربية.
وثانيها أن عدم صحته بغير لفظ الماضي يستلزم
عدم صحته بغير اللفظ العربي بطريق أولى.
وثالثها أن وقوعه بالعربية هو القدر المتيقن
وما عداه مشكوك فيه، والأصل يقتضي العدم
ولكن يرد على الأول أن التأسي لا يثبت الالزام
فلا يثبت به إلا الرجحان.
وعلى الثاني بأن الأولوية ممنوعة فإن الماضوية
إذا كانت معتبرة نقول باعتبارها في كل لغة، وعدم
صحته بغير الماضي لا يستلزم عدم صحته بغير العربي
وعلى الثالث بأن القدر المتيقن لم يكن دليلا
على المدعى، فإن الأفراد المشكوكة داخلة تحت
160

عمومات أو اطلاقات " أحل الله البيع " أو قوله
تعالى " تجارة عن تراض " أو قوله تعالى " أوفوا بالعقود "
فحينئذ يصح عقد البيع بغير العربية من أي لغة كان
للاطلاقات والعمومات
ثم على فرض اعتبار العربية فهل يعتبر عدم اللحن
من حيث المادة أو الهيئة؟ قال الشيخ " قدس سره ":
الأقوى ذلك بناءا على أن دليل اعتبار العربية
هو لزوم الاقتصار على المتيقن من أسباب النقل
وكذا اللحن في الأعراب.
وحكي عن فخر الدين الفرق بين ما لو قال:
بعتك بفتح الباء وبين ما لو قال: جوزتك بدل زوجتك
فصحح الأول دون الثاني إلا مع العجز عن التعلم والتوكيل
ولعله لعدم معنى صحيح في الأول إلا البيع بخلاف
التجويز فإن له معنى آخر، فاستعماله في التزويج غير جائز
ومنه يظهر أن اللغات المحرفة لا بأس بها إذا لم يتغير
161

بها المعنى انتهى.
ولكنك قد عرفت أن القدر المتيقن لا يمنعه
التمسك بالاطلاقات والعمومات بعد شمولها
للعقود التي ليست بعربية، وعدم صدق العقود
على العقود المنشأ بغير العربية لا يخفى ضعفه.
ثم إنه هل يعتبر أن يكون المتكلم عالما بمعنى
اللفظ تفصيلا بأن يكون فارقا بين بعت ومعنى
أبيع أو يكفي مجرد العلم بأن هذا اللفظ موضوع في
لغة العرب لانشاء البيع ولم يعلم أنه موضوع
للماضي أو للمضارع؟ لا يبعد أن يقال بالقول
الأول لأن دلالة اللفظ وعربيته ليست بانشاء
اللفظ وبذكر الكلام فإن الكلام واللفظ وإن دل
على المعنى الموضوع له إلا أنه لا يدل على مراد المتكلم
إلا إذا علم بأن معناه ذلك كما هو واضح.
فعلى هذا لا يكفي العلم بأن بعت معناه في اللغة
الفارسية " فروختم " إلا إذا علم بأن التاء في بعت في
مكان الميم في فروختم
162

(الثاني من الشرائط:)
أن يكون العقد بلفظ الماضي على المشهور بل
عن التذكرة دعوى الاجماع على عدم وقوعه بلفظ
أبيعك أو اشتر مني، قال الشيخ " قدس سره ": ولعله
لصراحته - أي الماضي - في الانشاء إذ المستقبل
أشبه بالوعد، والأمر استدعاء لا ايجاب مع أن
الانشاء في المستقبل خلاف المتعارف انتهى.
ولكن يرد على الأول أن لفظ الماضي إذا استعمل
في الانشاء ينسلخ عنه معنى الماضوية ويراد منه الانشاء
فعلا بخلاف المضارع فإنه حيث إنه يستعمل في الحال
والاستقبال لم ينسلخ عن معناه في مقام الانشاء
فحينئذ لا فرق بين الماضي والمضارع في جواز
استعمال كل منهما في البيع.
نعم إن المضارع لكونه مشتركا بين الحال والاستقبال
فلا بد من نصب القرينة على كون المراد من انشاء البيع
163

هو الحال، فإن كانت القرينة مقامية يشكل الاعتماد
عليها لاعتبار الصراحة في ألفاظ العقود إلا إذا
كانت القرينة لفظية فإنه يمكن استعمال المضارع
حينئذ في انشاء البيع لحصول الظهور بالمضارع
مع القرينة اللفظية وهو كاف في البيع كما قدمناه
إلا أن يقال: إن استعمال المضارع في عقد البيع غير
معهود وغير متعارف بين الناس.
فحينئذ ما تمسكوا به لجواز استعمال المضارع من
اطلاقات البيع أو تجارة عن تراض أو قوله تعالى:
أوفوا بالعقود - يمكن حملها على العقود والتجارات
المتعارفة، وهي التي استعمل الماضي في مقام
انشائها.
إلا أن يقال: إن روايات بيع الآبق وبيع
اللبن في الضرع دالة على جواز إنشاء البيع بلفظ
المضارع.
أما رواية الآبق فهي رواية النخاس قال: سألت
أبا الحسن موسى " عليه السلام " قلت له: أيصلح لي أن
164

أشتري من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن
وأطلبها أنا؟ قال: لا يصلح شرائها إلا أن تشتري
معها ثوبا أو متاعا فتقول لهم: أشتري منكم جاريتكم
فلانة وهذا المتاع بكذا وكذا درهما فإن ذلك
جائز (1).
وهذه الرواية صريحة في جواز ايقاع عقد البيع
بلفظ المضارع.
وأما بيع اللبن في الضرع فيدل عليه رواية
سماعة عن أبي عبد الله " عليه السلام " قال: سألته
عن اللبن يشتري وهو في الضرع فقال: لا، إلا
أن يحلب لك منه أسكرجة فيقول: اشتر مني هذا
اللبن الذمي في الأسكرجة وما في ضروعها بثمن
مسمى فإن لم يكن في الضرع شئ كان ما في الأسكرجة (2)

(1) لم أظفر بها عجالة في مظانها
(2) ما ظفرت بها في مظانها.
165

وهي أيضا صريحة في جواز انشاء البيع بلفظ الأمر
واستدل الأستاذ " ره " أيضا بقوله تعالى
في سورة القصص الآية (27): قال إني أريد
أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن
تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن
عندك " الآية فإن ظاهرها أن الصيغة أي صيغة
النكاح هي قوله: " أنكحك " وهو مضارع "
وفيه ما لا يخفى فإن قوله: أريد أن أنكحك ظاهر
بل صريح في أنه في مقام المذاكرة للاستيجار لا في
مقام اجراء العقد له.
وكيف كان فاستعمال لفظ المضارع في عقد
البيع لا يخلو عن قوة لو لم يكن اجماع على خلافه.
ويرد على الثاني بأنه فرق بين الاستيجاب و
الانشاء وأن الأمر إذا كان في مقام انشاء البيع
يستفاد منه عقد البيع مضافا إلى دلالة رواية بيع
اللبن في الضرع المتقدمة على جوازه ووقوع البيع
166

بلفظ الأمر.
الثالث من الشرائط تقديم الايجاب على
القبول على الأشهر كما عن الخلاف والوسيلة والسرائر
والتذكرة والايضاح وجامع المقاصد، واستدل
لهذا الشرط بأمور الأول حمل آية الوفاء بالعقود
على العقود المتعارفة وهي ما إذا قدم ايجابها على
قبولها، فلا تشمل العقود المقدم قبولها على الايجاب
الثاني أن القبول فرع الايجاب فلا يجوز
تقديم الفرع على الأصل.
الثالث أن القبول تابع للايجاب فلا يتقدم
عليه وهو قريب من الثاني.
واستدل لعدم اعتبار هذا الشرط بأمرين:
أحدهما التمسك بالعمومات والاطلاقات
السليمة عن المعارض الثاني فحوى جوازه في النكاح
كقول الصادق " عليه السلام " في كيفية صيغة المتعة: أتزوجك
167

متعة على كتاب الله وسنة نبيه لا وارثة ولا موروثة
كذا وكذا يوما، وإن شئت كذا وكذا سنة بكذا و
كذا درهما وتسمى من الأجر (من الأجل خ ل) ما
تراضيتما عليه قليلا كان أو كثيرا، فإذا قالت: نعم
فقد رضيت وهي امرأتك وأنت أولى بها الخ (1).
وغير ذلك من روايات الباب فراجع
وكذا رواية سهل الساعدي المشتملة على تقديم
القبول من الزواج على الايجاب بقوله: زوجنيها
إلا أن الرواية لم أظفر بها.
وقد فصل شيخنا الأنصاري " قدس سره "
بين ألفاظ القبول بقوله: إن القبول أما أن يكون بلفظ
قبلت ورضيت، وأما أن يكون بطريق الأمر
والاستيجاب نحو بعني فيقول المخاطب: بعتك
وأما أن يكون بلفظ اشتريت اشتريت وملكت مخففا
وابتعت، فإن كان بلفظ قبلت فالظاهر هو عدم
جواز تقديمه وفاقا لمن عرفت في صدر المسألة

(1) الوسائل الباب 18 من أبواب المتعة الحديث 1.
168

بل المحكي عن الميسية والمسالك ومجمع الفائدة
أنه لا خلاف في عدم جواز تقديم لفظ قبلت
إلى أن قال: ويدل عليه - مضافا إلى ما
ذكره وإلى كونه خلاف المتعارف من العقد
أن القبول الذي هو أحد ركني عقد المعاوضة
- فرع الايجاب فلا يعقل تقدمه عليه، وليس المراد
من هذا القول الذي هو ركن العقد مجرد الرضا
بالايجاب سواء تحقق قبل ذلك أم لا حيث
إن الرضا بشئ لا يستلزم تحققه في الماضي، فقد
يرضى الانسان بالأمر المستقبل، بل المراد منه الرضا
بالايجاب على وجه يتضمن انشاء نقل ما له في
الحال إلى الموجب على وجه العوضية لأن المشتري
ناقل كالبائع.
وهذا لا يتحقق إلا مع تأخر الرضا عن الايجاب
إذ مع تقدمه لا يتحقق النقل في الحال فإن من
169

رضى بمعاوضة ينشئها الموجب في المستقبل لم ينقل
في الحال ماله إلى الموجب بخلاف من رضى
بالمعاوضة التي أنشأها الموجب سابقا فإنه يرفع
بهذا الرضا يده من ماله إلى غيره على وجه
العوضية.
إلى أن قال: ومما ذكرنا يظهر الوجه في المنع عن
تقدم القبول بلفظ الأمر كما لو قال: بعني هذا بدرهم
فقال: بعتك لأن غاية الأمر دلالة طلب المعاوضة
على الرضا بها، لكن لم يتحقق بمجرد الرضا بالمعاوضة
المستقبلة نقل في الحال للدرهم إلى البايع كما لا يخفى.
وأما ما يظهر من المبسوط من الاتفاق هنا
على الصحة به فموهون بما ستعرف من مصير الأكثر
على خلافه.
وأما فحوى جوازه في النكاح ففيها بعد الاغماض
عن حكم الأصل بناءا على منع دلالة رواية سهل
على كون لفظ الأمر هو القبول لاحتمال تحقق
القبول بعد ايجاب النبي " صلى الله عليه وآله "
170

ويؤيده أنه لولاه يلزم الفصل الطويل بين الايجاب
والقبول ومنع الفحوى وقصور دلالة رواية أبان
من حيث اشتمالها على كفاية قول المرأة: نعم في
الايجاب.
ثم اعلم أن في صحة تقديم القبول بلفظ الأمر
اختلافا كثيرا بين كلمات الأصحاب، فقال في المبسوط
إن قال: بعنيها بألف، فقال بعتك صح، والأقوى
عندي أنه لا يصح حتى يقول المشتري بعد ذلك
اشتريت واختار ذلك في الخلاف وصرح به في
الغنية، إلى آخر ما ذكره من الاختلاف في وقوع القبول
بلفظ الأمر.
قوله " قدس سره ": إن القبول الذي هو أحد
ركني العقد فرع الايجاب الخ قال المحقق الخراساني
" قدس سره ": محصل ما ذكره وجها للتفصيل على طوله
وجواز تقديم مثل اشتريت وعدم جواز تقديم
171

مثل قبلت هو اشتمال هذا على المطاوعة التي
لا بد لها من الفرعية والتابعية فكيف يقدم؟ بخلاف
ذلك فإنه لا مطاوعة فيه، فيؤخر ويقدم، ثم اعترض
عليه بقوله: قلت: لا يخفى أن العقد وإن كان
ينعقد بفعل الاثنين ويتقوم بركنين إلا أنه أمر واحد
لا يكاد تحققه إلا من تواطئهما على أمر وحداني
يوقعه أحدهما ويقبله الآخر ويظهر الرضا به ولا يكاد
يتحقق بايقاع كل واحد معنى على حده بل يتحقق
هناك من كل ايقاع لا منهما عقد، فلا بد في
تحققه من ايجاب من أحدهما وانشاء للرضا بما
أوجبه وقبوله بما يدل عليه مطابقة أو التزاما من
الآخر.
فالتبعية التي لا بد منها في القبول بأي صيغة
كانت لو اقتضت التأخر فليكن القبول مطلقا
مؤخرا وإلا فلا مقتضى لوجوب تأخره إذا كان
مثل لفظ قبلت، والمطاوعة التي تكون مأخوذة
في معناه ليست إلا ملك التبعية التي لا بد منها
172

في كل قبول، وهي غير مقتضية لوجوب تأخره إلا
أنها لازم نفس المعنى في قبلت، ولازم كونه
في مقام القبول في مثل اشتريت، وهذا لا يوجب
التفاوت بينهما في ذلك كما لا يخفى انتهى موضع
الحاجة.
ولكن يرد عليه أن لا مطاوعة في اشتريت
إذا تقدم على الايجاب بل هو انشاء لمالكيته
للمبيع لنفسه عوضا عن ماله كما صرح به الشيخ " قدس
سره " بعد العبارة المتقدمة التي نقلناها منه آنفا فإنه
قال " ره ": وإن كان التقديم بلفظ اشتريت أو ابتعت
أو تملكت أو ملكت هذا بكذا، فالأقوى جوازه لأنه
انشاء ملكيته للمبيع بإزاء ماله عوضا، ففي الحقيقة انشاء
المعاوضة كالبايع إلا أن البايع ينشأ ملكية ماله لصاحبه
بإزاء مال صاحبه، والمشتري
ينشأ ملكية مال صاحبه لنفسه بإزاء ماله ففي الحقيقة
173

كل مهما يخرج ماله إلى صاحبه ويدخل مال صاحبه
في ملكه.
إلا أن الادخال في الايجاب مفهوم من ذكر
العوض وفي القبول مفهوم من نفس الفعل
والاخراج بالعكس وحينئذ فليس في حقيقة الاشتراء
من حيث هو معنى القبول لكنه لما كان الغالب
وقوعه عقيب الايجاب وانشاء انتقال مال
البايع إلى نفسه إذا وقع عقيب نقله إليه - يوجب
تحقق المطاوعة، ومفهوم القبول أطلق عليه القبول
وهذا المعنى مفقود في الايجاب المتأخر، لأن
المشتري إنما ينقل ماله إلى البايع بالالتزام الحاصل
من جعل ماله عوضا، والبايع إنما ينشأ انتقال الثمن
إليه كذلك لا بمدلول الصيغة وقد صرح في النهاية
والمسالك - على ما حكي - بأن اشتريت ليس
قبولا حقيقة وإنما هو بدل وأن الأصل في القبول
قبلت لأن القبول في الحقيقة ما لا يمكن الابتداء به
ولفظ اشتريت يجوز الابتداء به ومرادهما أنه بنفسه
174

لا يكون قبولا فلا ينافي ما ذكرنا من تحقق مفهوم
القبول فيه إذا وقع عقيب تمليك البايع.
إلى أن قال: فإن قلت: إن الاجماع على
اعتبار القبول في العقد يوجب تأخير قوله:
" اشتريت " بالنسبة إلى إفادة نقل المال، لأن
انشاء مالكيته لمال الغير إذا وقع تمليك الغير له
يتحقق فيه معنى الانتقال وقبول الأثر فيكون اشتريت
متأخرا التزاما بالأثر عقيب انشاء التأخير من البايع
بخلاف ما لو تقدم فإن مجرد انشاء المالكية لمال لا يوجب
تحقق مفهوم القبول كما لو نوى تملك المباحات أو
اللقطة فإنه لا قبول فيه رأسا "
قلت: المسلم من الاجماع هو اعتبار القبول من
المشتري بالمعنى الشامل للرضا بالايجاب، وأما
وجوب تحقق مفهوم القبول المتضمن للمطاوعة
وقبول الأثر فقد تبين من جميع ذلك أن انشاء
175

القبول لا بد أن يكون جامعا لتضمن انشاء النقل
وللرضا بانشاء البايع تقدم أو تأخر ولا يعتبر انشاء
انفعال نقل البايع، فقد تحصل مما ذكرناه صحة تقديم
القبول إذا كان البيع بلفظ اشتريت وفاقا لمن عرفت
انتهى موضع الحاجة.
والظاهر أن الأستاذ رحمه الله وافقه على هذا المرام
لعدم تعرضه للنقض والابرام عند حكايته منه لهذا
الكلام.
إلا أنه يرد عليه أن الذي ذكره " قدس سره " لا يساعد
عليه العرف بل هو شبيه بالمعنى الدقي الفلسفي
فإن " اشتريت " كقبلت ورضيت بنظرهم فهو
لا محالة متضمن لمعنى المطاوعة فإن العقد ليس
هو الايجاب فقط ولا القبول فقط بل
هو أمر مركب من ايقاعين وإن كان أمرا وحدانيا
بسيطا إلا أنه إذا تحقق هذان الايقاعان تحقق العقد
في الخارج كما أشار إليه المحقق الخراساني رحمه الله
176

فحينئذ لفظ اشتريت ليس لفظ مستقلا في المفهوم
غير مرتبط بالايجاب أو مرتبطا بالرضا بل هو
مرتبط بالايجاب بنحو ارتباط القبول بالايجاب
بحيث يعده العرف قبولا للايجاب الآتي، ومن
المعلوم أن الأحكام الشرعية منزلة على المفاهيم
العرفية، فعندئذ كما أن قبلت لا يجوز تقديمه على
الايجاب فكذا اشتريت وملكت ونحوهما والله
العالم، هذا تمام الكلام في عقد البيع.
وأما سائر العقود فإن كان يؤدي قبولها بانشاء
مستقل كالإجارة التي يؤدي قبولها بقوله: تملكت
منك منفعة كذا أو النكاح الذي يؤدي قبولها بلفظ
نكحت وتزوجت فالظاهر أن حكمه حكم البيع في
جواز تقديم القبول.
وأما إذا لم يؤد قبولها إلا بلفظ قبلت أو نحوه
مما فيه معنى المطاوعة كارتهنت واقترضت
177

فربما قيل بجواز تقديم القبول فيه إذ ليس فيه التزام
بشئ كما كان في البيع التزام بنقل ماله إلى البايع
وهنا ليس كذلك فإن القبول هنا ليس فيه إلا
الرضا بالايجاب وقد عرفت أن الرضا كما
يمكن تعلقه بأمر حالي كذلك يمكن تعلقه بأمر
استقبالي.
ولكن أورد عليه شيخنا الأنصاري " قدس سره "
بقوله: والتحقيق عدم الجواز لأن اعتبار القبول
فيه من جهة تحقق عنوان المرتهن ولا يخفى أنه لا
يصدق الارتهان على قبول الشخص إلا بعد
تحقق الرهن لأن الايجاب انشاء للفعل (للنقل خ ل)
والمقبول انشاء الانفعال (للانتقال خ ل)
وكذا القول في الهبة والقرض فإنه لا يحصل
به الرضا فإنه لا يحصل من انشاء القبول فيها التزام
بشئ وإنما يحصل به الرضا بفعل الموجب، ونحوها
قبول المصالحة المتضمنة للاسقاط أو التمليك بغير
عوض، وأما المصالحة المشتملة على المعاوضة فلما
178

كان ابتداء الالتزام بها جائزا من الطرفين
وكان نسبتهما إليهما على وجه سواء وليس الالتزام
الحاصل من أحدهما مغايرا للالتزام الحاصل من الآخر
كان البادي منهما موجبا لصدق الموجب عليه
لغة وعرفا.
ثم لما انعقد الاجماع على توقف العقد على
القبول لزم أن يكون الالتزام الحاصل من الآخر
بلفظ القبول إذ لو قال أيضا: صالحتك كان
ايجابا آخر فيلزم تركيب العقد من ايجابين، و
تحقق من جميع ذلك أن تقديم القبول في الصلح
أيضا غير جائز إذ لا قبول فيه بغير لفظ قبلت ورضيت
وقد عرفت أن قبلت ورضيت مع التقديم لا
يدل على انشاء لنقل العوض في الحال انتهى
إلى هنا أو شئ يسير بعد ذلك قد فاتنا من
كلام الأستاذ " ره " - انتهى كلام الأستاذ " قدس سره "
179

من هذا المقدار من كتاب البيع ثم ترك الأستاذ
هذا البحث وشرع في كتاب القضاء وأظن
أن ذلك كان في السنة 1401 أو 1402 هجرية
فبقي هذا المبحث ناقصا، ثم إني بعدما قررت
بحوثه رحمه الله في البيع في المسودة أحببت أن أقررها
في المبيضة لينتفع الأفاضل ورواد البحوث
الفقهية بها وليكون ذلك ذخرا لي بعد وفاتي
وكان الختام من هذه المبيضة في
17 من ربيع الثاني من السنة 1419
من الهجرة النبوية أي 19 / 5 /
1377 من السنة الشمسية والحمد لله
أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وصلى
الله على محمد وآله الطيبين
الطاهرين الغر الميامين
ولعنة الله على أعدائهم
أجمعين إلى قيام
يوم الدين
المؤلف: محمد هادي المقدس النجفي
180